فكر وثقافة
اسطوانة مشروخة: الأحكام الشرعية لا يمكن تطبيقها!
هنالك سؤال نَخافُ أن نُبيّنَهُ أو نَطرحَهُ، وهو: هذه المَنظومة الكامِلَة للأحكام، أحكام العِبَادات والمُعامَلات والجِهاد والأمر بالمَعروف والنَّهي عَن المُنكر هل يُمكن تَطبيقها علىٰ أرض الواقع كلّها، وليس تشريع فقط؟

نَحنُ عِندَما نَكون في مَشاكِل ومُجتَمع غير مُتَقَبِّل هذه الأحكام، نَشعر أنه لا يُمكن تَطبيق هذه الأحكام ولِهذا الكثير مِن الأُخوة والأخوات في الجَامِعات يَقولون: هنالك أشياء في التَّشريع غير مُراعية أمور التَّطبيق، لذلك لا يمكن تَطبيقها كلّها، يجب أن نَتنازل عَن بعضها. ونَفس هذا الاعتِراض نَجِده في الأسواق والمُؤسسات وفي كلّ مجالات الحياة.

وهذا الشُّعور بأن هنالك مَوانع في مَجال تَطبيق الأحكام الشَّرعية، هذا الشُّعور النَّفسي، شَيئاً فشَيئاً يُبرر لَنا عدم الإلتزام الدِّيني، وهذه مُشكلة تَجر الإنسان إلىٰ العصيان مِن حيث لا يَشعُر. يُبَرر لنفسه أنه هذا لا أستطيع الالتزام به وهذا المُجتمع لا يَلتزم به ويُبرر لِنفسه أنه لا يُمكن تَطبيق الأحكام في مَجالِه، وشيئاً فشيئاً يُصبح كمَن لا يَلتزم بالدِّين.

هذه المُشكلة النّفسية حلها أن يُذَكر الانسان نَفسه بهذه النقاط الثلاثة:

١- أن المُشَرِّع لِهذه الأحكام هو الخَالِق والخَالِق هو المُشَرِّع وليس جهة أخرىٰ، يَعرف قُدراتنا، بَصِير بما نَصنَع، والظرُوف التي نَعَيشُها، وحكيم لما شَرّع هذه الأحكام بقُدَرته أعطانا قُدرة، اختيار، ويَعرف أني قَادِر علىٰ تَنفيذها، «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها»، فكلنا قادرون علىٰ أداء التكاليف.

٢- «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ»، الله عَزّ وجَلّ شَرَّع هذه المَنظومة الكامِلة مِن الأحكام فَائدتها وأرباحها كلّها لك.

٣- هناك ثُلَّة طَيبَة ولَيست بقَليلة أدتْ هذه الأحكام في حَياتنا الدَّنيويَّة، علىٰ رأسهم مُحمَّد وآل مُحمَّد صَلوات الله عَلَيهم.

هنالك أعذَار تَقول هَؤلاء أئمَة وهؤلاء مَعصُومُون لذلك كانوا قَادِرين علىٰ تطبيق الأحكام، وهذا تَفكير خاطىء وجداً مُهَدِّم للعَقيدة، هل أهل البيت كانوا مُجبَرين علىٰ العبادات، أبداً!

مَنزلة رَسول الله (صَلّىٰ عَلَيهِ وآله) كانت عَالية عِند الله عَزّ وجَلّ لإنه مُختار وباختياره اختار طاعَة الله عَزّ وجلّ وهذا هو فَضْله، عاشَ أهلُ البيت ظروفاً قَاسيَة ليس هناك أقسىٰ منها ورُغم مَظلوميَّتهم طَبَقوا أحكام الله عزّ وجلّ، مَريضُهم مُلتَزم، سَجينُهم مُلتزم، في لَحظات التَّضحية والغُربة كان يَلتزم، هؤلاء حُجَة علينا.

هذه أهمية التَّأسي حينَ يقول القرآن «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»

وعندنا عُلَماء وعندنا مِن الصَّالِحين اِستَطاعوا الالتِزام بهذه الأحكام وتَفاصيلها مِن واجباتها ومُستحباتها إلىٰ تَرك مُحرماتها. 

المُشكلة إذاً لَيس في الأحكام ولا شروط الزمان والمكان.

 الخُلاصة: أنَّ هذه القَضية نَفسيَّة تُسَيطر علينا، الله الله في تَربية النَّفس علىٰ الالتزام بالأحكام وتَقويَة النَّفس، الخالق مَنحني قُدرة وعَالِم بقدرتي، الالتزام في مَصلحتي، عندنا أُسوة وقدوة في التطبيق،

ونحتاج إلىٰ الدعاء وتَسديد مِن الله عزَّ وجلَّ، الإمام زَينُ العابدين علمنا أن نَطلب مِن الله أن يُسددنا لِتطبيق أحكامه.

*مُقتطفات مِن محاضرة السَّيّد عَمار الحُسَينيّ - قرّرها: آيات الحسيني

  مَركز طيبة للفكر والمَعرِفة

 ١٠ ربيع الأول ١٤٤٤هـ | ٢٠٢٢.١٠.٧

[اشترك]

2022/10/09

كتب في المطاعم العراقية!

بعض الأماكن العامة من المطاعم أو الأماكن الترفيهية حينما تريد إضافة سِمة الثقافة عليها تضع مكتبة صغيرة أو رفوف معدودة تُسطّر عليها كتب وكتيبات وربما بعض المجلّات ليُسحر بها القرّاء والمولعين بالكتب، وهذه بحد ذاتها ظاهرة حضارية وصحيّة وتبعث على السرور.

[اشترك]

لكن حينما ندقق في نوعية الكتب المُختارة نجدها من الفئة التي حصلت على شهرة دون أن يكون فيها غزارة علم، ولا نفع يُذكر.

وهذه الكتب تمثل أولى المطالعات لكثير من القراء وأولى مصادرهم، وتشتهر كذلك في مواقع التواصل وفي قوائم اقتراحات الكتب وللمبتدئين بالقراءة، رغم أن هناك الكثير من الكتب غيرها التي ينبغي البدء بها، وأن تكون الأساس الذي تُبنى عليه باقي القراءات، بحسب العطش المعرفي لكل شخص.

لو فكّرنا في الكتب الغنيّة الموجودة وكثرتها، لما امتلكنا وقتاً كافياً لقراءة غيرها أو الأدنى منها.

2022/10/09

هل البحث في الإمامة ’ نبش’ في الخلافات التاريخية؟
يمكن تفهم هذا السؤال وتبريره إذا انطلقنا من كون الإمامة قيادة سياسية محكومة بظرفها التاريخي، ولا يمكن فهمه وتبريره إذا انطلقنا من كون الإمامة تمثل الامتداد الديني لوظيفة النبي والرسالة.

[اشترك]

وعليه فإن هناك جانبان في بحث الإمامة، الجانب الأول تاريخي وهو ما يتعلق بالقيادة السياسية والاجتماعية للظرف التاريخي الذي كان فيه الإمام، والجانب الثاني هو الجانب الديني والرسالي وهو ما يتعلق بالمرجعية والقيادة الدينية، فإن كان الأول محكوم بالظرف التاريخي فإن الثاني باقي ببقاء الدين والرسالة، وهذا ما نص عليه الحديث المتواتر بين جميع الطوائف الإسلامية وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله): (إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) فخلافة النبي في هذا الحديث تشمل كلا البعدين القيادة السياسية والقيادة الدينية، وبذلك لا يكون بحث الإمامة في هذا العصر بقصد تغيير ما وقع بالفعل في التاريخ لكونه أمراً مستحيلاً بالبداهة، وإنما يكون بحثاً عن مسؤولية المسلم المعاصر في تحديد مرجعيته الإسلامية وقياداته الدينية، وهذا أمر لا يمكن لمسلم الاستغناء عنه بالضرورة.

ومما لا يخفى على الجميع أن الأمة الإسلامية انقسمت إلى شيعة وسنة، ولكل مذهب منظومته الإسلامية الخاصة عقائدياً وفقهياً وحتى فكرياً، ولكي يتم فهم هذا التباين لابد من البحث عن أسبابه التاريخية، وبذلك لا يكون بحث الإمامة مجرد بحث تاريخي منفصل عن واقع المسلم المعاصر، بل هو بحث حاضر في جميع الخيارات الإسلامية التي يتعامل معها المسلم بشكل يومي.

ويبدو أن الدافع خلف هذا السؤال هو العمل على إيقاف الاصطفاف المذهبي والصراع الطائفي من خلال إيقاف البحث في الخلافات التاريخية، إلا أن ذلك لا يعد خياراً صحيحاً للقضاء على الطائفية التي مزقت الأمة وأضعفتها، فلو قمنا برصد ما يقال لتأجيج الخلاف بين التوجهين نجده يرجع بشكل مباشر الى موقف الشيعة من الخلافة والخلفاء الذين هم في نظر الشيعة قد تعدوا على حق أهل البيت(عليهم السلام)  في الإمامة والقيادة، وفي نظر السنة يمثلون شخصيات مقدسة لا يفهم الإسلام إلاّ من خلالهم، وبالتالي ما تعانيه الأمة اليوم من انقسام يرجع الى الانقسام الذي حدث بعد سقيفة بني ساعدة وما أعقبها من حروب في الجمل وصفين والنهروان وغيرها، وعليه لا يمكن النظر لتلك الحوادث التاريخية كحوادث منفصلة عما نعيشه اليوم، أو نعتبرها بعيدة عن ما يؤثر على خياراتنا السياسية والثقافية، بل أصبح واقعنا صورة أخرى عن تاريخنا، وبالتالي من يحاول أن يتجاوز تلك الفترة التاريخية بالقول: (حرب سلمت منها سيوفنا فلتسلم منها السنتنا)، لا يمكنه تقديم مساهمة حقيقية؛ طالما فهمنا للإسلام اليوم، إما قائم على تقديس الخلفاء واستلهام الشرعية من تجربتهم التاريخية، أو قائم على الوقف ضد الخلفاء وكل القيادات الدينية التي فرضت تاريخياً، ومحاولة حل الأزمة الطائفية من خلال تجاوز تلك الفترة ونسيانها، أشبه بالحكم على السنة والشيعة بالتنازل عن فهمهما للإسلام والتنصل عنه، فالإسلام في المنظور الشيعي يرتكز على الحق الإلهي والشرعي لإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وبالتالي يقوم على رفض كل الخيارات التي لا تقوم على هذا الأساس، والإسلام في المنظور السني يعتقد إنَّ صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)  وكل ما أنجزوه في التاريخ يمثل الفهم الأصيل للإسلام، وبكلا الفهمين لا يمكن أن تقبل الدعوى القائمة على تناسي أو تجاهل ما جرى في التاريخ، فتلك الدماء التي سفكت في التاريخ هي ذاتها الدماء التي تسفك اليوم، وهذا الصراع الراهن هو امتداد لذلك الصراع.

ويبدو أن العقدة الكبرى امام الوضع الثقافي المتحكم في الوسط الإسلامي، هو هيمنة التاريخ الذي مازال يتحكم في خياراتنا المعاصرة، فما دام أهل السنة ينظرون الى التاريخ كهوية إسلامية يؤدي الانفكاك عنها انَّفكاك عن الإسلام، وما دامت خيارات الأمة السياسية مستمدة من واقع التجربة التاريخية، وما دام الموقف من الحاكم محكوم برؤية دينية مستمدة من التاريخ أيضاً، لا يمكن ضمن هذه الهيمنة التاريخية أن نتأمل في صنع واقع تمليه علينا قناعاتنا وخياراتنا التي تفرضها علينا ضرورات الحياة الراهنة، ولا يمكن أن تحلم الأمة بمستقبل تتمتع فيه المنطقة بالاستقرار والتنمية، ولذلك من الضروري أن تكون هناك مواجهة تفتح فيها ملفات التاريخ من جديد، ودراستها ضمن السياق الذي تفرضه الضرورة المنهجية والأكاديمية بدون تحامل او تقديس، وحينها سوف تتمكن الأمة من تحقيق وعي خاص للإسلام، تكون قد ساهمت في صنعه وليس مجرد واقع موروث. وما لم تنجز الأمة هذه المهمة، سوف تستمر الأنظمة باللعب على هذه الاختلافات، فما لم نستطع أن نحسم الصراع التاريخي لا يمكن أن نحسم ما يجري في العراق وسوريا وغيرها من مواقع الاحتكاك الشيعي السني.

ومن هنا فإنَّ خيار الهروب من مواجهة التاريخ والتعفف عن تقييم ما وقع بين الصحابة، هو خيار خادع ومراوغ يتستر بالورع عما وقع بين الصحابة؛ وفي المقابل لا نجد هذا التورع فيما يقع اليوم بين المسلمين من صراع، فلا دمائهم سلمت من سيوفهم، ولا ألسنتهم كفت عن صب الزيت على النار، من تحريض وتكفير وإباحة دماء وأعراض، ومازالت تلك السيوف مشهورة في وجه بعضنا البعض، ولم تسلم الألسن من خلال هذا الضخ الإعلامي والتحريض الذي دخل كل بيت عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي.

فمن يعتقد إنَّ بحث الإمامة قضية تاريخية فهو واهم؛ لإنَّ مواقف المسلمين الراهنة ليست سوى انعكاس لمواقفهم اتجاه ما دار في التاريخ، فالنظرة الموضوعية تقودنا حتماً للاعتراف بوجود تباين بين الشيعة والسنة، وهذا التباين لا ينتمي الى ثقافة تشكلت في القرن الواحد والعشرين، وإنَّما تمتد بجذورها الى تلك الثقافة التي بدأت بوادرها تتشكل في السقيفة، ثم في الثورة على عثمان، الى أن تباينت الخطوط وتمايزت في صفين، فثقافة الإنسان المسلم اليوم هي ذاتها ثقافة المسلم الذي كان في التاريخ، فالجميع ابناء الماضي الذي لا يمكن الهروب منه أو التستر عليه.

والاعتراف بهذه القضية يمثل الخطوة الأولى لفض الاشتباك الحاصل، ومن أجل نزع فتيل الأزمة بين جناحي العالم الإسلامي -الشيعة والسنة- لا بد أن ينزع سبب الخلاف بينهما من الأساس، وذلك لا يكون إلا من خلال البحث التاريخي الذي ينصف الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام) من خصومهم الذين حرفوا مسار الرسالة.

وبالجملة يمكننا إرجاع التباين المذهبي، والعقدي، والسياسي، بين الشيعة والسنة، الى التباين الذي حصل في التاريخ، ومازالت معالم هذا الصراع تتجذر كل يوم أكثر مما مضى، وقد حاول كل من الشيعة والسنة الدفاع عن رؤيتهم التاريخية وخياراتهم العقائدية والفقهية، وقد أُلفت كتب كثيرة في هذا الشأن، وبرغم ما وقع على الشيعة من تهميش واستبعاد، إلاّ إنَّهم قد تمكنوا من توضيح خياراتهم والدفاع عنها في عشرات الكتب التي كان لها الدور الكبير في توضيح الحقائق وكشف ما وقع في التاريخ من تزييف وانحراف.

2022/10/06

من السفارة إلى ’ مرجعية الفقهاء’.. الإمام العسكري يؤسس لـ ’ عهد جديد’!
نرفع أحرّ العزاء لمقام مولانا الإمام الحجةِ بن الحسن (عجل الله فرجه الشريف) بمناسبة ذكرى استشهاد والده الإمام الحسن العسكري (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم).

 [اشترك]

الفصل الجديد: مرجعيّة الفقهاء

ونستثمر هذه المناسبة لنقرأ روايةً وردت عن الإمام العسكري (عليه السلام) أسَّس بها -وبمثلها- لفصلٍ جديد، وهي قوله (عليه أفضل الصلاة والسلام): "وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فإلى العوام أن يقلدوه"(1).

بهذه الكلمات وبمثلها أسَّس الإمام العسكري (ع) لفصلٍ جديد، هو مرجعية الفقهاء.

مرحلتي عصر الغيبة:

لقد كان الشيعة في عصر الظهور إذا ما انتابهم أمرٌ أو طرأَ لهم طارئ، أو وقعت قضية فإنَّهم يلجأون إلى الإمام الظاهر ليتعرَّفوا منه على وجه الحق، وليتعرَّفوا منه على ما هو الحكم الإلهي في هذه القضية أو تلك، فكان الإمام هو الموئل، وهو الملجأ، وهو المرجع في شؤون الدنيا وشؤون الدين، إلا أنَّ العناية والحكمة الإلهيّة قد اقتضت أنْ يغيب الإمام المعصوم بعد الإمام العسكري (ع)، لتبدأ مرحلةٌ جديدة في تاريخ الرسالات، وهي عصر الغيبة وقد مُرْحِلت هذه الحقبة بمرحلتين:

المرحلة الأولى: هي مرجعية النواب والسفراء.

المرحلة الثانية: هي مرجعية الفقهاء -دون تعيين وتشخيص وتحديد-.

وعُبِّر عن المرحلة الأولى بزمن الغيبة الصغرى، وعن المرحلة الثانية -والتي لا زالت إلى يومنا وإلى أن يقوم الإمام القائم (عج)- عُبّر عنها بزمن الغيبة الكبرى.

المرحلة الأولى: النيابة الخاصّة (الغيبة الصغرى)

الغيبة الصغرى كانت توطئةً وتمهيدًا للمرحلة الثانية، إذ لا يسع الناس ولا يسع الشيعة أن ينفصلوا انفصالاً تامَّاً عن إمامهم، بل لا بد مِن توطئة، ولا بدَّ من تمهيد، ولابدَّ من تهيئة -تهيئة النفوس، وتهيئة الأفهام، وتهيئة الظروف- كلُّ ذلك هو منشأ تقسيم عصر الغيبة إلى زمن الغيبة الصغرى، وزمن الغيبة الكبرى. ففي الغيبة الصغرى لم يكن الإمام منفصلاً عن قاعدته وعن شيعته انفصالاً تامَّاً، فقد كان بينه وبينهم وصلةٌ، وهم السفراء الأربعة (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين)، فبمجرد أن اضطلع الإمام الحجَّة (عج) بدور الإمامة بدأ عصر الغيبة، وعيّن الإمام سفيره الأول ليكون حلقة وصلٍ بينهُ وبين شيعته، وهو عثمان بن سعيد العمري(2)، ثم لما أنْ مضى إلى ربَه صدر توقيع شريف من الإمام الحجة (ع) يأمرُ فيه شيعته بأن يرجعوا إلى محمد بن عثمان بن سعيد العمري(3)، وهو السفير الثاني، ثم لمَّا أنْ رحل إلى ربِّه وبعد أن قام بدوره أحسن قيام، فكان هو -وكذلك وأبوه قبله- موئلاً ومرجعاً للشيعة، تقصده الشيعة من جميع أقطار الحواضر الإسلامية ترفعُ إليه قضاياها ومشكلاتها ومسائلها.

بعد أنْ رحل إلى ربِّه نهضَ بأعباء السفارة بأمرٍ من مولانا الحجَّة (عج) الشيخ حسين بن روح النوبختي(4) -قدس الله نفسه الزكية، وظلَّ حقبةً من الزمن يُمارس دوره، ويقوم به أحسن قيام، ثم لمَّا أنْ رحل إلى ربَه أوصى -بأمرٍ من الإمام الحجَّة (عج)- أن يليَ شأن السفارة والنيابة الخاصَّة الشيخ علي بن محمد السمري(5) -قدس الله نفسه الزكية-، ولم يمكث طويلاً، حيث لم تتجاوز مدة نيابته الثلاث سنوات، وحين قرب أجلُه خرج توقيعٌ شريف من مولانا الإمام الحجة (ع) كان فيه إنَّه من حين وصول هذا الكتاب إلى ستة أيام قادمة يموت السمري فالتوقيع الشريف قد اشتمل على تحديدٍ دقيق ليوم وفاة السمري؛ ليتوثَّق الشيعة من كون هذه الرسالة صادرة من الإمام(ع)، وكل رسائله كانت تشتمل على مثل هذه الأمور ليتوثق الشيعة من صدورها من الإمام الحجَّة-، وورد في هذا الكتاب أنَّه عندما يرحل هذا العبد الصالح إلى ربِّه تنقطع النيابة والسفارة، فمن ادَّعى المشاهدة قبل الصيحة، وقبل خروج السفياني فهو كذاب مفتر(6). وبهذا الخطاب، وبهذا التوقيع الشريف انقطعت السفارة والنيابة الخاصة، وبدأت مرحلةٌ جديدة، وفصلٌ جديد هو مرجعية الفقهاء.

فبعد أن كانت النيابة خاصة أصبحت النيابة عامة، ففي عصر الغيبة الصغرى كان يتم تحديد النائب للإمام (ع) في رجل بعنوانه، وبشخصه، ثم لما انتهى عصرُ الغيبة الصغرى أصبحت النيابة تُعرف بمجموعة من الضوابط، فإذا ما توفَّر عليها أحد -أيَّاً كان جنسه، وعرقه، ولغته، وموقعه الاجتماعي- فإنه يكون الموئل والمرجع لشيعة آل محمد (صلى الله عليهم أجمعين)، وهذا هو معنى قول الإمام (ع): "وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه .."(7).

فهي ضوابط عامَّة يمكن انطباقها على أيِّ أحدٍ بقطع النظر عن هويته أو قل هي ملكات، إذا توفَّر عليها أحدٌ كان له منصب النيابة العامة للإمام الحجة(ع)، وكان له منصب المرجعية الدينية، وهي أن يكون: فقيهًا، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه. فكلُّ من اشتمل على هذه السمات -بمستوى المَلَكَة- فهو المرجع.

وهنا نتحدث عن هذه الصفات بشيءٍ من التفصيل، ونبدأ بالصفة الأولى ونُرجئ الباقي إلى ما بعد:

الصفة الأولى.. الفقاهة: "وأما مَن كان من الفقهاء"، مفاد هذه الفقرة هو انَّ أحدًا لا يتأهَّل لمقام المرجعية حتى يكون فقيهاً، فلا يكفي أن يكون ورعاً، تقياً، زاهدًا، عاقلاً، حكيماً، فكلُّ ذلك لا بدَّ من توفُّره، ولكن قبلها يلزم أن يكون الرجلُ الذي تُناط به المرجعية فقيهاً.

من هو الفقيه؟

الفقاهة -بنحو الاجمال-: هي مَلَكة يقتدر بها الواجد لها على استنباط واستخراج الحكم الشرعي من مصادره -الكتاب وسنة الرسول (ص) وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام)-. فمَن كان واجداً لهذه الملكة، وكان قادراً على استنباط الأحكام الشرعية من مظانَّها ومصادرها فهو الفقيه.

مؤهلات الفقيه:

بطبيعة الحال لا يتيسر لكلَّ أحد أن يتعرَّف على الحكم الشرعي بمجرد ملاحظته للكتاب، وليس كُلُّ مَنْ اطلع على سُنَّة الرسول (ص) وما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) يكون قادراً على التعرُّف على الحكم الشرعي منها، بل يتعيَّن عليه أن يتوفر على عددٍ من المؤهلات، وعندئذٍ يكون قادراً على الاستنباط. لذلك يذكر الفقهاء أنه يحتاج مَن يريد أن يصل إلى مرتبة الفقاهة إلى أن يستوعب مجموعة من العلوم، ويكون عارفاً بها معرفةَ المتخصِّص، ومعرفة ذي الملكة فيها، ومن تلك العلوم:

أن يكون عارفاً باللغة العربية بجميع شعبها، محيطاً بدقائقها، فلا بد أن يكون عارفاً بالنحو، والصرف، والبلاغة، والبيان، وعلم المعاني، ولابد أن يكون عارفاً بضوابط أهل المحاورة من أهل اللغة، وكيفية استظهار المعنى من النص. هذا هو العلم الأول، بشُعبه، وعلى ما هو عليه من عمقٍ ودقة. ولابد أن يكون أيضاً عارفاً بعلم المنطق، وضوابطهِ وقواعده.

ومن العلوم التي يجب أن يكون واجداً لها هو علم الرجال، وهو علم واسع، يشتمل على كليات وضوابط، وعلى خصوصيات تتم مراجعتها من خلال ملاحظة كتب الجرح والتعديل، والكتب التي تصدت لبيان طبقات الرجال، وأحوالهم، وشؤونهم، وتواريخهم. وكذلك علم الدراية والحديث، وهو علم يُبحَثُ فيه عن متن الحديث وسنده ويتميَّز به الحديث المقبول من الحديث المردود.

وثمة علم آخر، وهو علم التفسير، فلا بدَّ أن يكون عارفاً بتفسير كتاب الله تعالى، وبما هو مشتمل عليه من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمجمل، والمبيّن والمتشابَه، وأسباب النزول.

كذلك يجب أن يكون عارفاً بعلمٍ هو من أدقُّ هذه العلوم وأوسعها، وهو علم الأصول، وأن تكون معرفته بعلم الأصول -أصول الفقه- معرفة ذي الرأي والملكة. ولابد مضافًا إلى كلَّ ذلك من الإحاطة بالفروع الفقهية على سعتها.

كل هذه العلوم إذا ما توفر عليها أحدٌ -أياً كان فلا شأن لنا بلغته، وبجنسه، وبعرقه، وبموقعه- فإنَّه يكون فقيهاً، لكنه قد لا يكون مرجعاً، فالمرجعية أيضاً تحتاج إلى أن يتوفر على بقيَّة الصفات التي أفادها الإمام العسكري (سلام الله تعالى عليه).

لماذا يجب أن يتعين على الفقيه أن يكون واجداً لكلِّ هذه العلوم؟

باختصار شديد: الجهد الجهيد الذي يبذله طالب العلم في تحصيل هذه العلوم تكون نتيجته هي القدرة على فهم كتاب الله، وسنة رسوله (ص)، وكلمات أهل البيت (ع). فما لم يكن عارفًا بهذه العلوم فإنَّ فهمه لمصدري التشريع لن يكون تامًا، وهذه العلوم تسترعي من طالب العلم أن يقضي عمره الطويل ليصل إلى هذه المرتبة، وهي مرتبة فهم كتاب الله وسنة نبيِّه (ص) وكلام أهل البيت (ع).

والعجيب "وإن عشتَ أراكَ الدهرُ العجيبَ" أن يأتي أحدهم قد قرأ مجلة، وقرأ جريدة، وقرأ كتابًا من هنا وكتابًا من هناك ثمَّ يُفتي ويستظهر، ويقول هكذا أفهم، وهذا رأيي، وهذه وجهة نظري!! فأيُّ فرقٍ بين هذا وبين مَن يتصدى لتشخيص الأمراض ووصف الدواء وهو لا يُحسن من الطب إلا بمقدار ما قرأه في الصحف والكتب المتداولة في الأسواق، فكما يعدُّ المتصدِّي لذلك على غير أهلية متقمَّصًا لغير ردائه بنظر العقلاء، ويعدُّ مَن يقبل بتشخيصه ووصفه للدواء سفيهًا بنظر العقلاء فكذلك ينبغي أنْ يُعدّ من يدعي فهم كتاب الله وسنة نبيِّه (ص) على غير أهلية.

ومع الأسف فإنَّ هناك الكثير من هؤلاء، مِمَّن يتصدى ويقول هذا رأيي، وهذا ما أفهمه وتلك هي من مهازل هذا الزمن.

تنويه:

وقبل أنْ نختم الحديث نريد أن نشير إلى أمرٍ كثيراً ما يتداوله الناس، وهو لماذا لا يُفتي الفقهاء بكذا؟ ولماذا يحرم الفقهاء هذا؟ ولماذا يحللون ذاك؟ ولو كنتُ فقيهاً لأبحتُ كذا، ولحرّمت كذا!

كثيراً ما يصدر هذا من الناس، وهو ناشئ عن جهلهم بواقع حال المسألة، وما هي المساحة التي يستطيع الفقيه أن يتحرَّك في إطارها، فالفقيه ليس له أن يفتي من رأيه، أو أن يُحَكِّم ذوقه، أو فهمه، فالفقيه ما هو إلا مُعرِّف للناس بمفادات الكتاب والسنة وكلام أهل البيت (عليهم السلام)، فليس له أن يُفتي بما يستحسنه أو يستحسنه الناس، فكلُّ ما يصدر عن الفقهاء إنَّما هو مقتضى ما فهموه من المصادر التشريعية، وليس لهم أن يُفتوا بغير ما تقتضيه ضوابط الفهم لمصادر التشريع.

الهوامش:

1- وسائل الشيعة ج27 / ص131 / كتاب القضاء باب 10 من أبواب صفات القاضي / ج20.

2- لاحظ الغيبة -الشيخ الطوسي- ص353.

3- لاحظ الغيبة -الشيخ الطوسي- ص359.

4- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص367.

5- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص393.

6- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص395.

7- وسائل الشيعة ج27 / ص131.

2022/10/05

ما هي شروط الخلافة الإسلامية في التصور الشيعي؟!
درج استخدام الخلافة الإسلامية كمصطلح للإشارة لنظام الحكم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، حيث كان يسمى من يتصدّى لإدارة شؤون المسلمين بعد رسول الله بالخليفة، وعليه فإن الخلافة الإسلامية ضمن هذا التصور ليس لها شروط خاصة غير أن يكون الخليفة من قريش، فكل من تهيئت له الظروف وتمكن من بسط نفوذه أصبح خليفة المسلمين وأمير المؤمنين.

[اشترك]

وقد عاشت الأمة بالفعل تحت إدارة قريش وفي ظل الخلافة الإسلامية تسعمئة سنة، وفي هذه الفترة اكتسبت الأمة وعيها الديني وتشكلت مفاهيمها الإسلامية، ولم يكن من المسموح أبداً لهذه الأمة أن تفكر خارج حدود السلطة الحاكمة، فكانت البيعة للخليفة فرض، والسمع والطاعة له واجب، ومن خرج على ذلك قتل بسيف الإسلام، كما حدث لأهل المدينة من مجازر واستباحة للحرمات، وكما هدمت الكعبة على رؤوس المسلمين، وكما قتل الحسين بن علي (عليه السلام) في كربلاء، وقتل الكثير من كبار الصحابة صبراً أمثال حجر بن عدي وسعيد بن جبير وآخرين، فلم ينعم المسلمون طوال هذه الفترة الطويلة بإسلامهم دون أن يكون على رأسهم خليفة يسوسهم وحاكم يتسلط عليهم، فتشبعت الأمة بذلك وربيت عليه ودرجت فيه حتى أصبح الحالمون بحكم الإسلام اليوم لا يرون سوى تلك الصورة التي حشيت بها كتب التراث وتفنن العلماء والفقهاء في نسج التبريرات الثقافية والفكرية لها، فبات من الصعب على المسلم أن يقارب الخلافة في التاريخ مقاربة سياسية بعيدة عن الدين والعقيدة، برغم إنَّ مجريات الاحداث السياسية تدل على أن الخلافة كانت فعلاً سياسياً بامتياز، فلم تكن سقيفة بني ساعدة- وهي الخطوة الأولى في مشروع الخلافة- ولا آخر حكام بني العباس، يمثل فعلاً دينياً له علاقة بجوهر الإسلام وتعاليمه، إنَّما هي السياسة التي مورست بكل أشكالها وأدبياتها.

