يبيّن القرآن الكريم أنّ عالم الوجود قطعة واحدة من التسبيح والحمد، وأنّ كل موجود يؤدي هذا التسبيح ويقوم به بشكل معين ويثني على الباري عزوجل، وأنّ أزيز هذا التسبيح والحمد يملأ عالم الوجود المترامي الأطراف، ولكن الجهلاء لا يستطيعون سماع هذا الأزيز، بعكس المستبصرين المتأملين والعلماء الذين أضاء الله قلوبهم وأرواحهم بنور الإيمان، فإنّ هؤلاء يسمعون هذا الصوت من جميع الجهات بشكل جيّد.
هناك كلام كثير بين العلماء والمفسّرين والفلاسفة حول تفسير حقيقة هذا الحمد والتسبيح، فبعضهم اعتبر الحمد والتسبيح (حالا) والبعض الآخر (قولا)، أمّا خلاصة أقوالهم فهي:
١ ـ البعض يعتقد أنّ جميع ذرات الوجود في هذا العالم لها نوع من الإدراك والشعور، سواء كانت هذه الموجودات عاقلة أو غير عاقلة. وهي تقوم بالتسبيح والحمد في نطاق عالمها الخاص، بالرغم من أنّنا لا نستطيع إدراك ذلك أو الإحساس بهذا الحمد والتسبيح وسماعه. آيات كثيرة تؤكّد هذا المعنى منها الآية رقم (٧٤) من سورة البقرة واصفة الحجارة أو نوع منها: (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). ثمّ قوله تعالى في الآية (١١) من سورة فصّلت: (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).
٢ ـ الكثير يعتقد أنّ هذا التسبيح والحمد هو على شاكلة ما نسميه بـ «لسان الحال» وهو حقيقي غير مجازي إلّا أنّه بلسان الحال وليس بالقول. (تأمّل ذلك).
ولتوضيح ذلك تقول: قد يحدث أن نشاهد آثار عدم الارتياح والألم، وعدم النوم في وجه أو عيني شخص ما ونقول له: بالرغم من أنّك لم تتحدث عن شيء من هذا القبيل، إلّا أن عينيك تقولان بأنّك لم تنم الليلة الماضية، ووجهك يؤكّد بأنّك غير مرتاح ومتألم! وقد يكون لسان الحال من الوضوح بدرجة بحيث أنّه يغطي على لسان القول لو حاول التستر عليها قولا.
وهذا هو المعنى الذي صرّح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام بقوله : «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه».
من جانب آخر هل يمكن التصديق بأنّ لوحة فنية جميلة للغاية تدل على ذوق ومهارة رسامها، لا تمدحه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين أشعار أساطين الشعر والأدب وتمجيدها لقرائحهم واذواقهم الرفيعة؟ أو يمكن انكار أن بناء عظيما أو مصنعا كبيرا أو عقولا الكترونية معقدة أو أمثالها، أنّها تمدح صانعها ومبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟
لذا يجب التصديق والتسليم بأنّ عالم الوجود العجيب ذا الأسرار المتعدّدة والعظمة الكبيرة، والجزئيات العديدة المحيّرة، يقوم بتسبيح وحمد الخالق عزوجل، وإلّا فهل «التسبيح» سوى التنزيه عن جميع العيوب؟ فنظام عالم الوجود ناطق بأنّ خالقه ليس فيه أي نقص أو عيب:
ثمّ هل «الحمد» سوى بيان الصفات الكمالية؟ فنظام الخلق والوجود كلّه يتحدث عن الصفات الكمالية للخالق وعلمه وقدرته اللامتناهية وحكمته الوسيعة.
خاصّة وأنّ تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار وخفايا هذا العالم الواسع، توضح هذا الحمد والتسبيح العام بصورة أجلى.
فاليوم مثلا ألّف علماء النبات المؤلفات العديدة عن أوراق الأشجار، وخلايا هذه الأوراق، والطبقات السبع الداخلة في تكوينها، والجهاز التنفسي لها، وطريقة التغذية وسائر الأمور الأخرى التي تتصل بهذا العالم.
لذلك، فإنّ كل ورقة توحد الله ليلا ونهارا، وينتشر صوت تسبيحها في البساتين والغابات، وفوق الجبال وفي الوديان، إلّا أنّ الجهلاء لا يفقهون ذلك، ويعتبرونها جامدة لا تنطق.
إنّ هذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه تماما، وليست هناك حاجة لأن نعتقد بوجود إدراك وشعور لكل ذرات الوجود، لأنّه لا يوجد دليل قاطع على ذلك، والآيات السابقة يحتمل أن يكون مقصودها التسبيح والحمد بلسان الحال.
