فكر وثقافة
هل تغيّرت القصيدة الحسينية في عصر الاستهلاك؟!
كيف يمكن أن تساهم القصيدة الحسينية في التوعية الفكرية وإحداث التغيير الاجتماعي؟

يعد الشعر تاريخيا ولا يزال ليس في العراق فقط وإنما في كل الثقافات والحضارات قوة مؤثرة جدا في بناء السلوكيات الاجتماعية، لأنه يعطي وزنا معينا وقافية معينة تصل إلى الذهن وتؤثر بسرعة على المتلقي.

فكيف إذا كان الشعر عاطفيا وجدانيا، يعبر عن قضية فيها الكثير من الظلم، ويعبر عن مصيبة وعن حزن وألم عظيم، لذلك كان الشعر والقصيدة الحسينية هي أكبر مؤثر في عملية بناء النسيج الاجتماعي، على مر التاريخ، حتى الحكام رأوا في هذا الأمر قوة لهذا المجتمع فدعم بعض الحكام العقلاء هذه القضية، وأكثر الطغاة حاربوها بشدة. ونلاحظ ذلك في المجتمع العراقي وتأثره الواضح بالشعر والقصيدة الحسينية، وذلك أنه يعبر بعمق عن وجدان المجتمع وإحساسه بالظلم الموجود في افراده.

كان الشعر الحسيني والقصيدة الحسينية تستنهض الشعب والمجتمع ضد الظالم، فكانت عملية بناء فكري مستمرة وعملية بناء التزام اجتماعي تؤدي الى التماسك والوحدة الاجتماعية، بالنتيجة أدى ذلك إلى أن يتمكن المجتمع العراقي من أن يواجه الظالمين عن طريق القضية الحسينية، وخصوصا من خلال الشعر الحسيني والشعائر الحسينية.

ولكن بعد أن دخلنا زمنا جديدا، وأُزيلت تقريبا كثير من الموانع التي كانت موجودة في السابق، دخلنا في زمن الحداثة التكنولوجية وعالم الاستهلاك، فتغيرت بعض التوجهات في التعامل مع القصيدة الحسينية ومع الشعر الحسيني، فعالم الاستهلاك خطير لأنه يبتلع كل شيء ويلونها بأساليبه، يأخذ المبادئ والقيم والمُثُل ويحيكها بطريقته الخاصة، يقلبها عالم الاستهلاك فيفرغ تلك المثل والقيم من محتواها العميق، ويجعلها مجرد حالة سطحية.

ولكن الشعر الحسيني على طول التاريخ كان يعبر عن كفاح الإنسان ونضاله، ومقاومة الإنسان وصبره في مواجهة السجون والتعذيب والقمع والمطاردة والتهجير، وكان الشعر الحسيني دائما يغذي الإنسان بالأمل، بالتفاؤل والمحبة والعطاء والاستمرار، الآن ومع دخولنا العالم الاستهلاكي لاحظنا ظهور أشياء جديدة، تغيرت الملابس، وتغيرت الأشكال وتغيرت الكلمات وتغيرت السلوكيات، وأصبح العالم كما يضع في انطباعاتنا أكثر سطحية عما كان في السابق.

وهذا يحتاج في رأيي إلى دراسة وقراءة معمقة للوقوف أمام هذه الحالة الاستهلاكية قد تخرج القصيدة الحسينية من محتواها الاصيل.

التفريغ العاطفي المجرد

من الإشكالات التي تواجهها القصيدة في زمن الاستهلاك، التفريغ العاطفي المجرد عن السلوك، وحتى الشعر يحاول التأثير العاطفي بدون أي معنى مجرد إحداث تأثير عاطفي من دون أن تكون هناك موعظة فكرية أو توجيه أخلاقي أو سواها، نلاحظ كذلك استخدام مفردات العنف الاجتماعي أكثر في الشعر والقصيدة، كذلك نلاحظ أن الشاعر أو الرادود يجعل من القصيدة معبرة عن العرف فقط، دون الاستلهام من الخطاب الحسيني الذي يوجد فيه الكثير من الأفكار والتوجيهات والمواعظ القيّمة لبناء المسؤولية الاجتماعية، وترسيخ الحرية والتخلص من الذل والاستعباد، وبناء الالتزام الاجتماعي والتمسك بالدين والإسلام الحقيقي.

التأثير في التغيير الاجتماعي

وتسهم القصيدة الحسينية في التغيير الاجتماعي من خلال:

أولا: لابد أن ينبثق الشاعر من داخل حركة فكرية ثقافية اصيلة، فالثقافة الغالبة ثقافة العولمة والحداثة وما بعد الحداثة، التي أثرت كثيرا على تفكير الناس واغرقتهم في عالم الاستهلاك، وفي مواجهة الغزو الثقافي يحتاج الشعر إلى حركة فكرية اصيلة تملك تأثيرا اكبر على الناس، بحيث يؤثر فيهم حاليا كما اثر في السابق، لذلك لابد أن يستخدم الشعر الحسيني في عملية البناء الاجتماعي، في قضية الكفاح ومواجهة الظلم، سابقا كان هناك إحساس بالظلم وإحساس بالقهر والكبت والقمع، فكان الإنسان مناضلا ومكافحا من أجل القضية الحسينية وكان الانتماء لها عميقا.

فالأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تعاقبت على حكم العراق عملت على مسخ هوية الفرد وسلب هويته وجعله تابعا للحاكم المطلق ذليلا له، ولكن القضية الحسينية وقفت في مواجهة هذه الشمولية، وفي مواجهة هذا المسخ، ولكن اليوم هنالك شمولية من نوع آخر وهي شمولية الاستهلاك، التي تحاول أن تمتص الزخم الاخلاقي وتدمر القيم الفطرية ودون أن نشعر بذلك، لذلك لابد للشعراء والمثقفين أن ينتبهوا إلى عملية البناء بحيث يكون للشعر الحسيني مدلولاته السليمة في تشكيل السلوكيات الصالحة، وبناء الثقافة العميقة في الإنسان.

ثانيا: المطلوب من القصيدة الحسينية هو الاستخدام العاطفي المرتبط بالموعظة، وتوجيه الناس للابتعاد عن المال الحرام، والسرقة والخيانة والرشوة والفساد، فالشاعر أو الرادود لابد أن تكون عنده رسالة من خلال عملية استخدام العاطفة بقوة من أجل بناء السلوك النزيه، الطهارة، والنزاهة والنظافة في السلوك الاجتماعي.

ثالثا: من وظائف الشعر والقصيدة الحسينية بناء وترسيخ الانتماء الثقافي للنهضة الحسينية، وليس مجرد انتماء شكليا، بل لابد ان يكون انتماء ثقافيا بعقائده وأفكاره وأخلاقياته وسلوكياته.

رابعا: تعزيز روح الاحترام للنظام الاجتماعي، وهي مسألة غائبة في مجتمعاتنا، فنحن نعيش الفوضى، والسبب بوجود الفوضى أن الانفتاح الكبير الذي حدث لم يحصل فيه توجيه للفكر وبناء تراكمي للسلوك والثقافة، فالقصيدة الحسينية تستطيع أن تقوم بعملية تعزيز روح النظام والالتزام والانضباط الاجتماعي وتحمل الفرد لمسؤولياته.

خامسا: من اهداف القصيدة الحسينية هو التغيير الأخلاقي، فكيف يكون منتميا للامام الحسين (عليه السلام) وهناك أخلاقيات يمارسها قد تشكل نقيضا لمنهجه ومنهج أهل البيت (عليهم السلام)، فلابد للقصيدة أن تعزز التغيير الأخلاقي، حين كنت صغيرا أتذكر أنني كنت أحضر مجالس (الرادود المرحوم حمزة الزغير)، فتلك القصائد رسخت في داخلنا عمقا ثقافيا في الولاء والانتماء والهوية، ومع طول السنين في المهجر والمشكلات الأخرى بقيَ هذا الانتماء راسخا لأن تلك القصائد الحسينية عززت فينا هذا الانتماء والمشاعر الاصيلة بالهوية.

سادسا: كذلك استخدام العاطفة في القصيدة الحسينية لتعزيز عملية التوبة والاستغفار ومحاسبة الذات، وتنبيه النفس وإحداث التغيير الذاتي بشكل عام، والذي سيؤدي الى التغيير الثقافي والاجتماعي ونهضة الامة.

وأخيرا، يتم ذلك من خلال وجود منهجية وبرنامج مستدام عبر ندوات ودورات وحوارات على مدار السنة، تغذي الشعراء والرواديد بالفكر والخطاب الحسيني، فبعض القصائد التي يتم طرحها قد يوجد في بعضها خروج عن الموازين الشرعية والعقائدية، حيث المد الاستهلاكي المفرط يؤدي الى الخروج عن الأسس العقائدية، وبعضها يذهب إلى الغلوّ والتطرف والتركيز على العاطفة المجردة التي قد لا يوجد فيها معنى، فالعاطفة الحقيقية هي العاطفة الممزوجة بالعقيدة الصحيحة والالتزام السلوكي والأخلاقي والثقافي المسؤول.

2023/08/20

آية الله محمد باقر السيستاني يكتب عن «هوية الجندر» والاتجاهات الشاذّة.. كتاب جديد
ينشر موقع الأئمة الاثني عشر مقدمة كتاب جديد لسماحة السيد محمد باقر السيستاني تحت عنوان: "تكامل الذكر والأنثى في الحياة - دراسة موجزة في تكامل الجنسين ونقد الاتجاهات الشاذة الحديثة". أدناه نص ما جاء في مقدمة الكتاب بحسب ما ورد لـ "موقع الأئمة الاثني عشر":

إن أحد الأسس الفطرية المهمة للحياة الإنسانية والنوع الإنساني هو التنوع البشري الرائع المنقسم إلى الذكر والأنثى، وتكاملهما في هذه الحياة من خلال الاقتران الزوجي الأسري، وتوزيع اقتضاءات الأسرة على الجنسين وفق الملاءمات الفطرية مع تكونهما الجسدي والنفسي والسلوكي ومشاركتهما إنجاب الأولاد.

إلا أن هذا الأساس تعرض في العصر الحاضر لتحدٍ خطير من خلال اتجاهات ونظريات متعددة انتشر تسويقها باسم العلم والأدوات العلمية.

ومن أبرز تلك النظريات نظريتان:

١ - نظرية تحور معنى الذكورة والأنوثة ـــ وهما أمران معروفان للإنسان منذ نشأة الإنسانية ــــ بادعاء أنهما لا يتمثلان في التنوع الفطري الجسدي والوظيفي والنفسي والسلوكي للإنسان، بل هما يعبّران عن انطباع الإنسان عن نفسه.

فإذا رأى الذكر جسديا أنه أنثى كانت هويته أنثى سواء احتفظ بخصائصه الجسدية الذكرية، أم سعى إلى تغييرها، فله أن يتأنّث ويظهر ويتصرف ويتزوج كأنثى تماماً ويكون بين الإناث في اجتماعهن، وعلى الأسرة والمجتمع أن يتقبله ويتعامل معه كذلك رغم خصائصه الذكرية الكاملة، وكذلك الحال في الانثى!.

بل يجوز أن يختار الشخص ان يكون ذكرا وأنثى في آن واحد، او يكون حالة وسطى بمزيج من المظاهر والسلوكيات الذكورية والأنثوية حسبما يشاء!

وقد عبر عن مورد الانطباع المغاير للجسد عن الذات بالتحول الجنسي، كما عبر منذ حين عن الهوية التي يختارها الشخص لنفسه -سواء كان موافقا لجسده ام لا- بالنوع الاجتماعي أو الجندر.

٢- نظرية أخرى تنقض تكامل الذكر والأنثى في الحياة كما تقتضيه الفطرة الإنسانية بادعاء أنّ الميول الشاذة (المماثلة) هي ميول طبيعية، وأنّ الاقتران الشاذ بالمماثل يمثل خيارا للزواج على حد زواج الذكر والأنثى!.

فهاتان نظريتان تبرران السلوكيات والاقترانات والميول الشاذة، وتعتبرها  امورا طبيعية وخيارات مقبولة ومشروعة على حد الخيار السائد في المجتمع البشري من تمايز الجنسين وتكاملهما في الحياة.

وقد حدثت هاتان النظريتان في هذا العصر في بعض الأوساط العلمية على أساس أنهما من جملة معطيات العلم الحديث!.

ومن الملفت انه يجري تسويقهما ثقافيا واجتماعيا بقوة واندفاع بالغ في المجتمعات البشرية من خلال جميع الامكانات المتاحة المحلية والدولية من الجوانب المالية والقانونية والسياسية والاعلامية والثقافية والتربوية .

والواقع أن  هذه النظريات تمثل انتكاسة كبيرة في الفكر الإنساني المعاصر، بل تقهقر غريب لما يطرح باسم العلم وعجز كبير عن رصد البديهيات الفطرية الإنسانية التي يدركها عامة العقلاء الراشدين وفق ما يجدون بوجدانهم و يشهدونه بالخبرة العامة، وقد وقع من قبل التنكّر لمبادئ بديهية أخرى باسم العلوم الإنسانية.

كما ان تسويقها في المجتمع الانساني عمليا يمثل تحديا خطيرا للانسانية في احد أهم ركائزها وبناها في وجودها وديمومتها وقيمها واخلاقها ونظمها الأسري والاجتماعي.

وهذه دراسة موجزة تتضمن توضيح تكامل الذكر والأنثى في الحياة وفق القواعد العامة الراشدة للتفكير المبنية على مبادئ خمسة

١ ٠ الإدراك السليم.

٢ ٠ الفطرة الإنسانية الجسدية والوظيفية.

٣ ٠ الفطرة النفسية والسلوكية.

٤ ٠ الضمير الإنساني الذي يمثل الهدي الملائم للإنسان ويحدد ما يحسن وما يقبح منه.

٥ ٠ الحكمة الصائبة التي ترعى الصالح الإنساني.

هذا مع دراسة الموضوع وفق هذه المبادئ في المستوى الفطري، وفي المستوى العلمي المعتمد على العلوم ذات العلاقة بهذه المبادئ، من جهة وجود ابعاد للموضوع ذات علاقة بكل واحد من هذه المبادي  الخمسة.

كما تضمنت الدراسة  توضيح بداهة مبدأ التكامل بين الجنسين في الدين بداهة بالغة لا مزيد عليها، فإنه ملء تعاليم الدين ونصوصه في ذِكْر الذكر والأنثى وأحكامهما، على أنّ الدين يضمن التأكيد على أن هذا التكامل مطابق مع المبادئ الفطرية والأخلاقية والحكمية.

وكنت قد اعددت دراسة اكثر تفصيلا من بعض النواحي قبل ثلاث سنوات عندما بلغني استفحال هذه النظريات في اوساط الجاليات الاسلامية في بعض بلاد المهجر، وحدثت ظروف حالت دون إنهائها، وقد حدث في هذه الايام سعي بليغ بنشر هذه الافكار الخاطئة في داخل البلاد الاسلامية فاهتممت بايجاز البحث مع بعض الاضافات ليكون اسهل تناولا.

وقد اعددت هذا البحث في الأصل لإلقائه كمحاضرات على طلبة الجامعات ولكن حالت الظروف عن إلقائها، ولذلك اكتفيت بنشرها وذلك ليكون مذكِّرا لمن عُني بالتبصر في الموضوع وتحفيز معاني الرشد والفطرة والأخلاق والحكمة في المجتمع الإنساني بشكل عام وفي المجتمع الديني على وجه خاص.

(وسوف تنشر هذه الدراسة قريباً على شكل حلقات تدريجاً). السيّد محمّد باقر السيستاني
2023/08/12

هوس جنسيّ ودعارة قانونية: كيف يتزوّج الملحد؟!
من لا يدينُ لله بدين الحقّ لابدّ أن يكون تابعاً لأهوائهِ وشهواته، أو كما عبّر دوستويفسكي بقوله: "إذا لم يكن الإله موجوداً فكل شيء مباح".

ثم يأتي الباحث الأميركي اللا أدري ديفيد برلنسكي شارحاً ذلك بقوله: "فإذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإنّ (ما ينبغي أن يكون) هو ببساطة ما يقرّره الرجال والنساء. لا يوجد مصدرٌ آخرُ للحكم. هل هذه إلا طريقة أخرى للقول بأنه طالما أنّ الإله غير موجود، فكلّ شيء مباح؟".

وفي نفس الإطار يرى الملحدُ الأستراليّ وأستاذ الفلسفةِ الأخلاقيةِ بيتر سنجر أنّ ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم طالما لا تتضمّنُ أذيّة من أيّ نوع للحيوان هو أمرٌ طبيعي ومقبولٌ في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، وبالنسبة إليه: "فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمرٌ محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين: الحيوان والإنسان"!

وعليه فمن المستحيل أن تكون هناك قيمٌ أخلاقية دون الإيمان بإلهٍ له دين يجبُ الالتزام به، وهذا ما تنبّهَ إليه الكثير من فلاسفة الإلحاد، فالفيلسوفُ الوجودي جون بول سارتر الذي دافع عن الإلحاد بشراسة نجدهُ يضطر للقول: "يجد الوجودي حرجاً بالغاً في ألّا يكون الله موجوداً، لأنه بعدم وجوده تنعدم كلّ إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح. لا يمكن أن يكون هناك خير بدهي؛ لأنّه لا يوجد وعي لانهائي وكامل من الممكن التفكير فيه. لم يُكتب في أيّ مكان أنّ الخير موجود، ولا أنّ على المرء أن يكون صادقاً أو ألّا يكذب".

وهو الأمر ذاته الذي جعل ريتشارد دوكنز يتسقُ مع إلحادهِ ويلتزم بلا مبالاته، فيقول مقرّاً باستحالة الأخلاق: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة".

ويقول أيضاً: "إنّه من العسير جدًا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية".

فيا معشرَ اللا دينيين ليس الأمرُ مجرّدَ اتهامكم بالسّعار الجنسي، وإنما هو أتجاهٌ تقفُ خلفه فلسفةٌ لا أخلاقيةٌ من الأساس، فمن لم يتخذ الله لهُ ربّاً لابدّ أن يتخذ من نفسه صنماً، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، والأمرُ الذي لا يمكن فهمهُ هو محاكمةُ اللا ديني لغيره أخلاقيّاً، فكيف جاز له ذلك وهو لا يرى للإنسان مرجعاً لأفعاله غير ما تمليهِ شهواته وأهواءه؟ وكلّ ما نتمنّاهُ من صاحب هذا الكلام أن يعود إلينا ليقدّمَ لنا تبريراً أخلاقياً يدينُ فيه السّعارَ الجنسي من وحي عقيدته اللا دينية؛ بل من حقنا أن نسألَ هل في اللا دين شيء اسمهُ زواجٌ يجمعُ بين المرأة والرجل؟ وإن كان موجوداً ما هي الحاجة إليه وما هو المرجعُ الذي يستند عليه؟ وكيف يفرّقُ بين السّعارَ الجنسي وبين الممارسة الجنسية غير المسعورة؟ ومن ثم ما رأيهُ فيما نشهده اليوم من شذوذ جنسي يشرّعُ له قانونياً ودستورياً ويدرّسُ للأطفال في المدارس، وهل تقنينُ الدعارةِ في دول الغرب والأفلام الإباحية بجميع أنواعها أمرٌ محرّمٌ وسعارٌ جنسيٌ عند اللا دينيين؟

أمّا عندنا كمسلمين فالأمرُ واضح فكلّ ممارسةٍ جنسية ضمن حدود الشرع لا تعدّ سعاراً جنسياً، وكلّ ما جاء في مضمون كلامه من إساءاتٍ واتهامات للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لا نؤمنُ به ولا نصدّقُ بحدوثها، فكلّ الأخبار والأحاديث التي تنزِلُ من قدرِ رسول الله تعدّ عندنا أحاديثَ موضوعةً ومكذوبة.

هامش: المقال رداً على السؤال: "يصموننا بأننا معشر اللا دينيين نعاني من السعار الجنسي وتناسوا أنّ هذا السعار هو عند من مارسهُ مع إحدى عشر زوجة غير السراري وملك اليمين ...هو عند من كان يطوف على زوجاته في ليلة واحدة وغسل واحد ..هو عند من يرى امرأة فيشتهيها فيترك على الفور أصحابه ويذهب إلى بيته ليفرغ شهوته في أي من زوجاته ثم يعود لأصحابه فيخبرهم عن هذا..هو عند من اعتاد على مص لسان نسائه وهو صائم ..هو من تخبرنا زوجته أنه أثناء حيضها كان يلف حول أعضائها خرقة ثم يستمتع بها بعضوه الذكري الذي هو املك الناس في استخدامه على رأيها..هو الذي اشتهى زوجة ابنه بالتبني فتنازل له عنها بعد أن قضى منها وطرا ..الهوس الجنسي تجده فيما وعد به محمد أصحابه في جنته من ٧٢ حورية غير وصيفاتهن ذوات أثداء مستديرة و بياض اللؤلؤ وغشاء بكارة يتجدد كلما انفض وكل هذا والغلمان يطوفون عليهم بكئوس الخمر".
2023/08/12

أدلة ثبوت الحسن والقبح العقليّين
الدليل الأوّل.. يحكم كلّ عاقل ـ على نحو البداهة ـ بحسن بعض الأفعال ذاتاً ولزوم العمل بها ، وقبح البعض الآخر من الأفعال ذاتاً ولزوم الانتهاء عنها .

وإذا بلغ الأمر إلى الضرورة بطل الاستدلال ، ومن طلب الدليل بعد البداهة وقع في الإجحاف، ومن كابر في ذلك فقد كابر مقتضى عقله 1.

مثال : إنّا نعلم بالضرورة من خيّر شخصاً بين العدل والظلم ، ولم يكن لهذا الشخص علم بموقف الشرائع ، فإنّه سيختار العدل قطعاً، وما ذاك إلاّ لأنّ حسن العدل وقبح الظلم ذاتي وضروري عقلا .

الدليل الثاني

لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما من ينكر الشرائع ، ولكننا نرى غير الملتزمين بالدين ـ على اختلاف فصائلهم ـ :

يصفون بعض الأفعال بالحسن، ويجدون أنفسهم ملزمين بفعلها . ويصفون بعض الأفعال الأخرى بالقبح، ويعتقدون بأ نّهم ملزمون بتركها . ويسند هؤلاء تحسينهم وتقبيحهم إلى "العقل" من غير أن يكون "للحكم الشرعي" أي أثر في هذا التحسين والتقبيح والالتزام بالفعل والترك 2.

مثال : يحسّن هؤلاء العدل وأداء الأمانة والصدق النافع والوفاء بالعهد وجزاء الإحسان بالإحسان ونحوها، ويرون ضرورة الالتزام بهذه الأفعال . ويقبّح هؤلاء الظلم والخيانة والكذب الضار ونقض العهد وجزاء الإحسان بالإساءة ونحوها، ويرون ضرورة الابتعاد عن هذه الأفعال .

الدليل الثالث

إنّ الاعتقاد بالتحسين والتقبيح العقلي هو السبيل لإثبات صحة التحسين والتقبيح الشرعي، ولا يمكن إثبات الحسن والقبح مطلقاً من دون الاعتقاد بالحسن والقبح العقلي .

توضيح ذلك : إنَّ إنكار تحسين وتقبيح العقل يلزم إنكار تحسين العقل للصدق وتقبيحه للكذب ، فيؤدّي ذلك إلى فقدان الثقة بتحسين وتقبيح الشرع ، وذلك لاحتمال كون الشارع كاذباً في إخباره ، فينتفي الوثوق بالشرع ، وتكون النتيجة عدم الاطمئنان بصحة تحسين وتقبيح الشرع .

وبعبارة أُخرى : إنّ استقلال العقل في تحسينه للصدق وتقبيحه للكذب هو الذي يدفع الإنسان إلى الوثوق بقول الشرع ، ولولا ذلك يبقى احتمال عدم صدق الشرع في قوله وإخباره ، فينتفي الجزم بصدقه .

توضيح ذلك : إنّ الكذب ـ حسب قول منكري الحسن والقبح العقلي ـ لا يقبح إلاّ إذا قبّحه الشرع ، فلا يعلم قبح الكذب قبل تقبيح الشرع له ، فلهذا لا يكون للإنسان قبل إيمانه بالشرع دليل على تنزيه الشرع عن الكذب ، فينتفي الجزم بصدق الشرع مطلقاً .

الخلاصة :

إنّ الجزم بعدم كذب الشارع رهن حكم العقل ، وهذا ما يثبت الحسن والقبح العقلي 3.

ولهذا قال العلاّمة الحلّي: "إنّا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء وقبحها عقلا ، لم نحكم بقبح الكذب ، فجاز [ أي: فيؤدّي ذلك إلى جواز ] وقوعه من اللّه ... فإذا أخبرنا [ تعالى ] في شيء أ نّه قبيح لم نجزم بقبحه ، وإذا أخبرنا في شيء أ نّه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب [ فينعدم السبيل لمعرفة ما حسّنه اللّه تعالى وما قبّحه ]"4.

الدليل الرابع

إنّ "المعجزة" هي الوسيلة التي بها يثق الناس بصدق دعوة الأنبياء . ولا يكون هذا الوثوق إلاّ بعد الاعتقاد بالحسن والقبح العقلي المتمثّل في القاعدة التالية وهي: إنّ إعطاء اللّه المعجزة للكاذب في دعوة النبوّة قبيح ذاتاً .

ومن هنا نثق بصدق مدّعي النبوّة فيما لو جاء بالمعجزة ، لأ نّنا نؤمن بأنّ "إعطاء اللّه تعالى هذه المعجزة للكاذب في دعوة النبوّة" قبيح ذاتاً، واللّه تعالى لا يفعل القبيح . وإنّما "الحسن" إعطاء المعجزة للصادق في دعوة النبوّة .

ولكن إذا أنكر الإنسان الحسن والقبح الذاتي، فإنّه لا يصل أبداً إلى مرحلة اليقين بصدق من يدّعي النبوّة ويقدّم المعجزة لإثبات مدعاه، لأ نّه يبقى دائماً في حالة شكّ بأنّ هذا الذي يمتلك المعجزة قد يكون كاذباً في دعوته للنبوّة ، وإنّما أعطاه اللّه المعجزة عبثاً ، لأ نّه تعالى يفعل ما يشاء !

فتنسد بذلك أبواب معرفة النبي الصادق وتمييزه عن الكاذب 5.

بعبارة أخرى : لو كان "الحسن" ما حسّنه الشرع ، و"القبيح" ما قبّحه الشرع، لما قبح من اللّه تعالى أي شيء ، حتّى لو كان ذلك إظهاره المعجزات على أيدي الكاذبين . فينتفي بذلك إمكانية تصديق دعوى الأنبياء . وهذه النتيجة باطلة . لأ نّها تؤدّي إلى:

1 ـ غلق باب معرفة الأنبياء الصادقين .

2 ـ منح الكفّار العذر في إنكارهم لنبوّة الأنبياء .

ولهذا لا يوجد سبيل سوى الاعتقاد بالحسن والقبح العقلي .

الدليل الخامس

لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لم يكن للأنبياء أي دليل لإثبات لزوم توجّه الناس إلى البحث والنظر ، ووجوب تعرّف الخلق على اللّه تعالى، وضرورة اتّباع الناس لهم .

توضيح ذلك : إذا طلب النبي من أحد الأشخاص البحث والتعرّف على اللّه واتّباع سبيله .

فسيقول هذا الشخص للنبي: لماذا أبحث ولماذا أُتعب نفسي من أجل التعرّف على اللّه ، وما هو الدليل الذي يلزمني اتّباع سبيلك ؟

فإذا كان دليل ذلك هو أنّ البحث وطلب المعرفة واتّباع الرسل أُمور يحكم بها العقل لأ نّها أُمور حسنة ، وينهى عن تركها لأنّ تركها قبيح ، فأنا لا أعتقد بالحسن والقبح العقلي .

وإذا كان دليل ذلك هو الشرع ، فأنا لا أثق بالشرع، لأ نّه من قولك ، وقولك لم يثبت عندي أ نّه حجّة ، لأ نّني لم أُؤمن بك لحدّ الآن، فلا يجب عليّ اتّباعك .

وبذلك لا تتمّ الحجّة على هذا الشخص ، فيلزم الاعتقاد بوجوب الحسن والقبح العقلي .

النتيجة :

إنّ وجوب التوجّه إلى البحث والنظر ، ووجوب التعرّف على اللّه تعالى ، ووجوب اتّباع النبي أُمور "عقلية" لا "شرعية"6.

الدليل السادس

لو كان الحسن ما حسّنه اللّه تعالى . ولو كان القبيح ما قبّحه اللّه تعالى . لم يكن فرق بين : العدل والظلم .

فيجوز ـ في هذه الحالة ـ أن يظلم اللّه تعالى العباد . لأنّ الظلم غير قبيح ذاتاً ، بل: يكون الظلم حسناً فيما لو أمر اللّه تعالى به . ويكون الظلم قبيحاً فيما لو نهى اللّه تعالى عنه .

وهذا باطل بالضرورة 7.

بعبارة أُخرى : لو كان الحسن ما حسّنه اللّه تعالى فقط . ولو كان القبيح ما قبّحه اللّه تعالى فقط . لم يقبح من اللّه شيء .

وتكون النتيجة :

إنّ كلّ ما يفعله اللّه تعالى حسن ولو كان ذلك ظلماً . ولكن اللّه تعالى منزّه من الظلم .

الدليل السابع

لو كان الحُسن والقبح مستنداً إلى الشرع فقط ، لم يكن فرق بين : ما عُلم قبحه من الشرع . وما عُلم قبحه من العقل .

ولكننا نجد : إنّ الشخص الذي يشكّ بالشرع فهو بالطبع : يشكّ في قبح ما علم قبحه من الشرع كقبح أكل لحم الميتة .

ولا يشكّ في قبح ما علم قبحه من العقل كقبح الظلم والخيانة 8 .

الهوامش: 1. انظر: الياقوت في علم الكلام ، أبو اسحاق إبراهيم بن نوبخت: القول في العدل ، ص45. المسلك في أصول الدين ، المحقّق الحلّي: النظر الثاني ، البحث الثاني ، ص 86. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة ، الركن الأوّل ، البحث الثاني، ص104. كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الأُولى ، ص418. نهج الحقّ ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المبحث الحادي عشر، ص83. مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، مسألة (195) ، ص230. النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل ، ص65. إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، مسألة الحسن والقبح ، ص255. 2. انظر: المصادر المذكورة في الهامش السابق. 3. انظر: المسلك في أصول الدين ، المحقّق الحلّي : النظر الثاني ، البحث الثاني ، ص86 ـ 87. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث، المسألة الأُولى ، ص418. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، المبحث الأوّل ، ص231. النافع يوم الحشر ، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل ، ص65. إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، مسألة الحسن والقبح ، ص256. 4. كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الأُولى ، ص418. 5. انظر: غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2، باب الكلام في العدل ، ص71 ـ 72. كشف الفوائد ، العلاّمة الحلّي: الباب الثالث ، الفصل الأوّل ، ص248. نهج الحقّ ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المبحث الحادي عشر ، المطلب الثاني، ص84. إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، مسألة الحسن والقبح ، ص256. 6. انظر: كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثالث ، الفصل الأوّل ، ص249. نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة ، المبحث الحادي عشر ، المطلب الثاني ، ص84. الرسالة السعدية ، العلاّمة الحلّي: القسم الأوّل ، المسألة السادسة، البحث الأوّل ، ص55. 7. انظر: كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثالث، الفصل الأوّل ، ص249. نهج الحقّ ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المبحث الحادي عشر ، المطلب الثاني ، ص84. 8. انظر: الياقوت في علم الكلام ، أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت: القول في العدل ، ص45. إشراق اللاهوت ، عميد الدين العبيدلي: المقصد السابع، المسألة الأُولى ، ص 307. المصدر islam4u
2023/08/10

ولاية الفقيه.. لماذا لا يعمل بها أكثر المراجع؟
لماذا لا يأخذ أكثر مراجعنا بنظرية ولاية الفقيه مع بداهتها كما اثبت ذلك العلماء والباحثون؟

لا إشكالَ ولا شبهةَ في أصل ثبوت الولايةِ للفقيه، إلا أنّ الخلافَ قد وقع في حدود هذه الولاية، وما يدورُ بين الفقهاء من نقاشاتٍ علميةٍ وفقهيةٍ له علاقة بحدود هذه الولاية، فبين من يرى ولايتهُ مطلقةً وبين من يحصرُ ولايتهُ ضمن عناوينَ محددة.

فأولُ من كتبَ في نظرية ولاية الفقيهِ المطلقة ونسبت إليه هو المحققُ الشيخ أحمد بن الشيخ محمد مهدي النراقي، صاحبُ كتاب مستند الشيعة، وقد ألَّف رسالةً خاصةً في موضوع ولاية الفقيهِ أسماها عوائد الأيام، ثم توالت البحوثُ المؤيدة والمعارضة إلى أن تبلورت هذه النظريةُ بشكلٍ عملي على يد السيد روح الله الخميني بعد انتصار الثورةِ الإيرانية، وقد نظر الإمامُ الخميني لهذه النظرية ودافعَ عنها في كتابهِ الحكومة الإسلامية.