وعليه فإن التقييم العام للمسار السياسي للإسلام يقودنا إلى وجود تصورين، الأول: يمثل الرؤية السياسية داخل المدرسة السنية. والثاني: يمثل المدرسة الشيعية. حيث يعتقد السُنة إنَّ ما أُنجز ووقع بالفعل من خيار سياسي بعد وفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمثل الرؤية السياسية في الإسلام، ولذلك تموضع الفكر السُني وبنى تفكيره العقدي والسياسي بما يتماشى مع واقع الخلافة تاريخياً، وأصبح الحاكم يتمتع بقداسة خاصة يكتسبها من كونه خليفة رسول الله أو امير المؤمنين، وتم ربط ذلك بالعقيدة الإسلامية حيث يتهم بالردة كل من يخالف الخلفاء، ومازالت الأمة تتوارث هذه القداسة الى درجة أصبحت خط الدفاع الأول عند السنة، ولا يحق للمسلم مجرد البحث أو التقييم لهذه التجربة، فمن الممكن أن يتهاون أهل السنة مع اليهود والنصارى حتى وإن كانوا يشككون في أصل الإسلام، إلا أنهم لا يتهاونون أبداً مع الشيعة، والسبب في ذلك هو التشكيك الذي يتبناه الفكر الشيعي لتلك التجربة التاريخية ومدى مصداقية تمثيلها للإسلام، فالرؤية الشيعية تعمل على زعزعة الإسلام الذي عملت الخلافة الإسلامية على تصويره، فعدم قبول الشيعة لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان هي السبب الحقيقي وراء تكفير الشيعة واخراجهم عن دائرة الإسلام.

أما الرؤية السياسية الشيعية فقد كانت تسير عكس الواقع المفروض على المجتمع الإسلامي تاريخياً، وقد قدمت تصورها الخاص الذي ينطلق من فكرة الإمامة القائمة على النص والتعيين، والبعد العقدي لهذه الفكرة هو إنَّه لا يمكن صناعة نظام للحكم ومن ثم فرضه بوصفه تعبيراً عن إرادة الله طالما لم يكن بأمر الله وتعيينه، وعليه فشرط الخلافة الإسلامية في التصور الشيعي يقوم على ركيزة واحدة وهي أن الخليفة هو الامام المعصوم الذي يقوم الله ورسوله بتعيينه وتنصيبه، ومن هنا يعتقد الشيعة إنَّ إمامة أهل البيت التي نص عليها القرآن وأكد عليها الرسول هي الامتداد الحقيقي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبالتالي يمكننا القول إنَّ الرؤية السياسية عند الشيعة كانت سابقة لما حدث وأُنجز في الواقع التاريخي من نظام سياسي، بل انطلقت من النص لفهم المسار السياسي للرسالة، فضمن حدود هذه الرؤية انفتحت على الواقع التاريخي ببصيرة نقدية حاكمت  كل التجارب التي قد تتصادم مع هذه الرؤية، ومن أجل ذلك لم يتساهل التشيع مع سقيفة بني ساعدة كخيار يتحكم في مسير الرسالة، وجاهر أئمة الشيعة برفضهم لتلك الخلافة، فأمير المؤمنين (عليه السلام)، امتنع عن بيعة الخليفة الأول أبي بكر نحو ستة أشهر بحسب رواية البخاري ومسلم، وعندما جاءته الفرصة الأولى، وعرض عليه عبد الرحمن بن عوف الخلافة، بشرط أن يسير بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، لم يقبل ولو ظاهرياً ومجاملة، وأعلن رفضه المدوّي بقوله: كتاب الله وسنة الرسول نعم، أما سيرة الشيخين فلا.

ومن هنا يمكننا الجزم بإنَّ الخيار الذي تسلم زمام الأمور، وانقاد له الواقع السياسي للأمة، ولَّد تصوراً وفهماً خاصاً للإسلام، يتباين في كثير من الموضوعات والعناوين مع التصور الذي أنتجه الخيار الثاني وهو خيار المعارضة والانتصار لحق أهل البيت في القيادة والحكم، ومن أهم الملامح التي امتاز بها الخيار الإسلامي الذي اصطف مع السلطة هو التأقلم مع أي نظام سياسي والتبرير لأي حاكم، وقد اكتسب هذه الميزة من نظرته المثالية للتاريخ برغم ما حدث فيه من تناقضات وتباينات، حيث لم يعترفوا بأي فوارق بين الإسلام الذي يتبناه الإمام علي والحسين (عليهم السلام)، وبين الإسلام الذي يتبناه معاوية ويزيد، فالاعتراف بهذا التباين هو نوع من الاصطفاف مع اتجاه ضد الاتجاه الآخر، ومع إنَّ أهل السنة قد ناصروا بالفعل خط الخلفاء ولم يسمحوا بنقدهم والتعرض لهم، إلاّ إنَّهم في الوقت نفسه قد تعاطفوا مع أهل البيت لما لهم من مكانة خاصة عند رسول الله، ولذلك حاولوا التنكر على وجود أي نوع من أنواع الصراع بين علي وأصحاب السقيفة، ولم يسمحوا لأنفسهم أو لغيرهم الحديث او التعرض للحروب التي دارت بين علي وبعض الصحابة بوصفها فتنة يجب الإمساك عن التعرض لها، ومن هنا كانت كربلاء ضرورة ملحة لهز ضمير الأمة وتنبيهها لواقع الإسلام الذي تعمل السلطة على تزييفه.

ومن هنا فإن الخلافة الإسلامية في التصور الشيعي هي حق خاص لأهل البيت (عليهم السلام)، حيث يعتقد الشيعة بإنَّ مسؤولية الإمامة وقيادة الأمة بعد وفاة رسول لله مسؤولية تحددها النصوص الدينية، ومن هنا انطلق هذا الخيار في فهمه للإسلام من واقع النص المتمثل في القرآن وأحاديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) التي أمرت الأمة بضرورة الرجوع إلى أهل البيت، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتواتر عند السنة: أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فتمسك الشيعة بإمامة أهل البيت وانقطعوا لهم، بوصفهم النخبة المسؤولة عن الرسالة وهمومها المستقبلية، وقد أعدهم الرسول الاكرم وأشرف على تأهيلهم للقيام بهذا الدور، وبيّن فضلهم ومكانتهم للأُمّة، فطهرهم الله من الرجس دون غيرهم، وأوجب على الأمة مودّتهم.

وقد كان لهذا التصور رؤية سياسية معاكسة، فبينما تبنت السلطة السياسية الخيار السني وهو بدوره تأقلم معها واحتمى بها، وجد هذا الخط نفسه بسبب فهمه للإمامة في حالة من المعارضة وعدم الاعتراف بكل الأنظمة التي حكمت وما زالت، ومن هنا كانت علاقاته متوترة مع كل الأنظمة التاريخية، وفي الفترات التي كانت تشهد العلاقة نوع من التهدئة كان الشيعة يشكلون نظامهم الخاص داخل تلك الدول التي تغض الطرف عنهم خوفاً من تمردهم، وانعكس هذا التباين بين الخطين في أدبياتهم الثقافية ورؤيتهم العقائدية ونظمهم الاجتماعية، فالمجتمع السني ينتظم ضمن هيكلية الدولة وإداراتها من منطلق شرعي قائم على وجوب السمع والطاعة للحاكم، كما تتبنى الدولة إدارة الشؤن الدينية، من تعيين مفتي عام، ووزيراً للأوقاف والحج، وديواناً للزكاة، مضافاً لبناء المساجد، ورعاية المدارس والمعاهد الدينية، وتعيين الخطباء وتحديد ما يقولونه من خطب الجمعة والأعياد، وما زال هذا الوضع الذي امتد منذ أيام الخلافة وإلى الآن.

أما المجتمعات الشيعية فتعيش ضمن إطار خاص، لا يعترف بشرعية الدولة، ولا يدين لها بالسمع والطاعة، لو حصل ذلك لا يكون مبرراً برؤية شرعية، وإنَّما بحسب ما يقتضيه الظرف السياسي، وبخاصة في حالات الإكراه والخوف. وقد عاش الشيعة هذا الوضع المضطرب منذ التاريخ وإلى الآن وقدموا الكثير للحفاظ على هذه الخصوصية.

ولكي تكتمل رؤية الشيعة حول الإمامة والخلافة نورد رواية طويلة عن الإمام الرضا (عليه السلام) تبين معنى الإمامة ووظيفتها واهميتها، ففي الكافي للكليني، وعيون أخبار الرضا للصدوق عن عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا في أيام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في مسجد جامعها، في يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأدار الناس أمر الإمامة وكثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي ومولاي الرضا (عليه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسم (عليه السلام) ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخُدعوا عن أديانهم، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه حتى أكمل له الدين، وأنّزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج اليه الناس كملاً – أي تاماً كاملاً – فقال عَزّ وجَلّ:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، وأنّزل في حجّة الوداع وهي آخر عمره(صلى الله عليه وآله) (اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا)

وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمضِ (صلى الله عليه وآله) حتّى بيّن لاُمّته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وإقام لهم علياً (عليه السلام) علماً وإماماً، وما ترك شيئاً تحتاج اليه الأمة إلاّ بيّنه، فمن زعم إنَّ الله لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله عَزّ وجَلّ، ومَن ردّ كتاب الله تعالى فهو كافر.

هل يعرفون قدْر الإمامة، ومحلها من الأمة فيجوّزون فيها اختيارهم، إنَّ الإمامة أجل قدراً وأعظم شأنا وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً مِن إنَّ يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم.

إنَّ الإمامة خصَّ الله بها إبراهيم (عليه السلام) بعد النبوة، والخِلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شَرّفَهُ بها وأشاد بها ذكره، فقال عَزّ وجَلّ:(أني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، فقال الخليل (عليه السلام) سروراً بها:(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، قال الله عَزّ وجَلّ: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله عَزّ وجَلّ بإنَّ جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال عَزّ وجَلّ: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ(72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا البهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإقام الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكانوا لَنَا عَابِدِينَ).

فلم تزل في ذريّته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله) فقال الله عَزّ وجَلّ: (إنَّ أولى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)، فكانت له خاصة فقلّدها علياً بأمر الله عَزّ وجَلّ على رسم ما فرضها الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عَزّ وجَلّ: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ).

فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبيّ بعد محمّد (صلى الله عليه وآله)، فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟

إنَّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وارث الأوصياء، إنَّ الإمامة خلافة الله عَزّ وجَلّ، وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين.

إنَّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين.

إنَّ الإمامة أسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي.

الإمام الدال على الهدى والمنجي من الردى، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف، الإمام يُحل حلال الله ويحرّم حرام الله ويقيم حدود الله ويَذبّ عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي بالأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيد القفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى والمنجي من الردى، والإمام النار على اليفاع – اليفاع ما أرتفع من الأرض – الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك، ومَن فارقه فهالك، الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل، والشمس المضيئة والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة والغدير والروضة، الإمام الرفيق والولد الرقيق والأخ الشفيق، ومَفزع العباد في الداهية، الإمام أمين الله في أرضه وحجّته على عبادهِ وخليفته في بلاده، الداعي إلى الله والذاب عن حَرم الله، الإمام المطهر من الذنوب المبرّأ من العيوب، مخصوص بالعلم موسوم بالحلم نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد له بدل ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب بل اختصاص من المُفَضّل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ضلّت العقول وتاهت الحلوم حارت الألباب وَخَسِئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألباب وكلّت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلةٍ من فضائله فاقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكلّه أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد مَنْ يقام مقامه، ويغني غناه، لا، كيف وإنَّى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين.

فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أظنّوا إنَّ يوجد ذلك في غير آل الرسول؟ كَذّبتهم والله أنفسهم ومنّتهم الباطل، فارتقوا مرتقىً صعباً دحضاً، تزّل عنه الى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول بائرة ناقصة، وآراء مُضِلّة، فلم يزدادوا منه إلاّ بعداً: (قَاتَلَهُمْ الله إنَّى يُؤْفَكُونَ)، لقد راموا صعباً وقالوا إفكاً، و(ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيدًا)، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَإنَّ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكانوا مُسْتَبْصِرِينَ).

ورَغِبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كان لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَإنَّ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقال عَزّ وجَلّ: (وَمَا كان لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا إنَّ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا).

وقال عَزّ وجَلّ: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ إيمان عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ(40) أم لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إنَّ كانوا صَادِقِينَ).

وقال عَزّ وجَلّ: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، أمْ (طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ)، أمْ (قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ الله الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)، و(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)، بل هو (فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وراعٍ لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة نسل المطهرة البتول، لا مغمزّ فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حَسَبْ، فالنسب من قريش، -وفي نصٍ-: فالبيت من قريشٍ والذروة من هاشم والعترة من آل الرسول والرضا من الله عَزّ وجَلّ، شرف الأشراف والفرع من عبد مناف، نامي الحلم، مُضْطلَعْ بالإمامة عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عَزّ وجَلّ، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله.

إنَّ الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق كلّ علم أهل زمانهم – فإنَّظر – في قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ إنَّ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَ إنَّ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

وقوله عَزّ وجَلّ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أولوا الأْلْبَابِ)، وقوله عَزّ وجَلّ في طالوت: (إنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ)

وقال عَزّ وجَلّ لنبيّه (صلى الله عليه وآله): (وَكان فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا).

وقال عَزّ وجَلّ في الأئمة من أهل بيت نبيّه وعترته وذّريته: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا).

وإنَّ العبد إذا اختاره الله عَزّ وجَلّ لأمُور عباده شرح الله صدره وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً فلمْ يعي ""أي يعجز"" بعده بجواب، ولا يحيد فيه عن الصواب وهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمِنَ الخطايا والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). (أصول الكافي، الكليني، ج 1 ص 489).

2022/09/21

هل يرى ويسمع الميت أهله عند زيارتهم لقبره؟
لا شك في أن الميت يسمع كلام من تكلم معه سواء كان المتكلم معه أهله أم غيرهم وسواء كان الميت مؤمنا أم كافرا، فقد ورد ذلك في كثير من الأخبار التي سأتعرض الى ذكرها في الختام.

[اشترك]

وسيتضح الجواب أكثر لو فهمنا حقيقة الموت.

 فهل الموت نهاية الإنسان ام هو بداية لحياة جديدة تختلف عن الحياة الدنيا؟.

إن حقيقة الإنسان وجوهرة في روحه لا في بدنه الفاني، والموت يمثل عملية انتقال الروح من عالم الدنيا والمادة إلى عالم آخر نسميه بعالم البرزخ.

وعالم البرزخ هو العالم الذي تحل فيه أرواح البشر بعد ترك هذه الدنيا، فتدخل أجساماً لطيفة سامية عن آثار هذه المادّة القذرة، إلاّ أنّها على شكل أجسامنا، ويقال لكلّ منها (الجسم المثالي) وهو ليس مجرداً تمام التجريد، ولا هو ماديّاً محضاً. إنّه يمتاز بتجرّد برزخي معيّن، وشبّهه بعضهم بما عليه الروح في أثناء ما يراه النائم، إذ تسرّ الروح رؤية النعم، وتعذّبها مشاهدة المناظر المؤلمة، ولذلك أثّر في جسمنا هذا، إذ نبكي عند رؤية حلم مزعج، ونفزع مذعورين من هول ما نرى، أو نضحك من أعماقنا من طرافة ما نحلم به في نومنا. تفسير الأمثل - مكارم الشيرزي (ج10/ص512)       

قال تبارك وتعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42).

وواضح من الآية المباركة أن الموت هو عملية استيفاء وقبض وليس إعدام وإفناء.

ومعنى ذلك أن روح الإنسان تبقى حية بعد موته وخروجها من البدن ودخولها عالم البرزخ، ولازم ذلك أن العقل والإدراك لا زالا موجودين.

قال تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس:26ـ27)

فان الآية صريحة ان التمني كان في عالم البرزخ، لأنه لو كان في عالم الاخرة لما كان من معنى للتمني لان قومه قد علموا جزما.

اذن هنالك إدراك وعقل للموتى في عالم البرزخ وهم يسمعون كلامنا جزما وقد دلت الاخبار على ذلك.

فقد روى الشيخ عن عقبة بن خالد قال: سألت ابا عبد الله(ع) ... ثم مررت بقبور الشهداء فاقمت عندهم فقلت:(السلام عليكم يا أهل الديار انتم لنا فرط وانا بكم لاحقون). تهذيب الاحكام - الشيخ الطوسى (ج6/ص17)

ولازم السلام ان المُسلَّم عليهم وهم الموتى يسمعون السلام، والا لم يكن من معنى للسلام على موجود لا يسمع ولا يدرك السلام.

  وروى الحميري عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، في السلام على أهل القبور: "" السلام عليكم يا أهل الديار من قوم مؤمنين ورحمة الله وبركاته، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، رحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، وإنا لله وإنا إليه. قرب الاسناد للحميري (ج7/ص14)

وروى الطبري ان رسول الله صلى الله عليه واله وقف على القليب يوم بدر فقال : « يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا أبا جهل بن هشام ، يا فلان ، يا فلان ، والذي نفس محمد بيده ، إنهم يسمعون كلامي الآن ».  مسند عمر بن الخطاب من تهذيب الآثار للطبري (ج2/ص487)

وهنا يقسم رسول الله صلى الله عليه واله وهو الصادق المصدق بان الموتى يسمعون كلام من سلم عليه، حتى انه صلى الله عليه واله قل لبعض من معه حينما سأله عن هؤلاء الموتى هل يسمعون السلام قال: (ام انت باسمع منهم لكلامي).

قال ابن عربي: 

وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ فِي أَهْلِ بَدْرٍ: أَتُكَلِّمُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ» أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (ج2/ص384)   

وغيرها من الروايات الكثيرة التي حرص أئمة الهدى عليهم السلام تأديب شيعتهم على كيفية زيارة الموتى وان يسلموا عليهم بقولهم ( السلام عليكم يا اهل الديار ...) .

ولا شك ان هذا السلام ليس المعني به خصوص القبور القريبة من الزائر بل جميع الموتى الموجودين في المقبرة وان بعدوا وهذا دليل على انهم يسمعون بأرواحهم العاقلة وان عالم البرزخ يختلف عن عالمنا فهو خارج عن قانون الزمان والمكان.

ويشهد لذلك أيضاً جواز السلام والدعاء بصوت منخفض بل وان أضمر السلام، لعدم اشتراط رفع الصوت وإيصاله للجميع أو التنقل وإعادة السلام والدعاء ليشمل جميع أموات تلك المقبرة.

اما ما يرجع الى الرؤية، وان الموتى يرون من زارهم، فلم اعثر على رواية تؤيد هذا المعنى في كتب الفريقين.

2022/08/30

الموت في الحوادث.. هل هو من الأجل وهل يتقدّم ويتأخر؟!
يتعرض بعض الناس إلى حوادث مثل حوادث سيارات وقتل متعمد وما إلى ذلك هل لهذه الحوادث تأثير بتقديم الأجل أو تأخيره. هل كل هذه مكتوبة على الإنسان؟ واذا كانت مكتوبة فكيف يحاسب القاتل لأنه قتل؟

[اشترك]

النقطة الأولى: لكل إنسان أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف.

والأجل المحتوم: فهو الذي في علم الله وأم الكتاب، وهو غير قابل للزيادة والنقصان، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.} والمراد هنا الأجل المحتوم.

وأما الأجل الموقوف: ويسمى بالمعلق أيضاً، وهو المكتوب في لوح المحو والإثبات، ومن المعلوم أنه قابل للتغيير والتبديل، بالتقديم والتغيير.

والدليل على وجود أجلين: الآيات والأحاديث:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام 2]

روى الكليني بسند موثق عن حمران، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: {قضى أجلا و أجل مسمى عنده} قال: هما أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف. (الكافي للكليني: 1 / 147).

وروى العياشي عن حسين عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: {قضى أجلا وأجل مسمى عنده } قال: الأجل الأول هو ما نبذه إلى الملائكة والرسل والأنبياء، والأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلايق. (تفسير العياشي: 1 / 355).

وغيرها من الروايات الناصة على تعدد الأجلين.

وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر 11]

فالعمر قابل للزيادة والنقصان بنص الآية الكريمة، ويدل عليه الروايات:

روى الكليني بسند صحيح عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلا صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولا للرحم، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثا وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثا وثلاثين سنة، فيكون قاطعا للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة، ويجعل أجله إلى ثلاث سنين. (الكافي للكليني: 2 / 153).

قال المجلسي معلقاً على فقرة: "ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلا صلة الرحم": ولعله محمول على المبالغة، أو هي أكثر تأثيرا من غيرها، وزيادة العمر بسببها أكثر من غيرها، أو هي مستقلة في التأثير وغيرها مشروط بشرائط، أو يؤثر منضما إلى غيره، لأنه قد وردت الأخبار في أشياء غيرها من الصدقة والبر وحسن الجوار وغيرها أنها تصير سبباً لزيادة العمر. (مرآة العقول: 8 / 373).

ومن الأشياء التي تصير سبباً لزيادة العمر: زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) حيث روى ابن قولويه بسند صحيح عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فان إتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء، واتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالإمامة من الله. (كامل الزيارات لابن قولويه، ص284).

وروى البخاري بسنده عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله (ص) يقول: من سره ان يبسط له رزقه أو ينسأ له في اثره فليصل رحمه. (صحيح البخاري: 3 / 8).

ويُنسَأ: أي: يؤخر، في أثره: أي: في أجله. (لاحظ فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 10 / 348، شرح صحيح مسلم للنووي: 16 / 114).

قال الحافظ ابن حجر: وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا: صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار. (فتح الباري: 10 / 348).

قال ابن تيمية: والأجل أجلان "" أجل مطلق ""يعلمه الله "" وأجل مقيد ""وبهذا يتبين معنى قوله (ص) من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه.  فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا وقال : "" إن وصل رحمه زدته كذا وكذا ""  والملك لا يعلم أيزداد أم لا؛ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر. (مجموع الفتاوى لابن تيمية: 8 / 517).

 الخلاصة: هذه الروايات ناصة على تعدد الأجل.

النقطة الثانية: الحوادث التي تمرّ على الإنسان مكتوبة مقدّرة، يعلمها الله تعالى، ولكن لا تدلّ على الجبر والخروج عن المسؤولية، فالله عالم بأنّ فلاناً سيقتل فلاناً ظلماً وعدواناً، علم الله تعالى ليس هو سبب وعلة القتل، فإنّ علة وسبب القتل هو إرادة القاتل، وليس الله، فالقتل معلول لإرادة واختيار القاتل، وليس معلولاً لعلم الله تعالى.

ومن هنا ما دام أنّ القاتل هو الذي أقدم على القتل باختياره وإرادته، فهو محاسَبٌ ومسؤول عن جريمته.

وسأذكر مثالاً يقرّبُ الفكرة، فلو علم الأستاذ أنّ زيداً سيرسب هذه السنة، وأنّ سعيداً سينجح، ومع ذلك لم يقصّر معهما، قام بوظيفته تجاههما من شرح الدرس والإخبار بموعد الامتحان، ولكن مع ذلك لم يهتم زيد بالدراسة، فرسب، وسعيدٌ انشغل بالدراسة والحفظ، فنجح.

السؤال: هل علم الأستاذ برسوب زيد سبب لرسوبه؟! أم أنّه بإرادته واختياره لم يهتم بالدراسة، فرسب؟

هل علم الأستاذ بنجاح سعيد سبب لنجاحه؟! أم أنه بإرادته واختياره درس وتعب، فنجح؟!

وعليه: فعلم الله كاشف عن المعلوم، وليس علةً للمعلوم.

2022/08/27

لماذا قُسّم الدين إلى ’ فروع وأصول’ وما علاقته بـ ’ ضروريات الدين’؟!
لا وجود لمنشأ شرعي لتقسيم الدين إلى أصول وفروع، فالدين في لسان النصوص مجموعة من الحقائق المتجانسة والمتكاملة دون تفريق بين أصل وفرع، ومع ذلك لا ضير من قبول هذا التقسيم على نحو الاصطلاح العلمي طالما لم تترتب عليه لوازم فاسدة.

[اشترك]

فهناك بعض الفوارق التي استدعت العلماء لتقسيم المعارف الدينية إلى أصول وفروع، فما كان منها متعلقاً بالجانب  العملي والتشريعي أعتبر من الفروع، وما كان متعلق بجانب الاعتقاد القلبي والدليل العقلي اعتبر من الأصول، وقال بعضهم أن الفروع هي ما اشترك في اثباتها العقل والنقل، والأصول هي ما استقل بها العقل، وبذلك اعتبرت العقائد من الأصول بينما أعتبر الفقه من الفروع، وقد يترتب على ذلك بعض الآثار التي لا يمكن قبولها بإطلاقها، مثل القول إن الجاهل بالأصول غير معذور بالمطلق بينما يكون معذوراً بجهله في الفروع، فإن صح ذلك في بعض المسائل الاعتقادية إلا أنه لا يصح في جميع مسائل العقيدة، فلازم ذلك أن الجاهل بمسألة مثل عذاب القبر ونعيمه أعظم من الجهل بمسألة الصلاة والحج والصيام وهذا ما لا يمكن اثباته بالأدلة الشرعية، ومن هنا يمكن قبول ذلك في بعض الأصول الاعتقادية مثل التوحيد والنبوة والميعاد فإن المنكر لها خارج عن الإسلام جاهلاً كان أم غير جاهل، بينما من ينكر العدل والإمامة لا يكفر بذلك مع أنها من الأصول عند الشيعة، وفي المقابل من ينكر ضرورة كالصلاة لا يكون معذوراً بالمطلق، فمثلاً هناك بعض القرآنيين الذين لا يعترفون بسنة النبي وتجدهم يجاهرون بعدم اعترافهم بالصلاة والصوم والحج بالشكل الذي تعارف عليه المسلمين فإن مثل هؤلاء لا يمكن اعذارهم بحجة أنهم لم ينكروا اصلاً من الأصول، ومن هنا يجب الاشتراط لقبول هذا الاصطلاح عدم التفريق بين حقائق الدين من جهة القبول والانقياد والتصديق، فلسان النصوص لم يفرق من هذه الجهة بين أصل وفرع، ولذلك ذهب بعضهم إلى معيار آخر للتمييز بين الأصل والفرع، مثل الشيخ المفيد في أوائل المقالات حيث يقول: إن كان لشخص أو جماعة آراء شاذة قليلة في أمور من فروع الدين أو في جزئيات أصول الدين لا في أصلها بحيث لا يلزم إنكار ضروري الدين فهم ليسوا من أصحاب البدع، وإن كان لهم آراء مخالفة في فروع الدين أو أصوله في الأمور الضرورية، فهؤلاء من أصحاب البدع سواء صدق عليهم اسم فرقة من الفرق الموجودة أو لا.

 كما أن الريشهري في كتابه القيادة في الإسلام وضع معياراً أخر للتفريق بين الأصل والفرع حيث يقول: إذا كان لعقيدةٍ أو عملٍ دورٌ أساس مهمّ في بثّ القيم الإسلامية في المجتمع- بحيث إنّ الإسلام يفقد مفهومه الحقيقي بدون ذلك- فإنّ تلك العقيدة أو العمل هما من الأصول الأساسية لهذا النظام الربّانيّ، وإذا لم يكن لهما مِثلُ هذا الدَّور فهما من فروع الدين.

2022/08/20

العقل الباطن وخوارق اللاشعور.. هل للعقل ’ سلطة خارقة’؟!
العقل الباطن أو العقل اللا واعي مصطلح خاص بعلم النفس والطب النفسي، وبذلك يعتبر من المصطلحات الحديثة التي لا وجود لها في النصوص الدينية، وعليه فإن الطريق الوحيد لمعرفة رأي الشرع هو الرجوع إلى المحكمات الإسلامية، ومن ثم النظر إلى مدى التوافق والتعارض بينها وبين هذا المصطلح، ولتحقيق ذلك لابد من الوقوف أولاً على مفهوم المصطلح وثانياً على تطبيقاته الخارجية.

[اشترك]

هناك معاني للعقل الباطل يمكن قبولها لعدم تعارضها مع الشرع وهناك معاني أخرى لا يمكن قبولها أو على الأقل يجب التحرز منها، فقد جاء في تعريف العقل الباطن في (موسوعة ويكيبيديا): (هو مفهوم يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزء من تكوينه، والبعض الآخر يبقى بمنأى كليٍّ عن الوعي، وهناك اختلاف بين المدارس الفكرية بشأن تحديد هذا المفهوم على وجه الدقة والقطعية، إلا أن العقل الباطن على الإجمال هو: كناية عن مخزن للاختبارات المترسِّبة بفعل القمع النفسي، فهي لا تصل إلى الذاكرة، ويحتوي العقل الباطن على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك، كما أنه مقر الطاقة الغريزية الجنسية والنفسية، بالإضافة إلى الخبرات المكبوتة، القوانين الحاكمة). وجاء في "الموسوعة العربية العالمية": (اللاوَعْي مصطلح في علم النفس لوصف العمليات العقلية والأفكار والتصورات والمشاعر التي تدور في عقول الناس دون إدراك منهم).

