فكر وثقافة
الغناء حرام ويد السارق تُقطع.. ألا ينافي الدين فطرة الإنسان؟!
كيف يعقل انحراف الدين عن الفطرة مثل تعارض قانون العقوبات الإسلاميّ مع مقتضيات الفطرة كقطع يد السّارق ورجم الزاني المحصن، وكذلك منافاة الفطرة لبعض الأحكام الشرعيّة مثل حرمة الغناء والرّسم وبعض الفنون ووجوب الحجاب على المرأة المنافي للحرّيّة التي هي حقّ فطريّ. ملخّص الإجابة:

التفسير الخاطئ للفطرة قد يجعل البعض يتصوّر نوعاً من التعارض بين الفطرة وبين الأحكام الشرعيّة.

بينما المقصود من الفطرة الدينيّة هي الفطرة الموجودة في الإنسان دون الحيوان، وهي الحقائق التي يجدها الإنسان في عمق وجدانه بوصفه كائناً عاقلاً ومدركاً لحكم الأشياء.

وهذا بخلاف الفطرة بمعنى الغريزية التي هي مشترك بين الإنسان والحيوان.

وما ذكره السائل من أمثلة قد يتعارض مع غريزة الإنسان الحيوانيّة ولكنّه لا يتعارض مع الفطرة الإنسانيّة، فالحدود الشرعيّة، وحرمة الغناء، ووجوب الحجاب، كلّها أحكام تستهدف الكمال الروحيّ للإنسان، وذلك من خلال تكوين بيئة طاهرة ومجتمع عفيف يسمح للإنسان بتكامله الروحيّ والمعنوي.

تفصيل الإجابة:

يبدو أنّ السائل اشتبه عليه معنى الفطرة فتصوّر وجود تعارض بينها وبين بعض الأحكام الشرعيّة.

ولرفع هذا الاشتباه لابدّ من تمييز الفطرة الدينيّة عن المعنى العامّ للفطرة.

فكلّ ما جبل عليه الإنسان يسمّى فطرةً بمعناها العام، وهي بالتالي تشمل كلّ ما يميّز الإنسان في بعده التكوينيّ.

فالإنسان ككينونة واحدة عند جميع البشر يمتاز بخصائص روحيّة تميّزه عن بقيّة المخلوقات.

فوعيه لوجوده وتعقّله لبقيّة المخلوقات وتحرّكه في إطار الغاية والحكمة يجعل منه مخلوقاً ذو تطلّعات تتجاوز البعد المادّيّ والغريزي.

وبذلك يكتسب الإنسان نوعاً خاصّاً من الفطرة مضافاً للفطرة الغريزيّة التي تشاركه فيها بقيّة الحيوانات.

وهنا تبرز أهميّة الدين بوصفه الخطاب الذي يحرّك الإنسان نحو تحقيق تلك التطلّعات الروحيّة. 

ولكي نميّز بين الفطرة بمعناها العامّ وبين الفطرة الدينيّة لابدّ أن نميّز بين الدوافع المادّيّة والغريزيّة، وبين الدوافع الروحيّة والمعنويّة.

وهذا ما لم يلتفت إليه السائل حيث استخدم الغريزة والفطرة بمعنىً واحد!

فالإنسان بوصفه مركّباً من روح وجسد له نوعان من الحاجات، مادّيّة تلبّي حاجة الجسد، ومعنويّة تلبّي حاجة الروح، والفطرة بمعنى الخلق والتكوين تشمل كلا الحاجتين.

إلّا أنّ الفطرة الدينيّة مرتبطة بالحاجات الروحيّة دون المادّيّة.

فالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وغيرها تسمّى غرائز.

أمّا حاجة الإنسان إلى الكمال وتعلّقه بالقيم والأخلاق وسعيه نحو السعادة له علاقة بالحاجات الروحيّة وهي ما نطلق عليه الفطرة الدينيّة.

وما يميّز الحاجات الروحيّة أو الفطريّة، عن الحاجات المادّيّة أو الغريزيّة، هو أنّ حاجات الفطرة لا تعرف الحدّ والشبع بخلاف حاجات الغرائز.

فمهما كانت حاجة الإنسان للطعام والشراب وغير ذلك فإنّ مقداراً قليلاً منها يكفيه.

بينما تطلّعه الروحيّ والمعنويّ ليس له حدّ يقف عنده، وبهذا، يمكننا تفسير حالة التجاوز والارتقاء والتسامي الموجودة عند البشر، وإلّا لماذا ينزع البشر إلى مثل أعلى؟، ولماذا يهوى المقدّس والمتعالي؟، ولماذا يتجاوز ذاته للوصول إلى ما هو أعلى؟، وما الذي يجعل التاريخ البشريّ في تطوّر دائم نحو ما هو أفضل؟ فالحالة الوجدانيّة التي تشعر بضرورة التكامل وبوجود المتعالي، لهي أقرب دليل على فطرة الإنسان وتطلّعه الرّوحي.

وإذا انطلقنا من التمييز السابق سيتّضح معنى التطابق بين الدين والفطرة؛ وذلك لأنّ الدين ليس شيئاً آخر غير دعوة الإنسان لتحقيق تطلّعاته الروحيّة، فالإنسان متديّن بطبيعته الروحيّة التي تعشق القيم وتتطلّع للكمال، فكلّ أمر يحكم به الشرع يحكم به العقل الفطريّ بالضرورة، والعكس بالعكس.

ولا سبيل لإشباع تلك الفطرة وتحقيق ذلك التطلّع غير اتّصال الإنسان بالغيب، فمن دون الإيمان بالله مصدر الكمال والجمال لا يكون ذلك التطلّع مفهوماً.

وهذا ما صرّح به أئمّة أهل البيت بقولهم (أوّل الدين معرفته) فمن دون تلك المعرفة لا يجد الإنسان سبيلاً لكماله.

وبذلك يمكننا أن نؤكّد أنّ عشق الإنسان للقيم وتطلّعه للكمال نابع من الإيمان الفطريّ بالله وبأسمائه الحسنى، ومن هنا كان كمال الإنسان عن طريق الاتّصال بالله ومن ثمّ التخلّق بأخلاقه، فأعظم ما يتطلّع له الإنسان هو تجاوز الأنانيّات الضيّقة والتحوّل إلى حالة أسمى وأرفع، وذلك لا يكون إلّا بعد الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى.

ولسان الروايات صريح في كون الفطرة هي التوحيد ومعرفة الله تعالى:

فعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿فطرت الله الّتي فطر النّاس عليها﴾ قال: فطروا على التوحيد. 

وقال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: ﴿حنفاء لله غير مشركين به﴾ ما الحنيفيّة؟، قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها، فطر الله الخلق على معرفته) 

والنصوص في هذا الشأن كثيرة.

وإذا كانت معرفة الله فطريّةً فإنّ كلّ القيم التي تتجلّى من تلك المعرفة تكون فطريّةً بالضرورة؛ لأنّ مصدر كلّ القيم التي يقدّسها الإنسان ويتطلّع إليها تعود إلى أسماء الله الحسنى.

وقد أشرنا للرّابط بين القيم وبين الأسماء الحسنى في إجابات سابقة، فكلّ اسم من أسماء الله الحسنى يمثّل قيمةً فطريّةً يتطلّع الإنسان لتجسيدها.

والقرآن الكريم بما فيه من معارف وتشريعات يرتكز على الأسماء الحسنى بوصفها الأساس لعبادة الله تعالى، (وللّه الأسماء الحسنىٰ فادعوه بها).

فالدين بكلّ أحكامه الشرعيّة يستهدف تحريك الإنسان نحو العمل طبقاً لتلك القيم الفطريّة، ومن هنا لا يجوز تقييم التشريعات الإسلاميّة بمعايير المصلحة التي تفرضها الطبيعة الغرائزيّة للإنسان، وإنّما يجب تقييمها وفهمها بمعايير القيم الفطريّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الإنسان مخلوق له كرامة وقيمة، إلّا أنّ قيمته وكرامته لا تستمدّ من واقع كونه جسداً مادّيّاً، وإنّما يستمدّها من جانبه الروحي الذي يحقّق له إنسانيّته.

فالإنسان يكتسب قيمته من خلال سلوكه الاختياريّ، وهو بدوره لا يكون ذو قيمة ما لم يرتكز على قيمة معنويّة وروحيّة، ولذا لا يكتسب الإنسان قيمةً لأنّه يأكل أو يشرب أو يتزوّج، وإنّما يكتسب قيمةً إذا كان عالماً أو رحيماً أو محسناً أو كريماً أو غير ذلك من القيم الأخلاقيّة.

ومن هنا يجب أن نفرّق في مقاربتنا للأحكام الشرعيّة بين المعايير التي تفرضها طبيعتنا الغرائزيّة وبين المعايير التي تفرضها طبيعتنا الروحيّة والفطريّة.

فمثلاً:

قطع يد السارق أو حتّى سجنه يتنافى مع الدافع الغريزيّ للإنسان، لأنّ ذلك بالضّرورة يمثّل نوعاً من الحرمان والنقصان لمتطلّبات الجسد، ويبدو أنّ ذلك هو السبب الذي دفع السائل إلى القول بوجود تناف بين الفطرة وقطع يد السارق.

إلا أنّه لم يلتفت إلى أنّ قيمة الإنسان في حاجته الروحيّة قبل حاجته المادّيّة، وعند التعارض بين الحاجتين فإنّ الحاجة الروحيّة والفطريّة مقدّمة على الحاجة المادّيّة والغرائزيّة، فيجب المحافظة على الجسد إذا لم يتعارض ذلك مع المحافظة على الرّوح، أمّا في حال استحكام المعارضة فإنّه يضحّى ببعض الجسد أو كلّه في سبيل المحافظة على قيمة الإنسان كروح وكمعنى وكقيمة، وإلّا كيف نفهم تقدّم الإنسان في ساحات القتال حتّى يقتل في سبيل الدفاع عن وطنه مثلاً؟ فالإنسان من أجل الدفاع عن حرّيّته وكرامته واستقلاله يقدّم جسده فداءً لتلك القيم.

وكذلك الحال في الحدود الشرعيّة سواء كانت جلداً أو قطعاً أو قصاصاً فإنّها تستهدف الحفاظ على مجموعة من القيم الروحيّة التي يجب أن تسود في المجتمع.

وقد فصّلت مجموعة من البحوث الحكمة من تلك التشريعات.

ولم نفهم مخالفة حرمة الغناء والموسيقى للفطرة كما أشار السائل، بل هي واضحة في كونها مخالفةً للفطرة التي تنشد الكمال، فالترفيه والمرح واللهو والترف وكلّ ذلك يسير في الاتّجاه المعاكس لكمال الإنسان.

وعليه فإنّ الغناء والموسيقى وكلّ أدوات اللهو تمثّل حاجةً شهوانيّةً ترضي هوى الإنسان ولا ترضي فطرته.

أمّا الفنون الأخرى التي لم ترد نصوص بحرمتها فهي مسموح بها في الحدود التي لا تحجب الإنسان عن تطلّعاته الروحيّة والفطريّة. 

أمّا وجوب الحجاب ومخالفته للحرّيّة فقد فصّلنا في أجوبة سابقة فلسفة الحجاب وكيف يمثّل الحجاب ضرورةً فطريّةً تستهدف عفّة المجتمع وطهارته.

2023/01/15

لماذا يغيب المنتج الثقافي في العراق؟

الثقافة هي الأساس لحل المشكلات وغيابها أساس لكل الأزمات، والثقافة الإيجابية تحقق التقدم في الأمم، ويلاحظ ذلك التقدم من ناحية الإنتاج الثقافي كما ونوعا.

البعض يقول إن الثقافة هي سلعة كمالية، ليس لها قيمة أولية في بناء المجتمع، لكن الثقافة هي الأساس وهي عمق المجتمع، والعقل الأساسي الذي يحرك المجتمع، ولكنه مخفي غير واضح وغير مرئي بشكل مباشر.

وإذا لاحظتم ذلك من خلال قراءة التاريخ المعاصر حيث يؤكد أن بعض الكتاب والأدباء والمفكرين أثرّوا في مسيرة أمة كاملة، من خلال كتاباتهم، كما نلاحظ ذلك على سبيل المثال في كتابات شكسبير في المسرح البريطاني وكيف أثر على نهضة بريطانيا الثقافية التي لا تزال آثارها موجودة حتى الآن، وكذلك نلاحظ تأثير رواية البؤساء لفيكتور هيجو ومدى تأثيرها في الثورة الفرنسية وكذلك بالنسبة لجان جاك روسو، وكذلك تشارلز ديكنز في روايته أوليفر تويست أو قصة مدينتين، وكيف أثر ذلك على التفاوت الطبقي في بريطانيا.

في الجانب المقابل حول التأثير السلبي نلاحظ ذلك في كيفية تأثير كتابات فريدرك نيتشة باندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، كأساس أيديولوجي وفلسفي لثقافة أمة أخذت تحارب تحت سطوة الدكتاتور، لذلك فإن الكاتب والكتابة مؤثران على بناء الأمة.

أما غياب المنتج الثقافي في العراق فيعود إلى ثلاثة أسباب:

أولا: النظام الاستبدادي الشمولي

ثانيا: الحروب، وقد أدت إلى تآكل المؤسسات والبنى التحتية التي تحرك وتبني الثقافة، مثل المدارس، والجامعات، وأنا أتذكر جيدا كيف تعلّمنا أساليب الكتابة في المدرسة من خلال كتابة الإنشاء، وكذلك النحو وقواعد اللغة العربية، وكيف كانت المدرسة كحاضنة ثقافية أساسية، لكن لو سألنا هل المدارس اليوم تمتلك القدرة على البناء الثقافي أو على بناء أناس منتجين ثقافيا؟، كلا بالطبع لأن أبسط القضايا كالنحو والإملاء والكتابة غير موجودة. لذلك كما أتصور فإن المنتوج الثقافي هو الأساس في تقدم الأمة أو تخلّفها.

ثالثا: طغيان العامل الاستهلاكي والمادي

فكلما ازداد الطغيان المادي الاستهلاكي تتسطّح الثقافة إلى حد بعيد، وتصبح شكلية لاسيما مع سيطرة شبكات التواصل الاجتماعي في عالم اليوم.

فإذا أردنا أن نتحرك على تعزيز الإنتاج الثقافي، فهذا هو الذي سيؤدي إلى عملية التغيير والإصلاح في المجتمع، فأي تغيير سياسي وحتى التغيير الاقتصادي لا يمكن إذا لم يكن هناك تغيير ثقافي، فحين يظهر لدينا مجموعة من الكتاب وعلى مستوى راقٍ ويقدمون إنتاجا ثقافيا للمجتمع فإننا سنذهب نحو التغيير الجيد، لأن المجتمع قائم على إنتاج الأفكار وليس الانتاج الرومانسي أو الجمالي، أو الإنتاج الممتع والمرفِّه.

في بعض الأحيان يكون الأدب مرفِّها للإنسان، لكن الأدب في نفس الوقت مؤثر في بناء سلوك الإنسان وفي بناء جودة الحياة، وتحسين مستوى الحياة للفرد والمجتمع، فيحتاج الأمر إلى مجموعة من الكتاب يقدمون كتابات جيدة وراقية، لكنني أتصوّر أن هذا الهدف الآن صعب جدا، ولكن مع وجود المؤسسات الجيدة التي تستطيع أن تقدم أدباء وكتّابا جيدين سوف تتكون لدينا بعض الحركات الإصلاحية التي تؤدي إلى التغيير الاقتصادي والسياسي أيضا.

فطالما لا تتغير العقلية الموجودة عند الإنسان ولا يقرأ، فلن يحدث التغيير، والإعلام الموجود اليوم، سواء كان إعلاما صحفيا أو الإعلام الموجود في شبكات التواصل الاجتماعي هو تسطيحي مضلِّل يؤدي إلى تهشيم وتحطيم الثقافة وكل أنواع السلوك الجيد في المجتمع، لذلك من الضروري أن تكون لدينا دورات ثقافية في بناء وتربية الكتّاب والمؤلفين والادباء والمثقفين على الابتكار والابداع في الإنتاج الثقافي الجيد حتى نستطيع أن نحقق نهضة تغييرية في المجتمع.

2023/01/07

هل خلق الله الكون والكائنات دفعة واحدة أم على مراحل؟

إنّ الله سبحانه لم يخلق الكون والكائنات دفعة واحدة، بل كان نظام خلقه لها على أساس خلق الشيء على سُننٍ ثم تطويره وفق تلك السُنن حتى يبلغ الغاية المنظورة.

[اشترك]


كما في خلق الإنسان من نطفة ملقّحة ليكون جنيناً ثم ينمو حتى يكمل ويولد مكتملاً مجهّزا بالأدوات التي يحتاجها.


وكذا في خلق السموات والأرض، حيث ورد في القرآن الكريم أنّه سبحانه خلقها في ستة أيام، والمراد باليوم التعبير عن المرحلة الزمنية ـ كما ورد في استعمالات العرب ـ، وقد تكون طويلة جداً، كما في قوله تعالى: [وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ]؛ فيكون عدد الأيام إشارة إلى عدد المراحل التي ترسمها الحوادث الكونية العظيمة.


وقد يكون هذا النحو من الخلق ــ وهو خلق شيء يبدو غير ذي شأن وتنميته وفق سنن عبّئت فيه حتى يكون مثالاً رائعاً ـ أدلّ على القدرة على الإبداع، فقد يمارس المرء مباشرة عملاً وقد يصنع آلةً على نظام ينتج ذلك العمل وهذا أبلغ دلالةً على القدرة، ومن ثَمَّ نبّه في الآيات الشريفة على قدرة الخالق على إخراج شيء بديع ومتقن من شيء يسير كما قال تعالى:[ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ]."

المصدر: كتاب منهج التثبت في شأن الدين
2023/01/05

في عصر الثقافة والتكنولوجيا.. هل انتهى زمن الإسلام؟!
هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة؟

[اشترك]

ربما يقال : هب أن الإسلام لتعرضه لجميع شئون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متباينين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى.

والجواب : أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شئونها ، وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة أخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ، ولباس يلبسه ، ودار يقطن فيه ويسكنه ، ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان ، ومجتمع يعيش بين أفراده ، وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك ، وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الإنسانية ، والإنسان الأولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء.

وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.

فقد كان الإنسان الأولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج ، وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه ألوفا من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته ، وألوان يستلذ منها بصره ، وطعوم يستطيبها ذوقه ، وكيفيات يتنعم بها لمسه ، وأوضاع وأحوال أخرى يصعب إحصاؤها وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الإنسان لسد جوعة وإطفاء نائرة شهوته.

وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقا ، كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف وأما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث.

وأما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا وتتغير سريعا بالطبع كالأحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته وفيما أمره إليه ، فلولي الأمر أن يعزم على أمور من شئون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) : « آل عمران : ١٥٩ » ، كل ذلك في الأمور العامة.

وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والأسباب التي لا تزال يحدث منها شيء ويزول منها شيء غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا سبيل للنسخ إليها ولبيانه التفصيلي محل آخر.

*مقتطف من تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ج 4
2023/01/02

حكم مؤبّد.. هل يُخلّد «القاتل» و «الزاني» في النار؟!
رُوي عن الإمام موسى بن جعفر (ع) أنَّه: "لا يخلِّدُ اللهُ في النار إلا أهلَ الكفر والجُحود وأهلَ الضلال والشرك .." ألا تُنافي هذه الرواية قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾(1) فلو أنَّ رجلًا من أهل الإيمان قتل مؤمنًا متعمِّدًا فإنَّ جزاءه -بمقتضى الآية- الخلود في النار، ولكنَّ الرواية ذكرت أنَّه لا يخلُدُ في النار إلا أهل الكفر، فكيف نوفِّق بين الآية والرواية؟

العذاب منقطع عن أصحاب الكبائر:

الرواية المذكورة أوردَها الشيخُ الصدوق في كتاب التوحيد بسندٍ صحيح عن محمد بن أبي عمير، قال: سمعتُ موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: "لا يُخلِّدُ اللهُ في النار إلا أهلَ الكفرِ والجُحود وأهلَّ الضلال والشرك .."(2).

والروايات الدالَّة على أنَّ العذاب منقطعٌ عن المؤمنين من أهل الكبائر وأنَّ المؤمن لا يخلُد في النار للأبد، الروايات في ذلك مستفيضة بل لعلَّها متواترةٌ إجمالًا، ولذلك أجمعت الإماميَّةُ على أنَّ أهل الكبائر من أهل الإيمان لا يُعذَّبون في النار إلى الأبد، نعم قد يمكثون فيها طويلًا كلٌّ بحسب ما اجترحه من الكبائر ثم ينقطعُ عنهم العذاب ويخرجون من النار.

وأمَّا الآيات التي ظاهرها بدْوًا خلود بعض أهل الكبائر من المؤمنين في النار فهي ثلاثُ آيات:

الأولى: هي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾(3).

والثانية: هي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾(4).

والثالثة: هي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(5).

فالذين أفادت الآياتُ الثلاث أنَّهم سيخلَّدون في النار هم ثلاثة أصناف من العصاة وهم مَن يقتل مؤمنًا متعمِّدًا، والزناة، والذين يأكلون الربا، فلو سلَّمنا بظهور الآيات الثلاث في خلود هؤلاء الأصناف الثلاثة في النار أبدَ الآبدين فإنَّ مقتضى الجمع العرفي -بين الروايات المستفيضة القاضية بانقطاع العذاب عن أهل الكبائر من المؤمنين وبين الآيات الثلاث- هو البناء على أنَّ أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلُد أحدٌ منهم في النار للأبد عدا هؤلاء الأصناف الثلاثة المذكورة في الآيات الثلاث، وعليه فلا تنافي بين ما دلَّ على انقطاع العذاب عن أهل الكبائر من أهل الإيمان وبين الآيات الثلاث، لأنَّ غاية ما تقتضيه الآياتُ الثلاث هو استثناءُ الأصناف الثلاثة من عموم ما دلَّ على انقطاع العذاب عن أهل الكبائر من أهلِ الإيمان.

