فكر وثقافة
2018/09/23

2018/09/08

2018/09/04

2018/09/02

الإنسان قبل وبعد الدنيا: من أين جاء وإلى أين يذهب؟!!
قيل: "رحم اللّه امرءاً ... عرف من أين؟ وفي أين؟ والى أين؟ " (١) في هذا الإطار يبحث المقال عن الإنسان وتقلباته وعوالمه، في زمن الفلسفات التي تبحث عما يجمع هذا الكائن بالحيوانات ينشد المقال ما يميزه ويفرقه بوعيه بأطواره وتفكيره بما ينتظره، وما أعظم ذلك إذا اعتمد كلام خالق الإنسان وعوالمه أداةً للمعرفة!

أـ الإنسان بين رؤيتين

الإنسان كما الكون في الرؤية المادية، مقطوع الصلة بما قبله وما بعده لا يعلم من أين وفي أين وإلى أين! وكل ما يعلم عن الكون أنّه موجود وحسب لا يعلم أصله وما قبله وإلى أين سينتهي و"لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد أي شيء سوى الكون "([2]) وبخصوص الإنسان فكما يقال: لا شيء سوى ارحام تدفع وارض تبلع ومن ثمّ استبدل الفكر المادي سؤال الانسان المحوري: لماذا يعيش؟ بسؤال: كيف يعيش؟ وهكذا قتلت كل آماله وتطلعاته وصار ابن الطبيعة لا غير فمنها بدأ وإليها ينتهي! «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ»([3])

يشير ذيل الآية إلى أنّ نفيهم لوجود عالم آخر لا يقوم على دليل ومن ثمّ فمثلهم مثل الجنين في الرحم الذي ينفي وجود عالم بعد عالمه الخاص به!

دعك من هذا الاختزال المادي للكائن المفكر لنذهب صوب الدين والفلسفة الإلهية، حيث الإنسان المكرم والمفضّل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»([4]) المخلوق في أحسن تقويم: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» ([5]) لنسبر أطوار الإنسان «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا»([6]) وعوالمه حسب السيناريو الإلهي المستفاد من مجموع الآيات الكتاب الكريم.

في هذه المقالة نروم بإيجاز بيان عالم الإنسان قبل وجوده في الدنيا الآن وهنا على هذه الأرض وأيضاً وما ينتظرنا بعد حياتنا الدنيا كل ذلك حسب المنظور القرآني، طبعاً لا يعني ذلك أنْ ليس للقرآن كلمة عن الإنسان وتكوينه في الدنيا فعن مكونّه المادي أفاد أنّ مادته الأولية التراب بعد ذلك يتحول إلى نطفة ويمكث في الأصلاب حيناً إلى أن يذهب بعدها للرحم ويبقى في الرحم تسعة أشهر أو أقل ومنه يخرج وتبدأ مسيرته: طفلاً، فشاباً، فشيخاً: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»([7]) . وطبعاً غني عن القول إنّ هذا كله لا يمثل تمام حقيقة الإنسان قرآنياً: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ».
ب ـ الإنسان قبل الدنيا

يُصطلح على وجود الإنسان قبل عالمنا بـ (عالم الذر) أو (عالم الإشهاد وعهد: ألستُ) أخذاً من الآية المباركة: «4وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» [الأعراف: 172] .

والمقصود من عالم الذر هو أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأبدان وعرض عليها الإيمان به فآمنت وأقرت فبعد أن خلق الله تعالى آدم (عليه السلام) أخرج ذريته كلهم من الطينة نفسها التي خلق منها أبوهم وعلى شكل ذر عاقل قابل للتكليف والأمر الإلهي، وعندها وجه خالقهم السؤال: ألستُ بربكم؟ فقال الجميع لكن على تفاوت بينهم في الإستجابة: بلى شهدنا، وبعدها أعيدوا إلى ما أخذوا منه.

نعم مرّ الإنسان بهذا العالم دون أن يتذكر عن هذا الحدث سوى ما بقي من فطرة المعرفة والإيمان برب العالمين "ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف" ([8]) وهذا ما بقي في النفوس عبر التأريخ، والواقع كما قال المؤرِّخ والكاتب الإغريقي بلوتارك: "لقد وجدتُ في التاريخ مدنًا بلا حصون، ومدنًا بلا قصور، ومدنًا بلا مدارسَ، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد" ([9]) والهدف مما وقع في الذر: يستفاد من ظاهر آخر آية الذر أنّ الهدف مما وقع من عهد في هذا العالم هو إقامة الحجة وقطع العذر أمام بني البشر: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، تتمم الآية التي بعدها ذلك: «أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» [الأعراف: 173]
و مضافاً لصريح الآية من الإقرار بالله رباً أشارت بعض الروايات أن من جملة المشهود به هو الإقرار بالنبوة لنبينا والولاية لأمير المؤمنين والأئمة، وأن النبي سبق الأنبياء وفُضّل عليهم مع أنه بعث آخرهم لإنّه كان أول من أجاب حين أخذ الله الميثاق، فسبقهم بالإقرار بالله تعالى إلى آخر التفاصيل، وهناك عشرات الروايات التي تتحدث عن هذا العالم حتى أنّ بعض الأعلام لم يستبعد تواترها المعنوي ([10])

ج ـ الإنسان بعد الدنيا

خلافاً للمادية لا يمثل الموت في الرؤية القرآنية إعداما وفناءً بل هو انتقالة من حياة إلى أخرى اذ يمر الإنسان بعد الموت بثلاثة عوالم:

الأول: عالم البرزخ: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» [المؤمنون: 100] وهو أول ما ينتقل له الإنسان بعد الموت وحين يوضع بدنه في القبر ليكون إما روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النيران، وهو عالم وسط بين الدنيا والقيامة وسمي بذلك لإنّ "البرزخ: الحاجز بين الشيئين" ([11]) والحديث عن الوحشة وضغطة القبر ومنكر ونكير وغيرها من تفاصيل يمكن مراجعتها في المطولات.

الثاني: عالم البعث – المعاد:  بعد البرزخ والقبر يأتي يوم الحشر «وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» [الحج: 7] وينفرد القرآن الكريم بين الكتب السماوية، بالتحدث عن المعاد والحشر تفصيلاً، في حين ان «التوراة» لم تشر الى هذا اليوم وهذا الموقف، وكتاب «الانجيل» يشير اشارة مختصرة، والقرآن يذكره ويُذكر به في مئات الموارد، وبأسماء شتّى، ويشرح عاقبة العالم والبشرية، التي تنتظرهم فتارة باختصار واخرى بإسهاب، ويُذكّر مراراً ان الاعتقاد بيوم الجزاء (يوم القيامة) يعادل الاعتقاد بالله تعالى، ويعتبر أحد الأصول الثلاثة للإسلام ومنكره (منكر المعاد)، خارج عن شريعة الاسلام وما عاقبته الا الهلاك والخسران"([12])

الثالث: عالم الجنة او النار: وبه يختتم الإنسان رحته وفيه يستقر خالداً، كلٌ حسب عمله، إما في الجنة أو في النار، فـ «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [التوبة: 72] وفي المقابل: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ» [التوبة: 68]

الخاتمة

مما سبق أتضح أن للإنسان ثمانية عوالم رئيسة مرّ أو سيمرّ بها حتماً، وهي بالترتيب كالتالي:

1ـ عالم الذر 2ـ عالم التراب 3ـ عالم الأصلاب 4ـ عالم الأرحام 5ـ عالم الدنيا 6ـ عالم البرزخ 7ـ عالم الحساب 8ـ عالم الجنة والنار، وكل تلك العوالم تضمنها القرآن في آياته، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ .

«رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» [البقرة: 201]


الهوامش: ([1]) نسبت المقولة في العديد من الكتب لأمير المؤمنين (عليه السلام) بيد أنا لم نعثر عليها في مصدر معتبر، فأقتضى التنويه. ([2]) كما قال في مقدمة برنامجه (الكن ــ رحلة شخصية ) عالم الفلك الملحد: كارل إدوارد ساغان (توفي: 1996 م ) أحد أبرز المساهمين في تبسيط العلوم ([3])[الجاثية: 24] ([4])[الإسراء: 70] ([5])[التين: 4] ([6])[نوح: 14] ([7])[غافر: 67] ([8])البرقي - المحاسن ج: 1 ص: 241 الناشر: دار الكتب الإسلامية – قم، الطبعة: الثانية 1371 هـ [9])) بلوتارك ( 46؟ - 120م؟).كاتب إغريقي وراوي تراجم، اشتُهر نتيجةً لمؤلَّفه الحياة المتوازية لليونانيين والرومانيين المعروفين . (الموسوعة العربية العالمية )  ([10])الطبأطبائي - الميزان في تفسير القرآن 8: 329 ([11]) الطريحي – مجمع البحرين: [430] ([12]) الطبأطبائي – الشيعة في الإسلام ص 142 .
2018/08/28

الإبريق الكوني... تلك الحجة الطفولية

ما هو الأصل في مسألة وجود الإله؟ يتفرع من ذلك: من المطالب بالدليل؟ وعلى مَن يقع عبئ الإثبات على الملحد النافي أم المؤمن المثبت؟

 فرضية الإله أو الإيمان؟

يوم كان الفيلسوف البريطاني الشهير أنتوني جيرارد نيوتن فلو (توفي سنة: 2010م) ملحداً أفاد في مقاله: "فرضية الإلحاد" أنّ النقاش حول وجود الإله يجب أن يبدأ من فرضية الإلحاد وأنّ عبئ الإثبات يجب أن يكون على المؤمنين بالإله... حتى نؤمن بأنّ هناك إلهاً لابد أن تكون لدينا مبررات جيدة للاعتقاد... الموقف المعقول الوحيد هو أن تكون ملحداً سلبياً (= لا يؤمن بالإله مقابل الملحد الإيجابي الذي يؤمن بعدم وجود إله) أو لا أدرياً... وأشار إلى أنّ هذه الفرضية لا تتضمن حكما مسبقا على نتيجة يراد اثباتها وإنما هي مبدأ أجرائي يشبه قاعدة أصل البراءة التي يستند عليها القانون.

وبهذا يرى فلو أنّه وضع الكرة في ملعب المتدينين، فإنّ هذا المنظور الجديد سيُظهر مشروع الإيمان كله متزعزعاً أكثر مما كان عليه، ذلك أنّ اثبات شيء أصعب من نفيه.

لكن لم تبق هذه الفرضية على حالها، فلاحقاً غير فلو موقفه من قضية وجود إله وأعلن إيمانه بالله سنة: 2004 م وبعد طلب من فلو أن يعرض تجربته مع الإلحاد أصدر كتابه الشهير "هناك إله "(There Is a God) سنة: 2007 م، سجل فيه العديد من الرؤى والمواقف التي زعزعت فرضيته "فرضية الإلحاد" السالفة نشير إلى ثلاثة منها:

أـ يذهب الفيلسوف البريطاني المعاصر (أنثوني جون باتريك - كيني) إلى أنّ الموقف اللا أدري قد يكون مبرراً ولكن الإلحاد غير مبرر لإنّ إظهار أنك تعرف يتطلب جهداً أكبر من إظهار أنك لا تعرف، وهذا أيضاً لا يخلص اللا أدري من الورطة فالمتقدم للاختبار يمكنه تبرير عدم معرفته بإجابة أحد الأسئلة لكن هذا لا يمنحه القدرة على اجتياز الاختبار.

ب ـ ويرى فلو أنّ أكبر تحدٍ لحجة فرضية الإلحاد جاءته من الفيلسوف الأمريكي المعاصر (ألفن كارل بلانتنجا) الذي أكد فطرية الإيمان وقارب مسألة الاعتقاد بوجود إله بقضايا جوهرية أساسية غير قابلة للإنكار، كالاعتقاد بأن للآخرين عقولاً كعقولنا والاعتقاد بصحة الحواس والذاكرة ووجود العالم وغيرها من قضايا نعتقد بها دون أن نرى أي حاجة لسوق الأدلة عليها.

ج ـ راف ماك أينرني: وجود إله خالق قضية بديهية نظراً للنظام والترتيب والقوانين التي تحكم الوجود والطبيعة، ويستنتج من ذلك أن الأصل للإيمان وعبئ الدليل يقع على الملحدين ([1]) وهذه الملاحظات والمواقف بمجموعها تمثل الرأي الثاني في المسألة، أعني أصالة الإيمان.

تطور الإبريق!

والأمر هين لو كان مجرد تنصل من "عبئ الدليل" لكن الأمر اختلف، فصارت تضرب الأمثلة والمقاربات التي تهدف إلى رمي الايمان بالله بالوهم الذي لا دليل عليه (ما يثبت بلا دليل ينفى بلا دليل)، على الأقل ينطوي هذا الطرح على مغالطتين: فلا عدم الدليل يسوغ اعتقاد النفي (الاحتكام إلى الجهل) كما أنّ في تطبيق: "ما ثبت بلا دليل" على وجود الله (مصادرة على المطلوب) واضحة.

أولى هذه المقاربات وأشهرها تمت على يد الفيلسوف الشهير راسل بأبريق شاي مفترض الوجود يدور حول الشمس ففي مقال له بعنوان: Is There a God? هل هناك خالق؟ كتب:

"إذا أمكنني أن أشير أنه يوجد بين الأرض والمريخ إبريق مصنوع من الخزف الصيني يدور حول الشمس في مدار بيضوي، لا يمكن لأحد أن يدحض افتراضي... ([2])

تطورت هذه الأمثولة وصارت تعرف بـ "الابريق الكوني لراسل" وراح يستعيرها أو يستبدلها بأخرى تؤدي نفس الغرض معظم الملاحدة وهو: الإيمان بالله غير عقلاني تماما كالاعتقاد بأبريق راسل الخزفي، "لا أومن بالله كما لا أؤمن بالإوزة الأم - شخصية كارتونية" يقول محامٍ أمريكي شهير (كليرانس دارو )، يضيف دوكنز بابا نؤيل وأيضاً: إله آخر بدأ ينتشر الآن على الإنترنت وغير قابل للإنكار تماماً كيهوه والآخرين ألا وهو وحش السباغايتي الطائر.

وللتوضيح فقط: قصة تبدأ من قرار وزارة التعليم في ولاية كانساس يقضي بتعليم التصميم الذكي، أحتج أحد الطلبة "بوبي هندرسن" وتهكماً من القرار أسس سنة 2005م ديانة "باستافاريين "أخذا من كلمة "باستا "التي تعني المعجنات، مفترضاً لها إله سماه "وحش السباغيتي الطائر"، وكدليل على بطلان قرار الوزارة راح يطالب بتدريس هذا الإله التهكمي المفترض.

طار الملحدون فرحاً بأمثولة هندرسن كتجديد وتطور لأبريق راسل الذي استهلك وشارف على الانقراض!

ويخبرنا دوكنز عن السلف المشترك للإبريق والإوزة والوحش وبابا نؤيل:

"الفكرة التي أراد راسل توضيحها هي أن مسؤولية البرهان تقع على المؤمن وليس غير المؤمن... إن عدم إمكانية نفي وجود إبريق الشاي المداري وبابا نؤيل لن يسبب لأي شخص عاقل أي شعور بأنّ الموضوع يستحق الاهتمام أساساً! "([3])

الحجة الطفولية

هكذا وبكل بساطة وبالأمثلة القابلة للتوظيف في كل الاتجاهات يستنتج دوكنز من ذلك كله:

"الموضوع لا يستحق الإهتمام أساساً"! دون أي اعتبار إلى أنّ أهمية كل بحث وجديته تعتمد على الخطورة التي تترتب عليه، أعيد استعارة مثال هوستن سميث (توفي سنة: 2016م) إنّ اختبار قوة حزام بنطال مثلاً هو أن نقوم بشده بقوة ونتائج هذا الاختبار ليست بذات اهمية اذ في حال عدم ثبوت المطلوب كل ما سيحصل هو انقطاع الحزام، لكن الوضع يختلف تماما عندما يتعلق الامر بحياة الانسان لذا فان قوة حبال المظلة (البرشوت) يجب أن يتم تعييرها بشكل دقيق لان عدم تحقق ذلك يؤدي بحياة المظلي ([4])

ومع صوابية فكرة فطرية الإيمان وأصالته الثابتة بأكثر من وجه وطريق، فقد خلق الإنسان مجبولاً على البحث والسؤال عن علل الحوادث والظواهر، وتاريخياً تعبر عن تلك الحقيقة المقولة المشهورة عن المؤرخ الإغريقي الشهير بلوتارخ: لقد وجدت في التاريخ مُدُنًـا بلا حُصون، ومدنا بلا قُصور، ومُدُنا بلا مدارس، لكني لم أجد أبدًا مُدنًـا بلا معابد.

بيد أنّ هذا لا يمنع العقل من الحكم بضرورة إقامة الدليل على أي قضية موجبة أو سالبة سيما رأس القضايا الوجودية، ومن ثمّ فعبئ الإثبات يقع على الطرفين.

والحقيقة أنّ تلك التشبيهات تعبر عن "حجة طفولية "على حد وصف عالم الفيزياء الإيرلندي المعاصر ليستر إدغار ماكغراث:

"من الواضح أنّ التشبيه خاطئ... أنا أمنتُ بأنّ بابا نؤيل موجود حتى بلوغي سنّ الخامسة ولم أؤمن بالله إلا حين ذهبتُ إلى الجامعة، أولئك الذين يلجؤون إلى هذه الحجة الطفولية يجب عليهم شرح السبب وراء اكتشاف كثيرين لوجود الله في وقت لاحق من حياتهم وبالتأكيد لا يعتبرون ذلك يمثّل أي نوع من التراجع أو الانحراف أو الانحطاط الأخلاقي، وخير مثال على ذلك يقدمه (أنتوني فلوـ مواليد 1923) الفيلسوف الملحد المشهور الذي بدأ إيمانه بالله في الثمانين من عمره "([5])

التعبير بالحجة الطفولية في غاية الأدب والاحترام حين ندرك أنّ هذه التشبيهات تساوي بين ما لا يختلف على وهمه مع ما مع ما أذعن به كل العظماء تقريباً فلاسفة وعلماء "فقد اتفقوا جميعاً على أن الكون لا يشرح نفسه وأنه يتطلب تفسيراً يتجاوزه، وقبلوا هذه الفكرة باعتبارها أمراً في منتهى الوضوح.» “كيث ورد” Keith Ward

[ذات صلة]

في الختام

ننتهي إلى أصالة الإيمان فطرياً ووجدانياً وهذا يقتضي أنّ يقدّم المشكك واللاأدري فضلاً عن الملحد الإلحاد تفسيراً وواضحاً مبنياً على براهين لهذه الظاهرة التي لم تنفك عن الوجود الإنساني، لكن عقلياً لا أصالة في البين بمعنى يتحتم على أي منظور إيماني أو إلحادي أن يقيم الحجج على متبنياته ودعاويه، ورحم الله ابن سينا حين قال: كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان مالم يذدك عنه قائم البرهان.


([1]) أنتوني فلو - هناك إله - كيف غير أشرس ملحد رأيه؟ ص75 بترجمة د. صلاح الفضلي. وص70 بترجمة: جنات جمال، وص59 بترجمة عمرو شريف في كتاب: رحلة عقل، وبعد الإطلاع على ترجمات الكتاب هذه فإنّ ترجمة الفضلي هي الأفضل بنظري من حيث الدقة والوضوح، سيما مع ما تضمنته من تعليقات (د.مرتضى فرج ).

([2]) رابط المقال: https://www.cfpf.org.uk/articles/religion/br/br_god.html

([3]) ريتشارد دوكنز - وهم الإله ص 54

([4]) المثال مقتبس من البروفيسور والناسك الروحي: هوستن سميث في كتابه: لماذا الدين ضرورة؟ مع تصرف بسيط)

([5]) لستر إدغار ماكغراث وجوانا كوليكات ماكغراث - وهم دوكنز ص21.