والمقصود بولاية الفقيهِ المطلقة هو منح الفقيهِ سلطةً فقهيةً مطلقةً في ظلّ الحكومةِ الإسلاميةِ أو الإمارة الإسلامية، وقد وقع الخلافُ بين الفقهاء حول هذه السلطةِ المطلقةِ بين مؤيدٍ ومعارض.

والخلافُ الفقهي بطبيعتهِ ينحصرُ في الأدلةِ والبراهين التي يعتمدُ عليها كلّ فريق من الفقهاء، فالأمرُ لا يخضعُ للمزاج أو الميل النفسي وإنما يخضعُ لدلالةِ الأدلة طبقاً لاجتهاد كلّ واحدٍ من المجتهدين.

فهناك قدرٌ مشتركٌ بين جميع الفقهاء حول بعض الحدودِ التي يكون للفقيه فيها حقُّ الولاية، وهناك حدودٌ أخرى وقع فيها الخلاف، وعليه يمكننا القول إنّ ولاية الفقيه ثابتةٌ عند جميع الفقهاء في العناوين التالية:

أولاً: ولايتهُ على الفتوى، أي أنّ للفقيه ولايةً وسلطةً على الإفتاء.

ثانياً: ولايتهُ على القضاء، أي أنّ له ولايةً في الحكم بين المتخاصمين والفصلِ في النزاعاتِ، فالقضاء من شأن الفقيهِ الجامع للشرائط.

ثالثاً: ولايتهُ على القصّر والمجانين وكلّ من لا وليّ له، مضافاً إلى ذلك ولايتهُ على الأوقاف العامة.

رابعاً: ولايتهُ على الأمور الحسبية؛ وهي الأمورُ التي يحتسبها الشارع عليه، وهي الأمور التي ليس لها راعٍ غير الإسلام أو لا يرضى الشارع بتركها فتقعُ ضمن ولاية الفقيه.

وقد وقع إجماعُ الفقهاء على هذه الأمور الأربع، واختلفوا في بعض الحدودِ الأخرى كولاية الفقيه في إقامةِ الحدودِ والتعزيرات في عصر الغيبة، مضافاً لاختلافهم حول ولايتهِ على أمور المسلمين كما كان حالُ الإمام المعصوم، فاعتبر بعض الفقهاء أنّ كلّ هذه الأمور تقع ضمن حدودِ ولاية الفقيه في عصر الغيبة، واعتبرها البعضُ الآخر خاصةً بالإمام المعصوم كما هو رأي السيد الخوئي قدس الله روحه.

وممّا لا يخفى أنّ هناك نقاشات فقهية عميقة بين الطرفين احتوتها الكتبُ الفقيهةُ الاستدلالية.

2023/08/05

ماذا قدم لنا الدين؟ وهل انتهى مع تطوّر العلوم؟!
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5] حديثنا حول توقعات الإنسان من الدين، فما هي توقعاتنا من الدين؟ وماذا أنجز لنا الدين في حاجاتنا وتطلعاتنا؟

هناك من يقول بأن الدين انقضى وطره لأن العلوم الطبيعية والإنسانية غطت كل الحقول والمجالات، فلم تبقَ حاجة معرفية أو طبيعية إلا وأشبعها العلم، وكشف زواياها فلم يبق للدين مجال بحيث يشكل الدين عنصراً أساسياً أو حيوياً في حياة الإنسان، إذن يبقى السؤال مثار ماذا أنجز الدين في مجالاتنا وحاجاتنا وتطلعاتنا؟

هنا نتكلم عن ثلاثة محاور:

شرح المصطلحات «الدين، العلم، التوقعات».

بيان إنجازات الدين على مستوى التطلعات والتوقعات.

علاقة الدين بالعلم.

المحور الأول: شرح المصطلحات «الدين، العلم، التوقعات».

العلم: العلم هو المعرفة التي تعتمد على الدليل والبرهان سواء كان الدليل تجريبياً أم كان عقلياً، كل معرفة تعتمد على دليل فهي علم.

ما هو الدين؟

الدين: هنا عدة تعريفات للدين: تعريف في علم الاجتماع، وتعريف في علم النفس، وتعريف في علم الفلسفة.

التعريف الأول: الدين في علم الاجتماع

يعرِّف عالم الاجتماع دوركايم الدين بأنه منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة. ويجمع المنتمين إليه بإيلاف أخلاقي موحد.

التعريف سليم، ولكنه أهمل عنصر مهم وهو عنصر الإيمان بإله، يقول واضع هذا التعريف: أنا أريد أن أضع تعريفاً يجمع كل الأديان لا خصوص الأديان التوحيدية، وبما أن من الفرق البوذية من لا يؤمن بإله لذلك حتى أجمع الأديان كلها اكتفيت بهذا العنوان بأمور مقدسة.

لكن هذا الإعراض عن هذا القيد أو هذه الخصوصية تخرج الدين عن كونه ديناً، العرف العقلائي في جميع الأزمنة يرى أن مفهوم الدين لا ينفك عن الإيمان بإله، دين يعني إيمان بإله، الإيمان بالإله عنصر مقوم للدين في العرف العقلائي كله، في جميع الملل والأجيال، فإسقاط هذه الحيثية لا يجعل التعريف دقيقاً، والفِرَق التي لا تعترف بإله ليست هي دين هي مذهب فكري.

فإذن الدين متقوم بالإيمان بإله، وهو عنصر ضروري في تعريف الدين.

التعريف الثاني: الدين في علم النفس

علماء النفس مدارس متعددة وكل مدرسة تُعرِّف الدين من زاوية مختلفة، يقول فرويد: الأفكار الدينية هي معتقدات وتوكيدات متعلقة بوقائع العالم الخارجي أو الداخلي، وهي تعرفنا أشياء لم نكتشفها بأنفسنا ويُطلب منا فعل الإيمان بها.

هذا التعريف يعرِّف ميدان الأفكار الدينية، أي عندما نريد أن نميز الأفكار الدينية والأفكار العلمية، وبين الأفكار الدينية والأفكار الفنية نجعل هذا المائز، نقول: المائز بين الأفكار الدينية وغيرها أن ميدان الأفكار الدينية هو معتقدات وتوكيدات تتعلق بالعالم خارجياً وهو العالم الذي نعيش فيه، أو داخلياً وهو عالم النفس ومشاعرها وخواطرها.

هذا تعريف لميدان الأفكار الدينية وليست تعريف للدين بما هو دين لذلك نحتاج إلى التعريف الثالث.

التعريف الثالث: الدين في علم الفلسفة

يُعرَّف الدين في موسوعة ستانفورد الفلسفية بأنه حركة الشعور نحو المطلق اللامتناهي عبر منظومة من المعتقدات التي تتعلق بالوجود المرئي واللا مرئي من جهة رجوعه إلى القوة الغيبية؛ وهي فترة اختبار أو تطهير لا تتم إلا بالتوافق بين السلوك البشري والتعاليم الأخلاقية والتشريعات من جهة كونها مطلباً إلهياً.

هذا التعريف للدين يشتمل على أربعة عناصر:

العنصر الأول: شعور نحو المطلق؛ الدين يعتمد على الشعور والتوجه نحو اللامتناهي، توجه المتناهي نحو اللامتناهي.

العنصر الثاني: الاعتقاد بأن الوجود مرئي أو لا مرئي؛ أي عالم مادي أو غير مادي، عالم شهادة أو عالم غيب، العالم كله مرئي وغير مرئي يرجع إلى القوة الغيبية، أي يرجع إلى ذلك المطلق اللامتناهي.

العنصر الثالث: أن الدين هو عبارة عن فترة اختبار وتطهير، وسننتقل إلى فترة القرار «الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر» نحن الآن لا نعيش استقرار بل فترة اختبار وننتقل إلى عالم فيه النتائج.

العنصر الرابع: أن هذا التطهير وهذا الاختبار ولا يتم إلا بالتوافق بين السلوك الإنساني وبين التعاليم الخلقية والتشريعات الإلهية، وإلا لا يحصل نجاح في الاختبار أو تطهير.

ما هي توقعاتنا من الدين؟ وهل الدين يلبي حاجاتنا أو لا؟

أبراهام ماسلو قسَّم الحاجات الأساسية إلى سبع حاجات:

الحاجات الفسلجية: يحتاج الإنسان إلى الطعام والشراب والتنفس.

الحاجة إلى الأمن النفسي والشعور بالهدوء والاستقرار.

الحاجة إلى الحب: يحتاج الإنسان إلى الدفء العاطفي بينه وبين غيره.

الحاجة إلى التقدير الاجتماعي: أن يشعر بأن كفاءته وجهده محل تقدير وتثمين اجتماعياً.

الحاجة إلى بروز الطاقات: حيث يعطى المجال ليبرز موهبته وطاقاته.

الحاجة إلى الفهم والمعرفة: كل إنسان يحتاج إلى أن يتعرف ويفهم.

حاجة الإنسان إلى تذوق الجمال بجميع معانيه.

المحور الثاني: بيان إنجازات الدين على مستوى التطلعات والتوقعات..

ماذا قدم لنا الدين في هذه الحاجات السبع الأساسية؟

في الجواب ثلاث اتجاهات: اتجاه الحد الأدنى، اتجاه الحد الأعلى، اتجاه الحد المعتدل.

اتجاه الحد الأدنى: يقول الباحث الإيراني عبد الكريم سروش الدين لم يقدم أي شيء، قدَّم فقط العلاقة بين الإنسان وربه، لم يقدم لنا الدين إنجازاً أكثر من أنه قال اعبدوا ربكم، والعلم هو الذي غطى الحاجات.

اتجاه الحد الأعلى: يقول أن الدين غطى كل الحاجات وملأ كل الحقول وقام مقام العلم، لأن الدين ملأ الحقول المعرفية كلها وأبان الحقائق على مستوى التكنلوجيا، وعلى مستوى الفلك، وعلى مستوى الوقاية من الأمراض والأوبئة، وعلى مستوى العلوم الإنسانية. الدين غطى كل شيء لأن القرآن يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]

اتجاه الحد المعتدل وهو الصحيح : الدين لا يقوم مقام العلم ولا يضع نفسه موضعه، الدين ليس علماً حتى يتحدث عن التكنلوجيا وعن الفلك، ويتحدث عن كيف يقي الإنسان نفسه من الأمراض والأوبئة، الدين لا يضع نفسه موضع العلم إنما الدين عالج حاجات فطرية أساسية في شخصية الإنسان فهو بالحد المعتدل والوسط في إشباع حاجاتنا وتوقعاتنا.

ما هي علاقة الدين بالإنسان هل هي علاقة القلم والورقة بحيث أن الدين قلم والإنسان ورقة، والدين يكتب فيها ما يريد؟ أم أن علاقة الدين بالإنسان علاقة المزارع بالبذرة يريد تنميتها واستثمارها وبروزها؟

ليست علاقة الدين بالإنسان علاقة قلم وورقة، وإلا هذا معناه أن الإنسان ليس محتاجاً إلى الدين كما الورقة لا تحتاج القلم، هي ورقة صار هناك قلم أو لا، ويمكن أن يكتب فيها القلم ما يصلح ويمكن أن يكتب ما يضر، لو كانت علاقة الدين بالإنسان علاقة قلم وورقة إذن هذا يعني أن الإنسان لا يحتاج إلى الدين وأي قلم يستطيع أن يقوم مقام قلم الدين.

والصحيح هو أن علاقة الدين بالإنسان علاقة المزارع بالبذرة، الإنسان بذرة تملك حاجات واستعدادات فطرية، فكما أن هذه البذرة تمتلك الاستعداد لأن تكون شجرة تفاح، وهذه البذرة تمتلك الاستعداد لأن تكون شجرة ليمون، هذه البذرة لا تنتج الليمون وهذه البذرة لا تنتج التفاح، كل بذرة عندها استعداد فطري لثمرة معينة.

الإنسان يختلف عن الحيوان وعن الجماد، الإنسان بذرة تمتلك استعدادات فطرية فجاء الدين لإحياء الفطرة واستثمارها وتنميتها بحيث تعطي وتنتج، هنا مركز الدين، هنا تأتي توقعاتنا من الدين، توقعاتنا من الدين أنه يحيي فينا الفطرة وينمي الاستعدادات والحاجات الفطرية التي نمتلكها بالطبع والجبلة.

الدين أشبع الحاجات الفطرية في الحقل الفلسفي، في الحقل المعرفي، في الحقل الإنساني، في الحقل النفسي، وفي الحقل الاجتماعي، هذه الحقول الخمسة دخل الدين فيها ولبى الحاجات الفطرية من خلالها.

الحقل الأول: الحقل الفلسفي

كل إنسان بطبعه عنده أسئلة فلسفية ثلاثية: من أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ وما هو الطريق بين المجيء والذهاب؟ حتى الطفل يسأل هذه الأسئلة لأنها أسئلة فطرية، والدين التفت إليها من أول يوم ووضع فلسفة للإجابة عن هذه الأسئلة الفطرية، فحدد المبدأ، وحدد المنتهى، وحدد العلاقة بين المبدأ والمنتهى من خلال الدليل والبرهان، قال تعالى: ﴿الم «1» ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ «2» الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ «3» وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «4»﴾ [البقرة: 1 - 4]

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ هذا المبدأ، ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ «3» وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وهذه حلقة الوصل بين المبدأ والمنتهى، ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ هذا المنتهى. هذه الآية تعكس لنا الدين، والدين أجاب عن الأسئلة الثلاثة فيها.

الحقل الثاني: الحقل المعرفي

كل إنسان بفطرته عنده فضول الاكتشاف والمعرفة، وهنا أيضاً دخل الدين على هذه النزعة الفطرية فوضع عدة عناصر: عنصر الإرشاد إلى التأمل، عنصر الإثارة، وعنصر الاستدلال. أولاً يدعوك إلى التأمل، ثم يطرح عليك إثارات، ثم يضع لك أدلة ترشدك إلى نتيجة الإثارة.

العنصر الأول الإرشاد إلى التأمل.

يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20] تأمل، حرك عقلك، بادر، اكتشف.

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53] ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24] ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ «18»﴾ [الزمر: 17 - 18]، كل هذه الآيات عنصر إرشاد إلى التأمل والتفكير.

العنصر الثاني: عنصر الإثارة

يطرح القرآن ظواهر طبيعية غريبة ويأمرك بالتفكير فيها، كان العرب في زمن الجاهلية الذين لا يعرفون هذه الأمور، العرب الذين استقبلوا القرآن استقبلوا شيئاً فوق مستواهم، طرح لهم قضايا وظواهر لم يألفوها ولم يعرفوها وأمرهم بالتأمل فيها، يأتي القرآن ويسبب لهم صدمة معرفية ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88]

ويقول في آية أخرى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30]

﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ «19» بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ «20»﴾ [الرحمن: 19 - 20]

﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]

طرح القرآن ظواهر طبيعية أمرك بالتفكر فيها والتأمل؛ لتغذية النزعة الفطرية نحو الفضول المعرفي والاكتشاف، وهذا يسمى عنصر الإثارة.

العنصر الثالث: عنصر الاستدلال

القرآن ليس كتاب موعظة وكتاب هداية فقط بل كتاب استدلال أيضاً، فيطرح أدلة ومنها قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] هذا استدلال على أن التعدد يقود إلى الفشل والفساد.

ويقول القرآن الكريم: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35] هذا استدلال.

ويقول: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «78» قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «79»﴾ [يس: 78 - 79]

﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ «58» أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ «59»﴾ [الواقعة: 58 - 59]

هذه كلها استدلالات تصدم الفطرة وتحركها نحو المعرفة.

إذن القرآن لبى الحاجة الفطرية وهي الفضول المعرفي من خلال هذه العناصر الثلاثة.

الحقل الثالث: الحقل الإنساني

الإنسان بفطرته ينحو نحو إعمار الأرض وإقامة الحضارة، يختلف عن الحيوان، الحيوان هدفه مأكله ومشربه، أما الإنسان منذ أول يوم عاش على الأرض صار يفكر كيف يبني وكيف يؤسس وكيف يقوم بحضارة ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] أي طلب منكم إعمارها وإقامة الحضارة عليها.

نحن اليوم نعيش الحضارة الرأسمالية من شرق الأرض إلى غربها فماذا قدَّم المنطق الرأسمالي وماذا قدَّم المنطق الديني؟

كلاهما يدعو إلى إقامة الحضارة، ولكن الدين يتميز بشيء يقول لا حضارة بدون ركنين، الحضارة لا يكفي فيها التقدم التكنلوجي والتعمق في الفضاء والسيطرة على ثروات الكون، هذا جزء من الحضارة، الحضارة الإنسانية لا تقوم إلا على ركنين: العدالة والأخوة، لذلك الدين يدعو إلى حضارة تقوم على عدالة وأخوة.

الركن الأول: العدالة

لا توجد حضارة بدون اقتصاد لأن الاقتصاد هو عصب الحضارة، الدين ما أتى بعلم اقتصاد، ولكن يمتلك مذهب اقتصادي حيث وضع مبادئ، ومن خلال هذه المبادئ شرَّع قوانين حفظاً لتلك المبادئ، الدين قال عندي مبدأ وهو العدالة ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]

هذا المبدأ اقتضى أن نضع تشريعات منها حرمة الربا لأن الربا يتنافى مع العدالة، يكدس الثروات عند فئة معينة من المجتمع، الدين يرفض الربا رفضاً قاطعاً لأنه لا ينسجم مع مبدأ العدالة ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 279]

﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] وقال في تشريع آخر: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7]

الدين يمنع تكدس الثروات في فئة معينة وهي فئة الأغنياء، لابد من التوازن بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع كلاً بحسب جهده وحسب إنتاجه، توزيع الثروة يكون على طِبْقِ الإنتاج والكفاءة لأجل ذلك شرَّع الدين هذه القوانين ليُحفظ بها مبدأ العدالة، تشريعٌ يتميز به على كل الإيديولوجيات وهو شراكة الفقير مع الغني في الثروة، لا يوجد منطق في العالم اليوم يقول أن الفقير شريك في ثروتك، أنت تقول هذه ثروتي من عرقي ومن كد يميني أنا الذي تعبت عليها، والدين يقول نعم أنت تعبت عليها ولكن الفقير شريك معك، أنت عندما تعطي الفقير صدقة أو زكاة فأنت لست متفضلاً عليه، هذا ملكه، يقول القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ «24» لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «25»﴾ [المعارج: 24 - 25]

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال: 41]

هذا المبدأ ما وضعه منطق آخر، ما وضعته إيديولوجية أخرى، الدين وضعه حفظاً لمبدأ العدالة والتوازن في توزيع الثروة كي لا يكون دولة بين الأغنياء.

الركن الثاني: الأخوة

حضارة بلا أخوة هي ليست حضارة، نسأل المنبهرين بالحضارة الغربية انظر للحضارة الغربية الإنسان فيها مثل الآلة الميكانيكية يعمل ليلاً ونهاراً، أين علاقات الأرحام، أين العلاقات الأسرية الحميمة، أين التراحم بين أبناء المجتمع؟ أين التواصل الإنساني؟

الدين يريد حضارة لكن حضارة أخوية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] ويقول القرآن الكريم: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]

ويقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]

ويقول القرآن الكريم: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]

مبدأ الأخوة جعله الدين أساساً للحضارة، حضارة بلا أخوة ليست حضارة إنسانية بنظر الدين، صلة الرحم، بر الوالدين، التراحم والتواصل بين أبناء المجتمع، حتى في البنيان القديم الهندسة فيها لم تكن هندسة اعتباطية بل هادفة، البيوت متلاصقة متداخلة يربط بعضها البعض الآخر، الهندسة من البناء بهذا الشكل وبهذا النوع بحيث أن البيوت مترابطة متلاصقة ومنفتح بعضها على البعض الآخر هندسة هادفة إلى جعل المجتمع أسرة واحدة، ولذلك كان الجيران يعيشون أسرة واحدة، يتفقد بعضهم بعضاً، يعيش بعضهم آلام البعض الآخر، طريقة البنيان فرضت عليهم أن يكونوا أسرة واحدة، هندسة البنيان جعلت تلك الأحياء وتلك المباني بمثابة البيت الواحد، يقول القرآن الكريم: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [يونس: 87] أبوابها متقابلة، كل بيت بابه يقابل البيت الآخر حتى يتحقق مبدأ التواصل والأخوة بين الجيران، ورد عن النبي محمد (ص) : ما زال أخي جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.

إذن الدين قال لنا أن الحضارة الإنسانية هي الحضارة التي تعتمد على العدالة والأخوة وبدون هاذين الركنين ليست الحضارة حضارة إنسانية.

الحقل الرابع: الحقل النفسي

غطت مدارس علم النفس كثيراً من الحقول التي يحتاج إليها الإنسان، الدين هو المصدر لعلاجها، الدين هو المصدر لتوفير الأمن النفسي، كلما تقدم العلم، وكلما تقدمت التكنولوجيا زاد القلق في الإنسان وعاش الإنسان ألوان من القلق والخوف، وألوان من الاضطراب، هذه الحالة المريرة التي يعيشها الإنسان من القلق والاضطراب من المستقبل، هل يستطيع علم النفس توفير الأمن المعالج لها؟ هل يستطيع الطب النفسي بمختلف ألوانه أن يوفر الأمن النفسي لهذه الحالة من القلق والاضطراب؟

يبقى الدين هو مصدر توفير الأمن النفسي الذي يقتلع حالة القلق والاضطراب، حالة التموج في داخل النفس، الدين وضع لك علاج تصلي لربك كل يوم خمس مرات وتقف بين يديه، الصلاة علاج للقلق، علاج للاضطراب، وعلاج للكآبة ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2»﴾ [المؤمنون: 1 - 2]

الصلاة الخاشعة علاج للاضطراب والقلق لم تقدمه إيديولوجية أخرى كما قدمها الدين، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]

الحقل الخامس: الحقل الاجتماعي

ما زال علم الاجتماع إلى اليوم يعتبر البعد الاجتماعي بعداً أصيلاً في شخصية الإنسان، لكن كيف نحافظ على هذا البعد الاجتماعي؟ ربما يتضاءل ويتبخر البعد الاجتماعي نتيجة انغماس الإنسان في الحضارة المادية، هنا يأتي الدين ليشبع هذه الحاجة وهذا البعد الأصيل في شخصية الإنسان، الإنسان يعيش صراعاً بين نزعتين: نزعة الاستئثار، ونزعة الإيثار.

نزعة الاستئثار: الإنسان بطبعه يريد أن يتملك الأشياء ويحوزها ويأخذها لنفسه، طبيعة الإنسان طبيعة الاستئثار والأخذ والحيازة.

نزعة الإيثار: أن يقدم بالمجان، أن يقدم عطاء بلا مقابل.

الإنسان بطبعه يعيش الصراع بين الاستئثار والإيثار، من الذي يتدخل ليغلب نزعة الإيثار على نزعة الاستئثار؟ يعالج الدين حاجة فطرية في الإنسان ليغلب نزعة الإيثار على نزعة الاستئثار، الدين هنا يتدخل ليعلم الإنسان كيف يذيب الأنانية والأنوية، كيف يخرج من طوق الانا إلى طوق الغير، كيف يقدم عطاء سخياً بلا مقابل، كيف يعيش روح الإنتاج والعطاء للآخرين، الدين يصر على هذه النقطة عندما يأمر بالصدقة، عندما يأمر بالعطاء، عندما يقول لك: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: 35]

وعندما يقول لك: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] الكثير منا يعطي الفقير ما رغب عنه وفاض عن حاجته، هذا ليس هو الدين لأنه لا يعلمنا غلبة نزعة الإيثار على نزعة الاستئثار، لن تغلب نزعة الإيثار على الاستئثار حتى تنفقوا مما تحبون، فابذل جزء مما عندك من نعم وثروة حتى تتغلب على نزعة الاستئثار.

إذن الدين أشبع الفطرة وغطى حاجات فطرية أساسية، في الحقل الفلسفي، وفي الحقل المعرفي، وفي الحقل الإنساني، وفي الحقل النفسي، وفي الحقل الاجتماعي.

المحور الثالث: علاقة الدين بالعلم

الدين لم يضع نفسه موضع العلم، العلم له ميدانه والدين له ميدانه، العلم يخبرنا ماذا يوجد والدين يخبرنا لماذا يوجد، مثلاً العلم يقول لنا هذا الكون يقوم على قوى أربع: القوة الكهرومغناطيسية، قوة الجاذبية، القوة النووية، والقوة الإشعاعية. والدين يقول إذا كان الكون يقوم على القوى الأربع إذن هذا يكشف عن دقة المصمم، أن الذي صمم الكون كان دقيقاً.

إذن الدين يستثمر العلم، العلم يطرح حقيقة، والدين يقود الحقيقة للوصول إلى الله تبارك وتعالى، لماذا وجدت هذه القوى الأربع؟ لكي تحفظ توازن الكون وتؤهل الإنسان لحضارة مستقرة.

يقول الفيلسوف جورج ستارم: الإنسان يحتاج إلى مثلث: فن، ودين، وعلم. وبدون هذه الثلاثية لا يستطيع أن يعيش، الإنسان يحتاج إلى الفن لأن الفن هو الذي يبرز الجمال فيضفي البهجة على الحياة، ويحتاج إلى الدين لأن الدين هو الذي يطهر الروح فيضفي المحبة في الحياة، ويحتاج إلى العلم لأن العلم هو الذي يغذي العقل بالصدق والحق.

ويقول الفيلسوف باربر: الدين والعلم تكامل وليس صراع، الدين ثورة داخلية والعلم ثورة خارجية، الدين ثورة في الداخل يطهر الروح ويهذب النفس ويرشد السلوك، والعلم ثورة خارجية يقدم الإنجازات المادية، العلم يوفر الأمن الخارجي والدين يوفر الأمن الداخلي، العلم يوفر الأمن من الأمراض والأوبئة، والدين يوفر الأمن من القلق والاضطراب والنوازع النفسية.

إذن بين الدين والعلم تكامل وتوائم، ولو ترك العلم وحده بدون دين لدمر العالم، العلم بدون رادع ديني يدمر الأرض بالأسلحة الفتاكة، العلم بدون رادع ديني يملأ الأرض بالأوبئة التي تقضي على الوجود البشري، العلم بدون رادع ديني يحول الإنسان إلى أداة ميكانيكية، أنت ستصبح أداة يديرك جهاز الذكاء الصناعي أينما كنت، إذن الدين يشكل رقيب على العلم، لولا رقابة الدين لربما وصل العلم إلى تدمير البشرية كلها.

الدين يشكل رقيب عتيد على العلم ورادع عن أن يتحرك العلم تحركاً مدمراً للبشرية، وفي نفس الوقت الدين يحتاج إلى العلم، مثلاً الدين يقول يشترط في صحة الصلاة استقبال القبلة، ولكن العلم هو الذي يحدد القبلة، الدين يقول لا يصح الصوم ولا الحج إلا في شهر معين، والشهر يتحقق ببزوغ الهلال، والعلم هو من يحدد وجود الهلال ومواصفات الهلال وإمكانية رؤية الهلال، فالدين يعتمد على العلم وبينهما تكامل.

نظرية الانفجار تقول أن هذا الكون له عمر وليس أزلي، جاء منذ زمن معين يقدر ب 13.7 مليار سنة، والدين يقول بما أن للكون عمراً بحيث أنه لم يكن ومن ثم كان فما هو مصدر وجوده وما هو مصدر كينونته، العلم يقدم شيء والدين يستثمره في سبيل إثبات وجود الخالق تبارك وتعالى.

إذن بالنتيجة بين الدين والعلم تلاؤم وتكامل، وليس بينهم صراع، لأجل ذلك أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم وهم نماذج الدين ومطالع الدين، جمعوا بين الدين والعلم، هم الدين وهم العلم «السَّلاَمُ عَلَى مَحَالِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَ مَسَاكِنِ بَرَكَةِ اللَّهِ وَ مَعَادِنِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَحَفَظَةِ سِرِّ اللهِ»

عليٌ هو الدين لذلك يقول النبي (ص): برز الإيمان كله إلى الشرك كله. وعلي يمثل العلم يقول الرسول (ص): أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها. إنما المصطفى مدينة علم وهو الباب من أتاه أتاها.

وكان يقول عليٌّ (ع) : كمال الدين طلب العلم والعمل به.

عليٌّ يمثل الدين والعلم، وأبناء علي يمثلون الدين والعلم، لذلك يقول سيد الشهداء لأمير المدينة: نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الملائكة، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر وقاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله.

المصدر: almoneer
2023/08/03

كيف يموت الإنسان؟.. حقائق علمية وفلسفية صادمة!
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.. الآية المباركة تحدثت عن أمر يبغض الإنسان أن يتحدث عنه، وتناولت موضوعا يكره الإنسان ذكره، ألا وهو الموت، الإنسان بطبعه يكره ذكر الموت، ويحاول أن يتغافل عن موضوع الموت، مع أنه يؤمن أن الموت حقيقة ومصير حتمي، ومع ذلك يحاول أن لا يتصور ولا يتذكر ولا يفكر بالموت، الإنسان بطبعه يعيش حالة القلق من الموت، ومع ذلك فإنه يتناساه أو يتغافل عنه. أولا: الموت بمنظور علم النفس:

علم النفس تحدث عن الموت بشكل مسهب ومفصل عن الظواهر وعن الأمراض النفسية الأخرى، تحدث عن القلق، الهلوسة، تحدث عن أغلب الأمراض النفسية، ولكن عندما يصل علماء النفس إلى الموت، فإنهم يتحدثون بنزر قليل عن الموت وعن القلق من الموت، مع أن ظاهرة القلق من الموت هي أكبر ظاهرة، هي الظاهرة التي تحتل المجال الأوسع في نفوس الناس، ومع ذلك فإن علماء النفس عندما يقفون عند هذه الظاهرة، يتناولونها بنزر من الكلمات.

الدكتور محمد أحمد عبد الخالق، في مجلة عالم المعرفة، في عدد 111 يقول:

حاول الأطباء النفسانيون أن يقوموا بدراسات ميدانية عن القلق من الموت، ولكن الدراسات لم تعطي نتائج في هذا المجال كما أعطت في المجالات الأخرى، لأن الفاحص الذي يقوم بالدراسة، والمفحوص الذي تجرى عليه الدراسة، كلاهما لا يحب أن يتحدث عن الموت، ولا يحب أن يتكلم ولا يجيب عن الأسئلة ولا أن يركز في الحديث عن الموت.

التحدث عن الموت شيء مبغوض، ومكروه، الإنسان قلق من الموت، لأن جميع العلل لها دواء إلا الموت، الإنسان يبغض الفشل، يبغض المرض، يبغض الفقر، يبغض الجهل، ولكن لا يبغض هذه الأشياء كما يبغض الموت، هذه الأشياء يمكن علاجها، أما الموت فلا علاج له، الموت آخر علة يعتلها الجسم العليل، الموت علة لا دواء لها

يا موت ما أقساك من نازل

تختطف  العذراء من خدرها              تنزل   بالمرء  على  رغمه

وتأخذ   الواحد   من   أمه

لماذا نقلق من الموت؟

لأن الموت يعني فراق لذة الحياة، ونحن نحب لذة الحياة، لأن الموت يعني فراق الأحبة والأهل، الحسن الزكي عليه السلام يبكي وقت احتضاره، يقال: يا أبا محمد، أنت سيد شباب أهل الجنة، فما يبكيك؟ قال: ”أبكي لخصلتين: هول المطلع، وفقد الأحبة“.

نحن نقلق من الموت لأن الموت بداية مصير مجهول، عالم مجهول لا نملك عنه خبرة، ولا نملك فيه تجربة، لذلك نقلق منه، نحن نقلق من الموت، لأن وراء الموت محاسبة، وسجلا ينتظرنا، وملفات تستقبلنا.

ولو   أنا   إذا   متنا  تركنا

ولكنا    إذا    متنا    بعثنا                لكان  الموت  راحة كل حي

ونسأل يومها عن كل شيء

نحن نتحدث عن الموت لأن الموت من الحقائق، ونحن في موسم وأجواء كربلاء، والموت جزء من تراث كربلاء، الموت احتل مساحة واسعة في خطب الحسين وكلماته، في يوم كربلاء قال: ”خط الموت على ابن آدم مخط القلادة على جيد الفتاة“ ....

بما يتحقق الموت، بموت القلب، أم بموت الدماغ؟

لدينا قلب، ولدينا دماغ، القلب مضخة دم لا أكثر، ولذلك يمكن استبدالها بمضخة صناعية، القلب يضخ الدم وإذا توقف عن النبض والضخ، يتوقف الدم عن الورود إلى الأعضاء، الدم يحمل معه نسبة من الأكسجين لجميع الأعضاء، إذا توقف ورود الدم على الأعضاء، نتيجة توقف ضخ الدم من قبل القلب، إذا تموت الأعضاء بالتدريج.

الدماغ يزن 1200 غرام وهو مكون من ثلاثة أجزاء: مخ، مخيخ وجذع المخ، المهم هو جذع المخ، فهو محور البدن كله، جذع المخ كشبكة الاتصالات في جميع خلايا البدن وهي التي توزع مسؤولياتها ووظائفها، يعني إذا مات جذع الدماغ، ماتت الوظائف الحيوية لهذا البدن، والدماغ إذا مات لا يعود، القلب يمكن أن يستبدل، لكن الدماغ لا يمكن استبداله.

