فكر وثقافة
من يقف وراء العنف في العالم؟

هناك نوعان من العنف:

1 - العنف المادي (وهو استعمال القوة لإرغام العدو) فقد يكون تعدّياً وظلماً، كما قد يكون تهديدا أو استعمالا للقوة في ايقاف العدو الظالم عند حدّه، كما قد يكون، انتقاماً منه لكسر شوكته أو تدميره بعيداً عن الأخلاق .

2 - العنف غير المادي « وهو عبارة عن تزييف الحقائق وإفساد المعرفة الانسانية، والحيلولة دون تطبيق الحقوق والواجبات في العلاقات بين البشر » .

موقف الاسلام من العنف :

الاسلام يقول : إن في كل انسان استعداد لعمل الخير والشر، والله خلق الانسان وخلق له عقلا يدبر به أموره ويميّز بين الخير والشر، وقد دعا الاسلام إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون والتسامح، كما أن الأديان السماوية هدفها واحد، وهو التوحيد وعبادة الله وهي حلقات متصلة لهداية البشر، إلاّ أن الدين الاسلامي الذي هو آخر الأديان أشمل من الأديان السابقة عليه وأكمل، ولذا أقرّ الاسلام التعددية الدينية والثقافية ما دامت متصلة بالتوحيد، ولم يكره الاسلام أحداً لاعتناق الاسلام كما قال : (لاَ اِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ) وقال (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) في أوج قوته وعظمته .

ومن هذا كله نعرف أن استعمال القوة لارغام غير المسلم على اتباع الاسلام بحيث يكون ظالماً متعدّياً، أمر لا يقرّه الاسلام . أما صدّ العدو عن ظلمه وايقافه عند حدّه - وهو ما نسمّيه العنف المضاد - فهو أمر جائز بل ممدوح أيضاً لأنه يوقف التعدّي عند حدّه ويرفع الظلم والقهر أو يدافع عن النفس .

وأما تزييف الحقيقة وإفساد المعرفة والحيلولة دون تطبيق الحقوق والواجبات فهو أمر مرفوض اسلامياً لأنه خيانة وظلم للانسان الذي أراد الله له الهداية والتكريم .

من يقف وراء العنف في العالم ؟

إن الذي يقف وراء العنف في العالم عدّة أمور :

الأول : الثقافة والتربية والبيئة والعلاقات الاجتماعية والسياسية، فإنها تلعب دوراً مهماً في جعل بعض الافراد أو حتى الشعوب أكثر ميلا إلى استعمال العنف من غيرهم، ففي أمريكا مثلا ترتفع معدلات الجريمة بخلافها في السويد . فمثلا إذا كانت الثقافة والتربية هي افشاء العصبية والطائفية والعنصرية ازداد العنف في المجتمع ضد الآخر، أما إذا كانت الثقافة هي التسامح والتعاون ونبذ العصبية والطائفية والعنصرية قلّ العنف ضدّ الآخر .

الثاني : استبداد السلطات، والقمع المفرط في العقاب وانعدام احترام الرأي الآخر، فقد تعمد السلطة إلى العنف عندما تبرر العنف والقمع باصدار القوانين والتشريعات ضدّ الآخرين .

الثالث : الشعور بالاحباط الذي ينشأ من الصدمة الناتجة عن عدم تحقق الآمال والتطلعات والأهداف . فعندما يواجه شعب بالإبادة وعدم احترام الحقوق والتوهين وتهتك حقوق الانسان ليل نهار، يتوجه إلى العنف كطريق وحيد للمحافظة على حقوقه وعزّته .

العنف المقنع:

وهو ما يعرف بالعنف الاجتماعي أو المسكوت عنه الذي ينمو ويشب عند غياب الوعي الاجتماعي وغياب السلوك العقلاني وفقدان الحرية والعدالة، ويتمثل في الكراهية للآخرين والسيطرة على الضعفاء، والاتهامات الباطلة، والاعتداء على الاعراض جنسياً واضطهاد الأطفال والمعوقين وتخريب الممتلكات العامة والخاصة والاعتداء على الحيوان وقطع الزرع وتخريب البيئة والضوضاء والصخب وتعليم الأطفال النزاع والصراع عن طريق وسائل الاعلام والأفلام البوليسية وأمثال هذه الأمور التي لا يقرّها عقل ولا شرع .

2020/07/14

لماذا الخوف من التعاون؟

تنويه: يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

من عوائق التقارب والتعاون محورية العواطف والأحاسيس في نظرة الأطراف إلى بعضها، لقد تجاوز الأوربيون آثار حربين عالميتين حصلت فيما بينهم خلال نصف قرن من الزمن، الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، والحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، وقد سببت الحرب العالمية الأولى دماراً كبيراً، إذ مات نحو 10 ملايين جندي نتيجة الحرب، وجرح نحو 21 مليون رجل، ولا أحد يعرف كم عدد المدنيين الذين ماتوا من المرض والجوع والأسباب الأخرى المتعلقة بالحرب، ويعتقد بعض المؤرخين أن عدد المدنيين الذين ماتوا كان يساوي عدد الموتى من الجنود 10 ملايين. أما الخسائر الاقتصادية فتقدر بنحو 337 بليون دولار أمريكي، عدا الآثار السياسية والاجتماعية.

أما الحرب العالمية الثانية فيزيد عدد ضحاياها من الجنود على 30 مليوناً وقد يصل العدد من الضحايا المدنيين إلى ضعف ذلك..1.

لكنهم تجاوزوا كل تلك الآثار، وصاروا يتعاونون كحكومات وشعوب وجماعات ومؤسسات، يتحدثون عن تلك الحروب كتاريخ مضى، ويخلدون أحداثها ضمن المتاحف والمعارض، دون أن يوظفوها في تعبئة الانفعالات، وإثارة الكراهية والبغضاء.

لكننا مازلنا نعيش آثار معارك التاريخ الغابر لأمتنا، ونحمّل بعضنا بعضاً نتائج ما حصل بين الأسلاف، وبدل أن نأخذ من التاريخ دروسه، ونستفيد من عبره، أصبحنا أسارى لانفعالات وقائعه وأحداثه، لتذكي بيننا مختلف ألوان الصراعات المذهبية والقومية والسياسية والإقليمية والقبلية.

وحتى على المستوى العائلي يتوارث الأبناء صراعات آبائهم وأجدادهم لتبقى الأرحام مقطوعة، والعلاقات متشنجة.

إننا بحاجة إلى إثارة عقولنا وترويض عواطفنا وانفعالاتنا، لندرك أن مصلحتنا في التعاون والتقارب.

ولعل من أسوأ عوائق الوحدة والتعاون في ساحة الأمة، ما يسميه البعض التزاماً شرعياً مبدئياً يمنعه من الاقتراب من الآخر المخالف له في الرأي، والمشاركة معه في أي مشروع، لأنه يعتبر الآخر مبتدعاً ضالاً، يأمر الشرع بهجره ومقاطعته، بل ومحاربته، وبغض النظر عن خطأ مثل هذه الأحكام غالباً، فإن الشرع يفسح المجال للتحالف حتى مع غير المسلمين حينما تكون هناك مصلحة مشتركة، كما نصت صحيفة المدينة التي وضعها رسول الله بداية الهجرة على التحالف مع قبائل يهود المدينة، وكان هناك عقد معاهدة بينه وبين قبيلة خزاعة من المشركين، إضافة إلى عدد من المعاهدات والأحلاف الأخرى المذكورة في السيرة النبوية.

إن التحديات الخطيرة التي تواجه الأمة تفرض نوعاً من الاستقرار في علاقاتها الداخلية، وتوجب مستوى من التعاون بين أطرافها وقواها المتنوعة فكرياً وسياسياً، وتجاهل ذلك نوع من الجهل والغباء، والتبريرات الشرعية المدعاة هي خطأ في فهم مراد الشرع، أو التباس في موارد التشخيص والانطباق.

مواقع الاتفاق ونقاط الاختلاف

وهناك عائق آخر يتمثل في التسمّر أمام نقاط الخلاف، وسيطرتها على الأذهان والنفوس، مما يمنع الاتجاه إلى مواقع الاتفاق، وموارد الاشتراك، فليس شرطاً أن تتفق الأطراف المختلفة على كل شيء لتبدأ التعاون، بل يمكن الانطلاق من نقطة اتفاق واحدة لخدمة مصلحة مشتركة.

وهذا ما عرضه القرآن على اليهود والنصارى في قوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا ...»2.

ومن هذا المنطلق كانت معاهدات رسول الله مع غير المسلمين من يهود ونصارى ومشركين.

إن وجود مشروع مشترك ومصلحة متبادلة في جانب ما بين الأطراف المختلفة، يجعلها أقدر على معالجة سائر الجوانب، أو تجميد الآثار السلبية للاختلاف فيها.

ومن المتعارف الآن في العلاقات السياسية أن تذكر البيانات المشتركة مواقع الاتفاق إلى جنب نقاط الاختلاف، كما أن أنظمة المؤسسات الجمعية الدولية والإقليمية، تفسح المجال لفرز الأصوات، الموافق منها والمخالف والممتنع عن التصويت، حول أي مشروع يطرح. فإذا ما اختلفنا حول مسألة أو قضية لا يعني ذلك إنهاء العلاقة، وإلغاء التعاون والانسحاب من الشراكة.

لماذا الخوف من التعاون؟

إن البعض يخشى من التعاون مع الآخرين لضعف ثقته بذاته، وأنه حينما يتعاون معهم قد يقع تحت تأثيرهم، أو يُحتوى وضعه لصالح نفوذهم، وقد يخشى البعض من أن التعاون يجعل ساحة تيارها مفتوحة أمام تأثير الآخرين، لكن هذه المخاوف وأمثالها تشكل تكريساً لحالة الضعف وتستراً عليها، والجهة الواعية هي التي تقبل التحدي وتستجيب له، لترتفع إلى مستواه، فتتعاطى مع الآخرين بثقة، وتدخل حلبة التنافس الإيجابي باطمئنان، وبذلك تكتشف نقاط ضعفها فتعالجها، وتدرك مواقع قوتها فتنميها، فالتعاون بثقة سبيل لاكتساب القوة.

وفي بعض الأحيان تتضخم الأنا والذاتية عند البعض، فلا يرون الآخرين أنداداً لهم يستحقون التعاون، فهم الحق وغيرهم باطل، وهم الشرعية وسواهم أدعياء، وهم الكبار ومن عداهم أقزام، وقد يحيط البعض نفسه بهالة من العظمة والقداسة أمام الأتباع، فيخاف من التعاون أن يظهره على واقعه.. وهذه الأوهام تمثل حالة مرضية، لأن التفكير السليم يدفع القوي إلى تفعيل وجوده بالانفتاح على الآخرين وليس بالانكفاء دونهم.

إن الدول الكبرى في العالم تشارك في عضوية المؤسسات الدولية إلى جانب أصغر الدول، وتدخل معها في اتفاقات وتحالفات.

الهوامش:


1. الموسوعة العربية العالمية، ج9 ص 242،209،الطبعة الثانية 1999م، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض.

2. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 64، الصفحة: 58.

2020/07/09

2020/07/04

يقول الغرب: الحجاب يحرم المرأة من المناصب!

يقول الغرب: أليس وجوب ستر البدن على المرأة يكون وسيلة لحرمانها من مناصب معينة؟  أو يكون تأكيداً على أنّ المرأة هي رمز الإغراء في المجتمع وأنّها لا تتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل؟

ونقول:

أ - إنّ وجوب ستر البدن - كما قلنا - ليس مختصاً بالمرأة، بل يشمل الرجل أيضاً، ولكن بمساحة تختلف عن مساحة المرأة، فالستر هو حقّ عام على الجنسين ; لأنّه رمز للعفة والكرامة.

ب - نعم، إنّ النساء تغرين الرجال - غالباً - وتجلبن انتباههم وتسهّل عملية إغرائهم، بخلاف الرجال فإنّهم نادراً ما يغرّون النساء، لذا فإنّ من الحكمة أن لا يترك الإغراء والإغواء الهدام يعبث في المجتمعات المسلمة ويرمي سمومه فيها، ومن الواضح أنّ اللباس المحتشم يكشف القِيَم التي يحملها صاحب اللباس المحتشم، كما أنّ التعرّي يكشف عن قيم صاحبه، فالأول يصرّح بعدم أيّ علاقة بالجنس ومقدّماته خارج نطاق الأُسرة والزوج، والثاني يصرح ويغري بالعكس - وإن كان صاحب التعرّي لا يقصد ذلك - ولذلك صرّح علماء النفس والتربية بأنّ المرأة المتعرّية هي المعينة على نفسها إذا اغتصبت من قبل الرجال، كما تقدّم ذلك.

ج - ليس لستر البدن أيّ صلة أو تعبير عن حرمان المرأة من حريّتها في حياتها الاجتماعية والعملية والسياسية.

ويقولون أيضاً: إنّ ستر البدن يحمل معاني متعدّدة:

منها: أنّها تدعو النساء الأُخريات لدينها، وهذه الدعوة لا تتحمل في النظام الذي فصل بين الكنيسة والدولة - كنظام فرنسا - فكلّ شي يأخذ طابعاً ديناً لا بدّ أن يحظر، فيكون لمثل هذه الدول الحقّ في منع ستر البدن بالكيفية التي تكون عليها المرأة المسلمة.

ومنها: ما قاله « جافيير تيرتيسيان »: إنّه يحمل معنى جبر المرأة المسلمة على الحجاب، بينما يريد لها المشرّع الفرنسي أن تكون حرّة.

ومنها: أنّه معنى سياسياً وليس واجباً دينياً.

ومنها: أنّه يساء استخدامه من قبل الأُصوليين الإسلاميين، فيهدّدون الجمهورية الفرنسية العلمانية ([1]).

ونقول:

1 - نعم، لا ننكر أنّ ستر البدن فيه دعوة للاقتداء به ; لأنّه الأمر الذي تفضّله المرأة من الستر، وهو أيضاً يحمل معنى سياسياً، إلاّ أنّه لا يهدد مبادئ فرنسا ولا يهدد العلمانية، فالعلمانية مبدأ خلاف الدين، والدين مبدأ خلاف العلمانية، والفرد الحرّ مختار في تبنّيه لأيّ من الفلسفتين، فإذا كانت فرنسا عندها مبدأ الحرية في الاختيار فلا بدّ أن تسمح للنساء باختيار الدين أو اختيار العلمانية، وأمّا مسألة ستر البدن فهي لا ربط لها بتهديد مبادئ فرنسا العلمانية.

بالإضافة إلى أنّ ستر البدن للمرأة واجب ديني، وهو موجود قبل قيام الثورة الفرنسية ومبادئها بقرون، ولو كان يتعارض - كواجب ديني - مع العلمانية ومبادئ فرنسا، فلماذا غاب هذا عن المشرّعين الفرنسيين في بادئ الأمر والتفت إليه الآن؟!! ولماذا لم تلتفت إليه الدول العلمانية الأُوروبية الأُخرى، حيث تسمح بالحجاب في الجامعات وفي المؤسسات الرسمية للدولة؟!!

2 - وأمّا بالنسبة لإجبار المرأة المسلمة على ستر البدن، فلو كانت هذه الدعوى صحيحة فلماذا تتظاهر المرأة في الغرب احتجاجاً ضدّ هذا التشريع، فهل أجبرنَ على التظاهر ضدّ قانون منع الحجاب أيضاً؟!!

وإذا كان إجبار المرأة لا يجوز على ستر البدن فلماذا تجبر على العهر؟!!

تقول « بيت هرتز فيلد » في مقالة ([2]): إنّه حينما تذكر العبودية، فإنّه يتبادر إلى ذهن كثير من الناس تلك الصور المأساوية القديمة لتجارة العبيد عبر الأطلسي، والتي كانت تعتمد على بيع وشراء الناس. ويبدو أنّ العالم الحديث قد ترك هذا السلوك خلف ظهره. وتصرّ « هرتزفيلد » على أنّ العبودية ليست موجودة حالياً فحسب، بل إنّها في توسع، وهذه حقيقة.

وتتنبأ الكاتبة أنّ هناك حالياً حوالي سبعة وعشرين مليون امرأة وطفل ورجل يتم استعبادهم في العالم، فنساء أُوروبا الشرقية يتم استعبادهم ليمارسن البغاء في أوروبا الغربية، والعبودية المعاصرة تقبل بأيّ إنسان مهما كان عمره أو جنسه أو عرقه في كلّ قارات العالم وفي أكثر الدول تقدّماً صناعياً، ثمّ تعطي الكاتبة أمثلة على الطريقة التي يمكن من خلالها للآمال المبنية على البناء الاجتماعي أن تزيد من قابلية النساء للسقوط في ممارسات تشبه العبودية.

ومن المؤسف أنّه لم يتخذ أيّ إجراء قانوني أو لم يسنّ أي قانون لمنع حدوث هذه الظاهرة، وكم نسمع من صيحات حول هذا الأمر، ولكن لا نرى أي فعل.

وقد عقد في موسكو في العام 1997 م مؤتمر دولي حول تجارة تسفير النساء الروسيات خارج البلد من أجل البغاء، وقد كتب « فرانسين بيكن » مقالة حول هذه الآفة الاجتماعية تحت عنوان: « ما أكثر الكلام وما أقل الفعل ! الهجرة القسرية والاتجار بالنساء ».

وتبحث المقالة في وجهات النظر المختلفة الكثيرة حول قضية الاتجار بالنساء والسياسات المختلفة المرتبطة بهذه القضية ([3]).

وفي تقرير نشرية المنظمة العالمية للهجرة حول الهجرة غير المنتظمة من جورجيا إلى أُوروبا، نشر في أول أيلول عام 2001 م تحت عنوان « أما المشقة خارج الوطن أو الجوع في الوطن » يشير هذا التقرير إلى أنّ المهرّبين في جورجيا كانوا يتاجرون بالنساء الجورجيات، حيث يرتّبون لهن مستلزمات الهجرة إلى عدد كبير من دول غربية، أكثرها شعبية هي ألمانيا وبلجيكا والولايات المتحدة.

وفي مورد آخر من نفس التقرير نقرأ ما يلي: « إنّ حوالي نصف ضحايا الاتجار بالنساء حسب المقابلة التي أجرتها معهن منظمة الهجرة العالمية (حيث استجابت 58 امرأة من بين 121 وهو العدد الكلي للمستجيبات) أُجبرن إما على العمل في النوادي الليلية، أو على التعرّي أمام النظارة (السترتبيز)، أو ممارسة البغاء، وفي أكثر الحالات لم توضح أولئك النسوة

طبيعة النشاطات التي كنّ يقمن بها، لأنّ أكثرهن فضّلن وصف عملهن كمادة للترفيه بدلاً من استخدام تعابير أكثر تحديداً. فالنساء الجورجيات أجبرن على ممارسة أعمال الجنس في كلّ البلدان التي ذهبن إليها، كما جاء في التقرير.

ويبدو واضحاً من تلك المقابلات. أنّ الولايات المتحدة (حسب ما قالت 12 من تلك النساء التي أُجريت معهن المقابلة) وتركيا (حسب ما قالت 8 من تلك النساء) احتلتا المركز الأول من بين الدول التي انتهى المطاف بتلك النسوة إليها والتي أُجبرن فيها على ممارسة أعمال الجنس، ثمّ تأتي بعد ذلك فرنسا وأسبانيا واليونان، حسب ما قالت ستة من تلك النساء التي أُجريت معهن المقابلة ».

وفي تقرير آخر تحت عنوان « تقرير الاتجار بالأشخاص لعام 2003 م » نشر في 11 / 6 / 2003 حيث كانت فرنسا هي مادة التقرير الذي نشر تحت رعاية وزارة الخارجية الأمريكية، أنّ فرنسا هي المحطة الأخيرة للضحايا، ومعظمهم من النساء اللواتي تمّ الاتجار بهن من أفريقيا ومن وسط وشرق أوروبا ومن دول الاتحاد السوفيتي السابق لغرض ممارسة البغاء والخدمة المنزلية. وتقدّر الشرطة الفرنسية بأنّ تسعين بالمائة من الخمس عشرة ألف مومس اللواتي يعملن في فرنسا هنّ من ضحايا الاتجار بالنساء، وأنّ من ثلاثة إلى ثمانية آلاف طفلة تم إجبارهم على العمل في سلك البغاء والأعمال العسيرة بما في ذلك التسوّل...([4]).

وأمّا إساءة استخدام ستر البدن من قبل الأُصوليين الإسلاميين فيهدّدون فرنسا، فهو إنّما يصح لنوع خاص من ستر البدن كالعباءة العربية والجادر الإيراني، أمّا ستر البدن بواسطة المانتو وستر الساقين بواسطة البنطرون وستر الرأس بواسطة المقنعة، فهو مما لا إساءة فيه لتهديد فرنسا إطلاقاً.

مقتطف من كتاب: بحوث في الفقه المعاصر، للشيخ حسن الجواهري

الهوامش:


[1] راجع المصدر نفسه: 17 نقلاً عن جلسة سؤال وجواب عقدها الموقع الألكتروني الإسلامي العربي ( اسلام اونلاين ) في 2004 / 7 / 12 م استضاف فيها « جافيير تيرتيسيان » الذي يمتلك عموداً في الشؤون الدينية في صحيفة « لوموند » الفرنسية.

[2] راجع المصدر نفسه: 18 نقلاً عن المقالة التي نشرت في مجلة « فبدراند دفلوبمنت » ( الجنس والتطور ): 50 - 55 من المجلد العاشر، العدد الأول الصادر في 1 آذار 2002 م.

[3] المصدر نفسه: 44 - 51 من المجلد السادس، العدد الأول الصادر في 1 / آذار / 2002 م.

[4] انظر: المصدر نفسه: 18 - 19 نقلاً عن :

http: / / www. stategov / g / tip / r / s / tiprpt / htm 212750 / 2003

2020/07/01

2020/07/01

2020/06/27

الرجل فريسة الإغراء... يقول الغرب: تعرّي المرأة ليس خطيراً!

يقول الغرب: إنّ تعرّي المرأة ليس أمراً خطيراً، فهو وإن كان يغري الرجال ويعطيهم إيحاء خاطئاً، إلاّ أنّ الذنب هو ذنب الرجال الذين أصبحوا فريسة هذه الإغراءات، فعليهم أن يجتنبوا السعي وراء رغباتهم الشيطانية الفاسدة، وليس هناك ذنب على تعرّي المرأة.

ونقول:

إنّ في تعرّي المرأة جذباً لانتباه الرجال وفتنة لهم، وهذا ذنب قامت به المرأة، كما أنّ انجرار الرجل وراء الإغراء هو ذنب آخر مستقلّ عن الأول، فالمرأة المتعرية والرجل المنجرّ وراء من غرّه وخدعه كلاهما مشتركان في العملية الجنسية أو الاغتصاب المحرّم، لذا جعل الإسلام وقاية من الذنب الأول ستر الجسد والحشمة الكاملة، وحرّم على الرجل النظر وإن لم تستر المرأة بدنها إذا كانت هناك فتنة من نظره إليها.

ويقول أيضا: إنّ ستر بدن المرأة أو ما يطلق عليه (الحجاب) يعيق الرجل من معرفة شخصية المرأة التي يريد الاقتران بها، وهذا يقلل من فرص الاقتران للنساء، فلا بدّ من رفعه حتى يحصل الاقتران الذي هو علاقة تليق بالطرفين.

ونقول:

أ - إنّ الشريعة سمحت للمرأة أن تكشف عن بعض جسمها للرجل الذي يريد الاقتران بها، وسمحت للرجل أن ينظر إليها وإلى شعرها وصدرها وساقها، وينظر إليها قائمة وماشية، وترقّق له الثياب حتى يعرف جسمها ومفاتنها.

ب - إنّ المرأة تُعرف من خلال النظر إلى عينيها ووجهها، فإنّ الوجه يكشف عن جميع محاسن البدن.

ج - إنّ شخصية المرأة لا تفهم من خلال النظر إلى مفاتن الجسم، بل تعرف من خلال معرفة طريقة التفكير والأخلاق والمشاعر، وهي تحصل عن طريق الكلام معاً، لا من كشف البدن، فلاحظ.

ويقولون: إنّ ستر البدن على المرأة يخلق تمييزاً في المعاملة بين الرجل والمرأة، حيث إنّ الزوج لا يجب عليه ستر البدن كالمرأة، وهذا يؤدي إلى عدم المساواة بين الرجل والمرأة.

ونقول:

أ - في الحقيقة - كما تقدّم - أنّ الرجال والنساء متساوون في ستر البدن، حيث يجب عليهم الحشمة والعفة في لباسهم، فيجب على الجميع ارتداء اللباس وستر البدن، ولكن هناك اختلاف بين مقدار مساحة ما يخفى من البدن لاختلاف الجنسين في الأعضاء التي يعتبر كشفها مغرياً للجنس الآخر.

فالمرأة يمكن لها أن تغري الرجل بشعر رأسها أو بساقيها أو بعنقها وثدييها، فكانت هذه كلّها التي تعدّ من محاسن المرأة يحرم كشفها ويحرم نظر الرجل إليها، بينما الرجل فإنّه يتمكن أن يغري المرأة بكشف صدره وبطنه وفخذيه وما شابه ذلك، فحرم عليه ذلك في محيط توجد فيه النساء، كما حرم على النساء النظر إلى هذه المواضع من الرجل.

كما أنّ الغناء والرقص والخضوع في القول والإشارات والكنايات إلى الأعمال الجنسية من كلّ من الطرفين يمكن أن تغري الآخر، لذا حرّمها الإسلام على كلا الطرفين، فلاحظ.

ثمّ إنّ الرجل والمرأة متساويان في الإنسانية والكرامة والقيمة الروحية والطهارة والحقوق الإنسانية والواجبات الإنسانية، ولكنّهما يختلفان في كيفية الجسم، وهذا أمر واضح لا حاجة للخوض فيه، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَّخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيراً وَنِسَاءً ) ([1]).

وقال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَر أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ([2]).

وذكرت السنّة النبوية: « إنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة »، كما تقدّم منّا جواز تقلّد المرأة أي عمل مهني وعلمي وحكومي ( إذا كان خالياً من القضاء والحكم في التنازع ) ([3])، وقد صرّح بذلك العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) فقال: « يتقاسم كلّ من الرجال والنساء حصصاً متساوية من مواهب التفكير والإرادة التي تكون الأساس في حرية الاختيار، لذا يجب أن تكون المرأة حرة بشكل متساو مع الرجل في تفكيرها وإرادتها، ويجب أن تكون لها حرية الاختيار.