2018/08/27

صراع العلم مع الدين أم مع اللاهوت المسيحي؟!... قراءة في الجذور التأريخية للصراع

تسعى المقالة للبحث عن الأصل التأريخي الذي بلور بشكل واضح لإشكالية صراع العلم والدين وماذا إذا كانت هذه الصياغة التي تقحم الدين باطلاق صحيحة؟ وهل للإسلام علاقة من قريب أو بعيد بنشوء مثل هذه الإشكاليات؟! وهل هي بين العلم والدين أم بينه وبين اللاهوت والكنيسة؟

تنطوي الإشكالية على مفردات ثلاث يلزم توضيحها: (العلم والدين والتعارض) فالعلم هنا هو المعني بدراسة الطبيعة بمنهج التجربة والملاحظة، والدين في محوره الأهم الإيمان بالله تعالى الواحد الأزلي الحكيم، وبالحياة بعد الموت وبرسله وما ثبت عنهم بالقطع واليقين ومن الطبيعي أن يشمل هذا الإطلاق للدين كل من: اليهودية والمسيحية والإسلام.

والتعارض الذي يلزم تصوره في هذه الإشكالية هو ما يذكر في المنطق بعنوان: التناقض الذي يرسم له حدود ويوضع له شرائط والتعرض لتفاصيله يخرجنا عن هدف المقال وسياقه وبإيجاز التناقض هو: اختلاف في القضيتين يقتضي أن تكون إحداهما صادقة والاخرى كاذبة ([1]) مثل: الأرض ساكنة، والأرض غير ساكنة.

فيما يخص الإسلام لم يوجد حتى اللحظة حقيقة علمية ثابتة تناقضه بل هو فرض مستحيل التحقق فالحقائق لا تتناقض ولكن، تأريخياً تبلور هذا التعارض بين المسيحية والعلم وأرتبط بواقعتين لا يصح أن يتخطاهما كل من تناول أو يريد تناول الموضوع:

تشير الواقعتان إلى مسألتين ومجالين نشب فيهما ما عبر عنه لاحقاً بصراع العلم والدين: مسألة جيولوجية تمثلت في أنّ الأرض هل هي ثابتة وتمثل محور الكون أم لا؟ والمسألة الأخرى بايلوجية وتحديداً: نظرية التطور، وفي كلتاهما كان اللاهوت المسيحي ورجال الكنيسة طرفاً:

1ـ جاليلو والكنيسة – الثورة الكوبرنيكية

تبنت الكنيسة المسيحية رؤية عالم الفلك اليوناني بَطْلَيموس (87 – 150 م) صاحب كتاب: (المجسطي) عن الكون والعالم التي تقوم على أساس سكون الأرض ومحوريتها لسائر الكواكب الأخرى، والسر في قبول فرضية الجيوسنترية هذه يعود إلى أمرين مهمين :

أـ تقاربها مع الرؤيا الدينية المسيحية آنذاك فـ" راقت هذه النظرية البلطمية الخاطئة للكنيسة الكاثوليكية وساقتها كدليل على تكريم الله للإنسان بأن جعله وجعل الأرض التي يعيش عليها مركزاً للكون " (عوض - الإلحاد في الغرب)

ب ـ مضافاً إلى تطابقها مع المشاهدة الحسية، حيث عدم الإحساس بحركة الأرض مع مشاهدة دوران الشمس حول الارض نهاراً والقمر حولها ليلاً كل يوم، فقد " ظل العقل الإنساني عاكفا على تأييدها لأنها أقرب النظريات انطباقاً على حركات الأجرام السماية الظاهرة للعين المجردة " (وايت - بين الدين والعلم )

بيد أنّ هذه النظرة للكون والأنسان تبدلت مع كوبرنيكوس وغاليلو اللذَين بشّرا بالنظرية الهليوسنترية وأنّ الأرض وكل الكواكب تدور حول الشمس ومن ثمّ فالشمس هي مركز الكون سمي هذا التبدل لاحقاً بـ "الثورة الكوبرنيكية" نسبة لمؤسس علم الفلك الحديث والراهب المسيحي نيكولاس كوبرنيكوس (توفي سنة: 1543 م) رائد هذه نظرية ومدونها في كتابه: (دوران الأجرام السماوية )، كان ذلك في القرن السابع عشر في ايطاليا يوم كانت الكنيسة الكاثوليكة تحكم قبضتها على المعرفة وكان السائد الموافق للفلكيين والكنيسة والكتاب المقدس ان الارض هي مركز النظام الشمسي لكن اكتشف أبو العلم الحديث الفلكي الإيطالي الشهير غاليليو غاليلو(توفي سنة :1642 م) عبر المشاهدة بتلسكوبه أنّ الأقمار تتحرك حول كوكب المشتري ليس كل شيء يدور حول الارض فقد لا يكون كوكبنا مركزا للنظام الشمسي فاتهمته الكنيسة بالهرطقة وحصل بينهما ما هو معروف في كتب التأريخ مما اضطر بعدها لإعلان توبته عن ذنبه أمام الكنيسة وهو جاثٍ على ركبتيه!

2ـ هكسلي والأسقف ويلبرفورس - نظرية التطور

بعد سنة تقريباً من نشر كتاب عالم الأحياء الشهير: تشارلز دارون كتاب (أصل الأنواع) وقعتْ واحدة من أشهر المناظرات في تاريخ المواجهة بين العلم والدين في سنة (١٨٦٠م) في متحف التاريخ الطبيعي بجامعة أوكسفورد، وقعت المناظرة بين مؤيد للتطور وهو عالم الاحياء الشاب: توماس هكسلي (توفي :1895م) الذي كان يرفض تدخل الدين في العلم، ويقف بالضد منه ومن التطور اسقف اكسفورد: سامويل ويلبرفورس (توفي:1873م) الذي أعلن مراراً إدانته لدارون ونظريته، وفي اجتماع الجمعية البريطانية لتقدم العلوم دخل الأسقف وعرّض أيضاً بدارون ملقياً خطبة تفاخر فيها أنّه غير منحدر من قرد، وحينها رد عليه هكسلي بالقول: لو خيّرتُ لفضلتُ أن أكون من نساء قرد دنيء النسب على أن يكون أبي رجلاً من البشر يستخدم قوته الخطابية في تحقير أولئك الذين يفنون أعمارهم في سبيل البحث عن الحقيقة "([2])

وإذن فنحن أمام قضيتين وقع الاختلاف فيهما بين الكنيسة ورجالها من جهة وبين العلماء من جهة أخرى، يراد بهما التأصيل لتعارض حتمي وتناقض واقعي بين الدين والعلم، وقد قيل عنهما في بلوغهما مرتبة الحقيقة: إنّ التطور بايولوجياً يوازي دوران الأرض حول الشمس فلكياً، لكنها مبالغة واضحة يراد بها تسويق نظرية التطور بأي ثمن فهل يساوى علمياً بين ما تم رصده مباشرة مع ما لا تجري فيه التجربة؟! وأيا كان فدوران الأرض ومحوريتها لا شيء وحياني يشير إلى ما يتناولها اصلاً فضلا عن عدم وجود ما يناقضها.

وأما نظرية التطور وهي حجر الزاوية في الموضوع ولفرط الاعتقاد بمناقضتها للدين اعتبرت دليلاً لصالح الإلحاد، ولأنّنا في مقال موجز علينا التعجيل بإجابة سؤالين: ماهي نظرية التطور؟ وهل تناقض الدين؟

درس تشارلز دارون (توفي سنة: 1882م) الكائنات الحية ونشر دراسته في كتابه المعروف (أصل الأنواع وتطورها عبر الانتخاب الطبيعي) الذي خلص فيه إلى نتيجة مفادها أنّ بين جميع الكائنات الحية صلة وقرابة وسلف مشترك (وحيد الخلية) منه تطورت سائر الكائنات الحية وإليه ترجع، ومنه نشأت، وهذا يشمل الإنسان أيضاً لكنه خصه بمؤلف آخر (ظهور الإنسان).

لا تتناول النظرية أصل نشوء الحياة في هذا السلف المشترك الذي يمثل أصلاً لسائر الكائنات الحية، فهو يرى أنّ الله هو الذي نفخ الحياة في الخلية الأولى، وحيث أنّ هذا لا يروق للتطوريين بعده من الملاحدة قالوا: إنّ نشوء الحياة وقع صدفة، والمهم تدرجت هذه الكائنات بحسب دارون وترقت وظهرت الأنواع بفعل طفرات عشوائية في شفرتها الوراثية وعبر الانتخاب الطبيعي وقانون البقاء للأصلح تبقى وتنتقل الجينات النافعة وتفنى منها ما كان ضاراً، فترافق مع نظرية التطور كل من الصدفة في أصل الحياة والعشوائية في ظهور الأنواع وبديهي أنّ كلاً من الصدفة والعشوائية لا تلتئمان مع الدين القائم على الإيمان بوجود إله خالق له حكيم له غاية في الخلق .

إزاء ذلك أنقسم المؤمنون:

بين خلقيين يؤمنون بالخلق الخاص وبأنّ الكائنات الحية بأنواعها وتنوعها وجدتْ بتصميم ذكي لا بانتخاب طبيعي، ومن ثمّ يرفضون التطور الدارويني، ذلك أنّ كل الأشياء بمضنها الكائنات الحية قد صممت بنحو دقيق ومنظم ومتسق ولها هدف وغاية وليس تصميمها ناتج عن الانتخاب الطبيعي كما تقضي الداروينية، فالرأي عند هؤلاء يدور بين أمرين: إما تصميم ذكي ومصمم عظيم أو انتخاب طبيعي دارويني خاضع للصدفة والعشوائية وهما في الحقيقة ليسا من العلم في شيء .

وبين من يجمع بينهما في رؤية موحدة تجمع بين القبول بأصل التطور وبين الإيمان بالله والدين وسك لتلك الرؤية وعبر عنها بالعديد من المصطلحات كـ "التطور الموجه" كما يعبر الدكتور هاني خليل رزق في كتابه " أصل الإنسان – التفسير الدارويني في ضوء المكتشفات الحديثة " أو " التطوير بدلاً من التطور " كما يعبر الدكتور مصطفى محمود، أو " التطور التوحيدي " كما هو عند عالم الجينات الأمريكي المعاصر رئيس المشروع الدولي للجينوم البشري فرانسيس كولنز، يلخص ذلك كله في كتابه الشهير " لغة الإله " :

الله غير المحدود بزمان أو مان هو الذي خلق الكون، وهو الذي وضع القوانين التي تحكمه وفي سعيه لملأ هذا الكون الأجرد بكائنات حية، أختار الله آلية التطور لخلق ميكروبات ونباتات وحيوانات من كل الأنواع، ولكن المثير للملاحظة هو أنّ الله أختار نفس الآلية لخلق كائن متميز يمتلك الذكاء ويمتلك القدرة على تمييز الخير من الشر " ([3])

ختاماً:

أثر ذلك استنتج المفكرون أنّ الصراع في جوهره هو بين اللاهوت والعلم وإلا لو كان بين العلم والدين فكيف بقي قائماً بينهما خمسة وعشرين قرناً من الزمان ولم ينته بأنّ يصرع أحدهما الآخر؟ يضيف في كتابه: (بين الدين والعلم) البروفيسور الأمريكي في التأريخ والأدب أندرو ديكسون وايت (توفي سنة 1981م) : الحقيقة أنّ الدين والعلم كل منهما يستمد من ناحية من نواحي التكوين الفكري للإنسان، لهذا ظل الدين باقياً وظل العلم ثابتاً لأنّ كلاً منهما مظهر من مظاهر الفكر الإنساني.

 


([1]) المظفر – المنطق ج1 ص195

 ([2])وايت – بين الدين والعلم – تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى ص186 .

([3]) فرانسيس كولنز - لغة الإله ص219، الطبعة الأولى: 1437هـ - 2016 م، الكويت، ترجمة: د.صلاح الفضلي .

2018/08/26

كيف يفكر الملحد؟

• الايمان هو الاعتقاد بوجود مصدر عاقل واع صنع هذا الكون بما نرى فيه من حكمة عالية.

• الالحاد هو انكار وجود مثل هذا المصدر والذهاب الى ان الكون وجِد من تلقاء نفسه.

يعتمد الايمان في إثبات صحة دعواه على المسلمات العقلية التي لا تقبل الشك في ضرورة وجود سبب للمسبّب، وإن أي تنظيم يحتاج الى منظم، فالمنشأ المعماري كالبيت او العمارة لا يمكن ان نتعقل، كبشر أسوياء، أن الطابوق اصطف من تلقاء نفسه ليشكل الجدران ثم جاء  شيش التسليح ليتناسق بالشكل المطلوب ويأتي السمنت والرمل والماء والحصى ليمتزجوا بكميات محدودة وينسكب المزيج على شيش التسليح ضمن قوالب خشبية ويكون السقف ثم يأتي الجص فيختلط بالماء ويكسو الجدران بشكل صقيل والاسلاك الكهربائية وهكذا الى كل ما يكون البيت، نتعقل أن يتم كل هذا من تلقاء نفسه من دون صانع عاقل عارف بما يصنع، ولاشك ان الموجودات الطبيعية اكثر تعقيدا من البيت، فالانسان مثلا، نجده هيكلا عظميا له القوة والصلابة وفوقه اللحم والشرايين واجهزة الجسم المختلفة والعيون والدماغ وهذا النظام المعقد جدا الذي تتم من خلاله الفعاليات العضوية للجسم البشري، فلا يمكننا إلا أن نحكم على هذا الكون الذي حولنا في أن له صانع عاقل حكيم  

وهنا يبادر الى الذهن سؤال مهم: كيف يتسنى للملحد أن ينكر هذه المسلمات العقلية الثابتة؟!    

هل هو مجنون؟!

هل هو معاند؟!

لا شك في أن لموضوع الايمان والهداية جانب غيبي وروحي له دور هام في هداية من يهتدي وضلال من ضل وكما قال الله سبحانه وتعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)، ولكننا هنا ندور في حدود الصراع الفكري والمبادئ الفكرية التي يعتمدها الملحد في تقويم فكره المنكر لوجود الصانع، حيث أن هناك فلاسفة ومفكرين وعلماء قالوا بالإلحاد وقدموا الطرح الفكري الذي يؤيد دعوى الانكار لوجود الصانع الحكيم، فنحن نحاول ان نجيب على سؤال هو:

كيف يفكر الملحد؟

يعتمد الملحد في طريقة تفكيره على عدد من المفاهيم أهمها:

  1. المادية: وهي الايمان بنفي أي وجود غير الوجود المادي بمعنى ان كل ما ليس ماديا فهو غير موجود.
  2.  التطور وعدم الثبات: وتعني ان الموجودات المادية بأشكالها وحقائقها الوجودية ليست ثابتة بل متغيرة ومتطورة كسلسلة غير منتهية من تشكّل المادة وتعد نظرية دارون الحلقة الاهم في هذا المفهوم.

وتعتبر فكرة التطور العمودي الفقري لمذهب الالحاد وذلك لما يعطيه من سند منطقي كبير لنفي ضرورة الصانع. فنحن مثلا حين نجد رسما على ورقة ـ حمامة مثلا ـ فلان هذا الرسم لكونه ثابتا لا يمكن ان يكون قد صار بلا فاعل واع يقصد ما يفعل حين الرسم ولكن حين تتشكل صورة الحمامة من خلال حركة قطع السحاب المتغيرة فأن فكرة عدم ضرورة الفاعل الواعي ستكون منطقية حينئذ. 

  1. الخير: ونقصد بها المنفعة الحاصلة من النظام فالفائدة المترتبة من النظام ـ من وجهة نظر الملحد ـ هو امر عرضي ينشئ بعد نشوء النظام، فالطبيعة انتجت اشكالا حية مثل البعوض والقطة والحصان ولما كان شكل الحصان المنتج، بما هو عليه الان، مكّن الانسان من ركوبه واستخدامه للتنقل ولم يستخدم القطة اي ان شكل الحصان لم يكن مصمم سلفا لركوب الانسان.

لابد لتناول النقاط الثلاث التي يعتمدها الملحد الاشارة الى نبذة تاريخية بسيطة عن طبيعة الالحاد:

لا يمكن لاحد ان ينكر أصالة الايمان في النوع الانساني، فالتاريخ الاجتماعي يؤكد على ان فكرة الغيب والخالق موجودة مع وجود الانسان نفسه وقد عبّر عنها، في فجره الاول، بعقائد متقومة بالوثن والطوطم وافكار بدائية ساذجة، فيما بدء الالحاد كمذهب فكري بتكهنات فلسفية بسيطة قائمة على ارجاع الوجود الى الوجود المادي المحض كما عند الفيلسوف ديمقراطيس الذي قال ان الموجودات عبارة عن ذرات مادية وهذا التكثر ناتج من تراكيب مختلفة لها. ولم يحظ الالحاد باي نهوض على الصعيد الفلسفي والعلمي إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر بفعل ما شهدته اوربا من نهضة شاملة.

2018/08/18

2018/08/15

2018/08/01

الاختلاف ثقافة؟!

من المسائل التي لا يجد الباحث الاسلامي مناصا من تناولها باهتمام كبير، هي تعدد الاتجاهات العقائدية والثقافية في شرائح المجتمع وكيفية التعامل مع هذه المشكلة على ضوء التعاليم الاسلامية، لما لهذه المشكلة من حضور كبير في الواقع الاجتماعي المعاش.  كيف نتعامل نحن المسلمين مع من يخالفنا في قضايا الدين؟! سيما في وقتنا الراهن الذي نعيش فيه حالة من انفتاح المسلمين فيما بينهم خاصة، وانفتاحهم على غير المسلمين عامة، وفي هذا المقال نورد أهم معالم هذه الثقافة وفق المنظور الاسلامي الذي يحاكي جميع شؤون حياة الانسان وفقا لتعاليمه السامية.

ثقافة الاختلاف بين المؤمنين

إن اختلاف المؤمنين الفكري أمر طبيعي في حد ذاته، فهم ليسوا سواسية في مستوى العلم والوعي والفكر، وهي ظاهرة طبيعية بل صحية لو استثمرناها لبلورة الافكار التي تعزز من قوة المذهب وتشييد صرحه الشامخ، بل تكشف عن حيوية المذهب وتطوره وأنه ليس مذهبا جامدا عاجزا عن محاكات عصر الحداثة، وتعكس وجها مشرقا من هذه الناحية، ولكن عندما يكون الاختلاف في مسلمات المذهب تتحول القضية حينئذ الى حيز مباين لما كانت عليه، لذا قال العلماء: الذي يظهر الايمان ويختلف معنا في مسائل حقة ومسلمة أحد صنفين:

من خالف المسلمات لشبهة

وهو الذي يكون اختلافه قائما على اساس علمي، وهذا الصنف على نحوين: يمتلك ضوابط علمية ويُشهد له بأنه من أهل التحقيق، وقد أوصلَه اجتهاده إلى رأيه المخالف، أو انه قد نتج رايه المخالف عن شبهة او جهل مركب ، وميزة هذا الصنف أنه غير مكابر ولا معاند ولا يعمل بالمنهج التشكيكي، ومن الواضح ان مثل هذا الشخص ينبغي ان لا يكون الاختلاف مثاراً للخلاف معه وذلك من خلال طرح الأفكار ضمن الضوابط العلمية بعيدا عن التهم والتعنت.. فالاختلاف في الفكر والرأي لا ينبغي أن يمحو آية الأخلاق والمودة والمحبة بين المؤمنين، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (ع) قَالَ: (إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً)[1]، فلا قيمة لكثرة العلم والعبادة مع سوء الخلق.

فحرمة المؤمن عند الله تبارك وتعالى أعظم من حرمة الكعبة، فلا ينبغي أن يكون الاختلاف الفكري سببا لإسقاط هذه الحقوق، بل لابد ان يبقى الاختلاف في دائرة الفكر ولا يتحول الى خلاف شخصي، فالإمام السجاد (ع) يقول في رسالة الحقوق: (وحق أهل ملتك إضمار السلامة والرحمة لهم، والرفق بمسيئهم، وتألفهم واستصلاحهم، وشكر محسنهم وكف الأذى عنهم وتحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك..)[2]، فلا ينبغي أن نصيّر الاختلاف الفكري رمحا نطعن به هذه الحقوق التي أصّلها أئمة الهدى (ع).