عادة الإنسان يموت قلبه، يتوقف عن النبض، بعدها بخمس دقائق يموت الدماغ، تموت الكلية بعد 20 دقيقة أو أكثر، وهكذا تموت بقية الأعضاء، عادة هكذا الموت، ولكن أحيانا قد يموت الدماغ قبل القلب، يصيبه حادث، أو يصبح فيه نزيف، فيموت دماغه قبل قلبه، فالدماغ مات والقلب لا زال ينبض، في مثل هذه الحالة، لدينا إنسان على السرير في المستشفى، مات دماغه، والجهاز عليه - جهاز الإنعاش - ومات دماغه، وحكم الأطباء بأنه لن يعود إلى الحياة ولا بنسبة 1 إلى 1000، فبماذا نحكم عليه؟

جامعة هارفرد سنة 1980م قرروا أن الموت الطبي هو موت الدماغ، ولكن الفقهاء - فقهاء الإمامية - اختلفوا على قسمين، والقسم الأغلب منهم، سيدنا الخوئي، السيد الإمام، السيد السيستاني، شيخنا التبريزي، وأمثالهم من الفقهاء، قالوا: الموت موت القلب، مادام قلبه ينبض، إذا فهو لم يمت، وإن مات دماغه، لا يجوز التصرف فيه، يعني لو أن الطبيب رأى أن هذا الإنسان بقي على السرير خمسة أشهر مثلا، الدماغ مات، والجهاز عليه، وقلبه لم يمت، قد يقول الطبيب نحن نحتاج إلى هذا الجهاز، فيرفع الجهاز، وبمجرد أن يرفع الجهاز عن هذا الإنسان، فإن قلبه يتوقف عن الحركة.

قسم من فقهائنا يقول: قتله، فيجب أن يدفع الدية، لأنه قتله برفع الجهاز عنه، إلا إذا كانت هناك حالة تزاحم، مثلا شخص أحضروه الإسعاف، ومازال دماغه حيا، فهو أحوج إلى هذا الجهاز، ويمكن رفع الجهاز من هذا ووضعه على المريض الجديد، وإلا إذا لم يكن هناك حالة تزاحم، فلا يجوز رفع الجهاز، لأن هذا يعتبر قتل، مثلا لو كان هذا الميت في مستشفى أهلي، فبقاء الجهاز عليه يحتاج لأموال، ومن أين تؤخذ الأموال لمدة خمسة أشهر أو سنة، يقول الفقهاء: تؤخذ أجرة الجهاز من أمواله هو، وإذا ولم تكن له أموال، يؤخذ من مال الزكاة، سهم سبيل الله، يعني من بيت مال المسلمين.

وقسم آخر من فقهائنا يقول: الموت موت الدماغ، إذا قال الأطباء مات دماغه، ولن يعود للحياة ولو بنسبة 1 إلى 1000 إذن يعتبر مات، تترتب عليه آثار الموت، وإن كان قلبه مازال ينبض.

لماذا هذا الخلاف؟

عندما نرجع إلى الفقه، والأبحاث الفقهية، الفقهاء يقولون موضوعات الأحكام الشرعية على ثلاثة أقسام:

1- الموضوعات الصرفة

مثلا أنت تقرأ الأحكام الشرعية، إذا خرج الإنسان من بلده قاصدا قطع 22 كيلو، فإنه يصلي قصرا، هذا حكم موضوعه الخروج من بلده، الذي يحدد لنا حدود البلد هو العرف الخاص.

2- الموضوعات الشرعية

يعني موضوعات حددها أهل البيت أنفسهم، فنحن نرجع إليهم في تحديدها، مثلا: القبلة، نحن الآن في الشرق والقبلة في الغرب هل ينحرف الإنسان إلى اليمين أو إلى اليسار في توجهه للقبلة، هذه الموضوعات حددتها الروايات عن أهل البيت، إذا القبلة من الموضوعات الشرعية، التي حددتها النصوص، إذن يرجع إلى النصوص.

3- الموضوعات المستنبطة

هي عناوين وردت في النصوص، في الآيات أو في الروايات، وهذه العناوين يرجع في تحديدها إلى العرف العربي، وليس عرف البلد، ليس العرف الخاص، بل العرف العام، مثلا عندما تقرأ قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ ماذا يعني بالصعيد؟ هذا عنوان ورد في النص، يرجع في تحديده للعرف العربي، العرب ماذا يفهمون من كلمة الصعيد.

بعض فقهائنا مثل السيد الخوئي قدس سره يقول: بما أنها لم تلقى على فئة خاصة فالمرجع في فهمها العرف العربي العام، لا فئة من المجتمع، ولا فئة خاصة، مثلا: عندما تفتح الرسالة العملية، تقرأ أنه إذا خرج المني من الإنسان، وجب عليه الغسل، والمرأة هل يخرج منها مني؟ الطب يقول المرأة لا مني لها، يعني أن السائل المنوي الذي يحمل حيوانات منوية، لا يخرج من المرأة، لا يخرج إلا من الرجل، ولكن هناك رواية معتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام ”إذا أمنت المرأة أو الأمة فإن عليها الغسل جامعها الرجل أم لم يجامع، في يقظة أم في منام“ قد يشك البعض في هذه الرواية، وهذه الرواية تخالف المنطق العلمي، أن المرأة لا إمناء لها، فنقول أن المرجع العلمي ليس هو العرف الخاص، وهو عرف الأطباء، بل المرجع في العناوين هو العرف العربي العام.

العرف العربي العام يفهم كما أن الرجل تنزل منه مادة منوية، فالمرأة أيضا عندما تشتد بها الشهوة وتصاب برعشة معينة، تنزل رطوبة من رحمها، وتلك الرطوبة لا تحمل خصائص المادة المنوية للرجل، لكنها هي مني المرأة، العرف العربي يسميها مني، كما يسمي السائل من قبل الرجل مني، مع أن الخصائص الكيميائية لكل منهما مختلفة، لكن العرف العربي يسميها مني، إذا حصل للمرأة هذا وجب عليها الغسل.

إذا المرجع في تحديد العناوين الواردة في النصوص، آيات، روايات، العرف العربي العام، وليس التحديد العلمي من طب أو هندسة أو ما شابه ذلك، بهذا عرفنا أن من يقول بأن الموت هو موت الدماغ، يقول بأن العرف العربي هكذا يفهم، ومن يقول أن الموت موت القلب، يقول بأن العرف العربي هكذا يفهم.

ثانيا: الموت بالمنظور الفلسفي:

الفلاسفة يقولون بأن الموت انفصال شعاع الروح عن الجسم، وهناك عدة أمور توضح هذا:

الأمر الأول:

إذا أردنا أن نفهم الموت، فعلينا أولا أن نفهم الحياة، لأن الموت هو فقدان الحياة، الفلاسفة يقولون: إذا وضعت النطفة في رحم المرأة، واستقرت ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ النطفة تتحرك في اتجاهين، اتجاه مادي، واتجاه معنوي.

الاتجاه المادي: شرحه لنا القرآن ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾.

الاتجاه المعنوي «التجريبي»: يعني أن النطفة تكتسب الحياة، والحياة لها ثلاث درجات:

أول درجة في الحياة: هي الحياة النباتية، حياة النمو.

الدرجة الثانية من مراحل الحياة: هي الحياة الحيوانية يعني حياة الإحساس والحركة.

الدرجة الثالثة من درجات الحياة: هي الحياة الإنسانية، يعني حياة العقل والإدراك.

إذا وصلت النطفة إلى درجة العقل والتفكير، أصبحت إنسانا، حقيقة الحياة أنها ليست شيئا ماديا، كثير من الناس يتوهم أن الحياة هي موجودة بالداخل، وعندما يأتي ملك الموت يأخذها ويطلقها كالعصفور، وتطير في الجو.

الحياة ليست شيئا ماديا، الحياة طاقة، يعني شعاع يحيط بالبدن، ليس هناك شيء في داخل البدن اسمه الروح، الروح هي الحياة، والحياة هي طاقة شعاعية تدبر هذا البدن، مثل جهاز التحكم، أنت تحرك به السيارة إلى اليمين أو الشمال، فالروح أيضا تحرك البدن، تجعله يتنفس ويأكل ويمشي ويشرب وهكذا، فالروح تحرك هذا البدن، تتعلق به تعلق التدبير والتصرف، فالروح والحياة هي طاقة إشعاعية تدبر البدن وتديره ﴿فَإِذَا سَوَّيْته وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ بمعنى أعطيته طاقة إشعاعية تديره وتدبره، فإذا جاء ملك الموت ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَك الْمَوْت الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ فعندما يأتي ملك الموت فإنه يقطع هذا الشعاع عن البدن، مثلما تقطع الطاقة الكهربائية عن الجسم، فالموت هو انفصال شعاع الروح عن البدن، فإذا انفصل الشعاع يترتب أثران:

الأثر الأول:

الإحساس يموت، ماعدا السمع، فإنه يبقى، آخر حاسة تبقى للإنسان هي حاسة السمع، ولذلك أول حاسة يذكرها القرآن هي حاسة السمع ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ آخر حاسة يفقدها الإنسان هي حاسة السمع، ولذلك في الروايات ”إذا مات الميت يسمع بكاء أهله، ويسمع حديثهم“.

الأثر الثاني:

أن الروح إذا فارقت الجسد المادي، تتلبس بجسد مثالي يعني ليس جسدا ماديا، لا يشغل حيزا من الفراغ، ليس له طول وعرض وعمق، جسد يشبه البدن في صورته، ولكنه ليس ماديا، ولذلك إذا انطلقت الروح ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ يرتقي الشعاع إلى أن يصل إلى العالم الآخر، الروايات تقول أن الأرواح موجودة، ”دعوها فإنها أقبلت من هول عظيم“ يعني أن الانفصال عن الجسد ليس بالشيء السهل، القرآن يعبر عنها بالسكرات، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق : 19]

أنا الآن في هذا المكان على المنبر، لا أدري ماذا يوجد بالجنوب، لأن المكان يحدني، إذن الزمان حد والمكان حد، فأنا لا أدرك ما وراء الحد، أما إذا مات الإنسان، تحرر من الجسد، فتحرر من الزمان والمكان، وتحرر من الحدود، فإذا تحرر من الزمان والمكان صار إدراكه إدراك إطلاقي، يعني يدرك ما وراء الزمان والمكان، من دون فرق سواء كان مسلم أو كافر، الجميع يصبح لديه حياة إدراكية إطلاقية، لا تعرف حدود الزمان والمكان ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ الزمن غطاء، المكان غطاء، هذه كلها أغطية ورفعت عن الإنسان، فيستطيع أن يرى الملائكة والجن والأشباح، الأرواح، العقول الكلية، يرى عوالم غريبة، ما كان يراها وهو في الحياة، ولهذا الشخص العادي يفاجأ بما يرى، أما الشخص الذي انكشفت له العوالم في الدنيا، هناك قسم من الناس اكتشفوا هذه العوالم قبل أن يموتوا، اكتشف عالم الأرواح والأشباح والملائكة والجن، فإذا ماتوا لا يغير الموت من حياتهم شيء، لأنهم اكتشفوها قبل موتهم، يقول الإمام علي : ”لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا“ الغطاء يعني الموت.

الحياة البرزخية، حياة إطلاقية، ونفس هذه الحياة الإطلاقية، تنقسم إلى قسمين: حياة انفصالية، وحياة اتصالية.

الحياة الانفصالية: مثل حياة الأشخاص العاديين، إذا ماتوا موتة عادية، يصبح لديهم إدراك للزمان والمكان، لكنهم ينفصلون عن الأرض، الجسم يبقى في الأرض، وإن كانوا يدركون ما وراء الزمان والمكان، أرواحهم تنفصل عن الأرض.

الحياة الاتصالية: بعض الأشخاص حتى إذا ماتوا، يتحركون على الأرض، ويتجولون عليها، لا ينفصلون عن الأرض، يبقون عليها متحركين، حتى بعد موتهم، وهم الشهداء ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ الشهداء موجودون بيننا ولكن لا نشعر بهم، يشهدون أعمالنا، يوما بيوم، لحظة بلحظة، ولذلك سموا بالشهداء، يشهدون أعمال من هم على الأرض، ويعيشون حياة إطلاقية، وحياة اتصالية، أكرم حياة تعطى لهم ﴿وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ لذلك قال الحسين : ”إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما“ ”صبرا بني عمومتي، ما الموت إلا قنطرة“ مجرد جسر قصير تنطلقون منه إلى حياة ثانية.

القرآن الكريم يقسم الأجل، إلى أجل حتمي، وغير حتمي:

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ﴾ هناك أجل غير مسمى، مفتوح، وهناك أجل مسمى، ليس معينا، أجل معين وغير معين:

الأجل الغير مسمى: هو الأجل غير الحتمي، فلان يموت بحادث سيارة، إن خرج اليوم الفلاني بالساعة الفلانية، فلان يموت بالمرض الكذائي، إن شرب الماء الفلاني أو أكل الأكل الفلاني، فلان يموت، يسقط من أعلى شاهق إلى الأرض إن صعد إلى تلك الدار، كل هذا أجل غير حتمي، يعني أنه معلق على أمور اختيارية، احترازية.

الأجل غير المسمى: هو الأجل الذي يعلم الله أن الإنسان سيختاره، يعلم الله أن هذا الإنسان سوف يختار هذا النوع من الأجل، هو بنفسه ذهب إلى العراق مثلا باختياره وبإرادته وضحى بنفسه، إذن هو اختار أجله.

قد يسأل البعض، كيف هو يختار أجله والله تعالى يقول: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ الأجل ليس بيد الإنسان، هو مكتوب، أم كيف يقول الله تعالى في كتابه: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾.

أولا: قد يكون الأجل أحيانا غير حتمي، وليس دائما، يعني أنه قد يكون حتميا، وقد لا يكون، يعني أنه يكون منصبا على اختيار الإنسان.

ثانيا: هناك فرق بين اختيار السبب، وبين اختيار النتيجة، الموت هو النتيجة، فأنت لا تختار النتيجة، فهي بيد الله، لأن الإنسان قد يسقط من ألف متر ولا يحصل له شيء، إذن النتيجة وهي الموت ليست بإرادة الإنسان واختياره، بل هي بيد الله، إنما نحن نتحدث عن السبب، هل تموت بالحادث، أم بالرصاص، أو بالمرض، هذا سبب، فتحديد السبب بيد الإنسان وبإرادته، فهناك فرق بين النتيجة والسبب، النتيجة ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ لكن السبب وهو كيفية الموت، بيد الإنسان وبإرادته، في بعض الأحيان هو يحدد سبب موته من حيث لا يشعر ولا يدري.

ثالثا: الموت بالمنظور السلوكي، العملي:

كلنا نكره الموت، فماذا أعددنا للموت، كلنا نريد أن نتغاضى عن الموت، لماذا نتذكر الموت وهو بغيض إلى هذه الدرجة؟

لابد لنا أن نتذكر الموت، فذكر الموت هو الحاجز الوحيد عن ارتكاب المعصية، الموت هو الرادع الداخلي عن ارتكاب المعصية، إذا تغافلت عن الموت، ارتكبت المعصية، الكذب، الغيبة، عقوق الوالدين، العلاقات الغير مشروعة، ولكن ذكر الموت يقف حاجزا ورادعا عن ذلك، ولذلك ورد عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله : ”أكثروا من ذكر هادم اللذات“ اجعل الموت نصب عينك دائما، اجعل الموت ماثلا أمام عينك دائما، وإذا رأيت جنازة محمولة = فاعلم بأنك بعدها محمول

لابد أن أجعل الموت ماثلا أمامي، وشاخصا أمام عيني، لأنه الرادع الذي يردعني عن المعصية، ورد عن أمير المؤمنين : ”كفى بالموت واعظا، وكفى بالأجل حارسا“ الموت هو الواعظ، أنا عندما أتعرض لإغراءات من امرأة أجنبية، من خلال المحادثات، أو السوق، أو من خلال الأماكن الأخرى، أو المرأة عندما تتعرض لخداع الرجل الأجنبي، أقدم على المعصية، على الرذيلة، فما الذي يمنعني غير ذكر الموت، لو كان الموت ماثلا أمامي لما تجرأت وارتكبت المعصية، أنا أحب وأشتهي وأرغب أن أشاهد الفلم الخليع الإباحي من خلال شاشة التلفاز، أو من خلال المواقع الإباحية في الإنترنت، هذه المواقع الخلاعية، أتعلم منها العلاقات الغير مشروعة، فما الذي يحجزني عن هذه الرذيلة وعن هذه المعصية إلا الموت، لذلك علينا أن نربي أنفسنا على ذكر الموت، علينا أن نستحضر الموت أمامنا دائما، علينا أن نجعل الموت يعيش معنا في سلوكنا وفي نبضات قلوبنا، حتى يكون لنا رادعا وحاجزا عن مزاولة الرذائل والمعاصي.

هناك طريقان لأن نربي أنفسنا على ذكر الموت:

الطريق الأول:

قراءة سيرة أهل البيت عليهم السلام إن سيرتهم مشبعة بذكر الموت، واستحضار الموت، ابن شهاب الزهري رأى زين العابدين  في ليلة من الليالي وهو يحمل جراب على ظهره، قال: إلى أين سيدي بهذا الجراب؟ قال: إلى سفر أعددت له زادا، وفي اليوم الثاني رأى الإمام في المدينة، قال: سيدي تقول إنك في سفر، ولم تسافر؟ قال: ليس السفر ما ظننت، إنه سفر الموت.

كلنا مسافرون، أنا مسافر ولست مقيم، لابد أن يتذكر الإنسان أنه مسافر، أنا مسافر،

وما المال والأهلون إلا وديعة            ولابد  يوما  أن  ترد  الودائع

****

ألا إنما الإنسان ضيف لأهله              يقيم  قليلا  عندهم  ثم يرحل

ليس السفر ما ظننت، إنه سفر الآخرة، وما زاد سفر الآخرة؟ قال: زاده الورع عن محارم الله، وبذل الندى في الخير.

إذن نحن مسافرون إلى حفرة منتنة، مظلمة، موحشة، الرسول  يقول: "إذا وضع الميت في قبره

أشد ساعة هي هذه الساعة، بمجرد أن يسجى الإنسان على التراب، ويشعر بوخز التراب، تراب نتن، يرى بينه عظام الموتى، والديدان التي تأكل من جسده، وتنهش لحمه، وهو لا يستطيع دفعها، ولا يستطيع منعها، حفرة مظلمة، موحشة، هذه أشد ساعة على الإنسان، يتمثل له ثلاثة: أولاده، يقول: أولادي ربيتكم تعبت عليكم أنتم تحبونني أما يعز عليكم أن تتركوني في هذه الحفرة الموحشة! يجيبه أولاده: ماذا نصنع، نشيعك إلى قبرك، ونواريك في حفرتك، وتتمثل إليه أمواله، يقول: أموالي أنا موظف راقي، ولدي ادخار كبير، ولدي عقار وأراضي، أين هي أموالي، ماذا تنفعني؟ تجيبه أمواله: ليس لك عندنا سوى سترة بيضاء، تواري بها عورتك، والبقية لغيرك، ويتمثل له عمله، هذا العمل أثقل شيء على قلبه، العمل هذا كله ذنوب ومعاصي، صفحات سوداء مظلمة، ماذا أصنع بهذا العمل! يجيبه عمله: أنا قرينك في قبرك، وصاحبك عند نشرك، أنا الذي لا أفارقك ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

الطريق الثاني:

أدعية أهل البيت عليهم السلام قراءتها صباحا، مساء، تربطنا بالآخرة، وتذكرنا بالموت، تعلمنا كيف نمتنع عن الرذيلة، تغذي أرواحنا برصيد روحي عظيم، لنقرأها، لنتأملها، زين العابدين  يمد لنا لمساته الشفافة «وما لي لا أبكي، ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عريانا ذليلا، حاملا ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، ومرة عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني» «وارحمني صريعا على الفراش، تقلبني أيدي أحبتي، وتحنن علي محمولا قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وتفضل علي ممدودا على المغتسل، يغسلني صالح جيرتي».

2023/07/11

لماذا نحزن؟ وكيف نتخلّص من الحزن؟
إن الأفكار التي نمتلكها في حياتنا وتنبثق في إيماننا وتتأثر بها قلوبنا، هي التي تصنعنا، وسلوكنا عبارة عن تجسيد لها، وهذه الأفكار هي التي تصنع مشاعرنا، أو المواقف، أو القرارات التي تصدر منّا، فنحن نتربّى منذ الصغر على أفكار معينة وأنماط معينة وقوالب فكرية خاصة، عندما نتلقى التوجيهات التربوية، افعل هذا ولا تفعلْ ذاك.

هذه الأفكار التي نتربّى عليها، هي التي تصنع شخصياتنا، على سبيل المثال، إذا تعرّض شخص ما إلى نوع من الاستفزاز، وتنمّر عليه أحدهم، أو خاطبه بكلام جارح، أو استفزه بطريقة مسيئة من أجل أن يثيره، فالشخص الذي يتربى على نمط فكري معين ويشعر بأنه إذا لم يواجه هذا الشخص فسوف يقول الناس عنه بأنه ضعيف، فيواجه هذا الاستفزاز برد فعل عنيف.

ويتصادم مع الشخص الذي استفزه، ويؤدي ذلك إلى توتره وقلقه واضطرابه مما يؤثر على صحته الجسدية فيرتفع ضغط الدم وتتصاعد ضربات قلبه، وتتأزم صحته النفسية بسبب هذا الاستفزاز الذي واجهه برد فعل انفعالي، فالنمط الفكري الذي تربّى عليه هو الذي جعله يفعل هذا الشيء.

أما إذا كان ملتزم بنمط فكري آخر، كأن يقول لنفسه، إذا استفزني شخص ما سوف أبتعد عنه جانبا ولا أجيبه ولا أتكلم معه، بل أقول له سلاما، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) الفرقان 72، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) الفرقان 63.

حينئذ هذا الإنسان تكون أعصابه هادئة مستريحة، ونفسيته ومشاعره متوازنة، لا يستفزه الغضب.

ما هي البرمجة الفكرية؟

فنحن عبارة عن مجموعة أفكار نحملها منذ الصغر، وهي التي تتحكم في مواقفنا وعواطفنا، وحياتنا كلها، فالبرمجة الفكرية الموجودة لدينا أساسا، هي التي حصلنا عليها من خلال التربية الأسرية، والتنشئة الاجتماعية، ومن خلال التربية المدرسية، أو الاحتكاكات واللقاءات الاجتماعية، هذه الأمور هي التي جعلت شخصيتنا على ما هي عليه.

إن البرمجة الفكرية التي نحتاج لها دائما هي البرمجة الأساسية في عملية بناء الشخصية السويّة الصالحة، لذلك نحن نحتاج إلى أن نقرأ المفاهيم، والأفكار الواردة في حياتنا، حتى نستطيع أن نتحكم بحياتنا، وتكون لدينا قدرة وإدارة حكيمة لشخصياتنا، وقيادة حياتنا نحو المنطلق والاتجاه الصحيح، أو الطريق القويم الذي لابد أن نسير فيه.

مفهوم الحزن

لذلك من المهم جدا أن نعرف الأفكار والمفاهيم التي تتحكم بنا، ومن هذه المفاهيم، مفهوم الحزن، فكيف نعرف ونفهم الحزن، وما هو معناه، وكيف نبرمج الحزن في حياتنا؟

الحزن هو شيء حتمي موجود عند الإنسان كالفرح، علما أن الفرح والحزن نقيضان، أو ضدّان أحدهما في مقابل الآخر، فكيف نتعامل مع مفهوم الحزن في حياتنا؟

الحزن الذي هو نقيض الفرح أو نقيض السرور، هو حالة من الغمّ والكآبة التي يشعر بها الإنسان، تجاه قضية أو موقف أو نتيجة خسارة أو مصاب، وهذا الحزن يتسبب بوجود شعور بالألم في داخل الإنسان، والانزعاج وعدم الارتياح، وبالتالي عدم وجود حالة من الاطمئنان والاستقرار والفرح أو السرور. فهو كما يُقال عنه هو ألم نفسي حيث يشعر الإنسان بالعجز وعدم القدرة على تمشية حياته أو إدارتها.

الاكتئاب هو الحزن الشديد

فيُصاب بنوع من الهمّ والغمّ والأسى والكآبة، وهذا الاكتئاب الموجود والمنتشر في العالم اليوم، هو نوع من أنواع الحزن الشديد الذي يشعر به الإنسان، وهذه المشاعر عادة ما تكون سلبية، والانسان الذي يكون حزينا يكون هادئا جدا، ومنفعلا، وعاطفيا، وانطوائيا، منعزلا، ويشعر بعدم وجود فاعلية مع الحياة ومع الآخرين. ولا يشعر الإنسان بأنه يمتلك القدرة الذاتية على الحركة في حياته.

كتاب جامع السعادات للشيخ النراقي، يعرّف الحزن بأنه التحسر والتألم، لفقد محبوب، أو فوت مطلوب. وهو أيضا، كالاعتراض والانكار، ومترتب على الكراهة للمقدرات الإلهية. ويقول: إن سبب الحزن شدة الرغبة بالمشتهيات المادية، والميل إلى مقتضيات الشهوة وتوقع البقاء للأمور المادية.

وبعبارة ملخَّصة الإنسان الذي لديه توقّعات مادية في حياته، وهي أساس وسبب ومحور الحزن، فارتباط الإنسان بهذه التوقعات يجعله بالنتيجة حزينا باستمرار، لأنه يتوقع بقاء هذه المكاسب المادية، ويتوقع الحصول على المزيد منها.

القرآن يساعدنا على فهم الحياة

من المهم جدا أن نتبصر ونتدبر ونتأمل في الآيات القرآنية ونقرأها قراءة دقيقة، لأنها تعطينا طريقا لفهم الحياة، فالقرآن يناقش مشاعرنا وعوطفنا حيث يعطينا القدرة على التعامل معها، وقد تطرق القرآن كثيرا للحزن، ولماذا يحزن الإنسان، فيقول تعالى:

(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) {يونس/64}.

لقد بحثت عن هذه العبارة (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، ووجدتها في 12 اثنتي عشر آية قرآنية، ويمكن ان يكون أكثر من ذلك، فهناك تأكيد على هذه القضية، وهناك آيات تتضمن نفس المعنى، ويعني ذلك ان الخوف والحزن امران سلبيان في الإنسان، الا أولياء الله، المؤمنون، المتّقون هؤلاء لا خوف ولا حزن عليهم، بل لهم البشرى والفوز.

وفي التفاسير فإن (فلا تحزنوا)، معناه ليس ذلك بنهي عن تحصيل الحزن، فالحزن ليس يحصل بالاختيار، ولكن النهي بالحقيقة إنما هو عن تعاطي ما يورث الحزن واكتسابه، وإلى معنى ذلك أشار الشاعر بقوله:

من سرّه أن لا يرى ما يسوءه... فلا يتخذ شيئا يبالي له فقدا

فالحزن شيء طبيعي عند الإنسان، فهو من ضمن المشاعر، الحب، الحزن، الفرح، هذه مشاعر موجودة عند الإنسان، ولكن الإنسان هو الذي يختار الحزن في حياته، عندما تكون أفكاره ومشاعره مرتبطة او متعلقة بأشياء خارجية.

التعلق بالماديات وصناعة الحزن الشديد

على سبيل المثال، أحدهم يشتري مزهرية ثمينة غالية الثمن، يضعها في البيت لجمالها ويعتز بها، لكن أحد أطفاله الصغار يحطم المزهرية، فنلاحظ أن صاحب أو صاحبة المزهرية تشعر بحزن شديد، وتقوم بمعاقبة الطفل، فهذا التعلق بالماديات يجعل الإنسان يشعر بالحزن لفقدان أبسط الأشياء وليس اثمنها فحسب.

مثلا بعض الأشياء التي تضيع من الإنسان، أو يفقدها، أو يخسرها، فتراه يتحسّر دائما ويندم، وهذا التحسّر والندم هو بالدرجة الأولى من شيمة الذين لم يقدموا العمل الصالح في الدنيا، وتكون حسرتهم في الدنيا والآخرة. وحتى المؤمنون يتحسرون في الآخرة على الأشياء التي لم يفعلوها.

فهذه الحسرة الموجودة عند الإنسان وتعلقه بالأمور المادية، هو الذي يجعله حزينا، لذلك فإن الإنسان المدني المعاصر ويسميه البعض، الإنسان التكنولوجي أو الرقمي، وجيل الملينيوم وجيل زد وجيل ألفا، أصبح أكثر حزنا من الأجيال السابقة.

ويمكن ملاحظة ذلك عند الدخول إلى شبكات التواصل الاجتماعي، بعد فترة يسود شعور بالحزن والكآبة، وهذا يدل على أن الحزن أصبح متلازما مع طبيعة الحياة المعاصرة، وأصبح سمة راسخة في دواخل الانسان الرقمي، فالحياة المادية أصبحت معقدة جدا، ففي السابق لم تكن هذه التعقيدات الكثيرة، فالحياة كانت بسيطة وكان شعور الانسان بالحزن على الأشياء التي يخسرها أو يفقدها اقل بكثير.

تصاعد الحياة المادية المعقدة

الإنسان يكون حزينا على الأشياء التي لا يملكها، الأشياء التي يراها فيريد امتلاكها، يرى البيت الجميل، فيقول لنفسه لماذا لا أمتلك مثل هذا البيت، وحين يرى سيارة فارهة، أيضا يقول لنفسه لماذا لا أمتلك مثل هذه السيارة، وحين يتصفح شبكات التواصل وما تعرضه من سلع، فيقول لنفسه، هذا القميص الجميل ليس موجودا عندي ولا هذا التلفاز الحديث.

وهكذا أصبحت الحياة مادية معقدة بشكل متصاعد مع نمو ثقافة الاستهلاك الشديدة عند الناس، وكلّما تتضخّم المادة عند الإنسان يتضخّم حزنه، وتتضاعف أحزانه، وعندما تتعقد الحياة المادية للإنسان، فإنه حتى التفاعل الاجتماعي المعنوي الروحي يصبح متضائلا وقليلا عنده، لأن المادة سيطرت عليه، فأصبح الإنسان يتجنب التفاعلات الاجتماعية، والاحتكاك الاجتماعي، حتى العلاقات مع العائلة والأقارب والجيران بدأت تقل وتضعف مع مرور الزمن.

سابقا كان الناس فقراء، ولا يمتلكون الأموال، فتجدهم رحماء فيما بينهم، ويسألون عن بعضهم بعضا، ويساعدون بعضهم بعضا، الآن نلاحظ أن إمكانيات الناس المادية أصبحت جيدة، لكن قلّتْ التفاعلات الاجتماعية فيما بينهم، وبالنتيجة افتقد الإنسان الدوافع المعنوية التي تجعل منه أكثر تفاعلا مع الآخرين، فأصبح كسولا ويحب البقاء في البيت، والانشغال باللهو والمتعة.

يوجد مثال لطيف لتقريب المعنى، الطفل الصغير يلعب كثيرا، وهذا الطفل نراه يلعب طوال ساعات النهار ويكون بعض الاطفال كثير الحركة مفرطا في اللهو واللعب، أو ما يسمى بفرط الحركة، فما هو السبب الذي يجعل الطفل يقوم بمواصلة اللعب بهذه الكثرة؟، أنا شخصيا أحلّل هذا الأمر، بأن استمرار هذا الطفل باللعب هو نتيجة لعدم حصوله على الإشباع العاطفي، وهو لا يشبع لأنه هناك أسباب داخلية باطنية تؤدي الى عدم اشباعه.

فيمكن لو أن الأم عانقته عناقا بسيطا ومنحته بعض المحبة وكذلك الأب، سنلاحظ أن هذا الطفل يهدأ، فهي لحظات من المحبة والدعم المعنوي لهذا الطفل تؤدي به إلى الاستقرار والهدوء، لأن هذا الطفل حزين في داخله ويفتقد للمحبة، فيحتاج إلى حنان عاطفي ودفء عاطفي حتى يستقر قلبه، ويزول قلقه وخوفه وحزنه.

فالنشاط الكثير الذي لاحظناه عند الطفل هو تعبير عن شيء داخلي، لذلك نلاحظ بعض الناس مكتئبين، لأنه منشغل على الدوام وبشكل متواصل دونما توقّف، فهو لديه خوف وحزن داخلي فيحاول أن يغطي حزنه الداخلي بهذا الانشغال والحركة النشيطة المتواصلة، وهناك بعض الناس يحدث معه العكس، فيظهر عليه الحزن الشديد وينعزل عن الناس في داخل بيته.

الخوف مما هو آتٍ

إن كل شخص منا يوجد في داخله خوف وحزن، بحسب ما طرحته الآيات القرآنية والروايات الشريفة، فهناك شيئان هما الخوف مما هو آت والحزن على ما فات.

الخوف مما هو آتٍ، بمعنى هناك قلق مما قد يتعرّض له في المستقبل، فالإنسان لا يعرف ما الذي سيحدث له في الغد، ولا يعرف ما الذي سيحدث لأهله أو لأبيه أو لأخيه، فدائما يوجد خوف، فبعض الناس يخافون من أشياء كثيرة، والخوف مما هو آت، يسمى همّ، والذي يحمل الهم هو المهموم.

الحزن لما فات

والحزن لما فات، هو الذي يحدث نتيجة ما يفقده الإنسان، ويعبر عنه بالغمّ، فالذي يحمل الغم هو المغموم الذي فقد شيئا ويتحسّر على فقدانه، كأن يكون قد خسر أموالا.

