إن الأفكار التي نمتلكها في حياتنا وتنبثق في إيماننا وتتأثر بها قلوبنا، هي التي تصنعنا، وسلوكنا عبارة عن تجسيد لها، وهذه الأفكار هي التي تصنع مشاعرنا، أو المواقف، أو القرارات التي تصدر منّا، فنحن نتربّى منذ الصغر على أفكار معينة وأنماط معينة وقوالب فكرية خاصة، عندما نتلقى التوجيهات التربوية، افعل هذا ولا تفعلْ ذاك.
هذه الأفكار التي نتربّى عليها، هي التي تصنع شخصياتنا، على سبيل المثال، إذا تعرّض شخص ما إلى نوع من الاستفزاز، وتنمّر عليه أحدهم، أو خاطبه بكلام جارح، أو استفزه بطريقة مسيئة من أجل أن يثيره، فالشخص الذي يتربى على نمط فكري معين ويشعر بأنه إذا لم يواجه هذا الشخص فسوف يقول الناس عنه بأنه ضعيف، فيواجه هذا الاستفزاز برد فعل عنيف.
ويتصادم مع الشخص الذي استفزه، ويؤدي ذلك إلى توتره وقلقه واضطرابه مما يؤثر على صحته الجسدية فيرتفع ضغط الدم وتتصاعد ضربات قلبه، وتتأزم صحته النفسية بسبب هذا الاستفزاز الذي واجهه برد فعل انفعالي، فالنمط الفكري الذي تربّى عليه هو الذي جعله يفعل هذا الشيء.
أما إذا كان ملتزم بنمط فكري آخر، كأن يقول لنفسه، إذا استفزني شخص ما سوف أبتعد عنه جانبا ولا أجيبه ولا أتكلم معه، بل أقول له سلاما، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) الفرقان 72، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) الفرقان 63.
حينئذ هذا الإنسان تكون أعصابه هادئة مستريحة، ونفسيته ومشاعره متوازنة، لا يستفزه الغضب.
ما هي البرمجة الفكرية؟
فنحن عبارة عن مجموعة أفكار نحملها منذ الصغر، وهي التي تتحكم في مواقفنا وعواطفنا، وحياتنا كلها، فالبرمجة الفكرية الموجودة لدينا أساسا، هي التي حصلنا عليها من خلال التربية الأسرية، والتنشئة الاجتماعية، ومن خلال التربية المدرسية، أو الاحتكاكات واللقاءات الاجتماعية، هذه الأمور هي التي جعلت شخصيتنا على ما هي عليه.
إن البرمجة الفكرية التي نحتاج لها دائما هي البرمجة الأساسية في عملية بناء الشخصية السويّة الصالحة، لذلك نحن نحتاج إلى أن نقرأ المفاهيم، والأفكار الواردة في حياتنا، حتى نستطيع أن نتحكم بحياتنا، وتكون لدينا قدرة وإدارة حكيمة لشخصياتنا، وقيادة حياتنا نحو المنطلق والاتجاه الصحيح، أو الطريق القويم الذي لابد أن نسير فيه.
مفهوم الحزن
لذلك من المهم جدا أن نعرف الأفكار والمفاهيم التي تتحكم بنا، ومن هذه المفاهيم، مفهوم الحزن، فكيف نعرف ونفهم الحزن، وما هو معناه، وكيف نبرمج الحزن في حياتنا؟
الحزن هو شيء حتمي موجود عند الإنسان كالفرح، علما أن الفرح والحزن نقيضان، أو ضدّان أحدهما في مقابل الآخر، فكيف نتعامل مع مفهوم الحزن في حياتنا؟
الحزن الذي هو نقيض الفرح أو نقيض السرور، هو حالة من الغمّ والكآبة التي يشعر بها الإنسان، تجاه قضية أو موقف أو نتيجة خسارة أو مصاب، وهذا الحزن يتسبب بوجود شعور بالألم في داخل الإنسان، والانزعاج وعدم الارتياح، وبالتالي عدم وجود حالة من الاطمئنان والاستقرار والفرح أو السرور. فهو كما يُقال عنه هو ألم نفسي حيث يشعر الإنسان بالعجز وعدم القدرة على تمشية حياته أو إدارتها.
الاكتئاب هو الحزن الشديد
فيُصاب بنوع من الهمّ والغمّ والأسى والكآبة، وهذا الاكتئاب الموجود والمنتشر في العالم اليوم، هو نوع من أنواع الحزن الشديد الذي يشعر به الإنسان، وهذه المشاعر عادة ما تكون سلبية، والانسان الذي يكون حزينا يكون هادئا جدا، ومنفعلا، وعاطفيا، وانطوائيا، منعزلا، ويشعر بعدم وجود فاعلية مع الحياة ومع الآخرين. ولا يشعر الإنسان بأنه يمتلك القدرة الذاتية على الحركة في حياته.
