هل قيمة الإنسان بما يملك من مال.. ماذا عن يُتم وفقر نبينا؟!

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)).

قصور فخمة سقفها من فضة؟ (قيم كاذبة)

تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإسلام» ، وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم ، فتقول الآية الأولى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ)[1].

ولجعلنا لهم بيوتا لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ)[2].

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد أن السلالم مصنوعة من الفضة ، وعدم تكرار كلمة الفضة لوضوح المراد. وكأنّهم لم يعتبروا وجود السّلالم لوحدها دليلا على أهمية البيوت ، والأمر ليس كذلك ، إذ أن وجود السلالم الكثيرة دليل على عظمة البناء وتكونه من عدّة طوابق.

«اسقف» جمع سقف، ويعتقد البعض أنها جمع سقيفة ، أي المكان المسقف ، إلّا أنّ القول الأوّل أشهر.

ثمّ تضيف الآية الأخرى : (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ).

وربّما كانت هذه الجملة إشارة إلى الأبواب والأسرّة الفضية، لأنّ الآية السابقة لما تحدثت عن السّقف الفضية امتنع التكرار. ويمكن أيضا أن يكون وجود الأبواب والأسرّة المتعددة ـ خاصّة وأن (أبوابا) و (سررا) نكرة ، وقد وردت هنا لبيان الأهمية ـ دليلا بنفسه على عظمة تلك القصور، لأنّهم يجعلون لبيت حقير عدّة أبواب أبدا ، بل هي مختصة بالقصور والبيوت الفخمة ، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الأسرّة.

ولم تكتف الآية بهذا ، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وأنواع الزينة (وَزُخْرُفاً)[3] لتكمل الحياة المادية وزخارفها وزبارجها من كل الجهات ، القصور الفخمة المتعددة الطبقات الأبواب والأسرّة المتعددة ، وكل وسائل الزينة والنقوش والرسوم وسائر الجواذب التي يتحقّق فيها مراد عبيد الدنيا وأمانيهم.

ثمّ تضيف الآية : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) «الزخرف» في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير ، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة ، فقد قيل له : زخرف ، وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه : كلام مزخرف ، لأنهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولا.

وخلاصة القول: إنّ هذه الأسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية، حقيرة لا قيمة لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلّا من نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق ، ولو لم يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل الله تعالى هذه الأمور من نصيب هذه الفئة فقط ، ليعلم الجميع أن هذه الأمور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.

الإسلام يحطم القيم الخاطئة

حقّا لا يمكن العثور على تعبير أبلغ مما ورد في الآيات أعلاه لتحطيم المقاييس والقيم الكاذبة والقضاء عليها ، وتغيير بناء ذلك المجتمع الذي يدور محور تقييم شخصية الأفراد فيه حول مقدار ما يملكون من الإبل ، ومقدار الدراهم والدنانير ، وعدد الغلمان والجواري والبيوت وأدوات الزينة، حتى أنّهم يتعجبون لماذا اختير محمّد صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم للنبوة وهو اليتيم الفقير ماديا؟!

إن أهم عمل لرسالة السماء هو تحطيم أطر القيم الخاطئة هذه، وبناء القيم الإنسانية الأصيلة كالتقوى ، والعلم ، الإيثار والتضحية ، الشهامة والحلم على أنقاضها ، وإلّا فإنّ كل الإصلاحات ستكون فوقية وسطحية وغير ثابتة.

وهذا هو الذي قام به الإسلام والقرآن والرّسول الأعظم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم على أحسن وجه ، ولهذا فإنّ المجتمع الذي كان أكثر المجتمعات البشرية تخلفا وخرافة ، قد تسلق سلّم الرشد والرقي حتى أصبح في المرتبة الأولى في مدّة قصيرة.

والطريف أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم ، في تكملة هذا البحث  : «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء»[4].

ويبلغ أمير المؤمنين علي عليه السلام الكلام في هذا الباب غايته حيث يقول : «ولقد دخل موسى بن عمران وأخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه ، فقال : ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب ، إعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف ولبسه ، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء».