كلمة الخلود تُستعمل في المكث الطويل:

هذا بناءً على ظهور الآيات الثلاث في خلود الأصناف الثلاثة في النار للأبد لكنَّه يُمكن أنْ يقال إنَّ الآيات الثلاث ليستْ ظاهرةً في الخلود الأبدي للأصناف الثلاثة في النار، فإنَّ كلمة الخلود بمختلف اشتقاقاتها كما تُستعمل في البقاء المؤبَّد الذي لا انقطاع له ولا زوال كذلك تُستعمل في المكث الطويل المتمادي في الطول بل قد يُقال إنَّ الأصل اللُّغوي لكلمة الخلود هو أنَّها وُضعت لإفادة المكث الطويل كما أفاد ذلك الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن قال: "وأصلُ المُخَلَّد: الذي يبقى مدّةً طويلة، ومنه قيل: رجلٌ مُخَلَّد لمَن أبطأ عنه الشيب، ودابَّةٌ مُخَلَّدَة: هي التي تبقى ثناياها حتى تخرجَ رباعيتها، ثم استُعير للمبقيّ دائمًا"(6).

ولذلك تُسمى الأثافي وهي الأحجار التي تُوضع عليها القدور للطهي تُسمَّى الخوالد وذلك لطول بقائها، ولأنَّها تبقى بعد فناء الديار ودروس الأطلال، وكذلك وتسمَّى الجبال والصخور والحجارة خوالد، وهكذا فإنَّ: "كلَّ ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العربُ بالخلود، كقولهم للأثافي: خوالد، وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها"(7).

ولعلَّه لذلك يُسمَّي العرب بعض أولادهم "خالدًا" تفاؤلًا بطول بقائه رغم عدم بقائه للأبد، ومن ذلك قولهم للسلطان: "خلَّد اللهُ ملكك" فإنَّ مقصودهم من ذلك هو الدعاءُ له بطول البقاء والمكث في المُلك وليس الدوام، ولعلَّ ذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾(8) فإنَّ أحدًا لا يتوهَّم الخلود للأبد في الدينا فهو إذن يحسبُ أنَّ ماله يُؤمِّن له المكث الطويل، وكذلك هو معنى قوله تعالى على لسان هود (ع) يخاطب قومه: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ / وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾(9) فهم إنَّما يتَّخذون المصانع طمعًا في البقاء الطويل وليس الدائم المؤبَّد.

وعليه فأقصى ما تدلُّ عليه الآياتُ الثلاث هو أنَّ الأصناف الثلاثة -الذين توعَّدهم الله تعالى بالخلود في النار- سوف يمكثون طويلًا في النار جزاءَ ما اجترحوا ولكنَّها لا تدلُّ على بقائهم في النار إلى الأبد، وبذلك لا تكونُ هذه الآيات منافيةً لما دلَّ على انقطاع العذاب عن أهل الكبائر من أهل الإيمان.

ومع عدم القبول بأنَّ لفظ الخلود موضوعٌ في الأصل اللغوي لإفادة معنى المكث الطويل فلا أقلَّ من عدم إحراز أنَّه موضوع لإفادة البقاء المؤبَّد، فهو إذن مستعملٌ في المعنيين، فإنْ قامت القرينة على إرادة أحدهما وإلا كان المراد مُجمَلًا، ولهذا لا تكون الآياتُ دالَّةً على الخلود الأبدي للأصناف الثلاثة من أهل الإيمان.

الخلود الأبديُّ للكافرين في النار مستفادٌ من غير كلمة الخلود:

قد يُقال إنَّه بناءً على ذلك لا تكونُ الآياتُ التي دلَّت على خلود الكافرين في النار وعلى خلود أهل الجنَّة في النعيم صالحةً لإثبات البقاء المؤبَّد، وعليه فإنَّ الكافرين سوف ينقطعُ عنهم العذاب، وكذلك فإنَّ أهل الجنَّة سوف لن يكونوا منعَّمين فيها إلى الأبد، لأنَّه إنَّما علمنا ببقائهم للأبد من طريق الآيات التي أخبرت عن خلود الكافرين في النار وخلود أهل الجنَّة في النعيم.

والجواب إنَّ استفادة البقاء المؤبَّد للكافرين في النار ولأهل الجنَّة في النعيم لم يتم من طريق الآيات التي اقتصرت على الإخبار عن خلود الكافرين في النار وخلود أهل الجنَّة في النعيم بل استُفيد ذلك من الآيات التي وصفت الخلود بالمؤبَّد كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(10) وكقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾(11) فبقرينة التأبيد علمنا أنَّ المراد من الخلود هو الدائم غير المنقطع، فالدوام لم تتم استفادته من حاقِّ اللفظ لكلمة ﴿خَالِدِينَ﴾ وإنَّما استُفيد من وصف الخلود بالمؤبَّد، وكذلك استُفيد من مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾(12) ومن مثل قوله تعالى: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾(13) أي غير مقطوع، ومن مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾(14) وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(15) فالآيتان نفت عنهم الخروج من النار وأفادت الآيةُ الثانية أنَّ لهم عذابًا مقيمًا أي دائمًا، هذا مضافًا إلى الروايات المستفيضة بل المتواترة التي أفادت أنَّ أهل الجنَّة يظلُّون كذلك في النعيم إلى الأبد، وأنَّ الكافرين يظلُّون في العذاب إلى أبد الآبدين، فالخلود الأبدي لأصحاب الجنَّة في النعيم وللكفار في النار يمكن إثباته بالآيات والروايات حتى بناءً على تفسير الخلود بالمكث الطويل.

قرينةٌ أخرى على نفي الخلود الأبديِّ لمرتكبي الكبائر:

ثم إنَّه لو سلَّمنا أنَّ كلمة الخلود ظاهرةٌ عرفًا في الدوام والبقاء المؤبَّد فإنَّ هذا الظهور إنَّما يستقرُّ في فرض عدم قيام القرينة على إرادة خلافه وأمَّا عند قيام القرينة على خلافه فالظهور يكون تابعًا لما تقتضيه القرينة، وهنا قرينةٌ -أفادها عددٌ من العلماء- تقتضي عدم الخلود الأبدي لأهل الكبائر من أهل الإيمان في النار، وهي ما دلَّت عليه الآياتُ والروايات من استحقاق المؤمنين للثواب على الطاعات وأنَّ المعاصي لا تُحبِط الطاعات -كما هو مذهب الإماميَّة- ولا تحول دون استحقاق فاعلها للمثوبة، فمِن الآيات الدالَّة على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾(16)

وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾(17) وقوله تعالى: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾(18) وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾(19) وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾(20) وقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(21) والآيات في ذلك كثيرة، وهي واضحةٌ في أنَّ الله تعالى قد وعدَ المؤمنين المثوبة في الآخرة على عمل الصالحات سواءً كانوا ممَّن عملوا بالمعاصي كما هو الغالب على العباد أو لا، فكلُّ مَن عمِل بالطاعات فهو موعود من الله جلَّ وعلا بالمثوبةِ والجزاء الأوفى لا يُنقصه مِن عمله شيئًا ولا يُضيِّع أجره بل له الحسنى على إحسانه وزيادة، فذلك هو وعدُ الله تعالى لعباده المؤمنين، والله جلَّ وعلا لا يُخلفُ وعده ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾(22).

وعليه فإمَّا أنْ يُثيب اللهُ المؤمنين على طاعاتهم فيُدخلهم الجنَّة فإذا استوفوا أجورهم أخرجهم منها وأدخلهم النار جزاءَ ما اجترحوه من كبائر الذنوب وهذا منافٍ لما ثبتَ بالضرورة من أنَّ مَن يدخل الجنَّة فإنَّه لا يخرجُ منها، وإمَّا أنْ يُدخِلهم النار أولًا ليستوفوا جزاءَ ذنوبهم ثم يُخرجهم منها ويُدخلهم الجنَّة ليستوفوا جزاء طاعاتِهم، وهذا هو المتعيَّن، إذ لو كانوا مخلَّدين في النار لكان مقتضى ذلك هو ضياع ما استحقُّوه -بوعد الله- من مثوبةٍ على طاعاتهم، وقد ثبت بالآيات أنَّ الله تعالى لا يُضيع عمل عامل فيتعيَّن البناء على عدم خلودهم الأبدي في النار، وبذلك يثبت أنَّ الخلود الذي عنته الآياتُ الثلاث ليس هو الخلود الأبدي وإنَّما هو المكث الطويل في النار.

وخلاصة القول:

إنَّ الآيات الثلاث لا تدلُّ على الخلود الأبدي للأصناف الثلاثة من المؤمنين وبذلك فهي لا تُنافي ما دلَّ على عدم الخلود الأبدي لمرتكبي الكبائر من المؤمنين، نعم البناء على عدم الخلود الأبدي لأصحاب الكبائر من المؤمنين في النار لا يشملُ -ظاهرًا- مَن كان إيمانه بالانتماء دون الحقيقة، فمثلُه يكون خارجًا عن حيِّز المؤمنين ويحشره اللهُ تعالى يوم القيامة في زمرة أهل الكفر والضلال المستوجبين للخلود الأبديِّ في النار. نستعيذُ بالله تعالى من النار.

الهوامش: 1- سورة النساء / 93. 2- التوحيد -الشيخ الصدوق- ص407. 3- سورة النساء / 93. 4- سورة الفرقان / 68. 5- سورة البقرة / 275. 6- مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص292. 7- مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص291. 8- سورة الهمزة / 3. 9- سورة الشعراء / 128-129. 10- سورة الأحزاب / 64-65. 11- سورة النساء / 57. 12- سورة الكهف / 107-108. 13- سورة هود / 108. 14- سورة البقرة / 167. 15- سورة المائدة / 37. 16- سورة الزلزلة / 7. 17- سورة الكهف / 30. 18- سورة آل عمران / 195. 19- سورة الحجرات / 14. 20- سورة يونس / 26. 21- سورة النحل / 97. 22- سورة التوبة / 111.
2022/12/28

ما معنى التجديد في الدين؟
المقصود من التجديد هو جعل الخطاب الإسلامي مواكباً لمقتضيات الظرف الزماني، فصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان تستدعي مواكبة الخطاب لما يحصل في الحياة من متغيرات.

[اشترك]

وعليه لا يعني التجديد تغيير ثوابت الإسلام وإنما يعني إخضاع متغيرات الحياة لتلك الثوابت، فالتكامل بين العقل والوحي هو الذي يجعل الإسلام مهيمناً على متغيرات الحياة، فالعقل هو المسؤول عن فهم قيم الدين وحِكمه، وبالتالي ينضبط العقل بهذه الحِكم ويسترشد بهذه القيم في ملاحقته للواقع، فبدون الوحي المذكِّر بهذه القيم تغيب الضوابط التي تحدد مسار العقل، وبدون العقل تصبح هذه القيم حالة مثالية ليس لها علاقة بالواقع، فالعقل هو الذي يكتشف الواقع المتغير، وبالتالي يمكنه إرجاع تلك المتغيرات إلى القيم التي يذكِّر بها الوحي، وهذه التكاملية بين الوحي والعقل هي التي تمنح الدين حالة الاستمرار، بحيث تجعله في حالة من التطور الدائم المواكب لكل جديد، وعليه فإن التجديد ليس ضرورة تفرضها الظروف فحسب وإنما حقيقة تفرضها طبيعة الرسالة الخاتمة أيضاً.

والتطوير هنا ليس أكثر من الدعوة للعمل بالعقل كما طلب القرآن وأكّد عليه، ولا يمكن أن نفهم ذلك التأكيد إلا من أجل خلق حركة تجديدية، بحيث تشمل كل مناهج وطرق العمل بالشريعة وفقاً للضرورات التي يكتشفها العقل، ومن هنا فإن دعوة القرآن إلى العقل هي دعوة صريحة إلى التطوير، وبتعبير آخر: إنها دعوة إلى ضرورة فهم الشريعة وتطبيقها في إطار العقل الذي تدعو الشريعة ذاتها إليه، بل القرآن الكريم كله إثارة للعقل وتطهير للقلب ليكون الإنسان أكثر اقتداراً على إدارة الحياة.

وعليه فإن العقل يمثل محور أيِّ عمل تجديدي ضمن الرؤية القرآنية، ولذلك أكّد عليه الشرع في أمره المباشر بضرورة التعقل، ولم يشكك أبداً في أحكامه، والتطور الذي هو سنة الله في الحياة البشرية، لابد أن يكون ضمن هدى العقل، فإذا تطورت الظروف وأمر العقل بتطبيق أمر مختلف عما كان سابقاً فيجب اتّباعه.

ولم يأمر القرآن بالتقدم والتطور فحسب وإنما قدم معالجات لكل العقبات التي تواجه تلك المسيرة، مثل (تقديس الآباء وتراثهم، وتقليد المجتمع الفاسد والخشية منه، ومن السلطات الطاغية، وغير ذلك من الاصنام والعادات الفاسدة)، وبالتالي عمل الإسلام على تحطيم كل صنم يقدَّس من دون الله أيّاً كان اسمه وصورته.

كما لم يكتفِ القرآن بالتأكيد على ضرورة مراعاة الواقع عندما أمره بالتعقل والتدبر، وإنما ذكَّر ببعض النماذج، التي يتدخل فيها الظرف في تحديد الحكم الشرعي، ونضرب لذلك بعض الأمثلة:

1-      الأخذ بالأحسن، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ﴾، وقال: ﴿وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً﴾.

ومعروف أن الأحسن يخضع للمتغيرات، فما هو الأحسن في حالة، قد لا يكون الأحسن في حالة أخرى، ولعله لذلك أمر باتّباع الأحسن وترك الحسن الذي قد يتنافى والظروف المستجدة، والذي يظهر من السياق في الآية الثانية، أن المقياس لمعرفة الأحسن أمران:

الأول: الأحسن بالنظر إلى سائر الأدلة، فقد يكون للقول الواحد أكثر من معنى محتمل، فعلينا أن ننظر أي معنىً يتوافق أكثر فأكثر مع روح الشريعة، وعرف المتشرعة، وبتعبير أدق: مع سائر النصوص الدينية، لأن الله سبحانه يقول: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ﴾، فعرفنا أن هداية الله لهم، جعلتهم يختارون الأحسن، فإذاً هم كانوا يستفيدون من هدى الله في تقييم القول ومعرفة أحسنه.

الثاني: نور العقل، والذي يهدي صاحبه إلى الأحسن بالنسبة إلى نفسه في ضعفها وقوتها، إقبالها وإدبارها، أو بالنسبة إلى ظروفه ومجتمعه، وهكذا، لأن الله سبحانه قال في ختام الآية: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ﴾.

2-      اتّباع المعروف والبعد عن المنكر، قال سبحانه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ﴾، والعرف والمعروف، قد لا يكون في كل الظروف واحداً، بل يتغير ضمن مجموعة عوامل يهتدي إليها العقل، وكذلك النكر والمنكر، وقد أفتى فقهاء الإسلام في موارد شتى، وانطلاقاً من هذه الآيات، بضرورة رعاية العرف، وما العرف إلا ما اهتدى إليه الناس بعقولهم، وفي إطار ظروفهم المتغيرة

3-      لقد بعث الله رسوله إلى الناس ليتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، فقال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾

والسؤال: ماهي الحكمة؟، أليست هي معرفة أصول العلم، ومبادئ الفقه التي يعرف الإنسان بها حكم كل حادثة وواقعة؟، وهذا يعني أن الحياة تتطور والشريعة خالدة، لأنها تعطي المؤمنين الحكمة التي تؤهلهم لمعرفة أحكام الشريعة، أنى تطورت الحياة.

وفي المحصلة إن إثارة نصوص الإسلام للعقل، ومخاطبته للعقلاء، ورفع حجب الشهوات، وتنمية الإرادة، كل ذلك يقصد منه العمل بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان من حقائق الحياة وواقعياتها، فإن كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، وإذا كانت متغيرة عملنا وفقها أيضاً.

2022/12/24

هل يمكن للإنسان أن يكون متديناً دون الالتزام بالأحكام الشرعية؟
التدين كلمة مشتقة من الدين وهي تعني الطاعة والتسليم والخضوع والتذلل والعبودية، وفي الاصطلاح الإسلامي تعني الإيمان والعمل بكل ما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من عقائد وتشريعات.

[اشترك]

ولا يتحقق التدين الواقعي إلا باستسلام القلب والجوارح وخضوعها لله عز وجل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فقد نصت الآية على اقتران الإيمان بعمل الصالحات فلا يكون الإنسان مؤمناً وهو تارك للصلاة ومانعاً للزكاة، ولذلك توعد الله تعالى تارك الصلاة والزكاة بنار جهنم حيث اخبر عن مصيرهم يوم القيامة بقوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)، وقال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، ولم يتوعد الله تارك الصلاة فقط بل توعد المصلي المستهين بصلاته، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)، وعليه لا يستقيم التدين ولا يكون الإنسان مؤمناً ولا يتصف بالإسلام دون الالتزام بالفرائض والعبادات، ففي الحديث عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّـداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض الله؟. قال: وسمعته يقول: كان علي (عليه السلام) يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام. قال: وقلت لأبي جعفر(عليه السلام): إنّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّـداً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مؤمن. قال: فلمَ يضربون الحدود، ولمَ تقطع أيديهم؟! وما خلق الله عزّ وجلّ خلقا أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين، وأنّ جوار الله للمؤمنين وأنّ الجنّة للمؤمنين، وأنّ الحور العين للمؤمنين. ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟»

وقد أجمعت الأمة على كفر من أنكر ضرورات الدين؛ لأن ذلك يستلزم إنكار الرسالة وتكذيب القرآن، فعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر"، وعنه (صلى الله عليه وآله): "ما بين المسلم وبين أن يكفر إلا أن يترك الصلاة الفريضة متعمداً أو يتهاون بها فلا يصليها".

هناك خلاف بين الفقهاء حول منكر الضرورة هل إنكاره يعد سبباً بنفسه للكفر أم أنه سبب لاستلزامه إنكار الرسالة وتكذيب القرآن؟ يقول السيد الخوئي في كتاب الطهارة: "وهل هناك أمر آخر يعتبر الاعتراف به في تحقق الإسلام على وجه الموضوعية ويكون إنكاره سببا للكفر بنفسه؟ فيه خلاف بين الأعلام فنسب في مفتاح الكرامة إلى ظاهر الأصحاب أن إنكار الضروري سبب مستقل للكفر بنفسه وذهب جمع من المحققين إلى أن إنكار الضروري إنما يوجب الكفر والارتداد فيما إذا استلزم تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وإنكار رسالته كما إذا علم بثبوت حكم ضروري في الشريعة المقدسة وأن النبي - ص - أتى به جزما ومع الوصف أنكره ونفاه، لأنه في الحقيقة تكذيب للنبي - ص - وإنكار لرسالته وهذا بخلاف ما إذا لم يستلزم إنكاره شيئا من ذلك كما إذا أنكر ضروريا معتقدا عدم ثبوته في الشريعة المقدسة وأنه مما لم يأت به النبي - ص - إلا أنه كان ثابتا فيها واقعا بل كان من جملة الواضحات فإن انكاره لا يرجع حينئذ إلى إنكار رسالة النبي فإذا سئل أحد - في أوائل إسلامه - عن الرباء فأنكر حرمته بزعم أنه كسائر المعاملات الشرعية فلا يكون ذلك موجبا لكفره وارتداده وإن كانت حرمة الرباء من المسلمات في الشريعة المقدسة لعدم رجوع إنكارها إلى تكذيب النبي - ص - أو إنكار رسالته ومما ذكرناه يظهر أن الحكم بكفر منكر الضروري عند استلزامه لتكذيب النبي - ص - لا تختص بالأحكام الضرورية لأن إنكار أي حكم في الشريعة المقدسة إذا كان طريقا إلى إنكار النبوة أو غيرها من الأمور المعتبرة في تحقق الإسلام على وجه الموضوعية فلا محالة يقتضي الحكم بكفر منكره وارتداده، هذا وعن شيخنا الأنصاري (قدس) التفصيل في الحكم بارتداد منكر الضروري بين المقصر وغيره بالحكم بالارتداد في الأول لإطلاق الفتاوى والنصوص دون غيره إذ لا دليل على سببية إنكاره للارتداد وعدم مبغوضية العمل وحرمته في حقه، وما لم يكن بمبغوض في الشريعة المقدسة يبعد أن يكون موجبا لارتداد فاعله وكفره".

وبعيداً عن هذا التفصيل الفقهي فإن الأمر المسلم به والمجمع عليه عند جميع المسلمين لا يعد الإنسان مسلماً متديناً ما لم يؤدي ما عليه من فروض وواجبات، ولم يخالف الصوفية في ذلك، فحتى لو اختلفنا مع التصوف في مناهجه إلا أنه لا يجوز اتهامهم بما ليس فيهم، فعلماء التصوف وأئمتهم يصرحون بأن العبد لا يكون عارفاً إلا من خلال الالتزام بالشريعة، يقول سهل بن عبد الله التستري المُتوفَّى سنة ٢٧٣ أو سنة ٢٨٣: «ما من طريق إلى الله أفضل من العلم (يعني العلم بالشرع)، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلمات أربعين صباحًا» ويقول أبو سعيد الخراز المُتوفَّى سنة ٢٧٧: «كل باطن يخالف ظاهرًا فهو باطل» ويقول أبو بكر الزقاق الكبير، وكان من أقران الجنيد: «كنت مارًّا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر» ويقول الغزالي في الاحياء:  «من قال إنَّ الحقيقة تُخالف الشريعة والباطن يخالف الظاهر، فهو إلى الكفر أقرب، وكل حقيقة غير مقيَّدة بالشريعة فغير محصولة. فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق. فالشريعة أن تَعبده، والحقيقة أن تَشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قدر وأخفى وأظهر».

