يعتقد العالم المتمدن اليوم ـ وفي المعسكر الشرقي منه بالخصوص ـ بأن السعادة منحصرة في التقدم الاقتصادي، وإن مصير السعادة الإِنسانية مرتبط بمصير الوضع الاقتصادي، هؤلاء ينظرون إلى كل زوايا الحياة بمنظار الاقتصاد، ويعللون جميع المسائل الأخلاقية والاجتماعية والدينية والاعتقادية بعلل اقتصادية... فهم يقولون:
«إن تغيُّر الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي والهائل على صور مختلفة من السرعة أو البطء... هذا الانقلاب الذي يشاهد بالضبط الخاص بعلوم الطبيعة وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة مختصرة، الأشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه... فينبغي تفسير هذا الوعي في المجتمع بالقوى المنتجة وعلاقات الإِنتاج...» (١)
وكما وجدنا المرتاضين والمنخرطين في سلك المبدأ النفسي ينكرون كثيراً من الحقائق المادية والميول الجسدية، نجد في الطرف المقابل أن المنخرطين في سلك المبدأ الاقتصادي ينكرون كثيراً من الحقائق الروحية والاعتقادية والأخلاقية ولم يعتبروا لها وجوداً أصلاً...
نحن لا ننكر أن الكمالات النفسية والسجايا الخلقية تشكل الأركان المهمة للسعادة، ولكن لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الأخلاق والمثُل. كما أننا لا ننكر أن الاقتصاد من الأسس القويمة للسعادة البشرية، إذ بدونه لا تحصل السعادة الكاملة، كما ورد في الحديث: «من لا معاش له لا معاد له» إلا أنه لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الاقتصاد.
وهنا لا بأس بأن نستشهد بكلام لأحد العلماء الغربيين المعاصرين بهذا الصدد:
«نحن اليوم نسير في جادة الزمن مع التقدم التكنولوجي (2) من دون أن نعير أهمية إلى الاحتياجات الأصلية للجسد والروح. ومع أننا نتخبط في المادة نعتبر أنفسنا بمعزل عنها ولا نحاول أن نفهم بأنه يجب ـ لأجل الاستمرار في الحياة ـ السير بمقتضى طبيعة الأشياء وطبيعة أنفسنا لا على طبق الأهواء والرغبات. إن البشرية المتمدنة تتردى منذ قرون طويلة في هذه الهوة السحيقة. وإن تاريخ الانحطاط الخلقي والابتعاد عن الروح الدينية يتفق تماماً مع تاريخ الخروج على القوانين الأصلية للطبيعة. إنه لا يمكن حصر النشاطات البشرية كلها في الجوانب المادية فقط إلا بعد تحطيم شخصية الإِنسان لأن الإِنسان لم يخلق للأكل والتكاثر بل أقدم منذ نعومة أظفاره على ابتداء التكامل بحب الجمال، والإِحساس الديني والنشاط الفكري، والشعور بالتضحية والحياة البطولية...» (3). «وإذا حددنا الإِنسان بنشاطه الاقتصادي فقط فكأننا فصلنا جزءاً كبيراً منه. وعليه فإن الليبرالية والماركسية تسحقان الرغبات الأصلية والنوازع الفطرية في النفس الإِنسانية» (١).
«إن الفضيلة من القيم الإِنسانية القديمة، ويمكن العثور عليها في العالم المتمدن، إلا أنه يندر العثور عليها في الجماعات التي ترزح تحت نير النظم المادية، إن المجتمع الذي يقدس الاقتصاد لا يعرف شيئاً عن الفضيلة. لأن الذي يريد الفضيلة لا بد وأن يبتغي إطاعة القوانين الحياتية. أما إذا قيد الإِنسان نفسه بالنشاط الاقتصادي فقط فلا يطيع القوانين الكونية والاجتماعية أصلاً» (4).
يتبع...
*مقتطف من كتاب الطفل بين الوراثة والتربية (ج1) «الشيخ محمد تقي فلسفي»
(١) المادية الديالكتيكية والمادية التأريخية، تأليف ستالين. ترجمة خالد بكداش ص ٦٢.
(2) التكنولوجيا: هو العلم الذي يعني بدراسة الفنون وأنواعها وتاريخها.
(3) راه ورسم زندگى ص ٣٤.
(4) نفس المصدر.