كتاب جامع السعادات للشيخ النراقي، يعرّف الحزن بأنه التحسر والتألم، لفقد محبوب، أو فوت مطلوب. وهو أيضا، كالاعتراض والانكار، ومترتب على الكراهة للمقدرات الإلهية. ويقول: إن سبب الحزن شدة الرغبة بالمشتهيات المادية، والميل إلى مقتضيات الشهوة وتوقع البقاء للأمور المادية.
وبعبارة ملخَّصة الإنسان الذي لديه توقّعات مادية في حياته، وهي أساس وسبب ومحور الحزن، فارتباط الإنسان بهذه التوقعات يجعله بالنتيجة حزينا باستمرار، لأنه يتوقع بقاء هذه المكاسب المادية، ويتوقع الحصول على المزيد منها.
القرآن يساعدنا على فهم الحياة
من المهم جدا أن نتبصر ونتدبر ونتأمل في الآيات القرآنية ونقرأها قراءة دقيقة، لأنها تعطينا طريقا لفهم الحياة، فالقرآن يناقش مشاعرنا وعوطفنا حيث يعطينا القدرة على التعامل معها، وقد تطرق القرآن كثيرا للحزن، ولماذا يحزن الإنسان، فيقول تعالى:
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) {يونس/64}.
لقد بحثت عن هذه العبارة (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، ووجدتها في 12 اثنتي عشر آية قرآنية، ويمكن ان يكون أكثر من ذلك، فهناك تأكيد على هذه القضية، وهناك آيات تتضمن نفس المعنى، ويعني ذلك ان الخوف والحزن امران سلبيان في الإنسان، الا أولياء الله، المؤمنون، المتّقون هؤلاء لا خوف ولا حزن عليهم، بل لهم البشرى والفوز.
وفي التفاسير فإن (فلا تحزنوا)، معناه ليس ذلك بنهي عن تحصيل الحزن، فالحزن ليس يحصل بالاختيار، ولكن النهي بالحقيقة إنما هو عن تعاطي ما يورث الحزن واكتسابه، وإلى معنى ذلك أشار الشاعر بقوله:
من سرّه أن لا يرى ما يسوءه... فلا يتخذ شيئا يبالي له فقدا
فالحزن شيء طبيعي عند الإنسان، فهو من ضمن المشاعر، الحب، الحزن، الفرح، هذه مشاعر موجودة عند الإنسان، ولكن الإنسان هو الذي يختار الحزن في حياته، عندما تكون أفكاره ومشاعره مرتبطة او متعلقة بأشياء خارجية.
التعلق بالماديات وصناعة الحزن الشديد
على سبيل المثال، أحدهم يشتري مزهرية ثمينة غالية الثمن، يضعها في البيت لجمالها ويعتز بها، لكن أحد أطفاله الصغار يحطم المزهرية، فنلاحظ أن صاحب أو صاحبة المزهرية تشعر بحزن شديد، وتقوم بمعاقبة الطفل، فهذا التعلق بالماديات يجعل الإنسان يشعر بالحزن لفقدان أبسط الأشياء وليس اثمنها فحسب.
مثلا بعض الأشياء التي تضيع من الإنسان، أو يفقدها، أو يخسرها، فتراه يتحسّر دائما ويندم، وهذا التحسّر والندم هو بالدرجة الأولى من شيمة الذين لم يقدموا العمل الصالح في الدنيا، وتكون حسرتهم في الدنيا والآخرة. وحتى المؤمنون يتحسرون في الآخرة على الأشياء التي لم يفعلوها.
فهذه الحسرة الموجودة عند الإنسان وتعلقه بالأمور المادية، هو الذي يجعله حزينا، لذلك فإن الإنسان المدني المعاصر ويسميه البعض، الإنسان التكنولوجي أو الرقمي، وجيل الملينيوم وجيل زد وجيل ألفا، أصبح أكثر حزنا من الأجيال السابقة.
ويمكن ملاحظة ذلك عند الدخول إلى شبكات التواصل الاجتماعي، بعد فترة يسود شعور بالحزن والكآبة، وهذا يدل على أن الحزن أصبح متلازما مع طبيعة الحياة المعاصرة، وأصبح سمة راسخة في دواخل الانسان الرقمي، فالحياة المادية أصبحت معقدة جدا، ففي السابق لم تكن هذه التعقيدات الكثيرة، فالحياة كانت بسيطة وكان شعور الانسان بالحزن على الأشياء التي يخسرها أو يفقدها اقل بكثير.
تصاعد الحياة المادية المعقدة
الإنسان يكون حزينا على الأشياء التي لا يملكها، الأشياء التي يراها فيريد امتلاكها، يرى البيت الجميل، فيقول لنفسه لماذا لا أمتلك مثل هذا البيت، وحين يرى سيارة فارهة، أيضا يقول لنفسه لماذا لا أمتلك مثل هذه السيارة، وحين يتصفح شبكات التواصل وما تعرضه من سلع، فيقول لنفسه، هذا القميص الجميل ليس موجودا عندي ولا هذا التلفاز الحديث.