ويبدو أن مدرسة التحليل النفسي لسيغموند فرويد شكلت البدايات الأولى لهذا المصطلح، حيث حمّلت هذه المدرسة اللا شعور مسؤولية الوضع النفسي، أي ما نراه من سلوك واعي هو تعبير عما لا نراه من سلوك لا واعي في الباطن، ومع أن هذه المدرسة امتلكت قدرة تحليلية مقدرة إلا أنها لا تعكس رؤية فلسفية شاملة لها القدرة على تفسير كامل للإنسان؛ وذلك لكونها غفلت عن الجانب الروحي والفطري واختصرت الإنسان في مجموعة من الغرائز البدائية، وبخاصة الغريزة الجنسية التي أرجع إليها فرويد كل الأسباب المؤدية للاضطرابات النفسية، وفي ذلك إهمال واضح لعوامل البيئة والثقافة وجميع مؤثرات المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، وقد التفت العلماء لهذا القصور فعملوا على تطوير المدرسة التحليلية بحيث تستوعب جميع هذه الأسباب، ولذا اعتبر روادها الجدد إن المشكلة النفسية تعود إلى خليط بين الثقافة واللا شعور، واعتقد آخرون أن المحرك الأساس للازمات النفسية هو الثقافة والتنشئة الاجتماعية، وهكذا بدأ علم النفس التحليلي يوسع دائرة الأسباب كما يوسع تبعاً لذلك أساليب العلاج، فكان من الطبيعي أن تصبح تقوية الروح والإرادة الإنسانية من العوامل المهمة لعلاج الأمراض النفسية، وبذلك تجذرت مدرسة جديدة قائمة على العلاج بالمعنى، أي تحفيز النفس الإنسانية بمعاني إيجابية وبنظرة متفائلة للحياة، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في اتجاهات التنمية البشرية، أو ما يسمى بالبرمجة اللغوية العصبية، ومما لا شك فيه أن هناك ثمار إيجابية لهذا العلم إذا تم توظيفه في حدود الضوابط العقلية والشرعية، وهذا بخلاف بعض التوجهات المادية التي صورت العقل الباطن وكأنه إله له قدرات مطلقة، فهو الرزاق وهو الشافي وهو المتحكم في جميع العمليات الحيوية في الجسم، وهو الذي يجعل الإنسان سليماً أو مريضاً، سعيداً أو تعيساً، غنيّاً أو فقيراً، وهذا ما لا يمكن قبوله والتسليم به، وقد أشار السائل في سؤاله لهذا المعنى بقوله: (خوارق اللا شعور أو قوة العقل الباطن) فليس هناك خوارق لقوانين الطبيعة ولا وجود لقوة باطنية يمكنها أن تتجاوز السنن الكونية وما قدره الله للإنسان، وكل ما يمكن قبوله من هذا العلم هو التطبيقات العلمية التي يشهد بها العقل وتصدقها التجارب الصحيحة، فمثلاً قانون الجذب الفكري الذي تتحدث عنه البرمجة اللغوية العصبية لا يمكن التسليم بكونه مسؤولاً عن كل ما يصيب الإنسان، فقوة العقل الباطن لا يمكن أن تكون صاحبة الأقدار، ولا يعني ذلك أننا نتجاهل تأثير التفكير الإيجابي وإنما نتحرز أن يمنعنا ذلك من الإيمان بقدرة الله وتقديره، فالله هو من يقدر حياة الإنسان وليس الكون أو مجرد القوى الخفية، ومن المؤكد أن إيماننا بقدرة الله وتقديره لا تتعارض مع التفاؤل والعمل إلا أن النتيجة النهائية تبقى بيد الله ومشيئته وليس مجرد التفكير العميق يجذب بذاته ما يفكر فيه الإنسان استقلالا عن تقدير الله، فمثلاً لو كان التفكير في الغني أو في الصحة أو في الخلود يجعل الإنسان حتماً غنياً ومعافى وخالداً شاء الله ذلك أو لم يشاء قدر الله ذلك أو لم يقدره لكان الإنسان هو الإله ولكان خالداً ابداً في هذه الحياة.

وكذلك من المفاهيم التي لا يمكن قبولها هو تصوير قدرة خاصة للعقل الباطن تمكنه من التواصل مع الوعي الكوني، فيكون بذلك مصدراً لمعارف خاصة وعلوم غيبية، ومثل هذا الاعتقاد مما لا شك فيه يؤدي إلى الانحراف الفكري والعقائدي.

وفي المحصلة أن أصل وجود عقل باطن وإن له تأثير على سلوك الإنسان لا يتعارض مع الشرع، طالما كان ذلك التأثير ضمن السنن والقوانين التي يعترف بها العقل الواعي، وما لا يمكن قبوله هو الإيمان بالعقل الباطن الذي تنتفي معه إرادة الإنسان، أو الاعتقاد بأن العقل الباطن له سلطة خارقة تنتفي معها سلطة الله وقدرته، وقد يظهر ذلك في بعض كلمات بعض التوجهات المادية فيجب الانتباه لها والتحرز منها.

2022/08/11

كيف تنطق جوارحنا لتشهد يوم القيامة؟!
ذكروا في كيفية إنطاق اللّه تعالى الجوارح للشّهادة بأعمال صاحبها يوم القيامة أقوالاً وهي:

[اشترك]

أوّلاً: إنّ اللّه تعالى يبني الجوارح هناك على بنية يمكنها النّطق من جهتها، فتكون هي بنفسها ناطقة، كما جعل سبحانه وتعالى اللّسان في دار الدّنيا كذلك.

الثّاني: إنّ اللّه تعالى يوجد فيها كلاماً يتضمن الشهادة بما قامت به من أعمال، فيكون المتكلّم في الواقع والحقيقة هو اللّه تعالى دونها، ولكن أضيفت الشّهادة إليها مجازاً.

الثّالث: إنّ اللّه تعالى يجعل في الجوارح علامات وحالات تقوم مقام النّطق بالشّهادة، وتدلّ على الفرق بين الأعمال الصّالحة والأعمال السّيئة. فسمّي ذلك شهادة مجازاً.

هذه هي الأقوال المشهورة الّتي ذكرها المفسّرون والمحدّثون في كيفية شهادة الجوارح(1).

وبهذه الأقوال وشبهها فسّروا شهادة السّماء والأرض ونحو ذلك.

سائر الشّهود

وهناك في يوم القيامة شهود آخرون يشهدون للنّاس أو عليهم بأعمالهم، جاء ذلك في الكتاب والسّنة:

فمنهم: الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (1) ومنهم الأئمّة المعصومون عليهم الصّلاة والسّلام(2)

ومنهم: القرآن الكريم (3)

ومنهم: الملائكة (4)

ومنهم: العباد المؤمنون من كلّ أمة(5)

ومنهم: البقاع(2)

ومنهم: الّليالى والأيام...(3).

إلى غير ذلك... فإنّ للّه تعالى على كلّ عبد من عباده رقباء من خلقه، يحفظون أعماله، ويحصون أفعاله... فهو تعالى يستشهد بهم على عباده في أعمالهم، ثمّ يحاسبهم ويجازيهم بعد إتمام الحجّة عليهم، لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة... .

(1) قال الطبرسي رحمه اللّه في قوله سبحانه: فكيف: أي فكيف حال الأمم وكيف يصنعون إذا جئنا من كلّ أمّة من الأمم بشهيد وجئنا بك يا محمّد على هؤلاء يعني قومه شهيداً ومعنى الآية أنّ اللّه تعالى يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على أمّته فيشهد لهم وعليهم ويستشهد نبيّنا على أمّته; وقال الصّادق عليه السّلام: لكلّ زمان وأمّة إمام، تبعث كلّ أمّة مع إمامها. بحار الأنوار 7 / 307 ـ 308 وكذا في الصفحة 313، الرّقم 5، وفي رواية أمير المؤمنين عليه السّلام: والشهداء هم الرّسُل عليهم السّلام.

(2) في رواية أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السّلام في قول اللّه تبارك وتعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ) قال: نحن الشهداء على النّاس بما عندهم من الحلال والحرام وما ضيعوا منه. بصائر الدرجات: 102، الرّقم 1، وكذا عن الثمالي قال: قال أبو عبداللّه عليه السّلام: نحن الشهداء على شيعتنا، وشيعتنا شهداء على الناس وبشهادة شيعتنا يجزون ويعاقبون. بحار الأنوار 7 / 325، الرّقم 19 عن كتاب فضائل الشيعة: 13، الحديث السّادس عشر.

(3) عن أبي جعفر عليه السّلام: يا سعد تعلّموا القرآن فإنّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق والناس صفوف عشرون ومائة ألف صف... فيقول اللّه تبارك وتعالى: كيف رأيت عبادي؟ فيقول: يا ربّ منهم من صانني وحافظ عليّ ولم يضيع شيئاً ومنهم من ضيعني واستخف بحقّي وكذب بي وأنا حجتك على جميع خلقك، فيقول اللّه تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لاُثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب ولاُعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب... الكافي 2 / 596 ـ 597، حديث 1.

(4) إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة دفع كلّ انسان كتابه فينظرون فيه أعمالهم فينكرونها فيقولون ما عملنا منها شيئاً فتشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم، فقال الصّادق عليهم السّلام: فيقولون للّه: يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك، ثمّ يحلفون باللّه ما فعلوا من ذلك شيئاً وهو قول اللّه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَميعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام. فعند ذلك يختم اللّه على ألسنتهم... تفسير القمي 2 / 264.

(5 ـ 3) في شهادة اليوم في يوم القيامة: عن أبي عبداللّه عليه السّلام قال: ما من يوم يأتي على ابن آدم إلاّ قال ذلك اليوم: يابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فافعل بي خيراً واعمل فيّ خيراً أشهد لك يوم القيامة، فإنّك لن تراني بعدها أبداً.

وفي شهادة الليل يوم القيامة: عن أبي عبداللّه عن أبيه عليهما السّلام قال: الليل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلائق إلاّ الثقلين: يابن آدم، إنّي على ما في شهيد فخذ منّي، فإنّي لو طلعت الشّمس لم تزدد في حسنة ولم تستعتب في من سيئة، وكذلك يقول النّهار إذا أدبر اللّيل. بحار الأنوار 7 / 325، الرّقم 20 و 21.

وأيضاً في حديث طويل قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:... والبقاع التي تشتمل عليه شهود ربّه له أو عليه، واللّيالي والأيّام والشّهور شهوده عليه أوله، وسائر عباد اللّه المؤمنين شهوده عليه أوله، وحفظته الكاتبون أعماله شهود له أو عليه، فكم يكون يوم القيامة من سعيد بشهادتها له، وكم يكونوا يوم القيامة من شقي بشهادتها عليه... فاعملوا ليوم القيامة وأعدوا الزّاد ليوم الجمع ـ شهر اللّه الأعظم ـ شهدت له هذه الشهور يوم القيامة... وينادى مناد: يا رجب وشعبان ويا شهر رمضان، كيف عمل هذا العبد فيكم؟ وكيف كانت طاعته اللّه عزّوجلّ؟ فيقول رجب وشعبان وشهر رمضان: يا ربّنا ما تزوّد منّا إلاّ استعانة على طاعتك، واستمداداً لمواد فضلك، ولقد تعرض بجهده لرضاك، وطلب بطاقته محبتك... بحار الأنوار 7 / 315 ـ 316، الرّقم 11.

*آية الله السيد علي الحسيني الميلاني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش: (1) أنظر: التبيان 9 / 117 ـ 119 ومجمع البيان 9 / 15 ـ 17، والبحار 7 / 310.
2022/07/11

أحداث دمويّة في الشرق الأوسط.. هل لحروب المسلمين أهداف؟!
إن واقع المسلمين في هذه الأيام واقع سيئ جداً لا يحسدون عليه، فإن الفتن متفشية في العديد من البلاد الإسلامية كفلسطين والشام والعراق وباكستان والصومال ومصر وليبيا وتونس واليمن وغيرها، وفي هذه الحروب كثر فيها سفك الدماء، وهتك الأعراض، وإتلاف الأموال ونهبها بالنحو الذي يُحدِّث التاريخ أنه كان يَحْدُث مثله في الحروب الهمجية البربرية، حتى تشكّلت عند غير المسلمين في جميع أنحاء العالم صورة سيئة سوداء قاتمة عن ثقافة المسلمين في الحرب، أحدثتها هذه النزاعات الدموية المشتعلة في الشرق الأوسط.

[اشترك]

إن ثقافة الحرب في الإسلام يجب أن تؤخذ من أقوال النبي (ص) ومن أقوال الأئمة الأطهار عليهم السلام، ومن سيرهم المباركة التي جسدت حقيقة ثقافة الحرب في الإسلام، وأما ما تقوم به الجماعات الإسلامية التي تطلق على نفسها جماعات جهادية، فإنه بعيد كل البعد عن تعاليم الإسلام.

وعليه، فلا بد أن نلقي الضوء على أقوال وسير المعصومين عليهم السلام؛ لتتجلى لنا ملامح الخطوط العامة لثقافة الحروب في الإسلام، وهذه الملامح تتضح بعدة أمور:

1- الحروب في الإسلام هادفة:

الحروب في الإسلام حروب هادفة، وليست حروباً عبثية من أجل سفك الدماء والإخلال بأمن المسلمين، فإن من الأهداف السامية للحروب التي وقعت في زمان النبي (ص) الدعوة إلى الإسلام، ورفع الظلم، وبسط العدل، وإحياء النفوس الميتة، ولم يكن من أهدافها: السيطرة على المناطق، والهيمنة على البلاد الأخرى.

وحينما فتح رسول الله مكة نادى خالد بن الوليد: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة» فأمر رسولُ الله أميرَ المؤمنين (ع) أن يأخذ منه الراية وينادي: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تؤوى الحرمة».

وأهداف الحروب الإسلامية عند المعصومين يسيرة التحقق وليست بالعسيرة، فبمجرد إعلان الخصم الدخول في الإسلام ولو ظاهراً عن طريق النطق بالشهادتين، أو دفع الجزية ممن يرفض الدخول الإسلام تنتهي الحرب، علماً أن الجزية هي بمثابة التأمينات الاجتماعية في وقتنا الحالي، التي تؤخذ لحفظ حقوق الكفار في حال ضعفهم وشيخوختهم، مع ضمان حفظ حياتهم وأموالهم وكرامتهم، فيكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.

ولكن حينما ننظر إلى حال الحروب المشتعلة في هذا العصر بين المسلمين، كالحروب الحاصلة في الشام على سبيل المثال، فإننا نلاحظ عبثية هذه الحرب، وعدم وجود أهداف حقيقية لها؛ لأن هؤلاء المحاربين الذين يصرّحون بأن هدفهم الأساس هو إسقاط النظام لم يتمكنوا من تحقيق هذا الهدف على مدى سنوات، كان نتيجتها أن أُزهقت فيها آلاف النفوس، وخربت بها بلاد الشام، وبات واضحاً للجميع أنهم لا يتمكنون من تحقيق هذا الهدف، ومع ذلك لا زالوا مستمرين في هذه الحرب، وحتى مع فرض إمكانية إسقاط النظام فإن جماعات المعارضة المسلحة الذين يتحاربون مع بعضهم لهم أهداف أخرى متضاربة فيما بعد سقوط النظام، فمنهم من يريد إقامة حكومة إسلامية، ومنهم من يرفض قيام مثل هذه الحكومة، وهذا يعني أن الحرب ربما تبقى قائمة حتى في حال سقوط النظام الحالي.

2- عرض أهداف الحرب على الخصم والقبول باختياراته:

من آداب الحروب في الإسلام أيضاً عرض أهداف الحرب على الخصم، وتوضيح الخيارات المتاحة له، والقبول بما يختار. فمن الوصايا التي وردت عن رسول الله  في الحرب أنه قال: « إذا لقيتم عدواً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم، وكفوا عنهم: ادعوهم إلى الإسلام، فإن دخلوا فيه فاقبلوه منهم وكفوا عنهم، وادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا أن يهاجروا، واختاروا ديارهم، وأبوا أن يدخلوا في دار الهجرة، كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين، يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين، ولا يجري لهم في الفيء ولا في القسمة شيء، إلا أن يهاجروا في سبيل الله، فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم وكفّ عنهم، وإن أبوا فاستعن الله عز وجل عليهم، وجاهدهم الله حق جهاده». (الكافي 5/29).

ونحن نلاحظ اليوم أن الجماعات المسلحة التي تطلق على نفسها منظمات إسلامية أو جهادية، إذا ظفروا بالشيعي قتلوه شر قتلة، ولم يقبلوا منه قولاً، حتى ولو تبرأ من التشيع! مع أن التعاليم الإسلامية مخالفة لهذا السلوك تماماً، فإنها تحث على الكف حتى عن الكافر بمجرد أن ينطق بالشهادتين وإن كان كاذباً.

3- عدم البدء بالحرب:

من آداب الحرب في الإسلام عدم البدء بالحرب، فلا بد عندما يلتقي الجيشان من الوعظ والتذكير والنصيحة والإرشاد، وإقامة الحجة عليهم، والعمل على الحيلولة دون وقوع الحرب، كما فعل الإمام الحسين (ع)  يوم عاشوراء فإنه وعظ وذكر وحذر وبين لهم مغبة عملهم وقبح صنيعهم، وكذلك صنع أمير المؤمنين  في حروبه كحرب الجمل حينما ذكّر الزبير بأن النبي أخبره أنه سيقاتل أمير المؤمنين وهو ظالم له، وهذا خلاف ما نشاهده اليوم من الجماعات المسلحة مثل داعش وغيرها، الذين يشنون الغارات على الآمنين من دون سابق إنذار.

بل إن أمير المؤمنين (ع) في حرب النهروان بالرغم من أنه وعظ الخوراج، وأرسل إليهم عبد الله بن عباس رضوان الله عليه الذي أقام عليهم الحجة، فرجع منهم قوم عما كانوا عليه، إلا أنه لم يبدأ المعاندين منهم بقتال، وقال لأصحابه: لا تبدؤوهم بقتال إلا أن يحدثوا حدثاً. وكذلك صنع الإمام الحسين في يوم عاشوراء حيث لم يبدأ بقتال بعد أن وعظ القوم وأقام عليهم الحجة، إلا بعد أن رشقوا خيامه بالسهام، فقال لأصحابه: قوموا يرحمكم الله، هذه رسل القوم إليكم.

4- عدم قتال المسلمين:

فإن المسلم لا يجوز قتاله ولا استباحة دمه بأي مبرر، والمسلم هو كل من نطق بالشهادتين، فإن كل من نطق بالشهادتين حقن دمه وماله وعرضه. والاختلاف في المذاهب لا يسوّغ القتال ما دام المسلم يشهد الشهادتين، إلا في أحوال خاصة مذكورة في كتب الفقه، كما لو كان المسلم باغياً، ومع ذلك فإن محاولة الإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين يجب أن تسبق قتال الطائفة الباغية حتى ترجع عن بغيها، قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّـهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

5- عدم قتل الأبرياء والآمنين العزل:

في الحروب الإسلامية لا يجوز قتل الأبرياء كالنساء والأطفال والشيوخ، بل حتى الشباب الذين ألقوا سلاحهم وتجنبوا القتال إلا لضرورة ملحة، وقد ورد عن النبي  في وصاياه في الحروب أنه قال: (ولا تقتلوا وليدا، ولا متبتلاً في شاهق). وأما الجماعات الإرهابية في وقتنا الحاضر فقد وصل بها الطغيان إلى أنها تترصد المسلمين من أجل اغتيالهم بالجملة وهم يؤدّون الصلاة في مساجد الله، فأي مسوّغ أجاز لهذه الجماعات التي تطنطن باسم الإسلام أن ترتكب مثل هذه الجرائم الشنيعة؟

6- عدم قتل النساء والأطفال خصوصاً:

من ملامح الحروب الإسلامية أيضاً عدم جواز قتل النساء والأطفال حتى لو كانوا محاربين. فلو أن حرباً قامت بين المسلمين والكافرين، وكان في جيش الكافرين مقاتلون من النساء والأطفال، فالواجب حينئذ تجبنهم وعدم مقاتلتهم، وفي حال الاضطرار إلى ذلك يجب الاكتفاء بالدفاع عن النفس وعدم قصد قتل النساء والأطفال مهما أمكن، وفي حال الظفر بطفل مسلح أو امرأة مسلحة يكفي أخذ السلاح منهم، ولا يجوز قتلهم.

وقد روى الشيخ الكليني (قدس سره) في كتاب (الكافي) عن حفص بن غياث أنه سأل أبا عبد الله  عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ فقال: لأن رسول الله  نهى عن قتال النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلوا، فإن قاتلت أيضاً فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللاً، فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان في دار الإسلام أولى، ولو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية. (الكافي 5/29).

ومن المسائل التي يذكرها العلماء في كتبهم الفقهية، أن يتترس الكفار بالنساء والصبيان في الحرب، فهل يجوز للمسلم أن يقتل النساء والأطفال الذين جعلهم الكفار تروساً بشرية، أم لا؟

لقد أفتى الفقهاء أنه إذا لم يلتحم الجيشان، وأمكن الكف عنهم فليُكف عنهم، وأما إذا التحم الجيشان فإن أمكن قتل الكافر دون النساء والصبيان فليقتل الكافر، وليجهد المسلم في تجنب النساء والأطفال، وإن لم يمكن ذلك وجب قتل الكفار ولكن من دون أن يقصد النساء والأطفال.

7- عدم استخدام الأساليب القذرة:

ورد عن رسول الله (ص) من وصاياه في الحروب أنه قال: ((اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثّلوا..)). والملاحظ في حروب الجماعات التي تسمى بالجهادية الإسلامية أنهم يغالون في التمثيل بالجثث بعد القتل بأبشع الطرق، كقطع الرؤوس ووضعها على صدور القتلى، بل اللعب بالرؤوس المقطوعة، وتشويه جثث القتلى بالرصاص، وهذا مخالف للتعاليم النبوية الصريحة التي تؤكد على النهي عن التمثيل بالجثث، فقد روي عن رسول الله  أنه قال: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور. (نهج البلاغة: 445).

ومن الأساليب القذرة في الحروب أيضاً منع الماء عن الخصم، ومن المعروف عن الأمويين أنهم يستخدمون هذا النوع من الأساليب في حروبهم، فقد صنعوا ذلك مع أمير المؤمنين (ع) في صفين، ومع الإمام الحسين (ع) ونسائه وأطفاله في كربلاء، لكن التاريخ يحدثنا أن أمير المؤمنين  في حرب صفين لما مُنع جيشه من الماء، ثم استولى على الماء قال له بعض أصحابه: نمنعهم من الماء كما منعونا، إلا أن أمير المؤمنين أبى ذلك، وجعل الماء بينه وبين خصمه، يشرب منه الجميع.

8- عدم إتلاف الممتلكات:

ورد عن رسول الله (ص) من وصاياه في الحروب أنه قال: (ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً)، وفي بعض الروايات قال: (ولا تهدموا داراً).

وهذه الروايات وأمثالها تشعر بأن الهدف من الحرب هو قتال المقاتلين فقط، وليس من أهداف الحرب تخريب ممتلكات الخصوم.

9- ما بعد النصر في الحرب:

عادة ما تخلف الحروب بعد انتهائها وانتصار أحد الجيشين كثيراً من القتلى والجرحى والهاربين، والتعامل الصحيح مع هؤلاء يكون بترك الهاربين منهم وعدم تتبعهم، ومعالجة جرحاهم، والكف عمن ألقى السلاح منهم، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع)  أنه نادى في جيشه بعد أن انتصر في يوم الجمل وانهزم القوم: (لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبراً، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن)، وهو نفس النهج الذي انتهجه رسول الله في فتح مكة.

ومن أروع المبادئ الإسلامية في الحروب بعد النصر هو التعامل مع الخصوم بالعفو والصفح وعدم التشفي منهم والانتقام.

قال أمير المؤمنين : إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه. (نهج البلاغة: 488).

هذه هي ثقافة الحروب في الإسلام التي جسدها رسول الله (ص) وأمير المؤمنين  والإمام الحسين ، وكل ما يخالف ذلك مما يجري الآن بين المسلمين فضلاً عن ما بينهم وبين أعدائهم من التشويه العظيم لصورة الحرب عند المسلمين، فإن الإسلام بريء من كل هذه التصرفات البربرية التي هي بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام، ولا شك في أن كل هذه التصرفات منبعثة عن أمراض نفسية عند الجماعات الإرهابية، وجهل فاضح بأحكام الإسلام، أو الرغبة في تشويه صورة الإسلام الناصعة، إما بقصد وتعمد أو من دون قصد.

*الشيخ علي آل محسن

2022/07/10

2022/07/05

متى تضيع طرق الحياة؟: عن احتواء ’التوحش’ لدى المجتمعات
في بحثنا عن مفاتيح التقدم والنهضة واستكشاف السلام والتآلف الإنساني في نهج الإمام علي (عليه السلام)، يشكل التعامل مع الناس واحدا من أسس نجاح الأشخاص والقادة المتصدّين للعمل الاجتماعي، وكلما اكتشف الإنسان مهارات التعامل مع الناس، وأجاد استعمالها، حقق لنفسه ولمجتمعه النجاح والتقدم.

[اشترك]

لذا فإن تتبع هذا الفن عند الإمام علي (عليه السلام)، يقدم لنا قواعد رصينة وأمينة يمكن أن نسير في هداها لتحقيق الغايات الدنيوية والأخروية باطمئنان وأمان.

ومن هنا تناولنا مفهوم الإنسان الاجتماعي في منهجيته (عليه السلام)، والجوانب الاجتماعية في هذه المنهجية، للوصول إلى فهم ملامح المجتمعات التي تخرج من عالم الإنسان الاجتماعي.

فالإنسان الاجتماعي يمثل غاية في خلق الإنسان لبناء التكامل الإنساني من خلال الاحتكاك والتواصل الاجتماعي، وعندما نراجع كلمات أهل البيت (عليهم السلام)، وتوصياتهم، ومواعظهم، تجد كمّا كبيرا هائلا من الإرشادات التي توجه حول التواصل والتسامح الاجتماعي.

ومنها فن المعاشرة، المداراة، الحلم، الاحترام، المسؤولية، العفو، كظم الغيظ، وهي قيم تؤسس لبناء الإنسان الاجتماعي، لأنه به يمكن حصد الخير والاستقرار والسلام والتسالم في المجتمع، ولكن عندما يترك الإنسان هذا المبدأ ويترك القيم التي تحيط به وتؤدي به إلى التفاعل والتعاون الاجتماعي، سوف يصبح غير مستأنس بالآخرين، ويدخل في عالم التوحش.

ومن الأمور التي استكشفنا منها مفهوم المجتمعات المتوحشة:

الأول: المجتمعات الوهمية، الفارغة من القيم الإنسانية، حيث يزداد فيها التباعد والتنافر والصراع.

الثاني: العلاقات الاجتماعية المادية التي تقوم على المصالح فقط.

الثالث: الاستغراب الاجتماعي وعدم اندماج الفرد في المجتمع، وافتقاد الروابط الإنسانية والمعنوية.

الرابع: المجتمعات العشوائية التي تفتقد للمناهج في التربية والتعليم والتوجيه والإصلاح.

الخامس: المجتمعات العنيفة العدائية المتوترة المشحونة بالصراعات.

السادس: المجتمعات الغرائزية التي لا تعرف التعقّل وتسيطر عليها الأهواء وتتحكم فيها الغرائز.

السابع: المجتمعات التدميرية التي يتم فيها تفكيك القيم، عبر الشمولية والانصهار تحقيقا لمصالح خاصة، أو أيديولوجيات خاصة تهتم أو تستفرد بعملية الهيمنة على الآخرين، وهذه المجتمعات التدميرية التي تدمر نفسها بنفسها تنقض وتستأصل القيم الأخلاقية والإنسانية الصالحة.

وعندما تستأصل القيم والأعراف الإنسانية الصالحة، سوف تقع في شبكة القيم الفاسدة، أو القيم والسلوكيات المتوحشة وتبتعد عن مهارات التواصل والمعاشرة والمداراة، فتفقد بالنتيجة التفاهم والتعايش مع الآخرين.

التدرّج في بناء الحرية

المجتمعات التدميرية نلاحظها في جانبين: الجانب الاجتماعي المحلي، وهي تلك المجتمعات التي لا تصبر على بناء ذاتها، وبناء التراكم الاجتماعي والقيم الصالحة، فتنقض باستمرار نفسها بنفسها، فمجتمعات الحرية مثلا تقوم على البناء المنهجي تدريجيا عبر التربية المستدامة على ثقافة الحرية، وهذا النوع من التربية خصوصا في مجتمعات كانت تعيش الاستعباد والاستبداد، عملية صعبة جدا، حيث تحتاج إلى حالة صبر وبطء وتدرّج في عملية التثقيف، ولابد أن تكون هناك توعية مستمرة مع استقامة واعية حتى تستوطن ثقافة الحرية في داخل نفس الإنسان وأفراد المجتمع.

ولكن في المجتمعات التي كانت تعيش الاستبداد وتبعت به فإنها تحاول أن تنقض الحرية لأنها تعتقد أن الاستبداد هو الذي يعطي القوة في الهيمنة والسيطرة والغلبة على الآخرين، وأن الاستبداد هو الذي يحقق الأمن والاستقرار والانضباط، لكن هذا الأمر خاطئ جدا.

السبب في نقض الحرية هو عدم الصبر على بناء القيم، فالتربية عملية بطيئة النمو بشكل عام، فكل السلوكيات والقيم الصالحة تحتاج إلى صبر، منذ نعومة أظفار الطفل، الذي يحتاج إلى تربية متواصلة منهجية وفق استراتيجية بعيدة المدى، فيصل إلى عملية قطف الثمار، ويتحول إلى إنسان صالح.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَلَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ)، فلا تستعجل في عملية نقض السنن الصالحة، عليك أن تصبر حتى تنمو ببطء، فهذه السنن الصالحة تحتاج إلى حماية وتنمية وتربية وعملية صناعة مستمرة.

مساوئ حصد الثمار سريعا

هذا هو جانب المجتمعات المحلية التي تستعجل عملية حصد الثمار السريعة، وبالنتيجة هي تنقض السنن الصالحة باستمرار، وهذا من عناصر التخلف المؤثرة جدا، فالنهضة عملية تحتاج إلى وعي وفهم وتعلم وتعليم في بناء السنن الصالحة، وإلا عندما تنقض السنن الصالحة وتذهب إلى سلوكيات أخرى، فإن النتيجة يصبح المجتمع مجتمعا تدميريا لنفسه ولذاته.

أما في جانب المجتمعات العالمية فإن مجتمعات الحداثة أو تحديث المجتمعات، تحديثا ماديا، بداعي التجديد، فإنه يتم نقض السنن الصالحة، وتدمير القيم الأخلاقية والإنسانية، بداعي التقدم والتطوير، ولذلك تبرز مظاهر مادية ضخمة وسلوكيات متغوّلة تفرّغ الانسان من محتواه المعنوي الحقيقي.