وبتعبير آخر: يجب أن تكون المرأة حرة في إدارة شؤون حياتها اليومية والاجتماعية، إلاّ إذا كان هناك سبب يفرض العكس.  وقد أعطاها الإسلام هذه الحرية وهذا الاستقلال بكلّ معاييره، وبذلك فقد أصبحت للمرأة بنعمة الله شخصيتها المستقلّة، ولم تعدّ مقيدة في إرادتها وأفعالها بما يريده الرجال، أو بما يريده من له الولاية عليها، وقد نالت ما أنكره العالم عليها على طول وجودها على هذه الأرض منذ بدء الخليقة بما لم يكن له مثيل في تاريخ المرأة يقول الله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ([4]).

ومع أنّ المرأة تقاسم الرجل في هذه الصفات الأساسية، إلاّ أنّها تختلف عنه من طرائق أُخرى، فمتوسط المرأة يختلف عن متوسط الرجل في التركيبة الجسمانية وفي وظيفة أعضاء الجسم، كالدماغ والقلب والأوردة والأعصاب والطول والوزن، وتفاصيل هذه الحقيقة يمكن ملاحظتها في أيّ كتاب مختصّ بعلم التشريح.

ونتيجة لذلك فإنّ جسم المرأة هو أرق وأئنق من جسم الرجل الذي يكون عادة أمتن وأخشن.

أمّا العواطف الرقيقة كالحب والحنان والميل للجمال وللزينة، فهي عند المرأة أكثر مما هي عند الرجل.  ومن جهة أخرى، فإنّ القوة العقلية عند الرجل أبرز ممّا هي عليه عند المرأة.  تعيش المرأة حياة عاطفية ويعيش الرجل حياة عقلية » ([5]).

يتبع...

 

الهوامش:

[1] النساء: 1.

[2] النحل: 97.

[3] كما سوف يأتي الدليل على ذلك فيما بعد.

[4] البقرة: 234.

[5] بحث الشيخ علي الحكيم / الحجاب / النظرية القرآنية: 16 نقلاً عن الميزان في تفسير القرآن للعلاّمة الطباطبائي، الترجمة الإنجليزية 75: 4 - 78، ترجمة السيد سعيد أختر الرضوي.

2020/06/23

لماذا يُخطّئ الدين سائر الاعتقادات الأخرى؟ ... نجل السيد السيستاني يجيب

لماذا يُخطّئ الدين سائر الاعتقادات والافكار الأخرى المختلفة عنه بنحو جازم؟

لماذا لا يثقّف الدين أهله على أن يعتقدوا بأن عقيدتهم صواب يحتمل الخطأ، وعقيدة الآخرين خطأ يحتمل الصواب؟

ألم يكن في هذه الحالة أساساً متيناً للسلم الاجتماعي؟

 الجواب عن ذلك:

"من الطبيعيّ في الدين بعد افتراض حقّانيّته أن يوجّه الناس توجيهاً جازماً إلى أصول تلك الحقائق، ويمنع من العقائد المصطنعة والمجعولة والمبتدعة واتّباعها، فتلك ضرورة معرفيّة وتربويّة في مقام توجيه الناس، وليس من المتوقَّع أن يذعن الدين في خطابه وتعاليمه بكلّ طريقة واعتقاد حتّى يتفنّن الناس في جعل عقائد يبتدعونها ويكونون رأساً في الدعوة إليها، أو أن يثقّف الناس على أن يحتملوا الخطأ فيما يبلّغه الدين أو الصواب فيما يكون ضدّ ذلك؛ فإنّ ذلك أدعى للخطأ والتفرقة.

بل من شأن الدين أن يدعو إلى البحث الجادّ عن الحقيقة ثمّ الإيمان الجازم بها كما هو شأن العقلاء في سائر الحقائق التي يشهدونها مثل التعليمات المتضمّنة لقواعد السلوك الصحيح والصائب في مختلف نواحي الحياة.

وأما السلم الاجتماعي العادل فهو من جملة وصايا الدين وأصول تعاليمه، ولم يخرج عنه إلا في حالات استثنائية رعايةً لمقتضيات عادلة وحكيمة [وقد ذُكر ذلك بشيء من التفصيل في محور (الدين والعدالة) من هذا الكتاب][1].

وأما الشحناء والبغضاء بين الناس فلم يسبّبه الدين ولكن سبّبته مزاجيّات الإنسان واستغلاله للدين لإشباعها، أو إهماله وتفريطه في البحث عن الحقيقة، أو إمعانه في مضادّتها، وإنّ سوء استغلال أيّة حقيقة أو تعليم لا يقتضي التقاعس عن بيانها ولا الإعراض عن ذكر صوابها ما دام أنّ سنن الحياة وحقائقها لن تتغيّر في جميع الأحوال، فهي صائرة إلى غاياتها سائرة إلى نهاياتها".


[1] اتجاه الدين في مناحي الحياة، ص١٢٢- السيد محمد باقر السيستاني.

2020/06/22

دُمية الرجل في المعمل: هذا ما حدث للمرأة بعد النهضة «الصناعية» الأوروبية!

إنّ وضع المرأة الإنساني والحقوقي في الدول غير الإسلامية كان وضعاً شاذاً وظالماً لعدّة دهور من الناحية الاجتماعية والميدانية ومن الناحية القانونية أيضاً، ولكن عند ظهور النهضة الأُوروبية حصلت مراجعة نقدية شاملة لذلك الوضع الشاذّ وغير العادل، فتغيّرت المواقف الفكرية والأخلاقية في شأن المرأة، ومن جملتها وضع المرأة في الأُسرة والمجتمع.

وتفعّلت هذه المواقف بسبب تحوّل المجتمع من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، فتسبّب في الهجرة الواسعة من الأرياف إلى المدن، فدخلت المرأة سوق العمل، فتولّدت شعارات تنادي بتحرير المرأة وحقوقها، وانتشرت بصورة واسعة نتيجة غلبة المجال العسكري للدول الأُوروبية على غيرها.

وكان من الواجب العمل على إلغاء كلّ ما يرتبط بنقص المرأة عن الرجل ودونيتها في الإنسانية والكرامة، وإعطاء حقوقها في تقرير مصيرها وتصرّفاتها وأعمالها، مع الاحتفاظ بدورها في الأُسرة، والمحافظة على عفّتها وطهارتها.

إلاّ أن الأمر اتجه لتحريرها من دور الأُسرة وسلب العفّة عنها، فانتقدوا عملها في البيت كزوجة وأمّ، واعتبروا أنّ مسؤوليتها في الأُسرة هو مظهر عبوديتها، ونادوا بضرورة رفع القيود الأخلاقية والقانونية التي تحكم وتنظّم علاقات الرجال والنساء.

وساعدهم على ذلك نموّ الصناعة الذي جذب المزيد من اليد العاملة الرخيصة، فاجتذبت النساء إلى المعامل، وعزلت المرأة عن بيتها وأُسرتها، فلا وقت عندها لتوفير الحدّ الأدنى من السكن للزوج وللأولاد ولها أيضاً، مع اختلاط بلا حدّ بالرجال الأجانب، مع دعوة إلى تحرير الجسد من القيود الأخلاقية والدينية في المجال الجنسي.

فأدّت هذه الحركات التحريرية في الغرب إلى خلط الغث بالسمين والفاسد بالصالح، فجعلت المرأة دمية للرجل يستغلها في المعمل ويستمتع بها جنسيّاً باسم التحرّر وإن حصلت على بعض حقوقها في الحياة المعاصرة من عمل وعلم ومشاركة، إلاّ أنّها فقدت قيمتها وشرفها وطهارتها وأُسرتها وسكنها، فهي زوجة ولكن لا تهتم بأُمور الأُسرة والأولاد، ولا تهتم بالسكن الذي جعله الله لها نتيجة الحياة الزوجية.

كما أجازوا لها أن ترافق خليلاً معها تنجب منه الأطفال من غير زواج شرعي، وما إلى ذلك من أُمور باسم التحرّر.

وعلى هذا فيمكن لنا أن نقول: لقد حوّلوا المرأة من ظلم كانت تعاني منه إلى ظلم آخر أشدّ من الأول باسم تحريرها وإعطاء حقوقها.

وبعبارة أُخرى: أرادوا - ولا زالوا يحاولون - مساواتها بالرجل في كلّ شيء، ولا يعبأ بالفوارق الجسمية - الفسلجية والسيكولوجية - الثابتة بين الرجل والمرأة.

ونحن إذ نقرّ لهم بمساواة المرأة للرجل من الناحية الإنسانية والحقوق الفطرية التي يهدي إليها الدين، إلاّ أننا كمسلمين وكبشر أيضاً نخالفهم في المساواة الجسدية، إذ نؤمن ككلّ فرد واقعي بوجود الفوارق الجسمية التي تقتضي تقسيم العمل بنحو ينسجم مع الفرق بحسب الخلقة، وإلاّ فإذا نظرنا إلى المساواة في كلّ شيء، فإنّ النتيجة ستكون تردي الحالة النفسية والأخلاقية للمرأة حتماً.

2020/06/22

تضليل إعلامي: المرأة المحجبة «مضطهدة»!

- يعرض الإعلام الغربي صوراً ثلاث للمرأة:

الصورة الأُولى: إظهار المرأة الساترة لبدنها على الطريقة الإسلامية على أنّها مخلوقة مضطهدة، أُجبرت على وضع الستر على بدنها، لذا فإنّهم سوف يأسفون لها، بل يحاولون مساعدتها في رفع الاضطهاد وإزالة الجبر الذي تعرضت له.

الصورة الثانية: إظهار المرأة العارية تماماً على أنّها مجنونة أو غير مستقرة عقلياً.

الصورة الثالثة: إظهار المرأة السافرة الرأس والصدر والقدمين والساقين مع إظهار الزينة والمكياج والعطور، على أنّها امرأة متحرّرة متطوّرة عصرية، يجب الاقتداء بها.

أقول: التضليل هنا يكمن في الاستنتاج غير العادل، فإنّ المرأة في الصورة الأُولى لو كانت مضطهدة، وكانت المرأة في الصورة الثالثة هي المرأة المتحرّرة المتطورة العصرية، فإذاً طبقاً لذلك المنطق لا بدّ أن تكون المرأة في الصورة الثانية هي الأكثر تحرّراً، فلماذا حكموا عليها بأنّها مجنونة وغير مستقرة عقلياً؟!!

وإذا كانت المرأة في الصورة الثانية مجنونة وغير مستقرة عقلياً، فعلى هذا المنطق ستكون المرأة في الصورة الثالثة غير مجنونة، وعليه فستكون المرأة في الصورة الأُولى هي المرأة المثالية التي يجب أن يقتدى بها، فلماذا وصفت بأنّها مضطهدة وشعروا بالأسف لها؟!!

هذا هو المعيار المزدوج، فإنّ عدم ستر بعض البدن كالصدر والساق وشعر الرأس، الذي تعدّ من زينة المرأة، وهي التي تهيّج الرجال وتوجد الفتنة والإغراء، اعتبر في ذلك المنطق متحضرة ومتحرّرة وقدوة تقتدى بها، لكن المرأة التي لا تضع على جسمها أي غطاء اعتبرت مجنونة، بينما كان يجب أن تكون أكثر تحرّراً وتحضراً إذا كانت الأُولى متحرّرة ومتحضرة.

وإذا كانت العارية مجنونة - كما يقولون - فهذه تقتضي أن تكون الساترة لبدنها ما عدا الوجه والكفين عاقلة يقتدى بها، لا أنّها مضطهدة يؤسف لها.

الستر ونشاط المرأة

2 - يعرض الغرب ستر البدن على أنّه يحدّ من نشاط المرأة في حياتها الشخصية.

والجواب: أنّ ستر البدن لا يحدّ من نشاط المرأة في أعمالها كما نراها عاملة محتشمة ونظيفة في كلّ مجال أعمالها التي تقدر عليها، بل ستر البدن يتيح لها كرامة واحتراماً عند الآخرين حينما تعكس لهم أنّها لا تنوي أي ملاطفات جنسية في مجال عملها خارج نطاق الزوجية، فهو يمنحها شعوراً بالأمان والحماية ما دامت ترفع هذا الشعور، كما أنّه قد تقدّم أنّ العفة والحشمة واجبة على الرجال أيضاً بحدود معينة.

يتبع...


مقتطف من كتاب بحوث في الفقه المعاصر، للشيخ حسن الجواهري

2020/06/21

في زمن «كورونا»: إليكم أهم توصيات الإمام الصادق (ع) للوقاية من الأمراض

الحفاظ على الصحة في تراث الإمام الصادق (عليه السلام)

من مفاتيح جودة الحياة الحفاظ على الصحة العامة للإنسان، والوقاية من الأمراض المختلفة، وذلك لأهمية الصحة في حياة الإنسان نفسه، ومسار المجتمع الإنساني، وكما أن المرء الذي يتمتع بصحة عالية يشعر بالسعادة، ويمتلك القدرة على العمل والعطاء والإنجاز والنشاط، بينما من تفتك به الأمراض والأسقام المزمنة يفقد -غالباً- القدرة على ذلك؛ كذلك حال المجتمعات من حيث الصحة والمرض، والعافية والوباء؛ حيث تعاني المجتمعات المصابة بالأوبئة وكثرة الأمراض المزمنة من تأخر في التنمية، وكساد في الاقتصاد، وتأخر عن ركب التقدم والازدهار.

وبالصحة والعافية يشعر الإنسان بمتعة الحياة، ويستمتع بجمالها، ويمارس حياته بصورة طبيعية، وهي نعمة إلهية يجب أن تقابل بالشكر؛ فالنعم إنما تدوم بالشكر، وتزول بالجحود، وكما قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السلام): «لا تَدومُ النِّعَمُ إلّا بعدَ ثَلاثٍ (إلّا بثَلاثٍ): مَعرِفَةٌ بما يَلزَمُ للَّهِ سبحانَهُ فيها، وأداءُ شُكرِها، والتَّعَبُ فيها» [1]. وعنه (عليه السلام) قال: «أحسِنوا جِوارَ النِّعَمِ، واحذَروا أن تَنتَقِلَ عَنكُم إلى‏ غَيرِكُم، أما إنّها لَم تَنتَقِلْ عَن أحَدٍ قَطُّ فكادَت أن تَرجِعَ إلَيهِ» [2] .

والصحة أفضل نعمة كما قال أمير المؤمنين الإمامُ عليٌّ (عليه السلام): «الصِّحَّةُ أفضَلُ النِّعَمِ» [3]، لأن كثيراً من النعم الأخرى ترتبط بها وجوداً وعدماً.

وكثير من الأصحاء قد لا يشعرون بهذه النعمة العظيمة إلا عندما يفقدونها، وكما قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السلام): «العافِيَةُ نِعمَةٌ خَفِيَّةٌ، إذا وُجِدَت نُسِيَت، وإذا فُقِدَت ذُكِرَت» [4]، وعنه (عليه السلام) قال: «كَم مِن مُنعَمٍ علَيهِ وهُو لا يَعلَمُ!» [5].

وعلى الإنسان العاقل ألا يفرط في صحته، لأن من يفرط فيها تتنغص حياته، وتتكدر معيشته، ويفقد الكثير من السعادة والمتعة والطمأنينة والراحة، قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السلام): «النَّعيمُ في الدنيا الأمنُ وصِحَّةُ الجِسمِ، وتَمامُ النِّعمَةِ في الآخِرَةِ دخول الجنة» [6]، وعنه (عليه السلام) قال: «خَمسُ خِصالٍ مَن فَقَدَ مِنهُنَّ واحِدَةً لَم يَزَلْ ناقِصَ العَيشِ، زائلَ العَقلِ، مَشغولَ القَلبِ: فأولاها صِحَّةُ البَدَنِ»[7] .

وكما يجب على الأفراد المحافظة على صحتهم، واتباع سبل ووسائل الوقاية للاحتراز من الأمراض بكافة أنواعها، وخصوصاً الأمراض الوبائية والمعدية، كما هو الحال مع (جائحة كورونا) التي حولت حياة المجتمعات البشرية في العالم كله إلى توقف شبه كامل في مفاصل الحياة العامة، وأثرت على الاقتصاد والأعمال والسياحة ومختلف جوانب الحياة وأبعادها.

الصحة والوقاية في توجيهات الإمام الصادق (عليه السلام)

عندما نتصفح التراث الصحي للإمام الصادق (عليه السلام) سنجد كماً كبيراً من التوصيات والإرشادات الصحية والوقائية التي تدعو في مجملها إلى الحفاظ على سلامة الإنسان من الأمراض، والتمتع بصحة الأبدان والنفوس والعقول، ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها في النقاط الآتية:

1-غسل اليدين:

اليدان من أكثر الأعضاء ملامسة للأشياء، وغسلها بالماء من أهم الوسائل التي ينصح بها الأطباء للوقاية من الميكروبات والفيروسات، ومنه (فيروس كورونا)، وقد حثّت التعاليم الدينية على غسل اليدين قبل الأكل وبعده، وأن ذلك من المستحبات وآداب المائدة، لجملة من الأخبار، ومنها: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «مَنْ غَسَلَ يَدَهُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ بُورِكَ لَهُ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَعَاشَ مَا عَاشَ فِي سَعَةٍ، وَعُوفِيَ مِنْ بَلْوَى فِي جَسَدِهِ» [8]. وعنه (عليه السلام) قال: «اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ قَبْلَ الطَّعَامِ وبَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ، وَيَزِيدُ فِي الْعُمُرِ» [9].

إن المداومة على هذا المستحب يؤدي إلى نظافة اليدين، وهو شرط رئيس لحماية الإنسان ووقايته من الإصابة بالأمراض المعدية والمضرة بصحة الإنسان، وهذا ما وجهنا إليه الإمام الصادق (عليه السلام) عبر تعاليمه وتوصياته الحاثة على غسل اليدين قبل الطعام وبعده.

2-العناية بالنظافة العامة للجسم:

كثيرة هي التوجيهات والإرشادات الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) والتي تحث الإنسان على الاهتمام بالنظافة العامة للجسم، كالاستحمام بالماء، وقص شعر الرأس واللحية، وحلق الشعر غير المرغوب فيه في الإبطين والعانة، وتمشيط شعر الرأس، والحث على التنظف والتطيب والتزين، فقد روى الصدوق عن الإمام الصَّادِق (عليه السلام) أنه قال:‏ «أَرْبَعٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ: التَّطَيُّبُ، وَالتَّنْظِيفُ بِالْمُوسَى، وَحَلْقُ الْجَسَدِ بِالنُّورَةِ، وَكَثْرَةُ الطَّرُوقَةِ» [10].

ويستحب ترجيل شعر الرأس واللحية بالمشط، ومن فوائده أنه يمنع الوباء، فقد روى الكليني بسنده: عن سُفْيَانَ بْنِ السِّمْطِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام):‏ «الْمَشْطُ لِلرَّأْسِ يَذْهَبُ بِالْوَبَاءِ. قَالَ قُلْتُ: وَمَا الْوَبَاءُ؟ قَالَ: «الْحُمَّى. وَالْمَشْطُ لِلِّحْيَةِ يَشُدُّ الْأَضْرَاسَ» [11].

والمراد من الوباء في الحديث ما يشمل جملة من الأمراض التي تصيب الشعر نتيجة عدم النظافة والعناية به، ولا يقتصر على الوباء بالمعنى الخاص عند الأطباء.

ويستحب تقليم الأظفار من اليد والرجل ويكره تركه، لأنه يمنع الداء ويدر الرزق، ففي صحيح الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآلة‏): «تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ يَمْنَعُ الدَّاءَ الْأَعْظَمَ وَيُدِرُّ (يزيد) الرِّزْقَ»[12] .

وورد الحث على أن تترك المرأة شيئاً منها، والعلة في ذلك أنه أزين لها، فقد روي عن السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله‏): «لِلرِّجَالِ قُصُّوا أَظَافِيرَكُمْ، وَلِلنِّسَاءِ اتْرُكْنَ مِنْ أَظْفَارِكُنَّ؛ فَإِنَّهُ أَزْيَنُ لَكُنَّ» [13].

وهذه الإرشادات والتوجيهات العامة المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) ترشدنا إلى أهمية العناية بالنظافة العامة للجسم، لأنها من أهم الوسائل للحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض والأوبئة، إضافة إلى أنها ترمز إلى التزين والتنظف المحثوث عليه شرعاً وعقلاً. فقد روي عن رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «النَّظَافَةُ مِنَ‏ الْإِيمَانِ» [14]، وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظيفٌ يُحِبُّ النَّظافَةَ» [15]، وفي المقابل ورد النهي عنه (صلى الله عليه وآله) بقوله: «بِئسَ العَبدُ القاذُورَةُ» [16]، حيث يكون الإنسان غير النظيف مصدراً للقذارة والنجاسة والوباء والمرض.

3- تنظيف الدار:

الاهتمام بالنظافة العامة في كل شيء من الأمور التي حثّ عليها الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن المعلوم أن كثيراً من الأمراض والأوبئة تنتقل بسبب انعدام النظافة العامة، وتعد الدار (المنزل) من الأماكن المهمة التي يجب أن تحظى بالنظافة والتنظيف الدائم، وإزالة أية منفرات للبيئة الصحية، فأكثر الوقت نقضيه في منازلنا، ونظافتها دليل على رقي أصحابها،  ولذا نجد أن من توجيهات الإمام الصادق (عليه السلام) الاهتمام بتنظيف الدار وغسل أواني الطبخ والأكل، فقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «غَسلُ الإناءِ وكَسحُ الفِناءِ، مَجلَبَةٌ للرِّزقِ»[17] ، وعنه (عليه السلام) قال: «‏اكْنُسُوا أَفْنِيَتَكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ»[1] . وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «كَنسُ البُيوتِ يَنفي‏ الفَقرَ» [19].

وفي المقابل ورد النهي عن ترك القمامة في البيت طول الليل، والحث على إخراجها قبل المغرب، فقد روى عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) فِي حَدِيثِ الْمَنَاهِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله):‏ «لَا تُبَيِّتُوا الْقُمَامَةَ فِي بُيُوتِكُمْ، وَأَخْرِجُوهَا نَهَاراً؛ فَإِنَّهَا مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ» [20]، فترك القمامة طول الليل في البيت قد يؤدي إلى نشر روائح كريهة أو أمراض معدية أو تجمع لحشرات مؤذية.

4-تغطية الطعام:

نظافة الطعام والمحافظة عليه من الملوثات أمر في غاية الأهمية للحفاظ على الصحة؛ إذ أن كثيراً من الأمراض تنتشر من خلال الأكل والطعام غير النظيف، ولذا يرشدنا الإمام الصادق (عليه السلام) في توجيهاته الصحية إلى تغطية الطعام حتى لا يلوث بأي نوع من الملوثات الضارة، فقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «لَاتَدَعُوا آنِيَتَكُمْ بِغَيْرِ غِطَاءٍ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ إذَا لَمْ تُغَطَّ الآنِيَةُ بَزَقَ فِيها، وَأخَذَ مِمَّا فِيهَا مَا شَاءَ»[21]، وأما تركه من غير غطاء فيجعله عرضة لمختلف الملوثات والأوبئة والفيروسات التي ستجد طريقها لجسم الإنسان من خلال معدته، وهي بيت الداء.

وتشير بعض الدراسات إلى أن كثيراً من الأمراض المرتبطة بالجهاز الهضمي ناتجة من الأكل من المطاعم التي لا تعتني بالنظافة والاشتراطات الصحية المطلوبة، وعليه ينبغي الاهتمام بالأكل النظيف والصحي، وتجنب الأكل من المطاعم التي لا تهتم بنظافة الطعام ونظافة العاملين فيه.

5- تجنب الاختلاط بأصحاب الأمراض المعدية:

من أهم وسائل الوقاية من الأمراض المعدية عدم الاختلاط بالمرضى منهم، والفرار منهم كما ورد في الحديث المروي عن الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله:‏ « فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ»، وأضاف: « وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ الرَّجُلُ مَجْذُوماً إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ذِرَاعٍ»[22] ، والجُذَام: داء يصيب الجلد والأعصاب الطَّرفية، يسبب فقداً بقعيًّا، وقد تتساقط منه الأطراف كما في كتب المعاجم اللغوية، وهو مرض معدي، ولذا ورد الحث على عدم الاختلاط بالمجذومين، حتى لا يعرض الإنسان نفسه للإصابة به، وهذه الأمر يتعدى  إلى غيره من الأمراض المعدية كفيروس (كورونا) لعموم التعليل.

وكما ورد في الحديث بالابتعاد عن المجذومين بقدر ذراع، كذلك ينصح الأطباء بالابتعاد عن المصابين بفيروس (كورونا) بمقدار متر أو متر ونصف للوقاية منه، لحماية نفسه من الإصابة بهذا المرض أو غيره من الأمراض الوبائية والمعدية، وهو ما يعبر عنه اليوم بـ (التباعد الاجتماعي) كوسيلة من وسائل الوقاية.

وقد روي عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «أقِلّوا مِنَ النَّظَرِ إلى أهلِ البَلاءِ ولا تَدخُلوا عَلَيهِم، وإذا مَرَرتُم بِهِم فَأَسرِعُوا المَشيَ‏ لا يُصيبُكم‏ ما أصابَهُم» [23]. وفي هذا أيضاً إشارة مهمة إلى ضرورة التباعد عن المصابين بالأمراض المعدية تجنباً من الإصابة مما أصابهم، مع الدعاء للمرضى بالصحة والسلامة والعافية.

وعلى المؤمن أن يداوم على التحميد لله سبحانه على نعمة الصحة والعافية، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله يَحمَدُ اللّهَ في كُلِّ يَومٍ ثَلاثَمِئَةِ مَرَّةٍ وسِتّينَ مَرَّةً عَدَدَ عُروقِ الجَسَدِ، يَقولُ: «الحَمدُ للّهِ رَبِّ العالَمينَ كَثيراً عَلى كُلِّ حالٍ» [24].

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.


الهوامش:

[1] تحف العقول: 318.

[2] الأمالي للطوسيّ: 246/ 431.

[3] غرر الحكم: 1050.

[4]  كتاب من لا يحضره الفقيه: 4/ 406/ 5878.

[5]  الخصال: 223/ 51.

[6]  معاني الأخبار: 408/ 87.

[7]  بحار الأنوار: 78/ 171/ 4.

[8]  بحار الأنوار: ج‏63، ص: 362، ح 38.

[9]  المحاسن 425.

[10]  وسائل الشيعة، ج‏2، ص: 107، ح 1630.

[11]  الكافي 6- 488- 1. وسائل الشيعة، ج‏2، ص: 119، ح 1665.

[12]  الكافي 6- 490- 1. وسائل الشيعة، ج‏2، ص: 131، ح 1711.

[13]  الكافي 6- 491- 15. وسائل الشيعة، ج‏2، ص: 134، ح 1720.

[14]  مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج‏16، ص: 319، ح 20016.