وهكذا أصبحت الحياة مادية معقدة بشكل متصاعد مع نمو ثقافة الاستهلاك الشديدة عند الناس، وكلّما تتضخّم المادة عند الإنسان يتضخّم حزنه، وتتضاعف أحزانه، وعندما تتعقد الحياة المادية للإنسان، فإنه حتى التفاعل الاجتماعي المعنوي الروحي يصبح متضائلا وقليلا عنده، لأن المادة سيطرت عليه، فأصبح الإنسان يتجنب التفاعلات الاجتماعية، والاحتكاك الاجتماعي، حتى العلاقات مع العائلة والأقارب والجيران بدأت تقل وتضعف مع مرور الزمن.
سابقا كان الناس فقراء، ولا يمتلكون الأموال، فتجدهم رحماء فيما بينهم، ويسألون عن بعضهم بعضا، ويساعدون بعضهم بعضا، الآن نلاحظ أن إمكانيات الناس المادية أصبحت جيدة، لكن قلّتْ التفاعلات الاجتماعية فيما بينهم، وبالنتيجة افتقد الإنسان الدوافع المعنوية التي تجعل منه أكثر تفاعلا مع الآخرين، فأصبح كسولا ويحب البقاء في البيت، والانشغال باللهو والمتعة.
يوجد مثال لطيف لتقريب المعنى، الطفل الصغير يلعب كثيرا، وهذا الطفل نراه يلعب طوال ساعات النهار ويكون بعض الاطفال كثير الحركة مفرطا في اللهو واللعب، أو ما يسمى بفرط الحركة، فما هو السبب الذي يجعل الطفل يقوم بمواصلة اللعب بهذه الكثرة؟، أنا شخصيا أحلّل هذا الأمر، بأن استمرار هذا الطفل باللعب هو نتيجة لعدم حصوله على الإشباع العاطفي، وهو لا يشبع لأنه هناك أسباب داخلية باطنية تؤدي الى عدم اشباعه.
فيمكن لو أن الأم عانقته عناقا بسيطا ومنحته بعض المحبة وكذلك الأب، سنلاحظ أن هذا الطفل يهدأ، فهي لحظات من المحبة والدعم المعنوي لهذا الطفل تؤدي به إلى الاستقرار والهدوء، لأن هذا الطفل حزين في داخله ويفتقد للمحبة، فيحتاج إلى حنان عاطفي ودفء عاطفي حتى يستقر قلبه، ويزول قلقه وخوفه وحزنه.
فالنشاط الكثير الذي لاحظناه عند الطفل هو تعبير عن شيء داخلي، لذلك نلاحظ بعض الناس مكتئبين، لأنه منشغل على الدوام وبشكل متواصل دونما توقّف، فهو لديه خوف وحزن داخلي فيحاول أن يغطي حزنه الداخلي بهذا الانشغال والحركة النشيطة المتواصلة، وهناك بعض الناس يحدث معه العكس، فيظهر عليه الحزن الشديد وينعزل عن الناس في داخل بيته.
الخوف مما هو آتٍ
إن كل شخص منا يوجد في داخله خوف وحزن، بحسب ما طرحته الآيات القرآنية والروايات الشريفة، فهناك شيئان هما الخوف مما هو آت والحزن على ما فات.
الخوف مما هو آتٍ، بمعنى هناك قلق مما قد يتعرّض له في المستقبل، فالإنسان لا يعرف ما الذي سيحدث له في الغد، ولا يعرف ما الذي سيحدث لأهله أو لأبيه أو لأخيه، فدائما يوجد خوف، فبعض الناس يخافون من أشياء كثيرة، والخوف مما هو آت، يسمى همّ، والذي يحمل الهم هو المهموم.
الحزن لما فات
والحزن لما فات، هو الذي يحدث نتيجة ما يفقده الإنسان، ويعبر عنه بالغمّ، فالذي يحمل الغم هو المغموم الذي فقد شيئا ويتحسّر على فقدانه، كأن يكون قد خسر أموالا.
وهناك بعض الناس يخافون من الفشل دائما، فتراه محتاطا وحذرا دائما، ويخاف الكلام والحركة ويخاف من العمل ويمتنع عن الإقدام على فعل أي شيء بحيث يغلفه اليأس من النجاح.
هناك أشخاص يشعرون بالفشل دائما، بسبب وجود اليأس في داخلهم، فلا يُقْدِم أحدهم على أعمال ناجحة، وكذلك الخوف من الخسارة، والخوف على الموجود، وكذلك الحزن على المفقود، هذه الأمور هي من مظاهر الفشل.
تقول الآية القرآنية: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) الحديد 23. فالإنسان الذي يعيش الحالة المادية ومنغمس فيها، فهو يشعر بالخوف دائما، والقلق والحزن، على ما فاته، وإذا حصل على شيء ما فإنه يفرح به فرحا شديدا، وهذه من الحالات التي تجعل الإنسان متعلقا بالدنيا تعلّقا شديدا.