 وقد أنكر الصوفية على من ادعى سقوط الشريعة وتحلل عن العبادات المفروضة، ففي كتاب (تلبيس إبليس) يقول جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي المُتوفَّى سنة ٥٩٧: «وقد أخبرنا ابن ناصر بإسناد عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: قيل لأبي نصر النصر اباذي إن بعض الناس يُجالس النسوان ويقول: «أنا معصوم في رؤيتهن» فقال: «ما دامت الأشباح قائمة فإن الأمر والنهي باقيان، والتحليل والتحريم مُخاطَب بهما» وقال أبو علي الروذبادي وسُئل عمن يقول: «وصلت إلى درجة لا يؤثر فيَّ اختلاف الأحوال.» فقال: «وقد وصل ولكن إلى سقر» وبإسناد عن الجريري يقول: سمعت أبا القاسم الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة فقال الرجل: «أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله عز وجل» فقال الجنيد: «إنَّ هذا قولُ قومٍ تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يَسرق ويزني أحسن حالًا من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يُحال بي دونها؛ لأنه أوكد في معرفتي به وأقوى في حالي». وبإسناد عن أبي محمد المرتعش يقول: سمعت أبا الحسين النوري يقول: «من رأيته يدَّعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن علمٍ شرعي، فلا تقربَنَّه، ومن رأيته يدَّعي حالة باطنة لا يدلُّ عليها ويشهد لها حفظ ظاهر، فاتَّهِمْه في دينه.».

2022/12/14

كيف يستطيع ملك الموت قبض آلاف الأرواح في وقت واحد؟
جاء في الآيات والروايات المتعددة أن روح الإنسان تُقبض عند موته على يد ملك اسمه عزرائيل ونتيجة الموت يطرح هنا هذا التساؤل:

[اشترك] 

عندما ينتهي عمر آلاف البشر في نفس اللحظة وفي أماكن متباعدة من العالم من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. 

أولاً: كيف يستطيع عزرائيل التواجد في نقاط العالم الأربع في نفس الوقت؟ ثانياً: حتى لو كان هؤلاء في منطقة واحدة كما حصل في القصف النووي الأميركي لليابان فكيف يستطيع عزرائيل أن يقبض روح كل واحد منهم على حدة وفي نفس الوقت؟. 

إذا كان القابض لأرواح البشر هو ملك واحد اسمه عزرائيل، فكيف يمكن له وهو واحد أنْ يقبض أرواح الآلاف اذا ماتوا دفعة واحدة، خصوصاً إذا كانوا في أماكن متباعدة؟

إنّ القابض للأرواح ليس عزرائيل لوحده، بل هنالك مجموعة من الملائكة تعينه على ذلك، مع أنّ الإشكال المذكور يأتي في عالم الماديات وما تحكمها من قوانين الزمكان، هذا بالإضافة إلى إمكان أنْ يكون تأثير ملك الموت في قبض الأرواح كتأثير الشمس الواحدة على الموجودات المتعددة. 

أولاً: إن القابض للأرواح هو الملك المقرب عزرائيل (عليه السلام) وهذا ثابت لا لبس فيه، قال تعالى: (  قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ )(1) غير أنّ عزرائيل لا يمارس ذلك بالإستقلال عن الله عزَّ وجلّ بل إنّما هو بأمر الله تبارك وتعالى، ولأجل ذلك نُسب الموت إلى الله تعالى في القرآن، يقول سبحانه: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )(2).

ثانياً: إنّ ملك الموت الذي نسب إليه قبض الأرواح لا يُمارس القبض لوحده، بل هنالك من يعينه على هذه المهمة، وإلى ذلك أشار الله عزَّ وجلّ في كتابه الكريم بقوله تعالى: (َهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ )(3).

وروى الصدوق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حيث قال: (وسئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزَّ وجلّ: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) وعن قول الله عزَّ وجلّ: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) وعن قول الله عزَّ وجلّ: ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ) و ( الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ) وعن قول الله عزَّ وجلّ: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) وعن قوله عزَّ وجلّ: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ) وقد يموت في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلا الله عزَّ وجلّ فكيف هذا؟ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى جعل لملك الموت أعواناً من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس ويبعثهم في حوائجه فتتوفاهم الملائكة ويتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو ويتوفاها )(4).

ثالثاً: لو سلمنا بأنّ الذي يقبض الأرواح كلها وفي آنٍ واحد هو ملك واحد وهو عزرائيل ( عليه السلام )، غير أنّ ما أورد من الإشكال لا يرد عليه إذا عرفنا أنّه قد اودعه الله قوة خارقة، وحركة فوق الزمان والمكان، فكلنا يعلم بأن قانون الزمان والمكان إنّما يحكم عالم المادة، وكلما ابتعدنا عن عالم المادة وتحررنا منها، كلما تخلصنا من الزمان، وهذا ما أقرّته أحدث النظريات الحديثة كالنظرية النسبية لإينشتاين.

رابعاً: ألا يمكن أنْ يكون تأثير ملك الموت في قبض الأرواح كتأثير الشمس التي ترسل بضوئها ودفئها إلى كل ما طلعت عليه مع أنها واحدة؟

وصفوة القول:

إنّ القابض للأرواح ليس ملك الموت لوحده بل هنالك ملائكة كثر يساعدونه على ذلك.

إنّ الإشكال المذكور جاء نتيجة لإنغلاق أذهاننا على عالم المادة المحكوم بالزمكان، وأما إذا تحررنا قليلاً عن هذا العالم فإنّ الإشكال سوف يتبدد.

إنّ تأثير ملك الموت في قبض الأرواح من الممكن أنْ يكون كتأثير الشمس في الموجودات مع وحدة الشمس وكثرة الموجودات.

الهوامش: 1- سورة السجدة / ايه 11 2- سورة الزمر / ايه 42 3- سورة الانعام / ايه 61 4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق / ج 1 / باب غسل الميت / ح 368
2022/12/13

سماحة الشيخ والسيد.. من أين حصل رجل الدين على هذا اللقب؟!
من التسميات التي تطلق على عالم الدين ويعرف بها على نطاق واسع، تسمية السماحة فيقال له صاحب السماحة، وتكاد هذه التسمية تختص بهذه الفئة من الناس، وتتفرد بها عن باقي الفئات الأخرى.

[اشترك] 

هكذا جرى العرف في الوسطين الديني والاجتماعي، وبين كافة المذاهب الإسلامية تقريبا، فحينما يقال صاحب السماحة يستبق إلى الذهن ابتداء صورة عالم الدين، في دلالة على تطابق الوصف والصورة من الناحية العرفية.
هذه التسميات لا تحصل غالبا بمحض الصدفة، أو بحسب مجريات العادة، وهي لا تأتي من فراغ أو من دون مناسبة، ولا تظهر فجأة من دون مقدمات، وليست هي تسميات بلا معنى أو تفتقر إلى قوة المعنى، كما أنها ليست مجرد أوصاف وألقاب شكلية، جاءت بقصد التعظيم، وتحصيل درجة من درجات التفاضل، أو من أجل الوجاهة الدينية والاجتماعية.
وإذا كنا لا نعلم على وجه التحديد متى بدأ استعمال هذه التسمية زمنا وتاريخا، مناسبة وحالة، إلا إننا نعلم على وجه اليقين من أين جاءت هذه التسمية، فهي قد جاءت من وصف الشريعة التي وصفت في الحديث النبوي الشريف بالحنيفية السمحة.
واستنادا إلى هذه الأحاديث النبوية الشريفة مع آيات قرآنية تتصل بها، اعتبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية)، أن السماحة هي أولى أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها، واستنادا إلى هذا الرأي فإن السماحة كذلك هي أولى أوصاف عالم الدين ومن أكبر مقاصده.
هذا التلازم بين كون السماحة هي أولى أوصاف الشريعة، وكونها أولى أوصاف عالم الشريعة أو عالم الدين، هو تلازم جديد يمكن التسليم بصحته، ولوجاهته يمكن التمسك به، والدفاع عنه، وإعطاؤه فرصة الشياع في مجالنا التداولي، فهو لا يخلو من طرافة في المعنى.
وكحال كثير من التسميات التي يجري تداولها في مجالاتنا الفكرية والدينية والاجتماعية وغيرها، لكن من دون أن نعطي أنفسنا فرصة التأمل فيها، ووضعها في دائرة البحث الاستكشافي، للتبصر في حكمتها، وبيان حقلها الدلالي.
وهذا ما يصدق على تسمية صاحب السماحة التي لم نتوقف عندها فحصا وتبصرا واستكشافا، مع كثرة استعمالها وشياعها الواسع، الوضع الذي عرضها على ما يبدو للرتابة، وأفقدها عنصر الدهشة، الدهشة التي فقدناها غالبا في حياتنا الفكرية، وفقدنا معها قوة الخيال، وعظمة التأمل، وبهجة الفكر، ومحبة الاستكشاف، حصل ذلك نتيجة ما أصابنا من جمود فكري، وتراجع حضاري.
والسؤال لماذا حصل هذا الاقتران بين السماحة وعالم الدين إلى درجة التفرد بهذه الصفة؟
هل حصل ذلك لأن عالم الدين ظهر بهذه الصفة، وطغت عليه حتى عرف بها، وحين أطلقت عليه جاءت من باب الإعلام والإخبار؟ أم هي دعوة ملحة ومستمرة لعالم الدين لأن يتصف بهذه الصفة، وحين أطلقت عليه جاءت من باب التذكير والتنبيه؟ أم لأن السماحة حسب قول الشيخ ابن عاشور هي أولى أوصاف الشريعة فلا بد أن تكون بالتبع أولى أوصاف عالم الشريعة؟
هذه التقديرات الثلاثة هي تقديرات واردة ومتصورة، وعند النظر الاستكشافي يمكن الإشارة إلى الدلالات الآتية:
أولا: إن من يقترب من الشريعة تعلما وتخلقا يكون قريبا من صفة السماحة، متنبها لهذه الصفة أو غير متنبه لها، فالشريعة بطبيعتها تخلق في من يقترب منها صفة السماحة بشعور منه أو من دون شعور، تخلقا يكون ظاهرا ومتجليا، لكن ليس بصورة فورية وفجائية، وإنما بصورة تدريجية، حتى تصل إلى درجة يعرف بها فيقال له صاحب السماحة، وفي هذه الحالة يكون الوصف حاكيا عن المصداق ومصدقا له، فالصفة هي صفة مصداقية.
ثانيا: إن عالم الدين يعرف بصفة السماحة قبل وأكثر من أية صفة أخرى، وبهذا المعنى فإن عالم الدين الحقيقي هو صاحب سماحة يعرف بها علما وتخلقا، يعرف بها لا في مكان دون آخر، ولا في زمان دون آخر، ولا في حال دون آخر، ولا مع ناس دون ناس، وإنما يعرف بها بصورة دائمة ومستمرة في كل مكان وزمان وحال، ومع الناس كافة بلا فرق بينهم ولا تمايز لا من جهة العرق والقوم، ولا من جهة اللغة واللسان، ولا من جهة المذهب والطائفة، ولا من جهة الثروة والجاه.
وعلى هذا الأساس يمكن القول إن كل عالم دين يفترض فيه أن يكون صاحب سماحة، ولكن هل كل عالم دين هو صاحب سماحة فعلا!
بالقطع والتأكيد ليس كل عالم دين هو صاحب سماحة، وهذا ما يعرفه علماء الدين عن أنفسهم قبل غيرهم قديما وحديثا، فالسماحة هي معيار يعرف بها عالم الدين الحقيقي دون سواه، وفي هذه الحالة يكون الوصف حاكيا عن المعيار، فالصفة هي صفة معيارية.
ثالثا: إن إطلاق صفة السماحة على عالم الدين تجعل منه أن يكون متنبها لهذه الصفة، ومتبصرا بها دائما وبلا توقف، لكي يصبح مشعا بهذه الصفة، ومصدر اشعاع لها، يفيض بها دوما وبلا توقف شخصا وفكرا، قولا وعملا، صمتا وكلاما، وبشكل يشعر بها كل من يقترب منه، ويتلمسها كل من يتصل به، ويتأثر بها كل من يتواصل معه القريب والبعيد، المتفق والمختلف.
الحال الذي يجعل عالم الدين أكثر من غيره تنبها لهذه الصفة، وأكثر من غيره تمسكا بها، وأكثر من غيره دفاعا عنها، وأكثر من غيره كذلك فيضا واشعاعا لها بين الناس كافة، وبهذا الحال يكون عالم الدين إنما يدافع عن ذاته وصورته ورمزيته، ولكي يظهر بمظهر جمالي بهيج يبهج الناس كافة.
وفي هذه الحالة يكون الوصف حاكيا عن التخلق، ومصدقا له، فالصفة هي صفة تخلقية.
لكن هذه الصورة انقلبت عند البعض قديما وحديثا، فوجدنا من ينتسب إلى شريحة علماء الدين وينشر الكراهية بين الناس، ويبث الأحقاد والضغائن والبغضاء، وحتى التعصب والتطرف والتحجر والتنازع، ووصل الحال بالبعض إلى دعوة الناس للعنف والتكفير والإرهاب

2022/12/13

لا حياة بلا إيمان: هل فشل العلم في ضبط القوة في العالم؟
من الواضح أن مشكلة العالم تكمن في صراعه الوحشي حول المادة، وقد ساهم التطور العلمي والتقدم التكنلوجي على تأجيج هذا الصراع وجعله أكثر وحشية ودمار، فالمؤكد أن الحضارة المعاصرة لا تعاني من نقص في التقدم العلمي والتكنلوجي ولكنها تعاني من نقص حاد في الاخلاق.

[اشترك]

الأمر الذي يجب أن يقود العقلاء إلى ضرورة إيجاد علاقة تكاملية بين الدين والعلم، ويبدو أن العلاقة المتوترة بين أنصار العلم وأنصار الدين هي التي خلقت رؤية ضبابية حول طبيعة العلاقة بينهما، فلا التطرف العلماني الذي يسعى لاستبعاد الدين، ولا التطرف الديني الذي يعزل الدين عن العلم، يقدمان تصوراً موضوعياً حول علاقة الدين بالعلم.

وعليه فإن الإجابة على سؤال السائل: (من الأقدر على ضبط القوة العسكرية والتكنولوجية في العالم.. الدين أم العلم؟) تتوقف على إيجاد مقاربة تجمع بين الدين والعلم في رؤية تكاملية واحدة، ويبدو أن الظروف الآن باتت مناسبة لإقناع العالم بضرورة الدين وإقناع المتدينين بضرورة العلم، ففي بداية تشكل الحضارة الحديثة وفي عصر النهضة بالتحديد شهدت أوربا موجة عارمة من الألحاد باسم العلم، ففي كتاب (العلم والدين في الفلسفة العاصرة) يقول إميل بوترو: "وذلك أن العلم كان ينادي بالحتمية التي تعني أنه إذا توافرت الشروط والأسباب تحتم وقوع النتائج. وبناء على ذلك يكتفي العالم بنفسه، ولا حاجة به إلى علة أخرى خلاف وجود المادة وحركتها وتطورها وسيرها في طريقها المحتوم".

وبالمقدار الذي كان رجال الدين مسيطرون على أوروبا ويقيمون محاكم التفتيش التي تلاحق العلماء، بنفس هذه السطوة أصبح رجال العلم يحاصرون رجال الدين بعد عصر النهضة، فشنوا حربهم على الدين تسخيفاً وتجهيلاً به إلى أن تم عزله عن الحياة.

ومع تسليمنا بالمساهمات الكبرى لرجال العلم في تحقيق نهضة علمية واسعة، إلا أنه يبدو أن تفسير الكون والإنسان برؤية تجريبية أحادية نوع من الإفراط، يؤدي إلى تفريط في جانب آخر تضيع معه الكثير من الحقائق.

فهل كل الظواهر وبخاصة الإنسانية منها خاضعة للتجربة؟

 ألم يعجز العلم بالفعل أمام كثير من الظواهر الإنسانية؟

 فمن الضروري فتح مسار العلم أمام العقل التحليلي والتأملي، فمظاهر الحياة والوجود أوسع من أن تحيط بها مختبرات التجربة، والأديان وإن كانت تنتمي للمطلق والمقدس إلا أنها تمثل حاجة أصيلة للإنسان لا يصح اهمالها بالمرة، والقوانين الحتمية التي أعتمدها رجال العلم تغطي بعض الجوانب، وتبقى كثير من الجوانب تتحكم فيها الاحتمالية، الأمر الذي يمكن فهمه في إطار وجود قوة خارج الطبيعة لها إرادة وتدخل، ولذلك في بداية القرن العشرين بدأ العلم يتواضع ويعترف بعدم قدرته على تفسير كل شيء، يقول إميل بورت في نفس الكتاب: ""منذ صدر القرن العشرين بدأ يرى أن الحتمية غير ضرورية، وأن القانون الذي يحكم العالم هو قانون الاحتمالات، وبذلك أنفسح المجال للقول بقوة عليا تسير العالم خارج نفسه""

والقول بوجود هذه المساحة لا يعني رجوع الدين بمقولاته الكنسية، فقد أصبح العقل الإنساني أكثر صرامة بعد عصر العلم، فما كان يمثل يقينيات دينية تعارف وتعاهد عليها البشر لم تعد تقنع أحداً، ومن هنا يتعاظم التحدي أمام الأديان لتقديم مقاربات تتكامل بالعلم والعقل معاً، فعجز العلم أمام كثير من الأسئلة لا يعني قبوله يقينيات الأديان بدون سؤال وحوار.

ويبدو أن الوصف السلبي للأديان الذي بدأ في عصر النهضة كان متأثراً بالجو الثقافي الذي كان سائداً، فافتتان الإنسان في عصر النهضة بالعلم، وما توصل إليه من حقائق، وما أبدعه من مناهج في المعرفة، واصطدام كل ذلك بالكنيسة التي وقفت وبكل قوة أمام عجلة التقدم والتطور العلمي، كان سبباً كافياً لوصف الدين بتلك الأوصاف. وفي المقابل فإن الهيمنة التاريخية للكنيسة وتحكمها في المجتمع جعل من الطبيعي أن تتخذ موقفاً سلبياً من الحركة العلمية خوفاً على موقعها، وذلك أصبح عصر النهضة بداية لمرحلة جديدة تأزمت فيها العلاقة بين الدين والعلم، وبدأ عصر العولمة كخيار ثقافي وسياسي واقتصادي ومازال يهيمن على المشهد الإنساني.

وقد تسرب هذا النقاش إلى الساحة الإسلامية، وزاد من حالة الاصطفاف بين التيارات العلمانية والدينية، وما يؤسف له أن التيارات العلمانية عملت على محاكمة الإسلام بنفس عقلية عصر النهضة في ازمتها مع الكنيسة، في حين أن التأكيد على أهمية العلم لا يعني ابداً عدم أهمية الدين، والعكس صحيح أيضاً، ومع ذلك لا يمكن أن تستقيم هذه المعادلة إلا إذا كان الدين والعلم كليهما يحققان تكاملاً لا يستغني عنه الإنسان، ويبدو أن المقاربة المتفهِمة للعلاقة الجدلية بين الروح والبدن في الإنسان، هي ذاتها المقاربة التي تتفهم جدلية العلاقة بين الدين والعلم، فما يحققه العلم للإنسان لا يمكن أن تحققه الأديان، والعكس صحيح، فكليهما يخدمان شيء واحد وهو الإنسان المركب من روح ومادة.

ومن هنا كانت المقاربة المطلوبة هي التي ترسم نقاط الالتقاء بين الدين والعلم، ولا يتم ذلك بمجرد جعل مقولات الدين مقولات معرفية عقلية، وإنما بجعل غايات العلم أيضاً غايات دينية، والذي يميز الديني عن اللا ديني ليس مجرد نسبته الى المقدس، وإنما الذي يميزه كونه قيمة أو ليس بقيمة، والمقدس نفسه لا يكون مقدساً إلا بمقدار ما يحمله من قيم، والإنسان لم يتطلع الى الغيب إلا لكونه مصدراً يستلهم منه قيم الحق والجمال، فقيمة العلوم بما تحمله من قيم ومكاسب حياتية للإنسان، وقيمة الدين في دعوته لتلك القيم.

والذي يحكم كل هذه المعادلة هو الإنسان بوصفه محوراً للدين ومحوراً للعلوم أيضاً، وأهمية الدين تعود إلى تذكير الإنسان بالقيم التي تجعل منه كائن له قيمة، ومن نفس هذه الزاوية يكون الدين مهماً في مجال تطور العلوم لأنه يشكل الضمانة الأخلاقية لذلك التطور، وهكذا تكون اللحظة التي نتساءل فيها عن أهداف العلوم وغاياتها هي اللحظة التي تقربنا من الدين، واللحظة التي يكون فيها الإنسان متديناً يكون فيها قريباً من الحياة؛ لأن القيم لا يكون لها معنى إلا من خلال تفاعلها مع الواقع الحياتي للإنسان.

 فالنظر الى الدين بوصفه قيم ينتهي إلى العلم؛ لأن القيم لا يمكن أن ترتبط بالواقع إلا إذا استعانت بالعلوم، والنظر إلى العلوم بوصفها قيم يقربها من الدين، وكل ذلك يكون مفهوماً إذا كان هدف الأديان هو أعمار الحياة وتطوير الإنسان في إطار القيم، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تأصيل في قبال الرؤية التي تصور الأديان وكأنها وجدت من أجل عالم آخر غير عالم الدنيا.