ومن المؤسف أن نجد البعض يحول المسألة بمجرد الاختلاف بالتقليد الى خلافات شخصية وفئوية! والحال أن اختلاف الفقهاء في الفتاوى يوجب على المكلفين أن يعمل كلٌ بفتوى مقلده ولا تتحول المسألة الى هتك الحرم والتسقيط وتشتت أبناء المذهب وبالتالي الدخول في نزاعات اجتماعية .

فالإمام الباقر (عليه السلام) يقول: (عَظِّمُوا أَصْحَابَكُمْ ووَقِّرُوهُمْ ولَا يَتَجَهَّمُ[3] بَعْضُكُمْ بَعْضاً ولَا تَضَارُّوا ولَا تَحَاسَدُوا وإِيَّاكُمْ والْبُخْلَ كُونُوا عِبَادَ اللَّه الْمُخْلِصِينَ)[4]، فلا نحول ظاهرة الاختلاف الايجابية الى ظاهرة سلبية خلافا لما جاء عن أهل البيت (ع).

أهل الريب

وأما القسم الثاني وهو الذي يخالف في المسلمات عنادا وطلبا للشهرة، كأن يثير بعض الشبهات على مسألة مسلمة انطلاقا من قاعدة: (خالف تُعرف)، وهم يرومون ضرب الدين من الداخل.

ولا يخفى أن مثل هؤلاء يدّعون التحقيق والتدقيق والتجديد، بل يدعون بأنهم يحركون عجلة الفكر الاسلامي.. والملفت للنظر أنهم ليس لهم دور في تجديد أصول أو ضروريات المذهب، بل تجد دَيْدَنهم التشكيك فيها وزرع الشبه، وقد تجدهم يأتون ببعض الشبه من أعداء المذهب ويقومون بعملية تطوير لها ثم بثها بين المؤمنين كي يجلبوا أكبر عدد يتابعهم، وكل ذلك تحت عنوان التجديد.

والحق أن نسمي هؤلاء باسم مجددي الشبهات، لأن حقيقة التجديد هي الاتيان بنظريات تعزز من أدلة الثوابت المذهبية أو الدينية التي فيها عزة الاسلام، لا العكس من ذلك، وأما الكلام في تحديد الموقف من هؤلاء فينبغي تنبيه المؤمنين ليحذروا منهم ومن دوافعهم الشخصية ورد شبهاتهم بالحجج والأدلة القاطعة لمادة الاشكال لكي لا يجد طمعهم سبيلا للفساد.

قد يقال اليس باب الاجتهاد مفتوحا عندنا، وساحة التحقيق والتدقيق والانتقاد متاحة لمن له الاستطاعة؟ نقول صحيح ولكن ينبغي أن يكون وفق موازين وقواعد علمية وضوابط مقررة، وليس مجرد اثارة شبهٍ تصب في مصالح شخصية.

ثقافة الاختلاف مع المذاهب الإسلامية الأخرى؟
حين يتعسر توحيد المسلمين على منظومة عقدية واحدة فلا يعني تعسر وحدة الصف والعمل على المصالح العامة للأمة، بل لابد من التركيز على الخطوط العريضة التي تصب في مصلحة الأمة، وينبغي نبذ لغة التشنج في الخطاب وإيقاظ روح التعصب في الآخر أو انتهاك حرمته، ومن هنا ينبغي ذكر أمرين لابد ان نراعيهما كمسلمين:

الأول: هو الوعي المرحلي، فعلى العقلاء من كل مذهب أن يدركوا بوعي متطلبات المرحلة التي يعيشها المسلمون، وذلك من خلال: الوعي بأهداف الإسلام العامة، والآليات التي نحقق من خلالها تلك المصالح والأهداف، ومعرفة الموانع والعوائق التي تحول بيننا وبينها.
كما ينبغي تحديد الاولويات، فلا ينبغي أن يزاحم المهم الأهم.

الأمر الثاني: إشاعة روح التسامح والمحبة والمودة بين المسلمين، ومن حق كل مذهب أن يدعو إلى عقيدته ويقدم دليله عليها ولكن بالأسلوب العلمي والحوار المسؤول الذي يشتمل على آداب الإسلام، فالخلق الحسن هو الخلق الذي يجمع المسلمين على موقف واحد إذا لم يتفقوا على رأي واحد.
ثقافة الاختلاف مع غير المسلمين
قد يتصور البعض قساوة الاسلام على غير المسلمين في بعض أحكامه، ويُصور بأنه دين يحتكر الرحمة والمغفرة لأتباعه ويقصي الآخرين ويحكم عليهم بالقتل والهتك .. وأنهم من أهل النار.. وبالتالي هذا الدين دين لا يريد الرحمة والنعيم للجميع وانما للذين يتسمون باسمه فقط.

ولكي يتضح خطأ هذا التصور نقول: إن من الأفعال القبيحة معاقبة الجاهل المعذور في جهله، فلو خالف الإنسان قانونا ما وكان جاهلا وغير مقصر في معرفة هذا القانون قبّح العقلُ معاقبتَه، ومن هنا قالوا: قبح العقاب بلا بيان، وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه القاعدة بقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»[5]، فلا يليق بعدل الله وعظمته أن يعاقب عبده قبل إقامة الحجة عليه إلا إذا آتاه العلم والقدرة ولم يطع، ومن هنا قسموا غير المسلم الى قسمين:

  المعاند: وهو الذي ألقيت عليه الحجة وقام عنده دليل على وجود الله ونبوة النبي محمد (ص) والمعاد، ولكنه عاند وكابر، أو لم يقم عنده الدليل، ولكن التفت إلى وجود الدين الاسلامي وهذا الدين يُوجب عدة مسائل، منها الطاعة لله وللرسول وللأئمة من بعده وكان بإمكانه أن يحصل على المعرفة ولكنه تساهل وقصر ولم يبحث عن الحقيقة.

القاصر المعذور: وهو من لم يؤمن بأصل من أصول الاسلام، ولكنه لم تُلق عليه الحجة، بل لم يسمع بالدين الاسلامي أو سمع ولكن لم يتمكن من البحث لعلة ما أعاقته عن معرفة أحقية الاسلام، فهؤلاء معذورون في كفرهم، وهم في عقيدتنا لا يعاقبون.
فعن عبد الله بن سلام مولى رسول الله (ص) أنه قال: سألت رسول الله (ص) فقلت: أخبرني أيُعذب الله عز وجل خلقا بلا حجة؟

فقال: معاذ الله .

قلت: فأولاد المشركين في الجنة أم في النار؟

فقال: الله تبارك وتعالى أولى بهم ..)[6]

فأمر هؤلاء الى الله تعالى، إذن المدار مدار الحجة، فإذا ألقى الله تعالى الحجة على عبده وخالف يُعاقب ولو كان مسلماً، وإذا لم تقم عليه الحجة لا يعاقب وإن كان كافراً.

هذا ما نعتقده في مجازاة غير المسلم في الآخرة، وأما وظيفتنا معه في الدنيا فهي أن ندعوه إلى الإسلام بأفضل الأساليب، بالبرهان ولغة العقل التي يفهمها الإنسان بما هو إنسان وليس بلغة الذبح والتفجير وهتك الأعراض وإسالة  الدماء التي عمل بها بعض من تسمو بالمسلمين، فالإسلام دين حوار ومنطق، قال تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»[7]، وقال تعالى: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»[8]

وقد كان أئمتنا يجسدون سماحة الإسلام للإنسان بأفضل صورة، فمثلاً يروى ان أمير المؤمنين (ع) كان يمشي يوما في أسواق الكوفة أيام حكمه، فرأى شيخاً كبيراً يستعطي الناس، ويطلب منهم حاجته، فالتفت إلى أبي رافع خازن بيت المال، وقال: ما هذا؟

سؤال عن الحالة التي يراها فكأنه قال ما الذي أرى يا أبا رافع!

ولعل أبو رافع ظن أنّ الإمام (ع) يقول من هذا؟  فأجاب: رجل نصراني.

فقال أمير المؤمنين (ع) : استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ ! أنفقوا عليه من بيت المال)[9]، بهذه الأخلاق دخل الناس في الإسلام.

فسلام عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم قتلت ويوم تبعث حيا.

-----------------------------------------
[1] الكافي للكليني: ج2 ص99 .

[2] الخصال للصدوق: ص570 .

[3] جهمه كمنعه وسمعه : استقبله بوجه كريه .

[4] الكافي: ج2 ص173 .

[5] الإسراء: 15

[6] التوحيد للصدوق: ص391

[7] النحل: 125 .

[8] العنكبوت: 46 .

[9] ميزان الحكمة للريشهري: ج2 ص1228

2018/07/25

ما لا تعرفونه عن الختان: هل له فوائد صحية؟

الختان اسم لفعل الخاتن وهو مصدر كالنزال والقتال ويسمى به موضع الختن، وحقيقة الختان هي عبارة عن عملية قطع غشاء القَضِيب الذي يغطي الحشفة.

والختان من العادات التي درجت عليها الأمم والشعوب على اختلاف ثقافتها في السابق والحاضر، وقد اختلف المؤرخون في الفترة التي نشأت بها هذه العادة، حيث يرى بعض منهم أنها وليدة الفترة التاريخية التي عاصرها إبراهيم الخليل (عليه السلام) ويرى آخرون أنها كانت أسبق من هذه الحقبة بفترة طويلة، حيث كشفت بعض الحفريات أن سكان مصر القديمة (الفراعنة) كانوا يتبعون هذه الطقوس، فقد وجدت بعض الصور مرسوم عليها مراسيم عملية ختان يقوم بها جراح مصري في قبر جبانة "منف" ترجع إلى عهد الأسرة السادسة من الدولة القديمة، وأخرى من الدولة الحديثة بمعبد الكرنك.

الختان في الديانات السماوية

تتفق الديانات السماوية على وجود هذا النوع من الممارسة وتحفل به، فقد ورد ذكر هذه العملية في النصوص المقدسة الإسلامية واليهودية والنصرانية، أما عند المسلمين فلم يرد ذكره في القرآن الكريم، بل الآثار النبوية الموجود في تراث قطبي المسلمين ـ الشيعة والسنة ـ تزخر بذكر الختان.

 فقد ورد من مصادر الشيعة عَنْ الصادق (عليه السَّلام) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) طَهِّرُوا أَوْلَادَكُمْ يَوْمَ السَّابِعِ فَإِنَّهُ أَطْيَبُ وَأَطْهَرُ وَأَسْرَعُ لِنَبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنَّ الْأَرْضَ تَنْجَسُ مِنْ بَوْلِ الْأَغْلَفِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. (وسائل الشيعة).

وأما عند السنة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْآبَاطِ.

وأما في الديانة اليهودية فقد ورد ذكره في التوراة 17:9-14 يقول: "والرب قال لأبراهام: وأما بشأنك فعليك ان تحافظ على تحريم ماحرّمته، أنت ونسلك من بعدك وكل أجيالك، هذا هو العهد بيني وبين وبين نسلك، هذا العهد تحافظ عليه: كل الذكور يجري ختانهم".

وأما عند النصارى فقد أشار إنجيل لوقا إلى أن السيد المسيح (عليه السلام) قد جرى ختانه بعد 8 أيام من ولادته وفقد التقاليد اليهودية، وأما في الوقت الحالي فقد انقسمت الكنائس على أنفسها، فالكنيسة الأرثوذكسية المشرقية تعتبر هذه الممارسة ذات طابع ديني فتلزم أتباعها بممارستها.

أما الكنيسة البروتستانتية فهي لا تلزم أتباعها بهذه الممارسة وفي الوقت نفسه لا تمنعهم.

وأما الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فهي تنظر الى الختان من الزاوية الصحية الطبية ليس أكثر.

الفوائد الصحية للختان

صرح المركز الأمريكي لمكافحة الأمراض والوقاية منها في دراسة أجراها حول الفائدة الصحية المترتبة على الختان، جاء فيها :

إن الفوائد المترتبة على الختان هي أكثر بكثير من حجم الضرر الذي قد يترتب عليه، ووفقاً للمركز، فإن عملية الختان إذا كانت تحت إشراف كادر طبي فإنها تلعب دوراً هاماً في تقليل خطر انتقال فيروس العوز المناعي البشري (HIV) المسبب لمرض الإيدز، كما يساعد في تقليل الإصابة بالأمراض الجنسية المختلفة، بالإضافة إلى الحد من الكثير من المشاكل الصحية الأخرى.

ومن المتسالم عليه بين المتخصصين بالمجال الصحي أن المختونين هم أقل عرضة للإصابة بأمراض المجاري البولية.

كما أفادت بعض الدراسات التي قام بها خبراء بريطانيون أن الذكر غير المختون أكثر خطراً على إصابة شريكته بسرطان الرحم بنسبة 50 % عن المختون.

شبهات حول الختان

على الرغم من أن الختان ليس حكراً على ثقافة وبيئة محددة من البشرية بل تشترك فيه كثير من الثقافات والديانات، إلا أن البعض حاول طرح بعض الإشكالات على هذه العملية، نذكر أهم ما أشكل به.

الإشكال الأول: لماذا تختنون الأطفال؟! فهذه العملية قد عفا عليها الزمن، فلماذا هذا التخلف والعلم لم يتكلم عنه ولم يذكره ؟!

الجواب: إن المولود الذكر يولد وعضوه التناسلي محاط بغلاف لحمي يُسمى (القلفة) والختان هو قص جزء من تلك القلفة، فما هي الحكمة من وجود تلك القلفة مع أنها تقص؟

إن رأس العضو التناسلي هو الأكثر حساسية من بين بقية الأعضاء ولذا فإن وجود القلفة التي تغلف الرأس هو لحمايته من التأثير المخرش للسائل الأمنيوسي والإحتكاك به وذلك لأن هذا السائل هو أشبه بالغشاء المخاطي الضعيف وليس كالجلد المكتمل الذي يقاوم هذا التأثير بإعتبار أن مثل هذا التجويف هو مكان مثالي للميكروبات والفيروسات فلذا يفضل إزالته وفصله عن الحشفة بعد الولادة بفترة قصيرة تبدأ من سبعة أيام فما فوق، وهناك دراسة عرضتها الديلي ميل تقول : إن الختان يجب تقديمه مثل التطعيم لآباء المواليد الذكور

وقدمت ورقة بحثية لمركز السيطرة على الأمراض cdc فبعد البحث أظهرت دراستهم التالي : أن الذكر المختون أقل إصابة بـمرض الإيدز بــ 50 ـ 60% عن غير المختون  مع إمرأة مصابة بالإيدز، وأقل عرضة للإصابة بالقوباء التناسلية بنسبة 30 ـ 45% وأقل تعرضاً للإصابة بفيروس مرض السلالات الحليمي البشري المصاحب للسرطان بنسبة 30%

الإشكال الثاني: إن الختان يؤدي الى فقدان عضو الرجل الحساسية أثناء الممارسة الجنسية بسبب أن الحشفة تتقرن وتفقد حساسيتها.

الجواب لقد أجرى الباحثون في جامعة كوينز في أونتاريو إختبار اللمس على 62 متطوعاً فبدل من لمس حشفات المتطوعين فقط، قام الباحثون بتوسيع نطاق الإستقراء، ليشمل إختبارات الألم والحرارة والكشف عن العتبات الحدية لها في مواضع متعددة على العضو، فخلصت الدراسة الى التالي: "لا فرق في الحساسية بين الرجال المختونين وغير المختونين في منطقة الحشفة أو العضو".

2018/05/30

العلمانية: أفكار محايدة أم مذهب فلسفي؟!!

العلمانية كيان فكري يتجسد وجوده في تماسه مع الدين كما يتجسد وجود الذات في تماسها مع الاخر، فهي رغم اتجاهاتها وتنظيراتها المتفاوتة، يتقوّم هيكلها الاساس بفكرة ثابتة تدعو الى إقصاء الدين عن اي دور او سلطة في المجتمع وإبداله بسلطة العقل والقانون التي تسعى لتحقيق مفردات مثل الديمقراطية والحرية والمجتمع المدني، والتي ترى في تطبيقها خلقا للمجتمع المتكامل السليم الذي ستسوده بفعل سلطتها البديلة حالة من التسامح والتعايش السلمي. وتؤكد على نجاح تنظيراتها من خلال ما قدمته لجميع مكونات المجتمع وأطيافه من إمكانية للحياة بما يشاءون من تصورات وقناعات ضمن إطار من المواطنة يقوم على الموازنة بين الحقوق والواجبات.

لكن السؤال المطروح: هل استطاعت العلمانية حقا أن تترك للمتدين الفرصة الكافية لممارسة تدينه؟ أو ان المتدين إذا ما تقاطع مع الخط العلماني ضمن دائرة المجتمع هل يكون قد أخل بالتسامح والتعايش السلمي؟

الجواب: كلا

وذلك لان العلمانية وضعت لنفسها اعتبارات معينة وتصورت الدين تصورا خاصا ثم راحت تفرض ذلك على المتدين، وعلى المتدين ان يحدد نفسه باعتباراتها الفكرية وتصورها الخاص أو يكون قد أخل بقانون التعايش السلمي. 

 ويتبين ذلك بما يلي:

اولا: لقد حددت العلمانية مفهوما ضيقا للدين في أنه مجرد تصديق بفكرة غيبية معينة.. يعبّر عنها بطقوس هي الشعائر، فيما يرى المتدين أن الدين واقع حياتي لا يفرضه على الاخر بالضرورة ولكنه ملزم من خلاله بالكثير من التحفظات التي تمس علاقته بالآخر.

ثانيا: العلمانية تتبنى مفاهيم اساسية في الحياة الاجتماعية مثل الحرية والاخلاق وغيرها ثم تفرض على المتدين نفس وجهة النظر التي تتبناها، فهي مثلا تطرح الحرية على أنها "الانسان يختار ما يريد ويفعل ما يشاء شريطة ان لا يتعارض مع الاخر"، وتؤمن بنسبية القيم الاخلاقية وانها تبع لظروف الزمان والمكان فيما يؤمن المتدين ـ بغض النظر عن العقيدة الدينية ـ برؤية اخرى للحرية وبثبات القيم، وعليه فإن للمتدين اتجاه فكريا وموقفا فلسفيا مفارقا للعلمانية،  فإذا ما عارضها فليس بالضرورة أنه  يفعل ذلك انطلاقا من عقيدته التي تنص "أن فكرة الله تمثل الحقيقة المطلقة ولأحكامه المكانة العليا وعلى الجميع أن يخضعوا لها شاءوا أم أبوا" بل لأنه يمتلك ـ في الحياة والمجتمع ـ مواقف فلسفية مغايره لما يعتقده العلمانيون.

ثالثا: المتدين يؤمن ان لأحكام الدين ملاكات ومصالح ستؤمّن له الخير في تفاصيل حياته.. وربما دفعته هذه الاحكام في علاقته بالآخر الى حالة لا ترتضيها العلمانية.

وعلى ذلك فالعلمانية ليست ارضا محايدة في عالم الافكار بل مذهب فلسفي مقابل لمذهب فلسفي آخر ينتمي اليه المتدين، وإصرارها على انخراطه ضمن تخطيطها الاجتماعي هو بمثابة اضطهاد للآخر ـ المتدين ـ وإلغاء له، وهي تصر على تطبيق مفاهيم كالحرية والاخلاق وغيرها ضمن ما يحدده مذهبها الفلسفي مانعة المتدين من تطبيق مذهبه.. كما وأن العلماني وهو يعيب على المتدين انطلاقه من قواعد يزعم انها من خارج الوعي الانساني والتاريخ "المتدين يدعي امتلاكه الادلة على ذلك" قد راح يفرض مفاهيم،  متفق سلفا على انها داخل الوعي الانساني والتاريخ،  على أنها من خارجهما،   فالديمقراطية التي يتبناها العلماني وكأنها مفهوم محصّن،  لا يختلف اثنان في ان هذا المفهوم نشأ من حركة معينة في التاريخ وقد سدد له سهام النقد عدد كبير من الفلاسفة خلال مسيرة الفكر الفلسفي.  