وهناك بعض الناس يخافون من الفشل دائما، فتراه محتاطا وحذرا دائما، ويخاف الكلام والحركة ويخاف من العمل ويمتنع عن الإقدام على فعل أي شيء بحيث يغلفه اليأس من النجاح.

هناك أشخاص يشعرون بالفشل دائما، بسبب وجود اليأس في داخلهم، فلا يُقْدِم أحدهم على أعمال ناجحة، وكذلك الخوف من الخسارة، والخوف على الموجود، وكذلك الحزن على المفقود، هذه الأمور هي من مظاهر الفشل.

تقول الآية القرآنية: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) الحديد 23. فالإنسان الذي يعيش الحالة المادية ومنغمس فيها، فهو يشعر بالخوف دائما، والقلق والحزن، على ما فاته، وإذا حصل على شيء ما فإنه يفرح به فرحا شديدا، وهذه من الحالات التي تجعل الإنسان متعلقا بالدنيا تعلّقا شديدا.

من هو الإنسان الذي يتعرض لهذه الحالة؟، يحزن على ما فاته، ويفرح بما يحصل عليه وما ناله، إنه الإنسان الذي المتعلق بالدنيا، المختال، الفخور، المتعلق بحب الدنيا، يمتلك البيوت والأموال والأرصدة، فيكون مغرورا بهذه الدنيا، وبهذه الممتلكات، هناك بعض الناس من شدة انغماسهم في الدنيا يفقدون توازنهم، بحيث ينسى ان المال مجرد وسيلة لكي نواصل العيش، ونسيّر حياتنا، نأكل بمقدار ما نحتاجه، ونلبس بطريقة متوازنة، لكن عندما تصبح الأموال غاية وهدفا للإنسان، نلاحظه يتصارع ويتصادم مع أقرب الناس إليه.

استنزاف الإنسان لروحه

بالنتيجة يؤدي به ذلك إلى السقوط في فراش المرض، فيخسر نفسه، فما الذي استفاد منه هذا الإنسان الذي تصارع وتصادم من أجل المال، فاستنزف روحه ونفسه وذاته وتصادم مع أقاربه أو أخيه أو مع أناس آخرين، لقد خسر صحته واضاع نفسه، وبعضهم يُصاب بسكتة قلبية أو جلطة دماغية، وبعضهم يصاب بارتفاع ضغط الدم ويتعرض لأمراض كثيرة تقوده إلى نهايته، بسبب التحسّر والحزن والفرح بالأموال.

هذه الآية القرآنية التي ذكرناها أعلاه، تعطينا توضيحا عن ضرورة انقلاع الانسان لنفسه عن الدنيا، وأشيائها، حتى يستطيع أن يعيش مرتاحا، ويحصل على الفرح الحقيقي، والسرور الحقيقي، فعندما يقول تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)، يعني أن تحصِّلوا السعادة الحقيقية، والسرور الحقيقي، فانقلاع الحزن من الانسان وحصوله على السرور الحقيقي يتم له عندما لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه، هذا هو الفرح الحقيقي.

والمختال هو من أخذته الخيلاء وهي التكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه، والفخر المباهاة في الأشياء الخارجة عن الانسان كالمال والجاه، فالاختيال والافتخار ناشئان عن توهم الانسان أنه يملك ما أوتيه من النعم باستحقاق من نفسه. فإذا حصل على أموال يقول لنفسه وللآخرين بأنه حصل عليها بجهده وعمله، فلا يشكر الله سبحانه وتعالى، فيكون بخيلا مغتمّا، يفكر بنفسه فقط، ولا يفكر بالآخرين.

عملية إعادة إنتاج الذات

من خلال رؤية الإمام علي (عليه السلام)، نحاول أن نصل إلى معنى البرمجة الفكرية التي تطرقنا إليه، وكيف يمكننا أن نبني هذه البرمجة الفكرية لنا في شهر رمضان المبارك، وهي عملية إعادة إنتاج الذات، أي إعادة إنتاج أنفسنا في شخصيات جديدة، وأهم نقطة في هذا الجانب هي أن نعيد تجديد أفكارنا، التي خلقت لنا أوهاما وانحرافات وإشكالات، فمطلوب منا القيام بتهذيب شخصياتنا وتزكية أنفسنا.

يقول الإمام علي (عليه السلام) في رواية مهمة تتطلب الانتباه الجيد لها:

(الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: -لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ)، يعني الإنسان الذي لا يفرح بما عنده وما حصل عليه، ولم يحزن على ما فقده، فقد أخذ الزهد بطرفيه.

لقد بحثت كثيرا في الشروح عمّا تعنيه كلمة (بطرفيْه)، إلى أن وجدت هذه الرواية تفسّر معنى كلمة (بطرفيْه)، فالزهد هو واحد عند الإنسان فلا يفرح بما آتاه ولا يحزن على ما خسره، ولكن ما معنى (فقد أخذ الزهد بطرفيه)؟

إنها تعني بأن الإنسان الزاهد هو الإنسان الرابح في الدنيا والآخرة، أي أنه يربح الدنيا ويربح الآخرة أيضا، كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): (وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ولَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ).

كلمة (ذهبوا) تعني أخذوا الشيء أي حصلوا عليه، أما عاجل الدنيا فهو الشيء الذي يحصل عليه الآن، وآجل الآخرة هو الشيء المؤجَّل، فحصلوا على الدنيا والآخرة.

المتقون يشاركون أهل الدنيا بالانتفاع

(وشاركوا أهل الدنيا)، فالدنيا صارت ملْكا لهم، أما أهل الدنيا المتعلقين بها فقط، فذهبوا إلى جهنم وإلى العذاب، لكن المتقين شاركوا أهل الدنيا بالانتفاعات وبالمتع وبالملذات وبالحياة المادية فربحوا الدنيا وربحوا الآخرة أيضا، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم وذهبوا إلى الجنة.

(بالزاد المبلِّغ) يعني حين يسافر الإنسان إلى مكان معيّن مثلا يذهب إلى الحج وسابقا كانت الطرق بعيدة، فيحتاج المسافر إلى زاد يوصله من كربلاء إلى مكة مثلا، فيوجد لديه طعام كاف يوصله الى مقصده، فهؤلاء المتقون الذين حصلوا على الدنيا والآخرة حصلوا على الزاد الذي يبلغ بهم للآخرة، فالزاد المبلّغ يعني المخزون الكبير من الأعمال الصالحة والحسنات التي ساعدتهم على الوصول إلى الجنة في الآخرة.

(والمتجر الرابح) يعني استثمروا في التجارة الحقيقية المربحة فحصلوا على كل اللذات، حصلوا على الدنيا، وحصل على كل ما حصل عليه الآخرون. لكنهم حصلوا على كل ذلك بطريقة تفكير ثانية، طريقة تفكير ساعدهم عليها الله تعالى، (أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، بطريقة الارتباط بالله سبحانه وتعالى، وعدم التمسك بالماديات، فجعلوا من المادة وسيلة.

مثال على ذلك، إذا كان هناك طعام لذيذ أمام الإنسان، وهو جائع فيأكله، هناك إنسان يأكل الطعام الكثير الى حد التخمة، وهناك إنسان يأكل من هذا الطعام اللذيذ بقدر احتياجه، فأيهما يلتذّ أكثر من الآخر؟، بالطبع يفوز الإنسان الذي أكل بقدر حاجته، فيلتذّ بقيمة الطعام الذي تناوله ويحس بهذه اللذة، أما المتخَم فإنه لا يلتذ، بل يشعر أن الطعام سينفجر في بطنه.

التكامل بين المعنوي والمادي

كذلك الأمر بالنسبة للمؤمن، فهو يشعر في الدنيا باللذة الحقيقية، لأنه لديه تكامل بين الجانب المادي والجانب المعنوي، كما حصل مع الطفل الصغير الذي سبقت الإشارة إليه، فالطفل الصغير يحتاج إلى الاهتمام المادي بشكل جيد، مثل شراء الألعاب والدمى له والملابس الجديدة أيضا، والطعام الجيد وحلوى الأطفال، ولكنه يحتاج أيضا إلى العناق والمحبة والعاطفة لكي تكتمل شخصية هذا الطفل.

كذلك الأمر بالنسبة للمؤمن، يجب أن يتكامل في الجانب المعنوي والجانب المادي، ويحصل على الأشياء من هذا الطريق، حينئذ يشعر بمعنى التجارة الرابحة في الحياة، فالطريقة الصحيحة التي نحتاجها لكي نزيل الحزن والغموض والهموم من داخلنا، بأن نقضي على تعلقنا بالماديات، ونجعلها وسيلة لنا وطريقا لتسيير حياتنا، وليس هدفا أو غاية لنا.

بعض الآباء والأمهات يعلمون أطفالهم منذ الصغر على أن المال غاية وهدف، فيكبر الطفل الصغير وينمو وهو مثخَن ومنشغل بكيفية النجاح في حياته المادية، فينشغل بوضعه المادي، وبدراسته، وبتجارته، وبتأمين سيارته وبيته وزواجه، إلى أن يصل إلى عمر 50، أو 60 أو 70 سنة، حينها يصحو على فراغ كبير في حياته.

لأنه حصل على كل الأشياء المادية، لكنه لم يحصل على الحاجات المعنوية، وهذا خلل موجود وواضح، لذلك على الإنسان أن يتعامل مع الدنيا على أنها وسيلة وليست غاية، وهذا أهم طريق للتخلص من الحزن.

من أسباب الحزن التي يمكن أن نلاحظها:

أولا: التعلق بالماديات والابتعاد عن المعنويات

وهنا يمكن ان نعرف مفهوم السعادة، فكلما يزداد تعلق الإنسان بالماديات، تزداد تعاسته، وكلما ينفصل الإنسان عن الماديات، ويروض نفسه، ويبتعد عن التعلق بالماديات، تزداد سعادته ويشعر بالسرور، مثال على ذلك إذا ذهبتم إلى حفلة أو دعوة لتناول الطعام في أحد المطاعم، فبعد انتهاء هذه الحفلة أو الدعوة سوف تشعرون بنوع من الكآبة والحزن.

بينما إذا ذهبتم إلى زيارة مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، فبعد انتهاءكم من هذه الزيارة سوف تشعرون بأن القلب مملوء بالفرح والسرور، هل لاحظتم هذا الفرق بين الحالتين؟، لأن الحفلة أو الدعوة إلى المطعم هي جانب مادي، أما الزيارة للإمام (عليه السلام) فهي جانب معنوي، فالسعادة تتحقق في الجوانب المعنوية.

من هنا علينا أن نربي أطفالنا على الجوانب المعنوية في السعادة، حتى يتخرجوا من مدرسة الحياة وهم سعداء في حياتهم.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (ثمرة المقتنيات الحزن)، يعني كلما تزداد ممتلكات الإنسان يزداد حزنه، لأنه يخشى عليها من الفقدان أو الضياع، فيشعر بالقلق من خسارته المحتمَلة لهذه الممتلكات.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (اجعل همك لآخرتك وحزنك على نفسك فكم من حزين وفد به حزنه على سرور الأبد وكم من مهموم أدرك أمله) فعندما يكون حزن الإنسان على نفسه، وليس على أشيائه المادية، حينئذ سوف يبدأ بعملية إصلاح نفسه وبناء ذاته.

ثانيا: التشكيك بالقدر الإلهي

من أسباب الحزن الأفكار السوداوية التي تشكك (ولو لا شعوريا) بالمقادير الإلهية، فالإنسان الذي يرفض القدر الإلهي سيفشل، لأنه عبارة عن امتحان للإنسان، وابتلاء له، الابتلاء فتنة حيث يمحَّص الإنسان من أجل بناء شخصيته وتطوير ذاته، فالابتلاء يحدث من أجل تقوية الإنسان، لذلك يتحول إلى نعمة وليس نقمة، البعض ينظرون إلى الابتلاء على إنه نقمة، فيشككون بالقدر الإلهي، لذلك فإن الإنسان الذي يشكك بالقدر الإلهي يصبح إنسانا ظلاميا، وأفكاره سوداوية بائسة. فنرى هذا الإنسان كئيبا وحزينا دائما، لذلك لابد للإنسان أن يستسلم دائما للقدر الإلهي، ويرضى بأقدار الله سبحانه وتعالى.

عن الإمام علي (عليه السلام): (نعم الطارد للهم، الاتكال على القدر)، بأن لا يخاف الإنسان من القدر، فيستقبل القدر ويعتبره نوعا من تهذيب النفس وتنقية الذات.

ثالثا: الانغماس في المعاصي

ومن أسباب الحزن أيضا، الانغماس في المعاصي، والتهاون في ارتكاب الذنوب، فالإنسان المنغمس في المعاصي قد لا يشعر بالأثر الوضعي للمعصية عليه، ولكن مع كل معصية تصبح في قلبه نقطة سوداء، فإذا لم يعالج هذه النقطة السوداء ويزيلها من قلبه، سوف تزداد النقاط السوداء في هذا القلب.

وكلما ازدادت النقاط السوداء في قلب الإنسان يزداد ظلاما وعتمةً، إلى أن يصبح قلبه سوداويا، وحينئذ سوف يتغير الإنسان، ولابد أنكم لاحظتم بعض الناس حين يتغيرون وتتغير حياتهم نحو الأسوأ، هؤلاء أصبحت قلوبهم ممتلئة بالسيئات، فيصعب إصلاحهم، لكن الإنسان الذي يرتكب معصية ثم يفكر بالتوبة ويتوب إلى الله تعالى، سوف تدخل نقطة بيضاء في قلبه مباشرة، لتزيح نقطة سوداء عنه، فهناك صراع بين النقاط السوداء والبيضاء في قلب الإنسان، إلى أن يتغلب أحدهما على الآخر.

وكما يهتم الانسان بقلبه المادي من حيث الصحة الجسدية، كذلك عليه الاهتمام بقلبه المعنوي من حيث عدم ارتكابه للذنوب والمعاصي والسيئات والرذائل، فالانغماس في المعاصي ومواصلة ارتكاب الذنوب سوف يؤدي بالإنسان إلى الحزن، لأن ضمير الإنسان يؤنّبه كونه ارتكب شيئا لا يتلاءم معه، ولا يتلاءم مع نفسيته ولا مع إنسانيته، ولا ينسجم معه، تماما كالإنسان الذي يأكل طعاما سيّئا ويصاب بالمرض، فإن هذا الطعام لا يتلاءم مع جسمه، ولهذا يؤثر على صحّته.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (سرور المؤمن بطاعة ربّه، وحزنه على ذنبه)، فكلما أطاع الإنسان الله أكثر يصبح أكثر سرورا وأكثر فرحا، ويزداد حزنه بسبب ذنوبه أيضا.

رابعا: غياب الإنفاق الاجتماعي

ومن أسباب الحزن أيضا، التفكير بالذات والابتعاد عن المسؤولية الاجتماعية، وعدم وجود العطاء والإنفاق في سبيل الله، أو الإنفاق الاجتماعي، لذلك فإن الإنسان الأناني هو إنسان حزين، ويمكن أن تلاحظوا ذلك بوضوح، فحتى لو امتلك مليارات الدولارات يبقى حزينا، لأنه لا لذة مع عدم وجود الآخرين في حياته، فالآخرون هم السبب الأساس الذي يجعل حياتنا جميلة، فلا يتصور الإنسان أن وجوده فقط يكفيه، كلا لابد من وجود الآخرين في حياته.

فوجود الآخرين معك هو الذي يجعل الحياة جميلة، ويجعلها وردية، ورائعة، فلذلك كلما يتفاعل الإنسان مع المجتمع في مجالات العطاء والإنفاق المعنوي والمادي والتفاعل الاجتماعي سوف يلاحظ هبوط نسبة الحزن في داخله، وهنا أنا أركز على العلاقات المعنوية وليست العلاقات المادية، فهنالك بعض الناس يجعل من علاقاته مادية بحتة.

المال عبء على الإنسان

فيذهب مع أصدقائه إلى المقاهي، وتخرج المرأة إلى الأسواق مع صديقاتها، هذه العلاقات مادية، وأنا هنا أقصد في بحث العلاقات المعنوية الحقيقية التي يوجد فيها تفاعل، وتفانٍ وإخلاص وعطاء ذاتي، وإنفاق من أمواله ومن نفسه، فالمنفقون في سبيل الله يشعرون دائما بالفرح والسرور، وتلاحظ وجوههم مشرقة دائما، وتشعر بأنهم مرتاحون ومطمئنون دائما، لأن المال عبء على الإنسان.

المال المكدّس في البنوك أو في البيت، أو بصيغة عقارات وسواها فهذا عبء على الإنسان، لأن المال هو وسيلة، فعندما ينفق الإنسان المال في سبيل الله، فإنه يقضي حوائج المحتاجين، يقضي حوائج أقاربه وأرحامه، فهذا العمل يمنحه الفرح والسرور.

وعن الإمام علي (عليه السلام):

(وَإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ وَسُوءُ الضَّمَائِرِ فَلَا تَوَازَرُونَ وَلَا تَنَاصَحُونَ وَلَا تَبَاذَلُونَ وَلَا تَوَادُّونَ، مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَلَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الْآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ، وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ، وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الْآجِلِ وَحُبِّ الْعَاجِلِ، وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ).

أي في الدنيا، فالإنسان الذي يجمع الأموال ويقوم بتكديسها فإنه خسِر ولم يربح، أما الإنسان الذي ينفق أمواله في سبيل الله فهذا هو الذي يحقق الربح.

لذلك توجد آيات قرآنية تذكر الإنفاق مع الخوف والحزن، هؤلاء الذين ينفقون في سبيل الله لا يحزنون، (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة 274. فالإنفاق تزكية للذات عبر اقتلاع الحزن المادي منها.

فكيف يمكن مواجهة الأحزان: أولا: الرضى بقضاء الله

إن التسليم لأمر الله تعالى يؤدي إلى تقليل الهموم، وكلما كان الإنسان راضيا ومسلّما أمره لله خفّت همومه وأحزانه، فيتخلص من نفسه ومن التمركز في محوريّته وذاته، ويذهب نحو الله تعالى، فهكذا الإنسان تزول من قلبه ونفسه الهموم.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (من رضي بما قسم الله له لم يحزن على ما في يد غيره)، هل لاحظتم بعض الناس وهم يتساءلون لماذا فلان من الناس يمتلك بيتا وأنا لا أمتلك بيتا؟، أو عنده أموالا وأنا لا أمتلك أموالا، هؤلاء الناس يكونوا حزينين ومهمومين، بسبب هذا التفكير، أما إذا رضيَ الإنسان بما قسم الله له، سيزول عنه هذا الهم والغم، لأن الرضا ينفي الحزن.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَمَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ اللَّهِ لَمْ يَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَهُ)، إن رزق الإنسان مضمون، فالرزق مضمون للجميع، وعلى الإنسان أن لا يحزن، فإذا كان راضيا لا يوجد لديه حزن ولن يحزن على ما فاته من الرزق.

وعنه (عليه السلام): (الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فلا تضجر)، هناك بعض الناس يشعرون بالضجر دائما، ويتساءلون لماذا لا نمتلك كذا وكذا، وعندما يحصلون على ما يريدون يبقون على ضجرهم، ولا يقدرون النعمة التي بين أيديهم ولا يرونها وهي حولهم، بل يرون النعِم الموجودة عند الناس فقط، وهذا خطأ كبير، لأن الإنسان الذي تكون عينه نحو ممتلكات الناس، يعيش الهمّ والغمّ دائما.

ثانيا: الاستثمار الذكي لأعمارِنا

عن الإمام علي (عليه السلام): (كيف يفرح بعمر تنقصه الساعات)، لو أننا نجلس في أواخر ساعات اليوم ونحسب الثواني والساعات التي انقضت في هذا اليوم، وماذا فعلنا فيها، وكيف استثمرناها؟، وكم ضاع منها وكيف فقدناها؟

وحين كنّا صغارا بدءًا من طفولتنا وإلى الآن، كم استفدنا من حياتنا؟، وكم استثمرنا من أعمارنا، فهذا العمر تنقصه الساعات، فهنا (عليه السلام) ينبهنا الى أهمية على البرمجة الفكرية حيث يقول: (مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ)، فالرزق يمكن استرجاعه إذا خسره الإنسان، أما العمر فلا يمكن استرجاعه، فإذا خسر الإنسان عمره لا يمكن أن يستعيده مرة أخرى، فأيهما أفضل العمر أم الرزق؟، نحن نخسر أعمارنا من أجل أرزاقنا، لذلك نلاحظ أن أعمارنا بالنتيجة تذهب هدرا.

هذا الأمر معناه أن نهتم بالبرمجة الفكرية، ولا يعني أن الإنسان يترك العمل، بل معنى ذلك الاستثمار الذكي لأعمارنا، وكيف يستفيد الإنسان من عمره ويقدر لحظات حياته ويستثمرها بالطريقة الذكية بالاستفادة من لحظات الخير وذخيرة العمل الصالح، حتى تصبح حياة الإنسان ذات معنوية متجددة في الدنيا ومربحة في الآخرة.

ثالثا: الاستثمار الذكي للأموال

أي الإنفاق والعطاء، فعن الإمام علي (عليه السلام): (إِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفْقَةً وَأَخْيَبَهُمْ سَعْياً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ مَالِهِ وَلَمْ تُسَاعِدْهُ الْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا بِحَسْرَتِهِ وَقَدِمَ عَلَى الْآخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ).

إنه لم يحصل شيئا من أمواله رغم التعب الكبير الذي بذله، قبل أيام توفيَ ملياردير في عمر 55 سنة، فما فائدة المليارات والأموال التي كان يمتلكها، فمن يمتلك الأموال لابد أن يستثمرها بشكل ذكي وفي العطاء والإنفاق، ولا يكون عبدا للأموال والأشياء.

رابعا: تأطير الدنيا ولذّاتها والتحكم بها بالتعقّل

على الإنسان أن يتحكم بالدنيا التي يعيش فيها، فالإنسان الذي يقود سيارة ولا يعرف قيادتها، فإن هذه السيارة سوف تقوده إلى الهاوية، إلى حادثة اصطدام ومن ثم إلى الموت، أما الإنسان الذي يتعلم ويتقن قيادة السيارة، فإنه حينئذ يستطيع أن يقودها بشكل جيد ولا يخشى الحوادث أو الأخطار، كذلك الدنيا، إنها تشبه السيارة، فعلى الإنسان أن يتحكم بها ويديرها بالتعقّل والحكمة ويسيطر على لذاتها، ولا تكون لذات الدنيا هي المسيطرة على الإنسان.

هناك بعض الناس تسيطر عليهم لذاتهم وشهواتهم، فيركضون وراءها ويصبحون عبيدا لها، ولا يحرصون على أنفسهم، لذلك يجب السيطرة عليها من خلال التعقل، ومن خلال ترسيخ اليقين، بأن هذه الدنيا فانية، وهذه اللذة فانية ولا قيمة لها، وأن الإنسان مخلوق وباقٍ لشيء أكبر وأعظم، وأن هذه المادة لا قيمة لها، هذا هو اليقين الذي يزيح عن المرتابين الشك بوجود الحساب والعقاب والثواب.

فكل إنسان عاقل سوف يعرف بأنه يسير في طريق طويل ممتد أمامه، ويجب أن يكون عنده يقين بهذا الطريق الطويل، فيتعقّل ويعقل دنياه ويسيطر عليها ويتحكم بها.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ)، فعليكم بالعقل، هذا ما يوصي به الإمام علي الناس، فالذين وصلوا إلى السلطة وتربعوا على العروش في النهاية ماتوا جميعا، فالذين عارضوا الإمام علي (عليه السلام) وقاوموه وصارعوه وكانوا أعداء له، إلى أين وصلوا؟ وإلى أين ذهبوا؟ إنهم جميعا ماتوا وذهبوا.

هذا العقل الذي منحه الله سبحانه وتعالى لنا بمثابة نعمة كبيرة، فعندما ينام العقل تحدث المصائب، وتحل الكوارث بالإنسان، وأغلب حياتنا نعيشها ونحن في حالة سبات حيث عقولنا نائمة ولا نفكر بها.

حول هذا الموضوع نقرأ في جامع السعادات هذه العبارة الجميلة: (حب الفانيات والتعلق بما من شأنه الفوات خلاف مقتضى العقل، وحرام على العاقل أن يفرح بوجود الأمور الفانية، أو يحزن بزوالها)، هنا الهدف والغاية وهي أن نتعقّل حياتنا، ونتعقّل لذاتنا.

(لكي لا تحزنوا) تعني أن نُخرج الحزن المتعلق بالمال والملذات، ونذهب وراء غايات أكبر وأعظم في حياتنا.

وأن ننظر إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى أهل البيت (عليهم السلام) ونعرف أن هناك غايات أكبر وأعظم لأننا نحتاجها في البرمجة الجيدة لأفكارنا لكي نحصل على السعادة الحقيقية عبر التعامل الحكيم مع الأمور المادية، وفي انتظار العواقب الحسنة والجيدة في مديات حياتنا.

2023/05/30

هل المثلية الجنسية خارجة عن اختيار الإنسان؟
يتحدّثُ دعاةُ العلمانيّةِ عن أنَّ المثليّةَ الجنسيّةَ ليسَت اختياراً؟ هل هيَ كذلك؟ وماذا يترتّبُ على الجواب؟ هل يمكنُ تعديلُ الميولِ إذا كانَت فيزيولوجيّةً ومخلوقةً معَ الإنسان؟

 [اشترك]

الجوابُ من سماحة الشيخ معتصم السيد أحمد:

 يُمارسُ الخطابُ العلمانيُّ والإلحاديُّ الكذبَ بنيّةِ تخريبِ النّظمِ الأخلاقيّةِ للمُجتمعات، حيثُ يتلاعبُ بالحقائقِ العلميّةِ ويُضخّمُ افتراضاتٍ ما زالَت في مرحلةِ البحثِ والتحقيق، كما يحرّفُ العلومَ لتحقيقِ أهدافِه الخاصّة، ويستخدمُ التشويشَ والخداعَ لإخفاءِ الحقائقِ العلميّةِ الواضحة.  

 لذا، لا يُعَدُّ الإلحادُ موثوقاً في تعريفِنا بمُنجزاتِ العلومِ الحديثة، نظراً لأنّه لا يعتبرُ القيمَ الأخلاقيّةَ مُحدّداتٍ أساسيّةً للسلوكِ الإنساني، وبالتالي يمكنُ أن يستخدمَ منجزاتِ العلومِ في تعكيرِ صفوِ القيمِ الأخلاقيّة. 

 يعملُ الإلحادُ على تغييرِ النظرةِ السائدةِ لدى البشرِ حولَ الشذوذِ الجنسي، والذي يعتبرُ عندَ الجميعِ انحرافاً عن الطبيعةِ الإنسانيّة، والأمرُ المؤكّدُ أنَّ الشذوذَ الجنسيَّ يُمثّلُ انحرافاً عن السلوكِ الإنسانيّ الطبيعيّ، ولذا فإنَّ الإلحادَ يحاولُ تبريرَ هذه الممارسةِ المُنحرفةِ حتّى لو تطلّبَ ذلكَ التضحيةَ بحُرّيّةِ الإنسانِ في اختياراتِه.

 فإنَّ الزعمَ بأنَّ الشذوذَ الجنسيَّ يعودُ إلى جيناتٍ وراثيّةٍ يعني أنَّ الشخصَ يمارسُه بشكلٍ غيرِ إراديّ ولا يمكنُه التحكّمُ فيه، وهذا يُشكّلُ صورةً سلبيّةً للإنسانِ، حيثُ يتمُّ مصادرةُ حُرّيّتِه وتقييدِه في اختياراتِه.

 ومنَ الغريبِ أنَّ الإلحادَ لا يستندُ إلى أيّ حقائقَ علميّةٍ مُؤكّدةٍ في هذا الشأن، بل يعتمدُ على افتراضاتٍ لا يمكنُ الوثوقُ بها.

 وكمثالٍ على ذلكَ، فإنَّ عالِمَ الوراثةِ الأميركيَّ الشهير دين هامر، الذي يدعمُ المثليّةَ الجنسيّة، نفى أن يكونَ هناكَ جينٌ يتحكّمُ في المثليّةِ الجنسيّة، وأكّدَ أنَّ أيَّ محاولةٍ لإثباتِ وجودِ جينٍ كهذا هيَ محاولةٌ عبثيّةٌ، أو كما عبّرَ جون غريلي بقوله: لا يمكنُ ربطُ عواملَ كيميائيّةٍ بسلوكٍ مُعيّنٍ بشكلٍ ميكانيكيّ، فالارتباطُ لا يعني السببيّةَ.  

 كما أجرى فريقٌ منَ الباحثينَ في جامعةِ "نورث ويستيرن" الأميركيّةِ دراسةً علميّةً في عام 2014 شملَت فحصَ الحمضِ النوويّ لـ400 ذكراً منَ المثليّينَ الجنسيّين، ولم يتمكَّن الباحثونَ منَ العثورِ على جينٍ واحدٍ يمكنُ أن يكونَ مسؤولاً عن توجّهاتِهم الجنسيّة!

 وعلى الرّغمِ مِن أنَّ بعضَ الأبحاثِ تشيرُ إلى أنَّ الجيناتِ قد تؤثّرُ على بعضِ الميولِ السلوكيّة، إلّا أنَّ السلوكَ الإنسانيَّ يبقى رهيناً لإرادةِ الإنسانِ واختياراتِه التي تُمليها عليهِ قيمُه الأخلاقيّة.  

 وعليهِ، فإنّه لا يمكنُ تفسيرُ السلوكِ الإنسانيّ بشكلٍ كاملٍ اعتماداً على الدوافعِ البيولوجيّة فقط، بل يتطلّبُ الأمرُ أيضاً النظرَ في الإرادةِ والاختياراتِ التي يقومُ بها الإنسانُ بناءً على قيمهِ الأخلاقيّة. 

 يقولُ أستاذُ الدراساتِ العائليّة بجامعةِ نبراسكا "دوغلاس أبوت" إنَّ الزعمَ بوجودِ جينٍ يتحكّمُ في سلوكِ الإنسانِ هوَ مُبالغةٌ يصدّقُها البسطاءُ منَ الناس.

وبالتالي، حتّى إذا افترَضنا أنَّ وجودَ جينٍ مُعيّنٍ يؤثّرُ على السلوكِ الجنسي، فلا يمكنُ اعتبارُه مسؤولاً بشكلٍ تلقائيّ عن الشذوذِ الجنسي، حيثُ يبقى الإنسانُ حرّاً في اختياراتِه وأفعالِه، ويعتمدُ سلوكُه على عدّةِ عواملَ مُختلفةٍ، بما في ذلكَ القيم الأخلاقيّة والمُجتمعيّة والثقافيّة التي ينتمي إليها، بالإضافةِ إلى إرادتِه الحُرّةِ والتحكّمِ في نفسِه. وعلى هذا، يتميّزُ الإنسانُ عن الحيواناتِ الأخرى بقدرتِه على التحكّمِ في نفسِه وعدمِ الاستجابةِ العمياءِ للحوافزِ البيولوجيّة، ومنَ الواضحِ أنَّ أيَّ محاولةٍ لتجاهلِ الإرادةِ الإنسانيّة سيؤدّي إلى آثارٍ سلبيّةٍ كبيرةٍ على مُستوى الهويّةِ الإنسانيّةِ والمُجتمعيّة.

 وينطبقُ ذلكَ حتّى على الحوافزِ البسيطةِ مثلَ الجوع، فعلى الرغمِ مِن أنَّ الإنسانَ يشعرُ بالجوعِ بصورةٍ غيرِ إراديّة، فإنّه لا يمكنُه الاعتمادُ على هذا الحافزِ وحدهِ في اتّخاذِ قراراتِه، وإنّما يجبُ عليه أن يتّبعَ قيماً ومبادئَ أخلاقيّةً لتحديدِ سلوكِه.

2023/05/07

ما هي حدود حرية التعبير؟
 ما هي حدود حرية التعبير؟ وفق منظور الدين.. وهل الاسلام كفلها للجميع؟ حتى لو الآراء تعارض بعض احكامه.. حيث ان المسلمين في الغرب يطالبون بالحريات وحق التعبير، وفي بلاد المسلمين هناك منع لبعض الفئات من التعبير عن عقائدهم بدعوى انها كفر او ضلال؟

[اشترك]

يؤكد الإسلام على حرية التعبير كحق أساسي يجب أن يتمتع به الجميع، فالحرية من الشروط الأساسية لتحقيق النهوض والتطور والازدهار في المجتمعات الإسلامية.

 وبناءً عليه، تقع على عاتق المسلمين مسؤولية احترام حقوق الآخرين في العيش والتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم.

مع ذلك، يجب أن يتم تقييد هذا الحق بمجموعة من القيود والشروط، حتى لا يتعارض التعبير مع حقوق الآخرين.

 فحرية التعبير لا تعني الإساءة للدين أو للقيم الإسلامية أو إثارة الفتنة في المجتمعات الإسلامية.

 وبالتالي، يتعين على المتحدثين ممارسة حقهم بمسؤولية ووعي تجاه الواجبات الاجتماعية والأخلاقية.

