في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر)، شهدت مدينة النجف الأشرف لقاءً جمع المرجع الديني الأعلى في العراق، السيد علي السيستاني، بممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها في العراق (يونامي)، السيد محمد الحسان. جاء هذا الاجتماع ليُسلِّط الضوء على قضايا ملحة ذات صلة بالشأن العراقي والإقليمي، مُثيراً بذلك جدلاً واسعاً في الساحات السياسية والإعلامية.
[اشترك]
رغم أن تصريحات سماحة السيد السيستاني لم تأت بجديد على مستوى التوجيهات، فقد حملت أصداءً تُذكّر بمواقفه الراسخة. فقد أكّد على ضرورة التصدي للتدخلات الخارجية وحثَّ على ترسيخ سلطة القانون وحصر السلاح بيد الدولة، مجسداً بذلك حرص المرجعية على استقلال العراق وحماية سيادته من أي تأثيرات خارجية تُعرقل تطوره أو تُهدد أمنه.
إلى جانب ذلك، دعا السيد السيستاني إلى إصلاح داخلي جاد، مطالباً بوضع خطط مدروسة تعتمد على الكفاءة والنزاهة في تولي المسؤوليات. كما لم تخلُ كلماته من التأمل العميق في الوضع الإنساني المأساوي في لبنان وغزة، حيث أعرب عن أسفه لعجز المؤسسات الدولية عن فرض حلول فعالة أو توفير الحماية اللازمة للمدنيين في وجه العدوان المستمر من الكيان الغاصب. هذه العبارات تحمل في طياتها موقفاً مشرفاً من قضايا الأمة ومبادئ إنسانية ثابتة لم تتغير مع تعاقب الأزمنة.
لكن، ما أثار حالة من الجدل حول هذه التصريحات هو التوقيت الحساس الذي صدرت فيه، وسط تصاعد التوترات السياسية والأمنية في العراق والمنطقة. جاءت كلماته لتُحرك المياه الراكدة وتدعو النخب السياسية إلى اتخاذ مواقف حاسمة. وقد رأينا في البرامج الحوارية حالة من الشد والجذب بين أطراف الحوار، وكأننا ننتظر من النخب السياسية الانصياع والطاعة والحرص على تنفيذ توجيهات المرجعية، وكأنهم لم يسمعوها سابقاً وهي تؤكد ذات المضامين.
وهنا يكمن جوهر المأساة: تجاهل وتهاون السياسيين في الاستجابة، فلا يعودون إلى المرجعية إلا في الأزمات، متوسلين نصرتها وكأنها سفينة النجاة الأخيرة. وكأن حال المرجعية يقول، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام حين تخاذل القوم عنه: "أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز". شرح النهج، ج1، ص 202.
وما أشبه حالهم ببني إسرائيل، الذين فزعوا الى المرجعية الدينية وقتها (النبي موسى عليه السلام) لتجد لهم حلاً، لما واجهوا خطر الفتنة والاقتتال الداخلي فأمرهم بذبح بقرة، وضرب المقتول ببعضها، فيحكي لنا القرآن واقعاً من الخذلان وقلة الطاعة مشابها ـ إن لم يكن مطابقاً ـ لما نعيشه اليوم، قال تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۞ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۞ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۞ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، البقرة: 72 ـ 75.
فانظر الى انطباق الآيات الكريمة على واقعنا ـ مع الأسف ـ وانظر الى احتياج المرجعية الدينية (موسى عليه السلام) الى معجزة لأثبات صدق كلامها، مما يكشف عن قلة طاعتهم، وقد برهنوا عليها قبلاً برفضهم الدخول في الأرض المقدسة.
كما ان في الآيات ذماً واضحاً لطريقة القوم، الذين طالبوا بدليل على مقالة النبي ولم يكتفوا بحجية قوله التي ثبتت مسبقاً، وهذا ما نراه اليوم من كثيرين، فبعد ثبوت حجية قوله وصدق عصمته بالمعجزات وجب الأخذ بأمره وطاعته، وهذا بنفسه دليل ملزم على الطاعة.
المشهد اليوم يتكرر، فما أكثر الذين يطالبون بأدلة إضافية على صحة ما تقوله المرجعية، رغم وضوح حجيتها وثبوت عدالتها. لقد برهنت المرجعية على صوابية توجهاتها بالأدلة التي لا يمكن لعاقل إنكارها، فليس ثمة مبرر للتخاذل أو التهاون. ينبغي الاستجابة بصدق وتنفيذ التوجيهات بدلاً من الانتظار حتى تعظم الفجائع وتشتد الأزمات.
فمتى يدرك القوم أن الرجوع إليها ليس ضعفاً بل هو خلاص الأمة من عبث العابثين ومكر الماكرين؟