وهنا لابد من الاشارة الى انني لا اتطرق الى الموضوع الواسع الذي يشغل الساحة الفكرية في قدرة العلمانية أو الدين على رفد الحياة بالنظريات الكفيلة بتقدم المجتمع وحلول مشاكله على صعيد العلم والاقتصاد والسياسة.. بل أشير الى حالة ضيقة على الصعيد المحلي وهو ما يوجهه العلمانيون من تخطئة لأنصار الدين في موقفهم المتقاطع مع الخط العلماني.

 

2018/04/01

الجزاء الأخروي... ثلاثية محكمة

تؤمن الاطياف البشرية كافة ـ عدا الماديين ـ بوجود حياة اخرى بعد الموت، وأن للإنسان ثمة خلود يتعالى على الواقع الدنيوي المحدود بنقطتي الولادة والموت.. وهي فكرة مغروسة في اعماق الانسان لما تشكله من كونها جزءا من فكرة اوسع، تلمّسها الانسان في اعماقه بشكل فطري، وهي الشوق الى المطلق. وهذا الايمان ينقسم الى ايمان محض أفسده الانسان بفكره الوثني المنحرف، فراح يشوّه فكرة الحياة الاخرى، تماما كما شوّه الاله المتعالي ـ المطلق ـ بالأساطير والخرافات.

والى تصور ناضج، نهضت به الديانات السماوية الحقة، يقوم على اساس من وعي تام بما هو عليه الوجود من حكمة مطلقة، وعلى أساس من برهان عقلي يثبت الحياة الاخرى، فكما ان المادة لا تفنى ولا تستحدث فكذلك الروح والوعي لا يفنى ولا يستحدث. وعليه فإن عملية الموت هنا ستكون عبارة عن تحلل الجسد.. الحاضن المادي للروح وتكون حياة ما بعد الموت هي عبارة عن استمرارية الوعي، منفصلا عن الجسد.

وبالنسبة لعودة الجسد المادي في البعث فيبرهن عليه القران منطقيا بقوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ . قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس 78\79) وقد أضافت الاديان السماوية الحقة ـ للحياة الاخرى ـ بُعدا، هو الجزاء الأخروي، الذي بشّر به رسل الله الناطقين عن الغيب وانذروا مما فيه.

كما يضطرنا الى القول به ما نلمسه من حكمة في الخلق والمخلوقات وبالتالي الخالق، فهذا الكون الذي تسير مكوناته بأدق ذرة فيها الى غاية وهدف لا يمكن ان ينتهي بمجموعه الى حالة من العبث، فالإنسان الذي استمد وجوده وحياته من مكونات الوجود المحيطة به والذي ملك القدرة والاختيار فأساء وأحسن وانصف وظَلم في الحياة الدنيا حين يترك بلا حساب فلن تكون عملية إيجاده عبثا محضا فحسب بل ايجاد الكون برمته، سيما ان النظرة الكونية الالحادية القائمة على اساس العبثية هي نظرة متهافتة يؤكد العلم الحديث مدى تهافتها بما اكتشفه من تعقيد في اجزاء الكون ونظامه.

[ذات صلة]

إن الجزاء الأخروي هو الحلقة المكملة لثلاثية الاله الحق الغني الحكيم المطلق وفلسفة الحياة القائمة على اساس من الخيار الحر للفعل الانساني، فيكون الجزاء الأخروي المبتني على العدل والقسطاس الجزء الذي يعطي للثلاثية شكلها المنطقي الصحيح. يقول الله سبحانه وتعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا . وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا . وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا . وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا . وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا . وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) التكوير1\10

فالحكمة في خلق الشمس والقمر والليل والسماء والارض ثم الخيار الحر ممثلا بالهام النفس الخير والشر ليأتي بعد ذلك الفلاح والخيبة لمن زكاها ودساها. وهذا تقرير قرآني بضرورة ترابط هذه الاضلاع الثلاثة، فلا يمكن ان نتعامل مع احد الاضلاع بمعزل عن الضلعين الاخرين.

وعلى ذلك فإن الصورة المنحرفة التي طالما قدمتها المؤسسات الدينية للجزاء الأخروي خلال احقاب طويلة في التاريخ وماجر ذلك من مشكلات دينية واجتماعية خطيرة؛ ما كان لها ان تكون إلا من خلال العرض المنحرف للضلعين الاخرين، واعني الاله الحق والحرية في الفعل الإنساني.

فالإسلام الاموي ـ مثلا ـ ما كان له ان يعلن صراحة بإمكانية إلقاء الصالح في النار ودفع الطالح المجرم الى الجنة إلا بعد ان قدم صورة منحرفة للإله وهو الاله المجسّم، والمجسم مفتقر الى مخلوقاته، كما ألغى ـ الاسلام الاموي ـ حرية الانسان في فعله وقرر الجبر المحض، والكنيسة التي وصل بها الحال الى بيع الجنة بصكوك الغفران قد صورت لنا الها مكونا من أقانيم ثلاثة وله ولد وجعلت الحياة عبارة عن فناء في العذاب للتكفير عن الخطيئة الاولى.

وما يعنيني من الاله الخطأ الذي عرضه الامويون والكنيسة وسواهم؛ هو انه إله من صنعهم ليصنع حياة لهم بمقاييس تمكنهم من تسيّدها، وعليه فإن كل الفلسفات التي فسرت الدين على انه نتاج للصراع الطبقي كالماركسية التي تعاملت مع الجزاء الأخروي على انه التنويمة التي صنعها الضعفاء للتخفيف من شظف العيش قد تناولت الجزاء الأخروي وفق الصورة المنحرفة للضلعين المكملين.

وبالنسبة للفكر الوضعي ـ العلماني ـ فهو لم يستطع ان يهمش فكرة الجزاء الأخروي إلا بعد المساس بضلعيه الاخرين، حيث انه همّش فكرة الاله ولم يجعل عملية تحديده تبعا للبحث المنطقي والعلمي بل تبعا لحرية الفرد الشخصية، فكل آلهة مفكّر بها هي عبارة عن اشياء شخصية، كما مسّ حرية الانسان في اختيار الخير الذي يعم البشرية الى حرية فردية تتحدد بحدود من حرية الاخر وإن كانت النتيجة هي شر للمجتمع [1] . فلا يكون بذلك ثمة معيار ثابت يعاقب عليه او يثاب، مما يؤدي ذلك الى تهميش فكرة الجزاء الأخروي.

إن التعويل على مجتمع يتحرك افراده في دائرة العلاقة بين الذات والاخر على اساس من الحس الانساني، وبمعزل عن العقاب والثواب هو كلام لا مكان له إلا في الاحلام.

------------------

[1] ليست هناك حرية شخصية تتحق بمعزل عن المجتمع وذلك لتداخل الصلات الرابطة بين افراد المجتمع, وكمثال بسيط للتوضيح فإن ممارسة الانفتاح الجنسي كحرية شخصية يؤدي الى امراض مهولة على راسها الايدز وهذا مايجعل ضرر المجتمع ممثلا بفقدانه لقوى عاملة واموال طائلة تنفق على عمليات البحث عن العلاج 

2018/02/28

«الشفاعة».. هل يكفي أن تكون شيعياً لتنجو من العذاب يوم القيامة؟
​كثيرة هي المفاهيم القرآنية التي ما تزال غامضة في أذهان الكثيرين، وقد يشكل البعض منها مفترق طريق في حياة الإنسان، فكل فرد منّا يكون سلوكه خاضعاً لثقافته والمراد منها تلك المعرفة الأساسية والأصلية التي يبني الإنسان سلوكه عليها. فالفرد المؤمن بالمادية ترى سلوكه يبتني على المادية المحضة، فلا يؤمن بالمعاني الأخلاقية التي ليس لها رصيد مادي.

ومن المفاهيم المؤثرة في السلوك هي "الشفاعة" فالبعض منّا يتصور أن مجرد ايمانه بالإمامة وكونه شيعياً يكفي في نجاته من العذاب، وإن فعل ما فعل، لذا صار لهذا المفهوم تأثير واضح على فعل الكثيرين تسبب بالاستهانة بالذنوب والاتكال على الشفاعة، كما أن تياراً آخراً من غير الشيعة أنكر هذه الحقيقة القرآنية وشدد على الناس حتى أن بعض اتباعهم يصيبه اليأس من ذنوبه فيزداد إصرارا على الذنب ظناً منه أن لا منجى ولا مفر من العذاب.

وكلتا الطائفتين لم يصيبا شيئاً من الحق في المسألة وهم بذلك على طرفي الأفراط والتفريط. من هنا نحاول بيان هذا المفهوم على شكل مقالات متفرقة متناولين كل مسألة منه على حدة، علماً إن أصل البحث كان مجموعة حلقات متسلسلة طرحتها في إذاعة الروضة الحسينية المقدسة، من هنا أيضاً ينبغي التنبيه على ضرورة استكمال الأبحاث جميعاً للتكون صورة كاملة لهذا المفهوم القرآني وهو "الشفاعة".

الكل يحاسب يوم القيامة

قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)[1]، فبين سبحانه أن كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلا "أصحاب اليمين" فقد فكوا من الرهن وأطلقوا واستقروا في الجنان، ويؤيده قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)، ثم ذكر أن هؤلاء الذين دخلوا الجنة بالشفاعة غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، و هم يجيبون بالإشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

وبما ان السؤال من اصحاب اليمين لأصحاب الشمال عن سبب دخولهم النار قد يبدو غريباً لأن من الواضح لكل أحد إن الله تعالى لا يدخل النار الا المجرمين العاصين فلابد أن يكون سؤالهم عن سبب آخر، ومن خلال التعليل الذي ساقه أصحاب الشمال بأنهم لم ينالوا "الشفاعة" بسبب هذه الأعمال الأربعة، فيعلم من هذا السياق أن سؤال أصحاب اليمين كان عن سبب عدم شمولهم لشفاعة الشافعين، وبعبارة أخرى إن استغراب واستفهام أصحاب اليمين لم يكن ناشئاً من كون هؤلاء عاصين بل لماذا لم تنالكم شفاعة الشافعين، وهذا يعني أنهم كانوا أيضاً أي اصحاب اليمين كان الكثير منهم عاصين إلا ان الشفاعة شملتهم وتخصلوا من رهن الذنوب فلذا سألوا

لماذا لم تنلكم الشفاعة؟

أصحاب الشمال، فمع شمول وسعة شفاعة الشافعين لماذا لم تنلكم الشفاعة؟ أجابوا بأن هناك موانع وهي الأعمال الأربعة التي وردت في سورة المدثر: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ).

 إن التلبس بهذه الصفات الأربعة، وهي ترك الصلاة لله وترك الإنفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض والإقبال إلى يوم لقاء الله، وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدين ولازم هذين عملاً هو التوجه إلى الله بالعبودية، والسعي في رفع حوائج جامعة الحياة وهذان هما الصلاة والإنفاق في سبيل الله.

[ذات صلة]

 إن الدين يتقوم بحسب جهتي العلم و العمل بهذه الخصال الأربع، و تستلزم بقية الأركان كالتوحيد و النبوة استلزاما هذا الأمر، وبعبارة أخرى تمثل هذه الذنوب الأربعة جوهر الدين فإثنان منها يخصان العقيدة فالأول هو الخوض مع الخائضين وتركه يستلزم التوحيد، والثاني التكذيب بيوم الدين، وهو إنكار المعاد وهما ذنبان يرجعان الى الاعتقاد كما هو واضح، وأما الذنبان الراجعان الى العمل فهما ترك الصلاة ومساعدة المحتاجين، وينبغي التنبيه إلى أن المراد منهما أعم من الصلاة والزكاة المعروفتان بدليل إن هذه الآيات من سورة المدثر وقد نزلت في مكة في بداية بعثته صلوات الله عليه وعلى آله ولم تشرع الصلاة والزكاة بعد فقد شرعت الأولى في سنة واحد بعد الهجرة والثانية بعد عام الوفود في آية (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم)، فليس المراد منهما الصلاة والزكاة المعروفتان.

ما هو المراد إذاً؟

والملاحظ أن القرآن الكريم أغمض هذه المعاني وجعلها مرددة بين مجموعة كبيرة من الذنوب وقصده من ذلك واضح وهو إخفاء هذه الموانع بين الذنوب ليشعر المكلف بالخوف من جميعها، فلعل بعضها يصدق عليه أنه ترك للصلاة أو ترك لإطعام المسكين أو خوض مع الخائضين او عدم إيمان بيوم الدين، فمثلاً ورد في بعض الروايات أن معنى الصلاة او المصلي هو اللاحق للإمام عليه السلام كما في حديث الصادق في قوله تعالى : (لَم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ) قال : "عنى بها: لم نكن من أتباع الأئمّة الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم : (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أما ترى الناس يسمّون الذي يلي السابق في الحلبة مُصَلِّي» . والمُصَلِّي: هو الذي يحاذي رأسُه صَلَوَي السّابق، والصَّلَوَان: عظمان نابتان عن يمين الذَّنَب وشماله . وقال الرّاغب في مفرداته : لَم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ أي من أتباع النبيّين .

ذنوب تحرمك من الشفاعة

وعليه فلعل ذنب من الذنوب يصدق عليه عدم اتباع فيحرم الإنسان من الشفاعة، وهكذا فتعمية الذنوب القصد منه ـ والله العالم ـ جعل الإنسان خائفاً من جميع الذنوب كما أخفى الله تبارك وتعالى ليلة القدر وأخفى وليه بين عباده.

ومن إشارات العلامة الطباطبائي، صاحب تفسير الميزان، في هذا الصدد أنه قال: "تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملاءمة إلا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب وإبهام  على ذلك جرى بيان القرآن".

 


[1] المدثر: 38 ـ 48.
2018/02/26

الإسلام.. بين النظرية ودولة التطبيق "الحلقة الأولى"

 

يرى البعض ان الاسلام لايتجاوز حدود الدين الذي ينظم علاقة الانسان بربه إضافة الى جملة من الوصايا الاخلاقية، وبمعنى ادق، ان النبي محمد صلى الله عليه وآله لم يحمل ضمن مشروعه الرسالي تخطيطا لدولة تعنى بالجانب الحياتي للإنسان، فيما يرى بعض آخر ان للإسلام دولة، وهؤلاء ينقسمون الى: طرف سني يعتقد ان تلك الدولة قد تمثلت بما كان عليه المسلمون ايام الخلفاء الراشدين بل عموم ما يسميه بالسلف الصالح وان ضياع دولة الاسلام ناجم عن انحراف  المسلمين عن نهج ذلك السلف، وطرف شيعي يعتقد في ان قيام دولة الاسلام كان رهنا بتصدي علي عليه السلام للخلافة وقد حالت مؤامرة السقيفة دون ذلك، ولولا تلك المؤامرة الدنيئة لكان العالم اليوم ينعم بظل الدولة الاسلامية الفاضلة. بالاضافة الى بعضٍ يعتقد في امكانية قيام دولة الاسلام عن طريق خلق منظومة فكرية اسلامية تشمل جوانب المعرفة والعلوم التي تحتاجها الدولة لقيامها كالاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها وكأن تلك المنظومة الفكرية هي الجزء المفقود في مسيرة المسلمين نحو دولتهم المنشودة.

وهذا كله كلام لاصحة له..

سأشرع في سرد ما اريد بيانه، بمثال بسيط يتناول نقطة حيوية لها دورها الاساس في المجتمع الانساني... كمفكرين، هل نضع المرأة داخل المنزل لتمارس فيه دورها بشكل أساس، ام خارجه لتعمل وتنتج إسوة بالرجل؟

الخيار الاول يتلاءم مع طبيعة المراة كونها ذات بنية جسدية أضعف من الرجل وذات عاطفة ارق وذات انوثة وقدرة على تربية الاطفال وبث الحنان فيهم وبالتالي تتشكل من خلالها العائلة وتتماسك.

واما الخيار الثاني فالعمل خارج المنزل هو اجهاد اضافي لها وهي غير مهيئة له وذلك لبنيتها الاضعف وما يعتريها بشكل شهري من اضطرابات بيلوجية ونفسية بالاضافة الى الحمل والولادة والعناية بالاطفال مع نقطة اهم وهي مايعنيه عملها خارج المنزل من تهديد لتماسك العائلة اللبنة الاساسية في المجتمع، وعليه فإننا ـ في حدود التنظير ـ سنقر الخيار الاول بلا شك، وهذا مافعلته الشريعة الاسلامية، ولكننا في ـ في اطار الواقع ـ نجد ان الخيار الاول، بما يستلزمه من تبعية اقتصادية من قبل المرأة للرجل،  يؤدي ـ تلقائيا ـ الى قيام الرجل باضطهاد المراة[1] ، فنكون هنا إزاء نوعين من التنظير: الاول تنظير التنظير الذي يقر الخيار الاول والاخر تنظير الواقع الذي يقرّ الخيار الثاني، الاول يستمد صوابه من المنطق فيما يستمد الاخر ضرورته من الواقع، فالمرأة لن تضع يدها على خدها تتأمل وسامة التنظير الاول الذي لايعدو عن كونه صورة جميلة لاتمنع عنها اضهاد الرجل.

الاسلام في تشريعه يقرر ان انفاق الرجل على المراة هو ليس تكرما بل واجب وان المراة لها كيان محترم وليس عليها ان تقوم باعمال المنزل ولاتجبر على الزواج وووو، ولكن ـ رغم هذا ـ يبقى الواقع المعاش هو ان التبعية الاقتصادية تنتج اضطهادا من قبل الرجل للمراة، سواء في المجتمعات الاسلامية أوغير الإسلامية.

نصل من هذا الى نتيجة وهي ان الاسلام منظومة مثالية تحتاج ـ بشكل أساس ـ الى دور الفرد كي ينزلها الى الواقع، وعليه فإن فهم الالية التي تقوم عليها الدولة الاسلامية على انها تولّي قيادة اسلامية للدولة تمسك براس الهرم وتسيّر الدولة على ضوء التشريع الاسلامي هو فهم لاقيمة له، ان الدولة الاسلامية تعني المجتمع الاسلامي وهذا الاخير لايتكون إلا من خلال تكثر الافراد المسلمين ـ على عموم مستويات الهرم من الراس الى القاعدة ـ والذين يقومون بتنزيل التنظير الى مستوى الواقع[2].

إن عليا عليه السلام، بما يمثله من كونه القيادة الاسلامية الصحيحة، لم ينتصر عليه معاوية في حرب سياسية او عسكرية بل هو الفرد الذي اراده علي عليه السلام انسانا يتسامى بإنسانيته ويعلو في كونه كائنا حرا يرتقى الى مثالية التنظير الاسلامي ولكنه أبى إلا ان يلهث كالكلب وراء دراهم معاوية المعدودة، لقد كانت حكومة الامام علي عليه السلام الاسلامية قائمة على أساس من تقاسم الادوار بينه وبين الفرد فالإمام عليه السلام ضمين له بالعدل والحرية والمساواة وما يضمن حقوقه وفي قبالة هذا كان على الفرد ان يؤدي دوره بشكل صحيح، إن عليا عليه السلام كحاكم مثالي ألزم نفسه ان يعطي للفرد حرية التعبير عن رأيه حتى وان انتقد الحاكم وكان على الفرد ان يستغل هذا لما يصب في المصلحة العامة ولكن الفرد جعل تلك الحرية وسيلة لنشر الفوضى والاساءة للمجتمع، والخوارج الذين بيّن علي عليه السلام موقفه إزاءهم بأن اعتبرهم طائفة لهم افكارهم ولم يحاربهم إلا حين صاروا قوة تعتدي على المواطنين خير مثال ...

وأخلص من هذا الى ان الحكومة الاسلامية إما ان تكون كحكومة علي عليه السلام تلتزم حدود المثال وتنتظر استجابة الفرد او لن تكون، لأن أي تجاوز من المرء لما ألزم به علي عليه نفسه هو خروجه عن كونه اسلاميا، واذا ما انتفت الاسلاميّة عن المرء انتفت بالضرورة عن الحكومة التي يقيمها.            

