وقبل أن نجيب عن هذا التساؤل نمهد بما يلي:
أسباب المعرفة
مهما اختلف المفكرون في أسباب المعرفة، وانها التجربة أو العقل أو الحدس فإنهم متفقون كلمة واحدة على أن السبب الوحيد لمعرفة آراء الغير ومعتقداته هي أقواله وتصريحاته... فاذا اردنا أن نعرف ما تدين وتعتقد به طائفة من الطوائف الدينية، ونتحدث عن عقيدتها فعلينا أن نسند الحديث إلى أقوالها بالذات، إلى كتب العقائد المعتبرة عندها، ولا يسوغ بحال الاعتماد على قول كاتب أو مؤلف بعيد عنها ديناً وعقيدة، لأن هذا البعيد قد يكون جاهلاً متطفلاً، فيحرف الواقع عن غير قصد، أو حاقداً متحاملاً، فيفتري بقصد التنكيل والتشهير، أو خائناً مستأجراً فيكذب ويدس بقصد التفرقة وإيقاظ الفتنة... بل لا يجوز الاعتماد على أقوال راوٍ أو كاتب من أبناء الطائفة نفسها اذا لم تجتمع كلمتها على الثقة بمعرفته وعلمه، فإن الكثيرين ممن كتبوا عن طائفتهم وعقائدها قد تجافوا عن الواقع، وخبطوا خبط عشواء، ورفض الكبار من علماء الطائفة أقوالهم، وصرحوا بضعفها وعدم الاعتماد عليها.
وكذا لا يصح الاعتماد على العادات والتقاليد المتبعة عند العوام، لان الكثير منها لا يقره الدين الذي ينتمون إليه، حتى ولو أيدها وساندها شيوخ يتسمون بسمة الدين.
كتب العقائد عند الشيعة
وكتب العقائد المعتبرة عند الشيعة كثيرة، ومطبوعة تتداولها الأيدي، وتعرض للبيع في مكتبات العراق وإيران، نذكر منها على سبيل المثال: أوائل المقالات، والنكت الاعتقادية للشيخ المفيد، والشافي للشريف المرتضى، والعقائد للشيخ الصدوق، وشرح التجريد، وكشف الفوائد للعلامة الحلي، والجزء الأول من أعيان الشيعة ونقض الوشيعة للسيد محسن الأمين، وأصل الشيعة وأصولها للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والفصول المهمة والمراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين، ودلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر.
وبالتالي، نكرر - هنا - ما قلناه أكثر من مرة في ردودنا ومؤلفاتنا، وما أعلنه المعتمد عليهم من علمائنا، أن الشيعة لا يقرون ولا يعترفون بشيء مما قيل عن عقيدتهم، إذا لم تتفق مع ما جاء في الكتب المعتبرة عندهم. سواء أكان القائل مستشرقاً أو عربياً، سنياً أو شيعياً، متقدماً أو متأخراً.
معنى التشيع
لم يكن للعرب وحدة سياسية قبل الإسلام، فكل قبيلة تحكم نفسها، وكل مدينة لا تعرف لغيرها سلطاناً عليها، وبعد الإسلام أوجد النبي سلطة عامة خضع لها جميع العرب، ومارس هو السلطة بكافة معانيها: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، فكان يبين الأحكام والحلال والحرام، ويقود الجيش، ويخابر الملوك، ويعقد المعاهدات، ويقضي بين الناس، ويقيم الحدود، وقد ربط القرآن الكريم هذه السلطات بشخص الرسول، ففي الآية 6 من سورة الأحزاب : «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» وفي الآية 36 من السورة نفسها : «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» وفي الآية 7 من سورة الحشر : «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» وغيرها كثير.
واتفق المسلمون بكلمة واحدة على أن السلطة الزمنية والدينية التي كانت للرسول تعطى لخليفته، ثم اختلفوا فيما بينهم: هل يعين الخليفة بالنص عليه من النبي، أو يترك الأمر فيه إلى اختيار الأمة؟. قال الشيعة: إن الخليفة يتعين بالنص لا بالانتخاب، أي أن اللّه سبحانه يأمر النبي أن يبلغ المسلمين بأنه قد اختار (فلاناً) خليفة بعده، وان عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وقد صدر هذا النص بالفعل من النبي على علي بن أبي طالب.