[15]  سنن الترمذي: 5/ 112/ 2799.

[16]  الكافي: 6/ 439/ 6.

[17]  الخصال: 54/ 73.

[18]  وسائل الشيعة، ج‏5، ص: 317، ح 6657.

[19]  وسائل الشيعة، ج‏5، ص: 317، ح 6658.

[20]  وسائل الشيعة، ج‏5، ص: 318، ح 6663.

[21]  وسائل الشيعة، ج‏5، ص: 324، ح 6681.

[22]  وسائل الشيعة، ج‏15، ص: 345، ح 20700.

[23]  طبّ الأئمّة لابني بسطام، ص 106 ، بحارالأنوار، ج 59، ص 213، ح 9.

[24]  الكافي، ج 2، ص 503، ح 3، مكارم الأخلاق، ج 2، ص 77، ح 2191 وليس فيه «كلّ يوم»، بحارالأنوار، ج 58، ص 316، ح 24.

2020/06/18

الدين تعقل لا مجرد إكثار التعبّد

ليس الدين هو مجرد إكثار التعبد لله سبحانه وتعالى أو الجهاد في سبيله، بل هو نحو من التعقل الجامع لحقيقة الحياة والحكمة فيها والعمل بموجبها، وربّ تعبد زيّن تصرفات المرء الباطلة لنفسه فازداد به جهلاً، أو قتال نشأ من مآرب خفية أو انفعالات غير مهذبة فظن أنها جهاد في سبيل الله فازداد من الله تعالى بعداً، وقد جاء عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال وقد رأى خارجياً يتعبد في آناء الليل: "نوم على يقين خير من صلاة في شك".

كما ينبغي الالتفات إلى أن التربية الدينية هي جماع الفضائل، فمن وجد في تربيته نقصاً وخللاً فلا يستند ذلك إلى الدين في شيء، بل ينشأ من عدم فهمه للدين أو عدم تمكن الدين من نفسه حتى يكون ملكة له وخلقاً، وإنما حفظه كعقائد آمن بها من غير أن يربي نفسه على مقتضاها.

وكيف لا يكون الدين كذلك مع توجيهه دائماً إلى العقل في أصوله وفروعه وتذكيره بروائع الحِكَم في هذه الحياة مما يهدي طلاب الحكمة والبصيرة، فتأمل ما جاء في الكتاب وقِصار كلمات النبي (ص) ونهج البلاغة تجد خطاباً متوجهاً إلى العقل منيراً للفطرة محفزاً للضمير محركاً للوعي، وانظر إلى القادة المُصطَفَينَ فيه كالنبي (ص) ووصيه (ع) في سيرتهم وسلوكهم تجدهم من أكثر الناس اعتدالاً وحكمة، وأقواهم فطرة وعقلاً وأوضحهم فطنة وذكاءً وأحسنهم زكاة وتربية حتى كانوا بحق أسوة لسائر الخلق.

ولا يظنن أحد بأن في ما ورد من التعبد في الدين ما ينافي احترام العقل، فإنه لم يرد التعبد بشيء يخالف قضاءً واضحاً للعقل، وما ظن فيه مثل ذلك لا يخلو عن أحد أمرين:

إما أن يكون العقل بعد استجماع التأمل والالتفات إلى جميع حيثيات الموضوع وأبعاده متحيراً بين خيارات عديدة فيرد الشرع بأحدها.

وإما ألا يكون للعقل إدراك نافٍ أو مثبت أصلاً، فالتسليم بما تُعبِّد به في مثله مما لا ينافي العقل بل هو من تمامه، فإن من وجوه الإذعان المنطقي بالشيء التعويل على أهل الخبرة فيه، وعدم الريبة في قولهم بمجرد ظنون واحتمالات، ألا ترى أن المريض العاقل يعتمد على قول الطبيب الخبير الثقة من دون ترديد يقدح بثقته به وتعويله عليه.


من كتاب (أصول تزكية النفس وتوعيتها، ص٢٤).

آية الله السيد محمد باقر السيستاني

2020/06/07

التنظيف مثل ورقة اللوتس

الكون الذي نعيش فيه هو عبارة عن نظام دقيق ومبهر، بدءا بالذرة غير المنظورة بالعين المجردة وانتهاء بالأجرام السماوية هائلة الاتساع. حقيقة ثابتة لا خلاف عليها، وإن كان ثمة اختلاف في صددها بين مؤمن وملحد فإنه لامساس بنفس الحقيقة وإنما هو متعلق بتفسير هذا النظام وتكونه، بين وجود صانع له من عدم وجوده. 

ومن تجليات هذا النظام الكوني، ماجعله الله سبحانه من خضوع تفاصيله لهندسة دقيقة تنبئ عن عبقرية لامحدودة، وربما كان من أهم ما في هذه الهندسة هو الابتكار الذي لم يتأت من صور او تفاصيل مسبقة، كما جاء في خطبة السيدة الزهراء عليها السلام الشهيرة (ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيّته)

وربما وقف، أمام هذه الهندسة، الملايين من الناس مبهورين مستدلين من خلالها على قدرة الله وبديع صنعه، غير إن هذا الوقوف، في حدود الانبهار والاستدلال، لم يكن من شأن ذوي الاختصاص من مهندسين ومصممين وغيرهم، فهؤلاء هم أكثر الناس انتباها لدقة تلك الهندسة وفهما لعمقها. ولهذا فهم قد راحوا يعكفون على تدبر ودراسة الابعاد الهندسية الكامنة في جزيئات النظام الكوني، من أدقها كالحشرات وغيرها الى الحيوانات والنباتات والانسان، ومن ثم محاولة استلهام ما في تلك الابعاد الهندسية وتصميمها وطريقة عملها في تطبيقات عملية ومفيدة تكنلوجيا.  حتى صار بوسع المهندسين والمصممين ان يعتبروا الطبيعة منجما غنيا للتزود بالأفكار والتصميمات العملية.

مما يجعل شواهد ما ذكرناه تفوق الحصر، فيجعلنا نختار نموذجا كمثال وهو أوراق اللوتس ذاتية التنظيف، فهذه الاوراق تتمتع بسطح يتكون من نتوءات مجهرية. وكل نتوء مغطى بأنابيب نانوية متناهية الصغر تنبثق من سطح النتوء. وعندما تسقط قطرات الماء على ورقة اللوتس، تتم موازنة كمية منطقة التلامس من قبل هذه الأنابيب والنتوءات. ويؤدي تقليل مساحة التلامس إلى عدم استقرار قطرات الماء بسبب المواقع العشوائية لكل من النتوءات والأنابيب. والنتيجة أن قطرة الماء ستبدأ في الدوران على طول الورقة. وهذا ما يجعل الورقة تنحني الى الأسفل ملقية عنها قطرات الماء. وبذلك يعمل كل من النسيج المتعرج للورقة ووزن قطرة الماء على تفتير حركة القطرة في الانخفاض باتجاه النهاية غير المدعومة، وبالتالي السقوط.

 الصورة الرئيسية

المهندسون في المجال العملي استفادوا من هذا في مجال صد السوائل وانجذابها. وذلك بتغيير الطريقة التي يتم بها طلاء الأشياء لصد أو جذب الرطوبة على كل من المواد العضوية وغير العضوية، فإمكانية التنظيف الذاتي بدأت تظهر في مجالات مثل الملابس والطلاء، بدون طاقة إضافية مستهلكة.


ضرغام الكيار + صلاح الخاقاني

2020/05/31

أعراف وتقاليد اختلطت به.. كيف نفهم الدين؟

من الضروري أن نفهم الدين الذي نريد أن نتحقق من صدقه عن قرب، وذلك من عدة جهات، نذكر بعضها:

١ ـ أن نفرز بين هذا الدين وبين سائر ما يمكن أن يطلق عليه اسم الدين من العقائد والأفكار التي قد نستوضح عدم صحة كثير منها، فلا ينبغي أن يكون اشتراك الاسم باعثاً على التشويش علينا في البحث. فالعلم أيضاً يطلق على العلم المعتمد على المنهج المنطقي والأدوات الموضوعية، وعلى ما يعرف بـ(العلم الزائف) الذي يشبه العلم في الصورة، ولكنه في حقيقته ادعاءات محضة أو خاطئة وخرافية.

٢ ـ أن نفرز بين أصول الدين وثوابته واتجاهاته الأساسية، وبين العناصر المتغيرة أو التي يمكن أن ينالها التغيير مبدئياً باختلاف الزمان والمكان، سواء قام الدليل على هذا التغيير فعلاً أو لا.

٣ ـ أن نفرز بين محتوى الدين وعناصره بدقة، وبين الظواهر المختلطة مع الدين من الأعراف والتقاليد الجارية، فليس كل عرف وتقليد شائع بين أهل دين هو جزء من ذلك الدين بالضرورة وفق الاستيثاق بالأسلوب العلمي، بل كثير منها تعدّ أعرافاً محلية نشأت تدريجاً بين الأقوام، وبعضها حدث لحماية تعاليم الدين في المنظور الاجتماعي لأهل تلك الأعراف ولكنه ليس جزءاً منه، وبعضها يعدّ تطبيقاً لتعاليم الدين وفق تقدير أهل العرف المفترض، وكل ذلك لا يصح أن يعدّ جزءاً من الدين بالمعنى الدقيق.

٤ ـ أن نفرز بين ما هو جزء من الدين يقيناً، وبين الاجتهادات المختلفة في استنباط الدين في المواضيع النظرية، فالأمور الاجتهادية قد تقوم عليها الحجة عند بعض فقهاء الشريعة أو كلهم، ولكنها ليست إلا اجتهادات في تحديد وجهة نظر الدين ولا يصح أن تُعتبر الدين بعينه، حتى يقيّم بها الدين ويُقاس بها حقانيته من عدمها، بل إذا ثبت خطأ شيء من تلك الاجتهادات من المنظور العقلانيّ بعد التثبّت الكافي كان ذلك بنفسه نافياً لصحّة ذاك الاجتهاد من المنظور الشرعي، بعد تأصيل مبدأ العقلانية بشكل واضح في الدين.


من كتاب [معرفة الدين، ص١٢].

2020/05/27

هل الميل إلى الجنس المماثل فطري؟.. السيد محمد باقر السيستاني يجيب...

إذا أمكن تفسير مبسط وموجز لقضية ميلان الجنس لنفس الجنس، فنحن درسنا في الطبّ أنّ ذلك ضمن التكوين النفسي، ولا قدرة لمن يميل إلى جنسه في أن ينجذب إلى الجنس الآخر، مع أنّ ذلك حرام في الدين، فما هو مصير مَن طُبع على هذا الميل؟

الجواب من سماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني:

إنّ الفطرة الإنسانية الأولية الموافقة للتكوين الجسدي للإنسان تجري على تكامل الذكر والانثى بعضهما ببعض، وليس هناك أي مؤشر علمي على ان هناك ميول للمرء الى الجنس المماثل بحسب العوامل الجينية فلم يثبت مثلاً وجود جين معين مشترك أو مجموعة جينات مشتركة بين الاشخاص الذين يلاحظ لديهم هذا الميل كي يدل ذلك على اساس جيني لهذه الميول.

بل المقدار الملحوظ بمتابعة العديد من الحالات ـ كما يؤكده العديد من الدراسات والخبراء وكما لاحظته شخصياً من خلال أسئلة شرعية من قبل بعض من ابتلى بذلك ـ أن هناك عوامل تربوية وبيئية عند بداية الاستمتاع بالشعور الغريزي في مرحلة الطفولة أو المراهقة تؤدي الى اتجاه الغريزة احياناً الى الجنس المماثل من جهة تعرض الطفل للاستثارة معه بفعله أو فعل غيره معه أو مشاهد من هذا القبيل ـ كما يسهل في هذا الزمان مما ادى الى زيادة هذه الحالات ـ، ويساعد على ذلك تيسّر اجتماعه مع الجنس المماثل والخلوة به عادةً.

وذلك لأنّ الاتجاهات النفسية للإنسان في هذا الجانب حساسة جداً، ويمكن ان تنحرف بسهولة ما لم يتم تداركه، وكأنّ من هذه الجهة يتوقع بعض الباحثين ان تكون هذه الميول فطرية وليست مكتسبة وفق القاعدة التي تقول ان الاتجاهات المتجذرة والعميقة في الكائن الحي هي اتجاهات فطرية، ولكن الواقع أنه لم يثبت أن هذه الاتجاهات متجذرة، بل تتراءى كذلك من جهة حساسية النفس الإنسانية في هذه الجهة وسرعة اتجاهها إلى منحى مختلف وتمسكها بما اتجهت إليه حينئذٍ.

وعليه فليس هناك أي أساس علمي حتى الآن لإثبات منشأ تكويني لهذه الميول.

وعلى تقدير أن يثبت أنّ هناك بعض الحالات التي يكون هناك مناشئ جينية لمثل هذا الميل في بعض الموارد، فليس في ذلك دلالة على سلامة هذه الحالة بعد ان كانت مخالفة مع التكوين الجسدي للإنسان ـ والذي يدل على تكامل الذكر بالأنثى وبالعكس ـ، فهناك حالات مرضية عديدة تنشأ من تغيرات جينية كما هو معروف، وليس وجود أساس جيني لحالةٍ ما أحياناً دليلاً على أنها حالة فطرية ومقبولة وسائغة.

وأما علاج هذه الحالة فهو ليس امراً متعذراً لكنه يحتاج الى عمل تدريجي تربوي شأن كثير من الصفات والخصال المكتسبة التي يحتاج الى مثل ذلك في تغيرها مثل الابتلاء بالمخدرات، أو الاعتياد على بعض الجرائم، وهو امر ملحوظ وواضح للقائمين على التعامل مع هذه الحالات.

ولكن يتوقف العلاج:

أولاً: على ايمان الشخص المبتلى بذلك بان هذه الحالة ليست حالة سليمة بل هي خاطئة، وان المفروض به ان يقاومها ولا يخضع لها.

فاذا تم إيمان الشخص بذلك ـ كما لاحظنا اتفاقه في بعض الشباب الراشدين الذين يكرهون هذه الحالة التي يجدونها من انفسهم ويذكرون أن سببه بعض ما اتفق لهم في عهد الطفولة ـ فان ذلك عامل مساعد على أن يستطيع الإنسان من الحد منها ومعايشة الجنس الآخر في حياة اعتيادية إلى حدّ كبير مقرون بالسعادة وإن كان يراوده بعض الخواطر والهواجس.

ولكن من المؤسف من المنظور التربوي السليم أنّ هناك ترويجاً شائعاً لكون هذه الحالة فطرية وطبيعية مما يؤدي الى تعذر هذه الخطوة إلا في أوساط المؤمنين والملتزمين بالدين، أو الذين يشخصون ذلك بأنفسهم من خلال معلوماتهم وتجاربهم في الحياة.

ثانياً: ايجاد البديل الطبيعي عملاً لمن وجد لنفسه هذا الميل، وذلك بمعايشة الحالة الطبيعية من خلال الزواج مع الأنثى، فإن لإيجاد البديل ومعايشته والإحساس به تأثيراً كبيراً في إمكان صرف النفس عما اتجهت إليه، لأن هذا الميل يتأكد نوعاً بتخيّل انحصار المتعة بالممارسة الشاذة وعدم وجود تشخيص حقيقي وملائم عن الحالة الطبيعية، فيؤدي إلى ما يزيد من تمسك المرء بالميول الخاطئة.

وثالثاً: إنّ تأمل الحياة تأملاً جامعاً وملائماً يعطي أن ثنائية الذكر والأنثى هي ثنائية رائعة من روائع الكون وان تكاملهما جسماً ونفساً هو تكامل ملائم ومذهل، وهو جزء من السنن الطبيعية والاخلاقية لهذه الحياة، كما نبهت على ذلك آيات مؤكدة وجميلة في القرآن الكريم.


(من كلام السيد محمد باقر السيستاني في بعض محاضراته)

2020/05/23

2020/05/21

الجبابرة يقمعون الرأي الآخر.. المواجهة الفكرية هي السبيل

- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع «الأئمة الاثني عشر»

حين يتبنى الإنسان رأياً باعتباره حقاً وصوابا، ويرفض رأياً آخر باعتباره باطلاً وخطأً، فإنه غالباً ما يندفع للانتصار للرأي الذي يؤمن به ويسعى لنشره، كما يهتم بإضعاف جبهة الرأي الآخر، وخاصة على مستوى الرأي الديني والمعتقدات الفكرية.

ومن المشروع أن يجتهد الإنسان في خدمة متبنياته الفكرية، فذلك هو ما يخلق الحراك الفكري في المجتمع البشري، عبر حالة التنافس، واستثارة العقول، وكشف ثغرات الآراء، وإذا لم يهتم أصحاب الآراء بطرح أفكارهم والدفاع عنها تسود حالة الركود الفكري، والجمود المعرفي.

لكن هناك نهجين في الانتصار للرأي:

نهج العنف والقمع لأصحاب الرأي الآخر، بمحاصرتهم والتضييق عليهم، والتنكيل بهم، ليتراجعوا عن آرائهم، ولمنع انتشارها في المجتمع.

نهج المواجهة الفكرية بالاجتهاد في تبيين الرأي وإثبات صحته وأحقيته بالدليل العلمي والبرهان المنطقي، ونقد الرأي الآخر بكشف نقاط ضعفه، ومكامن الخطأ فيه، وإبطال حججه ومستنداته.

نهج الجبابرة

استخدام العنف ضد الرأي الآخر نهج خاطئ فاشل، فهو مصادرة لحرية الإنسان في أعمق دوائرها، وانتهاك لأقدس حقوقه وأهمها، كما أن تجارب التاريخ قد أثبتت فشل أسلوب العنف في القضاء على الفكر وإنهاء الرأي.

وعادة ما يستخدم الجبابرة الظلمة هذا الأسلوب، حيث يمارسون العنف والقمع ضد أصحاب الرأي الآخر، حين يكون فيه مساس بمصالح سلطتهم، أو لأنهم يريدون التظاهر بحماية الدين، أو لمجرد فرض هيبتهم وتسلطهم وإرعاب الناس.

ومن المؤسف أن كثيرين من الحكام في تاريخ الأمة الإسلامية قد سلكوا هذا النهج، ليس فقط ضد أصحاب الرأي السياسي المعارض، وإنما ضد الآراء الدينية والفكرية، تارة بعنوان الحرب على الزندقة والإلحاد، وأخرى بعنوان التصدي للبدع والأفكار المنحرفة في الساحة الدينية.

لقد رفع الخليفة المهدي العباسي، والذي حكم الأمة من سنة 158 حتى مات سنة 169هـ، شعار محاربة الزنادقة، حيث بدأت تنتشر بعض أفكار التشكيك في الدين، وبدلاً من مواجهتها بالعلم والمنطق، شهر الحاكم في وجوههم السيف، وكان هناك تسرع كثير في إراقة الدماء واستخدام العنف.

جاء في تاريخ الدولة العباسية للشيخ محمد الخضري بك:

وكان المهدي مغرى بالزنادقة الذين يرفع إليه أمرهم، فكان دائماً يعاقبهم بالقتل، ولذلك كانت هذه التهمة في زمنه وسيلة إلى تشفي من يحب أن يتشفى من عدو أو خصم..

كان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقاً وعلماً وخبرة الوزير أبو عبيد الله معاوية بن يسار مولى الأشعريين، وكان متقدماً في صناعته، وله ترتيبات في الدولة، وصنف كتاباً في الخراج وهو أول من صنف فيه..

حصل حقد عليه من الربيع الحاجب، فوشى عليه عند المهدي بأن ابنه محمداً متهم في دينه، فأمر المهدي بإحضاره (الولد) وقال: يا محمد اقرأ فذهب ليقرأ فاستعجم عليه القرآن، فقال المهدي لأبيه الوزير أبي عبيد الله معاوية بن يسار: يا معاوية ألم تخبرني أن ابنك جامع للقرآن؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنه فارقني منذ سنين وفي هذه المدة نسى القرآن.

فقال المهدي: قم فتقرب إلى الله بدمه. فذهب ليقوم فوقع.

فقال العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين إن شئت أن تعفي الشيخ، ففعل، وأمر المهدي بابنه فضرب عنقه.

هكذا يكون مجرد الاتهام في الدين، والارتباك في قراءة القرآن مبرراً لقتل هذا الإنسان، وأن يُطلب من أبيه مباشرة عملية القتل!!.

وخلفاء آخرون مارسوا العنف والقمع تجاه من يقولون برأي مخالف في مسألة عقدية جزئية، كما حصل في ما عرف بمحنة القول بخلق القرآن.

فقد كان الخليفة هارون الرشيد يتبنى القول أن القرآن ليس مخلوقاً، ويقمع القائلين بفكرة خلق القرآن، حتى قال يوماً: بلغني أن بشر المريسي يقول: القرآن مخلوق. والله والله لئن أظفرني الله به لاقتلنه قتلة ما قتلها أحد. ولما علم بشر ظل متوارياً أيام الرشيد.

وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق، والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال: القرآن مخلوق.

وفي عهد الخليفة الواثق العباسي تغير رأي الحاكم، فتعرض من يقول بأن القرآن ليس مخلوقاً للقتل والتنكيل، كما حصل لأحمد بن نصر الخزاعي الذي قبض عليه والي بغداد، وامتحنه الواثق فأصر على رأيه أن القرآن ليس بمخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، فدعا الخليفة بالسيف، وقال: إني احتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده، وضرب عنقه، وأمر به فحمل رأسه فنصب بالجانب الشرقي أياماً، ثم بالجانب الغربي أياماً، وعلقت برأسه ورقة «هذا رأس أحمد بن نصر الذي دعاه الإمام الواثق إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجل الله به إلى ناره».

طريق الأنبياء

إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ، هو عرضها بأحسن بيان، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرره القرآن الكريم، يقول تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) 1.

كذلك فإن مواجهة الأفكار الباطلة، والآراء الخاطئة، يكون بنقدها ومناقشتها، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها، ونقاط ضعفها.

إن الرسالات الإلهية تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً مريداً، ولذلك تحترم عقله وتتخاطب معه، وتراهن على الثقة به وحسن اختياره.

كما ترفض أساليب الهيمنة وممارسة الوصاية الفكرية، بما تعني من تجاهل لدور العقل، ومصادرة لحرية الإنسان.

فالتخاطب مع العقل لا يكون بلغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجة والبرهان: (... قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ...) 2. (... قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ... ) 3. (... لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ...) 4. ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... ) 5.

تلك هي المبادئ الناظمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقانية الدين وبطلان ما عداه.

ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المخالف في الدين والرأي لمجرد مخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع.

كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبر بهم والإحسان إليهم ما داموا مسالمين غير معتدين.

يقول تعالى: ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) 6.

وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر، قدمت عليها أمها وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فقدمت على ابنتها أسماء بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله ، فقال: «لتدخلها». وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك».

وفي وصية القرآن الكريم بالبر بالوالدين، يشير إلى أن واجب البر بهما، وحسن العلاقة معهما، لا يتأثر بالاختلاف الديني معهما، حتى وإن كانا يضغطان على الولد باتجاه الشرك بالله، يقول تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ...) 7.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الأرحام والأقرباء، فإن الاختلاف الديني والفكري لا ينبغي أن يؤثر على مستوى التواصل معهم كأرحام، جاء عن الإمام جعفر الصادق أنه سأله الجهم بن حميد قائلاً: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: «نعم حق الرحم لا يقطعه شيء».

إن على المسلم أن يلتزم حسن الخلق مع كل من يتعامل ويتعاطى معه، حيث ورد عن رسول الله أنه قال: «أحسن صحبة من صاحبك تكن مسلما»، وجاء عن حفيده الإمام جعفر الصادق : «ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه». 8

الهوامش:


1. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 125، الصفحة: 281.

2. القران الكريم: سورة النمل (27)، الآية: 64، الصفحة: 383.

3. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 148، الصفحة: 148.

4. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 42، الصفحة: 182.

5. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 256، الصفحة: 42.

6. القران الكريم: سورة الممتحنة (60)، الآية: 8، الصفحة: 550.

7. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 15، الصفحة: 412.

8. مكتب الشيخ حسن الصفار 2 / 7 / 2005م.

2020/05/17

الإمام علي (ع) والوعي الاقتصادي

*رضي منصور العسيف

قال أمير المؤمنين: "فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقتصاد " 

في ظل هذه الأوضاع حريُ بنا أن نعيد حساباتنا (الاقتصادية) وأن نفكر في مصروفاتنا وفي مدى احتياجاتنا من هذه الكماليات ...

أثناء هذه الأزمة قام الكثير منا بتصفية لمقتنياته والتي منها الملابس القديمة التي لم نستخدمها إلا في مناسبة واحدة (خطوبة أو زواج) ... حتى امتلأت صناديق الملابس المستعملة!! ومن يشاهد هذا المنظر يقول كم نحن مجتمع مترف..

إن الحياة بمتغيراتها الكثيرة، ومتطلباتها الجديدة، وأحداثها المتعاقبة، تدعونا جميعًا لنكون أكثر وعيًا، وفي كل المجالات والميادين الحياتية، فالوعي هو قمة "النضج العقلي" على الإطلاق.

وفي سيرة الإمام علي  العديد من التوجيهات التي تسهم في تنمية الوعي الاقتصادي، اقتطف منها هذه الكلمات: 

كن اقتصاديًا

قال الإمام علي: "الاقتصاد نصف المؤنة"

الاقتصاد يشكل جانبًا مهمًا في حياتنا وهو يعني:

أن تكون متوسطًا في كل أمورك، على الاطلاق، عادلًا فيها غير مقصر فيها ولا مفرط.

أن تمارس عمليًا عملية الاقتصاد في حياتك، فتكون قادرًا على الاستثمار، وتكون نفقاتك بعيدة عن الاسراف، وعن التقتير في نفس الوقت.

أن تكون مستثمرًا جيدًا، وخاصة إذا كنت تعاني من ضيق مالي، وذلك بأن تجعل مصروفاتك أقل من وارداتك.

تنمية فكرة الاقتصاد

قال: إذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه الاقتصاد وحسن التدبير، وجنبه سوء التدبير والإسراف (5).

يجب توعية أفراد الأسرة بهذا المفهوم، وضرورة الترشيد في الاستهلاك، لأن الاستمرار في الحياة الماضية المشبعة بالاستهلاك سترفع الفاتورة والتي ستؤثر على مجمل حياتنا.

ليكن كل فرد من أفراد الأسرة على وعي اقتصادي رصين: يشتري ما يحتاجه فقط، دون تحميل رب الأسرة تكاليف مالية صعبة.

الاقتصاد استعداد للمستقبل

قال: من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعد لنوائب الدهر.