وللحديث تتمة...

 



[1]ان 70% من اضطهاد الرجل للمراة في مجتمعاتنا الاسلامية ناتنج عن هذه التبعية

[2] يتوضح ذلك بصورة اكثر في موضوع دور العوامل التاريخية في السلوك 

2018/01/07

أسس الحضارة الإسلامية

الثقافة: في الاصطلاح هي الرقى في الافكار النظرية والعقلية فقط وهذا يشمل الرقى في القانون والسياسة والتاريخ وكذلك الاخلاق والسلوكيات وسائر الامور النظرية والفكرية (المعنوية).

المدنية: هي الرقى في العلوم المدنية التجريبية (المادية) كالطب والهندسة والكيمياء والصناعة والزراعة وغيرها من الامور المعنوية التطبيقية .

الحضارة: فهى تشمل الرقى فى العلوم النظرية العقلية والتجريبية التطبيقية معا، أي الثقافة والمدنية والمعنوية والمادية.

هذه المصطلحات الثلاثة، لها تعاريف كثيرة وقد اخترت هذه التعاريف لا على التعيين لأنه لا يهمني فيها التعريف بل المفهوم الدال عليه.

هذه المفاهيم الثلاثة هي ما اعتمدته البشرية في قياس الرقي والانحطاط، والتقدم والتخلف، وقد جعلت البربرية ـ وتمثل نقطة الصفر ـ اساس القياس في الرقي والتقدم أو الانحطاط والتخلف، فحين يملك الانسان كمّا ثقافيا أو إذا انتشر في المجتمع الوعي الثقافي فهذا يعني ابتعادا عن البربرية وبالتالي يعني الرقي، وحين يرتقي في المجال العلمي والتكنلوجي يبتعد كذلك عن البربرية ويحقق التطور، وعلى هذا كانت مؤشرات التغير تتحرك طوال تاريخ المسيرة البشرية.

ولكن لو اعتمدنا قبالة البربرية معيارا آخر وهو الانسانية ـ وهو الأنسب في أن يكون قبالة البربرية ـ سنجد مؤشر الابتعاد عن البربرية ثابتا لم يتحرك على امتداد التاريخ البشري، فما زالت مظاهر الإخلال بكل ما هو إنساني هي هي تشوه وجه الحاضر كما شوهت الماضي السحيق والقريب، من هيمنة استبدادية وطغيان ومن حروب مسعورة تلتهم الاخضر واليابس ومازالت اعداد غفيرة من الناس يعيشون تحت خط الفقر ويموتون جوعا، لقد سجل لنا التاريخ القديم إن ذا نواس الحميري قبل ما يزيد عن 20 قرنا اشعل نار الاخدود ليحرق به الالاف من ابناء النوع الانساني كما سجل أنه في القرن العشرين قد أوقد هتلر نار الهولوكست، بل ربما كان التقدم في المدنية باعثا على امتلاء الحياة الانسانية بالظلم والرعب والموت، من خلال التقدم التكنلوجي الذي طوّر صناعة السلاح الفتاك، فصار ضحايا الحروب في يومنا هذا اضعافا مضاعفة عما كانت عليه يوم كان القتال كان بالسيف والمنجنيق، ولاشك أن الانسان على استعداد لأن يتخلى عن رصيده المعرفي والثقافي كما يتخلى عن التطور العلمي والتكنلوجي ولكنه ليس على استعداد لان تطحنه الحروب أو يموت جوعا. 

 إن المشكلة البشرية تكمن في اعتماد هذه المفاهيم على أنها السبيل لتحقيق الانسانية،  فحين يتثقف الانسان أو تتطور حياته علميا وتكنلوجيا سيخلصه ذلك من عوالق البربرية،  وهذا هو الخطأ،  إن فرعون مصر في قمة التطور العلمي والتكنلوجي لمصر كان لا ينفك عن قتل مئات الاطفال،  وفي ذروة النضج الثقافي التي شهدته فرنسا اقدمت على قتل مليون ونصف شهيد جزائري،  وبريطانيا العظمى قد تسببت بقتل الملايين من ابناء مستعمراتها لانهم نادوا بالاستقلال والحرية،  أي أن هذه الدول ذات الرصيد الحضاري العالي قامت بقتل أضعاف ما قام به التتار الهمج طوال رحلتهم الحربية من شرق آسيا الى مصر،  وحتى على صعيد السلوك الانساني نجد أن ثمة انفكاكا بين رصيد المجتمع من هذه المعايير وما يحمله أبناء المجتمع من صفات وسلوك،  إذ يذكر وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة في الجزء الاول ان آكلي لحوم البشر في مجاهيل التاريخ كانوا يمتازون جملة من الصفات الحسنة فهم يحترمون المرأة ويعيبون على المرء أن يرفع صوته اثناء الحديث.

إن اعتماد هذه المفاهيم كمعيار للقياس،  قد أدى الى تكتيل الجماعات البشرية على أساس البلد او القومية او الجنس،  ليحسب بعد ذلك صنع الحضارة لهذا البلد أو تلك الأمة،  اي أن فارق البلد او القومية أو الجنس يكون من صميم التمايز الحضاري،  وهذا ما أدى الى أن يكون التقدم الحضاري دافعا لتعزيز حس التكتل كالقومية او الجنس على حساب المشترك الانساني،  فالنازية مثلا جاءت كنتيجة لتصاعد الحس القومي عند الالمان تجاه الجنس الآري والامة الالمانية وراحت تعلن حروب الابادة على أساس عرقي،  كان هذا بسبب الزهو الذي أحسه الالماني إزاء الاعداد الكبيرة التي انتجتهم الامة الالمانية من مفكرين وعلماء ومبدعين. ويؤدي هذا بدوره الى ما يعرف اليوم بصدام الحضارات لأنه أدى من قبل الى التسابق على التحلي بهذه المعايير،  وحتى إن تجاوزت الدولة مفهوم الصدام،  وحاولت الاتصال بدول اخرى لمد اسباب الرقي فيها فهي حين تعتمد هذه المفاهيم سيؤدي الى نتيجة معكوسة،  وكمثال ما قامت به المانيا وفرنسا من دخول الى دول افريقيا بمدعى أنها تنقل اليها الحضارة،  فهذه المفاهيم قد عززت الحس القومي عن الالمان والفرنسيين في انهم اصحاب حضارة وشعوب افريقيا اقرب الى البربرية،  إضافة الى عقيدة التمايز العرقي،  فانتهى الامر بان قامت هاتان الدولتان بحروب ابادة لتلك الشعوب وزجت الاف الأفارقة في خطوط النار والموت في الحرب العالمية الاولى.

في حين نجد ان الاسلام يعتمد الانسانية كأساس ومعيار ليكون بعد ذلك صنع الحضارة مشاعا للجميع ما داموا يمتلكون الصفة الانسانية، فيقول القران الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الحجرات 13، فهذه الآية الكريمة بيّنت الاساس المعتمد في أن البشرية مجتمع واحد ينتسب اليه كل ابن ذكر وانثى من الناس، والاختلاف في الشعب والقومية والجنس هو من خارج النوع الانساني فهو جعلُ من الله، ويكون التعارف اساسا لصنع الحضارة. فتكون بذلك الحضارة منجزا مصنوعا من قبل عموم الجنس البشري لتدفع بعمومه الى التطور والخير والرفاه،  ولا شك أن التعارف هنا خليق بصنع حضارة ذات مؤشر أعلى بكثير مما نجده في الحضارات الأممية،  فالملايين التي أبادتها الامم المتحضرة استبدادا وطغيانا،  لاشك أن فيها من الطاقات والكفاءات ما يمكن أن يرتفع بها المؤشر الحضاري العالم،  أو المناخ الاجتماعي الخانق الذي لا تسمح الدول الاستعمارية بغيره للدول الضعيفة لابد إنه قد ضيع على أصحاب مواهب وطاقات فرصة الوصول لما يتمكنوا به من تطوري مواهبهم وإنضاجها، وكمثال ما نشهده اليوم من أعداد كبيرة من ذوي اللون الاسود وهم يبدعون على مختلف الاصعدة فيؤدي هذا بنا الى سؤال مهم وهو أن البشرية كم أهدرت من طاقات وكفاءات طوال عشرات القرون وهي تعكف على معاملة العبيد كالحيوانات؟!         

 

 

 

2017/12/18

عن إباحة الرق في الإسلام

لشد ما يتناول العلمانيون اليوم مسألة الرق التي أباحتها الشريعة الاسلامية على أنها النقطة التي أوجدت لهم ضالتهم في العثور على ما يدينون به الاسلام, انطلاقا من بداهة التقاطع بين العبودية والانسانية, ولمناقشة الامر علينا الرجوع الى النقطة الاساس في القضية وهي الحرية, فالحرية في المنظور الليبرالي هي حق طبيعي لا يمكن المساس به تحت أي اعتبار حتى وإن كان المصلحة, استنادا الى عنصر الرشد الذي يعرضه الليبراليون كمفهوم يعبّر عن ما يؤهل الانسان لان يكون مسؤولا عن قراراته, فلو انتحر الانسان فإنه يمارس حريته في إنهاء حياته التي لا تعني أحدا سواه, وإن كانت ثمة مصلحة في عدم الانتحار فهو من فرّط بها, ثم يأتي الرشد ليضفي الشرعية على ترك المشرّع الانسانَ واختياره في الاقدام على الانتحار .

فيما اعتبر الاسلام الحرية حقا مرتبطا بالمصلحة وعرض الرشد على أنه القدرة على تحقيق تلك المصلحة, فحرّم الانتحار توخيا للمصلحة المترتبة في عدم الاقدام عليه واعتبر الرشد عنصرا مفقودا في المعادلة إذا ما اختار الانسان الانتحار.

من هذا المنطلق علينا ان نفهم الشريعة الاسلامية في كل ما قننت به حرية الانسان أو وجهتها الوجهة التي لا يدرك سلامتها اصحاب المواقف السطحية والمتعجلة في التفكير, وبالنسبة للرق فإن تاريخ العبودية الطويل في المجتمع الانساني يؤكد لنا غياب عنصر الرشد ـ بالمفهوم الاسلامي ـ عند الأرقاء لاسيما الاجيال التي توارثت حالة الانحصار في دائرة الرق والخضوع, ولا نعني بغياب عنصر الرشد هنا افتقاد القدرة العقلية او حالة من النقص الذاتي في العبد بل هي المؤهلات التي تمكنه من ان يكون سيد نفسه لعدم امتلاكه أي تجربة حياتية تمده بالخبرة المطلوبة, العبد الذي قضى حياته لا يحسن غير طاعة سيده ولم يمارس غير الخدمة ولم يقم بأية عملية تشترط فيها الحرية لن يتمكن بانتقال فجائي الى الخلية الاجتماعية من التواجد فيها بشكل فعال وصحيح ..

اضف الى  انعدام الخبرة العاملَ النفسي الذي يعد معيقا حقيقيا  لدفع الرقيق الى الساحة الاجتماعية بشكل مفاجئ.. فمن خلال صفحة الاضطهاد والمعاناة المريرة التي كابدها العبيد والتي يحفظ التاريخ منها صورا مروعة, قد تشكلت فيهم حالة خطيرة من العدائية للمجتمع وروح الانتقام, فالحرية المفاجأة لن تكون سوى فرصة ثمينة للانقضاض على المجتمع والانتقام منه, ولعل في ثورة الزنج دليلا حيا على هذا, حيث اعتمد صاحب الزنج علي بن محمد على العبيد في ثورته بعد أن فطن الى هذه النقطة وراح يروّج نفس الافكار التي تروجها الليبرالية اليوم من تنافي الرق مع الانسانية وضرورة الإسراع في اعطاء العبيد الحرية كحق طبيعي, ليجنّد بعد ذلك العدائية وروح الانتقام التي تأكدَ من انبعاثها في خلق صورة دموية تعد واحدة من اكثر الاحداث بشاعة في التاريخ الاسلامي حيث قتل العبيد في ثورتهم الالآف من الناس واحرقوا المدن. 

وعلينا أن نفهم أن اباحة الاسترقاق هي اجراء ضمن اجراءات عديدة نظمتها الشريعة الاسلامية للوصول الى حل مثالي لمشكلة الرق منها :

1ـ تحريم أية ممارسة من شأنها المساس بكرامة العبد وانسانيته.

2ـ إلزام المالك بالمعاملة الحسنة القائمة على الرحمة والانصاف والعطف لعبده قال  نبي الاسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم ) "لا تقل عبدي وعبدتي بل فتاي وفتاتي".

3ـ حماية العبد من أي أعتداء جسدي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ : "مَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ أَنْفَهُ جَدَعْنَاهُ".

4ـ منع المالك تكليف العبد بما يفوق قدرته.

وبهذا لن يكون الاسترقاق في الاسلام غير مرحلة تهيئ العبيد لمرحلة الحرية التي تمثل قيمة عليا في الحياة ، فالحقوق الجزئية التي أتيحت للعبد صاحَبها تفاعل جزئي مع الحياة عاد عليه باكتساب تدريجي للخبرة المطلوبة, والمعاملة الحسنة من قبل السادة أطفأ نائرة الكراهية وعالج أمراضه النفسية فصار قادرا على الانتقال الى الخلية الاجتماعية بشكل آمن بعد أن وفرت له الشريعة الاسلامية المنافذ الكثيرة لحصوله على الحرية ومنها:

1ـ حثت على عتق العبيد كفعل اخلاقي لوجه الله تعالى.

2ـ  مكّنت العبيد من استعادة حريّتهم بالمكاتبة، وأوجبت إعانة المكاتبين وحضت على مكاتبتهم كرماً، أو لقاء مال يدفع إلى المالك فيما بعد، وإعطائهم من مال الله، ولم يمنع الإسلام وصيّة المسلم لمن ملك يمينه بثلث ماله . 

3ـ خصصت قسماً من المال العام في تحرير الرقاب.

4ـ  جعل عتق الرقاب كفّارة لبعض الذنوب كالقتل الخطأ، والظهار.

5ـ جعل الطفل الذي يولد للمسلم من أمته حراً، ولم يجز أن يبيع المسلم أمته بعد أن ولدت له، وحوّلها إلى امرأة حرّة بعد وفاته.

ويبقى ما يطالعنا به الامام زين العابدين عليه السلام في تراثه العظيم في هذا الخصوص صورة لا نظير لها في معالجة مسألة الرق حيث كان عليه السلام يعمد الى شراء العبيد وانزالهم في بيته يتلقون منه المفاهيم الاسلامية الصحيحة والتربية الصالحة حتى إذا آنس منهم الرشد المطلوب والقدرة على إداء الدور الصحيح في المجتمع اعتقهم لوجه الله لينتشروا في الامة الاسلامية نماذج تتفاعل في المجتمع التفاعل المطلوب .  

  ومما يحسب للإسلام على الشرائع الوضعية في هذا الخصوص أن رفضه التمايز العنصري ومناداته بالمساواة ينطلقان من صميم منظومته التشريعية ومن قانونه الاول (أن العبودية لله وحده) فنرى الرسول الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ومع الانطلاقة الاولى لثورته لا يميز بين بلال الاسود وأي من الصحابة الآخرين بل يضع له موقعا متقدما في دولته, فيما تستمر الشرائع الوضعية في إقرار وتنفيذ ما يتعلق بالعدالة وحقوق الانسان بمعزل عن ثوابت الاعراف المهيمنة على مجتمعاتها في التمايز العرقي, فهذا ارسطو نبي الفكر الانساني رغم تراثه العملاق فإنه يظل وفيا للتمييز العنصري عند الاغريق في أن الناس ينقسمون الى مواطنين نبلاء وبربر (أي عبيد) ، وفي الولايات المتحدة الامريكية ـ الدولة التي تحمل شعار الديمقراطية وحقوق الانسان منذ عقود طويلة ـ لم  تضمحل فيها العنصرية ضد السود الا في نهايات القرن العشرين بعد كفاح طويل من السود  في سبيل حياة حرة كريمة, وبهذا لا يكون اضمحلال العنصرية في امريكا انتصارا للقيمة الانسانية بل استسلام لكفاح الجنس الاسود.  

 

 

2017/12/16

الفن والإسلام.. الحلقة الثالثة (الفن والمجتمع؛ السينما إنموذجاً)

بوسعنا ان نطرح اشكالية السينما والشريعة الاسلامية في مضامين ثلاثة:

الاول: تشكل السينما واحدة من اهم الاشكال الفنية وأكثرها رقيا في عصرنا الحالي, من حيث تصوير الانسان والمجتمع وعكس مشاكله وارهاصاته بلون فني متميز.

الثاني: السينما في ماهيتها عبارة عن صور متتابعة تسرد من خلالها القصة المعبرة عن الحدث الذي يعكس الواقع الحياتي المعاش بما فيه من مشاهد الام التي تستقبل ابنها المسافر بعناق حار والمرأة التي تجلس مع زوجها في البيت من دون الحجاب وغير ذلك،

ناهيك عن نمط آخر من القصص كامرأة سيئة السمعة وغير ذلك بما يتطلبه تجسيد القصة من عرض صوري لهذه التفاصيل. 

ثالثا: الشريعة الاسلامية تتقاطع مع مثل هذه التفاصيل, فهؤلاء جميعا ممثلون, وقضية التمثيل لا ينفي انهم اغراب يخضعون للتشريع الفقهي القاضي بحرمة مس المراة  للرجل الاجنبي ولا يحق لها السفور والتبرج. 

بالإضافة الى نقطة اخرى وهي ان متبني السينما قد يعتمدون في التعبير السينمائي على لغة الجسد او استخدام رموز دلالية فنية تتطلب مشاهد منافية للحياء. وعلى سبيل التوضيح يستخدم الكاتب السينمائي امرأة ما كرمز للطبقة المسحوقة ويعرّضها للاعتداء الجسدي كدلالة على الاعتداء والاستباحة التي تتعرض لها الطبقة المسحوقة, ولما كانت مثل هذه الاستخدامات تمثل مطاليب للتعبير الفني في اللغة السينمائية فقد انتج ذلك واحدا من نظرتين للشريعة الاسلامية بهذا الخصوص, فإما ان التشريع الديني يمثل جمودا وتخلفا وانطفاء في مضامين الحياة خاصة ان الفن السينمائي يملك موقعا مهما في مكونات التقدم الحضاري اليوم, أو انه مادة عمياء لا يأبه للتعبير الجمالي الفني وعليه فإن للفنان فنه وللمشرع تشريعه كل يعيش مجاله الخاص.

وفي معرض الجواب فإن:

1. الشريعة حين منعت المشاهدة الساخنة والعري وغيرها انما اعتمدت في ذلك على الثابت الاخلاقي الذي جعلته من اهم سبل الحفاظ على المجتمع وهذه النقطة تمت مناقشتها في موضوع الفن والأخلاق، الذي سبق أن نشر على موقع الأئمة الإثني عشر.

2. ان ما يعبّر عنه بالمطلب الفني لا يمثل مفهوما ثابتا بل هو متغير من خلال ارتباطه بالثابت الاخلاقي المتغير من مجتمع لآخر. ففي مطلب لتعبير فني مثل ظهور فتاة عارية نجد ان العائلة الفرنسية ـ مثلاـ قد تتقبل مشهد المرأة العارية وتعده من متطلبات التعبير الفني اعتمادا على ثابتها الاخلاقي الذي يسمح بذلك, وعليه فإننا نرى السينمائي الغربي يتعامل بتلقائية مع عرض هكذا مشاهد. في حين ان مشهد المرأة العارية غير مقبول في مجتمع كالمجتمع المصري فيّعد هكذا مشهد خرقا لثابتها الاخلاقي والسينمائي المصري يستبدل مشهد المراة العارية بمشهد يتصف بشيء من الحشمة ـ مثل اظهار جزء من جسدها ـ لنفس الدلالة التي عبّر عنها السينمائي الفرنسي بالفتاة العارية, وفي مجتمع ذي ثابت اخلاقي اكثر تشددا نجد ان السينمائي يعبر عن الفتاة العارية بشكل اكثر حشمة بعد ان يعد اظهار الجزء من الجسد خرقا للأخلاق. مما يعني ان ما يسمى بمطلب التعبير الفني هو مفهوم غير ثابت سرعان ما يسمى بخرق لحدود الاخلاق بتغير المجتمع, وعليه فإننا في حالة إيجاد مجتمع اسلامي يتعاطى الحدود الاسلامية ويتخلق بأخلاقها فإن كل ما يتجاوز حدود التشريع سيعدّ حينها خرقا للأخلاق وليس مطلبا للتعبير الفني. 