الجواب على سؤال
يبقى سؤال واحد، وهو إذا كان الغرض من الحمد والتسبيح هو تعبير نظام الكون عن نزاهة وعظمة وقدرة الخالق عزوجل، وتبيان الصفات السلبية والثبوتية، فلما ذا يقول القرآن: (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأنّه إذا كان البعض لا يفقه، فإنّ العلماء يفقهون ويعلمون؟
هناك جوابان على هذا السؤال هما:
الأوّل: إنّ الآية توجّه خطابها إلى الأكثرية الجاهلة من عموم الناس، خصوصا إلى المشركين، حيث أنّ العلماء المؤمنين قلّة وهم مستثنون من هذا التعميم، وفقا لقاعدة ما من عام إلّا وفيه استثناء.
الثّاني: هو أنّ ما نعلمه من أسرار وخفايا العالم في مقابل ما لا نعلمه كالقطرة في قبال البحر، وكالذرة في قبال الجبل العظيم. وإذا فكرنا بشكل صحيح فلا نستطيع أن نسمّي الذي نعرفه بأنّه (علم).
إنّنا في الواقع لا نستطيع أن نسمع تسبيح وحمد هذه الموجودات الكونية مهما أوتينا من العلم، لأنّ ما نسمعه هو كلمة واحدة فقط من هذا الكتاب العظيم!
وعلى هذا الأساس تستطيع الآية أن تخاطب العالم بأجمعه وتقول لهم : إنّكم لا تفقهون تسبيح وحمد الموجودات بلسان حالها، أمّا الشيء الذي تفقهوه فهو لا يساوي شيئا بالنسبة إلى ما تجهلون.
٣ ـ بعض المفسّرين يحتمل أنّ الحمد والتسبيح هو تركيب من لسان : «الحال» و «القول». وبعبارة أخرى : يعتقدون بأنّه تسبيح تكويني وتشريعي، لأنّ أكثر البشر وكل الملائكة يحمدون الله عن إدراك وشعور ؛ وكل ذرات الوجود نتحدّث عن عظمة الخالق بلسان حالها. وبالرغم من أنّ هذين النوعين من الحمد والتسبيح مختلفين، إلّا أنّهما يشتركان في المفهوم الواسع لكلمتي الحمد والتسبيح.
ولكن التّفسير الثّاني ـ حسب الظاهر ـ أكثر قبولا للنفس من التّفسيرين الآخرين.
جانب من روايات العترة الطاهرة
هناك تعابير لطيفة في هذا المجال وردت في أحاديث الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أهل البيتعليهمالسلام، منها:
* أحد أصحاب الإمام الصادق عليهالسلام يقول : سألت الإمام عن تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فقال عليهالسلام : «كل شيء يسبّح بحمده وإنّا لنرى أن ينقض الجدار وهو تسبيحها».
* وعن الإمام محمّد الباقر عليهالسلام قال : «نهى رسول الله أن توسم البهائم في وجوهها، وأن تضرب وجوهها لأنّها تسبّح بحمد ربّها».
* وعن الإمام الصادق عليهالسلام قوله : «ما من طير يصاد في بر ولا بحر، ولا شيء يصاد من الوحش إلّا بتضييعه التسبيح».
* أمّا الإمام الباقر عليهالسلام، فعند ما سمع يوما صوت عصفور، فقال لأبي حمزة الثمالي ـ وكان من خاصّة أصحابه ـ : «يسبحن ربّهنّ عزوجل ويسألن قوت يومهن».
* وفي حديث آخر نقرأ أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أتى إلى عائشة، وقال لها : «اغسلي هذين الثوبين» فقالت : يا رسول الله، لقد غسلتهما أمس، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أمّا علمت أنّ الثوب يسبّح فإذا اتسخ انقطع عن تسبيحه».
* في حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله عليهالسلام : «للدابة على صاحبها ستة حقوق : لا يحملها فوق طاقتها، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، ويبدأ بعلفها إذا نزل، ولا يسمها في وجهها، ولا يضربها فإنّها تسبح، ويعرض عليها الماء إذا مرّ بها».
إنّ هذه المجموعة من الأحاديث والرّوايات والتي لبعضها معاني دقيقة، تظهر أنّ التسبيح العام للموجودات يشمل كل شيء بدون استثناء، وكل هذا يتطابق مع ما ذكرناه في التّفسير الثّاني (أي إن التسبيح هو تسبيح تكويني أو تسبيح بلسان الحال).
أمّا ما قرأناه في هذه الأحاديث من أنّ اللباس إذا توسخ ينقطع تسبيحه، فهو كناية عن أنّ المخلوقات إذا كانت محافظة على نظافتها الطبيعية فسوف تذكّر الإنسان بخالقه، أمّا إذا فقدت نظافتها الطبيعية فسوف لا تقوم بالتذكير.
مقتطف من تفسير الأمثل ج ٩