[اشترك]
ولا شكّ أيضاً أنّ ترتيب الآيات والسور على خلاف ترتيب نزولهما ليس من التحريف، بل التحريف الممنوع هو في الزيادة والنقيصة.
نعم، جمع أمير المؤمنين (عليه السلام) القرآن الكريم على ترتيب نزوله، فقدّم المكيّ على المدنيّ، والمنسوخ على الناسخ، قال الشيخ المفيد: (قد جمع أمير المؤمنين - عليه السلام - القرآن المنزل من أوّله إلى آخره، والذي بحسب ما وجب من تأليفه، فقدّم المكّيّ على المدنيّ، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كلّ شيء منه في موضعه، ولذلك قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق - عليه السلام -: « أما والله لو قُرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمّين كما سُمّي مَن كان قبلنا ») [المسائل السرويّة ص79]، وقال ابن جزي: (فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وُجد مصحفه لكان فيه علم كبير، ولكنّه لم يوجد) [التسهيل ج1 ص6]، وهذا المصحف ممّا يتوارثه الأئمّة المعصومون (عليهم السلام) كابراً عن كابر، إلى أن وصل لبقية الله الأعظم (عجّل الله فرجه).
ثانياً: هناك كلامٌ في أوّل ما نزل من القرآن الكريم على أقوال: سورة العلق، سورة المدّثر، سورة الفاتحة. فإنّه وإنْ كان المعروف أنّ أوّل ما نزل هو قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ولكن الثابت نزول الآيات الأولى من السورة لا جميعها.
ولنذكر في المقام مختصر كلام العلّامة الشيخ محمّد هادي معرفة في كتابه الفخم [التمهيد في علوم القرآن ج1 ص157-160] حيث تكلّم حول الموضوع بشكل وافٍ.
جاء في كتاب [مختصر التمهيد في علوم القرآن ص32]:
(اختلف الباحثون في شؤون القرآن، في أنَّ أيَّ آياته أو سوَره نزلت قبل؟ والأقوال في ذلك ثلاثة:
1- سورة العلق: ففي تفسير الإمام العسكريّ (عليه السلام): « هبط إليه جبرائيل وأخذ بضبعه وهزَّه، فقال: يا محمَّد، اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمَّد {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} ».
2- سورة المدّثّر: روي عن ابن سلمة، قال: « سألت جابر بن عبد اللَّه الأنصاري: أيّ القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قلت: أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؟ قال: أحدِّثكم ما حدَّثنا به رسول اللَّه، قال (صلى الله عليه وآله): إنّي جاورت بحراء، فلمّا قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي - ولعلَّه سمع هاتفاً -، ثمَّ نظرت إلى السماء فإذا هو - يعني جبرائيل -، فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثَّروني، فأنزل اللَّه: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} ».
ولعلَّ جابراً اجتهد من نفسه أنَّها أوَّل سورة نزلت؛ إذ ليس في كلام رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) دلالة على ذلك، والأرجح أنَّ ما ذكره جابر كان بعد فترة انقطاع الوحي، فظنَّه جابر بدء الوحي...
3- سورة الفاتحة: قال الزمخشريّ: « أكثر المفسِّرين على أنَّ الفاتحة أوَّل ما نزل ».
ورُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: « سألت النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة، على نحو ما نزلت من السماء، فأوَّل ما نزل عليه بمكَّة: فاتحة الكتاب، ثمّ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ثمَّ: {ن وَالْقَلَمِ} » .
ولا شكّ أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يصلّي منذ بعثته، وكان يصلّي معه عليّ وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة، و « لا صلاة لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب »، فقد ورد في الأثر: « أوَّل ما بدأ به جبرائيل أن علَّمه الوضوء والصلاة »، فلا بدَّ أنَّ سورة الفاتحة كانت مقرونة بالبعثة .
الجمع بين الأقوال: نحن لا نرى تنافياً جوهريّاً بين الأقوال الثلاثة؛ لأنَّ الآيات الثلاثة أو الخمسة من أوَّل سورة العلق إنَّما نزلت تبشيراً بنبوَّته (صلى الله عليه وآله)، وهذا إجماع أهل الملَّة. ثمَّ بعد فترة جاءته آيات أيضاً من أوَّل سورة المدَّثِّر، كما جاء في حديث جابر ثانياً .
أمّا سورة الفاتحة فهي أوّل سورة نزلت بصورة كاملة، وبسمة كونها سورة من القرآن كتاباً سماويّاً للمسلمين. ومن هنا صحَّ التعبير عن سورة الحمد بسورة الفاتحة، أي: أوَّل سورة كاملة نزلت بهذه السمة الخاصَّة؛ إذ ليس المراد من الفاتحة أنّها كتبت في بدء المصاحف؛ لأنّ هذا الترتيب شيء حصل بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو لا أقلّ في عهد متأخّر من حياته فرضاً، في حين أنّها كانت تسمّى بفاتحة الكتاب منذ بداية نزولها كما يشير إليه قوله (صلى الله عليه وآله): « لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب »)، انتهى.
المقال رداً على سؤال: نعرف جميعاً ان الله ضمن القرآن من التحريف، سؤالي هو إذا كانت أول سورة نزلت هي {اقرأ باسم ربك..} كما هو معروف، فكيف يبدأ القرآن بسورة الفاتحة؟