3. في المجتمع الاسلامي سيتفهم ابناؤه الاجراءات الفقهية التي تتخذ مثل تواجد المرأة في المشهد السينمائي في بيتها ومع زوجها بالحجاب.

4. لا يمثل التعري والاغتصاب وغير ذلك الوسائل الوحيدة للتعبير الفني كرموز للموضوعات الحياتية, حيث يمكن التعبير عن الآم طبقة المسحوقين بشاب يتعرض للتعذيب الوحشي.

5. استخدام مشاهد الجنس والعري كوسيلة ناضجة في التعبير الفني هو كذبة صلعاء, فإن نسبة 95% من تلك المشاهد يتم لحسابات تجارية محضة, حيث تستخدم الممثلة اعتمادا على جمالها والكاتب السينمائي يجر القصة جرا الى الماخور وما يدور فيه من وصلات راقصة او الى بلاج البحر. كل ذلك في سبيل الزيادة في الايراد لا غير.

6. كم من اعمال سينمائية خالية من كل ما يمس الشريعة والاخلاق قد احتلت القمة من حيث النضج والابداع, واعمال اخرى حاوية على ذلك المساس لا تعدو كونها اعمال ضحلة خالية من اي قيمة فنية.

7. بوسعنا ان نعتمد السينما الايرانية التي حققت نجاحا عالميا من دون التفريط بثوابت التشريع الاسلامي كدليل ناهض على امكانية قيام سينما ناجحة ومعبرة في حدود التشريع الإسلامي.  

ثم ان السينما فيما تتغافله من حدود الشريعة مدانة في حق المجتمع الانساني في:      

أ\ خلق حالة البطل غير الواقعي مما يدفع بابناء المجتمع سيما المراهقين الى محاولة الاندفاع نحو التشبه به مما يخلق حالة من الخلل النفسي الناجم عن فشل المحاولة.

ب\ الخلل في العلاقة بين الجنسين وربما ادى ذلك الى الطلاق من خلال, خلق حالة من الرومانسية في العلاقة بين الجنسين وقصص الحب مما يحفز المشاهدين الى مستوى اعلى من الممكن فلا يكون المستوى الذي يتعاطونه في الواقع كافيا للإشباع, كما يخلق مستوى الجمال العالي المتجسد بنجمات السينما المنتقاة على اساس الجمال ويخضعن لعميات مكياج وتجميل مكثفة قبل الظهور على الشاشة, الى فتور في تقبل الرجال لمستوى الجمال العادي بالاضافة الى قصص الحب الملوثة بالعلاقات غير الشرعية وخير مثال المسلسلات المدبلجة التي كان لها تأثيرها في ازدحام اروقة المحاكم بمشاكل الزواج ودعاوى الطلاق, بشهادة اخصائيين اجتماعيين 

ج ـ ما تشكله, افلام الرعب والعنف والتي تندفع الجهات المصنعة للسينما في ضخ اعداد كبيرة منها, من عامل مهم في خلق مجرمين وذوي الجنح بسبب التأثر بها ومحاولة محاكاتها سيما المراهقين.  

 

2017/12/12

النبي محمد بن عبد الله (ص): الأنموذج الحي لسلوك الفكرة

قد يكون من المُتخيَّل لرجل أربعيني عاش في زمنٍ أنشبت الجاهلية فيه أظفارها، وتلاشت فيه القيم الإنسانية، وفي حال وجود هذه القيم فإنها محكومة بأطر الصحراء والبداوة، نقول قد يكون من المتخيَّل لهذا الرجل أن يختار خلوته المعرفية في غار، فيشاء الله تعالى وهو (المُصَوِّرُ) أن يكون هذا الأربعينيِّ شجراً يتجذَّر في الحجاز فتتدلى أغصانه على كل أرجاء العالم، ويستفزُ حمامات الإنسان المكبوتة فيملأ هديلها البديع الآفاق مبشراً بمستقبل ضوئي يغسل العتمة الموحشة.

محمد بن عبد الله، ذلك اليتيم الذي عاش احتراقاً من أجل الإنسان وقيمته، وأراد له أن يستفيق من خطر النوم والخدر على الأخطاء؛ لينطلق لعالم المعرفة والتفكير والتغيير. كان الحلم المائي يرسو على مقلتيه مبتعداً عن رمال التخلّف بينما يوفر الغار الحراسة والطمأنينة الكاملة لهذا الأربعيني في مناجاة الحقيقة حتى أتته لحظة اليقين المذهلة: (إقرأ)، كلمة كان مستعداً لها ولعمق مدلولاتها، فأدرك أن لحظة البوح بالنبوءات المتعلقة بأسرار الوجود قد حانت، وأنه الآن بريدُ الله لإتمام رسالاته الجمالية والمعرفية. البريد الذي لن يصل بسهولة فأمامه التحديات ممثلة برموز التخلف والجهل والمصالح.

احتشادُ الله في أجزائه كان كفيلاً بأن تنهار أمامه كل محاولات الإرهاب والترهيب التي تعرض لها خلال فترة إيصال البريد السماوي القائم على أنسنة حقيقية تهطل غيومها بأمطار الهداية على الرمل فيتشجر الوجود على فكرة النبوة.

كل شيء بات جاهزاً، والأبواب مشرعة لدخول المنطق المُقْفل، وعقرب ساعة الوثنية الجاهلية؛ مرتعد الدقائق واللحظات أمام هذا الوضوح المتشكل من بلاغة كلامية أذهلت أمة الشعر والبلاغة. بدأت السنوات تتسنبل بعد العجاف بعد ان أدركت أن فكرة محمد / النبوة هي قمحها الأخير، وآيات قرآنه حقول لسنابل الحقيقة.

مسارات التطبيق

وبدأت المسيرة المحمدية المضيئة في تجسيد فكرة النبوة وقصدية السماء كواقع عملي لن ينفصل عن أصل النظرية. وأهم مرتكزات هذا الواقع كانت الأخلاق التي شهد لمحمد فيها العدو قبل الصديق، كيف لا وهو الصادق الأمين بإجماع قريش. هذه الأخلاق ركزت عليها الأفكار الهاطلة من السماء: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران 159\

ثمَّة بُعد أخلاقي يمتزج بروح المحبة والتشارك والحوار، وهذا البعد هو عين ماننشده اليوم في عالمنا وهذا من مصاديق كونية الفكرة المحمدية التي جسدها الرسول الأكرم (ص) تجسيداً عملياً ظهر في تعاملاته وسلوكياته مع كل الناس الذين أدركوه وأدركوا تلك الرحمة التي ندر تواجدها في مجتمع كالمجتمع المكي. فكانت الأخلاق مفتاح الدخول لعالم التأمل والتفكر في الدعوة الجديدة التي أعلنها الرجل الخلوق لتحرير الإنسان من قيده. ولو تصورنا أن الدعوة الجديدة على عظمتها وعظمة أهدافها كانت مناطة بشخص لم تكن له من أخلاق محمد (ص) وعطفه وتسامحه نصيب؛ لكان من الصعب أن تتواصل المسيرة من دون الجانب الأخلاقي الذي يمزج الفكرة / النظرية بالسلوك / التطبيق، وهو ماكان الرسول الأكرم (ص) يؤكد عليه بقوله: \إنما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ\

ولم يكن السلوك النبوي الأخلاقي محكوماً بفترة إقناع الآخر بضرورة تبني منهج السماء الختامي؛ بل امتد لمرحلة ما بعد التأسيس الحقيقي في المدينة المنورة حيث هاجر الرسول إليها وبدأ من هناك الصفحة الثانية من صفحات التطبيق العملي لتعاليم الله تعالى، والتي استهلها أولاً بالمؤاخاة بين الأوس والخزرج أكبر قبيلتين في المدينة إثر خلافات قبلية قديمة؛ إذ ليس من المنطقي أن يسود منطق التعقل والتسامح والحوار الذي يقصده الإسلام في ظل خلافات تنتج تطرفاً وعنفاً، فالتسامح واللاعنف هما الجوهر الحقيقي للإسلام. كما كان للتكافل الاجتماعي تعزيز وتأصيل للسلوكيات الأخلاقية بعد أن شارك أهل المدينة المهاجرين في زادهم ورزقهم.

وحتى في الحروب التي خاضها المسلمون تحت قيادة نبيهم؛ كانت التوجيهات تشدد على عدم البدء بالقتال، وعدم قتل الشيخ المسن، والطفل الصغير، وعدم ترويع النساء، بل تعدى ذلك إلى عدم إغفال الجانب العلمي والمعرفي حتى في الحرب بعد أن أمر بإطلاق أي أسير يُعَلِّمُ عشرةً من المسلمين القراءة والكتابة.

كل هذه السلوكيات الأخلاقية، كانت إشارات إلى البناء الحقيقي للإنسان المسلم الخالي من العقد والتطرف، الإنسان النابض بالمحبة والنابذ للكراهية والعنف حتى مع من اختلف معه على صعيد الديانة والتوجه. كما أن مشاورته للثقة من أصحابه في أمور كثيرة ومصيرية كما في حادثة حفر الخندق التي أشار بها عليه صاحبه سلمان الفارسي (رضوان الله عليه)؛ تؤكد على أن البناء الحقيقي للدولة لا يتم من خلال التفرد بالقرارات فقدم أنموذجاً حضارياً لطريقة تعامل القادة مع الأتباع، وليس بهذا التعامل الحضاري أجدر من شخص قال فيه الله في كتابه العظيم : \وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عظيم\ في تجميل بلاغي رائع حيث لم يقل الله تعالى وإنك ذو خلق عظيم فتكون مجرد صفة؛ بل قال (لَعَلى خُلقٍ عظيم) و (على) هنا مسبوقة بلام التوكيد جاءت بمعنى الاستعلاء والتمكن من الأخلاق الحميدة وإفشائها بين الناس لتكون دستوراً وضابطاً للتعامل بين أفراد البشر الذين يجب أن يهتدوا لتلازمية الإيمان والأخلاق.

إن استلهام المنهج الأخلاقي المحمدي وتطبيقه بالشكل الذي أراده الله عبر التعاليم الواردة في نصوص القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأكرم واهل بيته من بعده عليهم صلوات الله؛ كفيل بدفع عجلة التقدم الإنساني إلى الأمام، فنستطيع عبر هذا المنهج فهم مرتكزات البناء الحضاري والاشتغال عليها باجتهاد وإيمان مخلصين لما تتبناه؛ فنصل إلى نتيجة أن القوة الحقيقية تكمن في الأخلاق ونبذ التطرف والعنف، وليس بالمصالح الضيقة التي تجعل من البشر وقوداً لحروب لايربح فيها إلا أصحاب الأجندات والمعتقدات المنحرفة.

المصدر: النبأ
2017/12/06

الى من يهمه الأمر.. هذا ما تحتاجه الشعوب الإسلامية!

في صدد الصراع الدائر بين الشعوب الاسلامية والغربية وهذا الكم الهائل مما قيل او يقال عن سبل الارتقاء المفروض على الشعوب الاسلامية إتباعها كونها الطرف الفاقد لما حققه الغرب من حضارة وتطور, سواء أكانت تلك الحضارة مكتملة الجوانب وأن الاقتداء ضروري بذاته وعلى كل الاصعدة كما يرى البعض أو أن يطعن بحضارة الغرب في جانبها الروحي, وان التراث الاسلامي قادر إذا ما فعّلنا ثوابته ومعطياته على خلق حضارة بديلة تدفع عن الشعوب الاسلامية غائلة التخلف الذي تعيشه كما يرى بعض آخر ..   

في هذا الصدد, أظن أن هناك نقطة مهمة للغاية وهي الانسان العادي .. العنصر المنفعل بفعل التنظير الفلسفي والخالق الحقيقي لما يؤسس له ذلك التنظير في الواقع .. فالحضارة الغربية التي اعتمدت في نهضتها من سبات الكنيسة المنحرفة على تنظيرات جون لوك في العلمانية وبيكون في العلم ومارتن لوثر  في الاصلاح الديني ووووو .. كان يمكن أن يكون ذلك التنظير حبرا على ورق لولا الانسان العادي الذي أخرج هذه الافكار الى حيز التطبيق وجعلها شيئا ملموسا, وكان ذلك الانسان بتحولاته الايجابية على الصعيد العلمي والاجتماعي شاهدا على جدوى ذلك التنظير وصحته.

وهنا اثير النقطة التي اراها المفصل الاساس في الموضوع وهي ان الحداثة الغربية حين اعتبرت مسألة النزول من الله الى الانسان واستبدال الجنة الميتافيزيقية  بالأرض الملموسة  كمسرح ممكن لتحقيق السعادة .. حين اعتبرت تلك المسألة, القضيةَ الام في متبناها الفكري فقد جعلت الانسان الغربي في حالة يمكن أن ينطبق عليه القول الشائع ( البحر من ورائكم ) فكانت الحياة الدنيا هي المدار الاوحد لا يعوِّل على غير استصلاحها في سبيل سعادته التي انحصرت ـ في منظوره ـ  براحته ومتعته,  فراح بذلك يتفانى في العمل ويحترم النظام الى غير ذلك من عوامل الرقي الحضاري, ولكون الفكر المعتمد هو فكر مادي  فقد استغنى عن أية ثقافة روحية واعتمد على الالية المادية لدفع الانسان للالتزام بخطه والاندفاع في تحقيق غاياته, فنتيجة للتطور التكنولوجي الذي شمل كل مظاهر الحياة والأنظمة الاقتصادية المعمول بها, إنساق الانسان الغربي في تحقيق ما أكتسب من خلاله الصفة الحضارية وعاد عليه بقيم اخلاقية صحيحة, وهذا لا يعني أن نغفل الفردوس الروحي المفقود لدى الغرب والذي شكل عاملا في ضمور العنصر الروحي المكوِّن الهام في النوع الانساني, وتدهور يوشك ان يكون انفلاتا في الثوابت الاخلاقية, ونسبة الجريمة والانحراف .

 فيما اعتمدت الرسالة الاسلامية الخالصة من أي انحراف في مشروعها الاصلاحي الشامل على الانشداد الى الله في مطلقيته  واعتبار الانسان خليفة له وبالتالي فإن الحضارة التي بشّرت بها تلك الرسالة تنتج من تفاعل المادة والروح, فينهل الانسان من الله, غير الفاقد لأي عنصر من عناصر الكمال, ما يبني به حياته على الارض بعد ان اعتبر الاسلام عمارة الارض من قبل الانسان جزءا مهما في مهمته إزاء الله إضافة الى عمله للآخرة ، بل انه لم يفرق بين هذه وتلك, وجعل عمارة الارض ـ بما رسمه من ملامح حقيقية للإعمارـ أساسا للفوز بالآخرة وذلك لغنى الله المطلق عن الانسان وكل ما يتعلق به, فالوصول الى الجنة الميتافيزيقية في الاسلام وقف على سعي الانسان في خلقه الجنة على الارض.

ولما كانت النظرية بهذا المحتوى الروحي والغيبي كان التطبيق بحاجة الى جهود كبيرة في نشر الثقافة الروحية,  واعتماد الوعظ والإرشاد,  لدفع الانسان الى الالتزام بخطها وتحقيق غاياتها من خلال التأكيد على هذه المرتكز الاساس, والى حتمية المزاوجة بين موروثه العبادي  ووجوده  المادي.

وعليه فإن النهوض بواقع الشعوب الاسلامية ـ كما اعتقد ـ بحاجة ماسة الى نهضة حقيقية في الاجهزة الإعلامية ذات الخطاب المباشر مع الناس. تعمل على رسم النموذج الاسلامي الحقيقي ببث الوعي المطلوب بمتانة العلاقة بين ما هو ديني ومدني, فضرب اشارة المرور والتلكؤ  في العمل محرم كحرمة تبرج المرأة, والدين الاسلامي يجعل من الفعل العبادي كالصلاة محركا فعالا للإنسان ـ حين تنهى الانسان عن الفحشاء والمنكر ـ في تقويمه كلبنة أساسية يقوم عليها المجتمع .

 

2017/12/03

الفن والإسلام..  الحلقة الثانية:  "الفن والأخلاق" 

الاشكالية هنا قبل ان تكون مع الدين, هي اشكالية تناولها الكثيرون من المهتمين لقضايا الانسان, وتتجلى في التساؤل الشائع ( هل الفن للفن ام الفن للمجتمع؟) واذا ما فسر البعض هذا التساؤل بمستوى الخطاب الفني أي ان التعبير الفني يوجه للنخبة المدركة لماهية الفن ودلالاته ام انه ينزل الى مدركات الانسان العادي؟!

فإننا ـ رغم هذا ـ لانعدم تفسيرا تناوله المفكرون, يتعلق فيما إذا كان الفن أداة في خدمة المجتمع ام انه نشاط ينغلق على دوره في تفعيل الجمال وتوظيفه بمعزل عن اية جنبة اخرى؟

ان المنظومة التشريعية الاسلامية تعنى بشكل اساس بالفرد والمجتمع وتحصينهما وعليه فهي تتبنى الاتجاه الداعي الى خدمة المجتمع بالفن, ولاشك أن مسالة الانتصار للموقف الاسلامي بمتبناه ومحاولة البرهنة والقطع بصحة ذلك الموقف وغلبته على الطرف الخصم, يستدعي الخوض في مواضيع عدة وحسمها مثل فلسفة الاخلاق والقيم والاجتماع وغير ذلك, وهذا ما لامجال للخوض فيه ولكنني أنوّه الى نقاط هي:

 

أـ بعد أن انقسمت الآراء حول ارتباط الفن بالأخلاق الى اتجاهين لكل منهما استدلالاته ومرتكزاته الفكرية فلن يكون من الصحيح أن نعدّ الموقف الاسلامي, وقد تبنى احد ذلكما الاتجاهين, بأنه موقف متزمت  ومعيق للنشاط الفني وتفعيله للمنحى الجمالي.    

ب ـ عمليتا ممارسة العمل الفني وتلقيه ترتبط بشكل كبير بفلسفة اللذة والالم, فالموقف الاسلامي فيها هو مماشاة لخط في تلك الفلسفة كالذي تبنته المدرسة الابيقورية, رغم موقفها المتزمت من الاديان, في ضرورة تقنين اللذة وتشذيبها للحصول على المزيد من اللذة.   

ج ـ الفن هو واحد من مكونات الحضارة, وهو دافع وانعكاس في الوقت نفسه للنمط الحضاري الذي يتخذه المجتمع, وبالتالي فإن الفن المحايد للقيم الاخلاقية والدور الاجتماعي ينتعش في المجتمع المنحل اخلاقيا, كما هو الحال في الحضارة الرومانية التي شهدت حالة من الترف والبذخ أدت بها الى الانحلال الاخلاقي وبالتالي سقوطها, وهذا عين ما بيّنه ابن خلدون في تفسيره لسقوط الحضارات. وعلى ذلك يكون استلهام الغرب في عصر النهضة للفن الاغريقي بمضامينه اللا اخلاقية سبب في انبعاث المناخ المنحل اخلاقيا في اوربا ليكون بعد ذلك سببا في كل المشاكل الصحية والاجتماعية التي نتجت عن الاباحية والانحلال الخلقي, فيمكننا بهذا القول بأن فن الجسد العاري هو عامل حقيقي في ما يعانيه الانسان الاوربي من مرض الايدز مثلا.