عندما تكون مقتصدًا فأنت تمتلك نظامًا سليماً لتقليل صدمات الحياة وتحسين جودة حياة الاسرة، ويظهر ذلك جليا في أوقات الطوارئ المالية والأزمات غير المتوقعة.

وهذا يتطلب منك وضع خطة اقتصادية تعينك في الأزمات.

قناعة واقتصاد

قال الإمام علي: غاية الاقتصاد القناعة. وعنه: اقنعوا بالقليل من دنياكم لسلامة دينكم، فإن المؤمن البلغة اليسيرة من الدنيا تقنعه.

القناعة صفة تقارب الاقتصاد في الأثر، وتقابله في المعنى، والفرق بينهما هو الفرق بين الخلق والسلوك، القناعة ملكة في الإنسان تكسبه الرضا بالقليل، والاكتفاء بما يسد الحاجة، والاقتصاد تنظيم المعيشة على ما تفرضه الحكمة وتدعو إليه الضرورة وأثر كل منهما اطمئنان النفس بما يحصل لها من القوت.

وتذكر هذه الحكمة الجميلة: ان تكون قانعا بالقليل شعور صعب جداً، وان تكون قانعاً بالكثير هو مستحيل، فتدرب على القناعة بأقل شيء.

انضباط اقتصادي

قال: المؤمن سيرته القصد وسنته الرشد.

ربما كان البعض يعيش فوضى اقتصادية عارمة طوال الفترة السابقة (مشتريات، كماليات،... )، لكن في ظل هذه الظروف ينبغي تطبيق قانون الانضباط الاقتصادي.

قد تكون البداية صعبة (التحول إلى العالم الجديد) إلا أن الوضع يحتاج إلى عزيمة ونية صادقة للتخلص من هذه الكماليات وتنظيم أمورك المالية.

فكن رشيدًا في الاستهلاك ولا تنجذب للعروض التسويقية.

 

2020/05/16

تطبيق القانون: كيف تعامل الامام علي (ع) مع الفساد المالي؟

تسلم الخلافة بعد اطاحة الثوار بحكم عثمان فوجد الاوضاع متردية بشكل عام الى ابعد حد وعلى اثر ذلك وضع خطة اصلاحية شاملة اول بنودها القضاء على الفساد المالي اذ اتخذ منذ ايامه الاولى قرارات صارمة في هذا الشأن اهمها:

1-عزل جميع العمال والولاة الفاسدين:

واستبدالهم باخرين تم اختيارهم وفق معايير الكفاءة والخبرة , والالتزام الديني والخلقي اذ منح الامام هذا المحور اهمية بالغة لأنه لا قوام للدولة بجهاز فاسد لذا فور توليه الخلافة عزل ولاة عثمان الذين جيروا السلطة لمنافعهم حتى طغى عليهم وعلى من يعود لهم – سيما العوائل الاموية – ثراء فاحش جراء اختلاساتهم من بيت المال . ومن ابرز من تم عزله معاوية، رغم ما أُشير على الامام ع من ضرورة التريث في ذلك خشية تمردهم لكنه ابى معلنا ان لا مداهنة على حساب المبادئ واقوات الناس.

2- تأميم الاموال المختلسة:

اصدر الامام عليه السلام قراره الحاسم بتأميم الاموال التي نهبتها الحكومات السابقة فصادر قطائع عثمان لذوي قرباه من الامويين التي استأثروا بها من بيت مال المسلمين واصدر مرسوما في ذلك جاء فيه: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفُرِّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق» وهذا اشد ما افزع الامويين واقضَّ مضاجعهم .

3- مراقبة ومحاسبة الولاة:

عمل الامام عليه السلام على اخضاع العمال والولاة للمراقبة والمتابعة السرية والعلنية وتفعيل اجراءات المحاسبة والمعاقبة للمسيئين بمختلف العقوبات وفي مقدمتها عقوبة العزل عن الوظيفة، اذ كان ع يتحرى امر ولاته ويرسل خلفهم من يتفقد صنيعهم حتى ان حضور احدهم لوليمة قوم لا يجلس عليها الفقراء ما كان ليخفى على الامام عليه السلام فما اسرع ان صار يقرع الوالي على صنيعه ! كان ع يقول في شأن الولاة: " من استعمل خائنا فان محمدا ص بريء منه في الدنيا والاخرة " حتى انه سلام الله عليه اذا شعر برغبة احدهم بالولاية حبا للدنيا حال بينه وبينها كما حصل لطلحة والزبير بعد ان طلباها .

4- المساواة في العطاء:

فبعد ان كانت مرتبات حاشية السلطة وقريش عامة والامويين خاصة مرتبات باهضة اصدر الامام قراره بمساواتهم مع سائر الناس فعندما ولَّى بيت مال المدينة عمَّارَ بن ياسر وأَبا الهيثم بن التَّيِّهَان كَتب إليهما: العربيُّ والقرشيُّ والأَنصاريُّ والعجميُّ وكُلُّ من في الإسلام منْ قبائلِ العرب وأَجناس العجم سواء " وعندما طالبوه بامتيازاتهم قال: " «إني قرأت ما بين دفتي المصحف، فلم أجد فيه لبني إسماعيل على بني إسحاق فضلاً»

5- مواساة الناس:

بل كان ادنى الناس نفقة على نفسه دون ان يؤثر ذلك على مكانته كخليفة !، خليفة اكتفى من دنياه بطمرين و قرصين خشية ان يكون في اطراف مملكته من لا يملك القوت والثياب ! وهذا التطبيق العملي سيكون له مردود ايجابي على جميع اجهزة الدولة لانه يكشف عن مدى ايمان خليفتهم بمبادئه

6- الصرامة في تطبيق القانون:

فالفساد المالي فرع خواء القانون يقول عليه السلام لاحد ولاته: "اخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك ... وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة والاشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك "

7- تثقيف الجماهير:

حركة الاصلاح لن تستقيم بصلاح شخص الحاكم ما لم تكن من خلفه امة واعية ؛ هذا ما يدركه الامام عليه السلام اكثر من غيره لذا اولى عناية فائقة في تثقيف الناس جاعلا من جامع الكوفة معهدا علميا يثريه بمحاضراته وخطبه التي جسد نهج البلاغة رشفة من بحرها وقد قيل فيه انه كلام فوق كلام المخلوق دون كلام الخالق.

2020/05/16

2020/05/14

2020/05/11

منجّية في الدنيا والآخرة: الشفاعة.. ما حقيقتها؟

إنّ الوقوف على حقيقة الشفاعة يتوقف على بيان أقسامها،  وتفاسيرها فنقول: إنّ الشفاعة حسبما يستفاد من القرآن الكريم تطلق على معان أو على أقسام،  وبعض هذه المعاني أو الأقسام وإن كان خارجاً عن الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام والتفسير،  غير أنّ الوقوف على مفاد عامّة ما ورد في القرآن الكريم حول الشفاعة يتوقف على توضيح جميع هذه المعاني أو الأقسام،  فنقول: إنّ الشفاعة على معان أو على أقسام:

1. الشفاعة التكوينية.

2. الشفاعة القيادية.

3. الشفاعة المصطلحة.

وإليك شرح هذه الأقسام :

1. الشفاعة التكوينية

تشهد النظرة العلميّة والفلسفيّة بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسبّبات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الكونية بعلّة وسبب،  وهذا أي كون العالم كعلّة خاصة من مجموعة العلل والمعاليل،  مما أثبتته الأُصول الفلسفية واعترفت به الآيات القرآنية.

غير أنّ الظواهر الكونية بحكم أنّها ممكنة الوجود،  غير مستقلّة في ذاتها كما هي غير مستقلّة في علّيتها وتأثيرها،  بمعنى أنّها لا تؤثر إلّا بإرادة الله وإذنه سبحانه،  ضرورة أنّها لو كانت مستقلّةً في التأثير يلزم أن تكون مستقلةً في الوجود لبداهة أنّ الاستقلال في العلية فرع الاستقلال في الوجود،  ولو سلمنا الاستقلال في التأثير فلا محالة قد سلّمنا قبله الاستقلال في الذات وهو يساوق كون الشيء واجباً غنياً عن العلّة،  وهو خلاف الفرض.

ولأجل ذلك اتّفقت الفلاسفة والمتكلمون إلّا من شذّ من المعتزلة على أنّه لا مؤثّر مستقلّ في الوجود غيره سبحانه،  وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه،  ولأجل ذلك صار شعار القرآن في حق الإنسان ( وحتى غير الإنسان أيضاً ): قوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ )[1]وقوله سبحانه: ( وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ)[2].

وقال سبحانه حاكياً عن موسى الكليم عليه ‌السلام: ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )[3].

فعالَم الكون بما أنّه عالَم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً ولا كمالاً،  بل كلما يملك من وجود وكمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم الإمكان موجود مفتقر في عامة شؤونه، وتأثيره، وعلّيته.

وإلى ما ذكرنا من توقف تأثير كل ظاهرة كونية،  على إذنه سبحانه يشير قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ )[4].

فإنّ الآية بعدما تصف الله سبحانه بأنّه خالق السماوات الأرض في ستة أيام وأنّه استوى بعد ذلك على العرش،  وأنّه يدبّر أمر الخلق،  تعلن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية والظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه،  وأنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير بل كل ما في الكون من العلل،  ذاته وتأثيره،  قائمان به سبحانه وبإذنه،  فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب والعلل المادية وغيرها،  الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها وإنّما سميت العلة شفيعاً لأجل أنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه فهي ( مشفوعة إلى إذنه سبحانه ) تؤثر وتعطي ما تعطي.

وعلى ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام،  وإنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية،  فإنّها تبحث في صدرها عن خلق السماوات والأرض وتحدّد مدّة الخلق والإيجاد بستة أيام،  ثم ترجع الآية وتنص على سعة قدرته على جميع ما خلق وإحاطته بهم،  وانّه بعد ما خلق السماوات والأرض،  استوفى على عرش القدرة وأخذ يدبّر العالم وعند ذلك ينطرح في ذهن القارئ أنّه إذا كان هو المدبّر والمؤثر فما حال سائر المدبرات والمؤثرات التي يلمسها البشر في حياته؟

فللإجابة عن هذا السؤال أتى بقوله: ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ مصرّحاً بأنّ كل تأثير وتدبير في سبب من الأسباب فإنّما هو بإذنه ومشيئته ولولا إذنه ومشيئته لما قام السبب بالسببية ولا العلة بالعلية،  وهذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون والوجود من التأثّر والعلّية،  وتفسيرها بالشفاعة التكوينية وإنّ كل ظاهرة مؤثّرة كالشمس والقمر والنار والماء لا تؤثر إلّا بالاستمداد من قدرته سبحانه والاعتماد على إذنه ومشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية والتدبير،  فلا خالق إلّا هو،  كما لا مدبر إلا هو،  فما يتراءى في صفحة الوجود من الخلق والتدبير فليس على ظاهرهما وإنّما تقوم سائر العلل بالخلقة والدبير مستمداً من حوله وقوته،  فيرجع معنى الآية إلى أنّه لا مؤثّر في الكون إلّا من بعد إذنه،  ولأجل ذلك تستنتج الآية وتخاطب البشر بأنّه إذا كان هو الخالق والمستولي على عرش القدرة والمدبر لجميع العالم،  وإذا كان تأثير كل ما سواه بإذنه،  فليعبد ذلك الرب سبحانه دون غيره،  إذ هو اللائق دون ما سواه بالعبادة،  فإنّ منشأ العبادة والخضوع هو الوقوف على الجمال والكمال المطلقين في المعبود بحيث يحمل ذلك الوقوف الإنسان العارف على العبادة والخضوع وليس ذلك الكمال موجوداً إلّا فيه سبحانه،  لأنّه الخالق المستولي المدبّر المعطي لكل ما سواه: الوجود والتأثير،  قال: ( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ).

إذا وقفت على ما ذكرنا تقف على أنّه لا يناسب حملها على الشفاعة المصطلحة التي تدور حول التكاليف والتشريعات وعصيان العباد ومخالفتهم لها،  ثم توسيط الشفعاء لغفران ذنوبهم وحط سيئاتهم.

وإلى ما ذكرنا يشير العلّامة الطباطبائي بقوله: « إنّ ربكم معاشر الناس هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كله سماواته وأرضه في ستة أيام،  ثم استوى على عرش قدرته،  وقام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير وإرادة،  فشرع يدبر أمر العالم،  وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد، لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور ـ وهو الشفاعة ـ إلّا من بعد إذنه،  تعالى،  فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه وغيره من الأسباب أسباب بتسبيبه وشفعاء من بعد إذنه،  وإذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموه أرباباً من دون الله وشفعاء عنده وهو المراد بقوله: ( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي لماذا لا تنتقلون انتقالاً فكرياً حتى تفهموا أنّ الله هو ربكم لا ربَّ غيره[5].

2. الشفاعة القيادية

المراد من هذا الصنف هو قيام قيادة الأنبياء والأولياء والأئمّة والعلماء والكتب السماوية مقام الشفيع والشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعماله وآثار سيئاته.

وتوضيح ذلك: أنّه إذا كانت نتيجة الشفاعة المصطلحة يوم القيامة هي تخليص العصاة من عواقب أعمالهم،  وآثار معاصيهم وأفعالهم،  فإنّ قيادة الأنبياء والأولياء والكتب السماوية والعلماء وأقلامهم تقوم بنفس هذا العمل.

غير أنّ الفرق بين الشفاعتين واضح فإنّ الشفاعة المصطلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له،  وهذه الشفاعة توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق.

وإن شئت قلت: إنّ الشفاعة الأولى تخلّص العبد بعد زلته وعثرته وبعد وقوعه في المهالك والمهاوي،  ولكن الشفاعة القيادية تمنع من وقوع العبد في المهالك وزلته إلى المهاوي،  فالأولى من قبيل الرفع،  والثانية من قبيل الدفع،  والفرق بينهما واضح،  فإنّ الرفع يمنع المقتضي عن التأثير بعد وجوده،  والدفع يمنع عن وجود المقتضي وتكوّنه.

وعلى ما ذكرنا من قيام قيادة الأنبياء والأئمّة مقام الشفيع والشفاعة في تخليص العبد من الوقوع في المهالك،  يظهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم ليس إطلاقاً مجازياً بل إطلاق حقيقي. وقد شهد بذلك القرآن والأخبار،  قال سبحانه: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[6] والضمير المجرور في ( بِهِ ) يرجع إلى القرآن[7].

ولا شك أنّ ظرف شفاعة هذه الأمور إنّما هو الحياة الدنيوية،  فإنّ تعاليم الأنبياء وقيادتهم الحكيمة وهداية القرآن وغيره إنّما تتحقق في هذه الحياة الدنيوية،  وإن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأخروية،  فمن عمل بالقرآن وجعله أمامه في هذه الحياة قاده إلى الجنة في الحياة الأخروية،  ولأجل ذلك نرى أنّ النبي الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله يأمر الأمّة بالتمسك بالقرآن ويصفه بأنّه الشافع المشفّع ويقول: « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع،  وماحل مصدّق،  ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار،  وهو الدليل يدل على خير سبيل،  وهو كتاب فيه تفصيل وبرهان »[8].

فإنّ قوله: ومن جعله أمامه،  تفسير لقوله: فإنّه شافع مشفّع.

والحاصل: أنّ الشفاعة القيادية شفاعة بالمعنى اللغوي،  فإنّ المكلفين بضم هداية القرآن وتوجيهات الأنبياء والأئمّة إلى إراداتهم وطلباتهم،  يفوزون بالسعادة ويصلون إلى أرقى المقامات في الحياة الأخروية ويتخلّصون من تبعات المعاصي ولوازمها.

فالمكلف وحده لا يصل إلى هذه المقامات،  ولا يتخلص من تبعات المعاصي،  كما أنّ خطاب القرآن والأنبياء وحده من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم ويلبّي نداءهم لا يكون له أثر وإنّما يؤثر إذا انضمّ عمل المكلف إلى هدايتهم،  وهدايتهم إلى عمل المكلف فعندئذ تتحقق هذه الغاية.

وبهذا تبيّن أنّ هذه الشفاعة لغوية،  لا تمت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة،  وذلك لأنّ جميع هذه الأمور،  أعني اتّباع المكلف وقيادة الأنبياء وهداية القرآن،  غير متحققة إلّا في الظروف الدنيوية وإن كانت تظهر النتيجة التامة في الحياة الأخروية،  والشفاعة المصطلحة عبارة عن تحقق الشفاعة في الحياة الأخروية وظهور نتائجها فيها،  وعندئذ يكون بين الشفاعتين بون بعيد.

والدليل على أنّ ظرف الشفاعة المصطلحة هو الحياة الأخروية: ما ورد في القرآن الكريم،  حيث عرف ظرفها اليوم الأخروي،  إذ قال سبحانه: ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ )[9].

وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ )[10] وقال سبحانه: ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً )[11] وقال سبحانه: ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَحِيمُ )[12].

فأنت إذا لاحظت هذه الآيات وأمعنت النظر في كلمة ( يَوْمَ ) التي وردت في هذه الآيات مكررةً،  تقف على أنّ ظرف إعمال الشفاعة وتحققها وظهور نتائجهاجميعاً إنّما هو الحياة الأخروية،  أعني اليوم الموعود الذي وعده الله لجميع الناس.

وأمّا الشفاعة القيادية فنفس الشفاعة وتحقّقها وتكوّنها في الحياة الدنيا وإنّما تتحقّق نتائجها وتظهر آثارها في الحياة الأخروية فكيف يصح أن تفسّر إحدى الشفاعتين بالأخرى ؟!

والذي يكشف عن ذلك هو أنّ بعض الآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها إنّما وردت في نفي عقيدة اليهود القائلين بالشفاعة الباطلة،  فأراد القرآن بنصوصه إخراج أمر الشفاعة بصورة صحيحة لا تأباه الفطرة،  ولا تنخرم به الأصول العقلية،  فبما أنّ اليهود يعتقدون بأنّ انتسابهم إلى الأنبياء يوجب أن لا تمسّهم النار يوم القيامة إلّا أياماً معدودة،  جاء القرآن يفنّد هذه المزعمة بنفي الشفاعة المطلقة المحررة من كل قيد وإثبات شفاعة محدودة ومقيّدة،  وعلى ذلك فالنفي والإثبات في آيات الشفاعة لا يردان على المورد الواحد إلّا بجعل ظرف تلك الشفاعة هو يوم القيامة والحياة الأخروية.

وعلى ذلك لا ينبغي لمفسّرٍ إرجاع الآيات المربوطة بالشفاعة،  إلى الشفاعة القيادية،  التي لا ترتبط بعقيدة اليهود في أمر الشفاعة وليس لها ظرف إلّا هذه الحياة الدنيوية.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن يعرّف الملائكة بأنّهم من الشفعاء ويقول سبحانه: ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ )[13] ومن المعلوم أنّ الشفاعة الممكنة من الملائكة في حق الإنسان إنّما هي الشفاعة المصطلحة،  لا القيادية فإنّ البشر العادي لا يقدر على الاستنارة والاستفادة من الملك،  ولا يمكن للملك أن يتكفل قيادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

وهذه الوجوه وغيرها تفنّد زعم من فسّر الشفاعة الواردة في القرآن الكريم بالشفاعة القيادية،  منهم الشيخ الطنطاوي في تفسيره،  فإنّه لما لم يتوفّق لحل مشاكل الشفاعة التي اخترعتها بعض العقول المنحرفة في أمر الولاية،  صار إلى تفسير آياتها بالشفاعة القيادية،  وأخذ يفسرها بتعاليم الأنبياء وهداية القرآن التي يصل بها الإنسان إلى الفوز والسعادة،  ويتخلّص بها من العذاب حيث قال :

إنّ شفاعة الأنبياء ليس من قبيل الهبات المالية ولا الوظائف الإدارية وإنّما هي نفحات علمية وأخلاق حكمية وآداب نبوية[14].

فَمَن فَقِهَ ما قالوه واتّبع ما رسموه واستثمر من بذور الشفاعة ما بذروه،  تمت له الشفاعة ودخل مع الجماعة وليس هذا القول بمخالف أهل السنّة ولا المعتزلة،  فإنّ خروج العاصي من النار بالشفاعة أو إبعاده عنها قبل الدخول وكذلك زيادة الحسنات في الأعمال للصالحين،  كل هذا جاء من شفاعته واتّباعه بل كل ثواب فإنّما هو بسبب ذلك وهكذا كل نجاة،  فإنّه صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله لو لم يأت لنا بالشريعة لكنّا أقرب إلى الحيوان فصرنا باتّباعه داخلين في شفاعته،  ولا يكون ذلك إلّا باتّباعه ولا ننال إلّا ما استعددنا له.

3. الشفاعة المصطلحة

وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلّا أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده،  وليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه،  تصل إلى عباده في هذه الدنيا من طريق أنبيائه وكتبه،  فهكذا تصل مغفرته سبحانه وغفرانه إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.

وإن شئت قلت: إنّ إرادته الحكيمة جرت في صفحة الوجود أن يتحقق كل شيء من طريق الأسباب الخاصة،  والعلل المعينة فكما أنّ رحمته التي وسعت كل شيء تصل إلى عباده في الحياة الدنيوية،  عن طرق خاصة وعلل طبيعية يلمسها كل من فتح عينه على الكون،  فكذلك رحمته المعنوية ومغفرته الوسيعة تصل في الحياة الأخروية إلى عباده عن طريق علل وأسباب خاصة ومن تلك الأسباب،  أولياؤه وصفوة خلقه،  ودعاؤهم وطلباتهم.

وما ذلك إلّا لأنّ الله سبحانه قد جعل لكل شيء سبباً وقضى أن لا يصدر المسبب إلّا بتوسط أسبابه،  فدار الوجود وصفحة الكون مدار الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات،  وقد جرت عليه مشيئته وإرادته.

أضف إلى ذلك أنّ وصول فيضه عن طريق أوليائه إلى عباده،  تكريم للأولياء،  وإظهار لمقامهم ونوع مثوبة لهم بالنسبة إلى طاعتهم وتضحياتهم،  في طريق الحق،  وإبلاغ رسالاته وأوامره.

ولا بعد في أنّ يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خيرة عباده فإنّ الله سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً،  ونص بذلك في بعض آياته فنرى أنّ أبناء يعقوب لما عادوا خاضعين،  رجعوا إلى أبيهم وقالوا له: ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ )[15] فأجابهم يعقوب بقوله: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ )[16].

وليس يعقوب وحيداً في هذا الباب بل النبي الأكرم أحد من يستجاب دعاؤه في حق العصاة قال سبحانه: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً )[17].

وهذه الآيات ونظائرها مما لم نذكرها مثل قوله: ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ )[18] تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء،  وقد تصل بلا توسيط واسطة،  كما يفصح عنه سبحانه بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )[19]،  وقوله: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ )[20] إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.

وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق وبخاصة دعاء الصالحين من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول،  ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس،  فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا وحواسنا بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا،  يقول سبحانه: ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً)[21].

فما المراد من ( المُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) ؟ أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية،  أو المراد هو الأعم منها ؟ فقد روي عن أمير المؤمنين تفسيرها بالملائكة الأقوياء،  الذين عهد الله إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه،  فكما أنّ هذه المدبرات يجب الإيمان بها وان لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها،  فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة،  ودفع العذاب وان لم تعلم كيفية تأثيره.

ويشير إلى ذلك ما روي عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث سئل عن الأحراز التي يتداولها سواد الناس يقصدون بها الاستشفاء،  وهل أنّها تستطيع أن تغير القدر أو لا ؟ فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله: « هي من قدر الله »[22]. فأخبر بهذا عن أنّ الدعاء أيضاً جزء من القدر الإلهي،  فكما قدر أن يشفى المريض بسبب الداوء كذلك قدر أن يشفى بالدعاء.

ثم إنّ العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه قد أوضح كيفية تأثير الشفاعة في جلب الغفران ودفع العذاب بقوله: « إنّ الشفيع إنّما يحكّم بعض العوامل المربوطة بالمورد،  المؤثرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده ( أي الله سبحانه ) على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ( إلى أن قال: ) ومن هنا يظهر أنّ الشفاعة من مصاديق المسببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأوّل ومسبّبه.

وإن شئت قلت: إنّ الشفيع يستفيد من صفات الله العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك في إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه،  فكما أنّ الشفاعة التكوينية ( التي مر ذكرها وشرحها في القسم الأوّل من الشفاعة ) ليست إلّا توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها كما يفصح عنه قوله سبحانه: ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ )[23] فكذلك الشفاعة المصطلحة فإنّ الآيات تثبت الشفاعة لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء،  فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة،  ولله الملك وهو القائل عز من قائل: ( فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )[24]. [25]

وبذلك ظهر أنّ الشفاعة المصطلحة قسم من الشفاعة التكوينية،  بمعنى تأثير دعاء النبي ومسألته في جلب الغفران بتوسيط صفاته العليا في هذا الأمر.

أضف إلى ذلك: انّ تأثير الشفاعة في جلب الغفران ونزول الفيض،  لا يحتاج إلى هذا التحليل أساساً،  فإنّ الله سبحانه هو مالك يوم الدين وله الملك وله الأمر،  فكما أنّ له إحباط عمل الكفار والمنافقين إذ يقول سبحانه: ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً )[26] وقال سبحانه: ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ )[27] فكذلك له أن يغفر من ذنوب عباده ما شاء ولمن شاء وبما شاء إذ يقول: ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ )،  والآية واردة في غير مورد الإيمان والتوبة فإنّ الإيمان والتوبة،  يغفر بهما الشرك أيضاً.

فكما أنّ له تكثير القليل من العمل قال سبحانه: ( أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ ) وقال سبحانه: ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) كذلك له أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً قال سبحانه: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ).

وهذه الآية تصرح بأنّ ثواب العمل يصل إلى ذرية الإنسان أيضاً وإن لم تفعل هي بنفسها.

ولا يتوهم من هذه الآيات أنّ المغفرة والعقاب لا يخضعان لقانون بل الله يفعل ما يفعل بملاكات ومصالح مقتضية خفية علينا،  ولتكن من ذلك شفاعة أوليائه وتوسط صفوة عباده في هذا المورد.

الهوامش:


[1] فاطر: 15 ـ 17.

[2] محمد: 38.

[3] القصص: 24.

[4] يونس: 3.

[5] الميزان: 10 / 6 ـ 7.

[6] الأنعام: 51.

[7] مجمع البيان: 2 / 304.

[8] الكافي: 2 / 238.

[9] البقرة: 48.

[10] البقرة: 254.

[11] طه: 109.

[12] الدخان: 41 ـ 42.

[13] النجم: 26.