 وفي الإسلام قد نجد ما يعين على تلك النظرة، حينما يدعو القرآن إلى الحياة وإلى العلم وإلى التعقل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً﴾. وقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾. وقال: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. وهي دعوة تجعل العلم بلا سقف يقف عنده.

 فالدين هو الذي يعزز مسيرة العلم، والعلم هو الذي يعزز مسيرة الإنسان، ومن هنا فإن الدين الذي يجب أن نفهمه لابد أن يكون إطاراً تنتظم فيه كل قيم الكمال والجمال، كما أن العلوم التي يجب أن تسود هي العلوم التي تراعي تلك القيم، وإلا أصبح ضرره أكثر من نفعه كما هو واقع الحال اليوم.

يقول أينشتين: "لا أتصور العلم دون إيمان عميق. ويمكن تشبيه الموقف بصورة مجسدة: العلم دون الدين أعرج، والدين دون العلم أعمى".

ويقول البروفيسور هوستن سميث أستاذ الفلسفة وعلوم الأديان في العديد من الجامعات الأمريكية: ""تعود أسباب الأزمة التي يمر بها العالم وهو يدخل الألفية الجديدة إلى أمور أعمق من طرق تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية. إن الشرق والغرب يعانيان – كل بطريقته – من أزمة واحدة مشتركة سببها الحالة الروحية للعالم الحديث، فقد اتسمت هذه الحالة الروحية بفقدان اليقين الديني وفقدان الإيمان بالسمو والتعالي على الوجود المادي بآفاقه الرحبة الواسعة. وطبيعة هذا الفقدان غريبة، لكنها – في النهاية – منطقية ومتوقعة. مع تدشين عصر النظرة العلمية البحتة، وبدأ احساس البشر بأنهم أصبحوا يمتلكون أسمى المعاني في العالم ويعرفون مقاييس ومقادير كل شيء، بدأت المعاني في الانحسار، وأخذت مكانة الإنسانية تتضاءل. لقد فقد العالم بعده الإنساني وبدأنا نفقد السيطرة عليه""

ويتضح من كل ذلك أن الحياة لا يمكن أن تستقيم ويستقر أمرها مالم تتكامل العلاقة بين العلم والدين، فالآلة العسكرية المتعاظمة أصبحت تشكل خطر حقيقي يهدد الحياة الإنسانية، والسبب في ذلك يعود إلى أنها قوة غير أخلاقية ولا تحكمها القيم، ومن هنا لابد أن يتدخل الدين لضبط جموح هذه القوة المتهورة.

2022/12/12

كيف نستخدم القرآن الكريم في فهم واقعنا المعاصر؟
إذا نظرنا إلى التراث الإسلامي، في تعاطيه مع النص القرآني، نجد تبايناً منهجياً تكشف عنه بشكل واضح كتب التفسير.

[اشترك]

فبين من رآه مصدراً لغوياً فراح يتفنن في إعرابه وبيان صوره الفنية والبلاغية، وبين من رأى فيه كتاباً تاريخياً يتناول قصص الأقدمين وحضارة الماضين وهكذا، كتاب لغز وإشارة، كتاب فقه وأحكام، اجتماع، سياسة، طبيعة - وبالتالي المخزون المعرفي الذي يمتلكه المفسر، هو الذي يحدد نوع تفسيره، يقول دكتور منيع عبد الحليم أستاذ علوم القرآن في الأزهر: «واختلفت أنظار المفسرين وطرقهم ومناهجهم في التفسير تبعاً لاختلاف مشاربهم، فمنهم من غلبت عليه النزعة الفكرية العقائدية فتوسع توسعاً كبيراً في شرح الآيات المتصلة بهذه المعاني، ومنهم من غلبت عليه النزعة الفقهية الشرعية فتوسع توسعاً كبيراً في هذه النواحي وهكذا من توسع في القصص والأخبار ومن توسع في الأخلاق والتصوف والمواعظ وآيات الله في الأنفس والآفاق وغير ذلك»، وهذا لا يعني عدم الاعتراف بالجوانب المضيئة التي تكشف عنها هذه التفاسير، ولكننا نبحث عن المعرفة التي تمثل شمولية وصلاحية الفكر الإسلامي.

 إن جذر المشكلة يرتكز على الخلط الذي وقع بين معنى التفسير والتأويل، ففي فهم السلف لم يكن هناك تفريق بين المعنيين، يقول محمد هادي معرفة: «كان التأويل في استعمال السلف مترادفاً مع التفسير، وقد دأب عليه أبو جعفر الطبري في جامع البيان»، وهذا المعنى المترادف أهمل آليات التأويل الخاصة، ولم يجعل لها مميزات تجعل من التأويل مكملاً للتفسير، أو حلقة أخرى تؤسس لبناء معرفي اهتم به النص وأهمله التفسير، وبالتالي حصر الاستفادة من القرآن ضمن إطار الفهم الظاهري الذي ينتجه التفسير فوت على الفكر الإسلامي مكتسبات كانت يمكن أن تساهم في حل معضلاته المعرفية.

 وأما البعد الآخر للمعنى التراثي للتأويل، فقد أكتسب معنياً سلبياً واعتبر نوعاً من أنواع التفسير بالرأي، وخاصة بعد أن بدأت تتكرس في الأمة سلطة السلف، التي تحصر الاستفادة من النص ضمن المنقول من أقوال الصحابة، وحينها أصبح التأويل سلاحاً يحارب به أصحاب المدارس العقلية، الذين صنفوا بأنهم أصحاب تأويلات، يقول نصر حامد أبو زيد «وليس هذا المسلك في الفكر الديني الرسمي في الحقيقة مغايراً لمسلك الاتجاهات الرجعية في التراث التي وصمت بدورها كل التأويلات المناقضة لتأويلاتهم بأنها تأويلات -فاسدة -أو مستكرهة - وأنها في أحسن الأحوال تفسير بالرأي المذموم والمنهي عنه من الرسول والصحابة. وقد تم تصنيف أصحاب هذه التأويلات بأنهم من أهل البدع وذلك في مقابل أهل السنة والجماعة وهو تصنيف يستهدف مصادرة الفكر النقيض ومحاصرته وحبسه في دائرة الكفر في مقابل الصدق والإيمان الذي يومئ إليه مفهوم أهل السنة»، وبهذا المفهوم حوصرت كل العقليات الإسلامية، التي حاولت تفعيل النص بمعطى عقلي، وأعطي في المقابل التفسير حيزاً استوعب فيه الحدود التي يتحرك فيها التأويل، وذلك إما أن يجعلوا للتأويل معنى مرادفاً للتفسير، وإما أن يصنف عملاً بالرأي وخروجاً عن الدين.

وكل ما يمكن تأكيده هنا هو أن القرآن ينطلق من حقائق تمثل للإنسان هدى وبصائر، وتمتاز هذه البصائر بكونها هي القيم الأساسية للدين، ومن المؤكد أيضاً بأن الله فطر الإنسان على هذه القيم، التي هي في الأساس انعكاس لأسماء الله الحسنى في واقع الإنسان، فحقيقة الإنسان وسر وجوده نابعةٌ من أسماء الله الحسنى، وإن قيمته بمقدار ما يحمله من تلك الأسماء كما أشرنا في أجوبة سابقة.

وإذا اتضحت كل هذه الحقائق لابد حينها أن نعرف أن لغة القرآن لابد أن تكون قائمة على إثارة الفطرة وتنبيه الإنسان لواقع تلك القيم التي يجدها في نفسه، ولغة التذكير والتنبيه هي اللغة الميسورة التي يمكن أن تتسرب إلى وجدان كل إنسان وتهزه من الداخل حتى تتساقط كل الحجب التي تمنعه من رؤية معاني الكمال في نفسه، وبذلك نكتشف أن للقرآن ظهراً وهو عوامل التنبيه للحقائق التي تقع في باطنه، فظهر القرآن حكم وباطنه علم، والعلم ليس شيء آخر غير جوامع الكلمة وأصول الحِكمة، والوصول إليه يكون من خلال العبور من الظاهر إلى الباطن، وهذا ما يحققه التأويل فظاهر القرآن تنزيل وباطنه تأويل، والتدبر في القرآن هي الآلية التي يرتكز عليها التأويل للوصول إلى باطن النص، ولذلك أرى من الضروري تطبيق هذه النتائج على الروايات التي تحدثت عن التأويل والوظيفة التي يقوم بها.

وهنا نشير إلى ملاحظة، وهي أن التأويل الذي أهمل في الفهم القرآني أو استبعد عند البعض قد تكرر في القرآن سبع عشرة مرة، في حين أن كلمة تفسير لم ترد سوى مرة واحدة، مما قد يفهم منه تجذيراً لهذا المصطلح في نفسية هذه الأمة، أو إشارة لما يمكن أن يحمله من دلالات جديرة بالوقوف والتأمل فيها، كما لا بد أن نفهم التأويل ضمن الإطار الذي وصف فيه القرآن نفسه بمعنى أنه كتاب حكمة وبصائر فلا يتجاوز التأويل هذا الوصف، قال تعالى ﴿ذَلِكَ مِمّآ أَوْحَىَ إِلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ وقال: ﴿قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلاُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾، فقرآن بصائر لأننا نبصر به الحياة، قال تعالى: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾، وقال: ﴿هَـَذَا بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، وقال: ﴿بَصَآئِرَ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ﴾.

إذا رصدنا كلمة التأويل في الآيات والروايات، يمكننا أن نفهم أن للتأويل معنيين:

 المعنى الأول: يمثل حركة من الظاهر إلى الباطن.

 والمعنى الثاني: من الباطن إلى الواقع وضبط المتغير.

 وكلاهما يشكلان حقيقة واحدة وهي فهم النص وتطبيقه، وبالتالي نعتقد أن التأويل هو الطريق الرابط بين ظاهر الحدث والبنية المحركة لهذا الحدث، فكل حركة على مستوى الظواهر الكونية، أو السلوك الإنساني، تتحرك وفق بنية تحتية تكون بمثابة المحرك للظواهر، فالظاهرة الكونية تتحرك وفق سنن الله في الطبيعة، كما أن السلوك الإنساني على مستوى الإرادة والاختيار، يتحرك وفقاً للغايات، والأهداف، والغرائز، والقيم، وكذا النص يحمل بنية تحتية تمثل الحكمة الباعثة لتشكل النص، فالباطن المقصود بالتأويل هو بمعنى السنة أو الأصل أو الحِكمة الذي يرجع إليها الظاهر، وليس مطلق الباطن.

وإذا رجعنا للبنية اللغوية لكلمة (تأويل) نجدها مأخوذة من (الأول) وهو الرجوع والعودة إلى الأصل ومن هنا (أول) الشيء رجع إلى أسبابه وعلله الحقيقية.

والروايات التي جاءت في هذا الصدد يمكننا تقسيمها كالآتي:

1- روايات تبين أن للقرآن ظهراً وبطناً. جاء في الكافي عن الصادق عن آبائه قال: «قال رسول الله في حديث طويل يصف فيه القرآن ويقول: وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم». تبين هذه الرواية بأن علوم القرآن ومعارفه هي مستبطنة في النصوص، وهو ما يعبر عنه بالباطن، كما أن له ظهر وهو الأحكام.

2- روايات تبين أن بطن القرآن هو التأويل، «فقد جاء في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار، قال سألت أبا جعفر عن هذه الرواية ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن. ماذا يعني بظهر وبطن؟ قال: ظهره تنزيل وبطنه تأويل..» فهذه الرواية تؤكد أن عملية التأويل هي التحرك نحو الداخل لاكتشاف بطن القرآن.

3- روايات تبين أن التأويل هو معرفة السنن، ففي تكملة الرواية السابقة يقول الإمام: «ظهره تنزيل وبطنه تأويل منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجرى كما تجري الشمس والقمر». فتؤكد هذه الرواية على أن شمولية القرآن واستمراريته تتحقق وفق عملية التأويل، فهي التي تجعل النص يحتمل خاصية الجري والانطباق.

4- روايات تبين أن هذا البطن الذي لا يدرك إلا بالتأويل هي الحِكم والقيم التي ترتكز عليها الأحكام، فهي الوحيدة التي تعطي النص خاصية الجري والانطباق، فلا يمكن تصور اتساع الأحكام الجزئية إلى أكثر من مصاديقها المشخصة بها، «جاء في المعاني عن حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر عن ظهر القرآن وبطنه فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك». فعالجت هذه الرواية إشكالية حصر النص بزمان نزول الوحي أو أي زمان آخر، وإنما جعلت للنص خاصية يمكن أن يكون مستوعباً بها كل زمان ومكان، وبالتالي يكون التأويل هو الآلية التي تعطي النص استمراريته، باكتشاف العلة والحكمة التي تكون قاسماً مشتركاً لكل الأزمان، وبالتالي نكون قد خلصنا إلى أن التأويل هو حركة إلى باطن النص، وأن الباطن هو العلة والسبب الموجب للظاهر، ثم تأتي الخطوة الثانية وهي رصد العقل للواقع المعاصر ومن ثم ضبط حركه وفقاً لما تم كشفه من القيم القرآنية.

ولكي نفهم كيف نتعاطى مع القرآن لابد من فهم هدف القرآن، وتحديد الهدف هو الذي يرسم الطريق الموصل إليه، والحَكيم لابد أن يرسم أقصر الطرق للوصول للأهداف التي يرتجيها، وإذا كانت هداية الإنسان وإبصاره طريق الحق لا تكون إلا بالكشف عن قيم الكمال والجمال له، وإذا كانت هذه القيم هي حقائق فطرية أودعها الله في وجدان كل إنسان، وإذا كان الإنسان يغفل عن هذه القيم الفطرية ويجهلها بسبب شهوات الغرائز وضغوط الحياة، حينها لابد أن يكون الطريق هو تذكيره وإثارته حتى ينتبه لواقع تلك الحقائق الفطرية، ومن هنا لم يبدع القرآن وسيلة غير التذكير والتنبيه ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ ولغة التذكير لابد ان تكون واضحة جلية لكل إنسان ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾.

أما التعقل والتفكر فهو نتيجة طبيعة عندما يثار عقل الإنسان وتنكشف عنه حجب الجهل والهوى، فينطلق للتعرف على بواطن النص بما فيه من حِكم، وينطلق لمعرفة آيات الوجود بما فيها من سنن، وكل ذلك يتحقق عبر التوحيد الذي يتجلى عبر أسماء الله الحسنى التي تنعكس في الوجود سنناً وفي القرآن قيماً.    

وعليه فإن المساحة التي يبدع فيه العقل المسلم هي مساحة التأويل وهي الكشف عن حِكم النص وأصول الحِكمة وجوامع العلم، أما التفسير فيتحرك في دائرة ظواهر النص الذي هو أحكام مترتبة على تلك الحقائق الباطنية، ومهمة التفسير هي إظهار ظواهر النصوص بالشكل الذي يتجلى فيه النص كتذكرة وتنبيه.

2022/12/12

هل خلقنا الله لنأكل ونشرب ونموت؟!
إنّ من بين الأدلّة المطروحة لإثبات المعاد والعالم الآخر هي «مطالعة نظام هذا العالم» أو بتعبير آخر : إنّ دراسة «النشأة الأولى» شاهد على وجود «النشأة الاخرى».

[اشترك]

ومن الضروري إيضاح ذلك بنحو أوسع هنا.

فمن جهة نرى عالم الوجود بهذه السعة والعظمة والتنظيم المدهش ، حتّى اعترف كبار العلماء بأنّ أسرار العالم بقدر يقف الإنسان عاجزا إزاءها ، فإنّ معلوماته مهما كانت لا تشكّل سوى صفحة من كتاب كبير جدّا. بل إنّ معلوماتنا عن هذا الوجود ما هي إلّا «ألف باء» لهذا الكتاب العظيم التأليف والأسرار.

فكلّ واحدة من هذه المجرّات العظيمة تضمّ مليارات من الكواكب ، وعدد المجرات والفواصل بينها كبير بدرجة تثير الدهشة حين حساب المسافة بينها بسرعة الضوء ، علما بأنّ سرعة الضوء تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومترا في الثّانية.

والدقّة المستخدمة في بناء أصغر وحدة من هذا العالم هي ذاتها التي استخدمت في أوسع بناء فيه.

والإنسان ـ بحسب علمنا ـ أكمل المخلوقات التي نعرفها في الوجود ، وهو أسمى نتاج لهذا العالم ، ومن جهة أخرى يلاقي الآلام والمشاكل الكثيرة خلال عمره القصير حتّى يبلغ أشدّه!! فما يكاد ينهي مرحلة الطفولة بآلامها ومشاكلها ويتنفّس الصعداء منها حتّى يدخل مرحلة الصبا والشباب بتقلّباتها الشديدة المدمّرة.

وما يكاد يثبت قدميه بعد في هذه المرحلة حتّى تدهمه مرحلة جديدة مفعمة بألوان الأذى وأنواع المصاعب ، هي مرحلة الكهولة والشيخوخة ، فيتّضح له مدى ضعفه وعجزه.

فهل يصدق أن يكون هدف هذا الكائن العظيم الأعجوبة في الخلق ، الذي يسمّى الإنسان ، يأتي هو أن إلى هذا العالم ليقضي عددا من السنين ، وليمرّ بكلّ هذه المراحل بما فيها من آلام ومصاعب ، وليأكل مقدارا من الطعام ويلبس لباسا وينام وينهض ثمّ يموت وينتهي كلّ شيء. وإذا كانت هذه هي الحقيقة ، ألا يعني هذا عبثا؟

أتكون كلّ هذه التشكيلات العظيمة من أجل غاية دنيئة كالأكل والشرب والنوم؟

افرضوا بقاء نوع الإنسان ملايين السنين في هذه الدنيا ، وتتعاقب الأجيال ، وترتقي العلوم الماديّة فتوفّر أفضل المأكل والملبس والمسكن وأعلى مستوى من الرفاهية للبشر ، أتكون تشكيلات الوجود كلّه من أجل هذه المقاصد الدنيا؟

وعلى هذا فإنّ دراسة هذا العالم العظيم لوحده دليل على كونه مقدّمة لعالم أوسع يمتاز بالدوام الخالد ، ويعطي الإيمان به حياتنا معناها اللائق بها ، ويخلصها من التفاهات. ولهذا لا نستغرب من تصوّر الفلاسفة الماديّين الذين لا يعتقدون بالقيامة والآخرة أنّ هذا العالم تافه لا هدف له.

ولو كنّا نحن نعتقد بمثل هذا فحسب لاتّجهنا نفس اتّجاههم.

ولهذا نؤكّد أنّه إذا كان الموت نقطة النهاية فخلق الوجود يصبح أمرا تافها ، لهذا نقرأ في الآية (٦٦) من سورة الواقعة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)؟!

*مقتطف من تفسير الأمثل ج ١٠ ص ٥٣١
2022/12/11

كيف تميّز بين الحق والباطل؟
كل الأفكار والقناعات التي يؤمن بها الإنسان إما أن تكون نابعة من العقل والعلم، وإما أن تكون نابعة من الهوى والشهوات.

[اشترك]

ومع أن هناك مساحة واسعة من المباحات التي لا يكون الميزان فيها قائماً على الحق والباطل، إلا أن الاتجاه العام لأفكار الإنسان وقناعاته تتباين بين كونها حقاً وعلماً، وبين كونها باطلاً وأهواء وشهوات، فأحياناً قد يتفق أن تهوى النفس الحق لا لكونه حقاً، وإنما لكونه يمثل مصلحة للنفس ضمن ظرف معين، وسرعان ما تنقلب عليه النفس إذا تبدلت الظروف وتغيرت المصالح. وعليه فإن خيارات الإنسان ليست علمية فقط وإنما نفسية أيضاً، وليس بالضرورة أن تكون كل الأمور متضحة دائماً للإنسان، أو أن خيارات الإنسان منحصرة بين الأبيض والأسود، فقد لا يحصل للإنسان العلم في بعض الأمور، حتى لو طلبه واجتهد في تحصيله، كما أن النفس أحياناً تحتار في تحديد ما يصلحها وتختلط عليها الأمور فتصبح مضطربة ومترددة، وبالتالي ليس بالضرورة أن كل ما يصيب الإنسان من شك وتردد له علاقة بالعلم والتعقل، وإنما قد يكون بسبب حيرة النفس في تحديد رغباتها واختيار شهواتها. ولذا من الضروري الوقوف على أسباب هذا الارتياب وتحديد مصدره.     

وفي المحصلة هناك قوتان تتنازعان الإنسان تمثل الأولى الإيمان والثانية الكفر، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.

وبما أن الإيمان نظام من المعارف والأفكار، كذلك الكفر أيضاً نظام من المعارف والأفكار، والفرق بينهما أن الأول نابع من الحق والهدى، والثاني نابع من الباطل والضلال، وفلسفة رسالات الله قائمة على التمييز بين الاتجاهين والتأكيد على خيار الحق ونبذ خيار الباطل، وفي المقابل هناك الشيطان الذي يحرك الغرائز ويزين الشهوات.

ومع أن الحق والباطل بينهما تباين كبير، إلا أنهما يختلطان كثيراً عند الإنسان بحيث يصعب عليه التمييز بينهما، ولذا من الضروري إيجاد معيار لتحقيق هذا التمايز. وقد أشار القرآن إلى معيارين أحدهما عام يمثل مشتركاً بين جميع البشر، والثاني خاص يمثل الموقف الشخصي لكل إنسان. أما الأول: فهو محاكمة الفكرة علمياً وذلك من خلال الكشف عن مصدرها وأدلتها والطرق الموصلة لها. أما الثاني: فهو المسؤولية الفردية والشعور الداخلي لكل إنسان.