د ـ الممارسة الفنية في حد ذاتها لم يمسها الدين بل عمل على تقنين تبعاتها على الصعيد, فالشعر الذي هو من ألصق الانواع الفنية بعصر التشريع, فتركت الشريعة الشاعر وما يريده من اسلوب للتعبير عن لواعج النفس وصولا الى الحب بل حتى الخمر والقبلة ولكن في محتوى من السمو الروحي ومن دون الهبوط الى الابتذال والانحلال واشعار الشريف الرضي شاهد على ذلك, كما منع القصيدة التي تتماشى مع الروح الجاهلية في الثأر والتباغض واثارة الفتن, وهذا بدوره ينجر الى الفنون التشكيلية والدرامية.

هـ ـ التأثير الملحوظ من الفن على الفنان في سلوكه, حيث ينسحب المحتوى الفنى المنغلق على القيمة الجمالية من دون الاخذ بالدور الاجتماعي والقيم الاخلاقية الى سلوك الفنان نفسه, وهذا ما أدى في الواقع الى شيوع حالة من العبثية والبوهيمية ومفارقة الواقع انطلاقا من قناعة في ان هذا السلوك هو جزء من ماهية الفنان نفسه.

وللحديث بقية في الحلقات القادمة..

يتبع...      

 

2017/11/23

الفن والإسلام..  الحلقة الأولى:  "الواقع الفكري"

الفن هو النتاج الروحي للإنسان والذي من خلاله يقوم الانسان بتحويل مفردات الواقع الحياتي الى أطر جمالية تحوي افكاره ورؤاه  وانطباعاته, فالمرأة في الواقع غير التي في قصائد نزار قباني، والخيول الموجودة في المزرعة غير الموجودة في لوحات فائق حسن والانسان الذي تناوله ديستويفسكي في كتاباته يختلف عن الانسان الملموس. ولما كان الاسلام هو الرسالة الالهية التي تشمل, من خلال منظومتها التشريعية, الحياة الانسانية في أدق تفاصيلها, كان ثمة مساسٍ وثيقٍ يربط الفن بالإسلام, وكان ذلك المساس أشد ما يبرز في محورين هما: 

1ـ الفن والواقع فكري      

يعدّ الفن بتفاعله مع الواقع الخارجي واحدا من اوجه النشاط الفكري للانسان, وعليه فإنه والفكر الانساني متحدان في مسارهما التاريخي وتأثرهما المشترك بالعوامل التاريخية الصانعة للمرحلة التاريخية, فالاتجاه او المدرسة الفنية هي انعكاس لما يصير اليه الواقع الفكري المتشكل من طبيعة المرحلة التاريخية.

ويتبيّن ذلك من المسار التاريخي للإنسان والذي يبدأ من واقعه البدائي المفتقر الى ابسط وسائل المعرفة والاكتشاف، فانتج فكرا وثنيا متقوما بالقوى الخارقة والاسطورة كما انتج ذلك الفكر فناً هو عبارة عن تفاعل الروح مع فكرة القوى الخارقة وكان ذلك الفن عبارة عن محاولة لبث الطمأنينة في الانسان واقتلاع خوفه الناجم من جهله وعجزه امام قوى الطبيعة حيث رسم الحيوانات المفترسة وغيرها على جدران الكهوف ومارس الرقص وكتابات الاساطير والملاحم، وكل ذلك لا ينفك عن كونه طقوسا دينية.

وفي فترة الحضارة الاغريقية بما شهدته من نهوض  فكري كبير تميّز بنقطة هامة وهي انفكاك انشطة الانسان المختلفة كالفكر والاخلاق والفن عن الغاية والغرض حتى ظهر بفعل ذلك مفهوم الفن للفن, وفي فترة الكنيسة الاوربية جيّر النشاط الفني لخدمة المسيحية والكنيسة, وحين جاء عصر النهضة بسمته الفكرية الاساسية وهي الحركة الانسية والاهتمام بالإنسان ذاتا, تحولت المدارس الفنية حينها الى ما ينسجم وذلك الواقع الفكري فظهرت الرومانسية والرومانتيكية وغيرها.

بمعنى ان المرحلتين الوثنية والكنسية قد جعلتا الفن في خدمة الدين, والاغريق والاوربيون في عصر النهضة جعلوه خاضعا لمشيئة الانسان. وصولا الى, ما بعد الحداثة, النمط الفكري الذي يشهده وقتنا الراهن وما يتميز به من تغليب اللاوعي وتعدد القراءات. حيث يطالعنا النتاج الفني المتميز بهذه المميزات, بالإضافة الى التطور التكنلوجي الحالي سيما على صعيد الحاسوب والبرامجيات والذي اظهر ما يسمى بالادب الرقمي

فيما تشكل المنظومة الاسلامية واقعا مغايرا بتعاليها على المسار التاريخي من خلال ارتباطها بالمطلق, فالفكر الذي يمثل الاسلام هو فكر ثابت مطلق لا تنتجه ارهاصات المراحل التاريخية باختلاف انماطها.

وعليه فان الفن الناتج عنه هو فن متعال على تلك الارهاصات, فلا يمكن للفن الاسلامي ان يكون عملية استجابة لجهل الانسان وخوفه من قوى الطبيعة كما لا يمكن له ان ينسجم مع مدارس فنية كالعبثية والدادائية وعموم هذا الاتجاه الناتج كردة فعل من المجتمع الانساني إزاء كارثية الحربين العالميتين.

وهذا بدوره هو ما يخلق واحدا من اهم دواعي الصدام الكائن بين الاسلام والفن الانساني. كما وان الفن لما يعتمده, في نضجه وقوة تأثيره, على مكامن الخلل والالم وحالة الصراع بين نقيضين, فإنه لا يتلاءم مع الاسلام الذي يجسد حالة المثال او اليوتيوبيا, فالفن رائع في تجسيد الالم وتصويره والاسلام عظيم في القضاء على ذلك الالم.        

وللحديث بقية في الحلقات القادمة..

يتبع...      

 

2017/11/19

النهضة الاوربية والنهضة العربية 

المنجز النهضوي الاوربي الذي نقل أوربا من عصر الظلمات الى سيادة العالم, تقوّم بشكل أساس على مسألة فصل الدين عن الدولة وحجب السلطة الدينية عن انشطة ‏الانسان على صعيد المعرفة والسلوك وإبدالها بالدولة العلمانية الحديثة, وهذا ما حدا بالنهضويين العرب, ومنذ الاحتكاك الاول للدول العربية, المنغلقة على اسلامها وماجرته عليها الامبراطورية العثمانية من حالة تخلف هائل, بالحضارة الغربية, وأعني بذلك دخول نابليون الى مصر.

سعى هؤلاء النهضويون بصنفيهم, الداعي الى إدخال الحداثة على الدين الاسلامي بدءاً بمحمد عبده والكواكبي ووصولا الى نصر ابو زيد والجابري وغيرهم أو إلغاء الوجود الديني برمته كما هو الحال عند صادق جلال العظم وغيره, ومن خلف هؤلاء المنظرين تأتي الحشود المتبرمة من واقعنا الراهن والمغرمة بالتجربة الاوربية وعلمانيتها ليصطفوا جميعا وبكل ثقة خلف فكرة يؤكدون صلاحيتها وهو ان النهضة العربية رهن بتطبيق الحداثة الاوربية والعلمانية.

لهؤلاء جميعا اقول:

1- من المحال للفكر المجرد ان يتجاوز العوامل المادية التاريخية للمجتمع ويكون مؤثرا فيه, بل ان الفكر المجرد الذي ينتجه المجتمع ناشئ عن العوامل المادية, فأوروبا احتاجت الى الف عام كي تجتمع فيها العوامل التالية:

الكنيسة تفقد سلطتها

اـ وصول الطغيان الكنسي الى ذروته وفقدان الكنيسة سلطتها الروحية, جراء فضائحها, في نفوس الجماهير المسيحية المؤمنة, ومن ثم فقدانهم الثقة بمقرراتها المعرفية وهذا ما حتّم النهوض العلمي والفكري وفي هذه المرحلة دون غيرها, فغاليلو بفكرة دوران الارض وعدم مركزيتها لم يكن من الممكن ان يظهر بمنجزه العلمي في القرن الثامن مثلا حيث كانت الكنيسة آنذاك تتمتع بمصداقية عند الشعوب الاوربية ويثقون بان ما تقوله هو الحقيقة, بمعنى ان غاليلو لو لم يفقد الثقة بالكنيسة لم يبحث عن الحقيقة في المجال العلمي. 

العلم لا الكينسة!

ب ـ رغبة الملوك الاوربيين بالتخلص من سلطة الكنيسة القاهرة, اضافة الى ما مدتهم به الحركة العلمية من دعم وقوة فحركة الملاحة والاستكشافات اضافة الى تطور الالة بما فيها السلاح الفتاك كل هذا دفع الملوك الى دعم الحركة العلمية والفكرية المتملصة من سلطة الكنيسة.

ج ـ التطور الاقتصادي والازدهار الذي عاشته اوروبا من جراء تطور الملاحة حيث ازدهرت التجارة اضافة الى المستكشفات الجغرافية مثل قارة امريكا, فالأوروبي حين كان يعيش مزارعا فقيرا اندفع نحو الحلم الوردي الذي ترسمه الكنيسة فيما بعد الموت, اما حين انتقل للعمل في الموانئ البحرية وتحسن مستواه صار يصغي الى مقررات العلم التي من شأنها تطور الية العمل التي بدورها تحسن من مستواه 

ومع مقارنة واقعنا العربي المعاصر فيما بعد سقوط الدولة العثمانية مع اوروبا ضمن هذه العوامل نجد ما يلي:

اـ ان المراكز الدينية الاسلامية متمثلة ـ مثلا ـ بالأزهر الشريف لدى السنة والحوزة العلمية في النجف لدى الشيعة لم تمارس سلطة دنيوية تتغلغل بكل تفاصيل الحياة اليومية للمسلم ولم تمثل وجودا سياسيا محميا بفيالق من الفرسان ولم يتعهدوا للناس بحقائق معرفية على كل الأصعدة، ولم يمارسوا تعسفا كالذي مارسته الكنيسة في التنكيل والتعذيب البشع في محاكم التفتيش او منعها للطب، وان على الانسان ان يعالج نفسه بالإيمان.. وبهذا، فان العالم والمكتشف العربي لم تكن مشكلته مع السلطة الدينية بل مع جهة سياسية.

ب ـ الحكام العرب لم يكونوا سوى بيادق مكنتهم القوى الاستعمارية من تولي مناصب الحكم, فكانت علاقة الحكام بالمراكز الدينية إما على اساس التعايش السلمي او تسخيرها لدعم سلطته.

ج ـ الاستقلال الذي حصلت عليه الدول العربية من الاستعمار كان استقلالا شكليا وبالتالي فالنمو والتطور على اي صعيد كان شكليا, فطالما كانت حصة بريطانيا من نفط العراق والخليج خطا احمر لا يمكن المساس به إضافة الى ما يجعله الحاكم العربي ملكا له من ثروات البلاد, وبالتالي فان مستوى الفرد على الصعيد الاقتصادي كان محدودا بحدود ما هو مرسوم لدولته, سواء دعم الاتجاه العلمي وانسلخ عن الدين او لم يفعل.

2- التنظير الحداثوي العربي ـ بغض النظر عن صوابه او خطئه او قدرته الحقيقة على استنقاذ الوضع العربي ـ ولكن تبقى عملية التبشير بان خطوات الاصلاح تتم عن طريق الضخ الاعلامي والتثقيفي بضرورة الاخذ به هي عملية بعيدة عن الواقع, فمثلا ما نظّر به لوك وفولتير وكانت وغيرهم، ما كان له ان يؤثر بالمجتمع لولا العوامل التاريخية التي تحكمت بأوروبا في القرون 17 الى 19, وعليه فان المجتمع العربي بحاجة الى تراكم تاريخي مماثل يصل بنا الى الاخذ بما تطرحه مدارس الحداثة, وكمثال آخر فان عملية تكفير الازهر في مصر للمفكر نصر حامد ابو زيد وبالتالي هجرته الى هولندا لا تحمل في طياتها سمات التخلف او غير ذلك, بقدر ماهي مماثلة اللحظة التاريخية لعلمية التكفير من حيث العوامل التاريخية للحظة تكفير الكنيسة لغاليلو وبالتالي رجوعه عما قاله.

 وعليه فان المجتمع العربي يحتاج الى سيرورة مماثلة لما تم في اوروبا منذ محاكمة غاليلو حتى ترسيخ العلمانية بشكل نهائي, كي يتم الاخذ بما قاله نصر ابو زيد, وهذا ما لن يتم لاختلاف العوامل المادية التاريخية كما بينّت.

3- هيمنة القوى العالمية على الدول العربية وهذا يقودنا الى الحديث بأمرين: 

الاول ما يسمى بنظرية المؤامرة التي يطيب للكثيرين تفنيدها, واني وان كنت لا أحبذ استخدام هذه العبارة بقدر الاعتماد على الواقع الملوس الخارج عن اي تنظير, فحين اجد حربا استمرت لثماني سنوات وادت الى تدمير العراق بشكل كبير واجد امريكا مسؤولة عن اشعال هذه الحرب وديمومتها فهل عليّ ان اغمض عيني واردد ان نظرية المؤامرة باطلة ؟!! ثم فليقرأ من يريد ان يقرا كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بركنز وامريكا طليعة الانحطاط لغارودي وعشرات من الكتب المماثلة وله بعد ذلك ان يردد ما يشاء ولي أن اؤمن بما جاء فيها.

الثاني هو التسليم بشرور الغرب ومن ثم تقديم نظرية مفادها ان تحكّم القوي بالضعيف هو قانون الحياة فعلى مجتمعاتنا ان تنهض الى مستوى يجعلها عصية على هيمنة القوى العظمى وليس ان نجعل قوة الغرب شماعة نعلق عليها تكاسلنا وهنا نكون امام امرين:

الاول: العلماني لم يقدم غير التنظير وذم الطرف الاخر دون اية خطوة ملموسة في هذا المضمار واذا اعتذر بعدم امتلاكه الوسيلة التي تمكنه فان لأي طرف آخر التعذر بنفس العذر.

الثاني: اعود الى قضية العوامل المادية التاريخية وحتميتها, فكي تجعل العراق دولة قادرة على مناهضة امريكا عليك ان تهبه تاريخا كتاريخ الولايات الامريكية بدءا بهجرة الانكليز اليها بارضها البكر ومناجمها الغنية ومن ثم إفناء 150مليون هندي احمر الى انهاء الحرب العالمية الثانية عن طريق القنبلة النووية وخروج امريكا من الحرب وهي الدولة الوحيدة التي لم تفقد قواها الاقتصادية والعسكرية.

4- لست ضد الدعوة للإصلاح والنهوض ولكني ضد:

اـ اعتماد التنظير الفلسفي وغض النظر على حتمية العوامل المادية وان عملية النهوض هي معركة شرسة مع قوى تهدف الى التحكم بالعالم وباستغلال خيراته اكثر مما هي اشكالية مع الدين وان العقل العربي يعتمد على مقررات من القرن الرابع وان النص الديني داخل او خارج عن التاريخ 

ب ـ التصور الخاطئ بان النموذج الاوربي هو المقتدى الصالح حيث ان النموذج الاوربي يعاني من خلل كبير على الصعيدين الفكري والسياسي فعلى صعيد الفكر كان من ثمار العلمانية ازدهار الفكر الالحادي المادي للطبيعة والاخلاق نتج عن ذلك فكرة التفوق العرقي التي كانت ركيزة اساس في خلق النازية التي احرقت اوروبا. 

وعلى صعيد السياسة فما ان تلقفت الدول الغربية تطورها في عصر النهضة حتى ساحت جيوشها في الارض تنذر شعوبها بالويل والثبور, وحتى يومنا هذا فان الغرب يدين برفاهيته وتقدمه الى استغلال الامم المغلوب على امرها.

ج ـ ان يكون الفكر العلماني او الحداثة الغربية هي بالضرورة المبضع الذي يستأصل من مجتمعاتنا واقعها المزري او ان الدين هو العائق, فدول امريكا الجنوبية لا دينية ومتخلفة, ودول الخليج العربي لم تجر ان تغيير في ثقافتها الدينية حين شهدت تطورات حضارية كبيرة. 

5- على صعيد التنظير في الساحة العربية والاسلامية الى جنب التنظير العلماني تطالعنا جهود ناضجة ومهمة في التنظير لحداثة معزولة عن حداثة الغرب وتستمد تنظيراتها من وحي الاسلام كما هو الحال عند الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن او هاني ادريس.

 

2017/11/18

العلمانية والدين.. قواسم مشتركة

المقدس أو القداسة واحدة من أهم مفردات الجدل الدائر بين العلمانية والدين أو تكاد هذه المفردة أن تكون هي الحجر الأساس الذي يقوم عليه كلا الاتجاهين الفكريين، فالتكوين الديني مبني على وجود نص علوي مطلق يرقى في ثرائه الفكري على الحدود البشرية, وفي الفارق بين مطلقية النص ونسبية الإنسان تكمن حكمة التشريع وضرورة الانقياد، فيما تنطلق العلمانية معلنة الثورة على كل ما يمكن أن يكون حدودا يعيق التفكير البشري لتجعل بعد ذلك من الواقع حَكَما أوحَدا في صلاحية الحكم أو القانون، وتجعل من إصلاح الواقع الغاية الأهم للمشروع الفكري بشكل عام.

مقدسات جديدة!

لو تأملنا تاريخ الصراع لوجدنا أن العلمانية إنما ثارت على مقدسات الدين ونصوصه الثابتة وحسب, ناسية أنها قد شكلت لها من شخوصها وخطوطها الفكرية العامة مقدسات جديدة راحت تذود عن ساحتها، فالنقطة الأساس التي اعتبرتها العلمانية قصورا في الدين هي تعامُله مع الواقع على ما يحدده له المقدس من مسار وادّعت أنها سدت ذلك القصور, في حين أنها لم تفعل شيئا والواقع المسكين ظل كما هو.

على سبيل المثال فقد قدست العلمانية ـ خصوصا في الغرب ـ الحرية الشخصية في الفكر والسلوك وحرمت الثوابت المقسَرة كالقيم الأخلاقية وغيرها وحين اجتاحت الواقع الغربي تلك الأرقام المخيفة لضحايا الأمراض الجنسية وعلى رأسها الايدز، لم تمس مقدسَها وتعاملت بما يفرضه عليها مع الواقع, وراحت تبحث في أروقة الطب عن العلاج مستنزفة المال والوقت ورصيدُ الضحايا يّطّرد أثناء ذلك إلى مالا يعلمه إلا الله، وهي تعلم أن الحل الناجع يكمن في تقنين العلاقة بين الرجل والمرأة.

إن الحرية الشخصية تحولت الى طوطم مقدس فلا أجد في هذا المثال اختلافا يذكر عن مشهد يحدث الآن في مجتمع كالهند، حيث يفتك الطاعون بالملايين لأن في مقدسهم عدم التعرض للقوارض.  

ومن جهة أخرى فقد ذكر الفيلسوف المدرسي المعروف الأب أوغسطين في منهجه في الإيمان أن على الإنسان أن يعقل ليؤمن ثم يؤمن ليعقل وليس في هذا المنهج ما هو مقتصر على الفكر الديني دون الوضعي بشيء .. فالتعقل في الايمان كما يرى أوغسطين يتمثل بإتّباع الأنبياء والصديقين بعد البرهنة على مصداقيتهم وهذا ما هو كائن في أي اتجاه وضعي أيضا فالمجتمعات التي تدين بالنظريات الوضعية إنما تسلم شعوبها بمقررات تلك النظريات من خلال الايمان بأهلية بُناتها من الفلاسفة والمفكرين من دون استيعاب تلك الشعوب لمفردات النظرية , وربما قيل أنها العبقرية التي تختلف عن الغيب, ولكن المناط يبقى هو الواقع الذي سيحدد لي عبقرية ماركس في حتمية  تولد المجتمع الاشتراكي من الرأسمالي،  ويحدد مصداقية محمد (ص) الذي يقول قرآنه قبل أربعة عشر قرنا: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} المؤمنون 14 .  