[14] ) تفسير الطنطاوي: 1 / 69 ـ 70.

[15] يوسف: 97.

[16] يوسف: 98.

[17] النساء: 64.

[18] التوبة: 103.

[19] التحريم: 8.

[20] هود: 90.

[21] النازعات: 1 ـ 5.

[22] ) التاج الجامع للأصول: 3 / 178 ـ 179. وروى الصدوق عن الإمام الصادق عليه‌السلام عندما سئل عن الرقى: أتدفع من القدر شيئاً ؟ فقال: « هي من القدر ». راجع توحيد الصدوق: 389.

[23] يونس: 3.

[24] الفرقان: 70.

[25] الميزان: 1 / 161 ـ 163 بتلخيص.

[26] الفرقان: 23.

[27] محمد: 9.

2020/05/05

العبادة أم العمل: كيف يسهم التديّن في بناء الحضارة الإنسانية؟

آية الله السيد منير الخباز: العبادة كل عمل يتصل بالله ويقصد به وجهه.

آية الله الخباز: التدريس والتعليم والعمل وطلب الرزق عبادة وكذلك تطوير النفس وتهذيب الشخصية.

آية الله الخباز: العبادة لا تنحصر في طقوس واعمال معينة.

آية الله الخباز: الإنسان المتدين والعابد هو الإنسان الهادف الذي يحمل هدفاً كبيراً ومهماً في الحياة ويعمل على تحقيق انجاز لم يحققه غيره.. هذا هو الانسان المتدين.

 

2020/05/03

الملحد عدوّ نفسه!

روي عن النبي (ص) أنه قال: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك‏ (مجموعة ورام ج1 ص59).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: من عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة.. لا ينزجر من الله بزاجر ولا يتعظ منه بواعظ.

لقد عشق الملحدُ الإلحادَ فأمرَض قلبه، لذا تراه في كلّ وادٍ يهيم.. يتخبط خبط عشواء، ولا يهتدي للحق سبيلاً..

فتارةً يعترف أن قوانين الكون (دقيقة وعظيمة) وتارة أخرى ينفي أن يكون لها (صانع عظيم)!

فيما يلي جملة من كلمات رموز الإلحاد التي تبيّن مقدار التناقض، أوصلهم إليه حُبُّ الإلحاد فأعشى بصر بعضهم وأعمى عيونهم حتى لم تعد تنفعهم المواعظ.

أولاً: دقة نظام الكون بلا خالق!

هذه كلمات جملة من الملحدين ك(ستيفن هوكنغ) و(ليوناردو ملودينو) في كتابهما التصميم العظيم، والفيزيائي (فيكتور ستينغر) في كتابه عن الله، واللا أدري (برايان غرين) في كتابه الكون الأنيق:

"يمكن فهم الكون لأنه محكوم بقوانين علمية…" (التصميم العظيم ص109)

"إن نظامنا الشمسي لديه خصائص أخرى (محظوظة) لم يكن من الممكن أن تتطور اشكال الحياة المعقدة من دونها…." (التصميم العظيم ص180)

"إذا كانت كتلة شمسنا أقل أو أكثر من 20 %، فإن الارض ستكون أبرد من المريخ أو أسخن من الزهرة".(التصميم العظيم ص183)

"معظم الثوابت الأساسية في نظرياتنا تبدو مضبوطة بدقة، بمعنى أنها لو ُعدِّلت بمقادير بسيطة فإن الكون سيختلف كيفياً، وسيكون في حالات عديدة غير ملائم لتطور الحياة.

تُكّوِّنُ قوانين الطبيعة نظاماً منضبطاً بدقة فائقة… وإن لم توجد تلك السلسلة من التوافقات المذهلة لتفاصيل القانون الفيزيائي الدقيقة، فسيبدو أنه لن يظهر أبداً لا البشر ولا أشكال الحياة المماثلة إلى الوجود".(التصميم العظيم ص194)

"من الواضح أن المعاملات الفيزيائية لبيئتنا لو كانت مختلفة قليلاً لما كانت الحياة كما نعرفها على الأرض قد تطورت" (ستينغر في كتابه عن الله ص141)

"سيصبح العالم مكاناً مختلفاً جداً إذا تغيرت خواص المادة وجسيمات القوى ولو تغيراً طفيفاً". (الكون الأنيق ص28)

فهذه سبعة نماذج من كلماتٍ كثيرةٍ لهؤلاء يؤكدون فيها على أن تغييراً طفيفاً في نظام الكون الأساسي يؤثر على أشكال الحياة كلها ولن يكون هناك مجال لوجود البشر ولا أي حياة في الوجود!

ويقر بهذا أغلب علماء العصر بمن فيهم الملحدون واللا أدريون الآخرون..

ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الأقوال إلى الاعتقاد بوجود خالق عظيم لهذا الكون الدقيق..

ولا يجد العاقل بداً من الاعتقاد بالإله بعدما يرى هذه الدقة المتناهية في نفس الإنسان وفي الكون الفسيح.

وإذا ما احتججت بذلك على الملحدين فلا يمكنهم إنكار أن كل الدلائل تشير إلى الخالق، فيصرح هوكنغ وملودينو بقولهما:

يبدو أن كوننا وقوانينه كليهما مصَّممان على يد خياط ماهر لدعم وجودنا… (التصميم العظيم ص195)

لكنهما سرعان ما يبادرا إلى نقض هذه الكلمات الذهبية التي أقرا بها، ونفي ذلك عند الحديث عن أن الله هو الخالق فيقولان: ليست تلك هي إجابة العلم الحديث! (ص197)

وإن سألتهما لماذا ؟

سينفيان أن يكون الكون مصمماً ليلائم الجنس البشري.

ويقولان: إن كوننا (قد) يكون واحداً من عدّة أكوان، لكل منها قوانين مختلفة! (ص197)

وبالتالي يرجع الأمر (بحسبهم) للصدفة لا للمصمم الماهر! رغم كل هذه الدقة العجيبة.

إذاً قد جعلا احتمال وجود أكوان أخرى لها قوانينها المختلفة سبباً لإنكار دليل الخلق!!

والحال أنه على فرض وجود الاكوان المختلفة التي تتعدد قوانينها، فينبغي ان يكون ذلك مؤيدا لأدلة وجود الله تعالى، فإنه يدل على عظمة الله تعالى حيث خلق أكواناً مختلفة لكل منها قانونها الخاص الذي يتكيف معها.

إن كلامهم يشبه قول الطفل: الجمع بين الرقمين 1+1=2 هو حساب صحيح إن لم يوجد في الدنيا أي حساب غيره.

لكن إن وجد جمعٌ آخر مثل 2+2=4 فإن الجمع الأول 1+1=2 سيكون خاطئاً !!

إن احتمال تعدد لأكوان أو الجزم بوجودها لا يكون نافياً لكل الدقة الموجودة في الكون، فإن كانت الدقة مُسَلَّمة في كون واحد لن يكون بإمكاننا نفيها إن أثبتنا أكواناً أخرى! وستكون هي طريقاً لإثبات الخالف.

مجدداً.. السبب في هذا التهافت.. أن الملحد عدو نفسه!

ثانياً: من أوجد قوانين الكون؟

بعد أن يسلم الملحد بأن خلق الكون لا بدّ أن يكون وفق قوانين خاصة، كما يقول الملحدان هوكينغ وملودينو:

"كيف يتم خلق مجمل الكون من لا شيء؟ لهذا يجب أن يكون هناك قانون كقانون الجاذبية…". (التصميم العظيم ص215)

تكاد تتصور أنهما قد اهتديا إلى مَن سنّ هذه القوانين، إلا أنهما يفاجئانك بالقول أن:

"بداية الكون كانت محكومة بقوانين العلم، وأن الكون ليس بحاجة للانطلاق بمعرفة إله ما.."!! (التصميم العظيم ص165)

ولا ينقضي تعجبك إن سألتهم كيف ينبغي ان تكون البداية محكومة للقوانين ولا تكون القوانين بحاجة إلى إله؟!

يزداد تمسّكهم بالتناقض في قولهم أن (مجمل الكون) يمكنه أن يظهر من (لا شيء) لكن (النجوم) وسائر الأجسام لا يمكنها ذلك؟!

أي منطق وعلم يمكن استفادته من هذه الكلمات؟!

يقولان:

– أجسامٌ مثل النجوم أو الثقوب السوداء لا تستطيع الظهور وحسب من لا شيء. لكنّ مجمل الكون يمكنه ذلك…

– لا توجد قيود على خلق مجمل الكون. لأن هناك قانوناً مثل الجاذبية، فإن الكون يمكنه أن يخلق نفسه من لا شيء…

– ليس من الضروري أن نستحضر إلهاً لإشعال فتيل الخلق ولضبط استمرار الكون.(التصميم العظيم ص216)

ولا يتمكن هؤلاء من تفسير ظهور الكون الذي نعيش فيه بسبب وجود قانون الجاذبية، وعدم ظهور أكوان جديدة تنطلق من الكرة الأرضية كل يوم طالما أن قانون الجاذبية لا يزال محفوظاً على الأرض..

يحاول بروفيسور الفيزياء والفلك فيكتور ستينغر التخلص من هذا الإشكال بطريقة أكثر غرابة.. يقول:

"فمن أين أتت قوانين الفيزياء ؟ … لا يوجد سبب يمنع قوانين الفيزياء من أن تنشأ من داخل الكون نفسه". (كتابه عن الله ص125)

مغالاة ستينغر في الإلحاد أوقعته في التناقض الواضح:

إذا كان الكون بحاجة إلى قوانين الفيزياء ليوجد.

وقوانين الفيزياء ستنشأ من داخل الكون نفسه.

فتوقف الكون على وجود القوانين، وتوقفت القوانين على وجود الكون!

وتَوَقُّفُ الشيء على نفسه مستحيل عند كافة أهل المنطق والعقل.. لكن من يدري.. لعل ستينجر يلتزم بإمكان حصول المستحيل كما بإمكان اجتماع النقيضين!

الدجاجة تنتظر البيضة.. والبيضة تنتظر الدجاجة! والبيضة والدجاجة موجودتان!

يحاول ستينجر الدفاع عن فكرته بالقول: إن أكثر قوانين الفيزياء أساسية ليست تقييدات لسلوك المادة. بل هي تقييدات للطريقة التي قد يفسر بها الفيزيائيون هذا السلوك.(ص126)

فيخلط بين (القانون) وبين (تفسير القانون)، ليزعم أن (أكثر) القوانين هي تفسيرات للظواهر الموجودة وليست قوانين فعلاً.

لكن..

إذا كانت قوانين الفيزياء هي مجرد (تفسير لسلوك المادة)، فإننا ننقل الكلام ل(سلوك المادة) نفسه وفق نظام معين، وهذا هو القانون الذي كان لا بد منه بحسب هؤلاء العلماء.

فالجاذبية مثلاً تفسر سقوط الاجسام، ولكن كلامنا ليس عن (تفسير السقوط) إنما الكلام في السقوط نفسه، فالتفسير لا يكون سبباً في السقوط إنما يكون شرحاً وتوضيحاً للجاذبية.

لكن من الذي أوجد (حقيقة الجاذبية) و(سلوك المادة) في سقوطها ؟

هناك حقيقة وهي أن الجاذبية موجودة والاجسام تسقط الى الارض. وهذه لا تتغير مهما كان (القانون الفيزيائي) فمن أوجد هذه الجاذبية؟

فإذا نقلنا الكلام الى (سلوكيات المادة) نفسها، وليُسَمِّها ستينغر بما شاء، إذ عليه أن يخبرنا كيف تخرج من الكون الذي توقف وجوده عليها؟!

وكيف للانفجار الكوني أن يولد الكون دون أن يكون محكوماً لـ (سلوكيات المادة) التي تولد منها الانفجار؟

كأنه يقول بعبارة أخرى: قانون الجمع يفسر لنا كيف يكون 1+1=2 وهذا القانون بشري.

فنقول له: نعم (تفسير) كيفية كون 1+1=2 امر بشري، لكن نفس كون النتيجة 2 هي امر تكويني واقعي خارجي، لا دخل لنا به، إنما قد يكون لنا دخل في تفسيره.

فيرجع الأمر لا محالة إلى الدور وإلى توقف الشيء على نفسه.. ولا نجد من الملحدين إلا (تلاعباً بالألفاظ) لا يسمن ولا يغني من جوع.

يحاول ستينغر الدفاع عن كلماته بما يخالف فيه سائر علماء الفيزياء..

فيقول: نحن عادة ما نفكر في قوانين الفيزياء كجزء من تركيب الكون. ولكني أجادل هنا بأن قوانين الحفظ الثلاثة الكبرى ليست جزءاً من أي تركيب. بل إنها تنبع من انعدام التركيب ذاته في أول لحظة.

لا شك أن هذه الفكرة صعبة الفهم. وآرائي في هذا الموضوع بالذات لا يتقبلها إجماع الفيزيائيين.. (كتابه عن الله ص127)

كيف يريد الملحدون الذين يتمسكون بما يسمونه (العلم الحديث) منا أن نترك (يقيننا) بديننا لأجل كلمات يرددها عالم فيزياء ملحدٍ فاقد للإنصاف والموضوعية، وهو مقرٌّ بأنها (آراء خاصة) لا يقبلها (إجماع الفيزيائيين)!

إن ستينغر يبقى عاجزاً عن تفسير كيفية تحول (انعدام التركيب) أي العشوائية التي يتحدثون عنها في انطلاق الكون إلى (سلوكيات منتظمة) نراها كل يوم في الكون يؤدي أي اختلال فيها إلى خراب هائل لا يمكن توقعه.

لقد زعموا كابن ابي العجواء أن ليس من آثار تدل على الله تعالى.. حيث روى الكليني قوله للإمام الصادق عليه السلام:

ما منعه إن كان الأمر كما يقولون (من الإيمان بالله والمعاد..) أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان؟

و لم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل لو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟

فقال لي (ع): ويلك وكيف احتَجَبَ عنك من أراك قدرته في نفسك؟

نشوءك ولم تكن

وكبرك بعد صغرك

وقوتك بعد ضعفك

وضعفك بعد قوتك

وسقمك بعد صحتك

وصحتك بعد سقمك…

ولعلّ أفضل ما توصف به كلمات كل واحد من هؤلاء الملحدين هو عبارة أمير المؤمنين عليه السلام حينما نهى عن مؤاخاة بعض أصناف الناس.. ومنهم من: سكوته خير من نطقه‏ (الكافي ج2 ص376).

2020/04/29

اخترع «آيفون» أم صنع صاروخاً: ماذا نتوقع من الدين؟!

ما الذي يقدمه الدين في هذا العصر الذي تطور فيه العلم و الإنسان، فبالمقارنة مع الإنسان الموجود وقت نزول الدين يجد الفرق كبير جداً؟

هذا وكذلك أسئلة أخرى تطرح في هذا الزمان كثيراً في السؤال عن ما يقدمه الدين بعد تطور الإنسان في مجال العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والفلسفة، حيث إن الإنسان اليوم استطاع أن يخترق المجرات، كما استطاع أن يخترق الذرة و أن يتعرّف على البنى التحت ذرية المكونة لهذا الأجسام العظيمة، كما أنه استطاع أن يرجع بعقله إلى أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة لكي يتلمس بداية الكون، وهو يقدم الآن حزمة من النظريات في علم النفس وفي علم الاجتماع وفي علم القانون، فبعد كل هذا ما هي حاجتنا إلى الدين؟  ما الذي يُعطينا الدين؟  ما الذي يُقدم لنا الدين؟  خصوصاً إذا كان الدين يرجع إلى أكثر من 1400 سنة؟

في مقام الإجابة على هذا السؤال باختصار أذكر جملة من الأمور التي يُقدمها الدين، ولا يُقدمها علم شيء آخر غير الدين:

تنبيه العقول القاصرة وتحصينها من الشبهات

الأمر الأول:  هو أن الدين يُنبه العقل القاصر إلى مبدئه ومعاده، فإن العقل في بداية تكوينه ليس كالعقل في نهاية تكونية، فقد ذكر الفلاسفة أن الإنسان يولد بلا ذهن، ثم إذا تحصل على الصور الذهنية يوجد عنده ما يسمى بالوجود الذهني، ثم يدخل في عمليات التفكير ومن خلال الممارسة المستمرة في علمية جمع المقدمات والانتقال من المقدمات إلى النتائج يكتسب الدربة والخبرة في عملية الاستدلال، والدقة والعمق لا تأتيان له في أول نشآت تفكيره، وإنما تأتيان بعد مراحل، وهذا يعني أن العقل البشري في بداية تكوينه من السهل جداً أن يقع في الشبه، و يمكن أن تأخذه التيارات المنحرفة إلى الانحراف ؛ لأنه لا يملك الحصانة الفكرية، و الدين يأتي للعقل الإنساني ويُنبهه إلى مرتكزاته الفطرية ويُقدم له أدلة وبراهين تُؤيدها الفطرة على وجود الله تبارك وتعالى، يقول تعالى:  (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (ال عمران 190)، فقبل أن يتلقفه العقل المادي ويقول:  له العالم مادة، والمادة يمكن أن توجد من لا شيء يُقدم الدين له دليلاً فطرياً، فإذا جاء المادي يصطدم مع ما قدمه الدين من تنبيه على وجود الله تبارك وتعالى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعاد، يقول تعالى:  ( َلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) (البلد 8-9)، فإن في هذه الآية دليلاً فطرياً على ثبوت المعاد، فالقرآن يريد أن يقول للإنسان: إذا التفت إلى جعل العينين والشفتين في عالم الأرحام تقطع أن الحكيم الذي أوجدك لم يخلقك للرحم، وإلا لما وضع لك العين التي لا تبصر بها في عالم الرحم ولا اللسان الذي لا تتحدث به في عالم الرحم، أنت خلقت لنشأة أخرى وهي عالم الدنيا، وهذا يجري في ما تجده في نفسك من فطرة على حب الخلود والبقاء، والسعي لأن تكون محفوظاً دائماً من الآفات والمهلكات، فإن من خلقك وأودع فيك هذه الفطرة لم يخلقك لهذه النشأة الفانية، وإنما لنشأة أخرى دائمة ( يا أيها الناس خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء وإنما من دار إلى دار تنقلون ) (الأمالي، الشيخ الطوسي، ص216) فالدين يُقدم الأدلة العقلية على المبدأ والمعاد لعامة الناس بصورة فطرية في مراحل تكامل عقولهم الأولى، وبهذا يُشكل لهم حصانة فيما إذا اصطدموا بعد ذلك بشبهات التيارات المختلفة. 

بيان الغاية من خلق الإنسان

الأمر الثاني:  إن الدين يُبين الغاية من خلق الإنسان، نحن لماذا خلقنا؟  ما هو الهدف من وجودنا؟  هذا السؤال لا يمكن أن نتحصل على جواب له في علم الرياضيات ولا في علم الفيزياء ولا في علوم الأحياء ؛ لأن الغاية من خلق الخلق لا يعرفها إلا من خلق الخلق، فالله تبارك وتعالى هو الذي خلق الخلق، وخلق لغاية وهو يعرف غايته، و إذا أردنا أن نتعرف على غايته لابد أن يُخبرنا، والباري تبارك وتعالى يُخبر من خلال الدين يخبرنا بأن الغاية أن بلغ مقام الكمال ليس فقط في نشأة الدينا، وإنما في نشأة الدنيا وفي نشأة الآخرة. 

وهذا يجعلنا بحاجة ماسة إلى معرفة عدة أمور لا نعرفها إلا بواسطة الدين:

1ـ كيف نحصل السعادة في النشأة الأخرى؟

2ـ ما الموانع التي تمنعنا من الظفر بالسعادة هناك؟

3ـ هل الظواهر المبغوضة لنا في هذه النشأة تنافي هدفية الكون واشتماله على الحكمة؟

قيمة الأحكام الأخلاقية

الأمر الثالث:  هو أن الدين يقدم الجزم بوجود قيم أخلاقية ملزِمة، فالسؤال الذي نواجهه هنا:  هل يمكن أن نجزم بلزوم فعل العدل ولزوم ترك الظلم مع عدم الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى؟

التفتوا جيداً:  هناك فرق بين أن أدرك أن العدل حسن وأن الظلم قبيح، وبين أن أجزم وأحكم بضرورة أن لا أظلم وأن لا أترك العدل، هذان أمران مختلفان، و فلاسفة ما بعد الحداثة كـ(فردريك نيشته) يقولون: إن الكون وجود مادي ونحن كالحشرات وجدنا من خلال تطور كما يقول (تشارلز روبرت داروين) فما في الكون ليس إلا هذه المادة التي تتموج، وعليه ينبغي أن يُحكم المجتمع الإنساني بالنظام الحاكم على عالم الأحياء، وهو قانون البقاء للأقوى، لهذا (فريدريك نيشته) يطرح (نظرية السوبرمان) وهي الإنسان فائق القوة، ويرى فيها أنه لا ينبغي أن نلتفت إلى القيم والأخلاق، هذه كلها عناوين يستثمرها الضعفاء لكي يُكبلوا الأقوياء ويمنعون الأقوياء من ممارسة حقوقهم الطبيعية وهو أن تكون الغلبة لهم، ففي كتاب (جنياجولوجيا الأخلاق) يذكر أن الدين المسؤول تاريخياً عن تعميم وترسيخ الأخلاق، وهي قيم العبيد البليدة والخانعة، فعلى هذا هو يرى أن من حق الأقوى أن يُدخل الضعيف في أفران النار أو في غرف الغاز وأن يقضي على أصحاب العاهات والأمراض حتى لا يبقى إلا الأقوى، وهذه العقلية هي العقلية التي اعتمدت عليها النازية، وهي عقلية رجل الكوبوي المسيطرة على العالم اليوم، وهي عقلية اللا أخلاق وإنما للأقوى أن يفعل ما يشاء، وهذه طبيعة لابد وأن نُسلم بها إذا كنا نعتقد بأن الوجود ليس إلا مادة وعالم المادة محكوم بقانون البقاء للأقوى لهذا (ريتشارد دوكينز) في كتابه (وهم الإله) يذكر أنه إذا لم نؤمن بالدين فمن الصعب الدفاع عن ما يسمى بالقيم المطلقة، فلابد أن تكون متدين في البداية ثم تكون رجلاً خلوقاً بمعنى يوجد ما يجعلك تلتزم بترك الظلم والعدل، فإنك إذا اعتقدت بوجود لله وأن الله رقيب، وأنه سوف يُعاقبك فيما إذا فعلت السيء حينئذٍ ـ لدفع الضرر عنك ـ سترى أن من اللازم أن لا تركب القبيح وأن لا تفعل إلا الحسن فيما إذا أمنت العقوبة من غير الله تعالى، أي سترى من اللازم عليك العمل بالقيم الأخلاقية المطلقة، لأنه لا تنجو من تبعية عملك، يقول (دوكنز):  " ليست جميع الأحكام المطلقة مستمدة من الدين، ولكن من الصعب جداً الدفاع عن القيم الأخلاقية المطلقة على أرضية أخرى غير الدين" ( وهم الإله ص 232).

إننا نشاهد ما يعرف في الأفلام الوثائقية التي توثق عمليات افتراس الحيوانات لبعضها البعض، ولا نرى ذلك قبيحاً، وإنما ننظر إليه على أنه حق طبيعي بمقتضى قانون البقاء للأقوى، و طبيعة طلب انتفاع الحي بمثله، فلماذا لا يكون الأمر كذلك في ممارسات الجيش النازي في الحرب العالمية الثانية، أو ممارسة اليابانيين في الصين أو اليهود في فلسطين؟!

إن الملحد الذي ينطلق من المادة في تفسير كل شيء لا يملك جواباً، ولهذا ضحكت كثيراً عندما قرأت لـ(ريتشارد دوكنز):  "القيم الأخلاقية التي يبشر بها المتدينون عبارة عن ماذا؟ رجم الناس لممارسة الجنس قتل من يترك دينه إذن، لا أظن أنني أريد قيم أخلاقية مطلقة أريد قيم أخلاقية ناتجة عن تفكير ومناقشة و برهنة و يمكن القول قيم مبنية على تصميم ذكي".

فإن كلامه يواجه عدة ملاحظات منها

الملاحظة الأولى:  هو أن (دوكنز) لم يبين الأساس العقلي الذي على أساسه رفض الرجم والقتل، فإن كنا حسب التصميم الذكي كالحشرات نتيجة تطور مادي محض، فلماذا يحق للذئب أن يبطش بصغار الماعز وهو ينظر إليهم ـ كما يحق للإنسان ذلك ـ، ولا يسن (دوكنز) قوانين لعقابه، و بماذا لا يحق للبشري أن يقتل مثله كما كان للأسد أن يقتل مثله لأجل السيطرة على مساحة من الغابة؟

الملاحظة الثانية:  هو أنه حصر قيم المتدين في الرجم والقتل، وهذا أمر مجانب للصواب، ويمكن للمتدين أن ينفر من الملحد بممارسة نفس هذا العمل التشويهي فيحصر قيمه في المثلية والشذوذ و الإباحية المطلقة، ولكن الخلوق ينبغي أنه أن يلتزم بقيمه.

الملاحظة الثالثة:  إن المتدين ينطلق من حق الله تعالى، فكما أن لله تعالى أن يمكن بعض الحيوانات من البعض الآخر لمصالح نظامية، له أن يمكن بعض البشر من البعض الآخر لحكمة ومصالح نظامية، وهذا تصرف من مالك في ملكه، فلا ينافي القيم المطلقة.

إذاً، الأمر الثالث الذي يقدمه الدين هو اعتبار القيم الأخلاقية الملزمة، وكما تعلمون لا يمكن أن يقوم مجتمع من دون قيم أخلاقية ملزمة، فلا يمكن أن يسود القانون ويكون القانون مبنياً على العدل والمساوة ويلتزم المشرع المطبق للقانون بقيم القانون إلا إذا كان هناك إلزام أخلاقي، ولا إلزام أخلاقي إلا في ظل الدين. 