 ومن المهم فهم أن هناك اختلافات كبيرة في الأنظمة القانونية والسياسية والاجتماعية والثقافية بين الدول الإسلامية المختلفة، وقد تختلف القوانين والتطبيقات في بعض هذه البلدان.

ولذلك، يجب التعامل مع هذا الموضوع بحكمة وتوازن، والعمل على تحقيق توازن بين حرية التعبير واحترام القيم الإسلامية وحقوق الآخرين.

 ويمكن تحقيق ذلك من خلال الحوار والتفاهم بين الأفراد والجماعات المختلفة، والعمل على تعزيز الوعي بحقوق الإنسان وقيم الحرية والتسامح في المجتمعات الإسلامية.

 بالإضافة إلى ذلك، يجب على الجميع النظر إلى حرية التعبير على أنها فرصة لتعزيز النقاش والحوار البناء حول القضايا المختلفة، وليس فرصة للتعرض للآخرين أو إهانتهم، فالواجب أن يعبر الجميع عن آرائهم ومعتقداتهم بدون خوف أو تهديد، وفي نفس الوقت يجب أن يكون ذلك في ظل الاحترام المتبادل بين المختلفين في الآراء والمواقف، وبهذا الشكل تصبح حرية التعبير من أهم العوامل المساهمة في إزالة أسباب التوتر والانقسامات في المجتمعات الإنسانية.

وأخيراً، يجب على المسلمين العمل على نشر الوعي بأهمية حرية التعبير والدفاع عنها، وذلك من خلال التعليم والتوعية والنشر والإعلام، وتعزيز الثقافة الحوارية والتعايش السلمي بين الثقافات المختلفة.

 وعندما يعمل الجميع على تحقيق هذه الأهداف، فإن حرية التعبير ستكون على ما يرام في المجتمعات الإسلامية، وستساهم في نهضتها وتطورها وازدهارها.

2023/04/15

هل أثبت العلم وجود الأنبياء في الحضارات القديمة؟
خزعل الماجدي (باحث عراقي) يقول إن الحضارات القديمة المفترض وجود الانبياء في عصرها كالسومرية والأكادية وغيرها ذكرت تفاصيل دقيقة عن حياة البشر والحروب والمأكولات وغير ذلك ولكنها لم تتعرض لذكر الانبياء والرسل وهذا يدل على انهم وهميون ألف قصصهم بني اسرائيل بناء على تراث مسروق من مناطق أخرى.

[اشترك]

ناقشنا بعض مقولات خزعل الماجدي في ردود سابقة ونختصر الإجابة على هذا الإشكال في النقاط التالية:

أولاً: عند دراسة حضارات الشرق الأوسط القديمة، نجد أنها تهتم بشكل رئيسي بالحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي، فإن غياب ذكر الأنبياء والرسل في تلك الحضارات لا يعني بالضرورة عدم وجودهم.

ثانياً: إن الأديان السماوية الثلاثة تشير جميعها إلى وجود الأنبياء في عصور مختلفة، وليس فقط في عصر بني إسرائيل. وعلى سبيل المثال، فإن الإسلام يعترف بوجود الأنبياء منذ آدم وحتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يشمل الأنبياء الذين عاشوا في الشرق الأوسط القديمة.

ثالثاً: ادعاء أن حضارات الشرق الأوسط القديمة اقتبست قصص الأنبياء من تراث مسروق هو افتراض لا يستند إلى أي دليل قوي. فعلى سبيل المثال، فإن قصة الخلق في الإسلام واليهودية والمسيحية تتشابه بشكل كبير، وهذا يشير إلى وجود نمط مشترك في القصص الدينية عبر الحضارات المختلفة.

وأخيراً، فإن وجود الأنبياء في حضارات الشرق الأوسط القديمة لا يمكن إثباته بشكل علمي أو تاريخي بالضرورة، ولكن يمكن الاعتماد على الأدلة الدينية والروحية والمعتقدات الإلهية التي تشير إلى وجودهم ورسالتهم.

2023/04/13

في عصر الـ «تيك توك».. هل ننجح في دعوة الناس الى التمسّك بالقرآن؟!
مع انتشار وسائل الترفيه هل ننجح في دعوة الناس للقرآن الكريم والتدبر في آياته؟

[اشترك]

نعم، من الممكن أن ننجح في دعوة الناس إلى التمسك بالقرآن الكريم والتدبر في آياته على الرغم من انتشار وسائل الترفيه في عصرنا الحالي، فالقرآن الكريم هو كتاب إلهي يحتوي على الحقائق العظيمة والمعارف الأسمى التي تساعد الإنسان على فهم وجوده في هذه الحياة ودوره في الكون، وبالتالي مهما كان الإنسان منشغلاً بالدنيا لابد له من الرجوع إلى القرآن والاستنارة بآياته، ومن هنا يجب أن لا يستسلم الدعاة إلى الله أمام وسائل الترفيه التي تشغل الناس عن دينهم وقرآنهم، فلابد أن يأتي اليوم الذي يعرف الناس فيه أهمية القرآن في حياتهم.

فالواجب علينا الترويج المستمر لقيم الإيمان والتقوى والأخلاق، والتي تعتبر قيماً مهمة في تنمية الشخصية الإنسانية والمجتمعية، كما يجب تشجيع الأفراد على قراءة وتدبر القرآن الكريم من خلال النشرات الدعوية والدروس والمحاضرات والخطب في المساجد والمدارس والمجتمعات المحلية، وكذلك عن طريق القنوات الفضائية والإذاعة والإنترنت.

ومن المهم أن نحاول إيجاد طرق جديدة لجعل القرآن الكريم أكثر جاذبية للشباب والأجيال الجديدة، مثل استخدام الوسائط الرقمية والتكنولوجيا الحديثة لنشر المعرفة القرآنية وتعليم التدبر في الآيات.

كما يمكن استخدام التطبيقات الذكية والمنصات الرقمية الأخرى لتعليم القرآن الكريم وتشجيع التدبر في آياته. على سبيل المثال، يمكن إطلاق تطبيقات تفاعلية للتفسير والتدبر في الآيات، وإنشاء مواقع إلكترونية متخصصة تحتوي على محتوى تعليمي للقرآن الكريم بأساليب مبتكرة وجذابة.

وفي الجملة يمكن استخدام وسائل الإعلام المختلفة للترويج للتدبر في القرآن الكريم وجعله جزءً من حياة الأفراد، فمثلاً يمكن إنتاج برامج تلفزيونية وإذاعية تتحدث عن التدبر في القرآن الكريم وتفسير آياته، كما يمكن إنتاج مقاطع فيديو قصيرة على منصات التواصل الاجتماعي تتحدث عن آيات محددة وتشجع على التدبر فيها، كما يمكن الاستفادة من وسائل الإعلام الرقمية، مثل اليوتيوب والبودكاست، لإنتاج محتوى تعليمي للتدبر في القرآن الكريم ونشره على الإنترنت.

وفي المحصلة إن دعوة الناس للقرآن الكريم تتطلب جهودًا متعددة ومستمرة، كما أنها بحاجة دائمة إلى ابتكار وسائل وأدوات أكثر جاذبية وإثارة، وقد ذكرنا في إجابة سابقة أن الترفيه عن النفس وترويحها غريزة متأصلة في الإنسان لا يمكن كبتها ومصادرتها، وفي المقابل لا يترك لها الباب مفتوحاً على مصراعيه لتصبح الهم الاكبر للإنسان وشغله الشاغل، ولذلك كان الدين ضرورة لترويض الغرائز وتهذيبها حتى لا تكون عائقاً يحول بين الإنسان وبين الغايات التي خلق من أجلها، ومن هنا لا يعد الترفيه عن النفس من الخيارات الأصيلة في حياة الإنسان، كما لا يعد مساراً صالحاً يستنفذ الإنسان عمره من أجله، وإنما هو مجرد استثناء عارض يلجا إليه الإنسان ليستريح فيه أثناء مسيره الجاد.

2023/04/11

ما هي مساهمات الحوزة العلمية في «علم التاريخ»؟
تعد الحوزة العلمية من أبرز المؤسسات التعليمية المتخصصة في تعليم العلوم الدينية والعربية، وتضم مجموعة من العلماء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، بما في ذلك علم التاريخ، وعليه تصبح مساهمة الحوزة في جميع العلوم والمعارف من خلال الطلبة والعلماء الذين يتخرجون منها، وإذا أردنا ان نبين مساهمة الحوزة في علم التاريخ يمكننا أن نذكر بعض النقاط في هذا الشأن.

[اشترك]

  1. تعمل الحوزة على توفير المصادر الأصلية والثانوية للتاريخ الإسلامي، مضافاً للمصادر المتعلقة بتاريخ الحواضر الإسلامية العربية والإيرانية والعثمانية والهندية وغير ذلك.
  2. تقوم الحوزة بتدريس الكثير من الأبواب في التاريخ لطلابها.
  3. تقوم الحوزات بالإشراف على طباعة المخطوطات التاريخية والتحقيق في بعض المصادر القديمة.
  4. تقوم بعض الحوزات بعقد المؤتمرات والندوات وإصدار النشرات العلمية التي تساعد في تطوير علم التاريخ.

وبالإضافة إلى ذلك، تساهم الحوزة العلمية في تطوير وتحديث مناهج تعليم علم التاريخ وتقديم الدعم اللازم للطلاب والعلماء الشباب الذين يرغبون في العمل والبحث في هذا المجال، مما يساعد على تطوير وتقدم علم التاريخ في المجتمعات الإسلامية والعربية.

2023/04/11

لماذا يتطور الغرب ويتراجع المسلمون؟!
تطور العالم الغربي بسبب الليبرالية الغربية، فالليبرالي الغربي يؤمن أن مرجعيته هي العقل وحـده، أما المجتمعات الإسلامية تخلفت بسبب تمجيدهم وتقديسهم للتراث الإسلامي، فاعتمادهم على التراث كمرجعية مطلقة.. جعلهم يراوحون مكانهم كرحى الطاحون.. لكن من دون انتاج الطحين!

[اشترك]

كل ما تم ذكره يعبر عن وجهة نظر محددة وقد تكون مفرطة في تقييمها للمجتمعات الغربية والإسلامية، فالادعاء بأن تطور العالم الغربي يرجع إلى الليبرالية الغربية وحياد العقل الليبرالي لا يمكن قبوله على إطلاقه، فالتطور الغربي يعود إلى عوامل متعددة منها الاستكشاف والاكتشاف والتجارة والثورة الصناعية والتكنولوجيا وغيرها، ومن ثم تأتي النظم السياسية والاجتماعية كبيئة حاضنة لكل ذلك التطور.

أما أتهام المجتمعات الإسلامية بأنها اعتمدت على التراث وحده في فهم العالم والحياة والمجتمع، فهو لا يعدو أن يكون اتهام فيه الكثير من التحيز والتعميم، فمما لا شك فيه إن الكثير من المسلمين فهموا الإسلام على أنه دعوة إلى العلم والتعقل، وقد قدموا بالفعل الكثير من المساهمات العلمية والتجريبية التي كانت بمثابة الأرضية التي انطلق منها عصر النهضة الأوربية، إلا أن تسلط الحكومات الشمولية في طول التاريخ الإسلامي هي التي تسببت في تجميد العقل الإسلامي وتحجيره، وعليه مازالت الفرصة متاحة أمام المسلمين في بناء حضارة تعزز التقدم الغربي وتضيف عليه بعدها الروحي والأخلاقي، فالإسلام لا يرفض ما حققه الغرب من تقدم علمي وتكنلوجي وإنما يسعي لإضافة بعده الروحي والأخلاقي على ذلك التقدم، وبالتالي ليس هناك تنافر حتى ننتصر للغرب على حساب الإسلام أو ننتصر للإسلام على حساب الغرب وإنما هناك تكامل يجب أن نفكر في تحقيقه بشكل أكثر تفاؤل.

2023/04/11

كيف يحدث الانهيار والسقوط؟: السيد محمد باقر السيستاني يجيب...
قَبَسٌ قَيِّمٌ مِن السُنَن القرآنيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة في الانهيار والسقوط : 1 – مِن الواضح أنَّ القرآن الكريم هو رسالة اللهِ تعالى إلى الخَلق جميعاً، ونحن منظورون بآياتِ القرآن الكريم جميعاً ، كما كان المشافهون بها من قبلنا كذلك.

[اشترك]

2 – في كلِّ آيةٍ قرآنيّةٍ رسائلٌ إلينا ، إمّا بالمطابقة أو على منهج الأمثال ، فعلى الإنسان أن يتخذَ مِن موضوع الآياتِ مَثلَاً، ويرتقي بذلك إلى ما يناسب حاله ووضعه.

3 – مِن سُنَن اللهِ سبحانه في القرآن الكريم ، أنّه إذا وقع الاستكبارُ والعلو والفسادُ، فإنَّ عاقبةَ ذلك، وبحسب السُنَن التاريخيّة في الحياة إلى الضِدِّ ، لامحالةِ ، مِن السقوط والذلّ والصغار .

4 - ما مِن قومٍ أو جماعةٍ ، أو ما مِن ثقافةٍ استَعلَت أو استكبرَت أو ظلَمَت ، إلّا وكان ذلك مُنزلقاً إلى سقوطها وانهيارها، مهما طال أمدها.

5 – إنَّ الاستكبار والظلم والعلو والتنكّر للحقائق الواضحة والعصبيّات الضيّقة – هذه جميعها تؤثّر في الانهيار ، لا محالة، وهذا التأثير إذا كان باسمِ الدِّين فسوف يكون أكثر إيلاماً وضرراً، وأكثر تشويهاً للحقيقة، وأكثر إضراراً بالمؤمنين .

6 – إنَّ دولةَ أهلِ البيت (عليهم السلام) الموعودة على يدِ الإمام المَهدي(عجّل اللهُ فرجَه الشريف) ستُمثّل انتصاراً لله سبحانه واتّجاه الحقِّ .

7 – أيّ مجتمعٍ يُريد اللهُ سبحانه أن يذلّه باستحقاقٍ منه، يُسلِّط عليه الشرارَ والسفهاء والمفسدين والمستكبرين والمُستَعلين برضا نفس المجتمع.

 وفي السُنَن الاجتماعية المجتمعُ هو مَن يولّد القادةَ، ويخضع لهم، وكما تكونوا يولّى عليكم.

سماحة السيّد الأُستاذ مُحَمَّد باقر السيستاني (دامت بركاته) ليلة السابع من شهر رمضان المبارك - 1444هجرية. مرتضى علي الحلّي - النجف الأشرف
2023/04/01

لماذا يدفنون الموتى بجوار الإمام علي (ع)؟
ما هو الدليل على أفضلية الدفن بجوار الإمام أمير المؤمنين، وأن ذلك يكون نافعا للميت، وكيف نوفّق بينه وبين ما هو ثابت في الدين من أنه لا ينفع الإنسان إلا عمله؟!

[اشترك]

صحيح أن الإنسان إنما يحاسب على أعماله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} سورة الزلزلة (7-8) ، ولكن من لطف الله ورحمته بعباده، وحبه لهم ولخيرهم، أن فتح أبوابا كثيرة جدا لمنفعتهم وسعادتهم، سواء فيما يضاعف حسناتهم، أم يرفع درجاتهم، أم يغفر ذنوبهم ويتجاوز عن سيئاتهم، أم يخفف عنهم...ومن ذلك -على سبيل المثال- أن جعل الشفاعة لغفران بعض الذنوب والمعاصي، كما جعل سبحانه وتعالى أعمال المؤمنين لبعضهم نافعة لهم جميعهم، وفي مضمون الأحاديث الشريفة: (ادعني بلسان لم تعصني به) وقد فسّر ذلك بدعاء المؤمنين لبعضهم البعض، وليس ذلك محصورا في الدعاء، بل يشمل كل عمل صالح، كالاستغفار والصدقة وقراءة القرآن والصلاة... وغيرها من الأعمال التي يمكن للمؤمنين أن يقوموا بها نيابة عن بعضهم البعض، أو أن يهدوا ثوابها لأرحامهم وأقاربهم وأصدقائهم، ولمن أحبوا من المؤمنين، بل من لطفه ورحمته سبحانه أنه إذا مات المؤمن وفي ذمته بعض الأعمال العبادية من صلاة وحج وصوم...فإنها تسقط بأدائها عنه، كما جعل عز وجل خصوصيات لبعض الأماكن يتضاعف فيها الأجر والثواب، فالصلاة والدعاء وقراءة القرآن في المساجد ليست كما هي في البيوت، وفضل أدائها في البيت الحرام، والحرم النبوي الشريف، والمشاهد المقدسة، أعظم بكثير من أدائها في سائر المساجد الأخرى، وذلك للخصوصية التي تمتاز بها هذه الأماكن على غيرها، ولذلك ورد أن الإمام الهادي عليه السلام أصيب بمرض فطلب من أحد أصحابه أن يذهب إلى كربلاء ويدعوا له بالشفاء تحت قبة سيد الشهداء عليه السلام، وحين سئل: لماذا لا يدعو لنفسه وهو إمام ودعاؤه قطعا مستجاب، كما أن دعاءه لنفسه أفضل من دعاء غيره له، أجاب عليه: (إن لله بقاعا يحب أن يدعى فيها فيجيب، وإن بقعة جدي الحسين عليه السلام من تلك البقاع)، وراجع تفاصيل الحادثة ومصادرها في ص256-259 من كتاب (حياة الإمام الهادي) للشيخ باقر شريف القرشي.

وإذا فهمنا هذه المقدمة واستوعبناها جيدا، حينها نفهم أن الله عز وجل اختار بعض الأماكن وفضلها على بعضها، وجعل لها خصوصية ليست لغيرها، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}، القصص (68)، والآية مطلقة فتشمل الاختيار التشريعي والاختيار التكويني، فكما يختار سبحانه الرسل والأنبياء والأئمة والأوصياء، كذلك يختار الدين الذي يريد، والتشريع الذي يريد، والأماكن التي يريد، ويفضلها على غيرها، ويجعل لها خصوصية عنده سبحانه وتعالى، تماما كما اختار الوادي المقدس، وجعل له حرمة وقداسة إلى حدّ أن قال لكليمه موسى عليه السلام كما في الآية (12) من سورة طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}، فما بالك إذن ببيته الحرام الذي نصّ القرآن على بركته، وأنه هدى للعالمين، فقال في الآية (96) من سورة آل عمران: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وكذا الحرم النبوي الشريف، الذي يضمّ جثمان خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، ومشاهد الأئمة المعصومين الذين هم حججه على الناس أجمعين، كيف لا تكون لها حرمة وقداسة، تجعل لها خصوصية عنده سبحانه وتعالى، سواء بالتعبد فيها، أم بغير ذلك من الأمور؟! 

والإمام علي صلوات الله وسلامه عليه، هو (أمير المؤمنين، بل نفس النبي، وباب مدينة علمه، وقسيم الجنة والنار...) كما ورد في الكثير من الأحاديث والأخبار، فقطعا لمجاورته والدفن بقربه وجواره خصوصية عند الله عز وجل، عبّر عنها أحد الشعراء بقوله:

إذا مت فادفني إلى جنب حيدر*أبي شبر أكرم به وشبير

فلست أخاف النار عند جواره*ولا أتقي من منكر ونكير

فعار على حامي الحمى وهو في الحمى*إذا ضاع في المرعى عقال بعير

وليس هذا خيال شاعر جنح به جنون الشعر إلى الشطحات، وإنما هو تضمين لحقيقة استلهمها الشاعر مما أكدته الأحاديث والروايات، ومنها ما رواه العلامة المجلسي في ج79ص68 من بحاره عن (إرشاد القلوب للديلمي) روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان إذا أراد الخلوة بنفسه أتى طرف الغري، فبينما هو ذات يوم هناك مشرف على النجف فإذا رجل قد أقبل من البرية راكبا على ناقة وقدامه جنازة، فحين رأى عليا عليه السلام قصده حتى وصل إليه وسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: من أين؟ قال: من اليمن. قال: وما هذه الجنازة التي معك؟ قال: جنازة أبي لأدفنه في هذه الأرض. فقال له علي عليه السلام: لم لا دفنته في أرضكم؟ قال: أوصى بذلك وقال: إنه يدفن هناك رجل يدعى في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال عليه السلام له: أتعرف ذلك الرجل؟ قال: لا. قال: أنا والله ذلك الرجل، ثلاثا، فادفن فقام ودفنه).

وفي ص58 من (فرحة الغري) عن عقبة بن علقمة قال: اشترى أمير المؤمنين عليه السلام أرضا ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة. وفي خبر آخر: ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم، وأشهد على شرائه، قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين تشتري هذا بهذا المال وليس ينبت قط؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: كوفان كوفان، يرد أولها على آخرها، يحشر من ظهرها سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، فاشتهيت أن يحشروا من ملكي)، والمراد بالسبعين الكثرة دون العدد، كما في قوله تعالى في الآية (80) من سورة التوبة: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.

كما ورد أن الدفن هناك يسقط عذاب القبر، وينجي من مساءلة منكر ونكير، بل دلّت الأحاديث الشريفة على أنه ما من مؤمن يموت في شرق الأرض أو غربها، أو أية بقعة من بقاعها، إلا وألحق الله روحه بذلك الوادي المقدس، كما في أصول الكافي، كتاب الجنائز، باب في أرواح المؤمنين، ج3ص245 عن حبة العرني عن أمير المؤمنين من جملة حديث: (...ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض، إلا قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنها لبقعة من جنة عدن)، وفي المصدر نفسه ص245-246 عن أحمد بن عمر رفعه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إن أخي ببغداد وأخاف أن يموت بها. فقال: ما تبالي حيثما مات، أما إنه لا يبقى مؤمن شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام. قلت له: وأين وادي السلام؟ قال: ظهر الكوفة، أما إني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون).

إلى غير ذلك مما ورد في فضل الدفن في تلك البقعة المباركة، وجوار ذلك الإمام العظيم، مما ورد في الأخبار، وتسالم على صحته علمائنا الأبرار، مما لا نرى داعيا للإطالة بنقله.

2023/03/30

المعرفة الفطرية: هل تحتاج الفطرة إلى دليل أو البحث عنها؟
يقال إن الايمان بالفطرة.. يعني يولد الإنسان وهو مؤمن بالله، لكن لو رأينا مثلاً بعض القبائل البدائية في العالم تجدهم يؤمنون إما بالأصنام أو بظواهر الطبيعة ولا يكاد يلتفتون لله الا عن طريق الاكتساب من رجل دين أو غيره...هل الفطرة تحتاج لدليل أو للبحث عنها؟

[اشترك]

 وحتى يتضح الجواب لابد من التفريق بين الهداية التكوينية والهداية التشريعية. وبمعنى آخر: أن هناك هداية فطرية يشترك فيها جميع البشر، وهناك هداية خاصة يختارها الإنسان بمحض إرادته، فالبشر على نحو التكوين مهتدين جميعاً كما قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) وقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وقوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وقوله: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)، وغير ذلك من الآيات التي تكشف عن الهداية التكوينية لكل البشر.

 وهذه الهداية هي الفطرة التي فطر الناس عليها، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها).

 ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الهداية التشريعية عن طريق الأنبياء والرسل، ومن هنا فإن رسالات الله هي التي تتكفل ببيان ما يجب أن يكون عليه المهتدي من أعمال وأحكام، قال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) فالإسلام هو نوع من الهداية التشريعية التي يتم اكتسابها عبر اتباع النبي (ص) والتصديق بما جاء به من ربه.

ويتضح من ذلك أن الهداية التشريعية لا سبيل إليها غير الرسل ولذا قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا).

 وإذا جاز لنا القول فإن المعرفة الفطرية تمثل الأرضية التي تقوم عليها تعاليم الأنبياء والرسل، ولو لا ذلك لاستحال على البشر معرفة الله أو اتباع الرسل، ففي الحديث قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم، ولو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ولا من رازقهم).

 فمع كون المعرفة ثابتة في واقع الفطرة، إلا أنها محجوبة بحجب الغفلة والهوى، فلا تستقيم إلا بالتنبيه والتذكير، فالله صبغ العباد بصبغته وفطرهم على معرفته، فصاروا عارفين به عرفاناً بسيطاً، لا يعرفون أنهم يعرفون، فلا يستغنون عن تذكرة المذكرين وتنبيه العارفين.

 وبسبب تلك الفطرة تأصل الدين في العنصر البشري، فلم يكن الدين مجرد حالة طارئة أو ظاهرة عابرة، وإنما هو الحقيقة التي وجدت مع الإنسان وتستمر بوجوده أيضاً.

 وهنا لابد أن نفرق بين الدين كمظهر اجتماعي وبين المبرر الوجودي للدين.

 فالأول: له علاقة بالشعائر الدينية والطقوس العبادية، والثاني: له علاقة بالدافع الفطري الذي يحرك الإنسان داخلياً نحو المعبود.

 واشتراك البشر في ذلك الإحساس الفطري لا يعني بالضرورة اشتراكهم في المظهر العبادي والسلوكي؛ وذلك لأن السلوك الإنساني لا يتأثر بالجانب الغريزي والفطري فحسب وإنما يتأثر بالعوامل الخارجية بشكل أكبر، فكل إنسان قد يعبر عن احساسه الداخلي بشكل مختلف عن الاخر حتى وإن اشتركوا في ذلك الإحساس، ومن هنا فإن الإحساس الفطري الذي يجذب الإنسان نحو حقيقة متعالية وإن كان واحداً عند الجميع إلا أنه لا يضمن مظهراً دينياً واحداً للجميع.

 وبذلك نكتشف حجم الخطأ الذي يعمل على نفي الحقيقة الفطرية بسبب وجود اديان مختلفة بين البشر، بينما الصحيح هو أن وجود أديان وإن كانت مختلفة يدل على وجود فطرة حركت الجميع نحو البحث عن الدين، وبذلك يمكن أن فهم قول النبي (صلى الله عليه وآله): (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ففي الحديث إشارة واضحة إلى مدى تأثير البيئة الاجتماعية على الفطرة، وبمعنى آخر فإن الإنسان بفطرته منجذب إلى الحق وإلى الله تعالى إلا أن البيئة الاجتماعية هي التي تحدد له الشكل الذي يعبر فيه عن حاجته الفطرية.

 وما نقصده بالإحساس الداخلي ليس مجرد شعور نفسي، وإنما إحساس وجودي يعبر عن عمق الحاجة الوجودية لدى الإنسان، فشعور الإنسان بوجده ليس شعوراً حقيقياً طالما لم يوجد نفسه ولا يملك لها البقاء، ومن هنا فإن الإنسان في حالة من الإحساس الدائم بحاجته لذلك الموجد المالك لوجوده، فمهما بلغ الإنسان من الغرور لا يمكنه الشعور أنه أوجد نفسه، أو أنه ممسك بزمام وجوده، فالفقر الذي يلازمه، والحاجة التي ترهقه، تجعله مدين في اصل وجوده لمن أوجده، بل حتى كمالاته الوجودية مثل امتلاكه للقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، وغيرها من كمالات، والتي قد تكون سبباً في اعتداد الإنسان بذاته وفخره بنفسه، هي ذاتها وبالتأمل فيها تجعل الإنسان في حالة من العشق الابدي والامتنان السرمدي لمن اوجدها فيه.

 وفي المحصلة: أن الدين حقيقة أصيلة من خلال الجذب الداخلي نحو المقدس، والتدين هو سعي إنساني نحو ذلك المقدس، فكل أشكال التدين هي تعبير عن هذا الإحساس الباطني المشترك بين الجميع، فالتباين على مستوى الشعائر والسلوك، لا يعني التباين في أصل الإحساس بالمقدس والتوق إليه، فالإنسان وإن كان يتمتع بخصوصية فردية إلا أنه غير موجود في الفراغ، وإنما هو طبيعة متفاعلة مع المحيط الذي وجد فيه، ومن هنا فإن بعث الأنبياء والرسل يمثل ضرورة حتمية لهداية الناس إلى دين الحق، فلو لم يتدخل الخالق لهداية الناس لدينه فإن الناس ستجد نفسها مضطرة لتختار لنفسها اديان.

2023/03/22

المؤلفون الأوائل في علم الرجال لدى الشيعة
اهتمّ علماء الشيعة بعد عصر التابعين بعلم الرجال، نذكر المؤلّفين الأوائل:

[اشترك]

1- عبداللّه بن جبلة الكناني (219) قال النجاشي: وبيت جبلة مشهور بالكوفة وكان واقفاً، وكان فقيهاً ثقة مشهوراً. له كتب، منها كتاب الرجال...1.

2- علي بن الحسن بن فضال كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث، من أصحاب الامام الهادي والعسكري له كتب منها كتاب الرجال2. وهذا المعروف بابن فضال الصغير، وأبوه الحسن هو ابن فضال الكبير وكلاهما فطحيان .

3- الحسن بن محبوب السراد (150 ـ 224) الراوي عن ستين رجلا، من أصحاب الصادق له كتاب «المشيخة» وكتاب «معرفة رواة الأخبار»3.

4- أبو عمرو الكشي البصير بالأخبار والرجال، تلميذ الشيخ العياشي، وكتابه المعروف بـ «معرفة الرجال» هو الّذي لخّصه الشيخ الطوسي وأسماه بـ «اختيار معرفة الرجال» وهو الموجود في الاعصار الأخيرة .

5- الشيخ أبو العباس أحمد بن علي النجاشي (372 ـ 450) من نقّاد هذا الفن ومن أجلاّئه وأعيانه حاز قصب السبق في ميدان علم الرجال، له كتاب فهرس مصنفي الشيعة المعروف برجال النجاشي وقد طبع أخيراً محقّقاً في مؤسستنا «الامام الصادق ـ عليه السلام ـ » .

6- والشيخ الطوسي (385 ـ 460) الغني عن التعريف عمل كتابين أحدهما الفهرست والآخر الرجال ويعدّان من اُمّهات الكتب الرجالية، وتوالى التأليف في علم الرجال وأخيه علم الدراية إلى عصرنا هذا، وقد أنهى الشيخ الطهراني المؤلّفين من الشيعة في علم الرجال فبلغ قرابة خمسمائة مؤلّف شكر اللّه مساعي الجميع .

هذا عرض موجز من مشاركة علماء الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية عن طريق تأسيس العلوم واكمالها وتطويرها، وأنت إذا وقفت على جهودهم الجبّارة في القرون الاُولى وما بعدها إلى عصرنا الحاضر، تقف على طائفة كبيرة من عمالقة العلم وجهابذة الفضل، كرسوا حياتهم الثمينة في ارساء صرح الحضارة الإسلامية ورفع قواعدها فأخلدوا لأنفسهم صحائف بيضاء ولصالح اُمّتهم حضارة انسانية، كل ذلك في ظروف قاسية وسلطات شديدة الكلب، وأضغان محتدمة، إلاّ في فترات يسيرة.

 الهوامش: 1. النجاشي: الرجال 2 / 13 برقم 561 . 2. النجاشي: الرجال 2 / 82 برقم 674 . 3. الطوسي: الفهرست 71، برقم 162، ابن شهرآشوب: معالم العلماء 333 برقم 182، الطهراني: مصفى المقال 128 . مقتطف من كتاب دور الشيعة في بناء الحضارة الاسلامية، لأية الله الشيخ جعفر السبحاني، طبعة: بيروت، دار الاضواء للطباعة والنشر، سنة 1993م.
2023/03/22

الدنيا فانية: هل يدعونا الدين إلى الكسل والاستسلام للواقع؟!
"الدنيا فانية"، "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، "وما الدنيا الا متاع الغرور"، سماع مثل هذه المقولات هل يعني أننا يجب أن نستسلم للواقع وننتظر جنات الخلود ونوقف عجلة التغيير لدى المجتمع؟

[اشترك]

إن من الموضوعية الاعتراف بوجود فهم مشوه يقدم مقولات الزهد على أنها استسلام وهروب من تحمل مسؤوليات الحياة، ومن هنا لا يمكننا الدفاع عن التدين الذي يتصور حالة من التنافي التام بين الدنيا والآخرة، ولتقديم مقاربة لواقع التدين وما ينبغي أن يكون عليه، لا بد من البحث عن الإنسان والأديان وعلاقة كل واحد منهما بالأخر.

فهل الأديان وجدت من أجل الإنسان؟ أم وجد الإنسان من أجل الأديان؟ وبعبارة أخرى، هل الدين يسعى لتحقيق شيء للإنسان؟ أم الإنسان هو الذي يسعى لتحيق شيء للأديان؟

وكل واحد من اللحاظين قد يعكس مفهوماً للدين مغايراً للأخر، فالدين الذي يكون محور اهتمامه هو الإنسان؛ لابد ان يراعي طموحات الإنسان، وآماله، وآلامه، محققاً بذلك تداخلاً وتفاعلاً لا يستغني الإنسان عنه، فالإنسان الذي يغفل عن نقاط ضعفه، ولا يلتفت إلى نقاط قوته، بحاجه دائمة لمن يذكره ويعزز ثقته، والدين بهذا الوصف ليس شيئاً غير التذكير والتنبيه (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) . يذكره بعقله وضرورة العمل به (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، وبأن العلم هو الذي يحقق السمو والتكامل (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، ويأمره بالأخلاق الفاضلة، والتحلي بالقيم المثلى (عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)، وينهاه عن الهوى، والشهوات، وصغائر الامور، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). والإنسان في معترك الحياة لا يستغني عمن يدفعه ويأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه.