وربما عابت العلمانية على الدين تجّارَه واستغلالهم الغيب كمناخ خصب للأباطيل وما لا  يخضع للعلم وهي في هذا تشترك مع الدين أيضا, فالعلمانية حين قامت دولتها بفعل النهضة الأوربية كانت الرأسمالية واحدة من نتائجها, باقتصادها الحر أو كما يعبر عنه بالليبرالية الاقتصادية التي انطلقت في حريتها المفرطة في سبيل الهدف الأوحد المتمثل بالربح المادي إلى إطلاق العنان للوسائل الإعلانية والدعاية بعد أن أولتهما أهمية كبرى ويطالعنا التاريخ بما جناه رجال الاقتصاد  في سبيل الدعاية والترويج لمنتجاتهم  على الثوابت الاجتماعية وحقائق العلم . إذن فتجار الدين وتجار الاقتصاد على السواء في العبث بمقررات العلم ودلائل الخير .

وبالنسبة للسلطة ومستلزماتها فليس في تاريخ الدين ما ليس في حاضر العلمانية, فعلى مثال الايدز نفسه لماذا لا تقر السلطات الغربية بضرورة التقنين في علاقة الرجل بالمرأة عملا بالقاعدة التي لا يشذ واحد من سكان هذا الكوكب عن الإيمان بها في أن الوقاية خير من العلاج، ولماذا لا تعمل على نشر ثقافة التقنين للتخلص من الوباء كما تنشر الثقافة الصحية والمعقمات للتخلص من الفايروسات المرضية.

ربما لا نجد لذلك سببا إلا لان في ذلك إقرارا بتفوق الإسلام  بتشريعه المعتمد قبل أربعة عشر قرنا على حل ما أخفقت به الآلة العلمانية المتطورة، ولاسيما أن العلمانية تعتمد في حملتها الدعائية لتصويب آرائها إلى حد كبير على القدرة الذاتية في المعاصرة والحداثة والعجز الذاتي للتراث, إضافة إلى أن الاختلاط المفتوح بين الرجل والمرأة الذي ربما كان من ابرز مظاهر الحرية الشخصية هو الأقدر على تعزيز الروح المادية وعليه فإن نشر ثقافة التقنين  بما يستتبعها من شيوع المناخ الروحي  يؤدي إلى صورة إن تحققت فهو الإسلام الذي تقضي الاستراتيجية الأمريكية في وقتنا الراهن أن تعمم فكرة افتقاده القدرة على مواكبة العصرنة والحداثة وتجعل من تلك الفكرة الحقيقة المطلقة فيجب عزله كحضارة إنسانية ليتوحد العالم تحت لواء الليبرالية والحداثة الأمريكية . 

إن سلطات العلمانية في الغرب اليوم تمارس نفس الدور الذي مارسته الكنيسة في طمس الحراك العلمي بغية الحفاظ على سلطتها ومصالحها الاستراتيجية. 

 

2017/11/14

لا يمكن للتطرف أن يكون دينا أو دولة

تعتمد السلفية في مضمونها الأيدلوجي على حصانة التراث المتمثل بالرسول الأعظم (ص) وصحابته والطبقة اللاحقة لهم بما يعبر عنها بالتابعين وما أنتجوه وأنتجه الإسلام من حضارة خلال القرنين الأول والثاني الهجري, ورفض كل ما يتسم بالتجديد والحداثة على اعتبار أنه خروج على الدين ومروق عنه, وعلى الواقع المعاصر أن يحشر كل أبعاده وإرهاصاته في قالب ذلك التراث, متغافلة عن أن المكوّن الأهم في تليدها المقدس, وهو القران الكريم, إنما عبّر في تكوينه الذاتي عن ضرورة الاستجابة لمتطلبات الواقع المخاطَب, حيث كان نصا بلاغيا اعتمدته الرسالة الإسلامية في البرهنة على صدقها الغيبي والإسفار عن مفردات مشروعها الإصلاحي, حين خاطبت أبناء الجزيرة العربية بما امتازوا به من فصاحة وشعر وأدب, ولم تتخذ المعجز الكوني الذي طالما ركنت إليه الرسالات السابقة, واتَباع القران الكريم وسائل تدريجية كالناسخ والمنسوخ إلى أمثلة لا تحصى, تدلل على ان الإسلام بكتابه ونبيه (ص) وإن تنزّل من علو مطلق إلا انه امتنع عن الانغلاق والاستبداد, بالإضافة إلى ما نجده جليا من روح الإبداع والمواكبة الذي تخلل القرنين الأول والثاني ابتداء من الخلافة الراشدة ووصولا لأئمة المذاهب في معطيات أبناء هذين القرنين على الصعيدين الفكري والفقهي . 

السلفية.. إخفاق!

وإذا أجابت السلفية أن هذا كله يصب في دائرة التراث وعلينا أن نتعامل معه ككل مركب, فقد أخفقت في البرهنة على ضرورة هذا التحديد الزمني, وهي لمّا ألغت العصمة فقد جعلت حل المشكِل المتغير رهنا بآليات الفهم الإنساني وكفاءته الإبداعية, وهنا فمن المستحيل أن نجعل لهذين القرنين ما ليس لغيرهما من القرون من احتمالية توافر طاقات في الفهم والإبداع علاوة على ما للمسار الزمني من قابليات متماثلة في إفراز المشكلات الحياتية من عصر النبوة إلى نهاية تلكما القرنين والى زمننا الحاضر . 

لهذا فقد جاء موقفها المتزمت مع الآخر والقائم على الصدام والإلغاء نتيجة طبيعية لذلك الجدب المنطقي من جهة وعصمة مقرراتها الفكرية حسب منظورها من جهة أخرى. لتخرج لنا في النهاية بما يشهده العالم اليوم من صفحات الإرهاب والعنف متخذة من الجهاد الذي قال به الإسلام مادةً أساس تصنع منه بكيفياتها الفقهية ذريعة لشرعيته, وبمعزل عما يمكن أن يصلح من الطرح السلفي لحوار فقهي وعن الخلفية السياسية وأبعاد اللعبة الدولية التي شكلت جزءا مهما منه حيث سارعت ـ الخلفية السياسية ـ إلى وضع هذه الفئة ونتاجها الإرهابي في ما يتطلبه مخططها السياسي العام؛ فإن السلفية بمحتواها الأيدلوجي ونشاطها الجهادي (الإرهابي) تزعم إنما تعمل لإحياء الدولة الإسلامية التي شيد أركانها السلف الصالح.

من يقوّم الدولة؟

ولابد هنا لهذا الإحياء من خلف يماثل أولئك الصالحين ليكون القيادة التي تقوم عليها الدولة المقصودة ثم قاعدة تتقوّم بها تلك الدولة, فإن زعمت السلفية أنها أوجدت بدعاتها وزعمائها القيادة المفروضة فماذا عن القاعدة؟! 

وهي بدليل كفاحها المسلح ـ وقد أوشك أن يكون حديث الساعة ـ لن تكتفي السلفية بجزء من هذا الكوكب لتقيم عليه دولتها بالقيادة المزعومة والقاعدة التي يشكلها أتباعها اليوم والمنضوون تحت لوائها, إذن فهو الآخر, وفيما يتعلق بعملية جذبه للانخراط في دولتها فهي بعد أن ألقت بالدعوة الحسنة والحوار الفكري المفتوح جانبا من جهة, وتحديدها للآخر لا على أساس النشاط المضاد بل على أساس الهوية المذهبية المغايرة من جهة أخرى, فإنها إما أن تواصل كفاحها الارهابي الى إفناء هذا الاخر, او رضوخه واستسلامه والدخول عنوة في دولتها, وبالنسبة للأول فان حسابات التفوق العددي والعسكري يجعل منه امرا مستحيلا وغير متصوَر وتبعا لذلك الثاني, ولو سلمنا جدلا به (الثاني) وقامت تلك الدولة على التبعية القسرية من الآخر, فانه الاستبداد حينئذ لاسيما بعد الذي يبديه السلفيون ـ في واقع اليوم من أفراط في الانكماش عن مظاهر التجديد حتى ليصل بهم الحال إلى بعض المنجز التكنلوجي, ولا أظن أن أئمة الحزب السلفي قد نسوا قضية الشورى التي قامت على أساسها الخلافة الراشده وهم يعدونها واحدا من أهم دلائل عظمة تراثهم بما تعبر عنه من روح الديمقراطية والحرية .

وإن رجعنا الى ذريعة الكل المركب المفروضة على العقل والوجدان فإنها غير قادرة على دفع الآخر الى حظيرة الإيمان ولابد أن الاخر سيلقي باستسلامه جانبا ويثور شأنه شان كل الشعوب المضطهدة في سبيل حريتها, وتستأنف السلفية حينئذ فتاوى التكفير وإقامة الحد كحلقة مفرغة, ولابد من الإشارة الى أن احتمالات ما بعد اقامة الدولة, تبعا (للثاني) قد سلمنا به جدلا.

 

2017/11/11

الملبس.. إشكالية فكرية

حين ارتدى الانسان اللباس في فجره الأول هل كان ذلك استجابة لفطرة ذاتية فيه ومظهراً لرقي حضاري؟ لتعدّ بعدها أية عملية تعرٍ هي بمثابة انتكاسة حضارية ورجوع منه الى الهمجية والبربرية وصفة الانسان البدائي؟!!

أم أنه مجرد تطور في الجنبة المدنية للحضارة قائم على الاساس المنفعي شأنها شأن الفأس والمحراث، فهو قد ارتدى اللباس لمّا وجده يقيه من البرد ويحفظ جسده من عوامل خارجية؟!

أو ان الامر لا يتجاوز حدود الجانب السلوكي، مثله مثل تطور الانسان في طريقة الطعام مثلاً، والتي انتقل فيها من الالتهام تماما كما يفعل الحيوان الى الجلوس ووضع الطعام على المائدة واستخدام الاواني والملاعق، فيكون النفور المتولد من عملية العري هو كالنفور المتولد من طريقة تناول بدائية للطعام؟

وهذا يقودنا الى اشكالية مازالت موجودة حتى يومنا هذا، وهي علاقة الاخلاق بالملبس وهل الانسان سيما المرأة غير قادرة على التحلي بالأخلاق إلا باللباس المحتشم؟

او كما يعبر البعض من أن الفضيلة هي في نضج الوعي والذات والتفكير وليس في قطعة قماش.

\\

إن هذه الاشكالية بكل تساؤلاتها غير قابلة للحسم، ومن الخطأ الفادح ما يقوم به طرفا الصراع من محاولات ساعية الى البرهنة على نتيجة قاطعة. وذلك لضرورة أن نحدد ـ في بدء النزاع ـ منظورنا الى الجسد الانساني.

هل هو الجسد الدارويني، او بالمنظور الدارويني، وحينها لن يتجاوز حدود التكوين المادي البايلوجي والتفاعلات الكيمياوية؟ ام هو الجسد المعبأ بالروح؟

 إن إنكار الغيب لا يؤدي بالإنسان الى مجرد انكار الله او الالحاد فحسب، بل الى نتائج شاملة على كل اصعدة الحياة كالأخلاق والسلوك وغيرها.

وعليه فإننا إزاء ما يشبه البنية التحتية المتمثلة بالغيب والروح والبنية الفوقية المتمثلة بالأخلاق والسلوك والجسد، ولن تحسم أية قضية في البنية الفوقية مالم تحسم قضية البنية التحتية، وسيظل الشخص المؤيد للعري أو الراضي به متمسكا برأيه  مادام هو متمسك بمادية الجسد والأخلاق، وتظل محاولات المعارض للتعري بمثابة إقحام لشعوره بالروح، ولكنه بالمقابل فإن على المؤيد أن يكف عن دعواه بأن الفضيلة هي في نضج الوعي والذات والتفكير وليس في قطعة قماش،  إذ هو لا يتحدث عن الفضيلة  بمفهومها المطلق بل هي الفضيلة المحدودة بحدود منظومته المادية.

\\

إن المرأة الغربية حين تذهب لأداء فعل من صميم الممارسة الروحية وهو الصلاة فإنها تجد في وجدانها ضرورة لابد منها وهي ارتداء الثوب المحتشم لأداء ذلك الفعل، واما التي تظهر بملبس شبه عار فأنها عادة ما تكون في منأى عن موضوع الروح، والاخلاق الحسنة التي تمارسها إنما تقوم على اساس الاخلاق المادية.

رغم هذا فإن المؤيد والمعارض للعري بل النوع الانساني برمته يؤمن بأن ثمة حدود حين يتجاوزها سيكون حينئذ في منطقة الرذيلة وان واحدا من تجليات هذه المنطقة

هو الملبس فالشعوب الغربية مهما اختلفت في الحد الذي تتعارف عليه لما يظهر من الجسد سيما المرأة فإنها تصل في النهاية الى حد من تظهر به فإنها ساقطة وتمتهن الابتذال.

وعليه فإننا نصل بالمؤيد للعري او الراضي به والذي يدور في المدار المادي بأن العري والابتذال في اتجاه واحد.

2017/11/06

كان الناس أمة واحدة.. هل أوجد الإختلاف البشري الدين؟!

قال تعالى: {كانَ النّاس أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَث اللّهُ النّبِيِّينَ مُبَشرِينَ وَ مُنذِرِينَ وَ أَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَب بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَينَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَف فِيهِ إِلا الّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَات بَغْيَا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ يَهْدِى مَن يَشاءُ إِلى صِرَطٍ مّستَقِيمٍ}(1).

\\

تُبين الآية الكريمة السبب الرئيس في تشريع أصل الدين والعلة في تكليف الإنسان، وهو وقوع الاختلاف بين أفراده، فتقرر ان الإنسان كان أمة واحدة اي مجموعة واحدة متجانسة مؤتلفة حتى حصل الاختلاف بين افرادها لتنازعهم في تحصيل المزايا في هذه الحياة، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة بأرسال الرسل مبشرين ومنذرين فسمى القوانين الموضوعة بالدين تسمية للشيء باسم لازمه وهو الجزاء، فقد شفع هذا الدين بالتبشير والإنذار: بالثواب والعقاب، وأعان العبد على تطبيقها بالعبادات المختلفة.

ثم بعد ذلك حصل اختلاف ثان في فهم هذه القوانين الشرعية (الدين) وتفسيرها، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، وظهرت الشعوب والأحزاب، وقد بيّن تعالى سبب الاختلاف ايضاً بانه البغي والظلم من بعض الذين اوتوا الكتاب بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدنيا وهو أمر تقتضيه الفطرة الحاثة على تحصيل مزايا هذه الحياة الدنيا وهو السبب لتشريع الدين، واختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم.

فالقرآن الكريم يقرر ان الاختلاف من ضرورات خلقة الإنسان، لذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}(2)، وقال ايضاً: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(3)، فسعيه لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة جعله يحاول ان يُسخر كل ما حوله وكل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، وبعبارة أخرى إعتقاده بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه، ويستبقي حياته بأي سبب أمكن جعله يأخذ في التصرف في المادة، ويعمل الآلات منها ، فيصنع السكين للقطع، والإبرة للخياطة، والإناء لحبس المائعات، والسلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.

\\

وبذلك يأخذ الإنسان أيضاً في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك، وبذلك يستخدم أيضا أنواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون أن يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام ممكن، ويتصرف في وجودها وأفعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا ريب فيه. 

غير أن الإنسان لما وجد سائر الأفراد من نوعه، وهم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، نازعهم فيه وشاجرهم عليه، فالدار دار تزاحم والمزايا محدودة.

ولذلك كلما قوي إنسان على آخر استضعفه وسخره لخدمته، فلا يراعي القوي حق الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الأمم القوية، وعلى ذلك جرى التاريخ أيضاً إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية. 

وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كل ذي حق حقه، وتحميلها الناس.

----------

(1)  البقرة: 213.

(2)  هود: 118.

(3)  يونس: 19.

 

2017/11/04

المعاد يحدد حاجة الإنسان.. للدين أم للقانون؟!

اذا كانت الحاجة الى الدين تتمثل برفع الاختلاف بين البشر، فإنها سوف ترتفع بقانون يتفقون عليه، وعند ذلك  لايوجد مبرر لبعث الأنبياء والرسل والوعد والوعيد والجنة والنار!!

ولكن، القوانين البشرية لو سلمنا بانها تضمن العدل الاجتماعي، فإنها وضعت لمراعاة مصالحهم في هذه النشأة دون غيرها، فلم يراع فيها كون هذا الإنسان موجوداً مخلوقاً لله تعالى متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده وسيعود إليه، إذ للإنسان حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الحالية، وهي حياة طويلة غير منقطعة الأمد، ومرتبة على مسيرته في هذه الحياة الدنيوية، وكيفية سلوكه فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبداً لله سبحانه، بادئاً منه عائداً إليه. فإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الأمر؛ فقد أهلك نفسه وأباد حقيقته.

طريقان لسن القوانين

ثم ان المتتبع لتاريخ الحضارات يجد انها سلكت طريقين في سنها للقوانين المصلحة للاجتماع وحمل الناس على طاعتها، وكلاهما لم يراع حقيقة الإنسان المتقدمة ونشأته الأخرى: 

 الأول: تقنين انظمة تنظم حياة أفراد المجتمع فيما بينهم مع الغاء المعارف الدينية من التوحيد والأخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولا مرعي،  وجعل سلوك الأفراد وأخلاقهم تابعة للاجتماع وتحوله، فما وافق حال وتوجهات المجتمع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوماً العفة، ويوماً الخلاعة، ويوماً الصدق، ويوماً الكذب، ويوماً الأمانة، ويوماً الخيانة، وهكذا مما بنته الحضارة الغربية على انقاض النسبية في الحقيقة والأخلاق.

ثم أن هذه الأنظمة أجبرت مجتمعاتها على طاعة القوانين الموضوعة من خلال القهر والإجبار.

والثاني: سن نظام اجتماعي ينشد العدل والمساواة، مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية ايضاً، ودعوة الناس الى طاعة القوانين من خلال تربية المجتمع على ما يناسبها من الأخلاق واحترامها، كما فعلت بعض الشعوب الشرقية من خلال ما يعرف بالكونفوشيوسية. 

فهذان الطريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الأمة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الإنسان فقط، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد بسبب عدم مراعاة نشأة الإنسان الآخرة، مبنيان على أساس الجهل بملاك التفاوت بين الأفراد في توزيع الحقوق والواجبات، وحال الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السفر، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبثوا حتى اخذوا في الاختلاف: من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.

فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الزاد والأمتعة، والتمتع على حسب الوزن الاجتماعي لكل فرد من افراد القافلة، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.

وقال آخر كمقالة الأول في ضرورة الاشتراك في الانتفاع بهذه الأمتعة الموجودة، وتناسي انهم على سفر وعليهم اتخاذ ما يناسبه من زاد وراحلة، الا انه اختلف معه في طريق حمل الناس على الالتزام بالقانون، وملاك توزيع الموارد فلابد ان توزع على أساس الشخصيات الموجودة التي  جاءوا بها من بلدهم الذي خرجوا منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطف والشهامة والفضيلة.

وقد أخطأ القائلان جميعاً، وسهيا عن أن القافلة جميعاً على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئاً من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغي والهلاك.

ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (1)، فإنهم إنما كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأن القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية: من العبادات والمعاملات والسياسات.

المعاد والحياة

وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، واتباع أحكامه في الحياة، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والأعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها. 

والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، وخذوا من ذلك زاداً لما هو أمامكم من الطريق، وما أريد منكم في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم.

ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعاً ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والأفعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وأنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: {...إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(2)، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ...} الآية، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم.

والخلاصة ان الاختلاف فطري بين افراد البشر وهذا هو السبب في انزال الكتب والتكليف بالشرائع.

--------

1- الجاثية: 24.

2-  يوسف: 40.

 

 

2017/11/05