الغذاء الروحي و استقرار النفس

الأمر الرابع:  إن الدين يقدم للإنسان الاطمئنان النفسي والاستقرار النفسي وعدم الشعور بالقلق والخوف من المجهول، المؤمن الذي يعتقد بوجود الله تبارك وتعالى يطمئن قلبه (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد 28) لماذا؟  لأنه يعتقد أن هناك إلهاً رحيماً وهو بصير بحاله يحيطه بالنعم وخلقه لكي يُكرمه، وإكرامه لا يظهر جلياً في هذه النشأة وإنما في النشأة الأخرى، فهذا لاعتقاد يُعطي الإنسان الاطمئنان من جهة المستقبل وما بعد الموت، فكل واحد منها لأنه متدين يجد نفسه ثابتة باقية بعد أن تخرج من هذا الجسد، بينما الملحد إما أنه يجزم بعدم وجود المعاد، فهو لا يرى لحياته معنى ؛ لأنه يقول مهما أنجزت ستكون نتيجتي هي العدم، و قد ذكر ( ألكسيس كاريل ) صاحب كتاب ( الإنسان ذلك المجهول ) أن الذي لا يؤمن بالنشأة الأخرى تسيطر عليه أفكار من قبيل ( ماذا استفيد إذا أنجزت وتحولت إلى تراب ليكن إسمي باقياً، ويقال:  صاحب النظرية الفلانية أو صاحب الاختراع الفلاني، لكن ما قيمة ذكر الناس لي وأنا لا أدرك هذا الذكر وأنا تحولت إلى عدم، يبقى الإنسان يشعر بأن وجوده وجود ناقص ليس كما يحب مهما أنجز، فإذا كان الملحد أو غير المتدين لا يؤمن بالنشأة الأخرى فهو يعيش الحزن ويشعر بالحرمان ؛ لأن النتيجة أنه سوف يتحول إلى عدم. 

وأما إذا كان يشك لا يجزم بعدم وجود المعاد، فهو يشك فيه فيعيش القلق ؛ لأنه يقوله من المحتمل أن هناك إلهاً وأن هذا الإله سوف يُعاقب في تلك النشأة وأنا لم أعتنِ ولم أقدم شئياً لنفسي فمن المحتمل أن أكون معذباً في تلك النشأة، وهذا ما بينته روايات أهل البيت(عليهم السلام)، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) – أنه قال:  لعبد الكريم بن أبي العوجاء وهو منكر للمبدأ والمعاد -: إن يكن الأمر كما تقول - وليس كما تقول - نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول - وهو كما نقول - نجونا وهلكت. فأقبل عبد الكريم على من معه فقال: وجدت في قلبي حزازة فردوني، فردوه ومات (التوحيد: 298 / 6). و عن الإمام الصادق (عليه السلام) - أيضاً -: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء - وهو على ما يقولون (يعني أهل الطواف) - فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون - وليس كما تقولون - فقد استويتم وهم (البحار: 3 / 43 / 18 وص 36 / 12 وص 154 و 78 / 87 / 92). و دخل رجل من الزنادقة على الرضا (عليه السلام) وعنده جماعة، فقال له أبو الحسن (عليه السلام): أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإياكم شرعا سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟ فسكت، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن يكن القول قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا؟ (البحار: 3 / 43 / 18 وص 36 / 12 وص 154 و 78 / 87 / 92). و عن الإمام الصادق (عليه السلام) - في مناظرته مع الطبيب الهندي -: قلت: أرأيت إن كان القول قولك فهل يخاف علي شئ مما أخوفك به من عقاب الله؟ قال: لا، قلت: أفرأيت إن كان كما أقول والحق في يدي ألست قد أخذت فيما كنت أحاذر من عقاب الخالق بالثقة وأنك قد وقعت بجحودك وإنكارك في الهلكة؟ قال: بلى، قلت: فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة؟ قال: أنت (البحار: 3 / 43 / 18 وص 36 / 12 وص 154 و 78 / 87 / 92).

و يقول الشاعر:

زعم المنجم والطبيب كلاهما * أن لا معاد فقلت ذاك إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر * أو صح قولي فالوبال عليكما

و الإلهي بالعكس، فإنه من هذه الجهة يعيش حالة اطمئنان، ويسعى لكي يُقدم لنفسه في تلك النشأة، كما أن الإلهي يمتلك ببركة اعتقاده بالدين جرعة كبيرة من الصبر فيما إذا ابتلي ووقع في المصائب والمحن ؛ لأنه يعتقد أن الإله الذي خلقه سوف يُعوضه (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة 156) فهو يتحمل كل بلاء ويصبر على كل محنة ؛ لأنه يرى ذلك بعين الله تبارك وتعالى، وأن الله تبارك وتعالى سوف يُجازيه وسوف يُعوضه على ذلك، وأما من لا يؤمن بوجود الله تبارك وتعالى، فإنه يجزع ولا يجد من يُعوضه ويرفع عنه البأس، و يرى أنه صدفة من دون كل الخلائق حاطت به هذه المحن بلا تعويض، لهذا في سنة 2002م طرحت المجلة الأمريكية للطب النفسي بحث قيّم، بحثت فيه ظاهرة الانتحار وانتهت إلى أن عدد المنتحرين في غير المتدينين أكثر بكثير جداً من عدد المنتحرين بين المتدينين، ثم في نهاية هذا المقال والبحث ذكروا أن التدين وصفة طبية لمكافحة ظاهرة الانتحار في العالم، فإذا أردت أن تكافح ظاهرة الانتحار عليك أن تروج الدين، ومن الأمور المضحة جداً يوجد فيلسوف ملحد أسمه (اليان دي بوتون) ألقى محاضرة في (تد)، وطالب في هذه المحاضرة أن تكون هناك طقوس وشعائر للملحدين كما هو موجود عند المتدينين، حيث ذكر أن المتدينين بسبب نشاطاتهم الاجتماعية الدينية وبسبب الشعائر الدينية والطقوس الدينية يتخلصون من مرض الاكتئاب ومن القلق والخوف ومن الاضطراب، والملحدون بحاجة إلى طقوس دينية إلحادية، و عنوان المحاضرة التي ألقاها (النسخة الثانية للإلحاد )، فهو يريد إلحاداً ولكنه إلحاد ديني فيه شعائر دينية وما ذاك إلا لأن الدين يُقدم من الناحية النفسية خدمات للإنسان، حتى أن بعض الملاحدة يعبر عن الدين بأنه كذبة ولكنها كذبة بيضاء حسنة.

هذا بعض ما نتوقعه من الدين، فنحن نتوقع منه أن يُعرفنا على المبدأ والمنتهى، و أن يُعرفنا الطريق الذي نسلكه لكي نتحصل على كمالاتنا الأخروية، و نحن بحاجة إلى الدين لكي نتحصل على حالة الاستقرار والاطمئنان، و لكي يقوم المجتمع بالقسط والعدل (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد25)، فإنه لا ملزم بالقسط مع عدم التدين ولا نتوقع من الدين أن يخترع لنا جهاز آيفون أو صاروخاً نصعد به إلى سطح القمر، مثل هذه النتائج المحبوبة والمقدّرة والمحترمة نتوقع من العلوم التي تساهم في رفع رفاهية الإنسان في عالم الدنيا، والدين يدعو إلى تعلم هذه العلوم، ولكن ما نتوقعه من الدين وراء أن يحث على دراسة هذه العلوم أموراً أخرى ذكرنا بعضها.

2020/04/28

من هم المستخفون بالدين وكيف نتعامل معهم؟

​الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى له مظاهر كثيرة وآثار متعددة، في هذه الكلمة وبنحو من الإيجاز أتعرض لبعض الأمور التي هي من مظاهر الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى:

الأمر الأول: هو مخالفة الأحكام الإلزامية.

كل معصية بلا عذر هي استخفاف بدين لله تبارك وتعالى وبأحكام الله تبارك وتعالى، فتارة يرتكب الإنسان المعصية وهو معذور ؛ لأن المعصية ليست منجزة في حقه، كما لو كان يجهل الحكم أو يجهل الموضوع، مثل صدر منه موقف خشن مع أخيه المؤمن وهو لا يعتقد بحرمة هذا الموقف، أو هو يعتقد بحرمة إهانة المؤمن ولكن يعتقد أن هذا التصرف ليس مصداقاً من مصاديق الإهانة، فعنده إما جهل بالحكم أو جهل بالموضوع، فمثل هذا لا يُعتبر مستخفاً بالدين، فجهله عذره، وأخرى يكون ملتفتاً إلى الحكم وملتفتاً للموضوع، ويعلم بأن هذا الحكم ثابت في الشريعة وأن موضوعه متحقق ومع ذلك يُقدم، فهو في الحقيقية أوقع نفسه في رتبة من رتب الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى فلم يرجو لله وقار، و الشريعة المقدسة أخبرت بوجود عقاب لكل ذنب، وما ذاك إلا لأن كل مذنب استخف بدين لله تبارك وتعالى و استحق العقاب، وهذه القضية واضحة لا تحتاج إلى توضيح، لهذا ينبغي على المؤمن قبل أن يُقدم على مخالفة لله تبارك و تعالى أن يتحدث مع نفسه ولو لثانية يُذكّر نفسه فيها بأن اقدامه على الفعل فيه استخفاف بالله تبارك وتعالى خصوصاً إذا كان في خلوته، فيُذكّر نفسه أنه بفعله جعل الله أهون الناظرين إليه حيث يُقدم في الخلوة على ما يراه قبيح، ولا يجرأ على الإقدام عليه أمام الناس مع علمه أن الله تبارك وتعالى يرى، وليُذكّر نفسه أيضاً بأن هذا الاستخفاف قد يكون سبباً لخلوده في نار جهنم -والعياذ بالله- (إياكم والتهاون في أمر الله فإن من تهاون في أمر الله أهانه الله تبارك وتعالى في يوم القيامه) يقول تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾ سورة النبأ.

الأمر الثاني: الدين أمر بسيط!

 من مظاهر الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى هو النظر إلى الدين على أنه أمر بسيط يمكن أن يُفهم من أي شخص ولا نحتاج في فهمه إلى المتخصصين المتعمقين، المهندس محمد يقول في كتاب الدولة والمجتمع: "ظهر فقه العبادات كالوضوء والصلاة والحج والزكاة، حتى شمل الفقه كثيراً من المجلدات، علماً بأن العبادات جاءت للعالم والجاهل واضحة، وللعامة والخاصة مفصلة، لا تحتاج إلى كل ذلك" ص 33، فهو يرى أن أحكام الدين أحكام بسيطة جداً وكانت تلقى على العالم وتلقى على الجاهل، فلماذا الفقهاء سودوا المطولات في كتابة البحوث الاستدلالية، فكل هذا مما لا داعي له في نظره، لأن الدين أمر بسيط وسهل ليس فيه غموض وليس فيه تعقيد، و في المقابل يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)، فإن من الحق أن أحكام الله تبارك وتعالى أحكام سهلة ويسيرة، وكل إنسان بإمكانه إذا رجع إلى المعصوم (صلوات الله وسلامه عليه) أو إلى العالم المتخصص لكي يتعرف على وظيفته في فرض من الفروض فإن بإمكانه أن يتعرف على الفتوى بسهولة إذا كان المجيب عنده بيان واضح وقدرة فائقة على الشرح، إلا أن هذا لا يعني أن الدين أمر سهل وبسيط لا نحتاج إلى تخصص فيه، فإنه يشتل على عمومات و اطلاقات وقواعد كلية، و مخصصات ومقيدات وفروض كثيرة تكييفها الفقهي دقيق خصوصاً مع وجود الفاصل الزمني الطويل بينا وبين المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم)، فإنه بسبب هذا الفاصل الطويل فقدنا القدرة على فهم الروايات كما يفهمها المعاصر لهم، فإن المعاصر لهم كان عربياً صميماً، والإمام يتحدث بلغته آن ذاك، بينما نحن الآن فقدنا القدرة على معرفة المراد وفق أسلوب المحاورة الموجود في زمن الأئمة (صلوات الله سلامه عليهم)، فنحتاج أن نتمرس في قراءة القرآن و الروايات و الأساليب الفصيحة بعد دراسة القواعد اللغوية التي تعلمنا أسلوب المحاورة في ذلك الزمان، كما أن كثيراً من الروايات لم ينقل بالتواتر وإنما نقل بطرق ظنية ونحتاج أن نتعرّف على وثاقة رواتها وعدم وجود إرسال في طريقها، ونقل من نسخ ليست مشهورة نحتاج أن نتثبت من صحة النسخة التي أخذت منها الروايات، هذا بعد بحث كبرى حجية الظن، ثم إننا بحاجة إلى معرفة القواعد العامة التي طرحها المعصومون (صلوات الله وسلامه عليهم) حتى نرجع إليها في تكييف الفروع الفقهية، مثلاً طرحوا قاعدة عامة تسمى بقاعدة الفراغ و قاعدة التجاوز، و قاعدة عامة تسمى بقاعدة الاستصحاب، و نحن بحاجة إلى دارسة الروايات الواردة في هذه القاعدة لكي نقف على النتيجة الموجود في هذه القاعدة لكي نتمكن بعد ذلك من تطبيق هذه النتيجة على الفروض التي نبتلي بها، ثم لكل عام يوجد مُخصص ولكل مطلق يوجد مُقيد، و نحتاج أن نُحيط بكل التراث الروائي إذ لعلنا نظفر بعموم ويوجد له مخصص لم نظفر به، فنطبق العموم في غير محله، و هناك قواعد كثيرة وأمثلة متعددة هي التي جعلت كتب الفقه تتسع ؛ لأن البحث العلمي بسبب الفاصل الزمان وعدم التعامل مع المعصوم مباشرة أحوجنا إلى أن نتعمق في دراسة مصادر الاستنباط الفقهي حتى نتعرّف على الوظائف الشرعية خصوصاً في الوقائع المستجدة التي لم تكن موجودة في زمن المعصومين ونحتاج أن نُكيفها على ضوء القواعد التي ذكرها المعصومون (صلوات الله وسلامه عليهم)، وهل يتمكن كل إنسان من أن يقوم بهذا الدور الشائك والمضني من دون أن يكون متخصصاً في العلوم التي تدرس في الحوزة العلمية.

إذن، القول بأن الدين سهل لا نحتاج فيه إلى التخصص نحو من أنحاء الاستخفاف بدين لله تبارك وتعالى.

 

الأمر الثالث: الاصغاء لكل من تكلم في الدين

هو اعتبار كل متكلم في أمور الدين متخصص وينبغي أن يُصغى إلى كلامه، فإن هذا مظهر من مظاهر الاستخفاف بالدين، إذ كيف يُقبل أن يكون كل متكلم متخصص، ففي الرواية: (يأتي على الناس زمان وجوهم فيه ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة كدرة، كل جاهل عندهم خبير)، إذا وصلهم مقطع مثلاً يتحدث فيه شخص عن حكم الحجاب لشخص، والمتحدث لم يدرس في الحوزة العلمية شهراً متصلاً، ولكنه يقول كلام مرتب وعنده قدرة على صف الكلمات وترتيب الجمل، تجد بعض البسطاء يرون له رأياً في مقابل رأي الفقهاء، و يقولون: هو أيضاً أجتهد واستطاع أن يصل إلى هذه النتيجة، ولأنه توجد حرية فكرية فمن حقه أن يُبدي رأيه ويجب أن يُحترم ويُحترم رأيه!

إن هذا ضرب من ضروب الاستخفاف بالدين، فالذي يُعطي هذا الشخص حرية الرأي ويعتبر رأيه رأياً محترماً كرأي المراجع العظام أو الفقهاء المسلم باجتهادهم هو في الحقيقة والواقع يستخف، لأنه يرى الدين أمراً ضحلاً سطحياً يمكن أن يُحسن كل من يتحدث فيه، ولهذا يُعطي هذا المتحدث حقاً في أن يتكلم كيفما يشاء، وهذا ضرب من ضروب التلاعب، يقول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (من اتخذ دين الله لعباً ولهوا أدخله الله تبارك وتعالى نار جهنم مُخلداً فيها ).

فإن من تعظيم الدين والنظر إلى دين لله بعين التقدير والاحترام أن لا يُعطى حق لكل متكلم أن يتكلم في أحكام الله تبارك وتعالى، و أن لا يُعطى أي شخص حرية أن يُصدر فتاوى من عنده في مسائل الدين كمسألة الرق و الحجاب، و استماع الغناء ونحو ذلك، فلابد أن يُعلم أولاً تاريخ المتحدث العلمي وهل يؤهله لأن يتكلم في الدين، هل تعلم أم لا، فإن كان تعلم فله أن يتكلم، وإلا ينبغي أن يُقال له دع الكلام لغيرك، ونحن لا نُضيع وقتنا للاستماع إليك، ونراك مجرد مفتر، يقول تعالى: (قلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) سورة يونس 59.

لو أسس شخص موقعاً طبياً وأخذ يُعطي وصفات طبية وينتقد نظريات طبية وهو لم يمارس دراسة الطب، هل يهتم الناس بشأنه ويقرؤون ما يكتب ويسمعون ما يقول؟

الجواب: كلا؛ لأنهم يقطعون أن الطب شأن عظيم تخصص دقيق عميق لا يمكن أن يُحسن الحديث فيه كل متكلم، والقانون يجرم ذلك ويعاقب عليه، لما يترتب عليه من ضرر.

لماذا لا يكون الأمر كذلك في دين الله تبارك وتعالى، والذي ضرره دنيوي وأخروي؟

إن هذا الدين له قدره ومكانته، وهو دين عميق ولا ينبغي أن يتكلم فيه كل متكلم، بل ينبغي أن يتخصص الإنسان أولاً ثم بعد ذلك يتكلم، و الذي يتكلم بلا علم هو يستخف بدين لله، والذي يسمح له بالكلام ويُعطيه حرية أن يتكلم هو أيضاً يستخف بدين لله تبارك وتعالى، ووظيفتنا أن نُنبه هذين إلى ما وقعا فيه من أمر خطير وجلل.

2020/04/27

الإلحاد دين «الفانوس السحري»!

أدهم يحك الفانوس السحري!

يخرج المارد.. يطلب منه أدهم أن يعطيه (لا شيء) !

يسأله المارد متعجباً: ما هو اللا شيء ؟

أدهم: (فضاء فارغ)

المارد: شبيك لبيك..

فيعطي المارد أدهماً (نقطة من الفضاء الفارغ)!

يضعها أدهم في حديقته..

لكنها.. وصدفةً..

تبدأ بالتمدد، فطاقة الفضاء الفارغ ليست صفراً !

ويزداد التمدد ويتسارع وتتكون فيه أكوان هائلة تتضمن مليارات المجرات!

هذه ليست قصة للأطفال، ولا رواية من روايات الخيال العلمي.

هذا ما يسميه البعض اليوم ب:العلم الحديث!

ويستندون إليه للتمسك بمذهب الإلحاد!

هل في هذا الكلام مبالغة ؟!

دعونا نستعرض معاً آراء (العلماء الملحدين) لنعرف ذلك، ونرى جوابهم حول السؤال الشهير:

كيف وجد الكون ؟

أولاً: الكون انبثق من (لا شيء)

يقول عالم الفيزياء والفلك لورانس كراوس: قاد بحثي العلمي لأكثر من عقود ثلاثة ماضية، ونتج عنه استنتاج مدهش أن معظم الطاقة في الكون تسكن شكلاً ما غامضاً، عصيّاً على الشرح، يتخلّل الآن كل الفضاء الفارغ… نتج عن هذا الاكتشاف دعم جديد رائع لفكرة أن كوننا انبثق -تحديداً- من لا شيء… (كون من لا شيء ص22)

ثلاثة عقود من البحث (العلمي) أوصلت كراوس إلى الاعتقاد بأن الكون نشأ من (لا شيء)، لكن كراوس سيجيب إذا ما سئل:

كيف وجد الفضاء الفارغ أولاً ؟

وهل كانت القوانين موجودة حتى أمكن ان ينبثق هذا الكون من الفضاء ثانياً ؟ ام انبثق دون الاستفادة من أي قانون ؟

يقول كراوس: أريد أن أكون واضحاً بشأن نوع (اللا شيء) الذي أناقشه في هذه اللحظة، إنه أبسط نسخة من اللاشيء، إنه الفضاء الفارغ في الأساس، في الوقت الحاضر سوف أفترض فضاءً يوجد بـ (لا شيء) داخله على الإطلاق، وأن القوانين الفيزيائية موجودة أيضاً….

يمكن أن يتمتع الفضاء الفارغ بطاقة لاصفرية.. تخبرنا النسبية العامة أن الفضاء سيتمدد تصاعدياً… فينمو الكون، تحدث هذه الظاهرة دون الحاجة إلى حيلة سحرية أو تدخل إعجازي.(كون من لا شيء ص192-193)

لم يجب كراوس بعد حول (كيف وجد الفضاء الفارغ) وإن أقر بأن قوانين الفيزياء كانت موجودة دائماً.

ثم لا يجد بداً من الاعتراف بأن ما قاله هو (مكر)!

فيقول:

سيكون من المكر طرح أن الفضاء الفارغ ذا الطاقة الذي يسوق التضخم هو لا شيء فعلاً.

يجب أن يفترض الشخص في هذه الصورة ان الفضاء موجود ويستطيع أن يخزن طاقة، وأن يستخدم الشخص قوانين الفيزياء.

فإذا توقفنا هنا فإنه يحق للشخص الزعم بأن العلم الحديث بعيد جداً عن أن يتناول حقاً قضية كيف يمكن أن تحصل على (شيء ما) من (لا شيء) فهذه هي الخطوة الأولى فحسب.(كون من لا شيء ص195)

نسير مع كراوس هنا لأنه عد ذلك خطوة أولى، ونتذكر قصة (أدهم والفانوس السحري)، فما ذكره حتى الآن هو عين ما حصل مع أدهم ! حيث انبثق كون من نقطة (فضاء فارغ).

ثانياً: الكون انبثق من نموذج مطور عن (اللا شيء)

يطور كراوس نظريته هنا، فبعد أن فرض (مكاناً فارغاً) في المرحلة الأولى، يفرض هنا إمكانية انبثاق (المكان والزمان) أيضاً من (لا شيء)!

يقول:

لقد اكتشفنا أن كل العلامات تطرح كوناً يمكن أن يكون بزغ من لا شيء أعمق -بما فيه غياب الفضاء ذاته-…(كون من لا شيء ص229)

ويقول:

فشرحت حينئذ كيف يمكن أن يكون الفضاء والزمن في حد ذاتيهما منبثقين من لا مكان ولا زمن وهو قريب جداً بالتأكيد للا شيء المطلق.(كون من لا شيء ص242)

نعيد السؤال الثاني على كراوس:

هل كانت هناك قوانين موجودة سبقت وجود هذا الكون من (لا شيء) في نسختك المحدثة هذه ؟!

يقرّ كراوس بذلك.. فننقل الحديث إلى النقطة الثالثة والمهمة، لكنا نشير قبل ذلك إلى أن (هذه النظرية) من هذا (العالم الفيزيائي) قد عدّت عند رموز الملحدين اليوم (ضربة قاضية لنظرية الإيمان واللاهوت) !! قال ذلك ريتشارد دوكنز (كون من لا شيء ص240)

ثالثاً: من أوجد قوانين الفيزياء التي انبثق الكون منها ؟

نسير مع هؤلاء الملحدين في خطواتهم ولا نناقشهم علمياً في إمكان ما قالوه أو عدمه، ونترك لهم ميدان الفيزياء على فرض أنهم أهل الاختصاص به، لكي نصل معهم إلى سؤال منطقي لا يمكن أن يتجاوزه أي عقل بشري أو يعتبر نفسه غير معني بالإجابة عليه.

وهو: من أوجد قوانين الفيزياء حتى انبثق الكون من (لا شيء) بحسب هؤلاء ؟

هل أوجدت نفسها مثلاً ؟ أو أوجدها موجد ؟

(ونحن نعتقد أن الله تعالى أوجد الكون (لا من شيء) وليس من (لا شيء) وتفصيل هذا في محله.)

نقرأ معاً إجابات هؤلاء (العلماء) حول من أوجد القوانين:

العشوائية!

يقول كراوس: إحدى الإجابات المعاصرة هي أن القوانين يمكن أن تكون في حد ذاتها عشوائية! (كون من لا شيء ص242)

العشوائية والاعتباطية !

يقول أيضاً: لو أن قوانين الطبيعة في حد ذاتها عشوائية واعتباطية، فلا مكان إذن ل(علة) إلزامية لكوننا.. لا ضرورة لوجود آلية وكينونة لترسيخ قوانين الطبيعة بالكيفية التي نعرفها والتي قد تكون أي شيء تقريباً.. (كون من لا شيء ص223)

قد لا يمكن الإجابة على ذلك !

يقول: وللإنصاف، فإن هذا قد يثير السؤال المحتمل الذي قد لا يمكن الإجابة عنه: السؤال عن الذي ثبَّتَ القوانين التي تحكم هذا الخلق، لو أن هناك شيئاً من هذا القبيل.(كون من لا شيء ص221)

إننا لم نفهم ذلك تماماً بعد !

يقول: إننا لم نفهم بعد تماماً كيف نشأت الحياة على كوكب الأرض.(كون من لا شيء ص189)

قوانين سرمدية ! أو مجهولة !

يقول: لعل القوانين سرمدية، أو لعلها خرجت إلى الوجود بسياق ما لا يزال مجهولاً، لكنها فيزيائية بحتة محتملة.(كون من لا شيء ص184)

بطريقة عفوية !

يقول: عليك بالتفكير في زوج الالكترون – البوزيترون، الذي يظهر إلى الوجود بعفوية من الفضاء الفارغ، بالقرب من نواة ذرة ما….(كون من لا شيء ص189)

ويوافقه زميله في الإلحاد ريتشارد دوكنز فيقول: ..لقد استغرق التكوين العفوي للكون جزءاً من الثانية في الانفجار العظيم (حوارات سيدني ص34)

ليس بمقدور أحد أن يفهم ذلك !

يقول ريتشارد دوكنز: ليس بمقدور أحد أن يفهم تفاصيل شيء كالانفجار العظيم (وهم الإله ص148)

هذه عدة إجابات من كتابين لعالمين من أبرز دعاة الإلحاد في عصرنا !

وقد ذكر الملحدون تفسيرات أخرى لا تقل طرافة عن هذه الإجابات، ونحن نكتفي بما ذكرناه..

ثم ننقل الكلام إلى ما يدحض هذا كله، ومن كلام كراوس نفسه، حيث يعترف في مورد آخر فيقول:

ولكن قوانين الخلق، أي قوانين الفيزياء، مقدَّرة، من أين تأتي القوانين ؟

هناك احتمالان:

إما أن الله أو كائناً ما إلهياً ليس مقيّداً بالقوانين يعيش خارجها يحدّدها…

أو تنبثق عن آلية ما خارقة للطبيعة أقل قوة.(كون من لا شيء ص218)

ثم إنه ينفي الاحتمال الاول لعجزه عن فهم كيف يكون الله غير محتاج لأحد وكيف يكون علة العلل. وهذا ما سنرجع له لاحقا إن شاء الله.

ويسكت عن الاحتمال الثاني.

وكلا الاحتمالان فعلاً موصلان لله تعالى دون شك.. فيتبخر كل ما ذكره من تناقضات سابقة..