والدين بهذا الوصف ليس صلاحاً للإنسان على مستوى الحياة الدنيا فحسب؛ وإنما أيضاً يفتح له الآفاق لحياةٍ أخرى كان غافلاً عنها، فالإنسان عندما يصبح كاملاً في حدود إنسانيته، لا يكون لكماله معنى إذا أكله التراب وأندثر إلى  الابد، ومن هنا كان هناك ضرورة للدين الذي يحقق للإنسان أملاً في حياة ليس لها حد محدود (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وبالتالي تصبح كل اهتمامات الأديان هي الإنسان، والدين بهذا المعنى لا يكون ديناً إلا إذا حقق للإنسان قيمة حياتيه وأخرويه.

أما التيارات اللا دينية فلها صورة أخرى لعلاقة الإنسان بالأديان، فهي تصور الدين بوصفه حالة استلاب وتنازل من قبل الإنسان لصالح الأديان، فالإنسان ضمن هذا التصور يتخلى وبمحض إرادته عن عقله من أجل نصوص وحيانية، ويهمل أسباب العلم من أجل إيمانيات غيبية، ويترك دنياه من أجل حياة أخرى موعودة، وهكذا يعيش الإنسان ويموت من أجل الأديان، وبذلك تعلن الأديان انتصارها الابدي على حساب الإنسان.

وقد يرتكز هذا التصور على شواهد من واقع التدين الشكلي، حيث يُسخّر الإنسان فيه كل طاقاته من أجل الحفاظ على مسمى الدين بعيداً جوهره وحقيقته، ولو اكتفينا بواقع بعض الجماعات المسلمة، ومدى تأثير هذا التدين على واقع الإنسان الحضاري، لاجتمعت عندنا شواهد كثيرة تغيّبُ فيها قيمة الإنسان وكرامته، فبعض الخطابات الإسلامية لا تلتفت كثيراً للإنسان كقيمة محورية في الإسلام، فالعقيدة عندهم ليست رؤية معرفية واساساً صلباً لقيم الإنسان الحضارية، وإنما هي مجرد أفكار يجب الإيمان بها حتى لو لم تكن لها انعكاس إيجابي على مستوى الحياة الدنيا، كما أن التشريعات لم تعد الإطار الذي يجعل من سلوكيات الإنسان سلوكيات حضارية، فعندهم انفصلت الأحكام عن قيمها وابتعدت التشريعات عن حِكمها، فأصبحت طقوس فارغة وشكليات لا معنى لوجودها.

هكذا هو حال الوعي الديني عند بعض الجماعات المسلمة، لم يكترث للإنسان وإلى ما يعانيه من جهل ورجعية وتخلف وتبعية، بل قد يلعب هذا الوعي المشوه دوراً سلبياً عندما يبرر الواقع الفاسد ويخدر الناس باسم الدين نفسه، من أجل أن يتعايشون مع مصيرهم ويرضوا بما قسم لهم من عناء، فالكرامة المهدورة، والحقوق المضيعة، والحريات المصادرة، والفقر المستشري، والجهل المُتحكّم، كل ذلك ضريبة الإيمان عندهم، فالدنيا عندهم جنة الكافر والآخرة جنة المؤمن وليس له نصيب من الحياة، أو هكذا يراد لهم أن يفهموا الدين.

ومن هنا فإن البحث عن قيمة للإنسان وفهم الدين ارتكازاً على هذه القيمة هو الكفيل بفضح التدين السلبي في واقع المجتمعات المسلمة، وقد تعرضنا في أجوبة سابقة للكثير من الإشكالات التي تحمل الإسلام مسؤولية التخلف والرجعية في العالم الإسلامي، وسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى الفهم الخاطئ لبعض المقولات الدينية مثل "الدنيا فانية". "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". "وما الدنيا الا متاع الغرور".

فالأمر المؤكد أن هذه المقولات لا تعارض مسؤوليات الإنسان اتجاه الحياة وضرورة اعمار الأرض، فهي بالأساس تهدف إلى خلق توازن بين الدنيا والآخرة، فالإنسان بطبعه الغريزي اكثر حرصاً على الدنيا، فمع أن الموت حقيقة حتمية إلا أن الإنسان يميل إلى عدم التصديق به، وقد قال الامام علي (عليه السلام) في ذلك: "ما رأيت حقاً اشبه بالباطل كالموت"، ومن هنا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى من يذكره دوماً بحقيقة فناء الدنيا، فوظيفة الدين هي ربط الإنسان بالآخرة، أما الدنيا فلا يحتاج الإنسان إلى من يربطه بها، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

 فالاهتمام بالجانب المادي للإنسان ضروري ولكن بشرط ألا يكون على حساب الجانب الروحي لديه، فكما يشعر الإنسان بحاجة مادية يشعر كذلك بحاجة روحية، والافراط والتفريط في أي واحد منهما قد يحقق مكسباً في جهة ولكن على حساب خسائر في جهة أخرى، وهكذا يبقى الانسان ضائعاً وفي حاجة ابدية لمن يحقق له توازن الروح والجسد، وهذا لا يتم إلا بفهم الدنيا في إطار الآخرة، فدعوة الدين إلى التعقل يفتح الطريق نحو تفاعل منطقي مع متطلبات الحياة، وتزهيد الدين في الدنيا يفتح الطريق إلى السكينة والانسجام الروحي، ولكي تكتمل هذه النظرة التكاملية لابد من النظر إلى الإنسان بوصفه محوراً وقيمة أساسية للأديان.

وبذلك يصبح التدين هو الإطار الذي تتساوى فيه أهمية الإنسان كمادة وروح، فليس التدين حالة من الجذب الوجداني فقط، وإنما ايضاً حالة من الوعي المرتبط بالحياة والمتفاعل معها، فالمتدين حقاً هو الذي يحقق وعياً بوجوده ووعياً بمحيطه، فيحافظ على سمو روحه وسلامة بدنه وصلاح مجتمعه، أما التدين الشكلي فهو انعكاس لحجم الإحباط الذي عاشه المسلم، ففضل الهروب بدل المواجهة وتزرع بهذا الفهم المشوه الذي يرفع المسؤولية عن كاهله.

2023/03/08

شك في الأحكام ورفض للدين.. هل بيننا ملحدون؟!
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.

[اشترك]

يلحظ الناظر في الفضاء العام الإسلامي كلاما حول وجود تشكيك في الأحكام الدينية، أو رفض لبعضها، أو رد لبعض الاعتقادات الإسلامية.

بل ربما تصاعد ذلك إلى التشكيك في أصول الاعتقادات، ويشير هؤلاء إلى تغيير بعض الناس لإسلامهم، والانتقال عنه إلى مثل المسيحية، بل ما هو أكبر وهو عدم الاعتقاد بالله، أو ما اصطلح عليه بالإلحاد. 

في البداية لا بد من التفريق بين مستويات: حالة من اللا التزام الديني المبرر بفكرة التشكيك أو الالحاد: بل يريد الانسان ليفجر أمامه للتهرب من الالتزامات. 

لماذا تحدث الحالة اللادينية؟

١- اليقينيات بالجملة قد تنتج شكا بالجملة: يتصور البعض أن تفاصيل المسائل الاعتقادية هي يقينيات لا بد من الايمان بها جملة واحدة وبنفس المستوى وأن التشكيك في بعض منها مرفوض (على طريقة لعن الله الشاك !!)، مع أنه لا بد من التفريق بين المسائل الأصيلة وبين فروعها.. لا يمكن أن يتساوى الايمان بالله الواحد الأحد، أو الايمان بالنبي محمد، مع الايمان بالرجعة للأئمة! في المستوى الأول من لا يؤمن بها بالتفصيل يصبح غير مسلم، بينما من لم يصل إلى الاعتقاد بالرجعة لا يخرج من الإسلام ولا التشيع! وفي مدرسة الخلفاء لا بد من التفريق بين الايمان بأصل المعاد، وبين الاعتقاد بعدالة كل الصحابة! مثلا أو بأن الميزان يوم القيامة هو مثل موازين الدنيا له كفتان!

أحد الباحثين قال (ومن المسائل المهمة أيضا هي أن طبيعة الخطاب الديني عندنا تدفع الشخص لأن يعتقد أو يفترض بأنه سيوقن بكل شيء، التربية على اليقين (في كل شيء) لها تأثير سلبي، فبمجرد أن يدخل الشك في مسألة تبدأ المسائل كلها تنفرط لأنها بذات الدرجة من اليقينية! وهكذا يصبح الشك أو الارتباك أمام بعض القضايا سببا أو دافعا لأن يشك هذا الشاب في كل شيء، وهذا أمر خطير، عدد من هؤلاء الذين ألحدوا كانت شرارة الإلحاد بالنسبة لهم هو أن إحدى المسائل التي تربوا على أنها مسألة يقينية ومحسومة اكتشفوا أن فيها خلافا شديدًا بين أهل الدين أنفسهم، فشعروا بأنهم كانوا مخدوعين أو أن ما تربوا عليه وغرس في عقولهم كان خاطئاً، وربما كانت هذه المسألة فقهية بسيطة! 

2- تعليلات علمية ونظريات دينية حول الخلق والكون: ابتليت الكنيسة في أوروبا بخوض صراع جاهل مع العلماء الطبيعيين، وأنتج ذلك تراجعا في إيمان الناس.. ولم يحدث في الحالة الإسلامية هذا بنفس المقدار لكون الدين يحث على العلم، إلا أن قسما من علماء الدين أو بعض التراث الديني، قدم للناس نظريات، وسميت بأنها نظريات دينية تامة، ثم جاء العلم الحديث وقدم تخطئة لها، وهذا ما جعل دارسي العلم الحديث يشككون في تلك النظريات (المسماة دينية) ويرفضونها، (مثال مرض الصرع حيث قدم تاريخيا على أنه عارض يحصل بسبب دخول الجن في الشخص، جاء العلم وقدم نظرية تقوم على أساس أنه كهرباء زائدة في البدن وأصبح له علاجاته كما يقول أحد الأطباء: فإن الصرع حالة مرضية مزمنة ناتجة عن زيادة النشاط الكهربائي لخلايا المخ وينتج عنها اختلال في وعي المريض وتصرفاته لمدة مؤقتة تزول من دون إحداث أي تغيرات دماغية بعد زوالها).

وإذا كانت بعض الآراء (الدينية) ترفض فكرة كروية الأرض أو أنها تدور حول نفسها أو حول الشمس أو تؤكد أنها على قرن ثور، فإن العلم الحديث قد رفض هذه الآراء وبرهن على خطئها.. وقد جر هذا إلى التشكيك في قضايا مثل: الملائكة والجنة والنار، والاله وهكذا التفريق بين الحقائق العلمية والنظريات العلمية، وأنه ليس كلما قاله العلماء والعلم في وقت ما هو حقيقة نهائية.

٣- حركة احتجاج اجتماعي أو سياسي أو فاقدة للثقة بالموجود: الاحتجاج على الحكومة الدينية أو الحالة الدينية يأخذ هذا المدى، او الاحتجاج على الشخصيات الدينية أو الاجتماعية أو على الوضع السياسي القائم .. الربط بين الدين وبين رجاله (أثر النماذج السيئة على التدين). 

عالم ينحرف يتبين للناس أنه منحرف.. قال أحد العلماء: "نصف أوزار الملحدين في هذا العالم يحملها متدينون كرّهوا خلق الله في دين الله".

٤- الحيرة أمام أسئلة نظرية: تساؤل عن عدالة الله في الامراض والبلايا والظلم في كل مكان ..الخ  او الأحكام قضايا القصاص والحدود والعقوبات الدنيوية وأمثال ذلك الخمس والضرائب المالية! انفتاح لا محدود على الأفكار قبل مرحلة النضج، نداء لأهل الأفكار ان يتقوا الله في هذا الجيل: البعض منهم يفقد توازنه عندما يعرف بعض الكلمات ويجادل في بعض الثوابت: كما قال عبد السلام ديك الجن " أَتَاني هَواها قبلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى فصادَفَ قَلْباً خَالياً فَتَمَكّنَا"، يرافقه دعوة خاطئة إلى اتخاذ الشك منهجا لليقين، لكل شخص! وكأن الكل له استعداد ذلك! 

في العلاجات يمكن القول ما يلي:

أولا: الاحتضان والمناقشة: على المجتمع أن يحتضن المشككين وأن لا يكون عونا للشيطان عليهم! بين توجه العباسيين: صاحب الزنادقة والإعدامات وبين توجه الامام الصادق عليه السلام. 

في توحيد المفضل: إنه لما سمع المفضل من ابن أبي العوجاء، بعض كفرياته، لم يملك غضبه، فقال: يا عدو الله ألحدت في دين الله، وأنكرت البارئ جل قدسه، إلى آخر ما قال له .

فقال ابن أبي العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبت لك الحجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا، وإنه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق، ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا، ويصغي إلينا، ويستعرف حجتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا، وظننا إنا قد قطعناه، دحض حجتنا بكلام يسير، وخطاب قصير، يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردا، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه. (الشيخ عباس القمي في الأنوار البهية). الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم قال قال أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي قولنا (الثنوية، يزدان في السماء وأهريمن في الارض) قلت: ما هي؟ فقال: (وهو الذي في السماء اله وفي الأرض اله)، فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل له ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول فلان فقل له: ما اسمك بالبصرة؟ فانه يقول فلان، فقل كذلك الله ربنا، في السماء اله، وفي الأرض اله، وفي البحار اله، وفي القفار اله، وفي كل مكان اله، قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز. 

من كان على شبهة فهو يحتاج الى نقاش المتخصصين معه. ونحذر من ان يقوم بهذا العمل غير المتخصص فلا ينفع غيره بل ربما أضر نفسه بتعريضها للشبهات. 

الاستشهاد باحتجاج السيد الطباطبائي على السيد البروجردي في تدريس الفلسفة ... التأكيد على دراسة الفلسفة، والمصالحة مع التوجه التفكيكي. 

في تاريخ المعصومين كان هناك جماعة لكل تخصص مثال هشام بن الحكم فإن له في الفقه والأخلاق خمسة وثلاثين رواية فقط بينما في العقائد والاحتجاج له عشرات الروايات المفصلة. ثانيا: نصيحة بترك منهج التشكيك: من الخطأ ان يفرض على الآخرين الشك والتساؤل الفلسفي بحجة أنه طريق اليقين، في حين أن إدراكات الناس تتفاوت وطرق وصولهم لليقين تتنوع وتتعدد بتعدد أنفاس البشر! على المفكرين الذين يطرحون شبهات هنا وهناك على الملأ العام أن اتقوا الله في أنفسكم أولا، وفي هذا الجيل الناشئ ثانيا .. في أنفسكم فإن إضلال شخص بفكرة باطلة يحمل الانسان مسؤولية قتلها.. ولا ينفعه أن تتغير فيما بعد عقائده.. هذا الولع بالشيء الجديد الصادم والذي لم ينضج عند صاحبه قد يعقبه ندما لا ينقضي.. إذا كانت الكلمة تخرج من فم الانسان فيرتكب بها الحرام (يسفك بها الدم أو ..) تحمل الانسان مسؤولية فما ظنك فيمن يضل جماعة.. ثم قد يرجع إلى رشده.. وإلى الشباب، حقق فيما تقول قدر الإمكان! لا يكن الأمر هكذا بمجرد أن يتبادر إلى ذهنك كلام أو فكرة، تطرحه وكأنه آية منزلة أو سنة محكمة! يكتب شخص مثلا عن مسائل عقدية وهو لم يراجع أدلتها! أو عن قضايا فقهية وهو لا يعرف أوليات الاستنباط! ثم يقول فهم الدين ليس حكرا على رجال الدين! نحن نقول حتى رجال الدين أيضا مخاطبون بالتحقيق قدر الإمكان.

يذكرنا هذا بأشهر الفلاسفة الملحدين في بريطانيا / أنتوني نيوتن فلو ت 2010 / بدأ من عمر الخامسة عشر في التشكيك وبقي هكذا وألف قرابة 30 كتابا في الالحاد، وفي الثمانين من عمره تراجع وألف كتابا، عنوانه: هناك إله there s a god.

واضاف يقول: "إن العلم الحديث يجلى خمسة أبعاد تشير إلى الإله الخالق: الكون له بداية، وخرج من العدم. أن الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة مترابطة. نشأة الحياة، بكل ما فيها من دقة، من المادة غير الحية. أن الكون، بما فيه من موجودات وقوانين، يهيئ الظروف المثلى لظهور ومعيشة الإنسان، وهو ما يعرف بالمبدأ البشرى. العقل، خصوصية الإنسان لقد أصبح لا مفر من اللجوء إلى عالم ما وراء الطبيعة لتفسير قدرات العقل الخارقة. 

ثالثا: الخطباء ومسؤولية الخطاب العلمي: نداء للخطباء ان يتكلموا خارج هذه الاطر. التفريق بين أصول العقائد الدينية وبين ما يصعب توجيهه علميا وبين ما هو غير معقول! التصور ان هذا النمط من الأحاديث سيزيد ايمان الناس: خاطئ! بل قد ينعكس الامر.. إذا كانت القصة التي تورد (ولا نريد أن نأتي بأمثلة) تثير أسئلة فلا ينبغي إيرادها إلا مع التحقيق فيها أو محاولة الإجابة على تلك الأسئلة!

2023/02/22

الزوجة الأولى ترفض.. هل تعدد الزوجات ينافي العدل؟
ورد في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) [ النساء: ۳ ]، في الآية الشريفة مجموعة تساؤلات:

[اشترك]

أ ـ تعدّد الزوجات رخصة معلقة على خوف عدم القسط ـ وهو العدل ـ في اليتامى، فهل هذا صحيح؟

ب ـ الرخصة المذكورة مستحيلة في آية أخرى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا ...) [ النساء: ۱۲۹ ]، فكيف جاز والحالة هذه زواج أكثر من واحدة؟

ج ـ معلوم أنّ الله لا يحبّ الظلم لأحد، ومعلوم أيضاً أنّ المرأة الأولى لا ترضى أن يتزوّج عليها زوجها ثانية، وتحسّ بالظلم بل هو الظلم بعينه ـ كلّ إمرأة وكلّ حالة ـ فما هو تفسيركم لموقفها من هذا الحكم؟

د ـ أنا أعرف أنّ هناك حالات تستدعي تعدد الزوجات لمكافحة النقص الحاصل من أثر الحروب، ولكن الآن لا يوجد ما يستوجب ذلك، فهل يعني أنّ تعدد الزوجات مشروط بظروف معيّنة؟

هـ ـ المرأة قد تحتاج في حالات معيّنة اهتمام أكثر من رجل، فكيف يرضى لها الشارع ربع رجل؟

الجواب من سماحة آية الله الشيخ حسن الجواهري:

أ ـ ليس أصل تعدّد الزوجات معلّقاً على خوف عدم القسط في اليتامى بل إنّ نكاح النساء غير اليتامى معلق على خوف عدم القسط في نكاح اليتامى، إذ إنّ الأقوياء من الرجال كانوا يتزوّجون النساء اليتامى طمعاً في أموالهم، يأكلونها ثمّ لا يعدلون فيهنّ، وربما يطلقوهن بعد أكل مالهنّ فلا يرغب بهنّ أحد، وقد نهى القرآن عن هذه الحالة فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [ النساء: ۱۰ ]. فأشفق المسلمون على أنفسهم وخافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفاً من الابتلاء بأموالهم والتفريط فيها.

وقد سأل المسلمون النبي صلّى الله عليه وآله عن هذه الحالة الحرجة فنزلت آية: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ ...) [ البقرة: ۲۲۰ ]، فأجاز لهم أن يؤوهم ويمسكوهم اصلاحاً لشأنهم، ويخالطوهم فإنّهم إخوانهم، ففرّج عنهم.

إذا اتّضح ما تقدّم، فإنّ معنى الآية ـ والله أعلم ـ: اتّقوا أمر اليتامى ولا تبدّلوا خبيث أموالكم بطيب أموالهم، أي لا تعطوهم مالكم الروئ وتأخذوا مالهم الطيّب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى إنّكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات، فانكحوا نساء غيرهن.

وأمّا نكاح النساء فهو جائز مثنى وثلاث ورباع سواء كان من اليتيمات مع عدم خوف عدم القسط فيهنّ أو من غيرهنّ مع خوف عدم القسط فيهنّ.

ب ـ إنّ آية النساء رقم « ۳ » يوجد في ذيلها: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، ومعنى ذلك أنّ الخوف من عدم العدل بين الزوجات المتعددات يوجب عدم جواز التعدّد وهذا الأمر صحيح، لأنّ العدل المراد هنا هو إعطاء حقوق الزوجات من مسكن ولباس وطعام حسب ما فرضه الله للزوجات وهذا أمر ممكن ومقدور عليه، فإن خاف الزوج من عدم هذا العدل بأن لا يوصل إلى الزوجات ما يلزمهنّ من طعام وكساء ومسكن فلا يجوز له تعدّد الزوجات، وأمّا إذا تمكّن من ذلك ولم يخف من عدم العدل بهذا المعنى فالتعدّد له جائز.

وهذا أمّا يسمّى بالعدل التقريبي العملي الذي لا يوجد فيه ظلم للزوجات ولا تقصير في حقوقهنّ ولا يميل كلّ الميل إلى واحدة ويذر الأخريات معلقات.

وأمّا الآية القائلة: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ...) [ النساء: ۱۲۹ ]، فهي بمعنى أنّ العدل الحقيقي بين النساء وهو اتّخاذ حالة الوسط حقيقة ممّا لا يستطاع للإنسان تحقيقه ولو حرص عليه، فالمنفي هو العدل الحقيقي في هذه الآية، خصوصاً تعلّق القلب بالنساء، فإنّه ليس اختياريّاً فلا يتمكّن أن يحبّ الزوجات بحدّ سواء فهو غير قادر على ذلك، لأنّه ليس اختياريّاً له.

أمّا العدل الممكن الذي اُشير إليه في آية رقم « ۳ » وهو ممكن فهو العدل التقريبي، فإذا أعطى الزوجات حقوقهن الشرعيّة من غير تطرّف فهو قد عدل بينهنّ، فيجوز له أن يتزوّج الثانية والثالثة والرابعة.

والخلاصة: إنّ الآية: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) لا تنفي مطلق العدل حتّى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) إلغاء تعداد الزواج في الإسلام كما قيل، وذلك لأنّ ذيل الآية يدلّ على أنّ المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي بينما المشرّع لجواز تعدّد الزوجات هو العدل التقريبي: « اعطاء حقوق الزوجات من مسكن وطعام ولباس »، وهو ممكن، فلا تنافي بين الآيتين أصلاً، وذيل الآية هو: (فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ...) [ النساء: ۱۲۹ ]، فإنّ هذا الذيل جاء بعد: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) مباشرة، فمعنى الآية هو:

۱ ـ إنّ العدل الحقيقي بين الزوجات غير ممكن.

۲ ـ الواجب في العدل بين الزوجات هو التقريبي، أيّ عدم الميل كل الميل الى إحدى الزوجات فيذر الأخرى مثل المعلقة، لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها ولا هي أرملة، فتتزوّج وتذهب لشأنها.

ج ـ إنّ الله لا يحبّ الظلم، ولكن معنى الظلم هو التعدّي على حقوق الآخرين أو أموالهم. ولكنّ الله سبحانه وهو الأعلم بمصالح العباد هو الذي قرر أنّ الزوج له حقّ أن يتزوّج بأكثر من زوجة بشرط أن يعطي حقّ الزوجة من المأكل والملبس والمسكن، والمعاشرة بالمعروف، والمبيت ليلة من أربع ليال عندها، وغيرها من حقوق الزوجيّة، ونفترض أنّ الزوج قد قام بهذه الحقوق كاملة، ولكنّه يحتاج إلى زوجة ثانية، يقوم بحقوقها أيضاً ًكاملة، فلا ظلم ولا تعدّي على حقوق الزوجة الأولى ولا الثانية أصلاً.

نعم المرأة الأولى قد لا ترضى بزواج الزوج ثانية، وقد لا ترضى بزواجه ثانية حتّى إذا كانت هي قد ماتت أيضاً، إلّا إنّ عدم رضاها ليس هو ميزان ظلمها.

خذ إليك هذا المثال: إذا كان زيد الأجنبي لا يرضى بزواج عمرو من هند أو لم ترضَ اُخت عمرو بزواج عمرو من هند، وقد تزوّج عمرو بهند على كتاب الله وسنّة الرسول فهل يكون هذا الزواج ظلماً لزيد؟!! أو ظلماً للأخت؟!! طبعاً لا يكون ظلماً، لأنّه ليس فيه أيّ تعدّي على زيد أو على الاُخت أصلاً، فكذلك زواج الزوج بزوجة ثانية إذا كان قد أعطى حقوق الزوجة الاُولى فهو ليس ظالماً لها، وإن لم ترضَ بهذا الزواج الثاني.

د ـ إن حكم الشارع بجواز تعدد الزوجات حكم عام ليس مختصّاً بحالة معيّنة. نعم قد تفرق بعض الحالات التي تستوجب الزواج الثاني للرجل، مثل الحروب التي تقضى على الرجال وتبقى النساء بحاجة إلى زواج مع قلّة الرجال، وقد يكون الرجل بحاجة إلى زوجة ثانية لقوّة شهوته الجنسيّة بحيث لا تكفيه الواحدة، إلّا أنّ هذه الحالات هي بعض حكمة الحكم الشرعي.

وأمّا علّة الحكم التي بسببها قد شُرّع الحكم فلا يعرفها إلّا الله الذي شرّع الزواج الثاني والثالث والرابع، لأنّه هو الذي خلق هذا البشر وهو العالم بما يحتاج إليه هذا البشر من أحكام قد شرّعها له وأوجب عليه تطبيقها.

هـ ـ نعم المرأة في حالات معيّنة قد تحتاج إلى أكثر من رجل، وهذا أمر ممكن بوجود زوجها وأولادها وإخوتها وأبيها وأعمامها وأخوالها فليس احتياج أكثر من رجل معناه لا بديّة أنّها تحتاج إلى أكثر من زوج في وقت واحد.

ثمّ إنّ احتياجها إلى الزوج ليس معناه أنّ زوجها إذا تزوّج زوجات أخرى ـ أربعة ـ، فهو ربع رجل بل حتّى وإن تزوّج زوجات أربع، فهو رجل كامل يجب عليه تلبية احتياجاتها بالمعروف.

2023/02/22

هل يحق لغير المعصوم تولي السلطة؟ الإمام علي (ع) يجيب..
يقول الامام علي عليه السلام: «وإنَّهُ لابُدَّ لِلنّاسِ مِن أميرٍ؛ بَرٍّ أو فاجِرٍ، يَعمَلُ في إمرَتِهِ المُؤمِنُ، وَيَستَمتِعُ فيهَا الكافِرُ، ويُبَلِّغُ اللّهُ فيهَا الأَجَلَ، ويُجمَعُ بِهِ الفَيءُ، ويُقاتَلُ بِهِ العَدُوُّ، وتَأمَنُ بِهِ السُّبُلُ، ويُؤخَذُ بِهِ لِلضَّعيفِ مِنَ القَوِيِّ؛ حَتّى يَستَريحَ بَرٌّ، ويُستَراحَ مِن فاجِرٍ) ﻧﻬﺞ ﺍﻟﺒﻼغة: 92 ).

[اشترك] 

هل الرواية تدل على مشروعية تولي غير المعصوم السلطة؟ ووجوب طاعته.. وما معنى فجور الأمير في النص أعلاه.. وهل التسليم لهم واجب او يجب الاعتراض على سلوكهم عند اي خطأ ومنكر منهم؟

لقد جاءت هذه الكلمات من أمير المؤمنين (عليه السلام) في معرض الرد على الخوارج الذين قالوا (لا إمرة إلا لله)، فقال رداً عليهم: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطِلٌ! نَعَم، إنَّهُ لا حُكمَ إلّا للّهِ، وَلكِنَّ هؤُلاءِ يَقولونَ: لا إمرَةَ إلّا للّه! وإنَّهُ لابُدَّ لِلنّاسِ مِن أميرٍ؛ بَرٍّ أو فاجِرٍ.."، ومن خلال فهم الشبهة التي أراد أمير المؤمنين معالجتها يمكننا أن نفهم المؤدى النهائي لكلامه والغاية التي أراد الوصول إليها.

فإذا رجعنا لكلام الخوارج نجد أن مشكلتهم ليست في التردد بين الحاكم البار والحاكم الفاجر، وإنما مشكلتهم مع أصل وجود حاكم يسوس أمر الناس، وفي هذه الحالة يصبح خيار الخوارج في قبال الخيار الآخر وهو خيار وجود حاكم سواء كان باراً أو فاجراً، فالخيارات محصورة في خيارين لا ثالث لهما، الأول: أن يكون الناس بدون نظام وحاكم يسوسهم، والثاني: أن يكون لهم حاكم يسوسهم، والخيار الثاني بطبعه يحتمل أمرين، الأول أن يكون الحاكم باراً، والثاني أن يكون الحاكم فاجراً، وإنكار الخوارج متوجه لكلا الاحتمالين، وعليه لا يمكن الرد على الخوارج بيان فضل الحاكم البار على الحاكم الفاجر، وإنما ببيان فضل الحاكم مطلقاً سواء كان باراً أو فاجراً، وهذا ما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو لم يكن في مقام بيان شرعية الحاكم، ولا في مقام بيان طرق الوصول إليه، ولا في مقام بيان ترجح خيار على خيار آخر، وإنما كان في مقام بيان ضرورة وجود الحاكم في قبال من يرفض تلك الضرورة.

فالحياة لا يمكن أن تستمر بأي شكل من الاشكال في حالة الفوضى وعدم وجود نظام وحاكم، بينما يمكنها أن تستمر في ظل النظام والحاكم حتى وإن كان فاجراً.

وقد تمت الإشارة في هامش نهج البلاغة إلى كلام شبيه بما ذكرناه، حيث اعتبر كلام امير المؤمنين (عليه السلام): "برهان على بطلان زعمهم أنه لا إمرة إلا لله، بأن البداهة قاضية أن الناس لا بد لهم من أمير بر أو فاجر حتى تستقيم أمورهم، وولاية الفاجر لا تمنع المؤمن من عمله لإحراز دينه ودنياه، وفيها يستمتع الكافر حتى يوافيه الأجل ويبلغ الله فيها الأمور آجالها المحدودة لها بنظام الخلقة وتجري سائر المصالح المذكورة".

وفي المحصلة فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن في مقام إعطاء الشرعية للحاكم سواء كان معصوماً أو غير معصوم وإنما في مقام التأكيد على أن الحياة لا تستقيم بدون حاكم، وعليه ليس في الحديث دلالة على وجوب السمع والطاعة للحاكم الفاجر الذي لا يلتزم بحدود الله، كما لا يحرم الحديث الخروج على الظالم والاعتراض عليه طالما لم يكن الخيار البديل هو الفوضى والبقاء بدون نظام حكم.

2023/02/16

بينها العقل والإجماع.. من يحدد مصادر التشريع؟!
السؤال عن الجهة التي تحدد مصادر التشريع يجب أن يسبقه سؤال عن الجهة التي تمتلك حق التشريع؛ وذلك لأن مصادر التشريع ليست شيئاً مختلفاً عمن له حق التشريع، فالمصادر التي يجب الاعتماد عليها في التشريعات يجب أن تكون ذات صلة مباشرة بصاحب الحق في التشريع.

[اشترك]

 فلو اخذنا الدول والنظم السياسية كمثال نجد أنها تعتمد في تشريعاتها على اللوائح والقوانين الصادرة عن البرلمان الذي تم تفويضه من قبل الشعب، وبذلك يصبح البرلمان وما يتصل به من دوائر ونظم هو المصدر الوحيد لتشريعات الدولة.

 وما هو معلوم بالضرورة لدى المسلمين أن الله تعالى وحده صاحب الحق في التشريع، وما جاء عن طريق الأنبياء والرسل يمثل الطريق الحصري لمعرفة تلك التشريعات، وقد انحصرت تلك التشريعات في الإسلام بوصفه الرسالة الخاتمة.

 ومن هنا أجمعت الامة الإسلامية على أن القرآن والسنة هما مصدرا التشريع الإسلامي.

 ومع وضوح هذا الأمر نجد أن البعض اجتهد في ادخال مصادر أخرى للتشريع غير القرآن والسنة مثل القياس والاستحسان وبقية الأصول الظنية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، وفي ذلك تجاوز واضح على حق الله في التشريع.

 وفي إجابة سابقة حول الاجتهاد الشيعي والاجتهاد السني بينا الفوارق بين مصادر التشريع بين الطرفين، وقد قلنا إن الشيعة لم يحتاجوا إلى إعمال النظر لاستنباط الاحكام الشرعية خارج حدود القرآن والسنة، وبذلك أصبحت مصادر التشريع الأساسية عند الشيعة هي القرآن والسنة.

ولم يثبت عندهم الاجماع كمصدر من مصادر التشريع إلا إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم.

أما العقل وإن جعل مصدراً ثالثاً بعد القرآن والسنة إلا أنهم لم يحتاجوا إليه عملياً في استنباط الاحكام الشرعية، وكل ما هو موجود هو مناقشته أصولياً في باب الملازمات العقلية.