المعيار العام:

 قال تعالى: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

هناك فكرة قائلة بأن الجنة لا يدخلها إلا يهودي أو نصراني، وعليه كيف يمكن أن نكشف عن مدى صحة هذه الفكرة؟ وهل هي نابعة من العلم أم نابعة من هوى النفس؟ المعيار الذي طرحته الآية هو المطالبة بالبرهان على هذه الفكرة {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، والبرهان هو الدليل الذي يجعل الإنسان مسلماً بمطابقة الفكرة للواقع، فإذا تحصل البرهان علمنا أن الفكرة نابعة من العلم وليس الهوى. وفي هذه الآية نجد أنها حددت مصدر الفكرة بوضوح عندما قالت {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي أنها مجرد تمنيات ورغبة نفسية. وقد فصلت آيات أخرى مشكلة التمني في توليد قناعات الإنسان، وكيف ميز الله بين الأفكار النابعة من الحق وبين الأفكار النابعة من الأمنيات، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}. تحدثت الآية الأولى عن دور الشيطان وكيف يلقي وساوسه في أمنيات البشر، ولا ينجو من ذلك إلا من عصمه الله، ولذا نجد أن الله ينسخ ما يلقيه الشيطان للرسول ثم يُحِكم آياته. وبعد ذلك تتحدث الآية الثانية عن استغلال الشيطان للقلوب المريضة التابعة للهوى، وكيف أنه يزين لها الأفكار الضالة ليفتنهم ويضلهم عن الهدى. ثم تنتقل الآية الثالثة لتتحدث عن العلم وذلك من أجل التمييز بينه وبين أفكار النفس ووساوس الشيطان، فتتحدث عن الذين أوتوا العلم كيف أنهم يعلمون أنه الحق من ربهم، وكيف تسلم قلوبهم له، {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}، حيث لا يمكن للإنسان أن يستغني عن هداية الله لمعرفة الحق لأنه هو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، ثم تعود الآية الرابعة من جديد لتبين الحالة النفسية التي تصيب من اتبع هوى النفس ورفض الإقرار بالحق {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} ولا سبيل لكشف الستار عن قلوبهم إلا بأن تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم.

 والنتيجة المتحصلة من هذه الآيات هو أن الأمنيات وما تهواه النفس هو مصدر كل الأفكار والمعتقدات الضالة، والمعيار الذي وضعته الآيات للتمييز بين أفكار النفس وأفكار العقل هو البرهان.

وغير ما تقدم هناك الكثير من الآيات التي جعلت البرهان هو المعيار العام للتمييز بين الأفكار، مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ}، وقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. وقال تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.

المعيار الخاص:

والمقصود به هو شهادة الإنسان على نفسه وإقراره بالحق في عمق وجدانه، فمهما تحايل الإنسان على الآخرين لا يمكنه التحايل على ما تسر به نفسه {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}، وعليه فإن المعارف والأفكار والمعتقدات هي مسؤولية فردية قبل أن تكون مسؤولية أمة ومجتمعات، وقد أشارت الكثير من الآيات لعلم الإنسان بالحق في قرارة نفسه مع ذلك فضل الباطل لهوى في نفسه. قال تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. يعلمون بالحق إلا أنهم يكتمونه ويلبسونه بالباطل لهوى في أنفسهم. وقال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. وغير ذلك من الآيات الكاشفة عن محكمة الضمير عند كل إنسان، حيث تجعله مسؤولاً عن الحق الذي يراه في قرارة نفسه. وقد فصلت لنا آيات أخرى سبب ميل الإنسان إلى الباطل مع علمه بالحق، وقد أرجعت كل ذلك إلى هوى النفس، قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إليهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}.

وفي المحصلة يمكننا أن نقول إن الأفكار الصادرة من النفس والتمنيات تسمى في المصطلح القرآني بالظنون، ومهما بلغت النفس من الدقة في تحديد ما يخدم هواها لا يصبح علماً؛ لأنه مجرد اندفاع نفسي تحركه الأهواء والتمنيات، قال تعالى: {... إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ Q أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ} . وقد ربطت هذه الآية بين الظن وما تهوى الأنفس، حيث يبدو أن الواو هنا تفسيرية، أي أن الظن هو ما تهوى الأنفس وليس شيئاً آخر غير هوى النفس، ثم تأتي الآية الثالثة لتربط كل ذلك بالتمني {أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ} لتؤكد مسؤولية التمني في إنتاج الظنون. وتتفاوت هذه الظنون في قربها أو بعدها عن الحق، فقد تهوى النفس أحياناً الحق لا لكونه حقاً وإنما لكونه يحقق مصلحة لها، وفي هذه الحالة يكون الظن مطابق للواقع، ومع ذلك لا يعد علماً؛ لأن مصدره الأهواء وما تتمناه النفس.

2022/12/07

محاولات يائسة للإلحاد: الدين ليس المصدر الوحيد للأخلاق!
هناك أزمة يعشيها الإلحاد في إيجاد تبريرات للأخلاق بعيداً عن الإيمان بالله، ولذا نجده يسعى جاهداً التشكيك في مصدرية الأديان للأخلاق.

[اشترك]

إلا أن كل ذلك يعد محاولات يائسة لا تخرجه من ورطة المادية العمياء، فالقيم الأخلاقية لا تنتمي إلى الطبيعة وعالم المادة، فالحق، والخير، والعدل، والإحسان، والرحمة... وغيرها من القيم ليست صفات موجودة في المادة، بل غير موجودة حتى في الإنسان بوصفه مادة تحركه أعصاب غير واعية، فمع تحكم هذه النظرة كيف يمكن أن نوجد تفسيراً مختبرياً وتشريحياً لهذه القيم الأخلاقية عند الإنسان؟

فمن المستحيل ثبوتاً وإثباتاً أن يكون هناك قيم أخلاقية تتصف بالإطلاق دون الإيمان بوجد إله يكون مصدراً لهذا الإطلاق، وهذا ما تنبه إليه الكثير من فلاسفة الإلحاد، "وقد أدرك الفيلسوف الوجودي الملحد والشرس، (جون بول سارتر)، مبلغ الإحراج الفكري في مسألة أصل التمييز الأخلاقي بين الخير والشر، ولذلك قال: يجد الوجودي حرجًا بالغًا في ألّا يكون الله موجودًا، لأنه بعدم وجوده تنعدم كلّ إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح. لا يمكن أن يكون هناك خير بدهي لأنّه لا يوجد وعي لانهائي وكامل من الممكن التفكير فيه. لم يُكتب في أيّ مكان أنّ الخير موجود، ولا أنّ على المرء أن يكون صادقًا أو ألّا يكذب".

ومن هنا نجد أن ريتشارد دوكنز يتسق مع إلحاده ويلتزم بمآلاته، فيرفض صبغ الوجود ككلّ بأي صفة قيمية على الإطلاق، فيقول مقرّا بمشكلة النسبية الأخلاقية: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة". ويقول أيضاً: إنّه من العسير جدًا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية".

 أمّا الباحث الأميركي اللا أدري ديفيد برلنسكي فيوضّح مقولة دوستويفسكي: "إذا كان الإله غير موجود فكلّ شيء مباح". يقول شارحا: "فإذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإن (ما ينبغي أن يكون) هو ببساطة ما يقرّره الرجال والنساء. لا يوجد مصدر آخر للحكم. هل هذه إلا طريقة أخرى للقول بأنه طالما أن الإله غير موجود، فكل شيء مباح؟".

وقد أشاد داروين نفسه بالدور الفعال للإيمان بالمعبود حيث يقول: "وبالنسبة للأعراق الأكثر تمدناً، فإن الإيمان الراسخ بالوجود الخاص بمعبود، مطلع على كل شيء قد كان له تأثير فعال، على التقدم الخاص بالأخلاق".

ومن جهة أخرى فإن الاكتفاء برصد هذه القيم الأخلاقية من واقع الحياة الاجتماعية، يتضمن اعترافاً بوجود بُعدٍ غير مادي يتطلع له الاجتماع الإنساني؛ لبداهة وجود هذه القيم الأخلاقية عند الإنسان والمجتمع، ولبداهة كونها غير مادية، وهذا ما لا يمكن أن ينسجم مع التفكير الإلحادي.

 وقانون الانتخاب الاجتماعي الذي جاء على وزن قانون الانتخاب الطبيعي لا يشكل حلاً بقدر ما يشكل خدعة وتحايل، فالتطور الذي يحدث في الكائنات الحية بحسب النظرية الداروينية يقوم على بقاء الأجدر والأقوى والأصلح، وهو طرح يمكن تفهمه ضمن إطار المادة غير الواعية، ولكن كيف يمكن فهمه واستيعابه ضمن الحياة العاقلة والمريدة؟ وحركة الإنسان والمجتمع حركة واعية تقوم على التطلع نحو الكمال الذي قد يكون فيه التضحية بالذات من أجل العدل والحرية والكرامة، الأمر الذي يجعلها تقع على العكس تماماً من الأنانية المحضة التي يقوم عليها الانتخاب الطبيعي.

فالاستجابات العصبية، والسلوكيات الغرائزية، عملية غير واعية، قد نجدها في بعض السلوكيات التي يمارسها الإنسان كما يمارسها الحيوان، أما السلوك الحر القائم على الوعي والإرادة والقدرة على الاختيار والتمييز فهو حتماً مختلف عن الحالة الغرائزية.

والعمل على تطبيق قانون البقاء للأصلح اجتماعياً سوف يؤدي إلى أثار مدمرة للوجود الإنساني، فتمييز البشر بحسب الجينات الوراثية يفتح الطريق أما صراع عرقي تنقلب معه كل المفاهيم الأخلاقية إلى مفاهيم لا أخلاقية، فيصبح الخير شر، والعنصرية فضيلة، العدل ضعف، والظلم قوة، والإنصاف سخف، والرحمة جهل، وهكذا تكون الحقوق فقط للأقوى والأكثر صموداً.

والنتيجة المتحصلة من هذا التمايز العرقي؛ هو منح العرق المتحضر منها الحق في القضاء على العرق الهمجي، ضمن قانون البقاء للأصلح والانتقاء الطبيعي، حيث يقول فيه: "في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة، سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم." ولهذا النمط من التفكير نجد عالم التاريخ الأمريكي توماس ناب thomas knapp من جامعة لويال يقول: " كان الناس ينتظرون الحرب قبل عام 1914م بمنتهى الشغف، وكانوا يتمنون قيام الحرب، وكان الدافع لسيطرة هذا الفرح عليهم هو سيطرة الداروينية الاجتماعية على الناس في تلك الفترة حيث طُبقت في مدارس أوروبـا، فهي ترى الحرب دافعـا للرقي للأقوى ودافع للنشاط".

وفي المحصلة لا يمكن للإلحاد بحسب فلسفته المادية أن يتحدث عن الأخلاق والطريق الحصري لفهم الأخلاق كحقيقة لها وجود في حياة الإنسان هو الإيمان بالله بوصفه مصدر كل كمال وجمال.

 

2022/12/06

تجديد الخطاب الإسلامي.. تحليل وتركيب
يتزايد الحديث في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى عن مقولة تجديد الخطاب الإسلامي، المقولة التي تتعدد حولها وجهات النظر وتختلف، بين من يدافع عنها، ويدعو لها، وبين يتحفظ منها، ولا يتحمس لها، وبين من يظهر عليه التردد نحوها، ويتعامل معها باعتبارها مقولة ملتبسة، تفتقد إلى وضوح ضوابط المنهجية، وغموض في طبيعة المقاصد والغايات.

[اشترك]

والذي أراه إننا بحاجة إلى قراءة معرفية لهذه المقولة، بحيث نفهم ما نريد منها على وجه التحديد، وفحص ما يحيط بها من محاذير والتباسات.  وفي هذا النطاق سوف أقدم قراءتي التي استقل بها في هذا الشأن، وهي حصيلة نظر مستفيض، وحصيلة متابعة واشتغال لهذا الحقل. وتتحدد هذه القراءة من جهتين، من جهة تفكيكية يكون النظر فيها بقصد تحليل عناصر ومكونات تلك المقولة. ومن جهة تركيبية يكون النظر فيها بقصد تحديد المعنى العام والكلي لتلك المقولة. الجهة الأولى: تفكيك عناصر المقولة.

أولاً: (تجديد) هذه الكلمة ناظرة إلى الآلية، والطريقة التي بإمكانها أن تحقق فعل التجديد، ليكون للتجديد المعنى الناجز والمتحقق. وبالتالي فإن البحث هنا هو في المنهجية، بمعنى ما هي المنهجية التي من خلالها نصل إلى التجديد ليتحقق بالفعل، وليكون المعنى له نسبة خارجية.

ثانياً: (الخطاب) هذه الكلمة ناظرة إلى طبيعة المجال الذي يتوجه إليه فعل التجديد، وهذا المجال هو بنية النص المتصل والمتفاعل بشرائط ومكونات الزمان والمكان والحال، أو ما يطلق عليه جمعا وتركيبا بمفهوم العصر.

ثالثاً: (الإسلامي) هذه الكلمة ناظرة إلى مرجعية الخطاب، وهذه المرجعية يقصد بها مجموع القواعد والأصول والثوابت التي يرجع إليها ذلك الخطاب، ويستند عليها، ويتقوّم بها. وبالتالي فهي ناظرة إلى محددات وجوهر التجديد.

وعلى ضوء هذه المحددات نستخلص النتائج التالية:

التجديد هو بحث عن الجانب المنهجي، ما هو المنهج أو المنهجية؟.

والخطاب هو بحث عن الجانب المعرفي، بمعنى تكوين المعرفة بهذا الخطاب المستهدف في عملية التجديد. والإسلامي هو بحث عن الجانب المرجعي، بمعنى تكوين المعرفة بأصول هذه المرجعية وقواعدها ومصادرها.

التجديد هو بحث عن المنهج، والسؤال ما هو هذا المنهج؟ والجواب أن محددات هذا المنهج في أمرين، الأول هو الموضوع والمقصود به الخطاب. والثاني هو الإطار العام أو الإطار المرجعي والمقصود به الإسلامي.

الخطاب هو الجانب المتغير، والإسلامي هو الجانب الثابت. ولا ينبغي أن ينفصل المتغير عن الثابت، كما لا ينبغي أن يفتقد الثابت إلى المتغير. فالثابت يعطي المتغير عنصر النظام الذي يحفظه من الفوضى والانفلات، والمتغير يعطي الثابت عنصر المرونة والحركة الذي يحفظه من التوقف والجمود.

الإسلامي هو المحدد والضابط لما هو التجديد، ولما هو الخطاب. بمعنى أن لا يقود التجديد إلى خطاب غير إسلامي أو لا يتوافق مع الإسلام، وهذا هو المعيار الرئيسي والثابت في تحديد واختيار المنهج. كما أن الخطاب المستهدف في عملية التجديد هو خطاب يتصل بمرجعية الإسلام، وإذا لم يتصل بهذه المرجعية، أو لا ينتمي إليها فهو خارج عن مجال البحث.

هذا من جهة تفكيكية، وأما من جهة تركيبية، يمكن القول بأن مقولة تجديد الخطاب الإسلامي تتحدد في نسقين، النسق الفكري الذاتي، والنسق الفكري الموضوعي. وبحسب النسق الأول فإن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي يعني محاولة اكتشاف ما يمكن أن يقوم مقام الحداثة في الفكر الغربي. على أن يكون هذا الاكتشاف من داخل المرجعية الإسلامية وبعيدا عن الاستلاب. وهذا المعنى له ثلاثة عناصر:

تغليب النزعة المعاصرة على النزعة التراثية القديمة، للتخلص من إشكالية الاحتباس في الماضي، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع ذاته.

اكتساب القدرة على مواكبة العصر وشروطه ومقتضياته، للتخلص من إشكالية الانغلاق، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع عصره.

اكتشاف مفهوم التقدم والتأكيد عليه، للتخلص من إشكالية الجمود، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع ذاته وعصره معاً.

وأما بحسب النسق الموضوعي فإن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي يعني محاولة تحديد صورة لهذا الخطاب تكون مفارقة ومغايرة عن حالتين، عن حالة الجمود والتحجر في الحالة الأولى، وهي حالة داخلية متوارثة من عصور الانحطاط والتخلف. وعن حالة التبعية والاستلاب في الحالة الثانية، وهي حالة خارجية متوارثة من عصور الهزيمة والسيطرة الغريبة. فالجمود والتحجر لا يحمي هوية، ولا يحفظ تراثاً، ولا يصنع تجديداً بالتأكيد. والتبعية والاستلاب لا تخلق حداثة، ولا تبني تقدماً، ولا تصنع تجديداً بالتأكيد. وتجديد الخطاب الإسلامي هو تعبير عن نقد ومفارقة لتلك الحالتين، والعمل على بلورة نموذج ثالث يتواصل مع التراث ولا ينغلق عليه، ويتواصل مع العصر ولا ينسحق به. وهذا يعني أن التجديد هو في الرؤية الفكرية والمنطق الفكري للخطاب الإسلامي، وليس في العبادات أو العقائد أو الأخلاق، لأن المشكلة ليس في العقيدة، وإنما في الفكر، وليس في الدين وإنما في الفهم البشري المتكوّن حول الدين.

2022/12/04

حقوق الإنسان في الإسلام
نشاء مصطلح حقوق الإنسان وتطور ضمن الثقافة الغربية، ولذلك لا يمكن اعتماد المصطلح وتعميمه دون الوقوف على دلالته المفهومية، فالكلمات وإن كانت واضحة الدلالة إلا أن الخلفية الفلسفية والايدلوجية تفرض عليها معاني ودلالات خاصة.

[اشترك]

فمع وضوح كلمتي الحقوق والإنسان إلا أنهما من الكلمات الأكثر عرضة للشحن الايدلوجي والثقافي، ومن هنا كان من الضروري الوقوف على الخلفية الثقافية المنتجة لهذا المصطلح، وبخاصة إذا علمنا أن مفهوم حقوق الإنسان تشكل في أحضان النظام الليبرالي، والذي نشاء بدوره في أحضان فلسفة عصر النهضة التي أعلت من قيمة الفرد باعتباره أسبق من المجتمع وأسمى منه، فالإنسان كفرد هو القيمة القائمة بذاتها، والقانون المستمد من الطبيعة هو الذي يمنح الإنسان هذه القيمة الفردية، وعليه فإن مفهوم الحقوق مستمد من القانون الطبيعي، ومفهوم الإنسان مستمد من الإنسان الطبيعي ذو البعد الواحد وهو البعد المادي، والإنسان ضمن هذا الوصف مكتفي بذاته حيث يشكل من نفسه المرجع والمعيار لكل شيء، وبالتالي ليس أمامه أي حدود أو قيود تاريخية أو اجتماعية أو أخلاقية أو ثقافية فهو يعيش في الزمان الطبيعي ولا يعيش في الزمان الإنساني الذي تحكمه القيم والأخلاقيات.

والإنسان ذو البعد الطبيعي والمادي لا يتم تفسيره بالمعطي القيمي والأخلاقي، إنما يتم تفسيره غرائزياً وبحسب ما تملي عليه حريته الشخصية، حتى أحاسيسه ومشاعره هي في الواقع ليست إلا نتاج للطبيعة المتأصلة فيه، والعقل ضمن هذا التصور فاقد للسلطة وخاضع بشكل دائم لميولات النفس ورغباتها، فالحرية الشخصية المتأصلة في هذه الثقافة تعمل على تحطيم كل القيم والمبادئ الأخلاقية، فلا يسمح للإنسان بالتفكير في المعاني الروحية والبحث عما هو مقدس؛ لأن ذلك يمنع الإنسان من الذوبان التام في جانبه الطبيعي والمادي، وحتى لو تم الحديث عن القيم الأخلاقية فلا يتعدى ذلك الدوافع الطبيعية القائمة على الأنانية والحرص على البقاء والمنفعة، فالأنظمة والقوانين التي يتم التوافق عليها تستهدف في الحقيقة الحفاظ على البقاء المادي للإنسان، وهكذا فالإنسان في هذه الثقافة هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة، بخلاف النظرة الدينية التي تجعل الإنسان جزءاً يتجزأ من الطبيعة، فلو استحال على الإنسان مفارقة الطبيعة من خلال بعده الروحي والمعنوي، فحينا سيكون متبدلاً ومتحولاً مثل الطبيعة والمادة، وبذلك تنعدم الثوابت وتتلاشى المشتركات الإنسانية على المستوى المعرفي والأخلاقي.

وعليه عندما تتحدث الثقافة الغربية عن الإنسان كمبدأ أساسي إنما تتحدث عن الإنسان الطبيعي ذو البعد الواحد وهو البعد المادي، أي الإنسان الخارج عن حدود القيم الأخلاقية، الأمر الذي يجعلنا نتأكد من ضبابية الشعارات الإنسانية التي تتبنها الثقافة الغربية، فكيف يمكننا أن نتفهم قيمة إنسانية والإنسان ليس شيئاً خارجاً عن المادة العمياء؟، فعدم الاعتراف بالروح الإنسانية المرتبطة بمصدر الكمال الغيبي لا يبقي معه وجود لأي مبرر للقيم أو الفضائل أو الأخلاق، فالحرية كقيمة إنسانية والديمقراطية والعلمانية والعقلنة والاسس العلمية كل ذلك جاء في إطار النظرة الطبيعية والمادية للإنسان، حيث تتحرك كلها في إطار تكريس الجانب المادي والأناني في الإنسان، ومن هنا تختلف مقاربتنا لهذه القيم عندما ننظر إليها كموحدين ومؤمنين بالله تعالى.