إن أكثر الامور غرابة في دعاة الإلحاد هو التناقض الحادّ في كل مفصل ومفردة من كلماتهم، حتى يغيب عنهم أن في كلمات الأطفال جواباً على هذه التخيلات لا يمكن نقضه..

فما بين (العشوائية والاعتباطية) و(العفوية) و(السرمدية) و(المجهولة التي لا يمكن لأحد أن يفهمها) عجائب وغرائب..

إذ السرمدية تثبت الديمومة! والعشوائية تنفيها !

وكيف يقبل أحدهم أن تظهر وجودات إلى الوجود (بعفوية) ودون خلق خالق، ثم لا يقبل أن يعلم ابنه أن الألعاب تأتي الى الوجود بنفس الطريقة ؟ أو أنها تنتقل من الدكان إلى بيته وحدها !

إن مثل هذه العقيدة تخالف فطرة الإنسان السوية التي تظهر مع كل طفل وكبير خالٍ من الشبهات..

وكيف لمن يقرّ بأنه لا يفهم كيف نشأت الحياة أن ينفي وجود منشئ لها ؟!

وكيف لمن يحترم العلم والعلماء والمنطق وأهله أن ينفي ما لم يحط به علماً ؟!

يقولون أن هناك انفجاراً عظيماً قد حصل، لكن ليس بمقدور أحد منا أن يفهم تفاصيل ذلك، رغم ذلك هذا لا ينفي الانفجار العظيم!

من أوجد الانفجار العظيم ؟ لا أحد أوجده ! كيف ذلك ؟ لا نعرف التفاصيل.

أما عندما نقول: الله تعالى موجود، ولم يوجده أحد. يتوقف عقل الملحد عن الدوران !

لماذا تقبل بأن يكون الانفجار قد وجد بلا موجد، وأن تكون الحياة الاولى على وجه الارض قد وجدت بدون موجد، ولا تقبل أن يكون الله تعالى موجوداً بالفعل بدون موجد ؟

لماذا تقر بأن الانفجار الكوني وهو أمر حادث لا يحتاج إلى أن يوجده أحد ؟

وتستهزئ بالمؤمنين عندما يقولون أن الله تعالى قادر عليم حكيم أوجد الأشياء ولا يحتاج بنفسه إلى موجد ؟ وهو ليس كالاشياء التي لم تكن ثم كانت.

هل يحق لك ان تستهزئ بالمؤمنين وتصفهم بالحمق او تصف اعتقادهم بالاعتقاد الاحمق وأنت تؤمن بما تسميه (الصدفة) وتنكر وجود الصانع في أعظم الاشياء فيما لا تقبل ذلك في امورك الحياتية ؟

إن ما تقوله يؤدي بنا الى تصديق الاساطير والخزعبلات لا الى رفضها..

إن ديننا دين العلم والعقل.. ودين الإلحاد دين الفانوس السحري !

2020/04/27

لا تتخذوه لهواً ولعباً: لماذا يجب أن نعظّم الدين؟

قال سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): من اتخذ دين الله لعباً ولهوا أدخله الله تبارك وتعالى نار جهنم مخلداً فيها.

خلق الباري تبارك وتعالى الخلق ولم يتركهم سدىً بل أنزل عليهم ديناً قيماً، وأنزل الدين لأجل كمال الأنسان نفسه لا لمصلحة تعود إليه تبارك وتعالى؛ لأنه غني مطلق وكل كمالاته ثابتة له بالفعل، وليست له حالة من الكمال منتظرة تتوقف على خلق الخلق أو على أفعال العباد، فمصلحة الدين تعود إلى المتدين نفسه.

والدين عبارة عن مجموعة عن التعاليم والأحكام، و بعض هذه الأحكام أحكام عقدية، كوجوب الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى، وبعضها أحكام عملية، كوجوب الصلاة ووجوب الصوم والأحكام العملية تنقسم إلى أحكام فقهية وإلى أحكام أخلاقية، و هذه المنظومة إنما أنزلت لمصلحة الإنسان نفسه لكي يصل الإنسانُ بواسطة الالتزام بهذه المنظومة إلى كماله، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، و قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، فالغاية الأولى كمال الإنسان في الدنيا من خلال تحقيق القسط والعدالة، والغاية الثانية كمال الإنسان في نفسه من خلال ظفره باليقين، والذي هو المرتبة العليا من العلم.

لماذا نعظم الدين؟

والدين لأنه أنزل من قبل الله تبارك وتعالى يجب على الإنسان عقلاً أن يُعظمه وأن يخضع لأحكامه، وذلك لوجود عناوين ثلاثة تلزم الإنسان بتعظيم الدين وبالخضوع لأحكام الدين:

العنوان الأول: هو عنوان شكر المنعم

الباري تبارك وتعالى أنعم على الإنسان بنعمة الوجود، خلقه تعالى ولم يكن شيئاً ومَن عليه بصنوف النعم (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)، فهو تبارك وتعالى منعم بل هو أعظم مُنعم، والعقل يقول: إن المنعم ينبغي أن يُعظم ولا يستخف بشأنه يرجى له وقار، ومن تعظيمه الالتزام بأحكامه وتعظيم هذه الأحكام التي صدرت عنه، لأن هتك الأحكام الصادرة عنه و المنتسبة إليه لا ينفك عن هتكه، وهتكه جحود بالنعمة وجحود النعمة قبيح عقلاً.

العنون الثاني: عنوان المالكية

نحن في أصل وجودنا نحتاج إلى الله وتبارك وتعالى، وفي بقائنا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى، ففي كمالاتنا الثانوية والصفات التي تعرض علينا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى، و في أفعالنا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى مقوم لوجودنا، وجودنا ليس إلا حقيقة متعلقة بقدرته، ولو أن الله تبارك وتعالى قطع عنا فيضه وحرمنا من إمداده لانتفينا وزال عنا الوجود وفقدنا كل شيء، وهذا معنى أن الله تبارك وتعالى محيط بنا إحاطه قيومية، وهذه الإحاطة هي الملكية الحقيقية التي تعني أن وجودنا ليس إلا شيء مرتبط بوجوده، حقيقة هذا الوجود أنه متعلق به وأثر الجعل، كما يقول الحكيم السبزواري (رحمه الله): (و أثر الجعل وجود ارتبط)، و معنى أن الله تبارك وتعالى أوجدنا هو أنه حقق هذه الكائنات التي حقيقتها أنها مرتبطة بقدرته متعلقة بإرادته، ولو أنه تبارك وتعالى قطع الفيض لحظه لانعدم وجودنا في اللحظة نفسها، وإذا كان مالكاً فمن حق المالك أن يأمر، وعلى المملوك أن يخضع ويطيع.

من الأطروحات الغريبة التي يروج لها بعض العلمانيين والليبراليين و المتأثرين بهم القول بأنه ليس لله تعالى حق التشريع والحكم، لأنه عز وجل لم يأخذ أذننا في أصل إيجادنا، وهذا كلام غريب جداً، فإن هؤلاء يجمعون بعض الماديات ويكونون مخترعات ومصنوعات بشريّة، ويجعلون للمخترعين والصانعين حقاً و يقبحون التعدي عليه، فيجعلون لمن يبني مصنعاً حق التصرف فيه وجعل النظام الذي يريد، مع أن البشر لا يوجد من العدم، و لم يأخذ أذناً من المصنوعات والمخترعات، فكيف لا يكون الحق ثابتاً لمن أوجد من العدم وهو مقوم في الوجود البقائي!

العنوان الثالث: هو عنوان دفع الضرر المحتمل

إذا كان الله تبارك وتعالى قاهراً لعباده مسيطراً عليهم بإمكانه أن يتصرف فيهم كيفما يشاء، فهذا يعني أن بإمكانه أن يعاقب فيما إذا أمر وعُصي، فيحتمل كل عاقل على تقدير استخفافه بالدين أو عدم التزامه بالأحكام الإلزامية من الدين أن يعاقبه الله تبارك وتعالى، والعقل يحكم بلزوم تجنيب النفس العقاب، وبمقتضى هذا الحكم يجب أن يُعظم هذا الدين، وأن يُخضع لأحكامه دفعاً للعقاب الذي يحتمل ترتبه على الاستخفاف بالدين والاستخفاف بأحكام الدين.

إذن هناك عناوين ثلاثة تُلزم العقل بأن يحكم بلزوم تعظيم الدين وطاعة الله تبارك وتعالى فيما إذا أمر، ويدعم هذا الحكم العقل جملة من الروايات التي دلت على لزوم تعظيم دين الله تبارك وتعالى، إظهار الاحترام والتقدير والتعظيم لأحكام الله تعالى، يقول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (من اتخذ دين الله لعباً ولهوا أدخله الله تبارك وتعالى نار جهنم مُخلداً فيها) الاستخفاف بدين الله ليس فقط سيئة، وإنما هو كبيرة، بل هو من أعظم الكبائر التي توجب الخلود والعياذ بالله في نار جهنم، و يقول الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه): (إياكم والتهاون في أمر الله تبارك وتعالى فإن من تهاون في أمر الله أهانه الله تبارك وتعالى في يوم القيامة)

من صفات الله تبارك وتعالى المنتقم، و من يستهين بأمره ينتقم منه الله تبارك وتعالى فيهينه في يوم القيامة، ونحن ليس مأمورين بأن نعظم الدين ولا نُظهر الاستخفاف الاستهانة بالدين فقط، بل نحن مأمورون علاوة على ذلك بأن نقاطع من استخف بالدين وأظهر اللا مبالاة بأحكام الله تبارك و تعالى، يقول عزوجل: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)، وهذا أمر إلهي بمقاطعة المستخفين بدين الله تبارك وتعالى، فإذا كان الشخص في قروب واتساب ـ مثلاً ـ ووجد في القروب نفسه بعض الحداثيين أو التنوريين أو الليبراليين الذين ينشرون مقاطع فيها استخفاف بالدين أو بأحكام الله تبارك وتعالى، الوظيفة التصدي للرد أو الخروج، و إذا أرسل إليك شخص مقطع فيه استهزاء بشعيرة من الشعائر مثلاً أرسل فيديو لحوت يحرك يده وكأنه يلطم على صدره مع إدخال صوت عزاء -كما رأيت قبل يوم أو يومين في مقطع منتشر - فوظيفتك أن تقول له هذا: هذا من الاستخفاف بالدين وبأحكام الدين وشعائر الدين فلا يجوز نشره، وإذا أصر هذا الشخص على النشر فوظيفتك أن تقاطع، بل الأمر أعظم من ذلك من استخف بدين لله وأظهر التهاون فيه تسقط كرامته ويجوز الاستخفاف به، وفي الكافي وغيره روايات كثيرة تحث على مقاطعة أهل البدع والاستخفاف بالدين، وتحط من قدرهم منها ما عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه. وفيه عن داود ابن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهر والبراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة. وعن الجعفري قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ فقال: إنه خالي، فقال: إنه يقول في الله قولا عظيما، يصف الله ولا يوصف، فإما جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته؟ فقلت: هو يقول ما شاء أي شئ علي منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى (عليه السلام) وكان أبوه من أصحاب فرعون فلما لحقت خيل فرعون موسى تخلف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا فاتي موسى (عليه السلام) الخبر، فقال: هو في رحمة الله ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع. وعن شعيب العقرقوفي قال، سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن قول الله عز وجل: " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها.. إلى آخر الآية " فقال: إنما عنى بهذا: [إذا سمعتم] الرجل [الذي] يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة فقم من عنده ولا تقاعده كائنا من كان. وعن عبد الاعلى بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس مجلسا ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن.

فرسول الله (صلى الله عليه وآله) و أهل البيت (عليهم السلام) كالقرآن الكريم يأمروننا بمقاطعة المستخفين بالدين، وظيفتنا أن نظهر الوقيعة فيهم بإظهار الحط والتنقيص، وليس أن نجاملهم و نشترك في منتدياتهم وتجمعاتهم التي تعزز تأثيرهم في المجتمع مع ما هم عليه من الاستهزاء بالدين وأهل الدين، نعم من كان له رأي مخالف ويريد الحق لا يكون الاختلاف سبباً مبرراً لاتخاذ موقف سلبي معه، وإنما يعامل بالحسنى ويجادل بالتي هي أحسن.

2020/04/23

لا يمكن إنكار الغيب: «كورونا» يعمّق التخنّدق بين العلم والدين

في الوقت الذي كانت في العلل الموجِدة او المحركة للظواهر الطبيعية خافية على الانسان كان التفسير الغيبي او الميتافيزقي هو الراجح، وكان الخط الالحادي يراوح في مكانه غير قادر على تجاوز معضلته الكبرى في حاجة تلك الظواهر الى علل، حتى جاء الزمن الذي اكتشف فيه العلم قوانين الطبيعة التي تسيّر الكون وأجزاءه، فالأفلاك تحكمها قوة الجاذبية والبرق هو التقاء شحنات كهربائية مختلفة والمرض ينشأ بسبب فيروسات ومكروبات ... الى آخره.

الملحد اعتبر هذه الكشوفات بمثابة الحسم لما بينه وبين الطرف المؤمن، في حين أن حقيقة الامر تخلو تماما من أي حسم، فغاية ما توصلت اليه الكشوفات هو معرفة الآلية التي يتم بها فعل الظواهر، وهذه الالية لا تنهض الى ما يجعلها علة تامة، فهب ان بين كتل الطبيعة قوة جاذبة فماهي هذه القوة؟! وكيف تؤثر في الاجسام، إن العلم يفسر تحول الحديد الى مغناطيس بان جزيئاته تترتب بشكل متواز ولكن يبقى السؤال لماذا ينشأ المغناطيس من هذا الترتب؟! لماذا الحرارة تعمل على إبعاد الجزيئات وليس البرودة في تمدد الاجسام؟!

الملحد وكيما يحافظ على انتصاره رفض شرعية السؤال وقال "إنها طبيعة الاشياء" وواضح ان هذه المقولة هي أمر مفروض على واقع الاختلاف الدائر بينه وبين المؤمن وذلك لأن الطبيعة نفسها هي أصل التساؤلات التي تواجه الانسان، فمثلا الانسان الاول استفهم عن ظاهرة البرق في السماء.. كيف تحدث وما الذي يُحدثها؟ وحين جاء الرد العلمي بانها تصادم للشحنات المختلفة صار الضوء الصادر من تصادم الشحنات المختلفة بمثابة دعوة لإعادة نفس الاسئلة عنه، كيف تحدث وما الذي يُحدثها؟ أي ان كل ماقامت به المكتشفات العلمية هو أنها أضافت ظاهرة جديدة وسؤال آخر، فتبخر الماء عند تعرضه للحرارة كان هذا يمثل للانسان ظاهرة تفرض عليه سؤالا هو لماذا يتبخر الماء بالحرارة؟ وبعد اكتشاف العلم بأن الحرارة تباعد بين جزيئات الماء صار هذا التباعد الذي يتم بفعل الحرارة بمثابة ظاهرة جديدة تفرض سؤالا آخر هو لماذا تتباعد جزيئات المادة بالحرارة؟ 

إن رد الملحدِ على السؤال الثاني بالطبيعة، اي انها تحصيل حاصل بطبيعة الاشياء ولا معنى للسؤال، يجعله مساويا للكنيسة في ردها على السؤال الاول بأنه تحصيل حاصل بقدرة القدير ولا معنى للسؤال.

ولكن هذا لا يعني انه ليس هناك فارق بين السؤالين، وهذا الفارق ناشئ من مفهوم العلية ـ حاجة المعلول الى علة ـ المرتكز في ذهن الانسان منذ القدم، فعملية البحث عن علة تبخر الماء ـ في مثالنا ـ هي ما دفعت العالم الى وضع عينة الماء في المختبر وفحصه لينتهي الى نتيجة ان تباعد الجزيئات هي السبب، وهنا يكون السؤال هو هل يمكن للعالم ان يرد على السؤال الثاني (لماذا تتباعد جزيئات المادة بالحرارة) بنفس الطريقة؟

الجواب كلا    

وذلك لان فحوى السؤال الاول تتضمن تحول عنصر الماء المادي من حالة السائل المادية الى حالة الغاز المادية، وعليه فالعلة هنا مادية ويمكن كشفها بالمختبر وهذا ما حدث بالفعل حين كشفت لنا اجهزة المختبر ان الحرارة تقوم بإبعاد المسافات بين الجزيئات مما يؤدي الى انخفاض كثافة الماء، أما السؤال الثاني فيتضمن البحث في حقيقة الحرارة  وقدرتها على إبعاد الجزيئات وهي تفاصيل غير مادية، وهنا نكون امام حالة هي ان السؤال الثاني واقع يفرض نفسه وقول الملحد بالطبيعة هو بمثابة تهرب ليس إلا، حيث انه يبرر قدرة الحرارة على التأثير باللاشيء ـ أي انها قدرة لاتتضمن غير ذاتها ـ، وليس في قابلية العلم الاجابة على السؤال.

ننتهي من كل هذا الى ان التفسير الشامل للظواهر يتأتى من عملية مزج بين رد الكنيسة ورد العلم، أي ان قدرة القدير جعلت ما اكتشفه العلم بمثابة الآلية التي تنشأ من خلالها الظواهر.   وبهذا فإن الغيب عنصر داخل في علل الظواهر شاء الملحد أم أبا، ويسمى هذا العنصر فلسفيا بالفيض الالهي الذي تستمد منه الموجودات قدرتها على التواجد في دائرة الكون والحياة.

ولنأتي الان الى الامراض.. إن الاساس الاول في اي عملية علاج من الامراض الفيروسية والجرثومية هي قدرة الكريات البيضاء على التعرف على الجسم الغريب ودراسته من قبلها ومن ثم تحديد طريقة القضاء عليه، وفي هذا من دلائل الغيب ـ قدرة الله ـ ما لا يمكن انكاره، حيث ان قدرة الكريات البيض هي بمثابة قدرة الحرارة، وحتى العقار الذي يصنعه الانسان فإنه في حقيقته لا يعدو عن كونه محفزات للكريات البيض كيما تتعرف على الفايروس، أي أن دور الطبيب في عملية الشفاء لا يتجاوز حدود تهيئة الظروف المؤدية الى تحقق قدرة الله.

نخلص بهذا الى ان الانسان سيكون في غاية المنطقية حين يوكل الى الطبيب ما هو مناط به من دور في عملية الشفاء ويدعو الله ـ في الوقت نفسه ـ ان يحقق الشفاء. كما يمثل الانسان في هذا حالة الوسطية المطلوبة فلا يجنح الى اليمين الديني الداعي الى امور وصلت الى تقبيل فم المريض بكورونا ولا الى اليسار اللاديني الهازيء بالدعاء وطلب العون من الغيب.

وخير شاهد على ضرورة هذه الوسطية ما هو واجب علينا من توفيق بين قوله تعالى (واذا مرضت فهو يشفين) وقول النبي الاكرم ص ( تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء).

2020/04/08

ما هي الأعمال التي يحاسبنا الله عليها يوم القيامة؟
ما هي الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة ويُسأل عنها؟

[اشترك]

من المسلّم به انّ السؤال يوم القيامة يكون عن أعمال العباد وانّ كلّ إنسان ينال نتيجة أعماله التي اقترفها في الحياة الدنيا، ولكنّ هناك سؤالاً يلاحق الذهن البشري دائماً، وهو: ما هي الأعمال التي يُسأل عنها؟ وما هي الأعمال التي لابدّ أن نجيب عنها؟

ولقد اهتمت الآيات الكريمة والروايات الشريفة بهذه المسألة اهتماماً كبيراً وأولتها عناية خاصة، وبيّنت لنا الجواب بطريقة خاصة.

ويمكن تقسيم الآيات الواردة في هذا المجال إلى طائفتين:

الطائفة الأُولى: الآيات التي تؤكد على أنّ الإنسان يُسأل عن عامّة أفعاله، ومن هذه الآيات المباركة:

ألف. ( ...وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .( [1]) ب. ( لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) .( [2])

ج. ( ...ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .( [3])

د. ( يَومَئِذ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً ليُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) .( [4])

كذلك تدلّ  على الشمول والعمومية الآيات المتعلّقة بالعقاب والثواب وجزاء الأعمال.

وأمّا الطائفة الثانية: فإنّها تدلّ على أنّ الإنسان يُسأل عن بعض الأُمور خاصة، ومنها:

ألف. النعم الإلهية

( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعيمِ ) .( [5])

والسؤال هنا و إن كان عن النعم الإلهية، ولكن بالالتفات إلى أمرين: الأوّل: أنّه ورد في الآية كلمة «النعيم» الذي يشمل جميع النعم الإلهية،  والثاني: انّ جميع ما يستفيد منه الإنسان في حياته يُعدّ من النعم الإلهية، إذاً على هذا الأساس يقع السؤال عن جميع أفعال الإنسان وأعماله، وذلك لأنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان يُعدّ ـ وبنحو من الأنحاء ـ تصرّفاً في النعم الإلهية، وبالنتيجة لابدّ أن تدرج هذه الآية في ضمن الطائفة الأُولى من الآيات التي تدلّ على عمومية وشمولية  السؤال.

ب. القرآن الكريم ( [6])

( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ) .( [7])

ج.  الشهادة

( ...سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ) .( [8])

د. القتل من دون ذنب

( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ ) .( [9])

هـ. الكذب والتهمة

قال سبحانه: ( ...تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .( [10])

و. الصدق

قال سبحانه: ( لِيَسْئَلَ الصّادِقينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرينَ عَذاباً أَليماً ) .( [11])

وبالطبع أنّ تخصيص هذه الأُمور بالسؤال عنها لا ينافي السؤال عن عامّة الأفعال، وانّما ذكرت تلك الأُمور لأهميتها من باب ذكر الخاص بعد العام.

ثمّ إنّ هذا التقسيم نجده أيضاً في الروايات، فهناك طائفة من الروايات تؤكد أنّ السؤال سيكون عن جميع الأفعال والأعمال، وفي مقابلها طائفة أُخرى ترى أنّ السؤال سيكون عن بعض الأفعال المخصوصة، ونحن نذكر نماذج من تلك الروايات:

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) :

«وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم».( [12])

وكتب (عليه السلام)   إلى بعض عمّاله الذي خانه واستولى على بيت المال وذهب به إلى الحجاز: «فكأنّك قد بلغت المدى، ودفنت تحت الثرى،وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنّى المضيع فيه الرجعة، ولات حين مناص».( [13])

وطائفة أُخرى من الروايات تخصّص السؤال عن بعض الأُمور منها:

1. عمر الإنسان.

2. الشباب.

3. أعضاء الإنسان.

4. الثروة التي اكتنزها، وفي أيّ شيء صرفها.

5. محبة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) .

6. القرآن الكريم.

7. فريضة الصلاة.

8. النبوة والولاية.

وها نحن نذكر بعض النماذج من تلك الروايات التي تتعلّق بالعناوين التي ذكرناها:

ألف. روى الصدوق في «الخصال» و «الأمالي» بسنده عن موسى بن جعفر(عليه السلام) ، عن آبائه قال: «قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت».( [14])

ب. روى أبو بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول:

«أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فإن قبلت قبل ما سواها».( [15])

ج. روى الصفار في «بصائر الدرجات»، عن أبي شعيب الحداد، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا أوّل قادم على اللّه، ثمّ يقدم عليّ كتاب اللّه، ثمّ يقدم عليّ أهل بيتي، ثمّ يقدم عليّ أُمّتي فيقفون فيسألهم: ما فعلتم في كتابي وأهل بيت نبيّكم».( [16])

د. روى القمي في تفسيره، عن جميل، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قلت: قول اللّه: ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعيم ) ؟ قال: «تسأل هذه الأُمّة عمّا أنعم اللّه عليهم برسول اللّه، ثمّ بأهل بيته».

هـ. رو( [17])ى الصدوق في «عيون أخبار الرضا»، عن الرضا(عليه السلام) أنّه قال: «قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي! إنّ أوّل ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وانّ محمّداً رسول اللّه وأنّك وليُّ المؤمنين بما جعله اللّه وجعلته لك، فمن أقرّ بذلك وكان يعتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له».( [18])

النعم الدنيوية والسؤال عنها في لسان الروايات

من البحوث المتعلّقة بالحساب يوم القيامة  والتي ذكرت في الروايات بحث النعم الإلهية الدنيوية، ويمكن تصنيف تلك الروايات إلى طوائف، هي:

1. السؤال عن جميع النعم الدنيوية، حلالها وحرامها.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذا المجال:

«فِي حَلالِها حِسابٌ وَفي حَرامِها عِقابٌ».( [19])

وقال أيضاً:

«اتَّقُوا اللّهَ في عِبادِهِ وَبِلادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتّى عَنِ الْبِقاعِ وَالبَهائِمِ».( [20])

2. يسأل عن كلّ شيء سوى ما بذل في سبيل اللّه، قال:

«كلّ نعيم مسؤول عنه يوم القيامة إلاّ ما كان في سبيل اللّه».( [21])

3. أنّ الإنسان  لا يُسأل عن ثلاثة أُمور:

أ. لا يسأل عن الطعام الذي أكله.

ب. والثوب الذي لبسه.

ج. والزوجة الصالحة.

روى الحلبي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهنّ: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن فرجها».( [22]) ونحن إذا حللنا الروايات وفسّرناها بإمعان تتّضح لنا النكات التالية:

النكتة الأُولى: انّ الرواية الثانية واضحة جداً، لأنّها تؤكد أنّ الإنسان لا يُسأل عن النعم التي تبذل في سبيل اللّه سبحانه، ولا تقع تلك النعم موضوعاً للمساءلة والعقاب والمؤاخذة.

النكتة الثانية: كذلك الأمر  بالنسبة إلى الرواية الثالثة فإنّها أيضاً واضحة حيث تؤكّد أنّ بعض الأُمور لا يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة، وذلك لأنّ هذه الأُمور المستثناة تمثّل في الواقع اللطف والكرم الإلهي والرحمة الإلهية والتي تتوقف عليها ضرورة الحياة.

النكتة الثالثة: وحينئذ يمكن معرفة المستثنيات من عموم الرواية الأُولى الدالّة على شمولية الحساب لكلّ شيء، وهذا الشمول يمكن تصوّره في أمرين:

1. السؤال عن كلّ شيء سواء أُنفق في سبيل اللّه أو أُنفق في غير سبيل اللّه.

2. ولا فرق بين العمل الصادر من المؤمن أو من غير المؤمن.

وبما أنّ هذين القسمين قد ورد، في الروايتين الثانية والثالثة، استثناؤهما من المحاسبة والمؤاخذة والعقاب، وبالنتيجة انّ المعنى الكلّي والعام للطائفة الأُولى يخصّص بالمستثنيات الواردة في الروايات الأُخرى.( [23]).


الهوامش:

[1] . النحل: 93.

[2] . الأنبياء: 23.