من هو الإنسان الذي يتعرض لهذه الحالة؟، يحزن على ما فاته، ويفرح بما يحصل عليه وما ناله، إنه الإنسان الذي المتعلق بالدنيا، المختال، الفخور، المتعلق بحب الدنيا، يمتلك البيوت والأموال والأرصدة، فيكون مغرورا بهذه الدنيا، وبهذه الممتلكات، هناك بعض الناس من شدة انغماسهم في الدنيا يفقدون توازنهم، بحيث ينسى ان المال مجرد وسيلة لكي نواصل العيش، ونسيّر حياتنا، نأكل بمقدار ما نحتاجه، ونلبس بطريقة متوازنة، لكن عندما تصبح الأموال غاية وهدفا للإنسان، نلاحظه يتصارع ويتصادم مع أقرب الناس إليه.
استنزاف الإنسان لروحه
بالنتيجة يؤدي به ذلك إلى السقوط في فراش المرض، فيخسر نفسه، فما الذي استفاد منه هذا الإنسان الذي تصارع وتصادم من أجل المال، فاستنزف روحه ونفسه وذاته وتصادم مع أقاربه أو أخيه أو مع أناس آخرين، لقد خسر صحته واضاع نفسه، وبعضهم يُصاب بسكتة قلبية أو جلطة دماغية، وبعضهم يصاب بارتفاع ضغط الدم ويتعرض لأمراض كثيرة تقوده إلى نهايته، بسبب التحسّر والحزن والفرح بالأموال.
هذه الآية القرآنية التي ذكرناها أعلاه، تعطينا توضيحا عن ضرورة انقلاع الانسان لنفسه عن الدنيا، وأشيائها، حتى يستطيع أن يعيش مرتاحا، ويحصل على الفرح الحقيقي، والسرور الحقيقي، فعندما يقول تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)، يعني أن تحصِّلوا السعادة الحقيقية، والسرور الحقيقي، فانقلاع الحزن من الانسان وحصوله على السرور الحقيقي يتم له عندما لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه، هذا هو الفرح الحقيقي.
والمختال هو من أخذته الخيلاء وهي التكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه، والفخر المباهاة في الأشياء الخارجة عن الانسان كالمال والجاه، فالاختيال والافتخار ناشئان عن توهم الانسان أنه يملك ما أوتيه من النعم باستحقاق من نفسه. فإذا حصل على أموال يقول لنفسه وللآخرين بأنه حصل عليها بجهده وعمله، فلا يشكر الله سبحانه وتعالى، فيكون بخيلا مغتمّا، يفكر بنفسه فقط، ولا يفكر بالآخرين.
عملية إعادة إنتاج الذات
من خلال رؤية الإمام علي (عليه السلام)، نحاول أن نصل إلى معنى البرمجة الفكرية التي تطرقنا إليه، وكيف يمكننا أن نبني هذه البرمجة الفكرية لنا في شهر رمضان المبارك، وهي عملية إعادة إنتاج الذات، أي إعادة إنتاج أنفسنا في شخصيات جديدة، وأهم نقطة في هذا الجانب هي أن نعيد تجديد أفكارنا، التي خلقت لنا أوهاما وانحرافات وإشكالات، فمطلوب منا القيام بتهذيب شخصياتنا وتزكية أنفسنا.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في رواية مهمة تتطلب الانتباه الجيد لها:
(الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: -لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ)، يعني الإنسان الذي لا يفرح بما عنده وما حصل عليه، ولم يحزن على ما فقده، فقد أخذ الزهد بطرفيه.
لقد بحثت كثيرا في الشروح عمّا تعنيه كلمة (بطرفيْه)، إلى أن وجدت هذه الرواية تفسّر معنى كلمة (بطرفيْه)، فالزهد هو واحد عند الإنسان فلا يفرح بما آتاه ولا يحزن على ما خسره، ولكن ما معنى (فقد أخذ الزهد بطرفيه)؟
إنها تعني بأن الإنسان الزاهد هو الإنسان الرابح في الدنيا والآخرة، أي أنه يربح الدنيا ويربح الآخرة أيضا، كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): (وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ولَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ).
كلمة (ذهبوا) تعني أخذوا الشيء أي حصلوا عليه، أما عاجل الدنيا فهو الشيء الذي يحصل عليه الآن، وآجل الآخرة هو الشيء المؤجَّل، فحصلوا على الدنيا والآخرة.
المتقون يشاركون أهل الدنيا بالانتفاع
(وشاركوا أهل الدنيا)، فالدنيا صارت ملْكا لهم، أما أهل الدنيا المتعلقين بها فقط، فذهبوا إلى جهنم وإلى العذاب، لكن المتقين شاركوا أهل الدنيا بالانتفاعات وبالمتع وبالملذات وبالحياة المادية فربحوا الدنيا وربحوا الآخرة أيضا، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم وذهبوا إلى الجنة.