وقد أشار الشهيد الصدر لهذه الحقيقة في مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة، حيث قال: (ونرى من الضروري ان نشير أخيرا بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدنا بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة بامتدادها المتمثل في سنة الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام باعتبارهم أحد الثقلين الذين امر النبي (ص) بالتمسك بهما ولم نعتمد في شيء من هذه الفتاوى على غير هذين المصدرين.

اما القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغا شرعيا للاعتماد عليها تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام.

 واما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا فنحن وان كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به ولكنا لم نجد حكما واحدا يتوقف اثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة، واما ما يسمى بالإجماع فهو ليس مصدرا إلى جانب الكتاب والسنة ولا يعتمد عليه الا من اجل كونه وسيلة اثبات للسنة في بعض الحالات، وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة ونبتهل إلى الله تعالى ان يجعلنا من المتمسكين بهما ومن استمسك بهما (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) (الفتاوى الواضحة، ج1، ص 15).

والذي يرجع للموسوعات الاستدلالية لفقهاء الشيعة سوف يقف على حضور النصوص في كل بحوثهم الفقهية.

وفي حال عدم وجود النص في المسألة فإن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بينوا الأصول التي يتم الرجوع إليها، وتسمى هذه الأصول بالأصول العملية لأنها تكشف عن الموقف العملي في حال لم يكن في الموضوع نص شرعي، مثل الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، وغيرها، وقد بين الأصوليون الشيعة أن حجية تلك الأصول ليس في كشفها عن الواقع وإنما في نفس طريقيتها المجعولة من قبل الشارع، فينحصر مؤداها في المنجزية والمعذرية.

 فاستنباط الأحكام الشرعية يجب أن يقوم على منهجيات يحددها الشرع بنفسه، فليست كل منهجية أبدعتها العقلية البشرية تكون صالحة في ذلك، وبخاصة الطرق ذات المؤدى الظني.

 لأن حجية الدليل إما أن تكون ذاتية، فلا تحتاج إلى جعل الجاعل، وهي تختص بخصوص العلم الكاشف عن الواقع، فليس بعد كشفه والتعرف عليه شيء، فتكون الحجية حينئذ من اللوازم العقلية التي لا تنفك عنه.

 وإما أن تكون الحجة مجعولة؛ وهي التي لا تنهض بنفسها في مقام الاحتجاج، بل تحتاج إلى من يسندها من دليل عقلي أو شرعي، يقول السيد محمد تقي الحكيم: (وهي إنما تتعلق فيما عدا العلم بالأمارات والأصول إحرازية أو غير إحرازية، أي فيما ثبتت له الطريقية الناقصة التي لا تكشف عن الواقع إلا في حدودٍ ما، أو لم تثبت له لعدم كشفه عنه) (أصول الفقه المقارن ص 32).

 ولعدم تمامية هذه الأصول لكشف الواقع لا يمكن أن تصلح طريقاً لمعرفة أحكام الله إلا في حالة وجود سند شرعي أو دليل عقلي قطعي أمر باتباعها، يقول السيد الحكيم: (ومع كون الأمارات أو الأصول لا تملك الحجية الذاتية بداهة، فهي محتاجة إلى الانتهاء إلى ما يملكها، وليس هناك غير القطع، بجعل الحجية لها من قبل من بيده أمر وضعها ورفعها) (أصول الفقه المقارن ص 32).

 وبهذا نرفع اليد عن العمل بأي طريق لا يكون حجة بذاته أو اكتسب الحجية بدعم الدليل القطعي بوجوب العمل به، وقد حذر الله سبحانه من العمل بالظن إلا ما أذن به، قال تعالى: ﴿آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.

وعليه فإن الضابط في الاجتهاد هو أن يكون قائماً على البحث عن الحكم الشرعي في الكتاب والسنة مستعيناً بالمناهج التي توجب أما القطع بحكم الله وأما الظن المعتمد شرعاً كما دلت عليه النصوص.

2023/02/13

هل يتنافى حساب يوم القيامة مع عذاب القبر؟
إشكالٌ يتمسَّكُ به المُنكرون لعذابِ القبر وهو أنَّ دعوى وجود العذاب في القبر لبعض الكافرين والعصاة يتنافى مع ما دلَّ من الآيات على أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم الحساب، فإيقاعُ العذاب في البرزخ على الكافرين يقتضي أنْ يتقدَّم حسابُهم على يوم القيامة، وهذا يُنافي ما ثبتَ من أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم القيامة.

والجواب هو أنَّ يوم القيامة هو يومُ الحساب الأكبر، ففيه يُحاسب الناسُ على أفعالِهم الخطيرِ منها والحقير قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(1) وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(2) لكنَّه ليس في الآياتِ ولا في الروايات ما يدلُّ على انحصار الجزاء على العمل بالآخرة بل إنَّ الكثير من الآيات- وكذلك الروايات- صريحةٌ أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه الحَسَنِ أو السَيءِ في الدنيا أو عند الموت أو ما بعد الموت وقبل قيام الساعة.

فمن الآيات التي دلَّت على وقوع العذاب والعقوبة في الدنيا جزاءً على سوء العمل قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ / لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ (3).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (4).

ومنها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (5).

ومنها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾ (6).

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ (7).

والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًّا، وهي صريحةٌ في أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه السيء في الدنيا قبل يوم الحساب في الآخرة، وفي عرض هذه الآيات ثمة آياتٌ تدلُّ على أنَّ الإنسان قد يُجازى على حُسن صنيعه في الدنيا وله في الآخرى جزاءُ الضعف.

فمِن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (8) لهم نصيبٌ ممَّا كسبوا في الدنيا وأمَّا في الآخرة فيُوفِّيهم أُجورهم.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ (9).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (10).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (11) فهذه الآية تدلُّ على جزاء التقوى وجزاء التكذيب في الدنيا.

 

ومن الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى جزاءَ صنيعه عند الموت قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾(12).

فهذه الآيةُ واضحةُ الدلالة في أنَّ مثل هؤلاء الظالمين يسوؤهم ما يجدونه في غمراتِ الموت من ملائكة العذاب، يتوعَّدونهم بالنكال وعذاب الهوان بل الآيةُ ظاهرةٌ في أنَّهم يتلقَّون العذاب لحظةَ انتقالهم من عالم الدنيا، وهو ما يقتضي أنَّ لهم نحوَ حياةٍ بعد الموت يتلقَّون فيها عذابَ الهَوان كما هو مقتضى مفاد قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (13).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (14).

فالكافرون بمقتضى مفاد الآيتين يتلقَّون جزاء كفرهم وجحودهم الضربَ على الوجوه والأدبار عند النزع أو بعد انتقال أرواحِهم من عالم الدنيا.

وبهذه الآيات ومثلها يتبيَّن أنَّ كون القيامة هي يوم الحساب لا يعني أنَّ الإنسان لا يلقى قبلها شيئًا من جزاء عمله الحَسَن أو السَيء، وبذلك تسقطُ دعوى الإنكار لعذابِ القبر استنادًا إلى أنَّ الحساب والجزاءَ مؤجَّلٌ إلى يوم القيامة، فإنَّ هذا المُستند يُناقضُ الكثيرَ من الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه في الدنيا وعند الموت وكذلك بعد الموت وقبل يوم القيامة كما هو مقتضى مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(15).

فإنَّ هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الشهداء يتلقَّون شيئًا من جزاء عملِهم قبل يوم القيامة فهم: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.

وكذلك فإنَّ قولَه تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ (16) يدلُّ بوضوحٍ على أنَّ آلَ فرعون يَحيق بهم ويحوطهم العذابُ قبل يوم القيامة، فهم يُعرضون على النار صباحَ مساء ثم إذا قامت الساعة أُمر بهم فأُدخلوا أشدَّ العذاب.

الهوامش: 1- سورة الرعد / 33-34. 2- سورة البقرة / 114. 3- سورة الزمر / 25-26. 4- سورة المائدة / 41. 5- سورة فصلت / 16. 6- سورة البقرة / 201-202. 7- سورة نوح / 10-12. 8- سورة الطلاق / 2-3. 9- سورة الأعراف / 96. 10- سورة الأنعام / 93. 11- سورة محمد / 27. 12- سورة الأنفال / 50. 13- سورة محمد / 27. 14- سورة الانفال / 50. 15- سورة آل عمران / 169- 171. 16- سورة غافر / 49- 46.
2023/02/11

لماذا خلق الشيطان؟!
يثار أحيانا سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي. وفي الجواب نقول:

[اشترك]

أوّلا: لم يخلق الله الشيطان، شيطانا. والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة الله وعلى الفطرة الطاهرة. لكنه بعد تحرره أساء التصرف، وعزم على الطغيان والتمرّد. إنه إذن خلق طاهرا، وسلك طريق الانحراف مختارا.

ثانيا: وجود الشيطان لا يسبب ضررا للأفراد المؤمنين، ولطلاب طريق الحق، في منظار نظام الخليقة. بل إنه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم، إذ إن التطوّر والتقدّم يتم من خلال صراع الأضداد.

بعبارة أوضح: قوى الإنسان وطاقاته الكامنة لا تتأهب ولا تتفجر إلّا حينما يواجه الإنسان عدوا قويا. هذا العدو يؤدّي إلى تحريك طاقات الإنسان وبالتالي إلى تقدّمه وتكامله.

الفيلسوف المعاصر «توينبي» يقول: «لم تظهر في العالم حضارة راقية إلّا بعد تعرّض شعب من الشعوب إلى هجوم خارجي قوي. وهذا الهجوم يؤدي إلى تفجير النبوغ والكفاءات، لصنع مثل هذه الحضارة».

المصدر: تفسير الأمثل ج1
2023/02/08

لاستقلال سياسي: الإسلام يحث على الزراعة واستثمار الثروة الحيوانية
على الرغم من انتشار الآلات الإنتاجية في جميع مرافق الحياة، كما هو حاصل في يومنا، إلّا أن الزراعة وتربية الحيوانات تبقى متصدرة لقائمة المنتوجات من حيث الأهمية في حياة الإنسان، لأنّها مصدر الغذاء، ولا حياة بدونه.

حتى أنّ الاكتفاء الذاتي في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية يعتبر الدعامة الرئيسية لضمان الاستقلالين الاقتصادي والسياسي إلى حدّ كبير.

ولذلك نرى شعوب العالم تسعى جاهدة لإيصال زراعتها وثروتها الحيوانية لأعلى المستويات مستفيدة من التقدم التقني الحاصل.

والحاجة لأي من هذين الإنتاجين الأساسيين من الخطورة والأهمية البالغة ما يجعل دولة عظمى كروسيا تمديد العوز وتعطي بعض التنازلات السياسية لدول متباينة معها في الخط السياسي العقائدي لاضطرارها لتأمين احتياجاتها!

وأعطت التعاليم الإسلامية أهمية خاصة للإنتاج الحيواني والزراعة بالحث والترغيب لغور غمار هذه العملية المعطاءة.

ونورد هنا (ومن مصادر مختلفة) بعض الرّوايات التي تخص موضوعنا وما جاءت به من تعبيرات جميلة.

١ ـ عن أبي جعفر عليه ‌السلام أنّه قال: «قال النّبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم لعمته: ما يمنعك من أن تتخذي في بيتك ببركة؟

فقالت: يا رسول الله ما البركة؟

فقال: شاة تحلب، فإنّه من كانت في داره شاة تحلب أو نجعة أو بقرة فبركات كلّهن».

٢ ـ وروي عن النّبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم أنّه قال في الغنم: «نعم المال الشاة».

٣ ـ وفي تفسير نور الثقلين، في تفسير الآيات مورد البحث، روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌ السلام أنّه قال: «أفضل ما يتخذه الرجل في منزله لعياله الشاة، فمن كان في منزلة شاة قدست عليه الملائكة مرّتين في كل يوم».

ولا ينبغي الغفلة عن أنّ الكثير من بيوت المدن غير صالحة لتربية الأغنام، والهدف الأصلي من إشارة الرّوايات هو إنتاج ما يحتاج إليه الناس على الدوام ـ فتأمل.

٤ ـ ويكفينا ما قال أمير المؤمنين علي عليه ‌السلام في أهمية الزّراعة: «من وجد ماء وترابا ثمّ افتقر فأبعده الله».

وبديهي انطباق هذا الحديث على الفرد والأمّة معا، فالشعب الذي لديه مستلزمات الزراعة بشكل كاف ومع ذلك يمد يده لطلب المساعدة إلى الآخرين، فهو مبعد عن رحمة الله بلا إشكال.

٥ ـ روي عن النّبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم أنّه قال: «عليكم بالغنم والحرث فإنّهما يروحان بخير ويغدوان بخير».

٦- وروي عن الإمام الصادق عليه ‌السلام أنّه قال: «ما في الأعمال شيء أحبّ إلى الله من الزراعة».

٧ ـ وأخيرا نقرأ في حديث روي عن الإمام الصادق عليه ‌السلام ما يلي: «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه الله عزوجل، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة، يدعون المباركين».

*مقتطف من تفسير الأمثل ج 8
2023/02/01

لماذا يسقط الإنسان في فخ ’الفتنة’ و ’المغالطات’؟
خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، رسمت لنا خطا صحيحا وسليما في التاريخ، حيث أرادت (عليها السلام) أن تضعنا في الطريق المستقيم للتاريخ، عبر توضيح الحقائق.

فهناك صراع دائم بين الحق والباطل، وبين الحقيقة والتضليل، ودائما هناك من يريد ان يستلب الفائدة لنفسه وسلطته ومصلحته وجماعته عن طريق التضليل، والمغالطة هي أهم الوسائل التي يستخدمها البعض في فرض التضليل وتزييف الحقيقة، وجعل الباطل حقيقة، وجعل الواقع وهما، والوهم واقعا.

والمغالطة هي عملية خلق وصناعة حقيقة زائفة عبر مقدمات سليمة، وغير مترابطة فيما بينها، ولكن العقل أو الذهن ينخدع بها، نتيجة لأسلوب المغالط، وطريقته في تزييف الوقائع والحقائق، إضافة إلى ذلك قابلية الطرف الذي تقع عليه المغالطة فينخدع بها.

ولذلك أرادت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تبيّن الحقيقة صريحة كما هي، وتكشف المغالطات التي وقع كثير من الناس فيها، بسبب ما رسم وما كتب في التاريخ عبر اختلاق المغالطات، لهذا قالت (عليها السلام) في خطبتها من ضمن ما قالته: (أيّها الناس! اعلموا أنّي فاطمةّ! وأبي محمّد أقول عَوداً وبدءاً. ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً)، وقد ذكرنا في مقالنا السابق معنى (غلطا) ومعنى (شططا)، وأوضحنا بعض المفاهيم والأمور المرتبطة بهذه القضية.

لماذا يقع الإنسان ضحية المغالطات؟

في هذا المقال، سوف ندخل في أسباب المغالطات، ولماذا يقوم المغالِط بالمغالطة، ولماذا يقع المغالَط ضحية المغالطات، فبعض المغالطات تحدث عمدا، فيقوم المغالِط من خلال عملية المغالطة في بناء أو صناعة حقيقة زائفة كما ذكرنا هذا من خلال بعض المقدمات.

ولكن في بعض الأحيان، تقع المغالطات نتيجة إلى توهمات الإنسان والفوضى والعشوائية وعدم علمية تفكيره وفقدانه للمنهجية، أو عدم استقرار تفكيره ونفسيته، فيؤدي به ذلك إلى الوقوع في فخ المغالطات.

ومن ضمن أسباب الوقوع في المغالطة، سواء كان مغالِطا أو مغالَطا:

سلسلة الأوهام

أولا- العيش في سلسلة من الأوهام المتلاحقة، والوهم هو تصور زائف وغير حقيقي عن الواقع، مثال ذلك أن الإنسان يتصور أن هذا اللون أزرق لكنه في الحقيقة لون أخضر مثلا، فيكون هذا التصور زائف وغير حقيقي، يحدث كنتيجة لحبه إلى اللون الأزرق، فيتصوره لونا أزرق مع أنه في الحقيقة لون أخضر.

هذا الوهم النابع من نمط داخلي، أو تصوّر داخلي يؤدي به إلى الوقوع في الوهم، أو هو نفسه يخلق الوهم، من أجل إيهام الآخرين وتضليلهم.

الآية القرآنية تقول: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ، وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) يونس36-37.

الظن هنا بمعنى الوهم الذي هو خلاف الحقيقة والواقع، والحق والعلم والأسلوب المنهجي في التفكير، وأكثر الناس هكذا حيث يقعون في الأوهام والظنون تجاه الآخرين، فهناك سوء الظن بالآخرين، سوء الظن بالحياة، وسوء الظن بكثير من الأشياء.

المشكلة أن الإنسان إذا دخل في عالم الأوهام، يصبح أسيرا لها، يبقى يلاحقه وهم بعد وهم، إلى أن يقع في سلسلة كبيرة من الأوهام التي تصبح اغلالا لا يستطيع الخلاص منها.

فهؤلاء أصحاب الظن يحاولون أن يتصوروا ويدركوا العالم والكون ويفهموا الله سبحانه وتعالى عبر عقولهم الصغيرة دون وجود مرجعيات يقينية مسبقة، فيؤدي ذلك الى انتاج ظنون وخيالات وهمية، فيقعون في عالم التيه ويضلون عن الطريق المستقيم.

البحث عن السعادة والاستقرار والأمن

ان الله حقيقة مطلقة، والواقع الموجود، لكن الشيء غير الموجود هو هذا الظن وهذا الوهم الذي يحاول فيه الإنسان أن يقنع نفسه أو يقنع الآخرين بأشياء زائفة.

هذا هو معنى المغالطة التي يقع كثيرون، وبالنتيجة يتيهون وينحرفون عن الطريق المستقيم الذي لابد للإنسان أن يسير فيه حتى يصل إلى غاية السعادة والاستقرار والأمن الذي يحتاجه.

المشكلة التي يعاني منها الفكر الإنساني إنه فكر محدود، وعندما يحاول هذا الفكر المحدود أن يتصدى لقضايا أكبر من حجمه سوف يضيع هذا الفكر، لأن الفكر يحتاج إلى سلسلة منطقية علمية من المقدمات والتفكير المعرفي حتى يستطيع الإنسان أن يصل إلى استنتاجات صحيحة وسليمة في الحياة.

الوقوع في مصائد التضليل

العقل البسيط لا يستطيع أن يتكيف مع استخدام المنطق المنهجي، وانتهاج عالم الأسباب والمسبّبات، فيقع دائما في المصائد والفخاخ التي تنجذب إليها العقول السطحية كما تنجذب الحشرات إلى الضوء، أو إلى النار فتحترق بها، فالإنسان الذي يذهب بفكره بسطحية ومن خلال بصره وحواسه، فإن هذا الإنسان يقع في مصائد التضليل ومصائد المغالطات.

وكثيرا ما رأينا الإنسان الذي لا يمتلك المعرفة وليس عنده وعي، نجده بالنتيجة يقع في سلسلة كبيرة من الأوهام والتضليلات، مثلا إذا رأى شيئا خارج بيته، في الشارع مثلا، بعض القمامة المرمية في الشارع، فسوف يتهم جاره بهذا العمل بشكل مباشر، وهذا يسمى سوء الظن، وعبر هذا الوهم يبني ذلك الإنسان سلسلة من السلوك العدائي تجاه جاره.

مثال آخر، الحالة العنصرية التي يقوم بها البعض، مثلا الغني حين يقف ضد الفقير، باعتباره أنه غني لذلك فهو أفضل من الفقير، لكن هذا وهم، أو مثلا هو من البلد الفلاني لذلك هو أفضل من شخص آخر ينتمي إلى بلد آخر.

الفخ المنطقي

هذه الأوهام تؤدي بالإنسان إلى سلوك غير جيد، فترسّخ العنصرية والكراهية والفئوية تجاه الآخر، وبالنتيجة فإن هذه الأوهام تؤدي إلى مشكلات كبيرة جدا، وما أكثر الأوهام التي أدت إلى كوارث هائلة، على سبيل المثال، قد يأتي أحدهم ويضع خطة اقتصادية في بلده، ويقوم مثلا بتأميم كل الموارد وكل الأراضي، فيصبح الناس بلا ملكية، بالنتيجة ما الذي سيحصل؟

هذا هو الوهم، وهذه النظرية قائمة على وهم، وليست حقيقة، أي أن هذه النظرية لا تنبع من حقيقة، فيتصور صاحب النظرية بأنه إذا حقق المساواة في الملْكية، وأصبح الناس بلا ملكية، فإنه يستطيع أن يحقق العدالة بين الناس، لكن هذا فخ منطقي، وهو خطأ في التفكير، لذلك فإن هذا الوهم أدى إلى كوارث كبيرة في بعض البلدان.

لذلك فإن الوهم يعد مشكلة كبيرة، كما نجد ذلك في بعض الفلسفات التي تنبع من أوهام الفيلسوف، أو المفكر، أدت به إلى صناعة نظرية تضليلية، ثم أصبحت هذه النظرية منهجا كاملا لعدة شعوب، بالنتيجة وقعت هذه الشعوب في حروب وصدامات وصراعات، وفي نتائج كارثية نتيجة لهذه الأوهام.

السقوط في فخ الفتنة

وضمن خطبتها السيدة الزهراء (عليها السلام) في الحوار الذي حصل قالت هذه الكلمة: (ابتدارا زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)، هذه هي المغالطة، فيأتي صانع الفتنة ليقول خوفا من الفتنة نحن قمنا بهذا الأمر وهو الاستيلاء على فدك.

مفردة ابتدارا تعني بسرعة، وضعوا هذا المفهوم وهذه الفكرة في أذهان الناس لكي ينخدعوا بهذه القضية، باعتبارها طريقا لدرء الفتنة، ويزعمون ذلك بأسلوب المغالطة، فوضعوا مقدمات غير مترابطة يتوهم من يسمعها انها تنتج الصحيح، على سبيل المثال الناس يبحثون عن الأمن والاستقرار، ولا يريدون الفوضى والحرب والصدام، فيأتي الحاكم ويقول له (أنا أحقّق لكم الأمن ومنع وقوع الفتنة بالقوة والقمع، والنتيجة هي الاستبداد).

لكن بالنتيجة هذا الحاكم من خلال القمع والاستبداد ومحاربة الناس ومصادرة آراء الناس، وانتهاك حرياتهم، يصنع الفتنة والمأساة والكارثة، وهذه هي الفتنة الحقيقية، فالحاكم الذي يزعم بأنه يريد أن يخلص الناس من الفتنة بأساليب خاطئة، فانه يخلق الفتنة.

استخدام التضليل لبلوغ اليقين الزائف

فهؤلاء الذين يسلكون طريق الانحراف يقعون في دائرة الكفر والعذاب وجهنم، كما تؤكد ذلك (عليها السلام):

(فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم، أُموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، أَرَغْبَةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً، ومن يتّبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).

لأن كتاب الله تعالى هو الحكم، وهو الذي يكشف الحقيقة كونه هو الحقيقة، فلا تغالطوا فـ(عليها السلام) وضَّحت بصراحة كلّ الأمور والقواعد الحاكمة من خلال القرآن الكريم.

وهنا فإن الذي يريد أن يستخدم القرآن الكريم كوسيلة من خلال الفهم الخاص عبر المغالطات، ومن خلال محاولاته لكي يخدع الناس، فإنه بالنتيجة يكون بالضد من القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم هو الحكم والحجة، وهو الحقيقة التي من خلالها يتم إثبات الحق وذلك عند قراءته بسلامة وبصحة وبفهم ومعرفة دقيقة، نستكشف الحكم الحقيقي الذي يكون واضحا وصريحا.

حركة التاريخ تكشف الحقائق

هنا تكمن المشكلة التي يقوم بها البعض بصناعة الأوهام، من أجل التضليل والوصول إلى يقين زائف، وحقيقة مصطنعة، وهذه الأوهام تتراكم، وتستمر بالتراكم لتصبح جبالا من الأوهام التي تثقل كاهل الأمة، ومن الصعوبة التخلص من الأوهام، خصوصا الأوهام التاريخية، والأوهام الفكرية، والأوهام الفلسفية، فهي تحتاج إلى عملية إعادة بناء، وإلى وعي عميق ومعرفة جيدة، حتى يتخلص الناس من اغلال المغالطات ومن رواسخ التضليل.

وفي الآية القرآنية: (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) البقرة 9-10.

هذه الآية واضحة في عملية المغالطة وصناعة التضليل، وصناعة الأوهام. فهؤلاء الذين يصنعون الأوهام ويقومون بصناعة المغالطات، هم يريدون أن يصلوا إلى هدف معين، قد يريد أن يصل إلى سلطة أو مال، أو يريد أن يسيطر على الناس، أو يريد أن يبيّن نفسه بأنه في قمة العلم، وإن قوله صحيح وسليم، ولكن مهما فعل هذا الإنسان فهو يخدع نفسه، فالمغالط إنما يخدع نفسه، حيث يوجد في داخله هذا المركب الواهم، فيكون هو واهم وبنيته التفكيرية تختلق الوهم وتصطنع المزيد منه، ولكنهم (يخدعون أنفسهم وما يشعرون).

يتصور أنه من خلال استعماله للمغالطة سوف يخدع الناس، ولكنه سينكشف، لأن التاريخ يكشف الحقائق والتضليلات التي يقوم بها البعض ويفضح مغالطاتهم الزائفة، في حين يتصور صاحب المغالطات أن زيفه لا ينكشف.

الهلوسات والأوهام تتوالد

(في قلوبهم مرض)، وهو الشك والريب، فالإنسان الذي لا يوجد في داخله يقين حقيقي ولا إيمان بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمن بوجود الله تعالى ولا بوجود الثواب والعقاب، ويقين بشكر الله تعالى، فإن هذا الإنسان مريض، أو مصاب بمرض نفسي، ويبقى مرضه يخلق له الأوهام باستمرار.

لابد أنكم لاحظتم أن المريض النفسي الذي توجد لديه هلوسة، وهذه الهلوسات الموجودة عند المريض نفسيا تجعله يتصور دائما بأنه عظيم وكبير، وهو شخصية كبيرة، أو يتصور بأن الناس جميعا أعداءه، فهلوسات الإنسان المريض نفسيا تكون هلوساته مستمرة، هلوسة تأتي بهلوسة، وهم يأتي بوهم.

لذا فإن من يعيش مرض الشك والريب والمغالطة قد تجده مصابا بمرض نفسي، ويزداد مرضه، فالمقصود من قوله تعالى (فزادهم الله مرضا)، أن هذه التركيبة التي تنتج بسبب الإنسان لأنه لا يبدأ بمعرفة حقيقية، ولا يفسر الأمور بصورة صحيحة، فإن هذا الإنسان يزداد جهلا تضليلا وتتراكم أوهامه.

فزادهم الله مرضا، وهذه قاعدة في الحياة، بالنتيجة تؤدي هذه الأمراض والأوهام إلى عذاب أليم، (بما كانوا يكذبون) فالكذب خلاف الواقع، والإنسان لا يصل إلى الواقع عبر الكذب ويبقى معاناة الشك، والذي يصل بالإنسان إلى الواقع هو الصدق، فالإنسان لابد أن يكون على يقين في نفسه وفي ذاته حتى يكون صادقا ويصل إلى الواقع الحقيقي وإلى بر الأمان والاطمئنان.

وإلا فإن المغالطة والكذب والتضليل هو مرض يزداد مع مرور الزمن ويجعل الإنسان يعيش في عالم الأوهام، ويزداد هذا المرض إذا لم يقف الإنسان أمامه ويوقفه عند حده.

من مظاهر عالم الأوهام.. التعميم

من النقاط التي نلاحظها في عالم الأوهام، تكمن في بعض السلوكيات التي نلاحظها، ومنها:

التعميم: فإذا قابل أحدهم شخصا أو عدة أشخاص ينتمون إلى منطقة معينة، وكان سلوكهم غير صحيح، فسوف يحدث عنده تفكير وهمي، ويعمم ذلك على الجميع، وليس بصحيح أن يعمم سوء سلوك القلة على الجميع سواء كانوا يسكنون منطقة أو مدينة أو بلدا ما.

وهو من أخطاء الإنسان التي يقع في فخ المغالطة، يعني يضع قاعدة فيقول أن ذلك البلد الفلاني أناسه لصوص، وكل لص سيّئ، لذا فإن أناس ذلك البلد سيّئون، هذا هو التركيب الذي يستخدمه في عملية القياس غير المنطقي، وهو قياس خاطئ، بالنتيجة فهو يستقرئ عن طائفة معينة أو مهنة معينة، بأن هؤلاء فاسدين وهؤلاء سيّئين، لكن هذا الاستنتاج هو نتيجة جزئية يعممها ويجعلها كلية، فإن (الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا) بحسب علم المنطق.

التعميم يمنع من إدراك الحقائق

إن هذا التعميم هو وهم وسوء ظن، لذا لابد أن ينتبه الإنسان ويتجنب التعميم، كونهُ يعدّ مشكلة كبيرة عند كثير من الناس، لأن هذا التعميم يجعل الإنسان لا يدرك الحقائق ولا يفهمها، ولا يصل الى النتائج الصحيحة في عملية المعرفة، لأن المعرفة دقيقة جدا، وتحتاج إلى قواعد وأسس صحيحة ولابد للإنسان أن يكون دقيقا، يعرف السبب، يعرف المسبّب، ويكفّ عن التعميمات المطلقة التي يطلقها كما يشاء.

هناك بعض الناس وبعض السلوكيات تعد من أسباب التخلف الذي تعيشه مجتمعاتنا، وهذا التخلف تقف وراؤه المغالطات التي تنتج من تعميمات غير صحيحة، أو تعميمات يمكن أن نسمّيها (تعميمات مرسلة) يطلقها الإنسان دونما تفكير، لذلك فهي بالنتيجة تؤدي إلى مشكلات بين الناس، سواء في السوق، أو في العمل، أو في المدرسة، وفي الدوائر الرسمية وغير الرسمية، وفي المؤسسات.

فالتعميمات أسلوب أو سلوك خاطئ لابد للإنسان أن يدرك ويفهم أسلوب المعرفة، ويفهم طريقة وأسلوب التعامل مع الآخرين، حتى لا يقع في تعميمات تؤدي به إلى نزاعات أو مشاكل مع الآخرين، أو تدفع به لاتخاذ قرارات غير صحيحة.

التعميم يؤدي إلى اتخاذ قرار غير صحيح وغير سليم في حياتنا، لذلك لابد أن نفهم الأمور ويكون لدينا وعي وإدراك في عملية فهم حياتنا وتاريخنا وعقائدنا من خلال منهج الأسباب والمسبّبات والأساليب العلمية في المعرفة، وعدم الوقوع في المغالطات، وسوف نستكمل المغالطات وأنواعها في مقالنا القادم.

2023/01/31

من المسؤول عن تجديد المناهج العلمية في الحوزة؟
من المسؤول عن فحص وتقييم المناهج العلمية في الحوزة العلمية والنظر في تجديدها مع الوقت؟

الحوزة العلمية هي مسمى عام تندرج تحته جميع المدارس المختصة بتدريس معارف وعلوم أهل البيت عليهم السلام، فهي ليست مؤسسة واحدة تخضع لإدارة واحدة، وإنما هي مجموعة من المؤسسات تخضع كل واحدة منها لإشراف مجموعة من العلماء.

ومع أن الحوزات جميعها تشترك في المواد الدراسية والمراحل التعليمية إلا أنها قد تتباين في اختيار الكتب الدراسية، فمثلاً مادة الأصول في مرحلة المقدمات تختار بعض الحوزات كتاب معالم الأصول لنجل الشهيد الثاني، والبعض الاخر يختار كتاب دروس في علم الأصول للشهيد الصدر، وهكذا يمكن لكل حوزة أن تختار الكتاب المناسب من بين عشرات الكتب التي تصلح في مرحلة المقدمات، أما في مرحلة السطوح العالي فهناك بعض الكتب التي حازت على رضا العلماء ومنز فترة طويلة مثل كتاب فرائد الأصول للشيخ الانصاري، وكفاية الأصول للشيخ الأخوند الخرساني، وفي الفقه كتاب المكاسب للشيخ الانصاري بأقسامه الثلاثة؛ المكاسب المحرمة، والبيع، والخيارات.

وعليه فإن الحوزات لها أعرافها الخاصة التي اكتسبتها بحكم التجربة وتراكم الخبرات، فمثلاً ليس في الحوزات شهادات كما هو الحال في الجامعات، وليس فيها فصول دراسية يتنقل فيها الطالب من فصل إلى فصل آخر، وإنما هناك مراحل علمية يجتازها الطالب تحت الاشراف المباشر للمشايخ والعلماء، وكذلك ليس هناك جهة محددة هي المسؤولة عن فحص المناهج وتقييمها، وإنما العرف العام للحوزات هو الذي يضع الضوابط العامة للمناهج والمواد الدراسية، فالعلم هو القيمة المحورية التي تحكم مسار الحوزات، والكتاب الذي يفرض نفسه بين العلماء هو الذي يكون عليه مدار البحث والتدريس، ففي الفقه والأصول مازالت كتب بعينها متصدرة المشهد الدراسي، وقد يستمر ذلك الحال إلى حين ظهور كتب جديدة تجذب نظر العلماء وتصبح مدار بحثهم واهتمامهم، ولا يعني ذلك أن الحوزة المعاصرة لم تنتج كتباً تستحق التدريس وإنما عرف الحوزة يفرض على الكتاب وقت طويل حتى يصبح مدار البحث والتدريس، وفي المحصلة ليس هناك جهة محددة توصي بتدريس كتاب معين وإنما الكتاب الذي تثبت جدارته وهو الذي يفرض نفسه على جميع الحوزات. 