إذا كان ابنك متربّيا على تربية صالحة، فلا داعي أن تغذيه بأفكار سيئة، ومناهج سيئة، وسلوكيات سيئة، وتنقض السنن الجيدة، فسوف يخرج من عالم الإنسانية ويتحول إلى عالم التوحش، في حين أن عالم الإنسانية هو الذي يصنع الألفة والسلام، وعالم السنن الصالحة المتراكمة هو الذي يؤدي إلى الألفة والسلام والإنسانية.

(ولا تنقض سنة صالحة) بل لابد من رعاية هذه السنن الجيدة، على سبيل المثال حالة الكرم واحترام الضيف، هذه من السنن الصالحة، لكن تحوّل الإنسان نحو المادية، وانعزاله عن المجتمع يجعله منعزلا عن الآخرين، فتتحول وتتضاءل هذه السنة الصالحة.

فلابد من التمسك بالسنن الصالحة والقيم الجيدة، لكي يتحقق التقارب الاجتماعي، مثلا صلة الرحم أو مداراة الجيران، أو الأخوّة التي تطرقنا لها سابقا، هذه كلها قيم صالحة لابد من رعايتها حتى تجعل المجتمع إنسانيا، وتجعل الإنسان اجتماعيا، فالسنن الصالحة هي التي تربي المجتمع، أو تعطي المجتمع نضجا تشاركيا سليما يقوده نحو النهضة والتقدم.

لماذا تضمحلّ المجتمعات؟

الثامن: المجتمعات المتفككة والمنشطرة، وهذه من مظاهر المجتمعات المتوحشة، فهي تعيش الصراعات، والصراعات هي وحشية دائما، تؤدي إلى تدمير الإنسان والمجتمع، وإلى الانحرافات، وتؤدي إلى اضمحلال المجتمع وتدمير كل مقومات العيش الصحيح والسليم، لأن الصراعات والحروب خاسرة دائما، ولا يمكن لأي طرف أن يربح، الكل فيها خاسرون.

إن الصراعات الموجودة في حياتنا تدمر عملية البناء الصحيح، وتعود بالإنسان إلى الخلف دائما. فعن الإمام علي (عليه السلام): (وَالْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ عَلَى التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالزَّيْغِ وَالشِّقَاقِ فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ وَمَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ وَمَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَحَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّيِّئَةُ وَسَكِرَ سُكْرَ الضَّلَالَةِ وَمَنْ شَاقَّ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طُرُقُهُ وَأَعْضَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُهُ). الكفر في مقابل الإيمان، ومقابل الشكر، والإنسان غير الشكور لنعم الله هو كافر بالنعمة، فهي الحالة المضادة للإيمان والشكر لله سبحانه وتعالى، والمضادة للتقوى.

وهي مضادة لكل عوامل الخير التي تخلق من الإنسان إنسانا متسالما اجتماعيا، فالكفر قائم على أربع دعائم، على التعمّق والتنازع والزيغ والشقاق، فالتعمق في قضايا الدين وغيره موجود في الإنسان الذي يريد أن يعرف كل شيء، ويتعمق في أشياء خارج الحدود التي وضعها القرآن الكريم ورسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأهل البيت (عليهم السلام).

وهذه محاولة لفهم أشياء خارج حدود قدرات الإنسان وادراكه، لذلك يسمى الإيغال أو التعمّق، فيحاول أن يحفر كثيرا، وهؤلاء الذين يحفرون كثيرا لا يصلون إلى شيء دائما، حتى في علم الاجتماع الحديث تُسمى بـ حفريات المعرفة، وفي علم النفس، يحفرون في أعماق اللاوعي الإنساني، وكل هذه بالنتيجة علوم لا توصل إلى النتائج المطلوبة، لأنهم يذهبون إلى أمور خارج حدودهم وقدراتهم المعرفية.

التعمق الفلسفي

التعمّق في العقائد عملية خاطئة مثل هؤلاء الذين يدخلون في عالم الفلسفة، فيحاولون أن يتفلسفوا في قضايا الوجود، ولكن هؤلاء لا يصلون إلى شيء لأنهم يتعمقون خارج إدراكهم، ويؤدي هذا بالنتيجة إلى انحرافهم عن الحق، وخلق قضايا وأفكار منحرفة غير متجانسة مع الواقع. فعنه (صلى الله عليه وآله): (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع، ولا ظهرا أبقى).

إن الإيمان بالله وبالدين الإسلامي ومنهج أهل البيت (عليهم السلام)، يقوم على الالتزام بتوجيهاتهم، والإيمان بالعقائد إيمانا إجماليا، مثال على ذلك، أننا نعرف أن الله سبحانه وتعالى هو واحد، لأن لكل معلول علّة، وكل مسبب له سبب، هذا يسمى الاعتقاد الإجمالي الذي يجب يفعله الإنسان، وإذا أراد أن يتعمق أكثر، فإنه قد يدخل في عالم من التيه والضبابية والضلال.

لذلك فإن هذه الفلسفة التي تتعمق في عالم الوجود كثيرا تنحرف، وتصل إلى طريق مسدود، لأنه خارج إدراكهم، فمن تعمّق لم ينب إلى الحق، أي أنه لم يصل إلى الحق ولم يرجع إليه.

الدعامة الثانية من دعامات الكفر (ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه) فالنزاع دائما لا يعبّر عن معرفة، وإنما يعبر عن جهل، فالإنسان الجاهل هو الذي يدخل في النزاعات، حتى لو كان عالما فهو جاهل لأنه دخل في نزاع، فإذا أردت أن تعرف أن هذا الإنسان عالم أم جاهل، أعرفه من خلال هل يدخل في نزاعات أم لا؟

هناك الجدل المريض الذي لا يقبل بالمحاججة العقلانية، وإنما هو محاولة لإثبات الذات، من دون أن تكون هناك موضوعية للعلم، ومن يدخل في الجدل لإثبات الذات، ويعاند على الفكرة التي يؤمن بها، فسوف يتحول الأمر إلى نزاع، وهذا نوع من أنواع الجهل، لذلك فهو (دام عماه) أي أنه يصبح أعمى البصيرة والفهم، خصوصا عندما يتخذ النزاع والجدل منحا تصاعديا.

التعقّل يمنع النزاعات

أما الإنسان الحكيم الواعي الفاهم فلا يدخل في النزاعات لأن الحكمة تمنعه، والتعقّل يمنعه من الدخول في النزاعات وكذلك علمه يمنعه عن ذلك. الحوار والتفاهم هو الطريق الصحيح، وإذا تحول الحوار إلى نزاع أو جدال، فيجب أن يتجنبه ويبتعد عنه.

(ومن زاغ) بمعنى انحرف، فالتعمق والنزاع يؤدي بالنتيجة إلى الانحراف، وقد تكون هناك أسباب ثانية للانحراف، (ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة) أي أن الموازين تنقلب عنده، فتصبح الحسنة سيئة والسيئة حسنة، وهذا موجود في المجتمعات التدميرية التي تدمّر الحسنات، وتدمر الخير والحق، وتتخذ الباطل والسيئات والشرور سبيلا.

فالإنسان عندما تصبح عنده الحسنة سيئة، والسيئة حسنة، يصبح متوحشا، لأنه يخرج عن قواعد الإنسان الاجتماعي، وهو الإنسان المداري، المتفاهم، الحليم، الرحيم، الليّن، فهذه هي القواعد الجيدة التي تدخل في عملية بناء التسالم والألفة.

(وسكر سكر الضلالة) وهذا يعني أنه زاغ ودخل في عالم الضلالة التي هي عبارة عن وهم كبير، وهذه من المصائب التي يقع فيها هذا الإنسان، إذ يصبح مثل السكران الذي لا يفهم كل شيء، وهو أسوأ من الأعمى.

متى تضيع طرق الحياة؟

(ومن شاقّ) بمعنى حين يدخل الإنسان في عالم الشقاق وعملية الصراع، فتجده منشقّا بشكل دائم عن الآخرين، منشقا، منفردا، خارج عملية التفاعل والتعامل الاجتماعي (وعرت عليه طرقه) فتصبح طرق الحياة غير معبدة له، ويعيش معيشة ضنكا وصعبة، لأنه يتصور إذا دخل في عالم الانفراد لوحده، يستطيع أن يدير حياته بسهولة، وهذا أمر خاطئ، لأن الإنسان الاجتماعي هو الذي يستطيع أن يتعامل مع المجتمع بشكل مرن ومتوازن، فتكون طرقهُ معبّدة، فيستطيع أن يعيش حياته بشكل صحيح (اهدِنا الصراط المستقيم).

(وأعضل عليه أمره وضاق عليه مخرجه) فالنتيجة أن الإنسان غير الاجتماعي تجده في مشكلات دائمة، ويمكن أن نلاحظ هذا الأمر في عالم اليوم، فإذا أردتَ أن تحلل مفهوم الأزمات التي نعيشها اليوم، سواء كانت أزمات مادية أو بيئية أو اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، تربوية، فكلها أزمات نابعة من التوحش الذي يصيب الإنسان للأسباب التي ذكرناه.

لأن هذا الإنسان بالنتيجة يعمل لنفسه ومصالحه وأفكاره الخاصة، ولا يعترف بالآخرين ولا يحترمهم ولا يتعايش معهم، لذا لا يستطيع أن يعيش معهم، الإنسان هو كائن اجتماعي، وهو حالة اجتماعية وبناء اجتماعي، يتكامل مع الآخرين، ويحيى ويتعايش معهم.

التوحّش بالفساد والإفساد

التاسع: المجتمعات الفاسدة والمنحرفة، وهي من علامات التوحش، وهذه المجتمعات تذهب دائما نحو الطغيان، ونحو تدمير المجتمعات، بسبب ضخها للقيم الفاسدة، وتلبسها بالثقافة الدكتاتورية وتشبعها بسلوكيات الإجرام، والاستئثار بالسلطة والمال، هذه هي علامات المجتمع المنحرف، وكل هذا هو توحّش، وخروج عن البناء الاجتماعي المتسالم.

في قول للإمام علي (عليه السلام) لأبي ذر، وهو كلام طويل ولكن نذكر مقطعا منه حول قضية أن الإنسان الذي يعيش الحق يعيش اجتماعيا أنيسا، أما الإنسان الفاسد المنحرف فيعيش متوحشا، بالتالي تلاحظ أن حاله حال الذئب، لكن الذئب لا يُحاسب لأنه يعيش بغريزته، لكن هذا الذئب المنفرد والغاطس في الفساد والضلال والانحراف يوجد عنده عقل، وفكر، وضمير، ولكن رغم كل هذا يعيش الفساد والانحراف فيكون وحشا كاسرا أسوأ من الوحوش التي تعيش في الطبيعة.

يقول الإمام (عليه السلام) لأبي ذر: (وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ وَلَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ)، فالحق هو الذي يبني الإنسان الاجتماعي والباطل يخلق الإنسان المتوحش، لذلك إذا أراد الإنسان أن يعيش حياة اجتماعية سليمة، وخصوصا القادة والمربين والمعلمين، لابد أن يعلموا أتباعهم وتلاميذهم على إتباع الحق، لأن اتباع الحق هو الذي يجعل من الإنسان اجتماعيا، ويخرجُهُ من دائرة التوحش.

كيف تُصنَع المجتمعات المستأنِسة؟

المجتمعات المتوحشة، نجدها في أشكال مختلفة، عبر وسائل الإعلام، أو الأسواق والشوارع، يمكنك أن ترى التوحش، وهذا التوحش الذي يظهر يعني أننا نفتقد لتلك القيم التي نحتاجها لكي نكون مجتمعا متسالما.

إننا لم نعمل على ترسيخ تلك القيم، ولم نشتغل على تحقيق هذا الهدف في حياتنا، تلك القيم هي مجموع مركّب من بناء قائم على مجموعة قضايا تؤدي إلى نتيجة معينة، ولكن فكر التوحش وسلوكياته الذي يكون في داخل الإنسان وفي أفكاره يؤدي به إلى طريق ظلامي ومن ثم العيش في مجتمعات فوضوية همجية.

هناك عناصر مهمة جدا في بناء الإنسان الاجتماعي حتى نستطيع أن نحقق توليفة صالحة في حياتنا:

أولا: بناء التآلف بناءً شاملا في المناهج وفي التربية، وفي التعليم وفي بناء السلوكيات والتأكيد عليها، في المنابر وفي المدارس والجامعات والحوزات، بناء التآلف صناعة قائمة على منهجية مستدامة، تتمحور حول قيم التقارب، ونبذ قيم التباعد، وهذه نقطة مهمة جدا، أن نستأصل الكراهية ونؤسس إلى ثقافة التقارب والقبول بالرأي الآخر، وإيجاد حالة من التقارب فيما بيننا، ونبذ العنف الذي قد يؤدي إلى حالة من الانفصال والتباعد والتنازع.

عقلنة العلاقات الاجتماعية

ثانيا: العلاقات الاجتماعية العقلانية التي تعتمد على غايات أساسية، ومصالح بعيدة المدى، ولا تعتمد على مصالح آنية مادية، المصالح العقلانية هي تخرج كل أفكار الأنانية والاستفراد ومحاولة الحصول على الأرباح السريعة والطمع، وتذهب نحو عقلنة العلاقات الاجتماعية، والعقلنة في غايات أساسية نحو المستقبل، وهذه العقلانية هي التي تؤسس لمجتمع صحيح، فتبتعد عن الجهل والتطرف والتشدّد والتنازع والتصارع.

العلاقات المعنوية

ثالثا: العلاقات الاجتماعية المعنوية التي تؤدي إلى نمو الإنسان الاجتماعي، بالتقارب المعنوي بين القلوب، من خلال ارتقاء قيم العطاء والتضحية والإيثار عند الإنسان، هذه تجعل حالة الترابط بين البشر قوية، وليست علاقات مصلحية آنية، تنتهي بانتهاء المصلحة، بل هناك إيثار وتفانٍ وهناك تضحية وعطاء مستمر يجعل العوامل المعنوية طاغية ومهيمنة على المجتمع، فيجعل الإنسان الاجتماعي قويا.

إن قوة الإنسان الاجتماعي تنبع من إيثاره وتضحيته وعطائه، أما عندما يفتقد الإنسان الإيثار والتضحية والعطاء، سوف تظهر القيم السيئة، مثل الحسد، التصارع، التخمة، الطمع، التجبر، الفساد، كل هذه الأسباب تؤدي إلى صعود المجتمع المتوحش وهيمنته.

رابعا: أولويات التسالم والمصالحة، تؤدي إلى بناء الإنسان الاجتماعي، السلم أولا وأخير (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) البقرة 208، الدخول للعالم والمجتمع من بوابة السلم، ونبذ النزاعات والحروب.

الإنصاف ميزان العدالة

خامسا: وهي من أهم النقاط لأنها تجمع كل النقاط أعلاه، وهذه النقطة الإنصاف وهو سلوك مطلق لتحقيق الإنسان الاجتماعي، من خلال العدالة والالتزام والتوافق والثقة والاستقرار، وعندما لا يكون الإنصاف موجودا في المجتمع، فلا تكون فيه عدالة، ولا يكون فيه ثقة، بل تظهر فيه كل عوامل النزاع والصراع والتنابذ والتباعد والعنف.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (الإنصاف يألف القلوب) وعنه (عليه السلام): (الإنصاف يرفع الخلاف، ويوجب الايتلاف)، لأن الإنصاف هو حالة عملية لتحقيق العدالة، وهو العدل العملي، وهو إنصاف الناس من نفسك، فكما أنت تأخذ حق نفسك، لابد أن تعطي الحق لغيرك، وإذا أخذت حق غيرك فإنك ستأخذ حق نفسك، هذه معادلة مهمة جدا، فالإنسان يكون رابحا دائما في عملية الإنصاف.

وحين تصبح حالة الإنصاف ثقافة عامة في المجتمع، يعيش الإنسان مستقرا، ويحمي حقوقه كما تكون حقوقه محمية، وقمة الإنصاف أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، فعن الإمام علي (عليه السلام): (بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ).

وعنه (عليه السلام) أيضا: (أنصف الناس من أنصف من نفسه من غير حاكم عليه)، أي أنها عملية تنبع من داخله ومن ذاته، ومن دون أي ضغوط خارجية، وهذا انبثاق لكل الخير وانبثاق لكل العدالة في المجتمع.

وعنه (عليه السلام): (لم يتصف بالمروءة من لم يرع ذمة أوليائه، وينصف أعداءه)، الأولياء هم الذين يعيشون معه ويتشاركون في مصائرهم، وهي مسؤولية متبادَلة فيما بين الناس، ويُنصف أعداءه، أي حتى الأعداء لابد أن تنصفهم، وحين تنصف عدوك سوف يثق بك، ويحبك وينزع كل عوامل الخلاف والصراع والتنازع.

هذه هي الدبلوماسية التي نحتاجها، وهي الدبلوماسية الحقيقية الصادقة، وليس الدبلوماسية الكاذبة المعتمدة على الكذب والخيانة والغاية تبرر الوسيلة، وهذه كلها أمور خاطئة لا يقبلها الإمام علي، فحتى عدوك تستطيع أن تجعله صديقا لك إذا كنت منصفا له.

التواصل يرمم جسور التسالم

سادسا: التواصل يرمم جسور التسالم، والجفاء يفسد الإخاء، ويؤدي إلى النزاع، أما التواصل فانه يؤدي إلى بناء الإنسان الاجتماعي، فالتواصل هو المبدأ الأساس في عملية بناء المجتمع الصالح، وأن يبدأ من الإنسان نفسه.

فعن الإمام علي (عليه السلام): (وَبِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ الْمُوَاصِلُونَ)، بمعنى أن الإنصاف يؤدي إلى التواصل، والتواصل يؤدي إلى الإنصاف أيضا.

وعنه (عليه السلام): (الجفاء يفسد الإخاء) وكل هذه العناصر التي ذكرناها من الأخوَّة إلى الإنصاف إلى التواصل تؤدي إلى بناء الإنسان الاجتماعي.

وعنه (عليه السلام): (احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ وعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ والْمُقَارَبَةِ وعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ وعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ وعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ وعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ).

المتوحش لا كرامة له

سابعا وأخيرا: الوحدة الاجتماعية، وهي أهم نقطة في بناء الإنسان الاجتماعي، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران 103. هذه الآية الكريمة تلخّص كل البحث الذي بحثناه حول الإنسان الاجتماعي.

وهناك حديث للإمام علي (عليه السلام) يتكلم فيه عن كيف كان المجتمع موحدا في الإنسانية والاستئناس يعيش الكرامة والعزة والانتصار، وكيف أصبح مجتمعا متصدّعا منشقا متنازعا متوحشا يغرق في الذل والهزيمة والتخلف، فعنه (عليه السلام): (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَالْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَالْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً والْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ، فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَتَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالْأَفْئِدَةُ وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ وَقَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ).

هذه الكلمات المفتاحية تلخص أن كيف يكون الإنسان الاجتماعي، وكيف يكون الإنسان المتوحش، والنتيجة إن المتوحش لا كرامة له.

*الشيخ مرتضى معاش

2022/07/04

حجري وجليدي.. كيف نعرف أنبياء العصور القديمة؟!
من هم أنبياء العصرين الحجي والجليدي؟

[اشترك]

الجواب من سماحة الشيخ معتصم السيد أحمد:

ليس هناك رابط بين العصر الجليدي والعصر الحجري، فالأول يبحث عن تاريخ الأرض والثاني يبحث عن تاريخ الإنسان، فالعصر الجليدي بحسب علماء الجيولوجيا هو فترة من التاريخ كانت تغطي فيه الثلوج مساحات كبيرة من الأرض، وقد توصلوا إلى وجود هذا العصر من خلال البحث في طبقات الأرض وما فيها من صخور ورواسب كيميائية.

بينما ينتمي مصطلح العصر الحجري إلى علم آخر يبحث عن تاريخ الإنسان ومراحل تطوره، وقد وضع هذا المصطلح في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي من قبل الباحث الدنماركي كريستيان جيه تومسن، حيث قسم تاريخ الإنسان بحسب الأدوات التي كان يستخدمها، فكان الحجر هو أول ما استعان به الإنسان لصنع ادواته فسمى هذا العصر بالعصر الحجري، ثم تلاه العصر البرونزي، ومن ثم العصر الحديدي، وعليه فإن موضوعات هذا العلم هو البحث عن الآثار القديمة التي خلفها الإنسان.

ومن الواضح أن علم الجيولوجيا وعلم الآثار لا يبحثان عن وجود الأنبياء فضلاً عن تاريخ كل واحد منهم، ولذلك فهما لا يثبتان أو ينفيان وجود انبياء، وقد اشرنا في مقال سابق عن سبب عدم وجود آثار مادية للأنبياء، وقلنا إن علم الآثار يهتم بكشف البقايا المادية التي تركها الإنسان، والهدف من ذلك هو محاولة التعرف على الشعوب الغابرة والوقوف على المعالم العامة لطريقة حياتهم، وتشمل تلك الآثار المباني والمنحوتات وأدوات الطبخ والصيد وغير ذلك، ومن خلالها يمكن رسم تصور عن نمط الحياة والثقافة الاجتماعية التي كانت حاكمة في تلك الأزمنة، ويهتم هذا العلم بالحضارات الموغلة في القدم لانعدام التاريخ المكتوب الذي يوثق بشكل مفصل تلك الحياة، ومن هنا قد يفتقد علم الآثار أهميته بالنسبة للأحداث التاريخية التي نقلت عبر وثائق مكتوبة، وبخاصة إذا كانت تلك الأحداث ذات دلالات معنوية وليست مادية، ولذا نجد أن من أهم الدلائل التي تؤكد وجود حدث ما في التاريخ هو تناقله عبر التواتر الاجتماعي، بحيث يظل تأثيره حاضراً جيلاً بعد جيل، ووجود الأنبياء والرسل من هذا القبيل، حيث مازال لوجودهم التاريخي حضوراً واضحاً عبر الأجيال إلى يومنا هذا، فوجود اليهود والنصارى والمسلمين واتصالهم التاريخي عبر الأجيال يؤكد بشكل قطعي وجود الأنبياء الذين يمثلون اساساً لأديانهم، وعليه فإن تأثير الأنبياء الملحوظ في مسار التاريخ البشري يؤكد على وجودهم الفعلي في التاريخ، وحينها لا يكون وجود الأثر المادي إلا مجرد حالة حسية لا تشكل إضافة فعلية بالنسبة لما نعلمه من تاريخ الأنبياء؛ فتاريخ الأنبياء يمثل موروثاً متكاملاً عقائدياً واخلاقياً وتشريعياً وحضارياً، وبالتالي لا يمكن أثبات كل ذلك من خلال العثور على آثار مادية هنا أو هناك.

أما لماذا لم تصلنا آثار مادية من الأنبياء؟ فان هذا السؤال يكون مبرر إذا كان دور الأنبياء في الحياة الإنسانية يرتبط بأدوار لها علاقة بالآثار المادية، مثل أن تكون مهمة الأنبياء بناء المدن والحصون وتشييد الحصون، كما هو حال الملوك والسلاطين في الحضارات القديمة مثل الحضارة اليونانية والفرعونية وغيرها من الحضارات، وكل ذلك لم يكن من ضمن اهتمامات الأنبياء، وإنما كانت جهودهم منصبة في اصلاح الإنسان فكرياً واخلاقياً وسلوكياً، وآثار ذلك مازالت حاضرة إلى اليوم، وبالتالي من الخطأ البحث عن الأثر المادي، فالأنبياء في جانبهم البشري والمادي لم يتميزوا عن بقية البشر حتى تكون لهم آثار خاصة، وإنما عاشوا الحياة بشكلها الطبيعي الذي عليه البقية ومن هنا لا نتوقع أن يكون لهم آثار خاصة مثل الحصون والقلاع.

فعدد الأنبياء كما اشارت له النصوص كبير جداً وما تم ذكره بالأسماء محدود جداً، ومن الواضح أن النصوص لم تكشف عن أزمنة وتواريخ الأنبياء، ولا يمتلك الإنسان أدوات أخرى تمكنه من معرفة التاريخ الحقيقي لكل نبي من الأنبياء، وما هو موجود هو اجتهادات المؤرخين والباحثين لوضع تواريخ تقريبية للأنبياء الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم، فقال بعضهم أن ما بين آدم ونوح (عليهما السلام) من السّنين ألفا ومئتا سنة، وما بين نوح وهود (عليهما السلام) ثمانمائة سنة، وما بين هود وصالح (عليهما السلام) مئة سنة، وما بين صالح وإبراهيم (عليهما السلام) ستّمئة وثلاثون سنة، وما بين إبراهيم وموسى (عليهما السّلام) سبعمئة سنة، وقيل خمسمئة وخمس وستّون سنة، ثمّ جاء بعد موسى داود (عليه السّلام) وكان بينهما خمسمئةٍ وتسع وسبعون أو خمسمئة وتسع تسعون، وما بين داود وعيسى ألف و ثلاثٌ وخمسون سنة، وقيل ألف وثلاثمئة وست وخمسون، ثمّ كان بعد عيسى (عليه السّلام) خاتم الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله) وكان بينهما ستّمئة سنة.

2022/06/27

العقاب والخوف بعد الموت.. لماذا لا يحبّون الله؟!
يتفاوت الناس في دواعي التزامهم بفعل الأعمال الحسنة وترك الأعمال السيئة، فيوجد فيهم من يكفيه إدراك ما ينبغي أن يعمل، وما ينبغي أن يترك ليكون ملتزماً عملاً، وفيهم من يحتاج إلى معزز يشد من عزيمته، والمعزز أمور كثيرة ـ كما ذكر الباحثون في علم النفس التربوي ـ ومن أهمها أمران:

[اشترك]

  1ـ جعل المحبوب تكرمة و تقديراً، وهو ما يعبر عنه بالمعزز الإيجابي.

  2ـ جعل المبغوض عقاباً و إهانة، وهو ما يعبر عنه بالمعزز السلبي.

   ولا نجد في المجتمعات العقلائية نظاماً أو قانوناً عمليّاً لا يصاحبه قانوناً جزائيّاً، وقد ذكر الدكتور فاخر عاقل في كتابه (علم النفس التربوي) أنه يوجد جدل حول فاعلية المعزز السلبي، ومقدار تأثيره، وذكر في ص 203 أن عالمين قاما في سنة 1944 م بتجربة على 124 طالب، وكانت النتيجة أن الطلاب الانبساطيين المتجهين نحو العالم الخارجي كانت نتيجة التقريع فيهم أشد تأثيراً من الثناء والمدح.

إن المشرع في مقام جعل القانون وحث الناس على الالتزام به لا يقوم بجعل قانون فردي لكل فرد، ثم يضع المعزز المناسب من المدح، والثناء، والوعد بالثواب أو التوبيخ، والذم، والوعيد بالعقاب، وإنما هو يجعل قانوناً عاماً ثم يستعمل أساليب التعزيز المختلفة حتى يكون للجميع تأثير على الجميع، فينفعل كل فرد بما يؤثر به.

حكمة أسلوب التعزيز في بيانات الدين

و قد سلك القرآن الكريم أساليب التعزيز المختلفة، فإن من أكمل مراتب الناس في القرآن الكريم مرتبة الالتزام بأحكام الله تعالى حباً له و شكراً، يقول تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُور َّحِيمٌ } سورة آل عمران: آية 31، غير أنه ليس كل الناس يحركم الحب الإلهي، و يؤثر الإيمان فيهم بالحد الأعلى، فكان مقتضى الحكمة التعزيز بالمعزز الإيجابي والسلبي، فجُعل الثواب والعقاب، لأن التشريع يفقد فاعليته في أغلب الناس بدونهما، وإذا لاحظنا محززات القرآن نجد منها أمرين:

   1ـ بيان على الثواب، و نعيم الجنة، و الكون مع الصالحين، وبلوغ الرضوان الإلهي  ويقول {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا، وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا، وَكَأْسًا دِهَاقًا، لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا، جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا، رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ مَآبًا، إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} سورة النبأ: آية 31 – 36.

  2ـ بيان العقاب، وعذاب النار، والكون مع الطالحين، و البوء بسخط الله تعالى، يقول تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة البقرة: آية ١٩٦ ، و يقول: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة البقرة آية ٢١١ ، و يقول: { كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة آل عمران آية: 11. ويقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة المائدة آية: 2 ، و يقول: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة المائدة آية 98.و يقول: {إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلطَّاغِينَ مَآبًا، لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا، لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، جَزَاءً وِفَاقًا، إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا، كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } سورة النبأ آية: 21 – 30.

الروايات الشريفة على منهج القرآن

و الروايات الشريفة الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله ) وأهل (عليهم السلام) جرت على منهج القرآن في ذكر المعزز الإيجابي والسلبي، فركزت على الثواب والعقاب، وبينت منازل انتقال المؤمن، وكيف تخرج روحه و تستقبله الملائكة، وما يشاهد في القبر وعالم البرزخ، ويوم القيامة في الحساب و عرصته، وفي الجنة، وبينت أيضاً منازل انتقال الظالمين، و ما يواجهون من عقوبات في مراحلهم المختلفة إلى جهنم، ولو لاحظنا ما ذكره العلامة المجلسي (رحمه الله ) في البحار في كتاب (العدل و المعاد) وما أورد فيه من روايات في أبواب مختلفة؛ لوجدنا أن المعصومين(عليهم السلام) اهتموا أيما اهتمام ببيان المعزز السلبي ـ كما اهتموا ببيان المعزز الإيجابي ـ وذلك في روايات تفوق حد التواتر، وبعضها صحيح السند، و سوف أكتفي بذكر بعض الأمثلة:

المثال الأول: ما ذكره في باب ملك الموت وأحواله وأعوانه، وفيه 52 رواية.

المثال الثاني: ما ذكره في باب سكرات الموت وشدائده وما يلحق بالكافر والمؤمن، وفيه 145 رواية .

المثال الثالث: ما ذكره في باب ما يعاين المؤمن والكافر عند الموت، وفيه 173 رواية.

 ومن هذا الباب ما عن بشارة المصطفى: محمد بن أحمد بن شهريار، عن محمد بن محمد النوسي، عن محمد بن علي القرشي، عن جعفر بن محمد بن عمر الأحمسي، عن عبيد بن كثير الهلالي، عن يحيى بن مساور، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: يحيى بن مساور: أخبرنا أبو خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن أبيه (عليه السلام) قالوا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده لا تفارق روح جسد صاحبها حتى تأكل من ثمار الجنة أو من شجرة الزقوم، وحين ترى ملك الموت تراني وترى علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً (عليهم السلام)، فإن كان يحبنا قلت: يا ملك الموت ارفق به إنه كان يحبني ويحب أهل بيتي، وإن كان يبغضنا قلت: يا ملك الموت: شدد عليه إنه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي.