(بالزاد المبلِّغ) يعني حين يسافر الإنسان إلى مكان معيّن مثلا يذهب إلى الحج وسابقا كانت الطرق بعيدة، فيحتاج المسافر إلى زاد يوصله من كربلاء إلى مكة مثلا، فيوجد لديه طعام كاف يوصله الى مقصده، فهؤلاء المتقون الذين حصلوا على الدنيا والآخرة حصلوا على الزاد الذي يبلغ بهم للآخرة، فالزاد المبلّغ يعني المخزون الكبير من الأعمال الصالحة والحسنات التي ساعدتهم على الوصول إلى الجنة في الآخرة.
(والمتجر الرابح) يعني استثمروا في التجارة الحقيقية المربحة فحصلوا على كل اللذات، حصلوا على الدنيا، وحصل على كل ما حصل عليه الآخرون. لكنهم حصلوا على كل ذلك بطريقة تفكير ثانية، طريقة تفكير ساعدهم عليها الله تعالى، (أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، بطريقة الارتباط بالله سبحانه وتعالى، وعدم التمسك بالماديات، فجعلوا من المادة وسيلة.
مثال على ذلك، إذا كان هناك طعام لذيذ أمام الإنسان، وهو جائع فيأكله، هناك إنسان يأكل الطعام الكثير الى حد التخمة، وهناك إنسان يأكل من هذا الطعام اللذيذ بقدر احتياجه، فأيهما يلتذّ أكثر من الآخر؟، بالطبع يفوز الإنسان الذي أكل بقدر حاجته، فيلتذّ بقيمة الطعام الذي تناوله ويحس بهذه اللذة، أما المتخَم فإنه لا يلتذ، بل يشعر أن الطعام سينفجر في بطنه.
التكامل بين المعنوي والمادي
كذلك الأمر بالنسبة للمؤمن، فهو يشعر في الدنيا باللذة الحقيقية، لأنه لديه تكامل بين الجانب المادي والجانب المعنوي، كما حصل مع الطفل الصغير الذي سبقت الإشارة إليه، فالطفل الصغير يحتاج إلى الاهتمام المادي بشكل جيد، مثل شراء الألعاب والدمى له والملابس الجديدة أيضا، والطعام الجيد وحلوى الأطفال، ولكنه يحتاج أيضا إلى العناق والمحبة والعاطفة لكي تكتمل شخصية هذا الطفل.
كذلك الأمر بالنسبة للمؤمن، يجب أن يتكامل في الجانب المعنوي والجانب المادي، ويحصل على الأشياء من هذا الطريق، حينئذ يشعر بمعنى التجارة الرابحة في الحياة، فالطريقة الصحيحة التي نحتاجها لكي نزيل الحزن والغموض والهموم من داخلنا، بأن نقضي على تعلقنا بالماديات، ونجعلها وسيلة لنا وطريقا لتسيير حياتنا، وليس هدفا أو غاية لنا.
بعض الآباء والأمهات يعلمون أطفالهم منذ الصغر على أن المال غاية وهدف، فيكبر الطفل الصغير وينمو وهو مثخَن ومنشغل بكيفية النجاح في حياته المادية، فينشغل بوضعه المادي، وبدراسته، وبتجارته، وبتأمين سيارته وبيته وزواجه، إلى أن يصل إلى عمر 50، أو 60 أو 70 سنة، حينها يصحو على فراغ كبير في حياته.
لأنه حصل على كل الأشياء المادية، لكنه لم يحصل على الحاجات المعنوية، وهذا خلل موجود وواضح، لذلك على الإنسان أن يتعامل مع الدنيا على أنها وسيلة وليست غاية، وهذا أهم طريق للتخلص من الحزن.
من أسباب الحزن التي يمكن أن نلاحظها:
أولا: التعلق بالماديات والابتعاد عن المعنويات
وهنا يمكن ان نعرف مفهوم السعادة، فكلما يزداد تعلق الإنسان بالماديات، تزداد تعاسته، وكلما ينفصل الإنسان عن الماديات، ويروض نفسه، ويبتعد عن التعلق بالماديات، تزداد سعادته ويشعر بالسرور، مثال على ذلك إذا ذهبتم إلى حفلة أو دعوة لتناول الطعام في أحد المطاعم، فبعد انتهاء هذه الحفلة أو الدعوة سوف تشعرون بنوع من الكآبة والحزن.
بينما إذا ذهبتم إلى زيارة مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، فبعد انتهاءكم من هذه الزيارة سوف تشعرون بأن القلب مملوء بالفرح والسرور، هل لاحظتم هذا الفرق بين الحالتين؟، لأن الحفلة أو الدعوة إلى المطعم هي جانب مادي، أما الزيارة للإمام (عليه السلام) فهي جانب معنوي، فالسعادة تتحقق في الجوانب المعنوية.