فحقوق الإنسان ليست مجرد مبادئ وقوانين يجب مراعاتها عالمياً وحسب، وإنما هي أيضاً رؤية ثقافة لها تفسيرها الخاص للإنسان والحياة والحقوق، وتعميمها دون مراعاة الفوارق الثقافية لا يخلو من انتهاك لحقوق الإنسان الآخر صاحب التفسير المغاير للإنسان والحياة والحقوق، وعليه فإن الحقوق والإنسان لا يمكن النظر إليهما من زاوية واحدة، وإنما تتعدد الزواية بتعدد الخلفيات المعرفية والثقافية، فمثلاً كارل ماركس وكمناهض للمشروع الليبرالي يرى مقولة حقوق الإنسان مجرد خدعة عالمية، فالمقصود منها ليس مطلق الإنسان، وإنما فقط الطبقة البرجوازية المدافعة عنها، ولهذا نجده يقدم نقدا لاذعا لمقولة حقوق الإنسان من خلال تأكيده على الإنسان المجتمع لا الإنسان الفرد، ومن اجل ذلك رفض ماركس ربط حقوق الإنسان بالطبيعة؛ لأن الطبيعة عنده ماهية مجردة بينما الماهية الإنسانية ليست للفرد المعزول، بل هي في واقعيتها مجموع العلاقات الاجتماعية الناتجة عن صراع الإنسان مع الطبيعة من جهة، وصراع الإنسان مع أخيه الإنسان من جهة ثانية، وعليه فحقوق وحريات هذا الإنسان ليست صفات خاصة بإنسان لا زماني ولا تاريخي، وإنما هي في الواقع صفات لأفراد منخرطين في سيرورة الإنتاج الاجتماعي، فحسب النظرية الماركسية يجب أن لا تفصل حقوق الإنسان عن حالة التطور التاريخي للمجتمع، ففي نظر ماركس لا وجود لحقوق الإنسان إلا ضمن حقوق المجتمع، وقد طرح ماركس على الليبراليين مجموعة من الأسئلة المحرجة فيما يتعلق بالحقوق منها:

ـ ما الحاجة لحق الحرية بالنسبة للذي يوجد في علاقة تبعية كلية لرب المعمل؟

ـ ما جدوى الحق في الملكية بالنسبة لمن لا يملك شيئا؟

ـ ما الحاجة إلى الحق في ضمان الأمن بالنسبة لمن يموت جوعا؟

ـ ما معنى وما قيمة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية إذا لم يتعد الأمر إعلانها إلى ضمانها الفعلي عن طريق إقامة شروط اجتماعية واقتصادية تمكن من ممارستها فعليا؟

ـ ما جدوى الحق في العمل بالنسبة للعاطل الذي لا يمكن أن يجد عملا؟

ومن خلال مناقشة ماركس لقضية حقوق الإنسان كما طرحها الفكر الليبرالي يستنتج ماركس أن عقيدة حقوق الإنسان ليست سوى إيديولوجيا تدافع بالأساس عن القيم الأنانية للمجتمع البرجوازي التي تجعل من الإنسان شخصا معزولا عن الآخرين، بينما هو قبل كل شيء موجود اجتماعي لا يمكن أن يحقق ذاته إلا بالجماعة الاجتماعية وداخلها، أي داخل علاقته مع الناس وبهم، وهكذا: فالحق في الحرية الذي يتم تعريفه بأنه هو "الحق في كل ما لا يضر بالآخرين" هو في العمق حق الفرد في عدم الاهتمام بالآخرين، هو حق الفرد في الانطواء على ذاته بشكل أناني ونرجسي، إنه حق العزل والتفرقة والأنانية كما يرى ماركس، حتى حق الملكية ضمن هذه الرؤية ليس إلا حق الفرد في التمتع بممتلكاته الشخصية دون الاهتمام بالآخرين الذين لا يملكون شيئا.

وهكذا يتضح أن حقوق الإنسان في المجتمع الليبرالي الرأسمالي حسب المنظور الماركسي ما هي إلا حقوق في خدمة مصالح الطبقة البورجوازية الرأسمالية، وبذلك فهي حقوق ذات وظيفة إيديولوجية كما أنها حقوق خاصة بالفرد دون المجتمع.

كل ذلك يؤكد على مدى تحكم الخلفيات المعرفية والفلسفية في مقاربة حقوق الإنسان، وعليه من المعيب تعميم هذا المصطلح على الفكر الإسلامي دون الوقوف على فلسفة الإسلام فيما يتعلق بالإنسان من جهة وما يتعلق بفلسفة الحقوق من جهة أخرى، ومن غير المنطقي الاكتفاء بتعديل المصطلح أو اقتراح مصطلح آخر كما حاول بعض المفكرين اقتراح مصطلح (الكرامة الإنسانية) كمصطلح أكثر انسجاماً مع الإسلام من مصطلح الحقوق.

ونحن هنا لا نغفل عن الجهود الكبيرة التي بُزلت في العالم العربي والإسلامي للتأكيد على حقوق الإنسان، فهناك الكثير من البيانات والمواثيق التي صدرت في العالم الإسلامي لحقوق الإنسان مثل: البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عام 1980. وبيان حقوق الإنسان في الإسلام الذي صدر عام 1980.  وإعلان القاهرة عن حقوق الإنسان في الإسلام عام 1981. والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان الصادر بطهران عام 1989. مضافاً للكتابات العديدة التي نظرت لحقوق الإنسان في الإسلام، إلا أن تلك الجهود في معظمها كانت نتاجاً للتفاعل السلبي أو الإيجابي مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ومن هنا نجد محمد مهدي شمس الدين في إطار تقييمه لمنهجية الكتابات الإسلامية حول حقوق الإنسان، يرى أن تلك الكتابات تنطلق في الغالب من ثلاث خلفيات وهي:

أ – الخلفية الأولى: خلفية الروح الدفاعية: فبعض الأبحاث نصبت نفسها للدفاع عن الإسلام أمام من يتهمه بمخالفة احترام حقوق الإنسان. وعليه فهي بمثابة متهم يدافع عن نفسه.

ب – الخلفية الثانية: خلفية التناظر: وتمثلها الأبحاث التي كتبت لبيان احتواء الإسلام على حقوق إنسانية نظيرة لتلك التي تم الإعلان عنها في الغرب أو من قبل الأمم المتحدة، وعليه فالإسلام ليس شاذا في ذلك أو مخالفا عنه

ج – الخلفية الثالثة: خلفية التظلم: وتتمثل في تلك الكتابات التي يأتي بها أصحابها ليعرفوا من خلالها بكل ما يتعرض له المسلمون من ظلم وانتهاك لحقوقهم لا لشيء إلا لأنهم مسلمين، وذلك بالاحتكام إلى حقوق الإنسان كما أعلن عنها دوليا

ويمكن أن يضاف ايضاً بأن الكتابات التي حاولت التأصيل لحقوق الإنسان في الإسلام، انطلقت من الحقوق المنصوص عليها في المعاهدة الدولية ومن ثم بحثت عن مصدر لها في النصوص الدينية، وهذا النوع من البحث يعد بحثاً انتقائياً لا يسلم من الوقوع في التناقض احياً، وقد يضطر البعض لرفض بعض النصوص أو تأويلها بتأويلات غريبة، فمثلاً نجد البعض قد رفض التمييز بين الرجل والمرأة في الميراث، والبعض الاخر اعتبر الحجاب مخالف لحقوق المرأة لكونه مقيداً لحريتها، وهكذا وجد البعض نفسه في مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع النصوص، والسبب في ذلك هو اهمال الرؤية الشاملة التي تحكم مسار الحقوق في الإسلام، ومن هنا كان من الضروري البحث عن فلسفة الإسلام فيما يتعلق بالإنسان والحقوق بوصفه المسار الذي يرسم خارطة الحقوق في المنظور الإسلامي، فموقف الإسلام من الإنسان هو الذي يحدد المعايير التي تضبط حركة الحقوق والواجبات، ويتم ذلك بمعرفة القيم الكبرى التي تتحكم في الغاية الأساسية من وجود الإنسان، ومن ثم ملاحقة القيم والحقوق المتفرعة التي تصب في خاتمة المطاف في خدمة تلك الغاية المحورية.

ومن الصعب في هذا المقال المحدود الوقوف على كل ذلك، ولذا سنكتفي بالإشارة للملامح العامة لفلسفة الإسلام فيما يتعلق بالإنسان والحقوق، ونضع بعض المعايير التي تشكل الإطار الذي نفهم به الحقوق المفترض مراعاتها وعدم التفريط فيها، ولتكثيف الكلام حول هذه القضايا سنعمل على وضعها في نقاط.

أولاً فلسفة الإنسان في الإسلام:

قيمة الإنسان في نظر الإسلام لا يمكن فصلها عن الخالق، والسبب في ذلك أن قيمة الإنسان ليست في كونه إنسان طبيعي وإنما قيمته في القيم التي يحملها ويتحلى بها، وبما أن الله تعالى هو مصدر تلك القيم فحينها تكون قيمة الإنسان بمقدار ارتباطه بذلك المصدر، وهنا نفهم لماذا أنزلت بعض الآيات قيمة البعض إلى مستوى قيمة الحمار والكلب والانعام؟ والسبب في ذلك هو مفارقة الإنسان للغاية التي وجد من أجلها، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وقوله تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، ولا يمكن فهم تلك الاوصاف على أنها مجرد اوصاف اعتبارية، وإنما هي وصف موضوعي يكشف عن القيمية الحقيقية لأصحابها، وفي مقابل ذلك جعل القرآن الإيمان بالله والارتباط به هو الذي يمنح الإنسان القيمة، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، وقال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، وقال تعالى: (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، وغير ذلك من الآيات التي تمتدح المؤمنين بالله تعالى.

وعليه فإن الإنسان الطبيعي والمادي ليس ذو قيمة بعيداً عن روحه التي تتحلى بقيم الكمال؛ لأن الروح كحقيقة أصيلة في الإنسان هي التي تعشق الكمال وتسمو إليه، فكمال الروح في العلم، والمعرفة، والكرامة، والشرف، وبقية الفضائل والقيم، أما الجانب الطبيعي في الإنسان فلا يحتاج إلى أكثر من الأكل والشرب والسكن والجنس، وقد وفرت الطبيعة للإنسان كل ذلك حتى عندما كان بدائياً لا يمتاز كثيراً عن الحيوان، ومن هنا فإن حصر الإنسان في جانبه الطبيعي واهمال الروح ضياع للقيمة الحقيقية للإنسان.

ويمكننا أن نؤكد أن عشق الإنسان للقيم وتطلعه للكمال نابع من إيمان الإنسان بالله وبأسمائه الحسنى، ومن هنا كان كمال الإنسان عن طريق الاتصال بالله ومن ثم التخلق بأخلاقه، فأعظم ما يتطلع له الإنسان هو تجاوز الأنانيات الضيقة والتحول إلى حالة أسمى وأرفع، وذلك لا يكون إلا بعد الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى، فمحدودية الإنسان من جهة واطلاقية القيم من جهة أخرى تفرض عليه تجاوز الذات والمادة للبحث عن مصدر هذا الإطلاق، فمثلاً العلم كقيمة مطلقة، أو العدل، أو القدرة، أو الرحمة، وغيرها من قيم الكمال، تتضمن أطلاقاً لا يجده الإنسان في عالم المادة ولا يلمسه في واقع الشهود، وفي الوقت نفسه يؤمن باللامحدودية لهذه القيم، فلا يفهم الإنسان هذا الإطلاق إلا إذا تعلق بالله وآمن به، فارتباط هذه القيم بالله عبر أسمائه الحسنى مثل العليم، القدير، الرحيم، وغيرها من الأسماء، يجعل خيار الإنسان محصور في الارتباط بالله من أجل التخلق بأخلاقه.

وبالتالي الإيمان بالله في حقيقته تحديد لمسار الإنسان، فبدل أن يكون مسار الإنسان نحو الذات يكون مساره نحو الله، وقيمة حياة الإنسان بقيمة الهدف الذي يسعى إليه، ومن هنا كانت حياة الإنسان بين مسارين، بين حبه لله وحبه لهواه، أي بين أن تكون حياته لها قيمة وبين أن تكون القيمة هي الأنا والشهوة، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)

فإذا كان الإنسان مفطوراً على حب الكمال فهو مفطور قبل ذلك على حب الله تعالى، والإيمان بالله ليس إلا استحضاراً لهذا الحب في القلب، ومن هنا كان أول ما يتفرع من الإيمان هو الحب، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: هل الدين إلا الحب؟! إن الله عز وجل يقول: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلهِ) ومن هنا لا يمكن أن نفهم حقاً للإنسان يتعارض مع محبته لله تعالى، فالحقوق التي لا يكون أساسها الحب تكون وبالاً على الإنسان، قال تعالى: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ)، وعلى ذلك لا يمكن أن يكون من حقوق الإنسان الكفر أو القيام بما يجعله في حالة من التحدي للخالق سبحانه وتعالى.

ويتفرع من حب الإنسان لله حبه لمخلوقاته التي هي مظهراً لقدرته وجماله، وبذلك تكون الحقوق مشتركة دون تفرقة أو تمييز، فلا يتمتع بها إنسان العالم الأول بينما يحرم منها إنسان العالم الثالث، والضمان لتحقيق ذلك هي الحقوق النابعة من محبة الله ومحبة مخلوقاته، فالجميع خلق لله وليس نتاج الطبيعة وقانون البقاء للأقوى وتمايز الأنواع والأعراق البشرية.

وبذلك يمكننا الجزم بإن هناك إله في وجدان كل إنسان يمثل مطلق الكمال والجمال، ولو لا ذلك لما تطلع الإنسان وتسامى بروحه لذلك الكمال، والله هو الذي تجلى بأسمائه الحسنى في هذا الوجود، وكلما تفكر الإنسان وجد جماله وكماله ظاهراً في كل زاوية من زواية وجوده وحياته، فكل أسم من أسمائه الحسنى هو في الواقع قيمة كمالية للإنسان، فالذي يكسب جسده على حساب روحه حتماً ضاعت منه إنسانيته، ومن هنا كان الكفر بالله هو كفر بالإنسان.

وبذلك يكون التوحيد في نظر القرآن هو الأساس الذي يبني عليه الإنسان رؤيته في الحياة، بحيث لا يمكن إيجاد رؤية لها علاقة بالإنسان اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وغير ذلك مالم تكن هذه الرؤية ملتفته لطبيعة الإنسان المخلوقة، ومن هنا فإن الانحراف الذي نرصده في بعض التوجهات الفكرية سببه الجهل بحقيقة الإنسان المخلوق لله تعالى، فكون الإنسان جاء إلى الوجود كتعبير عن إرادة الله يشكل الأساس الذي نفهم به قيمة الحياة ومن ثم قيمة الإنسان فيها.

 والإنسان بوصفه مخلوقاً يمتلك إرادة خاصة ينحصر مساره حينها بين السير في الاتجاه الذي يخالف إرادة الخالق، وفي المسار الذي يجعل حياته تتناغم مع تلك الإرادة في حالة من الانتظام الكامل مع سنن الحياة والوجود، قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، وبالتالي مصير الإنسان مرتبط بفهمه لمعنى الحياة، ونقطة البداية لهذا الفهم هو اعتراف الإنسان بخالقه وإيمانه بربوبيته، وحينها يدرك الإنسان أن هناك إرادة إلهية ترسم له أهداف وجوده، والإنسان هو الذي يتحمل مسؤولية إنجاز تلك الأهداف، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، وهذه الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال قد حملها الإنسان لكونه يمتاز عن غيره بالعقل والإرادة، فوجود الإنسان وكرامته رهينة لتحمله لتلك الأمانة التي جعلته مخلوقاً مريداً يسعى للانسجام مع الحِكمة العامة التي يسير عليها كل الوجود، وألا يكون ظالماً لنفسه وجاهلاً بحِكمة خلقه، وفي المحصلة يمكننا القول إن الحياة قائمة على فلسفة تبدأ من معرفة الإنسان بخالقه.

ونستفيد مما تقدم إن الإنسان مخلوق له غاية، وتلك الغاية لا يمكن أن تفهم دون الارتباط بخالق الإنسان والحياة، فالله واسمائه الحسنى هو مصدر القيم والغايات التي خلقت الحياة من أجلها، ومن هنا فإن كل الحقوق والتشريعات تكتسب أهميتها من ارتباطها بتلك الغايات، فلا يكون لوجود القانون مبرر مالم يكن محققاً لقيمة من تلك القيم، ولذلك كانت قيم الدستور ومبادئه تمثل الأساس لجميع القوانين والأنظمة والتشريعات، والأمر نفسه في ما يتعلق بمجمل الحياة الإنسانية، فالحياة بمجملها لها قيم تمثل مرجعاً دستورياً لنظم الحياة وقوانينها، وليس من حق الإنسان أن يرسم حياته بحسب ما تمليه رغباته وشهواته، وإنما يجب أن يبني حياته بما يتفق مع قيم الحياة وغاياتها، وبذلك يمكننا القول إن بداية التفكير في حقوق الإنسان يجب أن تبدأ من معرفة القيم الحياتية بوصفها مرجعاً دستورياً لتلك الحقوق، وبذلك نكون قد مهدنا الطريق للنقطة الثانية وهي فلسفة الحقوق في الإسلام.

ثانياً فلسفة الحقوق في الإسلام؟

أتضح أن الحقوق في الإسلام تستمد جذورها من فلسفة وجود الإنسان، فغايات الحياة وقيمها هي التي تمثل المرجع الدستوري لجميع الحقوق والواجبات، وفي قمة الهرم القيمي يتجلى نور التوحيد، ثم أسماء الله الحسنى، وبعدها يأتي دور الإيمان كصلة بين الحق والخلق، ومن الإيمان تجري روافد الحقوق والواجبات، لأن الإيمان في واقعه هو التسليم للحق، وفي البدء التسليم للحي القيوم الذي به قامت السماوات والأرض، ثم التسليم لأسمائه الحسنى التي تتجلى في الطبيعة سنناً وفي الإنسان مُثلاً وفضائل وقيماً.

والإيمان في واقع الأمر تعبير آخر عن الاعتراف بالحق؛ لأن ثقة العقل بمعارفه هي التي تحقق التسليم بوجود الأشياء وبالتالي الإيمان بما للأشياء من حقيقة وحقوق، فحين تؤمن بوجود شخص لا بد أن تعترف بحقه في الحياة، كما تعترف بحقه في أن يعيش كريماً، وهكذا جميع حقوقه الضرورية والكمالية، فالاعتراف بالآخر هو بداية العلاقة القائمة على الحقوق الموضوعية؛ لأن هذا الاعتراف يعتبر بذرة الحقوق في العلاقة مع الآخر، وهذه هي حِكمة المعرفة وثمرة العقل، فمن دون الإيمان بحقيقة الأشياء وواقعيتها يستحيل التواصل معها والتكامل بها، فكل شيء موجود يعتبر ذا حق، لأننا نعترف به، وبالتالي علينا أن نتكيف معه. فمثلاً الطبيعة موجودة، وحقها الاعتراف بها، فقد نسخرها لمصلحتنا، وهذا حقنا عليها، وقد نحافظ عليها ونرعاها وهذا حقها علينا، لأن اعترافنا بها يستدعي التكيف معها بصورة أو بأخرى. وهكذا تأتي شرعية الحقوق حسب هذه الفلسفة ولكن ليس من باب منفعة الشـيء للذات وإنما من باب الاعتراف بوجوده كشيء موضوعي قائم وله حقوق كما له حقيقة، وبذلك يتحول الإيمان بالله وبخلقه إلى قاعدة الحقوق التي تبنى عليها العلاقة مع الآخر، ومن الواضح أن الإيمان يشمل الإيمان بالغيب والإيمان بالشهود، أي حقوق الله وحقوق الناس.

وإذا رجعنا للقرآن الكريم نجد أن الأساس في العلاقة بين الناس هو اعتراف بعضهم بالبعض الآخر قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أن التدبر في كلمة تعارفوا يقودنا إلى أن المقصود ليس مجرد المعرفة النظرية كأن نعرف مثلاً أن هناك شعوباً عربية وأسيوية واوربية وغير ذلك، وإنما المقصود المعرفة التي تقود للاعتراف بحقها في الوجود والحياة، ففي الرواية (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) فالمؤكد أن المقصود من معرفة امام الزمان هي المعرفة التي يترتب عليها الأثر وليس مجرد المعرفة الذهنية، فمن يعرفه ولا يرتب أثر على تلك المعرفة لا يختلف عمن لا يعرفه بالمرة، وبذلك يكون منظور الحديث من مات ولم يعترف بإمام زمانه مات ميتة جاهلية، وهكذا الحال في هذه الآية، فالاعتراف بالتنوع في الواقع البشري هو الذي يرسم حدود العلاقة فيما بينهم، وقد فصلت هذه الآية بين هذه الحقوق وبين القيمة الحقيقية للإنسان، فقد أكد زيل الآية على أن اكرم الناس عند الله هو المتقي (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وكلمة عند الله تكشف عن أمرين، الأول: أن الله وحده هو العالم بالمتقي حقيقتاً، والثاني: أن ترتب الأثر على هذه القيمة يكون عند الله وليس عند البشر، بالتالي لا يكتسب المتقي حقوق إضافية تزيد على حقوق الآخرين، وإن الحق الذي يناله بسبب التقوى يكون في يوم القيامة وليس في الدنيا، ومع ذلك لا تسقط التقوى من الاعتبار الدنيوي بالمطلق وإنما تتحول إلى معيار لبقية الحقوق فإي شيء يتعارض مع التقوى لا يعد حقاً من الحقوق، بمعنى أن كل فعل يمنع الإنسان من تحقيق هذه القيمة لا يعد حقاً من حقوق الإنسان، وسوف نؤكد على هذا الأمر في النقطة التالية.