وفي هذه الأبواب وغيرها بيان الفرق بين سكرات موت المؤمن وغيره، والفرق بين ظهور ملك الموت للمؤمن وظهوره لغيره، وهذا موافق للكتاب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} سورة النساء آية 97. ويقول تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ۙ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} سورة الأنفال: آية 30.

وأما المؤمن فيقول تعالى في بين حاله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أن لَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} سورة فصلت آية30.

توهم يتضح ما فيه مما تقدم

ومن خلال ما تقدم يتضح أن البيان الديني لعقاب الأعمال، و المكروهات المترتبة على الذنوب والمعاصي لحكمة تربوية، فإن النصوص بينت ما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، وبينت ما يترتب على ترك الإيمان وما يترتب على العمل الطالح، ووظيفة المربي الديني أن يسير على حكمة التعاليم الإلهية في القرآن، و روايات أهل البيت(عليهم السلام)، فليس من الصحيح أن يقصر الحديث عن ثواب الأعمال و بشرى المؤمن وما يلاقيه من رحمة حال الموت وفي البرزخ ويوم القيامة، أو أن يقصر الحديث عن عقاب الأعمال، و إنذار المجرمين، وما يلاقونه من عقاب و ضيق حال الموت و في البرزخ و يوم القيامة، وإنما ينبغي بيان ما أراد الله بيانه لكي يتحقق لجميع الناس التأثير المرجو من مجمع المعززات التي تؤثر في الناس مع اختلاف مستوى التأثير، فإن على المصلحين أن يقتدوا بالنبيين والرسل، ووظيفتهم (عليهم السلام) لا تقتصر على التبشير بذكر الثواب و النعيم، وإنما من وظيفتهم الإنذار بذكر الحساب والعقاب، قال تعالى: { رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} سورة آية 165..

 فما يتوهمه البعض من أن على المربي الديني أن يقتصر على بيان حب الله ورحمته ولطفه، لأن في هذا تربية للإنسان على محبة الله و عبادة الله تعالى لله فقط ؛ غير صحيح ؛ فإن الله يحب المؤمن المطيع، وبُغض الكافر والظالم والمتمرد، و ينبغي بيان هذا كما ينبغي بيان ذاك، كما أن أساليب التأثير تختلف من شخص إلى آخر، فليس كل الناس يؤثر فيهم حب الله تعالى فقط، أو يمكن أن يبلغوا مرتبة عبادة الأحرار، و يجتازون عبادة العبيد أو التجار، فلا بد من تنوع المعززات في المجتمع، وما أعظم التأثير فيما إذ قيل للمؤمن: إن الله يحبك لإيمانك، فأحبه لكماله و لفضله عليك، ولا تكفر به أو تعصيه، فتخرج من أهل كرامته ومن جعل الجنة مقامه، وتدخل في أهل نقمته ومن جعل الجحيم مستقرة، وهذا ما تبينه النصوص الدينية.

*الشيخ حيدر السندي – أستاذ في الحوزة العلمية 
2022/06/23

ما هي الأمور التي ترفع العذاب عن المذنب؟
هل هناك أشياء غير التوبة تدفع أو ترفع العذاب عن المذنب...؟!

[اشترك]

الجواب من السيد جعفر مرتضى العاملي (ره):

نعم، إن التوبة ترفع العذاب، ومن لوازمها التكفير في الموارد التي تحتاج إلى الكفارة، وقضاء ما يحتاج إلى القضاء، وتصحيح ما يحتاج إلى التصحيح.

والقصاص مع التوبة، والحدّ أيضاً يرفع العذاب..

ومثله الحصول على المسامحة أحياناً من صاحب الحق.. وذلك كما لو كان في ذمته حق مالي نشأ عن إتلاف مال الغير قبل التكليف، فإنه لا يحتاج إلى التوبة وتكفي فيه المسامحة.

ولكن ذلك لا يعني أن لا تكون هناك آثار واقعية على نفس الإنسان من حيث الكدورة والصفاء وغير ذلك، وقد تكون هناك آثار أيضاً على أولاده، أو على غيرهم.

فلا بد من معالجة هذه الآثار في كل موقع بما يناسبه، ليكون ذلك من قبيل الترميم والإصلاح للخلل الحاصل بسبب ذلك الذنب.

*مقتطف من مختصر مفيد.. (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، للسيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الثانية»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1423- 2002، السؤال (97).
2022/06/19

هل يمكن فصل ’الولاية الدينية’ عن قيادة الأمة؟
فصل الولاية الدينية عن القيادة والإمارة لا يمكن أن يتصور في حق النبي أو الإمام، ولذا لم نرى منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا أحد أثار اشكالاً من هذه الناحية، فمن ثبتت له الولاية الدينية ثبتت له الولاية السياسية للتلازم الذي لا ينفك بينهما.

فمهمة الأنبياء هي هداية الناس وإقامة القسط والعدل بينهم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك مالم يكن للنبي حق القيادة الذي يمنحه كامل السلطات الدينية والسياسية، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)، فاستحقاق داود للخلافة والحكم كان من جهة كونه نبي ورسول، وبالتالي لا يمكن تجريده من السلطة السياسية إلا إذا تم تجريده من السلطة الدينية، وهذا لا يكون إلا بعد الكفر بالنبوة والرسالة، وعليه فإن فلسفة بعث الأنبياء والرسول تقوم في الأساس على قيادة الناس في ما يصلح دنياهم وآخرتهم، قال‌ تعالی‌: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) والملاحظ أن الآية ربطت بشكل واضح بين انزال الكتاب والميزان وبين انزال الحديد، وهو أمر غير مفهوم مالم لم يكن للحديد علاقة مباشرة بهدف انزال الكتاب والميزان وهو قيام الناس بالقسط، فالكتاب والميزان لا يجدان طريقها للواقع من دون وجود سلطة وقوة تدعمها، ولذا جاء ذكر الحديد في الآية لمنح شرعية القتال واستخدام القوة من أجل إقامة القسط والعدل.

وهنا نسأل كيف يتيسر للنبي القتال وهو لا حق له‌ في‌ التدخل‌ في‌ شؤون‌ الحكم والسياسة؟ بل لم تكتفِ آيات القرآن بإعطاء النبي الحق في القتال وإنما امرت الجميع بالقتال معه وتحت قيادته، قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) فبأي حق وبأي سلطة يقود الناس للحرب والقتال وهو لا يمتلك حق الإمارة والقيادة؟ وقد بين لنا القرآن كيف قاتل داوود جالوت وكيف انتزع منه الحكم والملك، قال تعالى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)، وبذلك يتضح أن سلطة الأنبياء وحاكميتهم تمثل المسار الذي جعله الله لخلافة الإنسان في الأرض، وقد أكدت آيات القرآن على أن أصلحهم ديناً أصلحهم للحكم والخلافة، وذلك عندما ربطت الآيات بين استحقاق الخلافة وبين الإيمان والعمل الصالح، وقال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ)، فاستحقوا خلافة الأرض بعد أن حققوا الإيمان والعمل الصالح، ولكن الذي حدث هو أن البشر لم يسلموا لقيادة الأنبياء وتمردوا على سلطاتهم السياسية فتحكم عليهم الطواغيت والظلمة وقادوهم بالحديد والنار.

ومضافاً للسنة العامة للأنبياء هناك آيات تأمر المؤمنين بضرورة الرجوع للرسول فيما له علاقة بالأمور الإدارية والسياسية، مثل قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا). حيث حددت الآية وظيفة المؤمنين اتجاه القيادة الشرعية وضرورة الرجوع إليها في الأمور المتعلقة بالشأن السياسي والعسكري، وقد عطفت الآية أولي الأمر على الرسول مما يدلل على اشتراكهما في شأن القيادة السياسية.

فالأنبياء والأئمة المعصومين من أهل البيت لهم حق الولاية على الناس، ولذا عندما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينصب علياً خليفة من بعده في يوم الغدير قال: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلنا بلى يا رسول اللّه‏. قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه) فمن كانت له ولاية على الناس أكثر من ولايتهم على أنفسهم ألا يكون له حق القيادة السياسية؟

وفي المحصلة متى ما ثبتت نبوة نبي، أو إمامة إمام، ثبت له حق الولاية الدينية والسياسية، ومن هنا لم يفرق الإسلام بين المسؤولية الدينية والمسؤولية السياسية، فأوجب طاعة النبي سياسياً كما أوجبها  دينياً، وقد امر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الأمة بضرورة تقديم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) والانقطاع إليهم في جميع أمورها، إلا أن الأمة انقلبت عليهم وأزالتهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، وهذا ما حدث بالفعل، حيث لم تعترف الأمة بالقيادة السياسية لأهل البيت، وكانت النتيجة أن تحكم فيهم الطواغيت والظلمة إلى يومنا هذا، مع أن رسول حذرهم من خطورة ذلك حيث قال: (معاشر الناس آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل معه من قبل أن يطمس وجوهاً فنردها على أدبارهم أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، النور من الله فيَّ ثم في علي ثم في النسل منه إلى القائم المهدي. معاشر الناس: سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وإنَّ الله وأنا بريئان منهم، إنَّهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار، وسيجعلونها ملكاً اغتصاباً فعندها يفرع لكم أيها الثقلان ويرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران).

 وعندما بويع الإمام علي (عليه السلام) للخلافة بويع بقرار ثوري من عامة الناس الذين خرجوا على عثمان، ولو لم يكن القرار ثورياً يتناسب مع الظرف الثوري الذي أطاح بالحكومة السابقة لما آلت الأمور للإمام علي البتة، فالنخبة السياسية وقيادات الصف الأول هي في العادة من تتحكم في الخيارات السياسية الكبرى، ولو سنحت لها الفرصة واتسع لها الوقت لكانت وجَّهت الجماهير التي تدافعت على الإمام علي (عليه السلام) الى وجهة أخرى، وعندما وضعت هذه القيادات أمام الأمر الواقع بايعوا ولكن سريعاً ما نكثوا بيعتهم ثم ألبوا الجموع البعيدة وساروا بها الى حرب الإمام (عليه السلام) في الجمل وصفين، فأمير المؤمنين (عليه السلام) أصبح خليفة عندما كانت المبادرة في يد عامة الناس، ومن ثم لم يسمحوا له بممارسة دوره في القيادة السياسية فتأمروا عليه حتى اردوه قتيلاً في محراب صلاته.

2022/06/06

لا إكراه في الدين.. لماذا يُعاقب الكافر؟!
يبتني هذا الإشكال على تفسير غير واقعي للحرية، ولكي تتم الإجابة لابد من بيان مفهوم الحرية ولو بشكل عام.

[اشترك]

هناك تفسيران للحرية:

التفسير الأول: هو التفسير الذي يتصور الحرية على أنها مطلق القدرة على الاختيار، فالإنسان الحر هو الإنسان القادر على اختيار ما يحب ويرغب من دون وجود أي سلطة خارجية أو داخلية تمنعه من ذلك، أي أن العامل الوحيد الذي يتحكم في اختيارات الإنسان هو فقط الرغبة والميل الشخصي، فمثلاً إذا أراد الرجل أن يتحول إلى أنثى أو أرادت الأنثى أن تتحول إلى رجل فلهما الحق في ذلك ولا يجوز منعهما بأي سلطة دينية أو أخلاقية أو اجتماعية؛ لأن ذلك من حريتهما الشخصية والحرية تعني أن يختار الإنسان ما يحب ويرغب فيه، وهذا ما تروج له الليبرالية حيث جعلت الحرية الشخصية حرية مطلقة طالما لا تصادر هذه الحرية حرية الاخرين، وبذلك لا يجوز للدين أو العقل أو القيم الأخلاقية أو الأعراف الاجتماعية أن تتدخل في تحديد ما يجب فعله وما يجب تركه، أي أنها حرية لا تعترف بأي معايير للسلوك الإنساني ما عدا الرغبة الشخصية فقط.

والذين أسسوا لهذا المفهوم نظروا للحرية بوصفها مفهوماً مجرداً، ولم ينظروا لها بوصفها حقيقة لها علاقة بالإنسان، فالحرية كمفهوم مجرد تعني أن تتساوى جميع الخيارات في ذات المرتبة، وهي بالتالي لا تعترف بوجود مرجحات موضوعية تفرض على الإنسان خيار دون الخيارات الأخرى، وبمعنى أخر فإن الحرية في مفهومها المجرد حرية لا معيارية؛ لأن المفهوم المجرد للحرية لا يستقيم مع وجود معيار يلزم بفعل دون الفعل الاخر.

وهذا خلاف النظر للحرية ضمن الفلسفة الكلية للإنسان، فالحرية ضمن هذا التصور تعني ضرورة أن يكون هناك خيار أولى من الخيار الاخر، وحينها يتعين على الإنسان اختيار الخيار الراجح دون المرجوح، أي أنه ليس حراً في فعل ما يحب ويشتهي، فإنسانية الإنسان تلزمه بترجيح خيارات على خيارات أخرى، فمثلاً إذا نظرنا للحرية في علاقة الأب بطفله، فتارة نتصورها على أنها حرية مطلقة، وعندها لا يحق للأب ممارسة أي سلطة إلزامية تمنع الطفل مما يرغب فيه، بل يكون حراً في فعل ما يشاء وأكل ما يشتهي حتى لو أدى ذلك إلى ضرره، وتارة ننظر للحرية ضمن إطار رؤية كلية للإنسان، وحينها يجب أن تخدم الحرية الغايات الكبرى للإنسان، ومن هنا لا يجوز أن ينظر الأب لطفله بوصفه مجرد موجود له رغبة، وإنما يجب النظر إليه بوصفه موجود له هدف كلي يجب أن يحققه، وبالتالي هناك جوانب أخرى يجب رويتها في الطفل غير رغبته الشخصية، وعندها لا تكون الضوابط التي تكبح رغبة الطفل متعارضة مع حريته، وإنما يظل الطفل حراً في إطار وجوده كإنسان له غايات، وفي هذه الحالة تفهم الحرية في إطار الشروط العقلانية التي تفرضها فلسفة وجود الإنسان في الحياة، وبذلك نكون قد فرقنا بين الحرية كمفهوم مطلق ومجرد وبين الحرية بوصفها واقعية إنسانية.

فالحرية المجردة التي تسبح في الفراغ والتي لا تواجهها موانع ولا حدود قد لا تكون موجودة حتى في عالم المجردات، وما يقع فيه بعض المندفعين نحو الحرية هو الانطلاق من المفهوم المجرد ومن ثم اسقاطه على الإنسان دون الاكتراث لوجود مساحة فاصلة بين الحرية المجردة وبين الحرية كواقعية إنسانية.

التفسير الثاني للحرية: هو التفسير الذي يجعل الحرية ضمن إطار المسؤولية، أي أن الإنسان الحر هو الإنسان المسؤول عن فعله، وبالتالي ليس من حقه أن يختار ما يحب ويرغب، وإنما يتعين عليه دوماً اختيار ما يمثل الحق والصواب، وتحديد ما هو حق وصواب يكون عن طريق الدين أو العقل أو العلم أو القيم الأخلاقية، ولا يحق للإنسان فعل ما يشاء بشكل عبثي وتبعاً لهوى النفس وشهواتها؛ لأن ذلك فيه تشويه لإنسانية الإنسان وتشويهاً لحريته، فالإنسان لا يعيش في الفراغ ليفعل ما يشاء، ولم يكن هو الذي خالق الأشياء لكي يفعل فيها ما يريد، وإنما يعيش الإنسان ضمن واقع فيه حق وباطل، وخير وشر، وجميل وقبيح، وظلم وعدل، وعلى الإنسان أن يمارس حريته في اختيار الحق على الباطل، والخير على الشر، والجميل على القبيح، والعدل على الظلم، وبهذا الشكل ينتقل الإنسان من كونه كائن أناني وشهواني يتحرك بدون بصيرة حياتية، إلى مخلوق عاقل ومنضبط بمنظومة من القيم الأخلاقية ومتسامي عن رغباته الدونية.

ومسؤولية الإنسان لا تقف عند حدود الجانب السلوكي والاخلاقي فقط، وإنما تتسع لتشمل مسؤوليته اتجاه أفكاره ومعارفه، فليس من حق الإنسان أن يعتقد بما يشاء أو يؤمن بما يحب ويهوى، وإنما يتعين عليه الاعتقاد بما هو حق وصواب، ومن هنا لا يحق له بدعوى الحرية ترجيح الكفر على الإيمان، وإنما يتعين عليه اختيار الإيمان وإلا سيكون مستحقاً للعذاب والمسائلة، فوجود الله من الحقائق الفطرية التي لا ينكرها إلا الجاحد للحقائق الواضحة، قال تعالى: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ)، وتدل هذه الآية على أن الشك والارتياب في وجوده سبحانه مما لا يمكن ولا ينبغي لعاقل ارتكابه، لأنه من الحقائق الفطرية التي يلتفت إليها كل إنسان بمجرد تنبيه وتذكريه، والحرية في إطار المسؤولية تعني أن يختار الإنسان الإيمان بالله بوصفه حق وواقع، ومن الطبيعي أن يحاسب الإنسان المسؤول علي خياراته، فمن كفر وجحد بالحق لا بد أن يحاسب ويعذب، قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فبما أن الرشد باين ومتمايز عن الغي حينها يجب على الإنسان الالتزام بالرشد وتجنب الغي، ومع ذلك فإن الإنسان بإمكانه أن يتنصل عن مسؤوليته ويختار بهواه الغي على الرشد إلا أنه سوف يحاسب على هذا الاختيار، قال تعال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)، وفوق كل ذلك بعث الله الأنبياء وانزل الرسالات ليذكر الإنسان بضرورة الإيمان به، ويبشره بالنعيم الذي ينتظره إذا هو آمن، ويحذره من العذاب إذا هو كفر وتمرد، فالله لا يعذب الإنسان إلا بعد أن يقيم عليه الحجة ويبين له الطريق، قال تعالى: (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا). "

2022/06/02

أول ليلة في ’القبر’.. ضغطة وسؤال وجواب!
كتب المرحوم الشیخ عباس القمي في كتابه الشریف «منازل الآخرة»:

[اشترك]

«أحد منازل الآخرة المهولة: القبر، فإنه في كل یوم یقول: أنا بیت الغربة، أنا بیت الوحشة، أنا بیت الدود، ولهذا المنزل عقبات صعبة جداً، ومنازل ضیقة ومهولة، ثم یشیر إلی عدة عقبات، ویقول: العقبة الأولی: وحشة القبر، العقبة الثانیة: ضغطة القبر، والعقبة الثالثة: مسألة منكر ونكیر في القبر».

وقد وردت روایات تصرح بأن منزل القبر صعب جداً، لكنه سهل للمؤمن، وعلی أي حال: في القبر، ظلمة ووحشة، غربة، ضغطة، وأسئلة عقائدیة وسلوكیة صعبة وشاقة للغایة، روي عن أمیر المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: «يا عباد الله ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت القبر فاحذروا ضيقه و ضنكه و ظلمته و غربته إن القبر يقول كل يوم أنا بيت الغربة أنا بيت التراب أنا بيت الوحشة أنا بيت الدود و الهوام و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار... وإن المعيشة الضنك التي حذر الله منها عدوه عذاب القبر إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة و تسعين تنينا فينهشن لحمه و يكسرن عظمه يترددن عليه كذلك إلى يوم يبعث لو أن تنينا منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعا يا عباد الله إن أنفسكم الضعيفة و أجسادكم الناعمة الرقيقة التي يكفيها اليسير تضعف عن هذا...». [1]

لكن المهم أن نعرف أولاً: ما سبب ضغطة أو عذاب القبر؟ وثانیاً: أي الأسباب تنجي من ضعطة وعذاب القبر؟ وثالثاً: عن ماذا یسأل في القبر؟ وبأي كیفیة؟

روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «أیما مؤمن سأله أخوه المؤمن حاجة وهو یقدر علی قضائها ولم یقضها له سلط الله علیه شجاعاً في قبره ینهش أصابعه».[2]

أسباب ضغطة القبر: أما أسباب ضغطة القبر فهي كالتالي:

1- إضاعة النعم الإلهیة.

2- عدم الاحتراز من البول، والاستخفاف به، یعني استسهاله، وعدم رعایة الطهارة والنجاسة.

3- النمیمة.

4- الغيبة

5- ابتعاد الرجل عن أهله.

6- سوء الخلق وغلظة القول مع أهله.

أسباب النجاة من عذاب القبر:

1- قراءة سورة النساء في كل جمعة.

2- المداومة علی قراءة سورة الزخرف.

3- قراءة سورة القلم في الفریضة أو النافلة.

4- من مات بین زوال الشمس من یوم الخمیس إلی زوال الشمس من یوم الجمعة .

5- صلاة اللیل.

6- وضع جریدتین رطبتین مع المیت (تحت أبط المیت الیمنی والیسری).

7- وردت روایات كثیرة في استحباب رش القبر بالماء بعد دفن الميت و إبقاء القبر رطباً مادامت الجریدتین رطبتین، فإن الله یرفع عنه العذاب ما دام القبر رطباً.

8- الصلاة عشر ركعات في اول یوم من رجب ف كل ركعة فاتحة الكتاب مرة و قل هو الله أحد ثلاث مرات. (منازل الاخرة).

9- الصیام 4 أیام من رجب.

10– الصیام 12 یوماً من شعبان .

11- قراءة سورة «تبارك الملك» فوق قبر الميت .

12- أن یقرأ هذا الدعاء إلی جانبه بعد دفن الميت «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا تُعَذِّبَ هَذَا الْمَيِّتَ إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ إِلَى يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ»[3]، وروي أنه هذا الدعاء یقرأ ثلاث مرات.

13- صلاة ركعتین في لیلة الجمعة؛ روي عن رسول الله صلی الله علیه وآله أنه قال:«من صلی لیلة الجمعة ركعتین یقرأ فیهما بفاتحة الكتاب وإذا زلزلت الأرض زلزالها خمس عشرة مرة آمنه الله من عذاب القبر ومن أهوال یوم القیامة».[4]

السؤال و الجواب في القبر:

من المسلمات الاعتقادية في المذهب الشيعي: الاعتقاد بالسؤال و الجواب في القبر. روي عن الامام الصادق (ع) قال: «من أنكر ثلاثة أشیاء، فلیس من شیعتنا: 1- المعراج 2- المسائلة في القبر 3- الشفاعة».[5]

ویستفاد من روایات كثیرة: أن الله ینزل علی الانسان بعد الموت ملكین اسماهما ناكر ونكیر أو منكر ونكیر فیسألانه عن أصوله وعقائده، التوحید، النبوة، الولایة، وكیف أنفق ماله، واكتسبه، فإن كان مؤمناً أجاب، فتعمه رحمة الحق ورعایته، وإن لم یكن مؤمناً، صمت ولم یجب، وابتلي بالعذاب الشدید البرزخي في قبره.

وفي روایات أخری: یأتي الملكان منكر ونكیر بهیئة موحشة مرعبة حین یدفن المیت، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فیكون الجواب في تلك الحال صعباً جداً، ولهذا، یستحب تلقین المیت مرتین . روي: « أن الامام علي بن الحسين(ع) كان یعظ الناس ویزهدهم في الدنیا، ویرغبهم في أعمال الآخرة، بهذا الكلام في كل جمعة في مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله وحفظ عنه وكتب كان یقول: أیها الناس اتقوا الله وأعلموا أنكم إلیه ترجعون...».[6]

و ورد أیضاً في كلام له علیه السلام إشارة منه إلی مجيء منكر ونكیر إلی المیت في القبر، بشكل مخیف ومرعب، فقال علیه السلام: «أَلَا وَ إِنَّ أَوَّلَ مَا يَسْأَلَانِكَ عَنْ رَبِّكَ الَّذِي كُنْتَ تَعْبُدُهُ وَ عَنْ نَبِيِّكَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكَ و عَنْ دِينِكَ الَّذِي كُنْتَ تَدِينُ بِهِ وَ عَنْ كِتَابِكَ الَّذِي كُنْتَ تَتْلُوهُ وَ عَنْ إِمَامِكَ الَّذِي كُنْتَ تَتَوَلَّاهُ ثُمَّ عَنْ عُمُرِكَ فِيمَا كُنْتَ أَفْنَيْتَهُ وَ مَالِكَ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَهُ وَ فِيمَا أَنْتَ أَنْفَقْتَهُ فَخُذْ حِذْرَكَ وَ انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَ أَعِدَّ الْجَوَابَ قَبْلَ الِامْتِحَانِ وَ الْمُسَائَلَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فَإِنْ تَكُ مُؤْمِناً عَارِفاً بِدِينِكَ مُتَّبِعاً لِلصَّادِقِينَ مُوَالِياً لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَقَّاكَ اللَّهُ حُجَّتَكَ وَ أَنْطَقَ لِسَانَكَ بِالصَّوَابِ وَ أَحْسَنْتَ الْجَوَابَ وَ بُشِّرْتَ بِالرِّضْوَانِ وَ الْجَنَّةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ اسْتَقْبَلَتْكَ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّوْحِ وَ الرَّيْحَانِ وَ إِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ تَلَجْلَجَ لِسَانُكَ وَ دُحِضَتْ حُجَّتُكَ وَ عَيِيتَ عَنِ الْجَوَابِ وَ بُشِّرْتَ بِالنَّارِ وَ اسْتَقْبَلَتْكَ مَلَائِكَةُ».[7]


الهوامش:  [1] (بحار الانوار، ج6، ص 218، باب 8 - أحوال البرزخ والقبر وعذابه). [2] (بحار، ج 74، ص330). [3] (ثقة الاسلام حاجي نوري، مستدرك الوسائل ج 2 ص 372 باب 49 باب استحباب الدعاء بالمأثور عند...). [4] مصباح المتهجد،ص228. [5] نتائج الأفكار،السید الگلبایگاني،ج1، ص211. [6] الكاف،الكلیني،ج8،ص72،ح29. [7] (الكليني، الكافي ج 8 ص 72 و محمد باقر المجلسي، بحار الانوار، ج 6 ص 223 حديث 24).
2022/05/31

لماذا يعذّبنا الله في ’القبر’؟!
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ صدق الله العلي العظيم

[اشترك]

من قرأ الآية المباركة لاحظ فرق بين العذاب والرحمة فالعذاب مشروط ومعلق ولكن الرحمة غير مشروطة ولا معلقة بل هي فعلية قال تعالى: ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء﴾ فهو مشروط بالمشيئة إذا شئت أن أوقع عذابي على شخصا لأجل استحقاقه لإفاضة العذاب عذبته قد يكون مستحق للعذاب ولا أعذبه فعذابه وأن كان مستحق للعذاب يعتمد على مشيئتي إذا راءيت المصلحة في تعذيبه عذبته، إذا لم أرى المصلحة في تعذيبه فلن أعذبه وأنك كان مستحق للعذاب قال تعالى: ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء﴾ فهو ليس عذاب فعلي إنما هو مشروط إما رحمتي فهي فعلية قال تعالى ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ إي أن الرحمة فعلية دائما متجددة هذه الرحمة الفعلية المتجددة لم أشترطها بشيء ولم أعلقها بشيء جعلتها مطلقة فعلية أستحقها العبد أم لم يستحقها.

كل عبد كل مخلوق كل موجود فهو وعاء لرحمتي من دون شرط ولا قيد قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، بمعني أن هناك رحمة خاصة غير هذه الرحمة العامة التي تسع جميع المخلوقين هناك رحمة خاصة بالمتقين.

حديثنا انطلاقا من هذه الآية المباركة حول العذاب الأخروي خصوصا عذاب القبر وعذاب النار فإن عذاب القبر قد يكون أشد من عذاب النار عذاب القبر عذاب السجن العاصي إذا كتبت عليه عذاب القبر يسجن في قبره المعذب في النار لا يعيش ظاهرة السجن المعذب في النار معه الناس المعذبون يتخاطبون ويتحادثون المعذبون في النار بينهم خطاب وحديث وتبادل للآلام وللمحن فقد تكون هذه الشركة في العذب في النار عامل تخفيف على من يعذب أما عذاب القبر فهو زنزانة لا يخرج منها ولا يلتقي بأحد ولا يشاركه أحد في زنزانته إنسان معذب في زنزانة لوحده بشتى صنوف العذاب وبالتالي فالإنسان إذا كان في ذهنه أن عذاب الآخرة بعيد عذاب النار بعيد يوجد وقت على عذاب النار الآلف السنين يالله يصل الإنسان إلى النار فإن عذاب القبر قريب ينتظر العبد العاصي المصر على معصيته فهو عذاب شديد.

إذا نحن نحدث هذا اليوم عن ثلاث جهات:

1 - فلسفة العذاب الأخروي.

2 - حقيقة العذاب الدائم في الأخرى.

3 - عن الفرق بين أثر الإيمان وأثر الكفر.

 

الجهة الأولى: ما هي فلسفة العذاب؟! لماذا يعذب الله البشر؟! قد يسأل سائل فيقول العذاب له هدفان أما التأديب وأما الانتقام إذا فرضنا أن الأب عذب ولده بعذب معين أو أن الدولة عذبت مواطن بعذاب معين فإن العذاب له هدفان أما التأديب كي لا يعود إلى الرذيلة والمعصية مرة أخرى فيعذب وأما الانتقام وكلاهما لا يحتمل في الأخرى، إما التأديب لا معنى له في الأخرى هذا عذاب أخروي وليس عذاب دنيوي حتى يصبح تأديب الإنسان إذا مضى إلى الأخرى لن يعود للعمل مرة أخرى حتى يؤدب اليوم العمل ولا جزاء وغدا جزء ولا عمل فليس هناك مجال للعودة إلى الدنيا كي يؤدب إذا التأديب ليس له معنى في الأخرى فالعذاب ليس لتأديب.

كما أنه لا معنى لأن يكون العذاب للانتقام فإن الانتقام إنما يتصور في الفاعل الناقص الإنسان الناص إذا أسيء إليه ينتقم لنفسه لأنه يرى أن نفسه بعد أن أسيء إليها طرى عليها النقص طرأت عليها الخدشة طرأ عليها الدنو فهو لأجل أن يعوض الإنسان الناقص إذا أسيء إليه يشعر بالنقص ولكي يعوض النقص الذي طرأ من هذه الإساءة يقوم بالانتقام، الانتقام يصدر من الفاعل الناقص.