من هنا علينا أن نربي أطفالنا على الجوانب المعنوية في السعادة، حتى يتخرجوا من مدرسة الحياة وهم سعداء في حياتهم.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (ثمرة المقتنيات الحزن)، يعني كلما تزداد ممتلكات الإنسان يزداد حزنه، لأنه يخشى عليها من الفقدان أو الضياع، فيشعر بالقلق من خسارته المحتمَلة لهذه الممتلكات.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (اجعل همك لآخرتك وحزنك على نفسك فكم من حزين وفد به حزنه على سرور الأبد وكم من مهموم أدرك أمله) فعندما يكون حزن الإنسان على نفسه، وليس على أشيائه المادية، حينئذ سوف يبدأ بعملية إصلاح نفسه وبناء ذاته.
ثانيا: التشكيك بالقدر الإلهي
من أسباب الحزن الأفكار السوداوية التي تشكك (ولو لا شعوريا) بالمقادير الإلهية، فالإنسان الذي يرفض القدر الإلهي سيفشل، لأنه عبارة عن امتحان للإنسان، وابتلاء له، الابتلاء فتنة حيث يمحَّص الإنسان من أجل بناء شخصيته وتطوير ذاته، فالابتلاء يحدث من أجل تقوية الإنسان، لذلك يتحول إلى نعمة وليس نقمة، البعض ينظرون إلى الابتلاء على إنه نقمة، فيشككون بالقدر الإلهي، لذلك فإن الإنسان الذي يشكك بالقدر الإلهي يصبح إنسانا ظلاميا، وأفكاره سوداوية بائسة. فنرى هذا الإنسان كئيبا وحزينا دائما، لذلك لابد للإنسان أن يستسلم دائما للقدر الإلهي، ويرضى بأقدار الله سبحانه وتعالى.
عن الإمام علي (عليه السلام): (نعم الطارد للهم، الاتكال على القدر)، بأن لا يخاف الإنسان من القدر، فيستقبل القدر ويعتبره نوعا من تهذيب النفس وتنقية الذات.
ثالثا: الانغماس في المعاصي
ومن أسباب الحزن أيضا، الانغماس في المعاصي، والتهاون في ارتكاب الذنوب، فالإنسان المنغمس في المعاصي قد لا يشعر بالأثر الوضعي للمعصية عليه، ولكن مع كل معصية تصبح في قلبه نقطة سوداء، فإذا لم يعالج هذه النقطة السوداء ويزيلها من قلبه، سوف تزداد النقاط السوداء في هذا القلب.
وكلما ازدادت النقاط السوداء في قلب الإنسان يزداد ظلاما وعتمةً، إلى أن يصبح قلبه سوداويا، وحينئذ سوف يتغير الإنسان، ولابد أنكم لاحظتم بعض الناس حين يتغيرون وتتغير حياتهم نحو الأسوأ، هؤلاء أصبحت قلوبهم ممتلئة بالسيئات، فيصعب إصلاحهم، لكن الإنسان الذي يرتكب معصية ثم يفكر بالتوبة ويتوب إلى الله تعالى، سوف تدخل نقطة بيضاء في قلبه مباشرة، لتزيح نقطة سوداء عنه، فهناك صراع بين النقاط السوداء والبيضاء في قلب الإنسان، إلى أن يتغلب أحدهما على الآخر.
وكما يهتم الانسان بقلبه المادي من حيث الصحة الجسدية، كذلك عليه الاهتمام بقلبه المعنوي من حيث عدم ارتكابه للذنوب والمعاصي والسيئات والرذائل، فالانغماس في المعاصي ومواصلة ارتكاب الذنوب سوف يؤدي بالإنسان إلى الحزن، لأن ضمير الإنسان يؤنّبه كونه ارتكب شيئا لا يتلاءم معه، ولا يتلاءم مع نفسيته ولا مع إنسانيته، ولا ينسجم معه، تماما كالإنسان الذي يأكل طعاما سيّئا ويصاب بالمرض، فإن هذا الطعام لا يتلاءم مع جسمه، ولهذا يؤثر على صحّته.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (سرور المؤمن بطاعة ربّه، وحزنه على ذنبه)، فكلما أطاع الإنسان الله أكثر يصبح أكثر سرورا وأكثر فرحا، ويزداد حزنه بسبب ذنوبه أيضا.
رابعا: غياب الإنفاق الاجتماعي
ومن أسباب الحزن أيضا، التفكير بالذات والابتعاد عن المسؤولية الاجتماعية، وعدم وجود العطاء والإنفاق في سبيل الله، أو الإنفاق الاجتماعي، لذلك فإن الإنسان الأناني هو إنسان حزين، ويمكن أن تلاحظوا ذلك بوضوح، فحتى لو امتلك مليارات الدولارات يبقى حزينا، لأنه لا لذة مع عدم وجود الآخرين في حياته، فالآخرون هم السبب الأساس الذي يجعل حياتنا جميلة، فلا يتصور الإنسان أن وجوده فقط يكفيه، كلا لابد من وجود الآخرين في حياته.