[3] . الزمر: 7.

[4] . الزلزلة: 6.

[5] . التكاثر: 8.

[6] . انظر سورة الحجر:92ـ 93.

[7] . الزخرف: 44.

[8] . الزخرف: 19.

[9] . التكوير:8ـ 9.

[10] . النحل: 56.

[11] . الأحزاب: 8.

[12] . نهج البلاغة: قصار الحكم، رقم 7.

[13] . نهج البلاغة، الخطبة 41.

[14] . البحار:7/258، باب محاسبة العباد، الحديث 1. ولاحظ الأحاديث: 3، 11و 31.

[15] . البحار:7/267، باب محاسبة العباد، الحديث 33.

[16] . البحار:7/265، باب محاسبة العباد، الحديث 22.

[17] . البحار:7/272، باب محاسبة العباد، الحديث 39.

[18] . البحار:7/272 باب محاسبة العباد، الحديث 41.

[19] . نهج البلاغة: الخطبة 82.

[20] . نهج البلاغة: الخطبة 167.

[21] . بحار الأنوار:7/261، باب11، الحديث 10.

[22] . بحار الأنوار:7/265، باب11، الحديث 23.

[23] . منشور جاويد:9/285ـ 291.

2020/04/01

الأخلاق في خطاب الإلحاد الجديد

أكثر ما يشكل تحدياً أمام الإلحاد الجديد هو تأسيس خطاب أخلاقي يكون بديلاً للأخلاق الدينية، وما يسبب هذا التحدي هو إيجاد تفسير مادي لما هو بطبعه غير مادي؛ فالقيم الأخلاقية لا تنتمي إلى الطبيعة وعالم المادة، فالحق، والخير، والعدل، والإحسان، والرحمة... وغيرها من القيم ليست صفات موجودة في المادة، بل غير موجودة حتى في الإنسان بوصفه مادة تحركه أعصاب غير واعية، فمع تحكم هذه النظرة كيف يمكن أن نوجد تفسيراً مختبرياً وتشريحياً لهذه القيم الأخلاقية عند الإنسان؟

فمن المستحيل ثبوتاً وإثباتاً أن يكون هناك قيماً أخلاقية تتصف بالإطلاق دون الإيمان بوجود إله يكون مصدراً لهذا الإطلاق، وهذا ما تنبه إليه الكثير من فلاسفة الإلحاد، "وقد أدرك الفيلسوف الوجودي الملحد والشـرس، (جون بول سارتر)، مبلغ الإحراج الفكري في مسألة أصل التمييز الأخلاقي بين الخير والشـر، ولذلك قال: يجد الوجودي حرجًا بالغًا في ألّا يكون الله موجودًا، لأنه بعدم وجوده تنعدم كلّ إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح. لا يمكن أن يكون هناك خير بدهي لأنّه لا يوجد وعي لانهائي وكامل من الممكن التفكير فيه. لم يُكتب في أيّ مكان أنّ الخير موجود، ولا أنّ على المرء أن يكون صادقًا أو ألّا يكذب" ([1]).

ومن هنا نجد أن ريتشارد دوكنز يتسق مع إلحاده ويلتزم بمآلاته، فيرفض صبغ الوجود ككلّ بأية صفة قيمية على الإطلاق، فيقول مقرّا بمشكلة النسبية الأخلاقية: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة". ويقول أيضاً: إنّه من العسير جدًا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية"([2]).

 أمّا الباحث الأميركي اللاأدري ديفيد برلنسكي فيوضّح مقولة دوستويفسكي: "إذا كان الإله غير موجود فكلّ شيء مباح" ويقول شارحا: "فإذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإن (ما ينبغي أن يكون) هو ببساطة ما يقرّره الرجال والنساء. لا يوجد مصدر آخر للحكم. هل هذه إلا طريقة أخرى للقول بأنه طالما أن الإله غير موجود، فكل شيء مباح؟"([3]).

وقد أشاد داروين نفسه بالدور الفعال للإيمان بالمعبود حيث يقول:"وبالنسبة للأعراق الأكثر تمديناً، فإن الإيمان الراسخ بالوجود الخاص بمعبود، مطلع على كل شيء قد كان له تأثير فعال، على التقدم الخاص بالاخلاق"([4]).

ومن جهة أخرى فإن الاكتفاء برصد هذه القيم الأخلاقية من واقع الحياة الاجتماعية، يتضمن أعترافاً بوجود بُعدٍ غير مادي يتطلع له الاجتماع الإنساني؛ لبداهة وجود هذه القيم الأخلاقية عند الإنسان والمجتمع، ولبداهة كونها غير مادية، وهذا ما لا يمكن أن ينسجم مع التفكير الإلحادي.

وإيجاد تفسير مادي لحركة الاخلاق في المجتمع إن تم لا يصيرها مادية؛ لأن لهذه القيم من الأساس إنعكاسات على واقع الحياة المادية للإنسان، وليست هي قيم منعكسة عن المادة، فالإنطلاق لرصد القيمة من المادة، يقابله الإنطلاق من القيمة نفسها ومن ثم البحث عن تأثيرها في المادة، فتارة تكون النظرة فوقية فترى القيمة أولاً، وتارة تكون النظرة تحتية فترى القيمة الأخلاقية متجلية في الحياة الحسية، وبكلا المنظارين تظل القيم الأخلاقية ليست مادية.

 وقانون الانتخاب الاجتماعي الذي جاء على وزن قانون الانتخاب الطبيعي لا يشكل حلاً بقدر ما يشكل خدعة وتحايل، فالتطور الذي يحدث في الكائنات الحية بحسب النظرية الداروينية يقوم على بقاء الاجدر والاقوى والاصلح، وهو طرح يمكن تفهمه ضمن إطار المادة غير الواعية، ولكن كيف يمكن فهمه وإستيعابه ضمن الحياة العاقلة والمريدة؟ وحركة الإنسان والمجتمع حركة واعية تقوم على التطلع نحو الكمال الذي قد يكون فيه التضحية بالذات من أجل العدل والحرية والكرامة، الأمر الذي يجعلها تقع على العكس تماماً من الأنانية المحضة التي يقوم عليها الإنتخاب الطبيعي.

فالإستجابات العصبية، والسلوكيات الغرائزية، عملية غير واعية، قد نجدها في بعض السلوكيات التي يمارسها الإنسان كما يمارسها الحيوان، أما السلوك الحر القائم على الوعي والإرادة والقدرة على الاختيار والتمييز فهو حتماً مختلف عن الحالة الغرائزية.

والعمل على تطبيق قانون البقاء للاصلح إجتماعياً سوف يؤدي إلى  أثار مدمرة للوجود الإنساني، فتمييز البشـر بحسب الجينات الوراثية يفتح الطريق أما صراع عرقي تنقلب معه كل المفاهيم الأخلاقية إلى  مفاهيم لا أخلاقية، فيصبح الخير شر، والعنصـرية فضيلة، العدل ضعف، والظلم قوة، والإنصاف سخف، والرحمة جهل، وهكذا تكون الحقوق فقط للأقوى والأكثر صموداً.

ومن هنا رفض ألفرد والاس([5]) المنظور الدارويني وكتب عام 1864 يتسأل: "كيف افرز الانتخاب الطبيعي المفاهيم الأخلاقية الجيدة، كالمنطقية والإثار؟، ويرى والاس أن مبدأ الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح قد أديا إلى  تفوق الإنسان الحديث على حساب الإنسان البدائي، الذي أنقرض نتيجة لعدوانية اجدادنا، أي أن بقاء الأول كان على حساب فناء الثاني. لما كانت هذه النتيجة لا تتماشى مع منظومتنا الأخلاقية، فذلك يعني أن لِأخلاقنا مصدراً آخر غير الصـراع، ويرى والاس أن هذا المصدر ليس إلا الإله الخالق للعقل البشري خلقاً مباشراً"([6]).

وقد حمل البعض التفكير الدارويني مسؤولية ما وقع من دمار في الحرب العالمية، وذلك للفلسفة العنصـرية التي أسسها تشارلز داروين في كتابه أصل الإنسان، والذي حاول فيه البرهنة على وجود تمايز حقيقي بين البشر، وقد يرتفع هذا التمايز إلى  مستوى أن يكون كل عرق نوعاً إنسانياً مستقلاً عن الآخر، يقول: "قام الإنسان بالارتفاع إلى  منزلته الحالية. ولكن منذ أن وصل إلى  المرتبة الإنسانية، فإنه قد تشعب إلى  أعراق متباينة، أو كما يمكن أن يطلق عليهم بشكل أكثر إنطباقاً (أنواع فرعية) وبعض تلك الأنواع الفرعية، مثل الزنوج أو الأوروبين يكونوا غاية في التباين، إلى  درجة أنه إذا تم إحضار عينة إلى  عالم في التاريخ الطبيعي، بدون أي معلومات إضافية، فإن من شأنهم بلا شك، أن يتم اعتبارهم عن طريقه، على أساس أنهم أنواع صحيحة وحقيقية"([7]).

 والنتيجة المتحصلة من هذا التمايز العرقي؛ هو منح العرق المتحضـر منها الحق في القضاء على العرق الهمجي، ضمن قانون البقاء للأصلح والانتقاء الطبيعي، حيث يقول فيه: "في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة، سوف تقوم الأعراق البشـرية المتحضـرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم." ولهذا النمط من التفكير نجد عالم التاريخ الأمريكي توماس ناب([8]) thomas knapp من جامعة لويال يقول: " كان الناس ينتظرون الحرب قبل عام 1914م بمنتهى الشغف، وكانوا يتمنون قيام الحرب، وكان الدافع لسيطرة هذا الفرح عليهم هو سيطرة الداروينية الإجتماعية على الناس في تلك الفترة حيث طُبقت في مدارس أوربـا، فهي ترى الحرب دافعـا للرقي للأقوى ودافع للنشاط"([9]).

ولو أعتبرنا أن عملية الانتخاب الطبيعي ليست موغلة في الأنانية، وإنما هي قائمة على إنتخاب أخلاقي يراعي الخير والفضيلة، مع أنه غير ممكن بحسب النظرية الداروينية، إلا أنه ومع ذلك الاعتبار لا تكون عملية مفهومة بدون مرجعية أخلاقية، وكل ما يمكن تفهمه هو النسبية القائمة على المعيار الشخصـي، لأن عملية الإنتخاب الطبيعي ليست عملية حتمية تصادر إرادة الإنسان، وإنما تخضع لخياراته هو وبحسب الظروف والمرجحات، الأمر الذي يجعلنا نبحث من جديد عن أخلاق تمتلك مفهوماً إطلاقياً يمكن أن يرجع إليه المجتمع في عملية الإنتخاب، وبدون المعيارية الذاتية للقيم الأخلاقية لا يكون هناك مبرراً لوجودها من الأساس ناهيك عن إمكانية أنتخابها إجتماعياً، وبالتالي  فليعمل كل إنسان بحسبه دون أن يكون هناك رادع لفعله.

والعجيب أن تلك النظرة السطحية لحقيقة الإنسان القائمة على المادة فقط، أريد لها أن تكون هي النظرة العلمية والموضوعية، وروج لها بوصفها نظرة قائمة على الملاحظة والتجربة، إلا أن الذي تم ملاحظته هو الجانب الحسـي من الإنسان فقط، أما الجانب الواعي والمتفهم لقيم الكمال والجمال قد تم أهماله واستبعاده لكونه عصياً على المختبر والتجربة الحسية.

يقول الفيلسوف الأميركي اللاأدري والمثير للجدل توماس ناغل([10]) في كتابه "العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصوّر المادّي الدارويني خطأ قطعا؟ أن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية الكونية المادّية أن تقدّم تفسيرا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية([11]).

ويقول روي أبراهام فارغير "أرى أن هناك خمسة ظواهر واضحة في تجربتنا المباشرة لا يمكن تفسيرها إلا بلغة وجود الإله. هذه الظواهر هي:

الأولى: العقلانية المتضمنة في جميع خبراتنا الحسية عن العالم الفيزيائي.

الثانية: الحياة القادرة على الفعل المستقل.

الثالثة: الوعي، القدرة على أن تكون على علم.

الرابعة: الفكر التصوري، القدرة على التعبير وفهم الرموز الموجود في اللغة.

الخامسة: النفس البشرية، مركز الوعي والفكر والفعل"([12]).

ومع أن النظرية الداروينية قد أسست تصوراتها عن الإنسان ضمن رؤية مادية قاصرة، وقد تسبب ذلك في غياب فهم حقيقي ومتكامل للإنسان، إلا أن هناك أمراً إيجابياً يمكن أن يحسب لها، وهو ما وفرته من مادة وشواهد ضخمة وما أوجدته من ملاحظات لها علاقة بتأثير البيئة والجغرافيا في الاجتماع الإنساني، وهو بدوره يساعد على فهم شخصية المجتمع ودوافعه وانماط تفكيره واساليب عيشه وفنونه، الأمر الذي لا يستغني عنه أي عالم أجتماعي.

ومع ذلك فإن الملاحظة الجديرة بالذكر في هذا الخصوص هو عدم حتمية هذه المؤثرات على الاجتماع الإنساني، لما يمتلكه الإنسان من إرادة واعية وعقل مميز وروح تواقة للتسامي والكمال، فبإمكان الإنسان فرداً أو جماعة التمرد على كل هذه المؤثرات، وخلق واقع أخر بعيد كل البعد عن ما كان يجب أن يكون عليه بحسب قانون الطبيعة، فمع أعترافنا بالجانب المُنّفعل في الإنسان، نعترف أيضاً بالجانب الفاعل فيه، وهو جانب الروح المتطلعة نحو الكمال المعنوي والمادي بما لها من وعي وإيمان بقيم مطلقة.  

وقد حاول الإلحاد الجديد تقديم مقاربات أخرى لموضوع الأخلاق تتسق مع الرؤية المادية للإنسان، ومع كل الاجتهادات التي قدمها في هذا الشأن إلا أنه لم يستطع الخروج من النسبية التي لا تصبح معها الاخلاق معيارية.

يقول إسماعيل عرفة: " أمّا ريتشارد دوكنز فقد صرّح في تغريدة له على موقع تويتر بأن الإجهاض فعل أخلاقي ومشـروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك قائلا: "لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ". تعرّض دوكنز للنقد بشدّة عند نشـره لهذه التغريدة وحاول أن يوضح مراده في عدّة تغريدات لاحقة، لكن تغريداته ظلّت غامضة وغير مفهومة.

في نفس الإطار يرى الملحد الأسترالي  وأستاذ الفلسفة الأخلاقية بيتر سنجر أن ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم طالما لا تتضمّن أذيّة من أي نوع للحيوان هو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، وبالنسبة إليه: "فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمر محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين: الحيوان والإنسان". هل معنى ذلك أن الملاحدة كلهم لاأخلاقيّون؟ بالطبع لا، يقول فرانك توريك: "لا أقول بأن الملاحدة لا يعرفون الأخلاق وإنما أقول إنهم لا يمكنهم تبرير الأخلاق. نعم يمكنهم التصـرّف بخُلق ويمكنهم الحكم على بعض الأفعال بأنها أخلاقية أو لا أخلاقية، لكنهم لا يستطيعون توفير قاعدة موضوعية لأحكامهم الأخلاقية.

وأيا ما كان الأمر: الهولوكوست، الاغتصاب، ذبح الأطفال، أو أكل الأطفال، فلا يوجد لدى الملحدين معيار موضوعي للحكم على أي منهم". وهو الأمر الذي قرّره كذلك علي عزت بيجوفيتش قائلا: "يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي"([13]).

ولو افترضنا كون الفلسفة الداروينية لا تؤسس لأخلاق سلبية قائمة على الأنانية الجينية، إلا أنها أيضاً لا تؤسس لقيم أخلاقية مطلقة لبداهة افتقار المادة لها، وكل الكتابات التي نسجت على منوال الداروينية في موضوع الأخلاق، لم تخرج بتصور واضح حول تلك القيم الأخلاقية الضـرورية، "ككتابات مايكل شرور(علم الخير والشـر)، أو كتاب روبرت هايند (لماذا الجيد جيد؟)، أو كتاب روبرت بكمان (هل بإمكاننا أن نكون صالحين بدون الله؟)، أو كتاب مارك هاوزر (عقول أخلاقية). وهي جميعاً تتبنى تصوراً داروينياً في تفسير الظاهرة الأخلاقية، وهي وإن لم تصـرح بشكل مكشوف تكاد أن تقول أنه لا وجود لشـيء أسمه قيم أخلاقية مطلقة، وهذا ما ينبغي أن يكون فعلاً، إذ الإنطلاق من التصور الدارويني في معالجة السؤال الأخلاقي لازمه الضـروري القول بأنه ليس للأخلاق وجود قيمي حقيقي ومطلق، وإنما هي كالإنسان قابلة للتطور والانحدار بحسب مسارات تطور الكائنات، والشعور الإنساني بها وليد الصدفة فقط دون أن يكون لها قيمةٌ ذاتيةٌ حقيقة"([14]).

يقول عبد الله العجيري: "المشكلة أن الملاحدة اليوم يقدمون أنفسهم باعتبارهم (إنسانيون هيومانيون) ويبدون قدراً من الصلابة الأخلاقية في خطاباتهم حيال ما يعتقدونه صواباً وخطأً، دون أن يوضحوا القاعدة التي تتأسس عليها هذه الصلابة الأخلاقية، وإذا أرادوا التوضيح أحياناً فإما أن يقعوا في إشكالية التبرير النفعي البراغماتي للأخلاق والذي يفقد القيم الأخلاقية قيمتها، أو يقعوا في تقرير نسبيتها بما يفقدها قيمتها المطلقة، ويفقدهم مبرر هذه الصلابة الأخلاقية التي يظهرونها والحماسة الكبيرة في دعوتهم لقيمهم الأخلاقية بما يشعر المتلقي أنهم يدافعون عن رؤى كونية مطلقة، واستقراء طريقتهم في نقد الممارسات الأخلاقية التي لا يميلون إليها تكشف عن هذه القضية بوضوح شديد"([15]).

 


([1]) - مشكلة الشر ووجود الله، دكتور سامي عامري، http://www.aricr.org/ar/evil

([2]) - الاخلاق والإلحاد، أسماعيل عرفة، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19

([3]) - الاخلاق والالحاد، إسماعيل عرفة، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19

([4]) - نشأة الإنسان والإنتقاء الجنسي، تشارلس داروين، ترجمة مجدي محمود الملجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط الأولى 2005، ج3 ص 227.

([5]) - ألفرد راسل والاس (بالإنجليزية: Alfred Russel Wallace) ولد في 8 يناير 1823 وتوفي في 7 نوفمبر 1913 هو عالم طبيعة بريطاني، ومستكشف، وعالم جغرافيا، وعالم أحياء وعلم الإنسان وهو الذي طرح نظرية التطور بالانتقاء الطبيعي بصورة مستقلة عن داروين واشتهر بها.

([6]) - خرافة الإلحاد ص 299.

([7]) - نشأة الإنسان والإنتقاء الجنسـي، تشارلس داروين، ترجمة مجدي محمود الملجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط الأولى 2005، ج3 ص 220.

([8]) - هو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والكاتب الرئيسـي إعلان الاستقلال (1776) وثالث رئيس للولايات المتحدة (1801–1809) .

([9]) - كهنة الإلحاد الجديد، كتور هيثم طلعت، ص 159 /http://laelhad.com   

([10]) - توماس ناغل (بالإنجليزية: Thomas Nagel) هو فيلسوف أمريكي من مواليد 4 تموز/يوليو 1937، وهو حالياً بروفيسور متقاعد من جامعة نيويورك والتي درّس فيها منذ 1980. تشمل اهتمامات ناغل الفلسفية كل من مواضيع فلسفة العقل وفلسفة السياسة والأخلاقيات.

([11]) - اسما عيل عرفة، الإلحاد والأخلاق، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19

([12]) -  أنتوني فلو، هناك أله، ملحق الالحاد الجديد كتبه روي أبراهام فارغير، تجرمة الدكتور صلاح الفضلي،  ص 191.

([13])([13]) - اسما عيل عرفة، الإلحاد والأخلاق، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19

([14]) - ميليشيا الإلحاد، عبد الله العجيري، تكوين للدراسات والبحوث، الطبعة الثانية، 2014م ، ص 152.

([15]) - المصدر السابق، ص 150.

2019/10/14

السلوك الإنساني.. بين الديني والوضعي

السلوك في الواقع البشري لا يتحرك على أساس من الوعي والوجدان الانسانيين بقدر ما يتحدد بحدود الظرف التاريخي وعوامله المادية, بل ان للوعي والوجدان لدى الانسان شكلا يحدده الظرف التاريخي غالبا, فالعبودية لم تنته كمرحلة تاريخية إلا بفعل الآلة ـ التي مثلت السبب الاكثر فعالية ـ حين سدّت مسد اليد البشرية, وحين تم ذلك اليوم تولد, لدى العنصر الابيض, شعور بقبح الرق والتفريق على اساس اللون, في حين انه كان يرى في ذلك التفريق الصورة الطبيعية للحياة, فلو قدّر للحياة اليوم ان تفقد التطور الآلي والتكنلوجي ويعود الانتاج الزراعي والصناعي الى حاجته الاولى لليد البشرية لاستتبع ذلك ـ آليا ـ تبدل الشعور الرافض للتفريق العنصري بالشعور السابق في التعايش الطبيعي مع فكرة الرق والعبودية. إن الطريقة التي تصنع للحياة صورتها الايجابية تكمن في جعل الانسان يعيش ضمن اطار يتجاوز الواقع التاريخي ليعيش انسانيته بشكلها الثابت المحض, وهذا ما يمثل ماهية الدين السماوي بربط الانسان بالمطلق وهو الله سبحانه. هنا نكون امام دعوى لشد ما يطلقها الطرف المناوئ للدين, سواء في حقيقته او دوره خارج اطار المعتقد والشعيرة, في أننا نلمس ذلك التجاوز للواقع التاريخي في نماذج مؤمنة وكافرة على السواء, وهذا حق ولكن:

1ـ ان وجود نماذج ـ مؤمنة وكافرة على السواء ـ تجاوزت الواقع التاريخي لا يتجاوز افرادا محدودين يمكننا تسميتهم بالأبطال التاريخيين, ولا يمكن ان نعتمد فيما يصنع للحياة ـ بشكل شمولي ـ صورتها الايجابية, على طريقة لا تنتج غير افراد محدودين.

2ـ إن تجاوز الكافر للواقع التاريخي ينبع من خصوصيات ذاتية توفرت لديه, فيما يمثل الدين السماوي منهجا شموليا يدفع النوع الانساني لتجاوز الواقع التاريخي.

3ـ وإذا ما قيل في أن الكفر يعتمد منهجا شموليا ايضا وهو الانسانية, سنكون إزاء منهجين لتجاوز الواقع التاريخي وهما الانسانية لدى الكافر والارتباط بالله جل وعلا لدى المؤمن, فأيهما أقدر على خلق ذلك التجاوز؟!

إن مشكلة الانسانية التي يعتمدها الكافر, هي انها فكرة من داخل التاريخ ـ سواء كونها انفعالا نفسيا او فكرة عقلية تنظم علاقة الذات بالآخر ـ وتنشأ بفعل عوامل التاريخ كما بيّنت في مثال العبودية انفا, فيما يعتمد المؤمن على فكرة الارتباط بالله المطلق المتجاوز للتاريخ وهذا ما يحسم الامر لصالح المؤمن على الصعيد المنطقي في حدود هذه النقطة.

4ـ إن الايمان بالله المطلق الخالق وما يؤديه من ايمان بأن البشر, على الاطلاق, مخلوقون من قبل الله, يجعل من الله والفرد والاخر ثالوثا يسبح في الفراغ متجاوزا كل العوالق المادية والتاريخية التي شوهت مفهوم الانسانية في كل الحضارات التي قامت على اساس جغرافي كالبابلية والمصرية او اساس قومي كالإغريق والرومان او الاساس التكنلوجي كما في اروبا وامريكا اليوم, وكل ما نظّّر به الفلاسفة حول علاقة الفرد بالآخر بدءا بمقولة الناس عبيد وبربر لأرسطو وانتهاء بإنسان نيتشه السوبرمان. يقول نبي الاسلام ص " كلكم سواسية كأسنان المشط" و " كلكم لادم وآدم من تراب". إن سور القضيتين (كل) بما يعنيه من دلالة تشمل البشر كافة, على اختلاف الاعراق والالوان والأمصار, هو التمثيل الحقيقي لمفهوم الانسانية , ولما كان أثر الاختلاف في الاعراق والالوان والامصار هو تجسيد للواقع التاريخي, كان الـ ( كل), بما يعنيه من دلالة تشمل البشر كافة, هو خروج عن الواقع التاريخي.

إن عملية الارتباط بالله ليست وصفة جاهزة يحققها الانسان من خلال الهوية العقائدية, بل هي جهد نفسي جبار (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) (الانشقاق6), وبهذا تبطل الدعوى التي يعتمدها الطرف المناوئ للدين والمتقومة على اساس من اعتبار المجتمعات الاسلامية ممثلا لفكرة الايمان وبالتالي محاكمة فكرة الايمان على اساس ذلك الاعتبار.

5ـ إن الكدح متاح للمؤمن والكافر ولكن الاختلاف فيما ينتهي اليه ذلك الكدح. فسارتر الملحد حين عظّم من استقلالية الانسانية اعتمادا على صدفة وجوده أدى ذلك الى ما أطلقه البير كامو من دعوى للانتحار, وتقديس فلاسفة النهضة للفكر الوضعي ومركزية الانسان أدى هو الاخر لان تكون اوروبا مسرحا مرعبا خلال الحربين العالميتين, حيث ان الانسانية في معطيات الفكر الوضعي تعني اصالة اللذة والمنفعة, في حين ينتهي الكدح المؤمن الى الثالوث السابح في الفراغ وفيه تقنن اللذة والمنفعة من خلال الارتباط بالمطلق.

6ـ الهوة السحيقة الموجودة بين عملية الارتباط بالمطلق بشرطها الكدح وبين الواقع المعاش لايعني عدم صلاحيتها وحتمية اعتمادها كوسيلة فضلى تصل بالبشرية الى الحالة المثال,انها فكرة مثالية وليست خيالية والفارق كبير. كما ان الهوة الموجودة بين فكرة التقيد بالشروط الصحية واعتماد النظافة وبين الواقع المعاش لقبيلة بدائية لايعني خطأ الفكرة او يمس ضرورة التقيد بها إذا ما ارادت القبيلة الوصول الى حياة صحية مثالية. بمعنى ان من الخطأ ان نحاكم الفكرة على اساس الواقع حين تكون الفكرة هي الاداة لتغيير الواقع

2019/09/18