أما الكامل الذي لا يحتاج إلى شيء الغني عن كل شيء فلا يحتاج إلى الانتقام هو كامل لم يحدث فيه نقص نتيجة إساءات الخلق وإساءات الناس كي يعوض نقصه بالعذاب هو كامل لا يحتاج إلى العذاب فإذا كان تبارك وتعالى كامل إذا العذاب بدعي وبهدف الانتقام لا معنى له، إذا ما هو الهدف؟! ما هو الهدف من تعذيب الله العاصين الفاسقين سوء في القبر أو الأخرى ما هو الهدف من دلك؟! إذا لم يكن الهدف لا الانتقام ولا التأديب؟

الجواب: أن العذاب في القبر والأخرى هو أثر الفعل بناء على تجسم الأعمال كيف أثر الفعل؟! هذه البذرة إذا ضعت في التراب وسقيت بالماء وأعطيت السماد هذه البذرة تتحول إلى شجرة تتحول إلى تفاحة هذه مسألة تكوينية ليس معنى أن تكون ما هو الهدف أن تكون البذرة شجرة «هذا أمر تكويني» ما دامت هي بذرة وسقيت بالماء وأعطيت تصبح شجرة ما لم يمنع مانع تكويني هذا أمر تكويني تولدي البدرة تتولد شجرة أمر تكويني.

النطفة إذا التصقت بالرحم وكانت فيها حياة تتولد إنسان هذا أمر تكويني أعمالنا أيضا تتولد شئنا أم أبينا ليس باختيارنا باختيارنا أن نعمل ولكن بعد أن عملنا أعمالنا تتولد كتولد البذرة شجرة كتولد النطفة إنسان ليس بيدنا أمر تكويني كيف؟! هذه الصلاة التي نصليها بمجرد أن تقع الصلاة القربية منا هذه الصلاة تتحول إلى نور في القبر شئنا أم أبينا أمر تكويني مثل تولد البدرة إلى شجرة تماما مثل تولد النطفة إلى إنسان تتحول إلى صورة أخرى تكوينا وهذه المعصية التي نمارسها هذه الرذيلة التي نقترفها معصية عقوق الوالدين، معصية استماع الأغنية المطربة، معصية ظلم الناس معصية العلاقات غير المشروعه أي معصية، معصية القروض الربوية أي معصية هذه المعصية تتحول إلى جمرة من النار شئنا أم أبينا هذا أمر تكويني أوتوماتيكي.

فلا معنى للسؤال ما هو الهدف ما هي الفلاسفة أنت عملت عملا هذا أثره قال تعالى: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بمعنى أن عملك هو يتحول إلى جزاء إليكم قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ «يرى نفس عمل يعني يراه بصورة أخرى» وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

إذا العمل يتجسم العمل يتجسد ليس الأمر بأيدينا، بأيدينا لا نعمل كان بأيدينا لا نعصى الله كان بأيدينا أن لا نرتكب الرذيلة إما بعد أن ارتكبنا الرذيلة أوتوماتيكي تحولت إلى قطعة من النار قطعة من الجحيم جمرة ملتهبة لا يطفيها إلا عفو الله وإلا هذا أمر تكويني ولذلك أنت تقرى في الدعاء ”إلهِي ظَلِّلْ عَلَى ذُنُوبِي غَمامَ رَحْمَتِكَ، وَأَرْسِلْ عَلى عُيُوبِي سَحابَ رَأْفَتِكَ“ يعني أطفئ هذه العيوب أطفئ هذه الذنوب لأنها قطع مشتعلة ملتهبة أطفئها بعفوك ومغفرتك ما هي الفلسفة وما هو السر لا توجد فلسفة هذا مثل البذرة بذرة تتحول شجرة عمل يتحول نار أوتوماتيكي كان بإمكانك لا تعمل بعد أن عملت كان بإمكانك إطفاء هذه الجمرة وإطفائها بطلب عفو الله ورضوانه قال تعالى: ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾.

وقال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا «المهم أن تستغفر المهم أن تتوب» إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وقال تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ «الحجر إذا اكتسب الحرارة أشد من أي جسم أخر الحجر إذا أصبح حار اشد على الإنسان من أي جسم أخر هذا الحجر الحار إذا وضع عليه الإنسان يستطيع أن يثبت عليه دقيقة واحدة؟! يستطيع أن يضع أصبعه على الحجر دقيقة واحدة؟! لا يستطيع» وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ «فكيف إذا حبس في قبره لا يستطيع أن يتحرك لا يمين ولا شمال ولا يرتفع ولا يذهب إلى مكان محبوس علىحجر حار» وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾.

إذا فلسلة العذب سر العذاب هو تجسم الأعمال تحول العمل من صورة إلى أخرى من صورة مادية إلى صورة مجردة من حالته الملكية إلى حالته الملكوتيه هكذا، كل شيء له عنصر ملكي وعنصر ملكوتي قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ نحن الآن عندما نرى الحجر نرى جانبه الملكي أنه حجر مادة لكن لا نرى جانبه الملكوتي وهو أنه يسبح الله قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، كذلك أعمالنا نحن أعمالنا لا نرى إلا جانبها الملكي ما هي الصلاة؟! الصلاة هي قراءة وذكر وركوع وسجود «لا» الصلاة في جانبها الملكي ذكر وركوع وسجود لكنها في جانبها الملكوتي هواء بارد يطفئ تلك النيران قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾مثل الهواء البارد الذي يطفئ لهب النيران، تمر عليك الصلاة إذا أنت صليت صلاة الليل جاءت ليلة جمعة وأنت في القبر لما جاء وقت تلك الصلاة صلاة الليل التي صليتها والقبر يشتعل جمرا ولهب تأتي الصلاة كالنسمة الباردة التي تطفئ ذلك اللهب إذا هذا الجانب الملكوتي للصلاة.

كذلك المعصية نحن نستصغر المعاصي تكلم مع فتاة أجنبية على النت غير كلام غير خمس دقائق أو يقوم مثلا بظلم العباد بغيبتهم بالاعتداء عليهم غير أنه ظلم مؤقت هذا الظلم المؤقت قطعة من النار جانبه الملكوتي أنه قطعة من النار.

الجهة الثانية: العذاب للكافرين المصرين على الكفر هناك كافر مشتبه هناك كافر مصر على الكفر هناك فاسق مشتبه أو سولت له نفسه وهناك فاسق مصر على الفسوق، نحن نتحدث عن المصرين عذابهم دائم قال تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ فهنا ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾قد يقع الإنسان في أسئلة واستفهامات كيف الله يعذب الناس يعني أنه عذاب خالد ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ كيف هذا يحدث؟! وكيف يتناسب مع رحمة الله وحكمته وعدالته يعذب الخلق عذاب خالد دائما كيف؟!

ما هي حقيقة العذاب الدائم؟! كيف يتحول العذاب إلى دائم؟!

الفلاسفة يقولون: هناك حاله وهناك ملكة، ما هو الفرق بين الحال والملكة؟! الحال تقتضي أثر مؤقت والملكة تقتضي أثر دائم كيف؟!

مثلا: الآن أنا أزاول الشعر تارة أزاول الشعر على سبيل الحال وتارة أنا عندي ملكة الشعر، هناك شخص ينشد الشعر حال يوم من سنه يطلع له قصيده هذا الشعر عنده حال وليس ملكة وهناك من الشعر عنده ملكة متجذرة في نفسه بحيث يصدر عنه الشعر والأدب بسهولة بيسر، الحال لا تقتضي أثر دائما حال أثره مؤقت أما الملكة لا يستطيع هو إذا كان عنده ملكة الشعر فالملكة متجذرة في نفسه أثرها أثر دائم تجده في غالب أحواله ينشد بيت بيتين قصيدة ملكته تقتضي هكذا مثل العين التي تنبع ماء لا تقف عن نبعها ففرق بين الملكة والحال الحال أثره مؤقت الملكة أثرها دائم بمعنى «اقتضاء الملكة لأثرها اقتضاء دائم».

أيضا السلوك على قسمين: قسم حاله وقسم ملكة، بعض السلوك حاله وبعض السلوك ملكة كيف؟!

مثلا: أنت الآن هناك إنسان طبيعته الغضب لكن يتحلم أحيانا يضغط على نفسه أن يصبح حليم ولكنه بطبيعته «عصبي» ولكنه في بعض الموارد يتحلم يصبر نفسه يكظم غيضه هنا الحلم بالنسبة لديه حال وليست ملكة ولذلك أثر الحلم مؤقت أما الحليم فالحلم عنده ملكه لا يستطيع أن يغضب حتى لو كان يمثل أنه غضبان لا يستطيع حليم، هو الحلم عنده ملكه تجذرة في نفسه إلى أن أصبح أثرها دائم اقتضاء الحلم للهدوء وإلى الاستقرار والاطمئنان اقتضاء دائم ليس بيده لا يستطيع أن يقول أنا لماذا أصبحت هكذا؟! أنا عندي ملكة الحلم والحلم يقتضي والملكة تقتضي اثر دائم فأثار الحلم عندي دائمة، أنا دائما في استقرار في هدوء قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا. كِرَامًا﴾وقال تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾.

كذلك المعاصي بعض المعاصي حال وبعض المعاصي ملكة، تارة أنا أعصي ربي يوم من أسبوع يوم من شهر يوم من سنة هذا حال وهذا الذي نقراه في الصلاة دعاء زين العابدين : ”وما عصيتك إذ عصيتك وما أنا بك شاك ولا بنكالك جاحد ولا بعقوبتك متعرض ولكن سولت لي نفسي“ حال وهناك من أصر على العصيان إلى أن أصبح الفسق له ملكة، الآن هذا الذي يقود إلى الرذيلة يقود الولد إلى البنت أو هذا التاجر الذي يروج إلى المخدرات شيطان يتحرك على الأرض هذا الفسق أصبح ملكة متجدرة في نفسه أثرها دائم يعتدل يومان ويرجع لا يستطيع يصبح يوم معتدل ثم يرجع إلى ما كان، أصبح اقتضاء هذه الملكة اقتضاء غالبي أو دائم أو هؤلاء الظلمة يستغرب الناس كيف صدام كل يوم يعدم ناس أصبح الظلم ملكة لا يستطيع هذا عنده ملكة أصبح الظلم والقتل عنده ملكة متجذرة.

دولا الإرهابيين والنواصب سفك الدماء عندهم ملكة متجذرة كل يوم يقتل كل يوم يفجر إذا تحولت المعصية أو الكفر أو الشيطنة إلى ملكة نتيجة الإصرار عليها أصبحت ذاتيا والذاتي أثره دائم أصبحت تقتضي أثر دائم هنا منطقة الخطر، كما أن ملكة الكفر في الدنيا تقتضي كفر دائم، كما أن ملكة الفسق في الدنيا تقتضي فسق مستمر دائم نفس هذه الملكة في الآخرة ملكة الكفر موجودة عنده لم تذهب يأتي في الآخرة وعنده ملكة الكفر غاية ما في الأمر أن هذه الملكة في الدنيا تقتضي كفر في الآخرة تقتضي عذاب هي نفسها الملكة الصورة فقط اختلفت، كانت هذه الملكة في الدنيا تقتضي أثر مستمر هذا الكفار عندما يعيش ملايين السنين يبقى كافر مثل افترض لو تركه الله يعيش مليار سنه يعيش كافر لأنه الكفر أصبح عنده ملكة بعد أن أصبح ملكة متجدرة متأصلة أصبح تقتضي أثر دائم لولا الموت نفسه هذا الكافر حتى لو عاش مليار سنه سيبقى على الكفر هذا نفسه إذا مات نفس هذه الملكة مازلت موجودة عنده فهي تقتضي عذاب دائم صور مؤلمة دائمة.

إذا من يأتي الدوام؟! يأتي من ملكة الكفر، تسأل كيف هذا العذاب دائم ليس الملائكة كل يوم تأتي له بعذاب ملكة الكفر عنده تقتضي عذاب دائما كما كنت ملكة الكفر عنده تقتضي كفر دائما مثلا: الكابوس الناس الذي عندها مرض الكابوس إذا كان الإنسان مصاب بمرض الكابوس هذا المرض إذا تجذر دائما يرى صور مفزعة في النوم في اليقظى لا يوجد به شيء ولكن نتيجة تجذر المرض يخلق له صور مفزعة مرعبة وهذه الصورة المفزعة عذاب بالنسبة له لأنه يتألم منها ولكن هذا العذاب لم يعطيه احد من الخارج بل هو منه من أصيب بمرض الكابوس كان مرضه سبب لعذابه إي كان مرضه سبب لحدوث صور مفزعة مرعبة إليه كل يوم وهذه الصور المفزعة المرعبة عذاب بالنسبة إليه ألم بالنسبة إليه الكفر هكذا.

الكافر إذا تجذر عنده ملكة الكفر فهي نفس الملكة تقتضي صور من العذاب صور من الألم كلها ناشئة عن ملكة الكفر هذه الصور المؤلمة المعذبة التي ينالها الكافر في النار منه عنده هو أي مفاضة من مملكة الكفر التي كانت في الدنيا تفيض كفر الآن تفيض صور مؤلمة مرعبة لهذا الإنسان إذا هذه هي حقيقة العذاب الدائم.

نجيب عن سؤالين:

السؤال الأول: هل من الرحمة الإلهية أن يعذب الكافر الذي كفر سبعين سنة أو خمسين سنة عذاب خالد؟! هل أن خلود العذاب يتناسب مع الرحمة الإلهية هل يتناسب مع قوله تعالى: ﴿ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وقد ورد في الحديث عن النبي محمد ”أن رحمت الله لتنشر يوم القيامة حتى يطمع إبليس في رحمته“ فها ينسجم مع رحمته العذاب الدائم الخالد؟!

الجواب: هناك فر ق بين رحمة المخلوق ورحمة الخالق، رحمة المخلوق: هي عبارة عن الرقة والتأثر، إما رحمته الله: فهي عبارة عن إفاضة رحمته عطائه لا يوجد عنده رقة وتفاعل «لا» الله ليس جسم حتى يتأثر أو يرق أو يتفاعل التأثر والرقة هذه كلها من شؤون المخلوق الذي ينفعل بالأشياء التي حوله، الله منزه عن الانفعالات فالرحمة عنده ليس رقة وتأثر رحمته يعني عطائه قال تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ﴾ عطاء إفاضة هذا هو رحمته.

عندما تقول أن العذاب الدائم خلاف الرحمة خلاف الرقة لكن الله منزه عن الرقة إذا تقول الرحمة خلاف العذاب خلاف الرحمة، خلاف الرحمة بمعنى «العطاء» العذاب خلاف الرحمة بمعنى الرقة «صح» لكن الرقة لا ترد على الله، نحن حتى الظلم إذا يعذب نرق إليه صح أولا هذا ليس في محلها الرقة أنظر إلى الظالم إذا الحاكم الشرعي لا يوجد في القرآن قال تعالى: ﴿تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ للحاكم الشرعي أن يعذبهم ﴿تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ لو رأينا ظالم قطع يداه ورجلاه وترك يخوض في دمه نرق لكن هذه الرقة ليست عقلائية رقة نفسية وليست عقلائية لا اعتبار بها فالعذاب الدائم خلاف الرحمة بمعنى الرقة «هذا صحيح» لكن الرقة ليست أمر عقلائي الله منزه عن الرقة والعذاب الدائم خلاف الرحمة بمعنى العطاء «لا» ليس خلاف الرحمة بمعنى العطاء لماذا؟!

لأنه الرحمة عندنا يا رحمة عامة يا رحمة خاصة، الرحمة العامة: إفاضة الوجود قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، والرحمة الخاصة: إفاضة الهداية لمن يستحقها فهذا العذاب الدائم خلاف أي رحمة خلاف الرحمة الخاصة أو خلاف الرحمة العامة؟! قطعا ليس خلاف الرحمة الخاصة لأنه الرحمة الخاصة إفاضة الهداية على من يستحقها قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾وهذا الكافر ليس مستحق للهداية، إذا تعذيبه عذاب دائم ليس منافي للرحمة الخاصة لأنه ليس مستحق لها.

نأتي للرحمة العامة عذابه الدائم ينافي الرحمة العامة «لا» الرحمة العامة إفاضة الوجود وملكته الشقية الكافرة تقتضي العذاب فاقتضاء الملكة للعذاب من الوجود وبما أن اقتضاء الملكة للعذاب من الوجود فهو مناسب للرحمة العامة وليس خلاف للرحمة العامة مثال: النار عند تقرب منها جسم يحترق اقتضاء النار للإحراق هذا رحمة عامة لأنه الرحمة العامة إفاضة الوجود وهذا وجود فهو منسجم مع الرحمة العامة قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا «18» وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾وقال تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ «هذا رحمة عامة مثل ما أعطينا الكافر حياة وقدرة وعقل وشعور هذا كله رحمة عامة مع أنه كافر في الدنيا أيضا كلما أقضت ملكته عذاب نعطيها أيضا من الرحمة العامة وجود﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾. إذا العذاب الدائم لا ينافي الرحمة.

السؤال الثاني: قد يقال بأن الجزاء على المحدود ينبغي أن يكون محدود هذا الكفر الذي كفر به في الدنيا كان كفر محدود خمسين سنة سبعين سنة مليون سنة بالنتيجة هو محدود الكفر الذي كفر به في الدنيا محدود فكيف يعقل عقابه لا محدود قال تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾جزاء المحدود بلا محدود ظلم منافي للعدالة ينبغي أن يكون عقاب إلا محدود بالمحدود لا بلا محدود قد يقول قائل هكذا؟!

الجواب: ذكرنا وجهين:

الوجه الأول: ذكرنا العذاب في الآخرة ليس على الكفر، الكفر كان محدود والعذاب في الآخرة على الملكة والملكة دائمة وليس محدودة لماذا هو يعذب عذاب دائم لأجل لملكة الكفر الموجودة عنده ليس لأجل كفر سبعين سنة أو كفر خمسين سنة كفر سبعين سنة خمسين سنة أول إلى ملكة متجدره متأصلة وتلك الملكة دائمة فالعذاب على ما هو دائم لا ما على هو محدود ملكة الكفر عنده دائمة باقية ولذلك لو بقي في الدنيا بقي كافر مثلا: النبي نوح تعب من قومه وبعد 950 سنة تعب منهم ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً «26» إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾ أصبح الكفر عندهم ملكة هؤلاء لو يبقوا ملايين السنين لا يتغيرون الكفر عندهم ملكة والملكة أمر دائم والجزاء على الدائم دائم لأنه هذا اقتضاء تكويني أوتوماتيكي قال تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾.

الوجه الثاني: لاحظ ما هو الفرق بين المؤمن والكافر، الكافر كل لحظة تمر عليه يصنع ذنبين فيها ليس ذنب واحد كل لحظه الكفر ذنب وترويج الكفر هذا ذنب أخر وجزاء الترويج أشد من جزاء الذنب نفسه مثلا: شخص يشرب مخدر غير عن الشخص الذي يروج المخدر هذا عذابه أشد، مثلا: إذا شخص يعصي الله غير عن الشخص الذي يروج إلى معصية الله هذا عذابه اشد ترويج ”من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة“ ترويج، كل لحظة تمر على الإنسان الكافر وهو يقول: أنا كافر هذا ذنب وبقائه على الكفر ترويج للكفر لأنه يروج الكفر بين أولاده بين أهله بين أبناء مجتمعه فهو يصدر منه ذنبان ذنب الكفر وذنب ترويج الكفر إذا كان ذنب الكفر محدود ويقتضي جزاء محدود فذنب الترويج الذي يتكرر كل لحظة ويصل إلى ملايين الذنوب يقتضي عذاب دائم.

ولذلك ورد في الحديث عن الإمام الصادق  قال ”سؤل الإمام الصادق لماذا يخلد الكفار في النار ويخلد المؤمنون في الجنة قال: لأنه الكافر آل على نفسه أنه لو بقي في الدنيا لبقي كافر «ملكة» والمؤمن آل على نفسه أنه خلد في الدنيا بقي مؤمن «ملكة»“، نفس الشيء بالسنية للمؤمن كل لحظة تمر عليه هو يصنع حسنين الإيمان وترويج الإيمان كل لحظة تمر على المؤمن يصنع عملين صالحين الإيمان نفسه وترويج الإيمان عند أولاده عند ذريته عند مجتمعه عند أهله ترويج والترويج جزاءه نعيم دائم، إما إذا كان يروج المعصية هو مؤمن متدين يأتي ويصلي جماعة في المسجد لكن يقول إلى أبنته لا حاجة أن تلبسي عباءة ولا تتحجبي أبنتك ابنة عشر سنين أثني عشر سنة بلغت سن التكليف لا زلتي صغيرة لا تحرجيني إذا التزمت بالحجاب ينحرج سيذهب معها البحرين لا تحرجني وتلبسي الحجاب.

إذاً بالنتيجة: الإيمان عملان صالحان الإيمان وترويج الإيمان والكفر عملان سيئان الكفر وترويج الكفر لذلك كان لكلا منهما جزائه هذا نعيم دائم وهذا عذاب دائم يا أهل النار خلود ويا أهل الجنة خلود.

نأتي إلى الجهة الثالثة: لا يمكن الجمع بين ملكة الكفر وملكة الإيمان لا يجتمعان كيف لا يجتمعان؟! لأنه ملكة الكفر تقتضي نصرة الكفر والدفاع عن الكفر وملكة الإيمان تقتضي نصرة الإيمان والدفاع عن الإيمان لا يجتمعان والطريقة العقلائية بين الناس كيف يحكمون على شخص بأنه مؤمن إذا وجدوه ينصر خط الإيمان ويدافع عنه قالوا هذا مؤمن هذه هي الطريقة العقلائية بين الناس، وإذا وجدوا شخصا يناصر الكفر يقولون كافر لأنه يناصر الكفر ويدافع عنه أليست هذه الطريقة العقلائية لا تجتمع ملكة الإيمان وملكة الكفر ملكة الإيمان تقتضي نصرة ودفاع عن الدين وملكة الكفر تقتضي دفاع عن الكفر ونصرة للكفر لذلك شخص واحد المؤمن هم يدافع عن الكفر لا يحدث وكذلك شخص واحد كافر يدافع عن الإيمان لا يجتمعان لو كان مؤمن لدافع عن الإيمان ولو كان كافر لدافع عن الكفر.

من هنا نعرف الفرق بين أبي سفيان وأبي طالب، هل هناك شخص مؤمن منصف قدم أبي سفيان أبي طالب من هوان الدنيا على الله يقول أبي سفيان مسلم لا تعلنوه أبو طالب كافر «الله اكبر» أين الموازين العقلائية نترك الموازين الدينية نأتي للموازين العقلائية كيف يعرف المؤمن والكافر أليس من خلال سلوكه، نمشي على العقل شخص ناصر الإيمان والدين وتحمل في سبيل ذلك المتاعب والمصاعب يعقل أن يكون كافر وهو ينصر الدين، وشخص ألب على النبي وهو الذي خطط لمعركة أحد أبو سفيان وظل معادي للنبي إلى أن أنكسر يوم فتح مكة يناسب إلى الإيمان؟! «أي» أجل هذا العداء للدين وتجيش الجيوش على الدين كيف يجتمع مع الإيمان؟! كيف يوضعان في ميزان واحد أبو طالب وأبو سفيان.

لو كان أبو طالب كافر ما بدل نفسه وضحى بجائه وسمعته وأمواله في سبيل دين النبي محمد  وهذا ما يرويه المسلمون وليس نحن الذين نرويه التاريخ كله يقول أبو طالب كان يدافع عن أبن أخيه خسر سمعته خسر جاءه خسر أمواله حوصروا في شعب مكة ثلاث سنين ليس لهم طعام وليس لهم شراب لا يزاوجهم ولا يعاشروهم محاصرين بني هاشم كلهم حوصروا في شعب مكة لا يقدم لهم طعام ولا شراب ولا يزاوجون ولا يلاقون ولا يصافحون سجن وتحمل أبو طالب كل هذا في سبيل ماذا؟!

لو كان كافر لما تحمل كل ذلك لأجل دين لا يراه ولا يعتقد به وبقي متحمل لكل لذلك والله يخاطب النبي :

والله   لن   يصلوا   إليك  بجمعهم

ودعوتني   وعلمتُ   أنّك  ناصحي

فأصدع  بأمرك ما عليك غضاضة

ولقد    علمت    بأن   دين   محمد

كذبتم   وبيت   الله   نخلي   محمداً

‏و   ننصره   حتى   نصرع   حوله

وأبيض   يستسقى   الغمام  بوجه

تطوف  به  الهلاك  من  آل هاشم

ألم   تعلموا   أن   وجدنا   محمداً

وان    عليه    في   العباد   محبة

حتى    أوسد   في   التراب   دفينا

ولقد   صدقت   وكنت   قبلُ   أمينا

أبشر    وقر   بذاك   منك   عيوناً

 

من    خير    أديان    البرية   دنيا

ولما    نصارع    دونه    ونناضل

ونذهل    عن    أبنائنا    والحلائل

ثمال   اليتامى   عصمة   للأرامل

فهم   عنده   في   نعمة   وفواضل

نبيٌ  كموسى  خط  في  أول الكتب

ولا حيف فيمن خصه الله في الحب

كل هذا ليس دليل أيمانه لا دفاعه لا نصرته لا أبيات شعره طيب ما هو دليل إيمانه؟!

مثال: لو وجدنا شخص من أهل السنة يناصر الشيعة ويدافع عنهم ويقول الإمام علي هو الأول يقول شيعي أو سني يقول شيعي وليس سني يقولون هذا شيعي لا يعقل أن يكون سني وهو يدافع بحرارة عن التشيع وعن مبدأ التشيع لا يعقل هو شيعي وكذلك من يدافع عن الدين ومبادئه ونبيه فهو مسلم مؤمن ولذلك نزل الوحي على النبي محمد «أن الله غفر لبطن حملك ولظهر أنزلك ولحجر كفلك وهو حجر أبو طالب، شخص يتعجب يقول لماذا يقولوا أبو طالب كافر كلما نقول لهم مؤمن قالوا لا كافر مع هذه الدلائل والبراهين والأدلة والروايات والأشعار ما زالوا مصرين.

تحدث معي أحد المسؤولين في قناة الكوثر يقول اتصلت بمثقف سعودي مثقف كاتب معروف يكتب موضوعيه وهذا الكاتب علماني وليس ديني حتى تقول أن له جذور دينيه، يقول اتصلت به وقلت له عندنا حلقات بقناة الكوثر عندنا حلقات نريدك أن تشارك فيها قال ما هي هذه الحلقات يقول: عرضت عليه عدة حلقات عندنا حركة عن تجديد الفكر، عندنا حلقة عن تطوير النصوص عندنا حلقات عندنا حلقات عن إيمان أبي طالب قال أنا هذه الحلقة لا أشارك فيها قلت له لماذا؟ قال: لأنه أبي طالب كافر قلت له: أنت مثقف وموضوعي وأمين وتعرف التاريخ وتعرف الكلمات قال: لا اسمح لي أبو طالب كافر، قلت له: ليس عندك استعداد تغير قناعتك بالنظر إلى الأدلة قال: لا ولماذا أغير قناعتي أبو طالب كافر، فلولا أبو طالب وأبنه هذا كله من أجل أبنه وهذا امتد إلى يوم كربلاء لاحظ يوم كربلاء قالوا إنما نقاتلك بغضا لأبيك مبغوضية الإمام علي سرت إلى أبائه وأبنائه أنما نقاتلك بغض لأبيك «فأودع قلوبهم أحقاداً بدرية وخيبرية وحنينية وغيرهن فاضبت على عداوته».

ولولا    أبو   طالب   وابنه

فذاك   بمكة  آوى  وحامى

تكفل    عبد    مناف   بأمر

وما  ضر  مجد  أبي  طالب

كما  لم  يضر  بضوء نهار      

لما مثل الدين شخصا فقاما

وهذا  بيثرب  جس الحماما

وأودى   فكان  علي  تماما

عدو   لغى   وجهول  تعاما

سحابا  طغى فأثاره الظلاما

 

2022/05/30

مطلوب ومرفوض: التشكيك في الدين ’حالة نفسية’!
هناك الفرق بين الشك المنهجي الذي يبحث عن اليقين، وبين الشك النفسي الذي يعمل على زعزعة اليقين، فالأول مصدره التأمل العقلي والبحث العلمي، بينما الثاني مصدره الوساوس والأوهام.

 

[اشترك]

وإذا جاز لنا أن نميز بين كلمة الشك وكلمة التشكيك يمكننا أن نقول إن الشك مطلوب والتشكيك مرفوض، وبذلك نكون خصصنا كلمة التشكيك للجانب النفسي بينما خصصنا كلمة الشك للجانب العلمي والمنهجي، وعليه تكون الإجابة على السؤال أن التشكيك في الدين دائماً حالة نفسية.

أما إذا كان الشك والتشكيك يحملان معناً واحداً كما هو حالهما في اللغة، فحينها لا يمكن أن يكون (الشك أو التشكيك) في الدين حالة نفسية دائماً، بل قد يكون نفسياً قائم على الوسوسة والأوهام وقد يكون منهجياً قائم على مبررات عقلية وموضوعية.
وكون الشك المنهجي مقبول كمنهجية علمية لا يعني فتح الباب واسعاً للشك في الأمور الواضحة واليقينية؛ لأن ذلك يعد نوعاً من العبث غير المبرر، فالشك بالمعنى المنهجي لا يحدث إلا بعد توفر قرائن واحتمالات عقلائية تستدعي التحقق من جديد في المسألة، فمن الطبيعي أن لا يشكك الإنسان في القناعات القائمة على حجج واضحة وأدلة محكمة، ومن يفعل ذلك يكون قد استبدل العقل بالهوى، والظنون باليقين، والحق بالوهم، وهذا ما لا يجوز لعاقل الوقوع فيه، وعليه إذا كان الدين في مجمله أو في بعض مسائله غير واضح أو ينقصه الكثير لكي يكون يقيناً جازماً فحينها لابد من مراجعته حتى تتم اعادت بنائه على أسس متينة، فممارسة النقد العلمي على القناعات السابقة بقصد التأكد من صحتها يعد أمراً صحياً بل ضرورياً، وفي غير هذه الحالة لا يجوز فتح الباب لوساوس الشيطان لزعزعة ما عند الإنسان من يقين، فقد تسالم العقلاء على أن اليقين لا ينقض بالشك، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا).
وبناءً على ذلك يمكننا أن نقول إن الشك النفسي يقع في الاتجاه المقابل للشك المنهجي حيث يقوم أساساً على زعزعة اليقين والارتياب في كل ما هو حقيقة، وبالتالي هو حالة مرضية تنتاب الإنسان لتجعله في حيرة دائمة وتردد مستمر، قال تعالى: (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) وقد يعود مثل هذا الشك إلى اضطرابات نفسية بسبب التربية أو المحيط الفاسد أو إلى وساوس شيطانية أو إلى غير ذلك.
وفي المحصلة فإن الإسلام طالب الجميع بتحقيق اليقين وبخاصة في الأمور الاعتقادية وعليه باب البحث والتحقيق مفتوح أمام المكلفين، ولا يعني هذا فتح الطريق أمام عبث المشككين الذين ينطلقون من مبررات غير علمية، وإنما يجب الالتزام بالضوابط العلمية والمنهجية بشكل صارم حتى لا يكون أمر الدين فوضى بيد العابثين، وما يؤسف له شيوع التشكيكات النفسية في الوسط الإسلامي مع غياب الشك المنهجي إلا في بعض النماذج المحدودة جداً.