فوجود الآخرين معك هو الذي يجعل الحياة جميلة، ويجعلها وردية، ورائعة، فلذلك كلما يتفاعل الإنسان مع المجتمع في مجالات العطاء والإنفاق المعنوي والمادي والتفاعل الاجتماعي سوف يلاحظ هبوط نسبة الحزن في داخله، وهنا أنا أركز على العلاقات المعنوية وليست العلاقات المادية، فهنالك بعض الناس يجعل من علاقاته مادية بحتة.
المال عبء على الإنسان
فيذهب مع أصدقائه إلى المقاهي، وتخرج المرأة إلى الأسواق مع صديقاتها، هذه العلاقات مادية، وأنا هنا أقصد في بحث العلاقات المعنوية الحقيقية التي يوجد فيها تفاعل، وتفانٍ وإخلاص وعطاء ذاتي، وإنفاق من أمواله ومن نفسه، فالمنفقون في سبيل الله يشعرون دائما بالفرح والسرور، وتلاحظ وجوههم مشرقة دائما، وتشعر بأنهم مرتاحون ومطمئنون دائما، لأن المال عبء على الإنسان.
المال المكدّس في البنوك أو في البيت، أو بصيغة عقارات وسواها فهذا عبء على الإنسان، لأن المال هو وسيلة، فعندما ينفق الإنسان المال في سبيل الله، فإنه يقضي حوائج المحتاجين، يقضي حوائج أقاربه وأرحامه، فهذا العمل يمنحه الفرح والسرور.
وعن الإمام علي (عليه السلام):
(وَإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ وَسُوءُ الضَّمَائِرِ فَلَا تَوَازَرُونَ وَلَا تَنَاصَحُونَ وَلَا تَبَاذَلُونَ وَلَا تَوَادُّونَ، مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَلَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الْآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ، وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ، وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الْآجِلِ وَحُبِّ الْعَاجِلِ، وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ).
أي في الدنيا، فالإنسان الذي يجمع الأموال ويقوم بتكديسها فإنه خسِر ولم يربح، أما الإنسان الذي ينفق أمواله في سبيل الله فهذا هو الذي يحقق الربح.
لذلك توجد آيات قرآنية تذكر الإنفاق مع الخوف والحزن، هؤلاء الذين ينفقون في سبيل الله لا يحزنون، (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة 274. فالإنفاق تزكية للذات عبر اقتلاع الحزن المادي منها.
فكيف يمكن مواجهة الأحزان:
أولا: الرضى بقضاء الله
إن التسليم لأمر الله تعالى يؤدي إلى تقليل الهموم، وكلما كان الإنسان راضيا ومسلّما أمره لله خفّت همومه وأحزانه، فيتخلص من نفسه ومن التمركز في محوريّته وذاته، ويذهب نحو الله تعالى، فهكذا الإنسان تزول من قلبه ونفسه الهموم.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (من رضي بما قسم الله له لم يحزن على ما في يد غيره)، هل لاحظتم بعض الناس وهم يتساءلون لماذا فلان من الناس يمتلك بيتا وأنا لا أمتلك بيتا؟، أو عنده أموالا وأنا لا أمتلك أموالا، هؤلاء الناس يكونوا حزينين ومهمومين، بسبب هذا التفكير، أما إذا رضيَ الإنسان بما قسم الله له، سيزول عنه هذا الهم والغم، لأن الرضا ينفي الحزن.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَمَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ اللَّهِ لَمْ يَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَهُ)، إن رزق الإنسان مضمون، فالرزق مضمون للجميع، وعلى الإنسان أن لا يحزن، فإذا كان راضيا لا يوجد لديه حزن ولن يحزن على ما فاته من الرزق.
وعنه (عليه السلام): (الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فلا تضجر)، هناك بعض الناس يشعرون بالضجر دائما، ويتساءلون لماذا لا نمتلك كذا وكذا، وعندما يحصلون على ما يريدون يبقون على ضجرهم، ولا يقدرون النعمة التي بين أيديهم ولا يرونها وهي حولهم، بل يرون النعِم الموجودة عند الناس فقط، وهذا خطأ كبير، لأن الإنسان الذي تكون عينه نحو ممتلكات الناس، يعيش الهمّ والغمّ دائما.
ثانيا: الاستثمار الذكي لأعمارِنا
عن الإمام علي (عليه السلام): (كيف يفرح بعمر تنقصه الساعات)، لو أننا نجلس في أواخر ساعات اليوم ونحسب الثواني والساعات التي انقضت في هذا اليوم، وماذا فعلنا فيها، وكيف استثمرناها؟، وكم ضاع منها وكيف فقدناها؟
وحين كنّا صغارا بدءًا من طفولتنا وإلى الآن، كم استفدنا من حياتنا؟، وكم استثمرنا من أعمارنا، فهذا العمر تنقصه الساعات، فهنا (عليه السلام) ينبهنا الى أهمية على البرمجة الفكرية حيث يقول: (مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ)، فالرزق يمكن استرجاعه إذا خسره الإنسان، أما العمر فلا يمكن استرجاعه، فإذا خسر الإنسان عمره لا يمكن أن يستعيده مرة أخرى، فأيهما أفضل العمر أم الرزق؟، نحن نخسر أعمارنا من أجل أرزاقنا، لذلك نلاحظ أن أعمارنا بالنتيجة تذهب هدرا.