أما في مرحلة البحث الخارج فإن الطالب يدرس على يد مجتهد، وفي هذه المرحلة لا يعتمد الأستاذ كتاب محدد وإنما يكون الدرس خارج الكتب، ولذلك سميت بمرحلة البحث الخارج، وهي المرحلة التي يتأهل فيها الطالب للاجتهاد فلا تكون آراء العلماء أو ما في الكتب سقفاً لا يمكن تجاوزه، وإنما من حق الطالب المناقشة وابداء الرأي تحت إشراف المجتهد.

2023/01/28

هل الأديان سبب النزاعات والحروب في العالم؟
يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء، فالتاريخ شهد الكثير من الحروب الدينية، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.

وإزاء هذا القول لا بدّ من الانتباه إلى ما يلي:

أولا: أنّ الاختلافات لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما شاهدنا صراعا بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.

ثانيا: إنّ الدين ـ أو تأثيره ـ قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوة واتساعا وانتشرت في مختلف أرجاء العالم. فهل أن الدين هو السبب، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية، وفي أيّام اخرى بقوالب ومسمّيات أخرى؟! وعليه فالدين لا ذنب له في هذا، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.

ثالثا: إنّ الأديان السماوية ـ وعلى الأخصّ الإسلام ـ التي تكافح العنصرية والقومية، كانت سببا في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل، وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين، كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.

رابعا: أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على الظالمين والمستغلّين، من أمثال فرعون والنمرود. إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهادا في سبيل تحرير الإنسان، ليست عيوبا تلصق بالأديان، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها، إنّ حروب رسول الإسلام صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة، ومع قيصر وكسرى من جهة أخرى، كانت كلّها من هذا القبيل.

*مقتطف من تفسير الأمثل ج 2
2023/01/22

كيف واجه الإسلام ظاهرة ’الرق’؟!
جاء الاسلام وظاهرة الرق متجذِّرة عند عموم المجتمعات الإنسانية، فلم تكن هذه الظاهرة مختصَّة بالمجتمع العربي بل هي في المجتمعات المتحضِّرة آنذاك كالفرس والرومان أكثر شيوعاً.

فكانت العبيد والإماء تُعدُّ من نفائس الأموال إنْ لم تكن هي الأنفس على الإطلاق، ولذلك اعتبر الإسلام عتقَ العبد وتحريره من أعظم القُربات وهو ما يُعبر عن أنَّ العبد في المجتمعات الجاهليَّة كان من الأموال الباهظة الثمن التي يشقُّ على مَن يملكها التخلِّي عنها دون مقابل ويشقُّ على مَن لا يملكُها ابتياعها لغرض العِتق لها.

ولو فرَضَ الإسلام على الناس تحرير ما يملكونه من عبيدٍ وإماء لما كان مثل هذا الفرض من الفروض القابلة للإمتثال نظراً لما يترتَّب على هذا الفرض من مشقَّةٍ بالغة بل ولكان مثل هذا الفرض سبباً للحيلولة دون القبول بالإسلام عند الكثير من الناس، لأنَّ إلغاء ظاهرة الرقِّ بالنسبة لهم يُساوق الإلغاء أو التفريط بمصالحِهم الحيويَّة كالتجارة والزراعة والعمران، فالعبيد كانوا عصَب الحياة في مختلف المجتمعات، على أنَّ الإلغاء لظاهرة الرق يُساوق بنظرهم التخلِّي عن القوة والمنعة وهم أحرص شيءٍ عليها، لأنَّ المجتمعات القبليَّة بل والمجتمعات المتحضِّرة كانت تستطيل بعبيدها وتمتنع بهم، فهم كانوا مادَّة الحرب ووقودها، وبهم كانوا يستكثرون وهم مَن كان يسوس لهم دوابَّهم ومصالحهم وبأيديهم يتمُّ تصنيع السلاح والعتاد، وعلى كواهلهم تُشيَّد الحصون والقلاع.

فلا يسعُ النبيُّ الكريم (ص) الإلغاء لظاهرة الرق مالم يُمهِّد لذلك من خلال التغيير الجذري لنمط حياتهم، ومن خلال التعميق لقيم الإسلام في قلوبِهم بما يُفضي إلى الإيمان الوثيق عندهم بحرية الإنسان أيَّاً كان عِرقه وجنسه، وانَّ الناس سواسية كأسنان المشط وأنَّهم جميعاً ينحدرون من سلالةٍ واحدة، فهم جميعاً لآدم، وآدمُ من تراب، وأنَّه لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى وأنَّ الحسب والنسب والجاه والثروة والقوَّة والكثرة وغيرها من اعتبارات التفاضل عندهم ليست سوى وهمٍ وسراب في المنظور الإسلامي، وأن الإنسان "إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"(1)، وأن كلَّ إنسانٍ يُولد حراً ليس لأحدٍ عليه سبيل "متى تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتُهم أحرارا"(2) هذه القيم وشبهها يلزم تأصيلُها أولاً قبل الحكم بإلغاء مثل ظاهرة الرقِّ، فحينذاك يكون الحكم بالإلغاء مفضياً لاستئصال هذه الظاهرة.

وليست هذه الظاهرة وحدها التي عمل الإسلام على استئصالها تدريجاً، فالكثير من الظواهر الاجتماعية السائدة في العصر الجاهلي عمل الإسلام على استئصالها أو تذويبها أو تهذيبها بنحو التدرُّج، وذلك من خلال التغيير الممنهج لمنظومة القيم، ومن خلال الاستحداث لأنماط اجتماعية جديدة تتناغم مع القيم التي دأب على تأصيلها والتي تُفضي في المحصلة إلى تذويب الظواهر السيئة التي كانت سائدة بنحو لا ينشأ عنه اختلالٌ في نظام الحياة ولا استيحاشٌ يحول دون القبول بالدين.

فكان المجتمع مثلاً عشائرياً، كلُّ مائتين أو كلُّ ألفٍ أو ألفين من الناس يشكلون مجتمعاً مستقلاً لا شأن له بالعشائر الأخرى إلا بما يحفظ مصالحَه الخاصَّة والضيقة، وكثيراً ما تقتضي مصالحهم المنابذة والحرب والسلب ثم لم ينتبهوا إلا وهم مجتمعٌ واحد يمتدُّ بامتداد الجزيرة العربيَّة المترامية الأطراف وقد ذابت بهدوء في هذا المجتمع الكبير كلُّ الحواجز القبليَّة والطبقية وأصبحت مصالحهم واحدة ومتشابكة بعد ان تأصَّلت فيهم قيمٌ مشتركة، فبعد أن كانوا أشتاتاً متناحرين صاروا إلى نمطٍ من الحياة مبايناً لما كانوا عليه فأصبحوا تحت زعامةٍ واحدة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمَّى، فقد تحطَّمت بفعل الإسلام وحكمتِه البالغة كل ُّالحدود الجغرافيَّة والقبليَّة والطبقيَّة بعد أنْ وحَّدهم على ثقافةٍ واحدة وجذَّر فيهم قيماً تفضي بطبيعتها إلى هذه الغاية التي كانت مرسومة والتي لم يكن الإسلام بحاجةٍ إلى الإعلان عنها أكثر من حاجته إلى الدفع نحوها بخطىً ثابتة ومتأنية.

وكذلك هو الشأن في ظاهرة الرقِّ فإنَّ قيَم الإسلام وخطاباته وتشريعاته تُفضي في منتهى المطاف -لو رُوعيت- إلى ذوبان هذه الظاهرة إلا أنَّ حالة التراجع التي مُنيَ بها المسلمون لسوء اختيارهم أدَّت إلى أنْ العديد من الظواهر الاجتماعية السيئة التي عمل الإسلام على تذويبها بقيت ماثلة أو عادت كما كانت بعد أنْ انتابها الضمور والانحسار.

فمنظومة القيم التي أصَّل لها الإسلام، ونمطُ الحياة الاجتماعية التي أسَّس لها كان وحدهما كفلين في تذويب ظاهرة الرِقِّ إلى مستوى المحو لهذه الظاهرة وإلغائها من الوجود إلا أنَّ الإسلام لم يكتف بذلك بل وضع عدداً من التشريعات لو رُوعيت لساهمت في التسريع بعملية التذويب لهذه الظاهرة.

فمن التشريعات التي وضعها لذلك انَّه ألغى جميع الوسائل التي بها يتمُّ الاسترقاق قبل الإسلام إلا ما كان في الحروب التي تقعُ بين المسلمين وخصوص الكفار، فمن تمَّ أسره أو إثباته والحرب قائمة قبل أنْ يُسلم فهو رِقٌّ.

وإبقاء هذه الوسيلة مشروعة إنَّما كان لغرض النكاية بالأعداء المحاربين، فهم يعتمدون ذات الوسيلة، إذ انَّ مَن يأسرونه من المسلمين أو يُثبتونه فإنَّهم يسترقُّونه، فكان لا بدَّ من مجازاتهم بجنس صنيعهم.

وبإلغاء الإسلام لوسائل الاسترقاق التي كانت سائدةً في العصر الجاهلي انحسرت هذه الظاهرة إلى حدٍّ كبير في المجتمع الإسلامي، إذ انَّ كثرة الرقيق كان منشؤها النهب والسلب وقطع الطريق والغارات والحروب البينية التي كانت تقع بين القبائل، والمقامرة والاحتيال والغرامات والجنايات والرهن، وكل هذه الوسائل وشبهها أصبحت محرَّمة، وقد اعتمد الإسلام في تصفيتها -مضافاً إلى ما أسَّس له من قيم- على ما فرضه من تشريعاتٍ جنائية تُجرِّم كلَّ مَن اعتمد هذه الوسائل، ووضع تشريعاتٍ لفصل الخصومات ليس منها الاسترقاق وإنَّما كانت من قبيل الديات والغرامات والقصاص والحدود والتعزيرات، وكذلك فإنَّه اعتمد اسلوب النَظْم بالقوة لكلِّ مَن تجاوز هذه التشريعات.

ومن التشريعات التي وضعها لتذويب ظاهرة الرق انَّ كل حرٍّ أولد أمةً فإنَّ هذه الأمة تُسمى أمُّ ولد، فيحرم بيعها وهبتها ثم إذا مات سيدها فإنَّ هذه الأمة تنعتق بنصيب ولدها قهراً.

ومن التشريعات أنَّ كلَّ رجلٍ يملك عبداً أو أمةً فينكِّل به أو بها فإنَّه ينعتق عليه قهراً، وكذلك ينعتق العبد قهراً لو أصابه العمى أو الجذام أو صار مقعداً.

ومن التشريعات في ذلك انَّ كلَّ ولد حرٍّ يُصبح مالكاً بميراثٍ أو غيره لأبيه العبد وإن علا أو امِّه الأمة وإنْ علت فإنَّه ينعتق عليه قهراً، وكذلك ينعتق عليه قهراً كل أولاده ذكورا وإناثا وإن نزلوا، وكذلك جميع محارمه من جهة النسب، وينعتق على المرأة كلا العمودين من الآباء والأمهات إذا ملكت أحدهم بميراث أو غيره.

ومن التشريعات في ذلك انَّ مَن قتل مؤمناً خطأ لزمه مضافاً لدفع الدية إلى أهله أن يُعتق عبداً أو أمةً مؤمنة، وكذلك مَن قتل كافراً بينه وبين المسلمين ميثاق كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(3).

ومن التشريعات في ذلك انَّ مَن ظاهر زوجته فلا يُباح له معاشرتها قبل أنْ يُحرِّر عبداً، فإنْ كان له عبدٌ حرَّره وإلا لزمه شراء عبدٍ وتحريره كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(4).

ومن التشريعات في ذلك أنَّ من أفطر في نهار شهر رمضان على محرم لزمه مضافاً إلى صيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً أن يعتق رقبة مؤمنة كما هو مذهب جمع من الفقهاء، ومن أفطر على محلَّل لزمته إجماعاً إحدى خصال الكفارة والتي منها تحرير رقبةٍ مؤمنة.

ومَن نذر لله تعالى ثم حنث في نذره أو عاهد الله تعالى ثم حنث في عهده لزمته إحدى خصال الكفارة والتي منها تحرير رقبةٍ كما في معتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن رجلٍ عاهد الله في غير معصية ما عليه إنْ لم يفِ بعهده؟ قال: "يُعتق رقبة أو يتصدَّق بصدقةٍ أو يصوم شهرين متتابعين"(5).

وكذلك يجب بنظر المشهور على المرأة التكفير بإحدى خصال الكفارة والتي منها العتق لرقبة إذا جزَّت شعرها أو خدشت وجهها في المصيبة أو شقَّ الرجل ثوبه إذا فقَدَ ولده أو زوجته. كما في رواية خالد بن سدير أخي حنان بن سدير قال: سألتُ أبا عبد الله (ع): "... وإذا شقَّ زوجٌ على امرأته أو والدٌ على ولده فكفارته حنث يمين، ولا صلاة لهما حتى يكفِّرا أو يتوبا من ذلك، فإذا خدشت المرأة وجهها أو جزَّت شعرها أو نتفته ففي جزِّ الشعر عتقُ رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، وفي الخدش إذ أدميت وفي النتف كفارة حنث يمين.."(6).

ومن التشريعات التي وضعها الشارع في ذلك انَّه جعل التحرير للعبيد أو المساهمة في تحريرهم أحد مصارف الزكاة كما هو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(7)، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ انَّ عتق الرقاب "العبيد" أحد مصارف الزكاة.

وكذلك فإنَّ الشارع حثَّ على قبول المالك بمكاتبة العبد وهو أنْ يأذن له في أنْ يسعى في تحرير نفسه، فيتوافق معه على مقدارٍ من المال فيسعى العبد في تحصيل ذلك المال بالكسب والاستعانة بالمؤمنين والزكوات قال تعالى: ﴿.. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ﴾(8).

هذا مضافاً إلى الآيات والروايات التي تفوق حد التواتر والتي حثَّت على الإعتاق للعبيد واعتبرته من أعظم القربات لله جل وعلا، فمن الآيات قوله تعالى: ﴿.. وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(9)، فالآية المباركة اعتبرت الإعتاق للرقاب من من البر وجعلته في سياق الإيمان بالله تعالى وإقامة الصلاة والإيتاء للزكاة.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ / فَكُّ رَقَبَةٍ / أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾(10) ومفاد الآية انَّ فكَّ الرقبة من العبودية أحد أسباب النجاة من النار يوم القيامة.

وأما الروايات فمنها معتبرة زرارة عن أبي جعفر (ع)، قال: قال رسول الله (ص): "من أعتق مسلماً أعتق الله العزيز الجبَّار بكلِّ عضوٍ منه عضواً من النار"(11).

ومنها: معتبرة حفص بن البختري عن أبي عبد الله جعفر ابن محمد (ع) أنَّه قال في الرجل يعتق المملوك قال: "يعتق الله عزَّ وجل بكلِّ عضوٍ منه عضواً من النار"(12).

ومنها: معتبرة أبي أسامة زيد الشحام عن أبي عبد الله (ع): "انَّ أمير المؤمنين (ع) أعتق ألف مملوك من كدِّ يده"(13).

فمثل هذه التشريعات وكذلك القيم التي أصَّل لها الإسلام والتي تُشدد على حرمة كلِّ بني الإنسان على اختلاف أعراقهم وانَّه لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى وان الحرية حقٌّ أصيل لكلِّ مولود أيَّاً كان جنسه وعِرقه لا سبيل لأحدٍ عليه كما أفاد ذلك أمير المؤمنين (ع): "متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا"(14).

هذا مضافاً إلى النظام الإجتماعي والسياسي الذي أسَّس له الإسلام والذي يفضي بمقتضى طبيعته إلى عدم ترتُّب أيِّ محذور من إلغاء ظاهرة الرق.

كلُّ ذلك لو تمَّت رعايته لأفضى إلى اضمحلال ظاهرة الرق في زمنٍ قصير من تاريخ الإسلام إلا انَّ جشع الحكام اللذين هيمنوا ظلماً على مقدرات المسلمين وسوء إدارتهم وجهلهم بمقاصد الشريعة أدَّى إلى امتداد هذه الظاهرة المقيتة إلى وقتٍ متأخر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىِّ العظيم.

 الهوامش: 1- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج33 / ص600. 2- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج11 / ص98. 3- سورة النساء / 92. 4- سورة المجادلة / 3. 5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج22 / ص395. 6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج22 / ص402. 7- سورة التوبة / 60. 8- سورة النور / 33. 9- سورة البقرة / 177. 10- سورة البلد / 11-14. 11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج23 / ص9. 12- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج23 / ص9. 13- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص74. 14- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج11 / ص98.
2023/01/21

من تجربة فرنسا: الدين والمدنية اشتراك في الأصول!
تناغماً مع المنحى الذي سلكه محمد فريد وجدي في كتابه (المدنية والإسلام)، وتواصلاً معه في الدفاع عن العلاقة بين الدين والمدنية، جاء موقف مصطفى الغلاييني في لبنان، الذي شرحه في كتابه (الإسلام روح المدنية) الصادر سنة 1908م، ورجع له مرة أخرى في مقالة له بعنوان (الدين والمدنية) نشرها سنة 1910م في مجلة النبراس التي أصدرها في بيروت.

وينطلق الغلاييني في موقفه من الإشكاليات التي أثيرت في عصره من الأوروبيين مثل اللورد كرومر المندوب البريطاني في مصر، ومن المقلدين لهم حسب قول الغلاييني، وتطرق إلى هذه الإشكاليات في معرض الرد عليها.

من هذه الإشكاليات التي جاءت على لسان كرومر في كتابه (مصر الحديثة)، وأشار إليها الغلاييني في كتابه (الإسلام روح المنية)، قوله: إن الإسلام دين مناف للمدنية، ولم يكن صالحاً إلا للبيئة والزمان اللذين وجد فيهما، وإن المسلمين لا يمكنهم أن يرقوا في سلم الحضارة والتمدن إلا بعد أن يتركوا دينهم وينبذوا القرآن وأوامره ظهرياً، لأنه يأمرهم بالخمول والتعصب، ويبث فيهم روح البغض لمن يخالفهم والشقاق وحب الانتقام، ولأنه أتى بما يناقض مدنية هذا العصر في موقفه من المرأة والرقيق.

وعلى لسان المقلدين لهم، أشار الغلاييني إلى قول هؤلاء أن الدين والمدنية ضدان، وإن من تمسك بأصول الدين فقد بعد عن التمدن، لأن الدين عقبة في سبيل ترقي الأمم، فأية أمة تريد النهوض إلى المجد والارتفاع إلى العلى فعليها ترك الدين السماوي والتمسك بدين المدنية الحديثة، وأقرب دليل هي فرنسا، تلك الدولة التي لم تبلغ ما بلغته إلا بعد أن نبذت الدين ظهرياً ونفت رجاله من بلادها.

وأمام هذه الإشكاليات ورداً عليها، طرح الغلاييني جملة من الأفكار والتصورات التي تشرح طبيعة موقفه في العلاقة بين الدين والمدنية، ومن أبرز هذه الأفكار والتصورات، مايلي:

أولاً: إن أصول الدين ومبادئه السامية هي أصول المدنية الصحيحة ومصادرها العذبة، فما من تقدم يرى، ولا من تمدن يشاهد إلا وترى لهما آثاراً في الأصول الدينية، يعرفها من يعرفها، ويجهلها من يجهلها.

ثانياً: لنفرض أن الدين لا يأمر بشيء من المدنية، فهل فيه ما يخالفها ويناقضها؟ إن جواب من عرف الدين الإسلامي حقيقة هو بطبيعة الحال: كلا. أما القول إن فرنسا ترقت بعد أن تركت الدين الذي كان حاجزاً دون ترقيها، فليس عليه أثارة من العلم والنقد الصحيح. إذ هذه إنكلترا متدينة، وهذه ألمانيا متدينة، فهل هما متأخرتان أم هما قد بلغتا أشواطاً من التقدم والرقي لم تبلغها فرنسا، تلك الدولة التي لا دين لها؟ وإن كان ترك الدين هو السبب الوحيد للترقي، فلم نر فرنسا متأخرة عن الدول المتدينة.

ثالثاً: إن الإسلام دين يرافق العقل جنباً إلى جنب، ويمشي مع المدنية في طريق واحدة، ويصافح الإنسانية يداً بيد. فهو من ناحية قد رفع منار الحقيقة على ذروة لا تنال، ومن ناحية ثانية قد نهض بالإنسانية وأقام بناءها على أساس من العدل والمساواة والأخلاق والتربية والسياسة المثلى، مما يصلح لكل زمان ومكان وكل أمة. ولقد خلص هذا الدين الإنسانية من عقيدة الشرك وتكثير الأرباب، وأزال عنها برقع الخرافات المضللة، وكسر عن عقول البشر قيود الأوهام، ونجاهم من فساد الأخلاق.

رابعاً: إن أوروبا تدين برقيها وتمدنها لما اكتسبته من تآليف علماء الإسلام وآرائهم، التي اقتبسها الأوروبيون بعد الحروب الصليبية، فأفادوا مما فيها من علوم وفنون واكتشافات وتجارب، أصلحوا بعض ما فيها من الخطأ، وطوروا باقيها على نحو ولد المدنية الحديثة.

خامساً: إن الطابع التمديني في الإسلام، يتجلى بصورة خاصة في التصور الراقي للتوحيد الإسلامي، وفي الإشارات القرآنية إلى المسائل العمرانية والكونية، وفي تأكيده لمبادئ العدل والمساواة بين الأفراد، وفي نظامه الأخلاقي والسياسي الضامن لسعادة الجماعة والفرد.

وكم نحن بحاجة اليوم لهذا الخطاب الذي يبحث عن التمدن، ويفتش عن التقدم، ويجعل من العمران مسلكا ومسارا، بدل الانشغال بالأمور التي تقسم الأمة، وتنشر الكراهية بين المسلمين، وتشجع نزعات التعصب، ويبقى السؤال متى نوقف هذا الانحدار!

2023/01/15

الغناء حرام ويد السارق تُقطع.. ألا ينافي الدين فطرة الإنسان؟!
كيف يعقل انحراف الدين عن الفطرة مثل تعارض قانون العقوبات الإسلاميّ مع مقتضيات الفطرة كقطع يد السّارق ورجم الزاني المحصن، وكذلك منافاة الفطرة لبعض الأحكام الشرعيّة مثل حرمة الغناء والرّسم وبعض الفنون ووجوب الحجاب على المرأة المنافي للحرّيّة التي هي حقّ فطريّ. ملخّص الإجابة:

التفسير الخاطئ للفطرة قد يجعل البعض يتصوّر نوعاً من التعارض بين الفطرة وبين الأحكام الشرعيّة.

بينما المقصود من الفطرة الدينيّة هي الفطرة الموجودة في الإنسان دون الحيوان، وهي الحقائق التي يجدها الإنسان في عمق وجدانه بوصفه كائناً عاقلاً ومدركاً لحكم الأشياء.

وهذا بخلاف الفطرة بمعنى الغريزية التي هي مشترك بين الإنسان والحيوان.

وما ذكره السائل من أمثلة قد يتعارض مع غريزة الإنسان الحيوانيّة ولكنّه لا يتعارض مع الفطرة الإنسانيّة، فالحدود الشرعيّة، وحرمة الغناء، ووجوب الحجاب، كلّها أحكام تستهدف الكمال الروحيّ للإنسان، وذلك من خلال تكوين بيئة طاهرة ومجتمع عفيف يسمح للإنسان بتكامله الروحيّ والمعنوي.

تفصيل الإجابة:

يبدو أنّ السائل اشتبه عليه معنى الفطرة فتصوّر وجود تعارض بينها وبين بعض الأحكام الشرعيّة.

ولرفع هذا الاشتباه لابدّ من تمييز الفطرة الدينيّة عن المعنى العامّ للفطرة.

فكلّ ما جبل عليه الإنسان يسمّى فطرةً بمعناها العام، وهي بالتالي تشمل كلّ ما يميّز الإنسان في بعده التكوينيّ.

فالإنسان ككينونة واحدة عند جميع البشر يمتاز بخصائص روحيّة تميّزه عن بقيّة المخلوقات.

فوعيه لوجوده وتعقّله لبقيّة المخلوقات وتحرّكه في إطار الغاية والحكمة يجعل منه مخلوقاً ذو تطلّعات تتجاوز البعد المادّيّ والغريزي.

وبذلك يكتسب الإنسان نوعاً خاصّاً من الفطرة مضافاً للفطرة الغريزيّة التي تشاركه فيها بقيّة الحيوانات.

وهنا تبرز أهميّة الدين بوصفه الخطاب الذي يحرّك الإنسان نحو تحقيق تلك التطلّعات الروحيّة. 

ولكي نميّز بين الفطرة بمعناها العامّ وبين الفطرة الدينيّة لابدّ أن نميّز بين الدوافع المادّيّة والغريزيّة، وبين الدوافع الروحيّة والمعنويّة.

وهذا ما لم يلتفت إليه السائل حيث استخدم الغريزة والفطرة بمعنىً واحد!

فالإنسان بوصفه مركّباً من روح وجسد له نوعان من الحاجات، مادّيّة تلبّي حاجة الجسد، ومعنويّة تلبّي حاجة الروح، والفطرة بمعنى الخلق والتكوين تشمل كلا الحاجتين.

إلّا أنّ الفطرة الدينيّة مرتبطة بالحاجات الروحيّة دون المادّيّة.

فالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وغيرها تسمّى غرائز.

أمّا حاجة الإنسان إلى الكمال وتعلّقه بالقيم والأخلاق وسعيه نحو السعادة له علاقة بالحاجات الروحيّة وهي ما نطلق عليه الفطرة الدينيّة.

وما يميّز الحاجات الروحيّة أو الفطريّة، عن الحاجات المادّيّة أو الغريزيّة، هو أنّ حاجات الفطرة لا تعرف الحدّ والشبع بخلاف حاجات الغرائز.

فمهما كانت حاجة الإنسان للطعام والشراب وغير ذلك فإنّ مقداراً قليلاً منها يكفيه.

بينما تطلّعه الروحيّ والمعنويّ ليس له حدّ يقف عنده، وبهذا، يمكننا تفسير حالة التجاوز والارتقاء والتسامي الموجودة عند البشر، وإلّا لماذا ينزع البشر إلى مثل أعلى؟، ولماذا يهوى المقدّس والمتعالي؟، ولماذا يتجاوز ذاته للوصول إلى ما هو أعلى؟، وما الذي يجعل التاريخ البشريّ في تطوّر دائم نحو ما هو أفضل؟ فالحالة الوجدانيّة التي تشعر بضرورة التكامل وبوجود المتعالي، لهي أقرب دليل على فطرة الإنسان وتطلّعه الرّوحي.

وإذا انطلقنا من التمييز السابق سيتّضح معنى التطابق بين الدين والفطرة؛ وذلك لأنّ الدين ليس شيئاً آخر غير دعوة الإنسان لتحقيق تطلّعاته الروحيّة، فالإنسان متديّن بطبيعته الروحيّة التي تعشق القيم وتتطلّع للكمال، فكلّ أمر يحكم به الشرع يحكم به العقل الفطريّ بالضرورة، والعكس بالعكس.

ولا سبيل لإشباع تلك الفطرة وتحقيق ذلك التطلّع غير اتّصال الإنسان بالغيب، فمن دون الإيمان بالله مصدر الكمال والجمال لا يكون ذلك التطلّع مفهوماً.

وهذا ما صرّح به أئمّة أهل البيت بقولهم (أوّل الدين معرفته) فمن دون تلك المعرفة لا يجد الإنسان سبيلاً لكماله.

وبذلك يمكننا أن نؤكّد أنّ عشق الإنسان للقيم وتطلّعه للكمال نابع من الإيمان الفطريّ بالله وبأسمائه الحسنى، ومن هنا كان كمال الإنسان عن طريق الاتّصال بالله ومن ثمّ التخلّق بأخلاقه، فأعظم ما يتطلّع له الإنسان هو تجاوز الأنانيّات الضيّقة والتحوّل إلى حالة أسمى وأرفع، وذلك لا يكون إلّا بعد الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى.

ولسان الروايات صريح في كون الفطرة هي التوحيد ومعرفة الله تعالى:

فعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿فطرت الله الّتي فطر النّاس عليها﴾ قال: فطروا على التوحيد. 

وقال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: ﴿حنفاء لله غير مشركين به﴾ ما الحنيفيّة؟، قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها، فطر الله الخلق على معرفته) 

والنصوص في هذا الشأن كثيرة.

وإذا كانت معرفة الله فطريّةً فإنّ كلّ القيم التي تتجلّى من تلك المعرفة تكون فطريّةً بالضرورة؛ لأنّ مصدر كلّ القيم التي يقدّسها الإنسان ويتطلّع إليها تعود إلى أسماء الله الحسنى.

وقد أشرنا للرّابط بين القيم وبين الأسماء الحسنى في إجابات سابقة، فكلّ اسم من أسماء الله الحسنى يمثّل قيمةً فطريّةً يتطلّع الإنسان لتجسيدها.

والقرآن الكريم بما فيه من معارف وتشريعات يرتكز على الأسماء الحسنى بوصفها الأساس لعبادة الله تعالى، (وللّه الأسماء الحسنىٰ فادعوه بها).

فالدين بكلّ أحكامه الشرعيّة يستهدف تحريك الإنسان نحو العمل طبقاً لتلك القيم الفطريّة، ومن هنا لا يجوز تقييم التشريعات الإسلاميّة بمعايير المصلحة التي تفرضها الطبيعة الغرائزيّة للإنسان، وإنّما يجب تقييمها وفهمها بمعايير القيم الفطريّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الإنسان مخلوق له كرامة وقيمة، إلّا أنّ قيمته وكرامته لا تستمدّ من واقع كونه جسداً مادّيّاً، وإنّما يستمدّها من جانبه الروحي الذي يحقّق له إنسانيّته.

فالإنسان يكتسب قيمته من خلال سلوكه الاختياريّ، وهو بدوره لا يكون ذو قيمة ما لم يرتكز على قيمة معنويّة وروحيّة، ولذا لا يكتسب الإنسان قيمةً لأنّه يأكل أو يشرب أو يتزوّج، وإنّما يكتسب قيمةً إذا كان عالماً أو رحيماً أو محسناً أو كريماً أو غير ذلك من القيم الأخلاقيّة.

ومن هنا يجب أن نفرّق في مقاربتنا للأحكام الشرعيّة بين المعايير التي تفرضها طبيعتنا الغرائزيّة وبين المعايير التي تفرضها طبيعتنا الروحيّة والفطريّة.

فمثلاً:

قطع يد السارق أو حتّى سجنه يتنافى مع الدافع الغريزيّ للإنسان، لأنّ ذلك بالضّرورة يمثّل نوعاً من الحرمان والنقصان لمتطلّبات الجسد، ويبدو أنّ ذلك هو السبب الذي دفع السائل إلى القول بوجود تناف بين الفطرة وقطع يد السارق.

إلا أنّه لم يلتفت إلى أنّ قيمة الإنسان في حاجته الروحيّة قبل حاجته المادّيّة، وعند التعارض بين الحاجتين فإنّ الحاجة الروحيّة والفطريّة مقدّمة على الحاجة المادّيّة والغرائزيّة، فيجب المحافظة على الجسد إذا لم يتعارض ذلك مع المحافظة على الرّوح، أمّا في حال استحكام المعارضة فإنّه يضحّى ببعض الجسد أو كلّه في سبيل المحافظة على قيمة الإنسان كروح وكمعنى وكقيمة، وإلّا كيف نفهم تقدّم الإنسان في ساحات القتال حتّى يقتل في سبيل الدفاع عن وطنه مثلاً؟ فالإنسان من أجل الدفاع عن حرّيّته وكرامته واستقلاله يقدّم جسده فداءً لتلك القيم.

وكذلك الحال في الحدود الشرعيّة سواء كانت جلداً أو قطعاً أو قصاصاً فإنّها تستهدف الحفاظ على مجموعة من القيم الروحيّة التي يجب أن تسود في المجتمع.

وقد فصّلت مجموعة من البحوث الحكمة من تلك التشريعات.

ولم نفهم مخالفة حرمة الغناء والموسيقى للفطرة كما أشار السائل، بل هي واضحة في كونها مخالفةً للفطرة التي تنشد الكمال، فالترفيه والمرح واللهو والترف وكلّ ذلك يسير في الاتّجاه المعاكس لكمال الإنسان.

وعليه فإنّ الغناء والموسيقى وكلّ أدوات اللهو تمثّل حاجةً شهوانيّةً ترضي هوى الإنسان ولا ترضي فطرته.

أمّا الفنون الأخرى التي لم ترد نصوص بحرمتها فهي مسموح بها في الحدود التي لا تحجب الإنسان عن تطلّعاته الروحيّة والفطريّة. 

أمّا وجوب الحجاب ومخالفته للحرّيّة فقد فصّلنا في أجوبة سابقة فلسفة الحجاب وكيف يمثّل الحجاب ضرورةً فطريّةً تستهدف عفّة المجتمع وطهارته.

2023/01/15