ويقول في موضع آخر من هذه الخطبة: «ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق الأرض مدرا ، وأضيق بطون الأودية قطرا ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف ، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ...».

«ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار ، وسهل وقرار ، جم الأشجار ، داني الثمار ، ملتف البنا ، متصل القرى ، بين برة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء»[5].

وعند ذلك كان الناس سينشغلون بالقيم الظاهرية الخداعة، ويغفلون عن القيم الإلهيّة الواقعية.

على أية حال ، فإنّ أساس الثورة الإسلامية هو تغيير القيم ، وإذا ما أصبح مسلمو اليوم يعانون من ظروف صعبة خانقة ، وتحت ضغط الأعداء الجلادين القساة ، فإنّ ذلك ناتج عن تركهم لقيمهم الأصيلة ، وانتشار القيم والأعراف الجاهلية بينهم مرّة أخرى ، فأصبح المال والمنصب الدنيوي مقياس التقييم ، ونسوا العلم والفضيلة والتقوى ، وغرقوا في بحر المغريات والزخارف المادية ، وأضحوا غرباء عن الإسلام ، وما دام الوضع كذلك فيجب أن يدفعوا كفارة هذا الذنب العظيم ، وما داموا لم يشرعوا بالتغيير ابتداء من القيم الحاكمة على وجودهم ، فسوف لن تشملهم رحمة الله ولطفه ، وذلك : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)[6].

جواب عن سؤال

بمطالعة الآيات المذكورة حول التحقير الشديد للزينة الظاهرية، والثروة والمقام المادي ، يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو : إذا كان الحق كذلك ، فلما ذا يقول القرآن في موضع آخر: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).[7]

أو يقول في موضع آخر : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[8] ، فكيف تتوافق هاتان الفئتان مع الآيات؟

ينبغي الالتفات في الجواب إلى أن الهدف في الآيات ـ مورد البحث ـ هو القضاء على القيم الكاذبة الخاطئة ، الهدف هو أن لا يعد الناس شخصية الإنسان متقومة بثروته وزينته ، ولا يغني هذا أنّ الإمكانيات المادية شيء سيّء ، بل المهم أن تكون مجرّد أدوات ومظاهر للنظر ، وليس كهدف سام وغاية تبلغ.

ثمّ إنّ هذه الإمكانيات تكون ذات قيمة عند ما تكون في حد المعقول واللائق بالحال، وخالية من كلّ أنواع الإسراف والتبذير، لا أن تبنى القصور من الذهب والفضة، وتدّخر الثروات الطائلة منهما.

ومن هنا يتّضح أن وجود جماعة من الكفّار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلا على رفعة شخصيتهم ، ولا أن حرمان المؤمنين منها ، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة ، يضر بإيمانهم وتقواهم ، وهذا هو التفكير الإسلامي والقرآني الصحيح.

*مقتطف من تفسير الأمثل ج 16

الهوامش:

[1] «لبيوتهم» بدل اشتمال بـ (لمن يكفر بالرحمن) وتكرار (اللام) لهذا المعنى ، أو بمعنى (على) أي : على بيوتهم ، لكن الاحتمال الأول أصح.

[2] «المعارج» جمع معراج ، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا.

[3] اعتبر البعض (زخرفا) عطفا على (سقفا) ، ويعتقدون أنها إشارة إلى وسائل الزينة المستقلة التي توضع تحت تصرف أمثال هؤلاء الأفراد. والبعض اعتبرها عطفا على (من فضة) وكانت في الأصل (من زخرف) ثم نصبت بنزع الخافض ، وعلى هذا يصبح معنى الجملة : إنا جعلنا بعض سقوف وأسرة بيوت هؤلاء من ذهب وبعضها من فضة.

[4] تفسير الكشّاف ، المجلد ٤ ، صفحة ٢٥٠.

[5] نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢. الخطبة القاصعة.

[6] الرعد ، الآية ١١.

[7] الأعراف ، الآية ٣٢.

[8] الأعراف ، الآية ٣١.