2022/05/16

ما هي مدة العذاب في ’البرزخ’؟!

اذا مات مذنبٌ قبل قيام الساعة بمائة سنة ومات آخر قبل قيامِ الساعة بسنة، فهل من العدل أنْ يعذَّب الاول في البرزخ مائة سنة والثاني سنة واحدة فقط.

[اشترك]

الجواب من سماحة الشيخ محمد الصنقور:

كلُّ مذنب فهو يُجازى بمقدارِ ذنبِه لا يُزاد عليه، فإذا كان ذنبُه لا يستوجبُ أكثر من تعذيبِه ساعةً واحدة فإنَّه لن يُعاقبَ بأكثرَ من ذلك سواءً مات قبلَ البعثِ بسنةٍ أو بألفِ سنةٍ، فإذا فرضَ اللهُ عليه عقوبةً فيعالم البرزخ فإنَّها ستكونُ بمقدارِ ذنوبِه، وسوف يُرفعُ عنه العذابُ بعد ذلك إلى يوم البعث.

فليس معنى وقوع العذاب في البرزخ أن يستمر العذاب إلى يوم البعث، فقد يستمرُّ العذاب لو كانت ذنوبُه تستوجبُ ذلك، وقد ينقطعُ عنه العذابُ لو كانت ذنوبُه لا تستوجبُ الاستمرارَ، فلن يُعذبَ الإنسانُ إلا بمقدارِ ما يستحقُّ، وقد يعفو اللهُ تعالى عنه فلا يعذبُه قليلاً ولا كثيراً.

2022/05/08

ما حقيقة تحضير ’أرواح الأموات’ ؟! .. (18+)

هل الاتصال بالأرواح علم صحيح؟ ولو كان صحيحاً كيف تحضر الأرواح وقد ذهب إلى ربها؟!

[اشترك]

الجواب من سماحة الشيخ علي آل محسن:

الظاهر أنه يمكن الاتصال بالأرواح، وأن تحضير الأرواح غير ممتنع على من هو متخصص فيه، وقد دلت بعض الأخبار على أنه يمكن الاتصال بأرواح الموتى.

منها: ما رواه الكليني قدس سره في كتاب الكافي 3/ 243 بإسناده إلى حبة العرني، قال: خرجت مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى الظهر، فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام، فقمت بقيامه حتى أعييت، ثم جلست حتى مللت، ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولاً، ثم جلست حتى مللت، ثم قمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين إني قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة، ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي: يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته، قال: قلت: يا أمير المؤمنين وإنهم لكذلك؟ قال: نعم، ولو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا محتبين يتحادثون، فقلت : أجسام أم أرواح؟ فقال: أرواح، وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض ألا قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنها لبقعة من جنة عدن.

وهذا الحديث وإن كان وارداً في حق أمير المؤمنين عليه السلام إلا أنه يدل على إمكان الاتصال بالأرواح لمن هيأ الله له أسباب ذلك، بل يدل على وقوعه.

ولا منافاة بين إمكان الاتصال بالأرواح وبين كون الأرواح عند ربها؛ لأن الله تعالى ليس في مكان خاص، وليست الأرواح محبوسة عنده، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح المؤمنين تجتمع في وادي السلام، وهو ظهر الكوفة، فقد روى الكليني في الكافي 3/243 بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إن أخي ببغداد، وأخاف أن يموت بها، فقال: ما تبالي حيثما مات، أما إنه لا يبقى مؤمن شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام. قلت له: وأين وادي السلام؟ قال: ظهر الكوفة، أما إني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون.

وورد أن أرواح الكفار في وادي برهوت في حضرموت، فقد روى الكليني قدس سره في الكافي 3/246 بسنده عن القداح، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: شر ماء على وجه الأرض ماء برهوت، وهو الذي بحضرموت ترده هام الكفار.

ما حكم تحضير الأرواح؟

والمهم في هذه المسألة هو معرفة أن تحضير الأرواح عمل غير جائز، وقد أفتى جمع من مراجع الطائفة بحرمته.

منهم: مرجع الطائفة السيد أبو القاسم الخوئي قد سره، فإنه سئل سؤالاً نصه: هل يحرم تحضير الأرواح بالفنجان وبغير الفنجان؟

فأجاب قدس سره بما يلي: نعم يحرم إذا كان يعد من فن السحر. (صراط النجاة 1/442).

وسئل سؤالاً آخر، نصه: هل يجوز شرعاً تحضير الأرواح للاستخبار منهم عن أحوالهم وأحوال البرزخ وغير ذلك؟

فأجاب قدس سره، بقوله: الأظهر تحريم إحضار من يضره الإحضار من النفوس المحترمة دون غيرها. (صراط النجاة 1/442).

وسئل مرة أخرى: هل يمكن للحي أن يستحضر روح أحد الأموات؟ أم أن ما يعرف بتحضير الأرواح هو نوع من تسخير الجن؟

فأجاب قدس سره بقوله: تحضير الأرواح غير تسخير الجن، وغير جائز أيضاً، والله العالم.

وعلق المرجع الكبير الميرزا جواد التبريزي قدس سره بقوله: الأحوط الترك في أرواح المؤمنين إذا احتمل تأذيهم بذلك.

 كما سئل مرجع الشيعة السيد الگلپايگاني قدس سره بقوله: هل يجوز تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي؟

فأجاب بقوله: كلاهما غير جائز، والله العالم . (إرشاد السائل: 185).

وسئل مرجع الطائفة السيد السيستاني دام ظله سؤالاً نصه: [هل يجوز] تحضير الأرواح لسؤالها عن حال صاحبها وعن البرزخ وغير ذلك من الأمور الأخرى؟

فأجاب دام ظله بقوله: يحرم تحضير روح من يضره تحضير روحه من النفوس المحترمة دون غيرهم . (الفتاوى الميسرة: 418، فقه المغتربين: 332).

وأجاب المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم قدس سره على هذا السؤال بقوله: يحرم تحضير روح من يضره تحضير روحه من النفوس المحترمة دون غيرهم، ويحرم الاعتماد على خبره، وليكن في علمك أن ذلك قد يكون من عمل الجان والشياطين. (حواريات فقهية: 323).

ولا يخفى أن الغرض من تحضير الأرواح هو الاستعلام عن أمور مغيبة، إلا أن تحضير الأرواح لا يفيد في ذلك، لأن الأرواح لا تعلم بالمغيبات التي يريد السائل أن يسأل عنها، إلا ما يخص الروح المحضرة، دون ما عدا ذلك.

هذا مع أن الممارس لتحضير الأرواح قد يظن الروح الحاضرة هي الروح المطلوبة، إلا أنها ربما تكون جنياً أو شيطاناً، ولذلك أفتى مراجع الطائفة بأنه لا يجوز الاعتماد على إخبارات تلك الروح، لجهالتها من جهة، ولعدم العلم بأنها صادقة في إخباراتها من جهة أخرى، والله العالم بحقائق الأمور.

2022/04/24

منها ضيق ’القبر’.. هل يشمل العذاب المؤمنين؟!

وردت روايات عن أهل بيت العصمة والطهارة تقول بأن عذاب القبر لا ينجو منه أحد ووردت روايات اخرى تقول ما على المؤمنين شي منها فهل يوجد تعارض أم ماذا؟

[اشترك]

الجواب من سماحة آية الله السيد منير الخباز:

لا إشكال أن ورود عذاب على المؤمن سواء كان من قبيل عذاب القبر أو من قبيل عذاب البرزخ من دون صدور عمل منه موجب لاستحقاق ذلك العذاب ظلم، والظلم قبيح لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى، ولأجل ذلك فما دل على أن عذاب القبر لا ينجو منه أحد متقيد لباً وارتكازاً بغير المؤمن الذي لم يصدر منه عمل قبيح.

نعم الإيمان له درجات فبعض درجات الإيمان تقتضي ألا يرى الإنسان أي ضيق في قبره، وبعض درجات الإيمان نتيجة اختلاطها ببعض اللمم من السيئات وإن كانت صغيرة قد يرى ضيقاً في القبر وإن لم يعذب فيه، وبعض درجات الإيمان التي قد تختلط ببعض المعاصي قد يرى مقدارا من العذاب وهذا كله ما لم يأذن الله لمن له الولاية على رفع هذا الضيق والعذاب.

2022/04/19

2022/04/16

ما عقوبة ’المنتحر’.. وهل يدخل الجنّة؟

يُعَـدُّ الانتـحار مِن المحرّمات، وذلك لأنّه إزهاقٌ للنفس بغير حق، وأنّ الدّين الإسلامي قد حرّم قتل النفس، كما في قوله الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام : 151].
[اشترك] 
والنهي هنا بمعنى الزجر عن هذا الفعل، فلذا يحمل النهي على التحريم، ومن هذه الآية استنبطت روايات الحكم الشرعي لإزهاق النفس بغير حق.
وقد عدّ الله تعالى الانتحار مِن الكفر كما قال سبحانه: الله تعالى: {َ ولَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]
إذْ إنّ المنتحر هو من يئس من روح الله، والذي يئس من روح الله تعالى، فهو الذي يُشكّكُ بقدرة الله تعالى الــلامتناهية، ويُوهّن مِن علم الله وهيمنته وتدبيره وحكمته سبحانه لأمور عباده، فهو الحكيم بتدبير شؤون عباده، العليم بمصالحهم، فكأنّ المنتحر يتناسى ويتغافل عن قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة : 120]. فلذا عُدَّ اليأس من روح الله كفرا. 
ثُمَّ إنّ المنتحر مصيره النار - نعوذ بالله تعالى من هذا المصير - كما قال تعالى: تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء : 29] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء : 30].
ثُمَّ من الضروري أنْ يعرف العبد أنّ من تأخّرت عليه استجابة الله تعالى، فهو عبدٌ يحب الله سبحانه سماع صوت دعائه، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَدْعُو فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَكَيْنِ قَدِ اسْتَجَبْتُ لَهُ وَلَكِنِ احْبِسُوهُ بِحَاجَتِهِ فَإِنِّي أُحِــبُّ أَنْ أَسْـمَعَ صَوْتَهُ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَدْعُو فَيَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَجِّلُوا لَهُ حَاجَتَهُ فَإِنِّي أُبْغِضُ صَوْتَهُ.
وفي رواية اخرى: عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ قُلْتُ لأبِي الْحَسَنِ (عَلَيهِ السَّلام) جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ الله حَاجَةً مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً وَقَدْ دَخَلَ قَلْبِي مِنْ إِبْطَائِهَا شَيْ‏ءٌ فَقَالَ يَا أَحْمَدُ إِيّــَاكَ وَالشَّيْطَانَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْكَ سَبِيلٌ حَتَّى يُقَنِّطَكَ إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه) كَانَ يَقُولُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْأَلُ الله عَزَّ وَجَلَّ حَاجَةً فَيُؤَخِّرُ عَنْهُ تَعْجِيلَ إِجَابَتِهِ حُبّاً لِصَوْتِهِ وَاسْتِمَاعِ نَحِيبِهِ... فَلا تَمَلَّ الدُّعَاءَ فَإِنَّهُ مِنَ الله عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ وَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ وَطَلَبِ الْحَلالِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِيَّاكَ وَمُكَاشَفَةَ النَّاسِ فَإِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَصِلُ مَنْ قَطَعَنَا وَنُحْسِنُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا فَنَرَى وَالله فِي ذَلِكَ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ...
فَكُنْ بِالله أَوْثَقَ فَإِنَّكَ عَلَى مَوْعِدٍ مِنَ الله أَ لَيْسَ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وَقَالَ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله وَقَالَ وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً فَكُنْ بِالله عَزَّ وَجَلَّ أَوْثَقَ مِنْكَ بِغَيْرِهِ وَلا تَجْعَلُوا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا خَيْراً فَإِنَّهُ مَغْفُورٌ لَكُمْ. (ينظر: الكافي للكلينيّ، ج، باب مَن أبطأت عنه الاجابة).

2022/04/10

كيف يعالج ’الإسلام’ مشاكل الحياة؟

يمكن تصور المنهج الإسلامي لمواجهة إشكالات الحياة وصعوباتها في بعدين، الأول المنهج الذي يعمل على منع وقوعها من الأساس، والثاني هو المنهج الذي يتعامل معها بعد حصولها.

[اشترك]

ففي البعد الأول عمل الإسلام على تحصين الفرد والمجتمع مما يعكر عليه حياته، فالإسلام بكل ما فيه من عقائد وأحكام يستهدف تأسيس حياة سعيدة للإنسان، وقد جعل العمل الصالح هو الطريق الحصري لتحصيل ذلك، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فالعمل الصالح هو الذي يحقق للإنسان حياة طيبة في الدنيا وجزاء حسن في الاخرة، وبذلك يكون الإسلام حريص على حياة الإنسان في الدنيا وكذلك حريص على حياته في الآخرة، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فقد جعلت الآية الفساد في قبال الصلاح فأوجبت الصلاح وحرمت الفساد، وبذلك يكون الإنسان مسؤول عن كل ما يصيبه بسبب ما أحدثه من فساد في الأرض، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فالإنسان بفساده هو الذي تسبب في معاناته، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).

ولكي يتحقق الصلاح أمر الإسلام بمجموعة من الأمور يمكن تلخيصها كالتالي:

أولاً العقيدة الصحيحة: ولا نقصد مجرد الاعتقاد النظري أو القدرة على استحضار الأدلة، وإنما العقيدة القائمة على الوعي الذي يستحضر المحتوي القيمي والثقافي لتلك العقائد، وقد عبر القرآن عن هذا الوعي بالبصيرة، فالعقيدة ليست مجرد معرفة للحقيقة وإنما اتخاذ موقف يقوم على تلك الحقيقة، فالهدف من المعرفة ليس مجرد التعرف على الأشياء، وإنما هو تحديد مسؤولية الإنسان اتجاهها، وعليه يمكن أن يكون الشيء معروفاً للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن هو الذي يمتلك فيه البصيرة دون الكافر، ويبدو أن كلمة البصيرة في القرآن هي التي تؤكد على الجانب العملي للعقيدة، ومن خلالها نفهم المقصود من قوله تعالى (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وقوله: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وهذا لا يتحقق بمجرد الاعتقاد بوجود إله وإنما بحضور هذه الاعتقاد بشكل ملموس في حياة الإنسان، وعليه لا يمكن تجاوز مشكلات الحياة إلا ببصيرة واعية تقوم على عقيدة صلبة.

ثانياً الإيمان: وهو صلة الوصل بين الحق والخلق، ومنه تجري كل قيم الخير والفضيلة، ويمكننا أن نؤكد أن عشق الإنسان للقيم وتطلعه للكمال نابع من إيمان الإنسان بالله وبأسمائه الحسنى، ومن هنا كان كمال الإنسان عن طريق الاتصال بالله ومن ثم التخلق بأخلاقه، فأعظم ما يتطلع له الإنسان هو تجاوز الأنانيات الضيقة والتحول إلى حالة أسمى وأرفع، وبالتالي الإيمان بالله في حقيقته تحديد لمسار الإنسان، فبدل أن يكون مسار الإنسان نحو الذات يكون مساره نحو الله، وقيمة حياة الإنسان بقيمة الهدف الذي يسعى إليه، ومن هنا كانت حياة الإنسان بين مسارين، بين حبه لله وحبه لهواه، أي بين أن تكون حياته لها قيمة وبين أن تكون القيمة هي الأنا والشهوة، ولذا ربط الإسلام بشكل وثيق بين الإيمان وبين العمل الصالح، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)، وقال تعالى: (ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ)، ومن هنا لا يمكن أن يعبر الإنسان في الدنيا بأمان من دون إيمان قوي وراسخ.

ثالثاً العلم: من الأمور التي لا تحتاج إلى برهان هو كون العلم أساس كل صلاح والجهل أساس كل فساد، والنصوص الإسلامية في ذلك أكثر مما تحصى، وعليه لا يمكن أن يطمع الإنسان في حياة هادئة ومستقرة إلا إذا اخذ بأسباب العلم والمعرفة.

خمساً العدل: من المؤكد أن العدل قيمة محورية لا تستقيم الحياة بدونه، ولذا جعله القرآن هدف جميع الرسالات قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، بل طلب العدل حتى مع الأعداء قال تعالى: (يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وفي المقابل جعل الظلم معول هدم لحياة الإنسان، فكل ما يصيب الإنسان إما لظلمه لنفسه أو ظلم الاخرين له، قال تعالى: (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) وقال تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وقال تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) فقد أذن الله للإنسان في سبيل رفع الظلم عنه أن يجهر بالسوء ويظهر المعارضة والتحدي للظالم، فالذي يعيش في الظلم ولا يسعى لتغيير وضعه يكون ظالماً لنفسه، فالله منح الإنسان العقل والقدرة والإرادة وهياء له أسباب الحياة الكريمة فلا يتوقع بعد ذلك أن ينوب الله عنه ليعمل بدل منه، وقد بين القرآن الكريم نموذجاً لهؤلاء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فقد وصفتهم الآية بانهم ظالمي أنفسهم مع أنهم يعيشون حالة من الظلم والاستضعاف، وارجعت الآية السبب في ذلك إلى مسؤوليتهم الشخصية عن رفع الظلم عنهم، ولم تكتفي الآية بذلك وإنما بينت لهم أحد الخيارات التي كان بإمكانهم العمل بها وهي الهجرة بعيداً عن الظالمين، وبالتأكيد الخيارات متعددة ومختلفة بحسب الظرف الزمني، ولا عذر للإنسان أمام ما يصيبه من ظلم واستضعاف، وفي المحصلة لا يمكن ان تستقيم الحياة بدون عدالة، ولكي تتجاوز البشرية الكثير من المشاكل يجب عليها أن تبتعد عن الظلم.

وكذلك عمل الإسلام على معالجة عوامل الضعف في الإنسان حتى يستقيم على الصراط المستقيم، فالأهواء والشهوات هي التي تجعل الإنسان ضعيفاً أمام مغريات الحياة، وبالتالي كل فساد في الأرض وكل ظلم وتعدي هو بسبب تلك الأهواء، فحب الإنسان لذاته يشكل أساساً لكل رغباته وشهواته، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). فحب الذات هو الذي يزين للإنسان متاع الحياة الدنيا، وقد اصطلح القرآن على هذا الحب بهوى النفس.

وعليه فإن فكرة الإسلام الأساسية في معالجة الانحرافات تتلخص في أن الهوى (الشهوات) وما يتبعها من مشاكل نفسية هي التي تمنع الإنسان من عمل الصالحات، وفي مقابل ذلك تصبح مخالفة الهوى هي الضمان الوحيد للاستمرار على الصراط المستقيم، وهكذا رسم الإسلام معادلة شديدة الوضوح، تقوم تلك المعادلة على ركيزة واحدة وهي ترك الهوى، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ)، وللاستدلال على صحة هذه المعادلة يكفي استعراض بعض النصوص الواضحة في ذم العمل بالأهواء، ولا يحتاج الأمر إلى بحث تفصيلي عن النفس وميولاتها في القرآن. قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ). حيث تؤكد الآية على أن الهوى هو المسؤول عن عدم قبولهم الحق الذي جاء به الأنبياء. وقال تعالى: (إن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ)، وهنا جعلت الآية هوى النفس سبباً في ترك الهدى. وقال تعالى: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، والعدل كما الحق لا يمكن تطبيقه إلا بمخالفة الهوى. وحين بعث الله نبيه داود وجعله خليفة على الناس، أمره بمخالفة الهوى لأنها طريق العمل بالحق، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ). كما أن الله نهى عن طاعة من يتبع الهوى، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)  بل حكم القرآن بشكل مطلق بأن أهواء الناس ضلالات يجب مجانبتها قال تعالى: (قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، وفي المحصلة هناك تضاد كامل بين الهوى والعلم، قال تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، وقال: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)، وكثير هي الآيات التي تحمل الهوى مسؤولية الانحرافات الفكرية والسلوكية.

وعليه عمل الإسلام على تأسيس حياة سعيدة للإنسان وذلك من خلال تمليك الإنسان بصيرة في الحياة، ومن خلال تلك البصيرة يتمكن الإنسان من عمارة الأرض بالصالحات، ومن دون ذلك يكون الفساد هو النتيجة الطبيعية، وحينها تتحول حياة الإنسان إلى جحيم ومعاناة، وما نشهده اليوم من مظالم وحروب وفقر هو بسبب هيمنة المصالح والأهواء على حياة البشر.

أما منهج الإسلام في مواجهة مشكلات الحياة في حال حصولها، فيمكن تلخيصه في عدم الاستسلام لمشكلات الحياة والسعي الحثيث لتجاوزها، ويكون ذلك بالصبر الإيجابي والتواصي الدائم على الحق، وقد لخص القرآن ذلك في سورة العصر حيث أكدت السورة على كلا البعدين حيث اشارت في البعد الأول إلى عمل الصالحات بوصفه الأساس للحياة الطيبة، وأشارت في البعد الثاني إلى الصبر والتواصي بالحق بوصفهما الأساس لتجاوز كل ما يصيب الإنسان من مشاكل. قال تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).

2022/03/30

هل يشعر الإنسان بـ ’موته’ قبل أيام؟!

إنّ شعور بعض الناس بدنوّ أجلهم واقتراب موتهم أمرٌ متحقّق في الجملة، فإنّ الكثير منّا سمع عن حالات جرت مع بعض الناس الذين ماتوا وكانوا يقولون قبل موتهم أنّهم يموتون بهذا المرض أو خلال فترة قصيرة ونحو ذلك ثم يتحقّق كلامهم.

[اشترك]

ولكنّ هذا الشعور ـ عادةً ـ ليس على نحو البتّ واليقين، بل على نحو الظنّ، ويشهد لهذا: وجود حالات كثيرة لمرضى يشعرون بالموت ويخبرون عن دنوّ ساعة وفاتهم، لكنّهم بعد ذلك يسلمون من المرض ويعيشون سنوات مديدة.

ويحدث مثل هذا الشعور عادةً عند وجود حالة مرضيّة، يجدها المريض لا تتلاءم مع عموم حالته الصحيّة، أو يلهم الله تعالى الإنسان بدنوّ اقتراب أجله، ليهيء نفسه للرحيل، بالتزوّد بما يستطيع من الطاعات والخيرات، وبتلافي ما فاته من الطاعة والتوبة، وبالوصيّة في الأهل والأولاد والأموال والحقوق والطاعات والمبرّات وغير ذلك.

وهذا الشعور غير محدّد بمدّة معيّنة كأسبوع مثلاً، بل قد يكون قبل موته بيوم أو يومين أو شهر أو شهرين، فالأمر مختلف بين شخص لآخر، ومن حالة لأخرى، فلا مجال للجزم بأنه يشعر بذلك قبل أسبوع مثلاً.

ثمّ إنّ مثل هذا الشعور ليس عامّاً لكلّ أحد، فإنّ (موت الفجأة) الذي يحدث كثيراً ممّا يستبعد فيه أن يكون الميت قد شعر بموته قبل أيام، فإنّ الشعور باقتراب الموت يكون عادةً عند وجود علامات وأمارات تنبئ عن ذلك كما تقدّمت الإشارة إليه.

هذا ما يمكن أن يُقال، والقضية غير واضحة جداً لنا إذ لم نجرّب الموت، كما لم نعثر على رواية معصوميّة تشرح ذلك لنعتمد عليها في المقام.

2022/03/30

الفقيه صاحب ’البصيرة’ في الدين

ما المقصود بـ "الفقيه" في الروايات الشريفة كقوله (ع): "الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله" وهكذا في نصوص عديدة ورد فيها هذا اللفظ.

[اشترك]
الوقوف على معنى كلمة (الفقيه) في النصوص الدينية يتوقف على معنى كلمة (الفقه) في النصوص أيضاً، وما هو معلوم أن كلمة الفقه في اللغة تطلق ويراد منها مطلق الفهم، بينما يراد منها في الاصطلاح الفهم على نحو خاص وهو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

ومن غير الجائز تفسير كلمة الفقه التي وردت في النصوص بالمعنى الاصطلاحي للفقه، وإنما يجب تفسيرها بما يتطابق مع الدلالة اللغوية، ومن هنا وجب التحقيق في معنى كلمة الفقه لغوياً بما ينسجم مع سياقاتها في النصوص الدينية.

 إذا رجعنا للآيات القرآنية نجد أنها تميز بين الفهم الناتج عن التفكر وبين الفهم الناتج عن التدبر، حيث نجد أن الآيات أطلقت كلمة (فقه) بشكل خاص على الفهم الناتج عن التدبر دون التفكر، ولأثبات ذلك لابد من بيان مجموعة من المقدمات.

المقدمة الأولى: أن معظم الآيات التي جاء فيها الأمر بالتفكر لها علاقة بالأمثال والقصص والتفكر في آيات الكون، ولم نجد آية تأمر بشكل مباشر بالتفكر في آيات القرآن، وإنما نجد القرآن قد استخدم لفظة أخرى لهذه المهمة وهي كلمة (تدبر)، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). وقال: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إليكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ).

المقدمة الثانية: أن كلمة تدبر جاءت مرتبطة بالأقوال (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إليكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) أي أن موضوعات التدبر هي الأقوال والنصوص،  سواء كانت مكتوبة أو منطوقة، وعلى ذلك يكون الغرض من التدبر هو (فهم القول) على الوجه الذي وضع له، سواء كان هذا الفهم على نحو الكشف عن الدلالة مثل (الدلالة الاستعمالية أو المراد الجدي)، أو على نحو الحِكمة وما يرمي إليه القول من دلالة بعيدة، أو على نحو الكشف عن خلفية القول وما يرتكز عليه من مبررات، المهم أن التدبر مرتبط دائماً بالأقوال والنصوص.

المقدمة الثالثة: استخدم القرآن كلمة فقه فيما يرتبط بفهم الأقوال، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا). حيث وصفت الآية فهم القول بالفقه. وفي آية أخرى يقول تعالى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي). وهنا طلب موسى أن يجعله ممن يفقهون قوله. وقال تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ ...). وقال تعالى: (...قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا). وعليه هناك ربط وثيق بين فهم القول وبين الفقه، أي أن فهم القول يطلق عليه قرآنياً فقه، وفي المقدمة الثانية ثبت أن هناك ربط بين القول وبين التدبر، وبذلك يصبح التدبر هو الطريق إلى فقه القول.

المقدمة الرابعة: هناك ربط بين عدم التدبر وبين أقفال القلوب قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). وفي المقابل هناك ربط بين عدم الفقه وبين أقفال القلب قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). وقال تعالى: (... إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا...)  وقال: (رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). وقال: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إليكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا). فهذه الآيات تؤكد على أن الطبع على القلب هو الذي يمنع من حصول الفقه، وطبع القلب هو ذاته الذي يمنع من التدبر، وبذلك يصبح الفقه في لسان الآيات ليس مطلق الفهم وإنما هو فهم خاص له علاقة بالتدبر في النصوص والآيات.

وإذا صحت هذه المقدمات فإن كلمة فقيه التي وردت في الروايات يقصد منها العالم الذي له معرفة ودراية بالنصوص الشرعية، وقد عبرت الروايات عن ذلك بشكل واضح وصريح، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يُحسنون من رواياتهم عنّا، فإنّا لانعدّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون مُحَدَّثا، فقيل له: أوَ يكون المؤمن مُحَدَّثاً؟ قال: يكون مفهَّماً، والمُفَهَّمُ المُحَدَّث»

وعن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «خبر تدريه خير من عشرة ترويه. إنَّ لكل حق حقيقة ولكل صواب نوراً، ثم قال: إنا والله لانعدّ الرجل من شيعتنا فقيهاً حتى يُلْحَن له فيعرف اللحن»

وقال عليه السلام: «حديث تدريه خير من ألف ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإنَّ الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً، لنا من جميعها المخرج»

وروي عنه (عليه السلام) انه قال لأبي عبيدة الحذاء: «إنّا لانعدّ الرجل فقيهاً عالماً حتى يعرف لحن القول وهو قول الله عزّ وجل: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)»

وكذلك الحال في الرواية التي أشار إليها السائل، فالرواية بتمامها كالتالي: عَنْ أَبي عَبْدِاللهِ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ؟! مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلى‏ غَيْرِهِ؛ أَلا لا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلا لا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلا لا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ» فذيل الرواية يؤكد على العلاقة الوثيقة بين التدبر وبين الفقه، حيث ربط الإمام بين الفهم وبين التدبر، وهكذا يكون الفقيه هو العالم بالنصوص والعارف بمعاريضها، أو هو الناطق بلسان النصوص، فكما لا تقنط النصوص من رحمة الله كذلك يفعل الفقيه، وكما أن النصوص لا تؤمن الناس من عذاب الله ولا ترخص لهم في المعاصي كذلك يفعل الفقيه، وبذلك يكون الفقيه هو العالم المعبر عن النصوص الدينية.

فوظيفة النصوص هي إعطاء الإنسان بصيرة في الدين، وفقه النص بالتدبر فيه هو الذي يحقق هذه البصيرة، نقل المازندراني في شرح الكافي عن الشيخ البهائي أنّه قال: ليس‏ المراد بالفقه‏ الفهم‏ ولا العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة عن أدلّتها التفصيليّة فإنّه معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في أمر الدّين والفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى والفقيه هو صاحب هذه البصيرة.