ثالثاً العمل الصالح وعدم الفساد كأسس للحقوق:

 الإيمان الذي يعد أساساً للحقوق هو الإيمان الذي يتجلى في السلوك العملي للإنسان، ومن هنا نفهم الربط الوثيق بين الإيمان والعمل الصالح في معظم الآيات تقريباً، قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، وقال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)، وقال: (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ)، وقال: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) وغير ذلك من الآيات التي تجعل العمل الصالح ثمرة الإيمان بالله تعالى، وفي المقابل حذر القرآن من الاتجاه الذي يعاكس العمل الصالح وهو الفساد في الأرض، قال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)، وقال: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، وقال: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، وقال: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، وقال: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)، وقال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، وغير ذلك من الآيات التي جعلت الفساد ثمرة الكفر بالله تعالى، وعليه فإن عدم الفساد يعد معياراً ضرورياً لجميع الحقوق، فالإسلام لا يعترف بأي حق يؤدي إلى الفساد، سواءً كان فساداً اجتماعياً مثل حق المثلية أو حق العلاقات خارج إطار الزوجية أو حق المرأة في أن تلبس ما تشأ أو غير ذلك من الحقوق التي تؤدي إلى مفاسد اجتماعية، أو كان فساداً اقتصادياً مثل الحق الذي يجعل الشخص حر في فعل ما يشاء بأمواله مثل نوادي القمار والتعاملات الربوية والسماح للسفهاء أن يفعلوا بأموالهم ما يشاؤون أو غير ذلك من المفاسد المالية، وهكذا فساد البيئة والمناخ الناتج من حق الدول في استهلاك ثروات الأرض وتوظيفها بالشكل الذي يؤثر سلباً على الحياة البيئة على كوكب الأرض، كل تلك الحقوق لا يمكن الاعتراف بها لأنها نوعاً من الفساد المنهي عنه شرعاً.

وبذلك نفهم لماذا ربط القرآن بين قيمة الإنسان وبين التقوى؟ والسبب في ذلك أن التقوى هي التي ترسم حركة الإنسان ضمن إطار العمل الصالح، ومن هنا لا يعترف الإسلام بحقوق للإنسان نابعة من الطبيعة إذا لم تراعي تلك الحقوق غايات الإنسان وأهدافه في الحياة، وهكذا يتضح أن الإسلام له معاييره الخاصة فيما يتعلق بالحقوق فنجده يحرم بعض الحقوق التي تجيزها مواثيق حقوق الإنسان ويحلل بعض الأمور التي تعارضها تلك المواثيق، والسبب في ذلك هو امتلاك الإسلام لرؤيته الخاصة فيما يتعلق بفلسفة الحياة، والإنسان، والحقوق، وبالتالي لا نسلم ببعض الإشكالات التي تثار على حقوق الإنسان في الإسلام مثل حق المرأة في عدم لبس الحجاب او مساواة المرأة بالرجل في الميراث أو حقوق المثليين أو بعض الاعتراضات على بعض الحدود الإسلامية مثل الجلد والرجم والقصاص أو غير ذلك، فإن جميع هذه الإشكالات تهمل النظر في معياري العمل الصالح والفساد في الأرض بوصفهما الضابط لتلك الحقوق، ومع أن هناك الكثير من الكتابات المقدرة في شرح فلسفة الإسلام في كل هذه القضايا، إلا أن فهم معياري العمل الصالح وعدم الفساد في الأرض بوصفهما الضابط للحقوق هما اللذان يرفعان تلك الإشكالات، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون)، وما دون ذلك فهي حقوق مباحة يجب توفيرها والمطالبة به.

 

2022/11/29

عمر الأرض ملايين السنين: هل خلق الله الإنسان متأخراً؟!
أولاً: كون الأرض مخلوقة من أجل الإنسان أمر ثابت بالعيان، فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على تسخير الأرض بما فيها من مخلوقات، وليس هناك من المخلوقات التي تسكن الأرض من هو أحق من الإنسان في خلافة الأرض ووراثتها.

[اشترك]

وقد أكد القرآن هذه الأمر في عشرات الآيات مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)، وقال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)، وقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

ثانياً: هناك نسبية في موضع حساب عمر الأرض، فتارة يتم النظر لتاريخ الأرض من حيث وجودها الفعلي، وتارة يتم النظر إلى تاريخها من يحث وجود الإنسان فيها، والكلام عن قيمة الأرض ودواعي وجودها لا يمكن فهمه من خلال وجودها الفعلي وإنما من خلال وجود الإنسان فيها؛ وذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي وجوده ويعي وجود الموجودات من حوله، بل الأشياء لا تكتسب من الوجود إلا بمقدار تموضعها في الوعي الإنساني، وعليه فإن الكلام عن قيمة الأرض يأتي وفقاً لقيمتها بالنسبة لحياة الإنسان، ومن هنا كان من البديهي أن نقول إن الأرض خلقت من أجل الإنسان لكونه الكائن الوحيد الذي يعطي لوجود الأرض قيمتها، فعندما نتساءل من أجل من خلقت الأرض؟ فإن هذا السؤال يتوجه لمن له القدرة على الوعي والاستنتاج، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه الإجابة على هذا السؤال، وبالتالي لا وجود لمن هو أولى منه حتى تكون الأرض خلقت من أجله وليس من أجل الإنسان، وعليه فإن وجود الأرض قبل وجود الإنسان لا يؤثر على طبيعة الإجابة على هذا السؤال طالما الإجابة عنه مرتبطة قهراً بوجود الإنسان، ولا يمنع ذلك من وجود حِكمة عند الله تعالى إلا أننا نتكلم عن الحِكمة المرتبطة بوعي الإنسان وإدراكه.

ثالثاً: قد يجيب البعض عن ذلك بوجود بشر قبل آدم (عليه السلام)، ولا يتوقف هذا الأمر على الاعتراف بنظرية التطور الداروينية، كأن يقال إن الله خلق بشراً قبل آدم وأسكنهم الأرض كما خلق آدم، وقد جاء في بعض الروايات إشارة إلى ذلك كما في رواية أمير المؤمنين (عليه السلام) (إن الله خلق ألف آدم قبل آدمكم ........)، ومع وجود مثل هذه الروايات لا يمكن الوصول إلى نتيجة قطعية، لكونها من الأمور الغيبية التي لا يصل فيها الإنسان إلى اليقين لغياب الأدلة والواضحة والصريحة.

 رابعاً: فيما يتعلق باتساع الكون لابد للإنسان أن يعترف بعجزه، فليس بمقدوره أن يحيط علماً بكل شيء وقد قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً)، فما يعلمه الإنسان بالجملة هو وجود ترابط بين جميع أجزاء هذا الوجود وعلى الأقل يعلم بوجود ترابط بين أجزاء المجموعة الشمسية، ولكنه لا يعمل تفصيلاً تأثير هذا الترابط على حياة الإنسان في الأرض.

خامساً: عبادة الله تعالى تمثل الحِكمة من وجود جميع البشر، وليس من شأن كل إنسان أن يضع لنفسه الحِكمة التي تناسبه، وقد تحدثنا في أجوبة سابقة عن فلسفة العبادة والحِكمة منها.

2022/11/28

هل خلق الله الشر في الإنسان؟!
اختلفت وجهات النظر حول الخير والشر في الطبيعة الإنسانية، وهناك نظريات متباينة حول هذه الطبيعة النظرية الأولى ترى إن الشر أصيل في الإنسان وأن الخير طارئ عليه، وقد يميل الاتجاه المتشائم في المسيحية إلى هذا الرأي.

[اشترك]

والنظرية الثانية عكس النظرية الأولى حيث ترى أن الخير هو الأصيل والشر هو الطارئ، فالإنسان بطبعه خيّر إلا أن ظروف الحياة هي التي فرضت عليه النزعة الشريرة، وقد يميل بعض المسلمين لهذه النظرية، وهناك ورقة بحثية مقدمة إلى المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي في مكة المكرمة يوم 2 أبريل 1977م، قدمها الشيخ جعفر شيخ إدريس من السودان، جاء فيها: (نخلص من كل هذا إلى أن الرأي الصواب هو الرأي الثالث القائل بأن الإنسان ذو فطرة خيرة وأن الشر أمر طارئ عليه ومجاف لفطرته. هذا هو الرأي الموافق للواقع الذي نعرفه، والمؤدي إلى نتائج مقبولة، وهو الأمر الذي يقول به الدين الحق)

النظرية الثالثة ترى أن الإنسان يأتي للوجود كالصفحة البيضاء خالياً من عناصر الخير والشر، وفي هذه الحالة يصبح الخير والشر كليهما من الأمور المكتسبة، إلا أن هذه النظرية لا تكون واضحة مالم تكن في طبيعة الإنسان شيء يدفع الإنسان إما للخير وإما للشر، الأمر الذي يعيدنا للسؤال من جديد هل الإنسان بطبعه خيّر أم شرير.

والذي يبدو لنا أن هذه الإجابات وقعت في فخ السؤال الذي افترض أن طبيعة الإنسان مرددة بين كونها خير أو شر، وهذا ما لا يمكن التسليم به لوجود فرق بين قدرة الإنسان على صنع الخير والشر وبين أن تكون الطبيعة الإنسانية بذاتها خير أو شر، ولفهم ذلك يجب أن نسأل:

هل الأشياء هي التي تتصف بالخير والشر أم الأفعال هي التي تتصف بذلك؟

فمثلاً هل السكين هي التي تتصف بالخير أو الشر أم الفعل الذي يتعلق بها هو الذي يتصف بذلك؟ وكذلك الحال في الحشرات مثل العقارب والزواحف مثل الثعابين والحيوانات المفترسة مثل الأسود وغير ذلك من الأمثلة، فإن كل ذلك ليس شراً في طبيعته وجوهره وإنما بعض افعالها هي التي تتصف بالشر، وهذا خلاف وصفنا مثلاً للدم بالنجاسة والماء بالطهارة فإن ذلك يعد وصفاً لذات العين وليس شيء آخر، فلا يقال الفعل الفلاني نجس أو طاهر وإنما يقال العين الفلانية هي النجسة أو الطاهرة، ومن هنا يجب أن لا يتعلق السؤال عن الخير والشر بالإنسان كعين وذات وجوهر، وإنما يجب أن يتعلق بالأفعال الصادرة عن الإنسان.

كما أن حقيقة الإنسان ضمن فلسفة الإيمان بالله هي أن الله خلق الإنسانة قبضة من طين ونفخة من روح، وبالتالي لا يحكم فعل الإنسان ميل واحد، فالإنسان في المنظور القرآني كائن مركب من عقل ومن شهوة، والعقل في الإنسان يمثل مركز القوة والتميز، فمن خلاله يعرف الحق ويتسامى على الأنا وحب النفس، بينما تمثل الشهوة مركز الضعف عند الإنسان، فبها يحب نفسه ويندفع إلى هواه فتكون بذلك مصدراً للأنانية والحرص والطمع والحسد وكل الدوافع الشريرة

وعليه فالإنسان ليس عقلاً مجرداً بلا شهوة، كما أنه ليس شهوة مجردة بلا عقل وبالتالي الإنسان له القدرة على فعل الشر كما له القدرة على فعل الخير ولا يمكننا القول إن الإنسان بعنصره وطبيعته خير أو شر، ومن هنا لا نتفهم السؤال الذي يقول هل خلق الله نزعة الشر في الإنسان؟ لأن الشهوات ليست شرور بذاتها وإنما توظيف الإنسان لتلك الشهوات هو المسؤول من جعلها خير أو شر، فلا وجود لنزعة متأصلة تسمى بنزعة الشر وكل ما هو موجود هو الشهوات التي يمكن أن تكون مصدراً للشرور كما لا يمكن أن تكون، وعليه فإن السؤال الصحيح هو قولنا هل أقدر الله الإنسان على فعل الشر؟ والاجابة على ذلك نعم.

2022/11/22

هل يجب أن يتناغم الدين مع الحياة أم يبقى سجين التاريخ؟!
لا يمكن أن نفهم الدين إلا بوصفه أمل الإنسان لحياة أفضل، وأي فهم لا يعزز قيمة الحياة ولا يدفع الإنسان نحو إعمار الأرض على أساس قيم الحق والفضيلة، هو فهم لا علاقة له بالإسلام ولا يمثل ما أراده الله من كرامة للإنسان.

[اشترك]

أما ما عليه واقع المسلمين من رجعية وتخلف لا يمكن الدفاع عنه أو التبرير له، وما تقوم به التيارات اللا دينية من تهريج حول هذه الصور السلبية فهي ليست إدانة للإسلام بقدر ما هي ادانة للإنسان سوى كان مؤمن أو ملحد لأن الجميع يعيش في هذا التخلف والانحطاط. 
ولكي نقف على الصورة المشرقة للدين لابد أن نبحث عن البداية التي تقودنا إلى تحقيق ذلك، وقد أشار الإمام علي عليه السلام إلى تلك البداية بقوله: (أول الدين معرفته) فمعرفة الله هي التي تحقق لنا فهماً حقيقياً للدين، وأي خلط في هذه المعرفة سوف ينعكس سلباً على معرفتنا بالدين وبالحياة معاً، فالمعرفة النظرية التصورية التي تظل حبيسة الكتب الكلامية هي المسؤولة عما وقع من افراغ للدين عن محتواه الأصيل.
فمن المؤكد أن هناك مساحة فاصلة بين معارف الإسلام وعقائده وبين واقع المسلمين، ولا يمكن تقديم معالجات فاعلة إلا من خلال إعادة الوعي بتلك العقائد، ولا نقصد الوعي الذي يستحضر الأدلة الاثباتية وإنما الوعي الذي يستحضر المحتوي القيمي والثقافي لتلك العقائد، وقد عبر القرآن عن هذا الوعي بالبصيرة، فالعقيدة ليست مجرد معرفة للحقيقة وإنما اتخاذ موقف يقوم على تلك الحقيقة، فالهدف من المعرفة ليس مجرد التعرف على الأشياء، وإنما هو تحديد مسؤولية الإنسان اتجاهها، وعليه يمكن أن يكون الشيء معروفاً للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن هو الذي يمتلك فيه البصيرة دون الكافر، ويبدو أن كلمة البصيرة في القرآن هي التي تؤكد على الجانب العملي للعقيدة، ومن خلالها نفهم المقصود من قوله تعالى (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وقوله: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وهذا لا يتحقق بمجرد الاعتقاد بوجود إله وإنما بحضور هذه الاعتقاد بشكل ملموس في حياة الإنسان، فالاعتقاد بالله والتسليم له يعني التمرد على كل سلطة أرضية، وبذلك يصبح الإنسان حراً طليقاً لا تقيده شهوة ولا يرهبه طاغوت، قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) فالإنسان في الحياة أما أن يكون فاعلاً فيها وإما أن يكون منفعلاً بها، والاعتقاد بالله وحده هو الذي يحرر الإنسان من اغلال الحياة وضغوطها، وبذلك يصبح العقل هو المتحكم في خيارات الإنسان، وعندها يكون الإنسان أكثر وعياً لمسؤولياته واكثر قدرة على اعمار الأرض على أساس الحق والفضيلة.
وعليه يجب البحث عن الله الذي تجلى عبر اسمائه الحسنى في الحياة، وتجلى مره أخرى في آيات كتابه وأحكام شريعته، وحينها سوف نرى الكون في الكتاب، ونرى الكتاب في الكون؛ والإنسان هو الكائن الذي يحُدث هذا التلاقي عندما يتحول الكون عنده كتاباً مقروءاً، ويتحول الكتاب بين يديه كوناً متحركاً، والعقل هو الذي يقوم بهذا الدور فعندما يتدبر في آيات الكون سوف يجدها سنناً وحِكماً، وعندما يتدبر في آيات الكتاب سوف تتمثل أمام ناظريه كوناً متحركاً. 
وللتأصيل لهذا الأمر لابد أن نبحث عن جذور الانحراف في الوعي الديني، والمؤثرات التي جعلت الدين صورة جامده غير متفاعلة مع طموح الإنسان وتطلعاته، وربط كل ذلك بمعرفة الله وما تسرب في هذا الحقل من أفكار جعلت معرفة الله مجرد قناعات ذهنية منفصلة عن واقع الحياة، وبهذه الطريقة يمكن الكشف عن التصور المعرفي الذي يستقيم مع العلم والعقل ويحقق التفاعل الإيجابي مع الحياة، حيث لا يمكن أن نتصور أن هنالك ديناً جاء من اجل الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً ثم يأمره بمخالفة العقل، فالدين الذي لا يُعطى فيه العقل حيزاً محورياً لا يكون الإنسان هو المقصود باتباعه.
فإما أن نفهم الدين في الإطار الذي يعزز نقاط القوة عند الإنسان، فيأمره بالعقل والعلم، ويشجعه على تطوير القدرات، ويأمره بالانفتاح على الحياة ببصيرة واعية، وإما أن نفهمه حملاً ثقيلاً يمنع الإنسان من ممارسة دوره في الحياة، وعندها يجب أن لا نوجه اللوم إلى من يتخلى عنه ويبحث عن غيره.
ويبدو أن استبعاد العقل عن الدين هو المسؤول عن وجود نوع من التنافر بين الدين والحياة، وحتى يعود ذلك التناغم لابد من إعادة الاعتبار للعقل لكونه الوسيلة الوحيدة القادرة على فهم الدين والحياة معاً، وبالتالي يجب التأكيد على أن العقل هو البداية لأي تأسيس معرفي، حيث لا يمكن تشكيل وعي حقيقي، يعبر عن مشروع الإسلام ودوره الحضاري إذا استُبعد العقل، أو على الأقل لم يضع العقل في الإطار الذي يجعله منتجاً، وعليه لا يمكن الاعتراف بأي خطاب إسلامي يعمل على عزل الدين عن الحياة.
ومن الواضح إن المسلم المعاصر لم يساهم في إنتاج تصوره الخاص بالإسلام، فمعظم فهمه عبارة عن موروث تاريخي تم انتاجه بعيداً عن شروط الواقع الراهن، ومن هنا ليس من السهل مقاربة الإسلام اليوم بعيداً عن عمقه التاريخي الذي تشكل فيه.
ويبدو أن المسافة التي تفصل بين المسلم اليوم وبين متطلبات الحاضر، والتي ساعدت في تحجيم تفاعله مع ضرورات العصر، ترجع بشكل أساسي إلى الرؤية الثقافية التي وقعت رهينة للتاريخ، فالتفكير الذي لا يكون إلا بالرجوع الدائم إلى الوراء، أو الذي يحاكم الواقع بمعايير الماضي، سيكون عقبة أمام حركة الإنسان وصيرورته.
ولا نتجاهل بهذا الوصف المحاولات الاجتهادية المعاصرة التي سعت إلى جعل الإسلام أكثر انسجاماً وواقعية، إلا إنها جهود محدودة لم تتحول إلى خيار تتبناه كل الأمة؛ بل قد تكون مرفوضة من الإسلام الكلاسيكي الذي يمثل التيار العريض من الأمة، فالوصف الذي نرى أنه أكثر موضوعية وواقعية هو الوصف الذي يعترف بالحضور التاريخي أكثر من حضور الواقع، ولا ينحصر ذلك فيما يتعلق بحجم التراث فحسب، وإنما فيما نجده من نمط تفكيري لا يستطيع مقاربة الواقع إلا بشروط تاريخية. 
وهذا الحضور التاريخي هو المسؤول عن تلك الانقسامات والتباينات بين أبناء الأمة، كما أنه مسؤول ايضاً عن التراجع الحضاري لمعظم المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي يجعل إيجاد مقاربة للعلاقة بين الحاضر والتراث من أهم المسؤوليات التي تواجه المسلم المعاصر.  
والتاريخ وإن كان محطة سابقة تجاوزها قطار الزمن، إلا أن ظلاله لا تنفك تلاحق الإنسان في كل المحطات التي تأتي لاحقاً، ومن هنا كان اهمال التاريخ بالمطلق واستبعاده بالمرة يعد خياراً غير مستوعب لحقيقة الإنسان الذي لا يمكن فصله عن ماضيه، وبخاصة في ما يتعلق بالإسلام الذي كانت تجربته الأولى تجربة تاريخية، ومع ذلك فإن الجمود على الماضي واهمال الواقع الراهن يؤدي إلى ضياع حاضر الإنسان ومستقبله.
فهناك فاصل معرفي بين المسلم اليوم والمسلم الأول، وهو فاصل تفرضه طبيعة الإنسان، وطبيعة الواقع المتغير، الأمر الذي يؤدي إلى اختلاف في البنية الثقافية بينهما، وإهمال هذه الخصوصيات شبيه بإعدام الواقع الراهن وتجاوز كل مكوناته.
ومن ذلك يبدو أن الإنسان المسلم بين ثلاث خيارات، الخيار الأول: هو أن يتبنا تديناً عقلانياً يجمع بين النص والعقل، بمعنى أن يعيش الحياة كمسلم متدين ضمن ظرف الواقع الراهن، فيحقق بذلك وعياً إسلامياً أصيلاً يوجد من خلاله الانسجام التام بين الدين والحياة. 
والخيار الثاني: أن يكفر بالإسلام بوصفه فكراً تاريخياً لا يتماشى مع الحياة المعاصرة للإنسان، وهو بالتأكيد خيار باطل لأن الكفر بالإسلام هو كفر بوجود قيمة للحياة من الأساس.
والخيار الثالث: هو الانتصار للإسلام التاريخي ضمن الرؤية السلفية التي لا تسمح بالتواصل العقلي مع متطلبات الحياة العصرية، ويبدو أن ذلك الخيار هو المسؤول عن عدم التناغم بين الدين والحياة، ومع ذلك فإنه خيار تقف خلفه مؤسسات لها إمكاناتها الضخمة. 
وعليه فمن الضروري التأكيد على أن الخطاب الإسلامي المعاصر، بحاجه ماسة لتفعيل دور العقل، وجعله أكثر حضوراً في تشكيل وعينا الراهن بالإسلام، وضرورة العقل ليست فقط من أجل الوعي بالمرحلة وعناوينها المصيرية، وإنما أيضاً ضرورة لفهم الإسلام ضمن عناوينه الكلية. 
وفي المحصلة لا بد أن نعترف بوجود أزمة على مستوى الخطاب الإسلامي بشكل عام، وبالتالي  لابد من تفكيك الإسلام التاريخي بمنهجية واقعية، وبعقلية منطقية، وبروحية علمية، حتى نتمكن من بناء رؤية إسلامية تجعل الإسلام اكثر حضوراً في الحياة، فالتكامل بين الوحي والعقل هو الضمان لتحقيق فهم إسلامي مستوعب لكل قيم الدين وحِكمه، وبالتالي  ينضبط العقل بهذه الحِكم، ويسترشد بهذه القيم في ملاحقته للواقع، فبدون الوحي المذكِّر بهذه القيم تغيب الضوابط التي تحدد مسار العقل، وبدون العقل تصبح هذه القيم حالة مثالية ليس لها علاقة بالواقع؛ لأن العقل هو الذي يكتشف الواقع المتغير، وهو نفسه الذي يقوم بإرجاع تلك المتغيرات إلى القيم التي يذكِّر بها الوحي. 
هذه التكاملية هي التي تمنح الدين حالة الاستمرار، بحيث يصبح في حالة من الانسجام الدائم مع تطورات الحياة، ومن هنا لا يكون الفهم الحيوي للإسلام ضرورة تفرضها الظروف؛ وإنما ضرورة تفرضها طبيعة الرسالة، ولكن ليس بوصفها طبيعة تاريخية، وإنما بوصفها طبيعة ارتبطت بالعقل في اول لحظة التكون.

