أنبياء غائبون.. هل تُفسد الغيبة منصب الإمامة؟!

الشيخ علي الغراوي
زيارات:4705
مشاركة
A+ A A-

الغيبة من السنن الإلهية التي امتحن الله بها خلقه على مر العصور، والكتب السماوية تحدثنا بذلك كغيبة موسى عليه السلام عن قومه وغيبة يونس وعيسى ويوسف عليهم السلام ، وبما اننا موحدون نؤمن بوجود خالق حكيم مدبر لهذا الكون وكل افعاله حكيمة، فلابد ان تكون للغيبة آثار تكوينية، ورغم انه ليس من الضروري الاطلاع على هذه الآثار، ايماناً بحكمة وعدالة الخالق، ولكن من خلال استقراء قصص الماضين يمكننا الوقوف على جملة من الحكم التي أرادها الله سبحانه وتعالى " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ"[1]. فمن اطلع على اخبار الماضين يجد ان النبي حينما يرسله الله الى قومه يواجه عدة فئات، فهو يواجه تحديا شرسا من المفسدين الذين لا يؤمنون به، كما يواجه المنافقين والمتقلبين وغير الواعين الذين لا يعرفون قيمة ما امنوا به وقيمة من اتبعوه، وهناك مجموعة ثالثة مؤمنة مسلّمة، وفئة أخرى تحتاج الى نضج فكري وعملي من خلال الاختبار والتمحيص؛ لكي تتضح لهم الصورة ويقوموا بالدور الذي رسم لهم لنشر العدل والمفاهيم الإلهية، "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"[2]. ومن اهم الفتن التي مرت بهم هي غيبة قادتهم عنهم كما في قوم موسى عليه السلام "وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ"[3].

ما فائدة غيبة موسى (ع)

لاحظ مدة الغيبة أربعين ليلة وانظر الخطاب الملفت للنظر انه قال لا تتبع سبيل المفسدين اؤلئك الذين لا يملكون رؤية صحيحة متكاملة تجاه القضية التي جاء بها نبيهم موسى عليه السلام فلو تساءلنا لماذا غاب موسى عن قومه، وما هي فائدة تلك الغيبة، اوليس قومه قد كفروا من بعده وعبدوا العجل واتبعوا السامري فما هي فائدة تلك الغيبة بالنسبة لقوم موسى عليه السلام، هل نفعتهم الغيبة مع انتشار الظلم بينهم، وكفرهم بالله الذي هو اسوء نوع من الظلم كما صرح به كتاب الله " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ"[4]. فلقائل ان يقول ان غيبة موسى عن قومه لا توجد فيها مصلحة بل ترتبت عليها المفسدة وهي ان موسى بغيبته ضيع كل ما صدح به وعمل لأجله وهو التوحيد بحيث أوقع قومه في الضلالة والشرك، ولكن هذا القول لا يصدر من موحد لان الموحد يعلم ان الاختبار سنة الهية لابد منها،  وكذلك الاختبار سنة عقلائية، كل شخص لديه مشروع مهم يريد القيام به ويحتاج الى انصار واعوان لابد من اختبارهم لكي ينضجوا ويكونوا اهلاً لتحمل هذا الامر، فنبي الله موسى عليه السلام غاب عن قومه لمصلحة أراد من خلالها ان يعطي درسا للأمم اللاحقة، فأعباء الرسالة الإلهية تحتاج الى اعداد خاص لابد ان ينجح الانسان بالاختبار لكي يفوز بحمل هذه الرسالة .

وكلما كان الامر أعظم كان الاختبار اكبر والنضوج يحتاج الى فترة طويلة لكي لا تذهب التضحيات ادراج الرياح.

عيسى.. الغائب الذي سوف يعود!

اما غيبة عيسى عليه السلام فكل المسلمين متفقون على انه حي يرزق وانه ينزل في اخر الزمان وان الله رفعه اليه "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا"[5]. فقد جاء في تفسير ابن ابي حاتم: حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُود:"إِنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ".[6] ، فالمسلمون يعتقدون بحياة عيسى بن مريم عليه السلام[7]. بل هناك امر اخر انه سيرجع في اخر الزمان بعد هذه الغيبة الطويلة التي هي الى الان مر عليها الفا سنة حيث قال سبحانه وتعالى" وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا"[8]. فقد ورد في تفسيرها انه نزوله في اخر الزمان فقد جاء في تفسير ابن ابي حاتم "حَدَّثَنِي أَبِي، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَبُو مُوسَى، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثنا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَيُعْطَى الْمَالُ حَتَّى لا يُقْبَلَ، وَيُجْمَعُ لَهُ الصَّلاةُ، وَيَأْتِي الرَّوْحَاءَ، فَيَحُجَّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرَ أَوْ يَجْمَعَهَا اللَّهُ لَهُ"، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ:  " وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " ، قال: قبل مَوْتِ عِيسَى"[9]. بل يذكر اهل السنة اكثر من ذلك انه يصلي خلف رجل من المسلمين: "ولهذا عيسى عليه السلام رفع حيا؟  وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ؟[النساء:157]، وينزل في آخر الزمان في دمشق في المسجد الذي بناه بنو أمية عند المنارة البيضاء -كما جاء في الأحاديث الصحيحة-، فينزل حكما عدلا مقسطا، ويكون مأموما في تلك الصلاة، فيأتي فيعرفه الناس فيأتي الإمام يتأخر ليتقدم رسول الله عيسى عليه السلام، فيدفع عيسى عليه السلام بالإمام ويقول: إمامكم منكم تكرمة الله لهذه الأمة. فينزل يحكم بالقرآن ويدع الإنجيل ويأمر باتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فهو عليه السلام بعد نزوله يكون من أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وامامكم منكم"[10].