2022/03/24

غير القرآن والسُنّة.. كيف تعددت مصادر التشريع الإسلامي؟

ارتكز التشريع الإسلامي في مراحل تكونه على نصوص الوحي، ولم تكن هنالك ضرورة اجتهادية خارج الفتوى بالقرآن أو السنة؛ لأن طبيعة المرحلة كانت تأسيسية تعتمد بشكل مباشر على صاحب الرسالة وما يوحى إليه، وقد كان الصحابة يرجعون إلى رسول الله لمعرفة الأحكام في موارد الابتلاء.

[اشترك]

أما بعد رحيله فقد تولدت الحاجة مبكراً عند من رفض إمامة أهل البيت (عليهم السلام) لإعمال النظر والاجتهاد، وقد جعلوا وفاته إيذاناً بمرحلة جديدة تكون الأمة فيها هي المسؤولة عن بيان الأحكام الشرعية، وقد ارتكز هذا التصور على كون الـ(23) سنة التي قضاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متحملاً أعباء الدعوة كافية لتأهيل الأمة مواصلة المسيرة بعده.

وقد ازدادت هذه الحاجة بعد توسع الدولة وظهور أسئلة جديدة ومسائل مستحدثة، مما جعل الأمة تعمل على استحداث أصل جديد وهو العمل بالرأي، أو كما يقول محمد صالح في كتابه الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 38: «.. وترتب على ذلك ظهور حاجات ومشكلات جديدة تتطلب أحكاماً لها، واحتاج المسلمون في كافة الأمصار - بعد وفاة الرسول - إلى من يرشدهم إلى القواعد القانونية الواجبة التطبيق فيما يواجهونه من أحداث ووقائع، وفي الوقت نفسه كان المأثور من تشريعات الرسول وأحكامه لا يفي بهذه الوقائع المتجددة، وترتب على ذلك ظهور مصدر جديد للتشريع أطلق عليه اسم الرأي أو الاجتهاد». أي أن محدودية النصوص واتساع الحاجة هو المبرر الذي حمل الأمة إلى أعمال الرأي في المسائل الشرعية.

وتلك الدواعي ليست كافية لتجعل المتبنين لهذا الرأي بمنأى عن مواجهة مشكلات عقائدية وتشريعية، فالأمة ليست معذورة في تركها المرجعيات المعصومة التي مثلت الامتداد الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففي ظل وجود تلك المرجعية لا يكون الاجتهاد عملاً مبرراً، فمرحلة النصوص مازالت مستمرة بوجود الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام)، وإذا رجعنا لما كتب في تاريخ التشريع الإسلامي نجده يعتمد في تبرير العمل بالرأي على محدودية النصوص التشريعية، فمثلاً يقول الشهرستاني: «نعلم قطعاً ويقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعاً أنه لم يرد في كل حادثة نصّ، ولا يتصور ذلك أيضاً، والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلِم قطعاً أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد». وبذلك يكونوا قد جعلا القياس مصدراً من مصادر التشريع، ومن ثم اتسعت الدائرة لتستوعب مصادر أخرى للتشريع، مثل الاستحسان، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، وعمل الصحابي، وغيرها من الأصول الظنية التي جعلت التشريع تابع للعمل بالرأي.

وبرغم من عدم تمهل الأمة في ضبط مصادرها التشريعية إلا أن تلك المصادر أصبحت أساساً لمنظومة فقهية متكاملة، لم تزل الأمة تدين الله بها، ومع أن عملية الاجتهاد السني بدأت بوادرها مبكرة إلا أن تأصيلها لتلك الأصول والكشف عن مناهجها الاستنباطية لم يتم تحقيقه إلا في عصور متأخرة من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكتب عنها بصيغة استدلالية إلا في عهد الشافعي.

وقد حاول بعض الباحثين السنة في تاريخ الاجتهاد نسبة العمل بالرأي إلى الرسول الذي عمل به وعلمه صحابته في خطوة لشرعنة العمل بالرأي، كحديث معاذ بن جبل عندما بعثه رسول الله قاضياً إلى اليمن وقال له فيما قال: بماذا تقضى إذا لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة رسول الله؟ قال معاذ: اجتهد رأيي ولا آلو، فقال رسول الله: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله. وكذلك الروايات التي تبين اجتهادات رسول الله والتي تكون في العادة خاطئة بحجة تعليم الامة العمل بالرأي، كحادثة تأبير النخل، ففي رواية مسلم عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بقومٍ يُلقِّحون فقال: لو لم تفعلوا لصلَح، قال فخرج شِيصاً (تمراً رديئاً). فمرَّ بهم فقال: ما لنخلِكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال: أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم) يقول مناع القطان معلقاً على ذلك في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي: «نحب أن نفرق هنا في تصرفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ما هو تشريع وما ليس بتشريع، فهناك أمور سبيلها التجربة والدِّربة في الحياة والخبرة بأحوالها، فيما اعتاد الناس كشؤون الزراعة والطب فهذه يجتهد فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتهاد غيره ويخطى ويصيب وليست شرعاً»، وهذا التبرير يفتح الباب واسعاً أمام العمل بمطلق الرأي في تحديد وتشخيص الموضوعات، لأن التفريق القائم لا يعتمد على ضوابط واضحة، وخاصة أن التداخل كبير بين تحديد الموضوع والحكم الشرعي، ويمكن الاستشهاد على هذا التداخل من حادثة التأبير نفسها، فامتناع الصحابة من تلقيح النخل مبتنٍ على الفهم القاضي بشرعية أمر الرسول في حرمة تأبير النخل، ولذا امتنعوا عنه على حسب الرواية، لأن بالإمكان أن يتدخل الرسول ويمنع من زراعة نوع معين من النبات أو التداوي بنوع معين من الدواء، وهكذا سجل لنا التشريع حالات كثيرة تدخل فيها الشارع لتشخيص بعض الموضوعات، فكيف يتأتى للإنسان التمييز بين الباب المطلق للرأي الذي حاول الحديث إثباته وبين الدائرة التي يتدخَّل الشرع فيها للتشخيص الموضوعات، وبالتالي قد تتأسس أسس شرعية وأحكام فقهية لا يصح نسبتها إلى الرسول والرسالة.

وفي إجابة سابقة حول الاجتهاد الشيعي والاجتهاد السني بينا الفوارق بين مصادر التشريع بين الطرفين، وقد قلنا إن الشيعة لم يحتاجوا إلى إعمال النظر لاستنباط الأحكام الشرعية مع وجود المرجعيات المعصومة من أهل البيت (عليهم السلام)، ومن هنا كان الموروث الشيعي كبيراً في الروايات الفقهية، فبينما كانت روايات الشيعة في باب الفقه والأحكام الشرعية تبلغ 100 ألف رواية، كانت الروايات المعتمدة عند أهل السنة في ما يتعلق بالأحكام في حدود 500 رواية فقهية، وإذا أخذناها مع المتكرر والضعيف تبلغ 4500، يقول الدكتور محمد فاروق النبهان: (وقد جرت محاولات لاستقصاء الآيات والأحاديث والواردة في الأحكام فقيل بأن آيات الأحكام في القرآن تبلغ نحواً من 500 آية، وأحاديث الأحكام 4500 حديث، وهذه النصوص منها ما يتعلق بالعبادات، ومنها ما يتعلق بالتنظيم التشريعي) (المدخل للتشريع، ص 98). ومن هنا اعتمد الفقه السني على العمل بالرأي في حين لم يجد الشيعة مبرراً لذلك مع هذه الوفرة من النصوص الفقهية.

وعليه فإن مصادر التشريع الأساسية عند الشيعة هي القرآن والسنة، ولم يثبت عندهم الإجماع كمصدر من مصادر التشريع إلا إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم، أما العقل وإن جعل مصدراً ثالثاً بعد القرآن والسنة إلا أنهم لم يحتاجوا إليه عملياً في استنباط الأحكام الشرعية، وكل ما هو موجود هو مناقشته أصولياً في باب الملازمات العقلية، وقد أشار الشهيد الصدر لهذه الحقيقة في مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة، حيث قال: (ونرى من الضروري أن نشير أخيرا بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدنا بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة بامتدادها المتمثل في سنة الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام باعتبارهم أحد الثقلين الذين امر النبي (ص) بالتمسك بهما ولم نعتمد في شيء من هذه الفتاوى على غير هذين المصدرين، اما القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغا شرعيا للاعتماد عليها تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام. واما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا فنحن وان كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به ولكنا لم نجد حكما واحدا يتوقف اثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة واما ما يسمى بالإجماع فهو ليس مصدرا إلى جانب الكتاب والسنة ولا يعتمد عليه الا من اجل كونه وسيلة اثبات للسنة في بعض الحالات، وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة ونبتهل إلى الله تعالى ان يجعلنا من المتمسكين بهما ومن استمسك بهما (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) (الفتاوى الواضحة، ج1، ص 15).

2022/03/23

جدلية ’العقل’ و ’الوحي’.. كيف نفهمها؟

لابد من التفريق بين نظريات البشر وفلسفاتهم وبين العقل الفطري، فمعارف البشر ونظرياتهم قد تتعارض مع الوحي، أما العقل الفطري فلا يمكن أن يحدث بينه وبين الوحي أي تعارض وتضاد، ويبدو أن إنزال الفلسفات البشرية منزلة العقل أو تفسير العقل بالفلسفة هو الذي يدفع البعض للتساؤل عن وظيفة العقل اتجاه الوحي، فالتعارض الذي يحدث بين بعض النظريات وبين الوحي يدعو للسؤال عن السلطة؛ هل هي للوحي على العقل أم للعقل على الوحي؟

[اشترك]

والظاهر أن الموقف السلبي من العقل عند بعض التيارات الإسلامية يعود إلى اختلاط الحدود الفاصلة بين العقل وبين الفلسفة، حيث قُدمت الفلسفة في الوسط الإسلامي بوصفها عقلاً، مما دفع البعض إلى رفض العقل لرفضهم للفلسفة، وقد ساهم الفلاسفة أنفسهم في إحداث هذا التطابق عندما فسروا آيات العقل والتعقل في القرآن بالفلسفة، يقول العلامة الطباطبائي: «وخلاصة القول إن الدين لا يدعو الإنسان إلا إلى نيل الحقائق الإلهية بشعوره الاستدلالي الذي جهز به وهذا هو بالذات ما يعبر عنه بالفلسفة الإلهية.. فدع عنك هذه الأقاويل وتيقن أن الدين لا يدعو إلا إلى الفلسفة الإلهية وهي الحصول على المعارف الإلهية عن حجة عقلية» (علي والفلسفة الإلهية ص 13).

ومن هنا كان للفلاسفة الحق في تأويل النصوص الدينية لاختصاصهم بالعلوم العقلية، يقول الدكتور محمد بيصار: «ولذلك جاز للفلاسفة أن يؤولوا نصوص الشريعة لأنهم هم الذين يفهمون مراميها بنور الحقيقة العليا التي حصلوا عليها واحتوتها عقولهم» (الوجود والخلود في فلسفة ابن رشد ص 96).

ويدافع ابن رشد عن ضرورة التأويل بما يتناسب مع الدليل الفلسفي بقوله: «فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سُكت عنه في الشرع أو عرّف به. فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ماسكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفاً. فإن كان موافقاً، فلا قول هناك. وإن كان مخالفاً، طلب هنالك تأويله» ( فصل المقال ص 35).

وهذا التطابق بين العقل وبين الفلسفة، دفع الرافضين لها إلى رفض العقل نفسه؛ لأن الفلسفة في نظرهم ترتكز على رؤية معرفية مخالفة لرؤية الإسلام، الأمر الذي يجعل الفيلسوف مضطراً إلى تأويل النصوص بما يتوافق مع تلك التصورات الفلسفية، وهذا ما يرفضه علماء الشريعة بوصفه تلاعباً في مرادات الله، ولذا تشكل عند البعض موقف سلبي من العقل حتى لا يكون مدخلاً للفلسفة. ويشير العلامة الطباطبائي إلى تورط الفلاسفة في تأويل النصوص بقوله: «وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين، من الوقوع في ورطة التطبيق، وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم، أعني: الرياضيات والطبيعيات والإلهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السماوات والأرض» (الميزان ص 6).

ويقول العلامة ميرزا مهدي الاصفهاني في اعتراضه على توسط الفلسفة اليونانية لفهم الدين: «وزعموا أن فهم مرادات الأئمة (عليهم السلام) يتوقف على تعلم العلوم اليونانية وهذا غير صحيح، لأن حمل ألفاظ الكتاب والسنة على المعاني الاصطلاحية وتوقف هداية البشر على تعلمها بعد بداهة جهل عامة الأمة بتلك الاصطلاحات إلا قليل منهم، مساوق لخروج كلام الله تعالى وكلام رسوله عن طريق العقلاء وإحالتهم تكميل الأمة إلى من يعلم الفلسفة اليونانية، وهذا نقض غرض البعثة وهدم آثار النبوة والرسالة وهو أشنع الظلم» (أبواب الهدى ص 99)

وبذلك يمكننا القول إن الموقف السلبي من العقل تولد عند البعض من موقفهم السلبي من الفلسفة، إلا أن الموقف السليم هو العمل على فك الارتباط بين العقل وبين الفلسفة، ففي الوقت الذي نؤمن فيه بحجية العقل نرفض أن تكون الفلسفة البشرية هي التعبير الحصري للعقل.

وعليه لا يمكن تصور أي نوع من التعارض والتضاد بين الوحي وبين العقل، فالوحي في حقيقته ليس إلا إثارة وتنبيه للعقل الفطري، ولذلك وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) مهمة الأنبياء بقوله: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول)، فالخطاب القرآني لم يكن ناظراً إلى تأسيس معارف غير موجودة في واقع الفطرة وإنما جاء بلسان التذكير للعلم والمعرفة التي حُجبت بالغفلة، فكان لسان خطابه (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)، والتذكير هنا هو التذكير بأحكام العقول الفطرية، فيكون القرآن إثارة للعقول وتنبيهاً لواقع تلك الأحكام التي احتجبت بدواعي الهوى والغفلة.

يقول الأمام الكاظم (عليه السلام) في بيان العلاقة بين الوحي والعقل: « إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُول‌» (الكافي ج1 ص 16) ويمكن الاستفادة من هذا الحديث بأن ما جاء به الأنبياء والرسل والأئمة من تعاليم ليس إلا حضوراً حسياً للعقل، والعقل ليس إلا حضوراً معنوياً لأقوالهم، ولا أظن أن هناك وصفاً يصف عمق العلاقة بين نصوص الإسلام وبين العقل أكثر مما عبر به الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث جعل الشيئين شيئاً واحداً، أو جعل كل واحد منهما معبراً عن الآخر، وعليه حتى لو كان هناك تمايز بين العقل والنص إلا أنه تمايز بلحاظ موضع التجلي والظهور، وليس تمايزاً في المضمون والجوهر، فالأول عقل تجلى في النص، والثاني نص تجلى في العقل، ومن هنا فإن التحقيق المنهجي لا بد أن يبدأ برفع الحدود الغامضة بين العقل والنص؛ لأن ملاحظة المضمون المشترك هو الكفيل بتحقيق الإطار المعرفي في الإسلام.

وبهذا التداخل الصميمي الذي أكده الإمام الكاظم (عليه السلام)، لا نتصور معرفة إسلامية لا يساهم العقل والنص في تكوينها وإنتاجها، فلا تكون المعرفة هي معرفة وحيانية خالصة ولا عقلية مجردة، وإنما معرفة صنعها العقل بعد أن استرشد بالوحي واستبصر ببصائره وتكامل به.

والخطوة الطبيعية لتحقيق علاقة تكاملية بين العقل والنص تبدأ بإرجاع الاعتبار للعقل، ويتحقق ذلك بالنظر للقرآن على أنه خطاب للإنسان بوصفه عاقلاً، وحينها لا يسع المسلم التمسك بالنص دون العقل، فمن المستحيل أن يخص الله الإنسان بخطاب لكونه عاقلاً ثم يصادر هذا العقل الذي كان موجباً لتحقق هذا الخطاب، ومن هنا لا يمكن قبول كل هذه الهواجس التي عبرت عنها بعض الاتجاهات من العقل.

وعليه لابد من التعرف على العقل من النص؛ لأن ذلك يقودنا إلى معرفة النص أيضاً، فتارة يفهم النص على أساس أنه بديل عن العقل الإنساني، وحينها تكون أي محاولة لاستخدام العقل هي خروج عن دائرة النص. وتارة يفهم النص بوصفه تعزيزاً للعقل ودفعه إلى مزيد من التفكر والتعقل، وحينها تكون أي محاولة للتمسك بالنص بدون عقل هي خروج عن دائرة النص نفسه، الأمر الذي يدعو إلى إعادة فهم النص بالشكل الذي يكون العقل حاضراً فيه دوماً.

وإذا نظرنا للنص القرآني نجد أن آياته تدور على نقطة مركزية تشكل محوراً للقرآن، وهي الأمر الدائم بالعقل، والتعقل، والتدبر، والتفكر، في مئات من الآيات؛ مما يكشف عن دور العقل وأهميته كمحور لا تكتمل المعرفة القرآنية إلا به، قال تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال تعالى: {...قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إليكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}. وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. وقال: {...كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وقال: {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

وغيرها من الآيات الدالة على كون النص يرتكز على العقل بوصفه محوراً أساسياً لا تكتمل المعرفة القرآنية إلا به، وبذلك يكون العقل حجة مطلقة لا يصدر منه الخطأ والانحراف، ولا يمكن التسليم بذلك إلا إذا سلمنا بكونه نوراً أودعه الله في قلب الإنسان، وإلا كيف يدعو الله إلى التعقل مطلقاً والعقل قد يصدر منه الخطأ والانحراف؟

ومن الناحية الأخرى إذا نظرنا لآيات القرآن لنتعرف على طبيعة النص وطبيعة المعاني التي يحملها، نجد أنه يصفها أيضاً بكونها نوراً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إليكُمْ نُوراً مُّبِيناً}. وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. وغير ذلك من الآيات.

فإذا كان العقل هو نور إلهي أفاضه الله على قلب الإنسان لكي يكشف به الحقائق، وهو غير النفس وميولاتها وأهوائها ورغباتها، وفي نفس الوقت وصف القرآن نفسه بأنه نور من الله لهداية الإنسان، فنتوصل من ذلك إلى كون القرآن ليس إلا تذكيراً بما فطر الله به العقول، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، ولولا المطابقة بين الوحي وما فطر عليه الإنسان لما صدق الإنسان بالأنبياء، وبذلك نفهم أن حقائق القرآن، وقيمه الكبرى، وغاياته العليا، هي حقائق مودعة في الإنسان وجاء الوحي ليذكره بها.

يقول العلامة ميرزا الأصفهاني (قدس سره) مبيناً علاقة الوحي بالعقل: «فتكون الشريعة مؤسسةً على الأحكام العقلية التي تكون العقول حيثُ ذاتُها الكشف عن وجوبها وحرمتها الذاتية، أو المعللة بالحسن والقبح اللذين حيثُ ذاتُها الكشف عنهما في بعض الأفعال، فيكون القرآن المجيد والرسول الأكرم والأئمة المعصومون مذكرين بهذه الأحكام العقلية. فكل فعل يكون العقل بذاته كاشفاً عن وجوبه أو حرمته ذاتاً أو معللاً بحسنه وقبحه عن العاقل القادر المالك للرأي بفعله وتركه، يكون هذا العقل حجةً إلهية على هذه الأحكام، لحجيته وحاكميته بذاته على عصمته، وأن المكشوف به عين الواقع، فهو الحجة على أن العقل الواجب، والحرام بالذات أو للحسن والقبح، واجب وحرام عند الله وعند أنبيائه ورسله، كيف والحق جلَّت عظمتُه أرشد إلى هذه العقول، واحتجَّ بها على البشر وهو عين رسوله الذي هو لسانه ونفسه تعالى شأنه. وعلى هذا الأساس، قامت علوم الدين والشرائع على أحكام تلك العقول، التي هي حجج إلهية لكل عاقل، فهي الحجة بذاتها على كل ما تكشفه، كما أن العلم الإلهي حجة إلهية على كل ما يكشفه». (المدرسي، التشريع الإسلامي ج1، ص 73)

وعلى ذلك تكون حقائق القرآن هي ذاتها الحقائق التي يتحرك على أساسها العقل، ودور القرآن هو تذكير العقل وتنبيهه بشكل دائم بتلك الحقائق، ولو لا ذلك لاستأثرت النفس بما فيها من أهواء وشهوات بعقل الإنسان وحرفته عن مسار الحق.

فإذا كانت معارف القرآن ترتكز على أصول فطرية، وكانت مهمة القرآن هي التذكير والتنبيه بتلك الأصول، فلابد حينها من بيان الأسباب التي تحجب الإنسان عن فطرته أو تمنعه من الالتزام بها، ولذا صرحت آيات القرآن أيضاً بكون الهوى والشهوات هي المسؤولة عن كل انحراف يصيب الإنسان فكرياً أو سلوكياً، وفي هذا الحالة يكون التعقل والتفكر نتيجة طبيعة عندما يثار عقل الإنسان وتنكشف عنه حجب الجهل والهوى، فينطلق للتعرف على بواطن النص بما فيه من حِكم، وينطلق لمعرفة آيات الوجود بما فيها من سنن، وبذلك يصبح دور العقل في ما يتعلق بالوحي هو الإقرار والتصديق بما فيه بعد تذكيره وتنبيهه إليها، وهناك دور أخر للعقل هو التعرف على الموضوعات الخارجية وتحديد الموقف المناسب منها، وذلك من خلال ضبط سلوك الإنسان ومواقفه الحياتية بما يتناسب مع حقائق الوحي وبصائره.

وإذا جاز لنا التعبير يمكننا القول إن الإنسان يحمل في واقع فطرته خريطة متكاملة ومتشابكة من الحقائق والقيم تمثل قاعدة بيانات أولية، ولو لا وجود تلك الحقائق الفطرية لما تمكن الإنسان من الاهتداء للحق ولما أمكنه التمييز بين الأشياء، ومن الطبيعي أن تكون توجيهات القرآن مرتكزة على تلك القيم الفطرية.

2022/03/22

هل تحدّث القرآن الكريم عن بداية الكون ونهايته؟

كما أن آيات القرآن دالة على عظمة الله وتوحيده كذلك آيات الكون والوجود دالة على ذلك، ومن هنا يمكننا القول إن علوم الكون تمثل النصف الآخر للقرآن الكريم، أو يمكننا التعبير بإن الكون هو القرآن الصامت والقرآن هو الكون الناطق، فالسنن التي تحكم نظام الوجود هي ذاتها القيم التي تحكم نظام التشريع، والتداخل بين النص القرآني والكون هو الذي يحفز العقل الإنساني للتفكير والإبداع، ومن هذا البعد نفهم توصيات القرآن بضرورة التدبر في آيات القرآن كما نفهم توصياته بضرورة التفكر في آيات الكون، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

[اشترك]

مع أن القرآن ليس كتاباً في الفلك إلا أن الكثير من آياته تحدثت عن الكون وما فيه من أفلاك، وقد شكل ذلك دافعاً لكثير من علماء المسلمين للاهتمام بعلوم الفلك، فكتبوا المخطوطات حول تكون العالم، ورسموا الخرائط الملونة للكواكب، وتحدثوا عن دوران الكواكب حول الشمس، وبنوا المراصد العملاقة لرصد حركة النجوم والكواكب، ولكن ظل السؤال عن بداية الكون هو الذي يشغل المهتمين سواء من الفلاسفة أو علماء الطبيعة والفلك، وقد كثرت المحاولات للإجابة على هذا السؤال إلى أن جاء العالم الروسي ألكسندر فريدمان والعالم البلجيكي جورج لوميتر في عام 1927 بنظرية الانفجار العظيم، وأصبحت هي النظرية السائدة في تفسير نشأة الكون، وبعيداً عن الشروحات المعقدة لهذه النظرية فما يهمنا هو أن هذه النظرية أصبحت المعتمدة في الدوائر العلمية ذات الصلة، وفي سنة 1989م أكدت وكالة الفضاء الأميركية ناسا هذه النظرية، وبذلك اعتبرت النظرية هي أهم اكتشافات القرن العشرين.

وليس من وظيفتنا هنا أن نصادر جهود هؤلاء العلماء بالقول أن لهذه النظرية إشارات واضحة في القرآن الكريم، فالقرآن شجع الإنسان بما هو إنسان على التعقل وإعمال الفكر والبحث عن المعرفة، فمن المفترض أن يسبق المسلمين غيرهم في ميادين البحث العلمي؛ وذلك لأن القرآن مهد لهم الطريق من خلال الإشارة للكثير من الحقائق العلمية، إلا أن ذلك لا يمنع من تعزيز الثقة في القرآن الكريم والإيمان بأنه من عند الله تعالى، ولا يخفى أن هناك الكثير من الباحثين الذين استدلوا على هذه النظرية بآيات القرآن الكريم، أو أنهم اعتبروها دليلاً على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فمثلاً الدكتور حسني حمدان الدسوقي أستاذ الجيولوجيا وعلوم الأرض في جامعة المنصورة المصرية يقول إن من روائع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم أن نجد تاريخ الكون منذ مولده وحتى نهايته مسطراً في ثماني آيات في الكتاب المكنون. ويضيف: ستظل إشارات القرآن حول حقائق خلق السماوات والأرض منارات تهدي العلماء إلى التأريخ الكوني فهماً صحيحاً وتضم تلك هذه الآيات، آية تتحدث عن مولد السماوات والأرض أو الكون وهي قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون). كما تشير آية أخرى إلى اتساع السماء وهي قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)، بينما فصلت أربع آيات ثلاث مراحل لتطور السماوات والأرض وهي قوله تعالى : (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم). وأخيراً آيتان تصفان نهاية الأرض بالقبض والسماوات بالطيّ هما قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون)، وقوله سبحانه (يوم نطوي السماء كطيّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين).

وتمثل تلك الآيات الثماني دررا يجب أن تتحلى بها علوم الفلك والكون، وغاية سعي العلماء أن يكتشفوا سر تلك الآيات ولذلك يجب أن تتصدر هذه الآيات المباركات اي حديث عن الكون وتاريخه، ولو فطن علماء الكون لجعلوا منها مرشداً لهم في أبحاثهم.

ونحن بذلك لا نفسر آيات القرآن وفقاً لنظرية الانفجار العظيم فهي ما تزال نظرية وفيها الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات، كما أن الكون الذي نؤمن به هو الكون الذي أوجده الله من العدم وهو الذي يدبر أمره وبيده وحده نهايته، بينما النظريات المادية تبحث عن كون ليس له إله وتصدق بمادة أزلية وسرمدية، وهذا ما لا يمكن قبوله والتسليم به، وعليه نحن لا نقصد غير الإشارة إلى أن آيات القرآن تحدثت أيضاً عن بداية الخليقة ووصفتها بعباراتها الخاصة، ومن المفترض أن ينطلق علماء الإسلام من حقائق القرآن لتقديم بحوث علمية نفهم من خلالها تلك الآيات.

وكذلك يمكن الإشارة أيضاً إلى بعض الروايات التي أشارت إلى بداية الخليقة مثل خطبة الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة التي جاء فيها: (اِنْشَاءَ الْخَلْقَ اِنْشاءً وَاِبْتَدَاهُ ابْتِداءً، بِلا رَوِيَّهٍ اَجالَها، وَلا تَجْرِبَهٍ اِسْتَفادَها، وَلا حَرَكَهٍ اَحْدَثَها، وَلا هَمامَهِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فيها، اءَحالَ الاَشْياءَ لاَوْقاتِها، وَلاَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفاتِها، وَغَرَّزَ غَرائِزَها وَاَلْزَمَها اَشْباحَها عالِما بِها قَبْلَ اِبْتِدائِها مُحِيطا بِحُدودِها وَاِنْتِهائِها، عارِفا بِقَرائِنِها وَاَحْنائِها.

ثُمَّ اِنْشاءَ سُبْحانَهُ فَتْقَ الاَجْواءِ وَشَقَّ الاَرْجاءِ وَسَكائِكَ الْهَواءِ، فَاءَجْرى فِيها ماءً مِتَلاطِما تَيّارُهُ، مَتَراكِما زَخّارُهُ، حَمَلَهُ عَلى مَتْنِ الرِّيحِ الْعاصِفَهِ، وَالزَّعْزَعِ الْقاصِفَهِ، فَاءَمَرَها بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَها عَلى شَدِّهِ، وَقَرَنَها الى حَدِّهِ، الْهَواءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيْقٌ، وَالْماءُ مِنْ فَوْقِها دَفِيقٌ، ثُمَّ اءَنْشَاءَ سُبْحانَهُ رِيْحا اِعْتَقَمَ مَهَبَّها وَاءدامَ مُرَبَّها، وَاءَعْصَفَ مَجْراها، وَاءَبْعَدَ مُنْشاها، فَاءمَرَها بِتَصْفِيقِ الْماءِ الزَّخّارِ، وَاِثارَهِ مَوْجِ الْبِحارِ.

فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ الْسِّقاءِ، وَعَصَفَتْ بِهِ عَصْفَها بِالْفَضاءِ، تَرُدُّ اَوَّلَهُ عَلى آخِرِهِ، وَساجِيَهُ عَلى مائِرِهِ، حَتّى عَبَّ عُبابُهُ، وَرَمى بِالزَّبَدِ رُكامُهُ فَرَفَعَهُ فى هَواءٍ مُنْفَتِقٍ، وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ، فَسَوّى مِنْهُ سَبْعَ سَماواتٍ جَعَلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجا مَكْفوفا وَعُلْياهُنَّ سَقْفا مَحْفوظا، وَسَمُكا مَرْفوعا. بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُها، وَلا دِسارٍ يَنْتَظِمُها، ثُمَّ زَيَّنَها بِزينَهٍ الْكَواكِبِ، وَضِياءِ الثَّواقِبِ، وَاءَجْرى فِيها سِراجا مُسْتَطِيرا، وَقَمَرا مُنيرا، فى فَلَكٍ دائِرٍ، وَسَقْفٍ سائِرٍ، وَرَقِيمٍ مائِرٍ.

ثُمَّ فَتَقَ ما بَيْنَ السَّماواتِ الْعُلى، فَمَلَاءَهُنَّ اءَطْوارا مِنْ مَلائِكَتِهِ.

2022/03/20