هذا هو التشيع.. إن التشيع في حقيقته وجوهره يتلخص بهذه الكلمة، وهي الإيمان بأن الإمام المنصوص عليه يتولى الحكم، ويحكم بإرادة اللّه لا بإرادة الناس، وقد أنكر السنة عليهم ذلك، وبالغوا في الإنكار، حتى قال بعض المؤلفين: إن هذه العقيدة نزعة فارسية استقاها الشيعة من الفرس...
ونجيب بانها إسلامية بحتة، لا شائبة فيها لغير الإسلام، وقد أُخذت من كتاب اللّه وسنة نبيه، كما يظهر من الأدلة الآتية. وإذا اخذ الشيعة هذه النزعة من الفرس. فمن أين أخذ عثمان بن عفان قوله - حين طلب اليه أن يتخلى عن الخلافة - «ما كنت لأخلع قميصاً قمصنيه اللّه». وقال ايضاً: «لان أقدم فتضرب عنقي أحب من أن انزع سربالاً سربلنيه اللّه».
يجوز أن تكون الخلافة قميصاً بل سربالاً من اللّه لعثمان، ولا يجوز أن تكون حقاً الهياً لعلي. ثم أي فرق بين قول عثمان هذا، وقول الشيعة بان الخلافة منصب الهي أمرها بيد اللّه لا بيد الناس؟... ولماذا كان قول الشيعة نزعة اجنبيه، وقول عثمان نزعة إسلامية؟!
من أدلة الشيعة
استدل الشيعة على أن الخلافة تكون بالنص لا بالانتخاب بأدلة:
منها: أن الخليفة يحكم باسم اللّه لا باسم الشعب، فيجب والحال، أن يُختار من اللّه بلسان نبيه، لا من الشعب بطريق الانتخاب.
ومنها: قوله تعالى في الآية 68 من سورة القصص: «وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة». فاللّه سبحانه حصر الاختيار به، ونفاه عن جميع الناس. (دلائل الصدق ج 3 ص 21 طبعة 1953).
ومنها: أن الأكثرية غير معصومة عن الخطأ، فمن الجائز أن تختار رجلاً لا تتوافر فيه صفات الإمام من العلم والخلق، فتعم الفوضى والفساد. وقد نص القرآن على سقوط رأي الأكثرية في الآية 116 من سورة الأنعام: «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه». وفي الآية 106 من سورة المائدة: «وأكثرهم لا يعقلون». وفي الآية 71 من سورة المؤمنون: «وأكثرهم للحق كارهون». وغيرها من الآيات (كتاب فدك للصدر ص 113 طبعة 1955. وج 4 من كتاب الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي ص 109 طبعة سنة 1376هجري).
وجاء في الحديث النبوي أن محمداً صلى الله عليه وآله يرى يوم القيامة اكثر أمته تدخل النار. وحين يسأل عن السبب يقال له: انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى (كتاب الجمع بين الصحيحين. الحديث 267).
واهل السنة الذين قالوا: إن الخليفة يكون بالانتخاب لا بالنص يعترفون بان الأكثرية قد تخطئ، وتختار غير الكفوء، لكن بعضهم قال: إذا انحرف الخليفة، عزلناه، وأتينا بالأصلح... واعلن أبو بكر من على المنبر قائلاً: «اذا استقمت فأعينوني، واذا زغت قوِّموني».
وأجاب الشيعة عن ذلك بان وظيفة الإمام أن يقوّم المعوج من رعيته، فاذا قومته الرعية انعكست الآية، وأصبح محكوماً، والرعية هي الحاكمة، قال الشاعر الشيعي1:
وقالوا رسول اللّه ما اختار بعده*** إِماماً ولكنا لأنفسنا اخترنا
أقمنا إماماً إن أقام على الهدى*** أطعنا وإن ضل الهداية قوّمنا
فقلنا إذن أنتم أمام إِمامكم*** بحمدٍ من الرحمن تهتم وما تهنا
ولكننا اخترنا الذي اختار ربنا*** لنا يوم خم ما اعتدينا ولا حلنا
يسخر الشاعر من قولهم: انهم يطيعون الإمام إن استقام، ويقوِّمونه إن اعوج، ويرد عليهم بأنهم أصبحوا هم الإمام، وهو المأموم.
*مقتطف من كتاب الشيعة في الميزان للشيخ محمد جواد مغنية (ره)