وقال ابن حجر: " قال ابن حجر: وما ذكره من ان المهدي يصلّي بعيسى هو الذي دلت عليه الأحاديث كما علمت"[11]، وقال: قال السيوطي في الرد على من أنكر أن عيسى يصلي خلف المهدي: «هذا من أعجب العجب فان صلاة عيسى خلف المهدي ثابتة في عدة أحاديث صحيحة بأخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الصادق المصدّق الذي لا يخلف خبره ومن ذلك ما رواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك وصححه عن عثمان بن أبي العاص...

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم.."[12].

اذاً، النبي عيسى بعد هذه الغيبة الطويلة يرجع ويؤمن به قبل موته النصارى في اخر الزمان فهو في حياته بشر برسول اسمه احمد " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ"[13]. الهدف من نزوله تصديق النبي صلى الله عليه واله وان النصارى صاروا مؤهلين لقبول قول عيسى والايمان بالنبي الخاتم وبالإسلام الذي هو دين الله الذي ارتضاه للبشرية وبهذا يتحقق المخطط الإلهي الذي من اجله بعث الرسل.

فمن كان لديه اعتراض علينا نحن الامامية القائلين بغيبة الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه واثاروا جملة من الإشكالات:

منها ان الغيبة تنافي منصب الامامة وان الامام لابد ان يكون ظاهرا بين الناس لتأدية وظيفته الشرعية!

ونجيبهم: اما قولهم ان الغيبة تنافي وظيفة الإمام، فهي منتقضة بما ذكرنا من غيبة الانبياء عليهم السلام، فهل ان غيبتهم عن اممهم تنافي منصب النبوة!

وأما قولهم يجب حضور الإمام لتأدية وظيفته، فنقول: ان الامام عليه السلام هو حجة الله على خلقه حتى الملائكة تأتمر بأمره، وقد نص الكتاب العزيز بحسب بيان اهل بيت العصمة والطهارة على تنزل الملائكة على المعصوم في ليلة القدر في كل سنة، فقد روى الصفار في بصائره: "حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميره عن داود بن فرقد قال سألته عن قول الله عز وجل "انا أنزلناه في ليلة القدر وما ادريك ما ليلة القدر"  قال نزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من موت أو مولود قلت له إلى من فقال إلى من عسى أن يكون ان الناس في تك الليلة في صلاة ودعاء ومسألة وصاحب هذا الامر في شغل تنزل الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها من كل امر سلام هي له إلى أن يطلع الفجر.[14].

فحتى لو غاب الامام سلام الله وحجب عن اعين البشر الا ان اثر الامام عليه السلام الكوني موجود وان لم نر ذلك، فارتباط الخلق بالامام عليه السلام هو ارتباط ضرورة فهم واسطة الفيض الإلهي.

وخلاصة القول: اذا جازت الغيبة على نبي الله ايضا تجوز على وصي خاتم النبيين صلى الله عليه واله واذا كانت غيبة نبي كموسى وعيسى عليهم السلام لا تقدح بنبوتهم ولا تضر فكذلك غيبة الامام عليه السلام.


[1] يوسف: 111.

[2] العنكبوت:2.

[3] الأعراف:142.

[4] يونس:17.

[5] النساء:157.

[6] تفسير ابن ابي حانم: 4/430.

[7] انظر: تفسيرابن كثير: 2/448، تفسير الالوسي 3/66، تفسير ابي السعود 2/178، تفسير البيضاوي 2/29 

[8] النساء:159.

[9] تفسير ابن ابي حاتم:4/436.

[10] صحيح البخاري كتاب بدء الخلق ـ باب نزول عيسى بن مريم ج4 ص205، صحيح مسلم كتاب الايمان ـ باب نزول عيسى ج1 ص136

[11] الصواعق المحرقة ص99، الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص165.

[12] الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص167.                                         

[13] الصف:6.

[14] بصائر الدرجات محمد بن الحسن الصفار ص240 الباب  3باب ما يلقى إلى الأئمة في ليلة القدر مما يكون في تلك السنة ونزول الملائكة عليهم.

مواضيع مختارة