هذا الأمر معناه أن نهتم بالبرمجة الفكرية، ولا يعني أن الإنسان يترك العمل، بل معنى ذلك الاستثمار الذكي لأعمارنا، وكيف يستفيد الإنسان من عمره ويقدر لحظات حياته ويستثمرها بالطريقة الذكية بالاستفادة من لحظات الخير وذخيرة العمل الصالح، حتى تصبح حياة الإنسان ذات معنوية متجددة في الدنيا ومربحة في الآخرة.
ثالثا: الاستثمار الذكي للأموال
أي الإنفاق والعطاء، فعن الإمام علي (عليه السلام): (إِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفْقَةً وَأَخْيَبَهُمْ سَعْياً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ مَالِهِ وَلَمْ تُسَاعِدْهُ الْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا بِحَسْرَتِهِ وَقَدِمَ عَلَى الْآخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ).
إنه لم يحصل شيئا من أمواله رغم التعب الكبير الذي بذله، قبل أيام توفيَ ملياردير في عمر 55 سنة، فما فائدة المليارات والأموال التي كان يمتلكها، فمن يمتلك الأموال لابد أن يستثمرها بشكل ذكي وفي العطاء والإنفاق، ولا يكون عبدا للأموال والأشياء.
رابعا: تأطير الدنيا ولذّاتها والتحكم بها بالتعقّل
على الإنسان أن يتحكم بالدنيا التي يعيش فيها، فالإنسان الذي يقود سيارة ولا يعرف قيادتها، فإن هذه السيارة سوف تقوده إلى الهاوية، إلى حادثة اصطدام ومن ثم إلى الموت، أما الإنسان الذي يتعلم ويتقن قيادة السيارة، فإنه حينئذ يستطيع أن يقودها بشكل جيد ولا يخشى الحوادث أو الأخطار، كذلك الدنيا، إنها تشبه السيارة، فعلى الإنسان أن يتحكم بها ويديرها بالتعقّل والحكمة ويسيطر على لذاتها، ولا تكون لذات الدنيا هي المسيطرة على الإنسان.
هناك بعض الناس تسيطر عليهم لذاتهم وشهواتهم، فيركضون وراءها ويصبحون عبيدا لها، ولا يحرصون على أنفسهم، لذلك يجب السيطرة عليها من خلال التعقل، ومن خلال ترسيخ اليقين، بأن هذه الدنيا فانية، وهذه اللذة فانية ولا قيمة لها، وأن الإنسان مخلوق وباقٍ لشيء أكبر وأعظم، وأن هذه المادة لا قيمة لها، هذا هو اليقين الذي يزيح عن المرتابين الشك بوجود الحساب والعقاب والثواب.
فكل إنسان عاقل سوف يعرف بأنه يسير في طريق طويل ممتد أمامه، ويجب أن يكون عنده يقين بهذا الطريق الطويل، فيتعقّل ويعقل دنياه ويسيطر عليها ويتحكم بها.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ)، فعليكم بالعقل، هذا ما يوصي به الإمام علي الناس، فالذين وصلوا إلى السلطة وتربعوا على العروش في النهاية ماتوا جميعا، فالذين عارضوا الإمام علي (عليه السلام) وقاوموه وصارعوه وكانوا أعداء له، إلى أين وصلوا؟ وإلى أين ذهبوا؟ إنهم جميعا ماتوا وذهبوا.
هذا العقل الذي منحه الله سبحانه وتعالى لنا بمثابة نعمة كبيرة، فعندما ينام العقل تحدث المصائب، وتحل الكوارث بالإنسان، وأغلب حياتنا نعيشها ونحن في حالة سبات حيث عقولنا نائمة ولا نفكر بها.
حول هذا الموضوع نقرأ في جامع السعادات هذه العبارة الجميلة: (حب الفانيات والتعلق بما من شأنه الفوات خلاف مقتضى العقل، وحرام على العاقل أن يفرح بوجود الأمور الفانية، أو يحزن بزوالها)، هنا الهدف والغاية وهي أن نتعقّل حياتنا، ونتعقّل لذاتنا.
(لكي لا تحزنوا) تعني أن نُخرج الحزن المتعلق بالمال والملذات، ونذهب وراء غايات أكبر وأعظم في حياتنا.
وأن ننظر إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى أهل البيت (عليهم السلام) ونعرف أن هناك غايات أكبر وأعظم لأننا نحتاجها في البرمجة الجيدة لأفكارنا لكي نحصل على السعادة الحقيقية عبر التعامل الحكيم مع الأمور المادية، وفي انتظار العواقب الحسنة والجيدة في مديات حياتنا.