2022/11/21

هل استبدال الدين بالعلمانية أفضل للعالم؟
يرتكز هذا السؤال على أن العلمانية وفصل الدين عن الدولة هو الذي مهد الطريق أمام الحضارة الحديثة، ويبدو أن ذلك اختزال مخل للطموح السامي الذي يسعى الإنسان لتحقيقه، وفي نفس الوقت تحجيم للإسلام وابعاده عن الأدوار الأساسية في الحياة.

فالإسلام ليس مجرد هوية مجتمعية يمكن تبديلها بهوية اجنبية وإنما يمتلك الإسلام رؤية معرفية وإطار فكري شديد التأثير والفاعلية، فمصادرته تعني مصادرة الإنسان بكل ما يحمل من تاريخ وحضارة وخبرة طويلة في المجال الفكري والثقافي، فالإسلام كنظام معرفي ومبادئ قيمية يستعصي على التهميش والإهمال، والفشل الذي رافق الفكر الكنسي في قدرته على الصيرورة والمواكبة، لا يمكن تعميمه على الإسلام، وبالتالي نقل تجربة الصراع العلماني مع الكنيسة إلى الصراع مع الإسلام محاولة غير ناضجة؛ لأنها تنطلق من فهم غير حقيقي للإسلام عمل على مقايسة الإسلام بالمسيحية، فالكنيسة شكلت في تلك الفترة عقبة حقيقية أمام التقدم العلمي في حين أن الإسلام وبكل مبادئه وتوصياته يشجع على البحث العلمي ويفتح الطريق أمام ابداع العقل الإنساني، وإشكالية العلمانية العربية هو إصرارها على تعميم الموقف الكنسي على الإسلام، فالعلمانية العربية مستلبة فكرياً وثقافياً بما حدث في عصر التنوير في أوربا، فبدل أن تعمل على تأسيس خطابها الخاص المتناسب مع البيئة الثقافية للإنسان المسلم، نجدها تصر على استيراد ذلك الخطاب الذي انتجه عصر التنوير في قبال الكنيسة، فكرست جهدها على محاربة الإسلام بحجة أنه مخالف للحداثة والتطور، في حين أن السلام لم يمنعهم من ذلك ولم يقف حجر عسرة أمام تطلعاتهم كما فعلت الكنيسة.

ومن الأمور التي يروج لها الفكر العلماني هو تحديد الإسلام وحصره بالقراءة السلفية، لكي يسهل ضربه ومصادرته عندما يفشل أمام متطلبات الحاضر، وهذا تحامل غير مبرر لأن الإسلام ضمن القراءات الأخرى يتمتع بقدرة كبيرة على استيعاب المتغيرات وتوظيفها حضارياً، وبالتالي هناك مقاربات إسلامية اكثر نضجاً وفهماً لتحديات الواقع المعاصر، كلها تسعى لتقديم تصور للإسلام يتسم بالأصالة والانفتاح، وما تعنيه الأصالة ليس تحجراً ورجعية؛ وإنما اصالة الدين المنبعث من اصالة القيم، وما يعنيه الانفتاح ليس تبعية واستسلام؛ وإنما انفتاح ببصيرة العقل المستبصر بالوحي. 

فليست الإشكالية الثقافية هي عدم الاعتراف بالصيرورة فحسب كما عند السلفية - وإن كان عدم الاعتراف بها جمود وتخلف ورجعية - وإنما الإشكالية الأخطر هو الإيمان بالصيرورة دون الإيمان بوجود قيم كبرى ناظمة لها ومتحكمة فيها كما هو حال العلمانية، فالصيرورة بدون تلك القيم هي مجرد حركة عبثية، والإنسان الذي تجره المتغيرات دون هدى ولا بصيرة انسان فاشل تصنعه الظروف دون أن يصنعها.

صحيح ليس من البساطة تكوين هذا الوعي والأمة مثقلة بكل هذه الاحباطات، وصحيح ايضاً بأن القفز من سفينة الإسلام قد يكون أسهل الحلول عند البعض؛ لأن الركون للحياة والاستسلام لضغوطها لا يحتاج إلى عناء أو حافز، ومع ذلك فإن خسارة الإنسان لدينه ليس خسارة هوية فحسب، وإنما خسارة الإنسان لكل شيء حتى إنسانيته. فقيمة الإنسان بالقيم التي تتحلى بها روحه، والكلام عن القيم هو ذاته الكلام عن الروح لا يستقيم أمرهما إلا معاً، ومن هنا لا يمكن قبول أي تصور ثقافي يهمل القيم الكبرى والمثل العظمى التي ينادي بها الإسلام، لأن عندها سيكون تصور ناقص لا يعبر عن حقيقة الإنسان.

وعليه فإن الإسلام لا يتجاوزه الزمن لأنه كالشمس يشرق كل يوم على واقع جديد، والإسلام كقيم ناظمة للحياة لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها مهما تطورت الحياة وتقدمت.

ويبدو أن السبب في هذه النظرة المشوهة التي تعمل على ابعاد الإسلام عن الساحة السياسية والاجتماعية تنطلق من التجربة التاريخية للمسلمين، فالبحث في التاريخ السياسي في العالم الإسلامي أو البحث بين الخيارات الإسلامية المطروحة في واقعنا المعاصر قد يقودنا إلى صورة منفرة، إلا أننا إذا ابتعدنا عن هذا الواقع وبحثنا في النص الديني بعيداً عن ثقافتنا المنهزمة وما يحمله الواقع من خيبات وتعاملنا معه بوصفه قيم ومعايير أخلاقية لا يسعنا إلا الاعتراف بكونه هو الحل، فأسباب تخلف الأمة هو في ابتعادها عن القيم الحضارية التي نادى بها الإسلام، فالعلم والعمل والتقدم والتطور والعدل والحرية والمسواة والتنمية وغير ذلك من قيم النهوض تمثل قيماً إسلامية لا تتم العبادة إلا بها، كما أن الضمير الأخلاقي الذي ينميه الدين في نفسية الأمة هو الضامن لحصانة الأمة من الانحراف، إلا أن الامة تخلت عن قيمها وعن ضميرها الأخلاقي فكان هذا هو حالها.

وعليه السياسة في الإسلام يجب أن تكون حركة أخلاقية تسعى لبناء مجتمع تقوم روابطه على قيم الحق والفضيلة، وتعمل على رفض كل المظالم بما فيها الاضطهاد السياسي والاستئثار بالسلطة، وتسعى لتحقيق العدل والمساوة وإقامه الحقوق وتحقيق الرفاه والتنمية، والدفع بالأمم والمجتمعات الى الأمام، لتحقيق تكامل الإنسان وبناء حضارة الإسلام، وتتوسل السياسة في الإسلام لتحقيق ذلك بالصدق والإخلاص وكل قيم الفضيلة والأخلاق.

وهذا الواقع الطموح هو الذي يجب أن يتمسك به الجميع؛ لأنه يمثل الفهم الذي يتعامل مع الإسلام بوصفه رسالة للحياة وليس رسالة تتعامل مع الإنسان فقط بعد الموت وفي عالم الآخرة. 

فالإنسان في النظرة العلمانية والمادية يختلف عن الإنسان في نظرة الرسالات السماوية، ومن خلال هذا التباين بين النظرتين تتباين القيم الناظمة لحياة الإنسان، وحينها لا يمكن أيجاد قواسم مشتركة أو معايير متفق عليها يمكن أن ترجح لنا بين النظرتين، الأمر الذي يوسع دائرة الحوار ليعود بنا من جديد للسؤال الفلسفي الكبير، ما هو الإنسان ولماذا وجد وما هو الهدف من وجوده؟ ويبدو أن اهمال هذا السؤال أو الإجابة عنه في إطار البعد المادي هو السبب وراء الاختلاف بين الإسلام والعلمانية.

ومن الصعب التفصيل هنا في البناء الفلسفي للإسلام ومن ثم المقارنة بينه وبين الفلسفة المادية التي حصرت الإنسان في بعد اللذة والشهوة وتسخير الإنسان من اجل السعي الدائم للحصول على المزيد من المكاسب المادية، إلا أننا نؤكد فقط على أن الإسلام يحتفظ بمعاني خاصة للإنسان وللمجتمع وللحياة وللسعادة، ومن المعيب مصادرة تلك المعاني لصالح معاني أخرى أوجدتها العلمانية المادية، فمثلاً نمط الحياة الغربية بوصفها الصورة المثالية للعلمانية ليست إلا تشويهاً للإنسان ومسخ للحياة وتدمير للمجتمع في نظرة الإسلام.

وعليه نحن لا نسلم بان العلمانية هي الخيار المثالي للإنسان كما لا نسلم بالتقييمات العلمانية لصورة الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي نفس الوقت لا ندافع عن الوضع الراهن أو التاريخي للإنسان المسلم، فالعلمانية قد تمكنت من صنع واقعها الاجتماعي والسياسي الذي ينسجم مع رويتها الفلسفية، في حين أن المسلمين لم يصنعوا بعد واقعهم السياسي والاجتماعي الذي يتماشى مع فلسفة الإسلام حول الإنسان والمجتمع، وهذا عجز نعترف به ونسعى لتفاديه إلا أن الصورة الكاملة للمجتمع الإسلامي سوف تكتمل عند ظهور الإمام المهدي المنتظر وحينها ستضح المسافة الفاصلة بين الإسلام وبين كل التوجهات المادية.

[اشترك]

2022/11/19

لماذا تزول البركات؟!
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة 2.

[اشترك]

في استكشافنا لهوية المسلم، وعلاقة هذا المسلم بالإسلام وبالقيم الإسلامية، لابد أن نفهم ما هي القيم التي أكد عليها الدين الإسلامي، والقيم الأخلاقية الأساسية التي تشكل هوية الأمة الإسلامية وعناصر الانتماء الإسلامي.

من أهم الموضوعات التي يمكن أن نستكشفها في هوية المسلم، هو مفهوم التعاون أو مفهوم التصارع، فالإسلام دين قائم على مفهوم السلم، والتسالم، والتعارف، والتقارب فيما بين البشر، وكلما ازداد البشر تقربا وتفاهما وتعايشا، ازداد تقربا من الإسلام، وهذا هو من المقاصد الجوهرية في الدين الإسلامي.

لذلك يمكن القول إن التعاون يعد من أهم المفردات التي تبيّن ماهيّة الإنسان المسلم، حيث ينسلخ هذا الإنسان من أنانيّتهِ ومحوريّتهِ الذاتية، ويدخل في عالم من الجمال، ليس دخولا شكليا فحسب وإنما أيضا دخولا مضمونيا في العمق، بحيث يتماهى في منظومة القيم مع الآخرين، ويتداخل مع المجتمع تداخلا واقعيا سلوكيا شاملا.

إن التعاون كلمة تأتي بمعنى العون، أي المساعدة، أعانه ساعده، عون له مساعد له، أعانه على شيء، التعاون على وزن تفاعل، يعني التعاون فيما بين طرفين كل واحد منهما يكون عونا للآخر، في بعض النصوص تأتي مفردة التعاون وفي نصوص أخرى تأتي بصيغة أعانَ، وهذه المفردة تعطي نفس المعنى، فأعان تشمل هذا وتشمل ذلك (تشمل الطرفين)، كلاهما تشمله كلمة أعان، فيدخل ذلك في مفهوم يجمع بين الطرفين وهو مفهوم التعاون.

التعاون يعني فلسفة قائمة على التعاضد والمساعدة والتوافق، ويتحقق التعاون في الخير، ويتحقق في الشرّ أيضا، فكل ما ينبته المجتمع هو انتاج لما يتعاون فيه ذلك المجتمع ويسير عليه، فقد يتعاون على البر والتقوى، وقد يتعاون على الإثم والعدوان، وهذا يعني انه أما أن يتعاون على البرّ، وأما يدخل في بوابة العدوان والتصارع، وسوف نتناول هذا الموضوع بالتفصيل لأهميته الكبيرة.

صور التعاون المتعددة

أولا لابد لنا أن نتعاون حتى نستطيع أن نتعارف، لأن الإنسان الذي لا يتعاون مع الآخرين يضع حواجز وسدودا بينه وبينهم، فلا يستطيع أن يتعاون معهم، وهناك مستويات مختلفة في التعاون، فلابد للإنسان أن يبدأ عملية التماهي مع الآخر ومع أخيه المسلم، ومن ثم يتطور التعاون إلى مستويات مختلفة تعتمد على مستوى الحكمة والتعقّل والنضج الذي يمارسه في فهم ثقافة التعاون وتطبيقها.

من خلال فهمنا للآية القرآنية التي ذُكِرت أعلاه، تعد هذه الآية من الآيات المفتاحية في القرآن الكريم، فهي تنطوي على أبعاد اجتماعية ونفسية وفلسفية، وفيها أبعاد فقهية أيضا، فهي من القواعد الفقهية التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط قاعدة شرعية، وهو بحث آخر لا يدخل في بحثنا هذا.

لكن هذه الآية الكريمة تعدّ من القواعد الأساسية التي تدخل في بناء المجتمع، وفي بناء الأحكام الشرعية، تفسير هذه الآية القرآنية يعطينا مجموعة صور حول قضية التعاون.

الصورة الأولى: التعاون على البرّ والخير والتسالم.

ما هو الفرق بين البرّ والخير؟، إن الخير هو مفهوم مطلق فيه كثير من المصاديق، أما البّر فهو من مصاديق الخير، ويعني فعل الخير، ولذلك كلمة البر تأتي مع الإحسان، لأن البرّ هو الإحسان، فعملية البر عملية فعلية، ومصداق عملي تطبيقي للخير، لذلك فإن التعاون هو عمل، وجملة (وتعاونوا على البرّ والتقوى) هو عمل، وليس مجرّد مفهوم نضعه أو نستخدمه في نظرياتنا، بل هو عمل حقيقي يتحقق على أرض الواقع.

الصورة الثانية: التعاون على الإثم والعدوان

الإثم يعني الذنوب والمعاصي الكبيرة التي تأتي من تجمع وتراكم ذنوب صغيرة، وبالنتيجة فإن هذا الذنب الكبير يتلازم مع العدوان، لأن الإنسان الذي يتجاوز حدوده يصبح عنده طغيان، فيخرج عن حدود التسالم والسلم، ويبدأ بالاعتداء على الآخرين، ومن هنا تسمى الخمرة إثما، فحين تتجمع هذه الكبائر والمعاصي عند الإنسان تؤدي به إلى ممارسة العنف والعدوان.

وكما أن عمل الخير قائم على التقوى، فالإنسان الذي يقوم بأعمال الخير يتّجه في طريق التحلي بالتقوى، وكذلك تعطي التقوى بعدا قويا للإنسان في عمل الخير، ولا يمكن للإنسان أن يكون متّقيا ما لم يسرْ في أعمال البرّ والإحسان، كذلك الأمر بالنسبة للإثم، حيث يقود الإثم الإنسان إلى العنف، كما أن ارتكاب الآثام تؤدي بالإنسان إلى العنف والعدوان.

الصورة الثالثة: التعاون على ترك الخير وإن لم يتعاون على الإثم

حيث يوجد ناس يتعاونون على ترك الخير بصورة غير مباشرة، ولا يعملون الخير، ويعيشون في ملذّاتهم وأنانيّتهم، فيتّقون الخير، لكنهم في نفس الوقت لا يتعاونون على الإثم، وسوف نناقش هذه الصورة لاحقا.

الصورة الرابعة: التعاون على ترك الإثم وإنْ لم يتعاون على فعل البرّ.

الصورة الخامسة: عدم التعاون على البرّ بالترك والإهمال واللامبالاة.

وهذه الصورة الخامسة شبيهة بالصورة الثالثة، حيث يدعو للتعاون على البرّ لكنه لا يعمل بذلك، ولذلك يوجد لدينا صورتان يمكن أن نقول عنهما بأنهما جيدتان، وبقية الصور سيئة.

الصورة الجيدة الأولى: التعاون على الخير والبرّ والتسالم.

الصورة الجيدة الثانية: التعاون على ترك الإثم وإنْ لم يتعاونْ على البرّ.

بناء المناعة الذاتية والسلوكية

وهذه الصورة بالنتيجة مقدمة لفعل الخير إذا قصد الإنسان ونوى عمل ذلك، بالنتيجة هذا الأمر سوف يقوده نحو الخير وهذا شيء جيد، فالإنسان أولى ببناء نفسه وبناء مناعته الذاتية والسلوكية فيترك الآثام، وعندما يترك الآثام يتوفق فعلا، في التقوى وفي طريق التعاون على البرّ والإحسان.

الصورة الثانية التعاون على العنف والعدوان واضحة، أما الثالثة التعاون على ترك الخير وإن لم يتعاون على الإثم هذا يقوده بالنتيجة إلى الإثم، فمن لا يحث نفسه على فعل الخير حتى لو ترك الإثم وكانت لديه إرادة لترك الآثام، فإنّ أولاده سوف يقعون في ذلك الإثم، وسيكون هناك فراغ، لا عمل خير ولا عمل إثم، وذلك غير ممكن، لذلك فإن الذي يترك الخير ويترك الإثم سوف يقع في الإثم، لذلك لابد أن يملأ الفراغ بفعل الخيرات والتعاون على البرّ حتى لايسقط في دائرة الآثام.

كذلك بالنسبة للصورة الخامسة عدم التعاون بالترك والإهمال واللامبالاة، فهي أيضا تقود الإنسان إلى الآثام، لأن الحياة هي عملية فعلية وجودية، تحتاج إلى إرادة واختيار وفعل من الإنسان، واللافعل يعني معناه الفعل السيّء، وليس معناه الفعل الجيد، بل أن الإهمال واللامبالاة واللامسؤولية، كلها تقود الإنسان نحو الأفعال السيئة، وهذه قاعدة من القواعد المهمة في فهم الآية القرآنية المذكورة سابقا.

لذا لابد للمسلم أن يفهم هذه الصور، لأنه سوف يقع في هذه الصور، ويبرر لنفسه بأنه ليس له علاقة بالآخرين، ويقول أنا أسير في الطريق الصحيح، وأنا غير معني بالمجتمع وقضاياه، لكنه بالنتيجة سوف يقع في المحذور هو وعائلته.

ترسيخ ثقافة التعاون

التعاون الفطري موجود بشكل طبيعي عند الإنسان، فكل إنسان عادي يقوم بهذا النوع من التعاون، لكن بالنتيجة هناك منحدرات خطيرة وتحديات يواجهها الإنسان في حياته، وهذا يتطلب أن يكون التعاون ثقافة وسلوك دائم موجودة في الإنسان، لذلك تركز الآية الكريمة على التعاون والتقوى، لأن التعاون مرتبط بالتقوى، فيصبح ملَكة عند الإنسان، ويصبح قضية أساسية محورية في نفس الإنسان.

المسلم الجوهري جوهره التعاون، هذا هو المقصود من ذلك، فحين نأتي إلى قضية معينة كما تكلمنا في محور اللامبالاة، فبعضهم لا يبالي لكنه أحيانا يساعد الآخرين، في إحدى المرات تكلمت مع أحد الأشخاص لكي يقوم بتأسيس مؤسسات خيرية، ويساعد من خلالها الشباب لإنقاذهم من البطالة، والفقراء في تكوين منازل لهم، وتزويج الشباب والشابات، فكان يقول أنا أتبرّع بمبلغ من المال ولا يعنيني أكثر من هذا. وهو يظن أنه يبرئ ذمته بالتبرع بمبلغ صغير من المال او يوهم نفسه بذلك.

لكن الإنسان المتعاون في حقيقته يدخل في عمق المجتمع، لأن العمل الخيري ثقافة تجسد معنى وجود المجتمع، هو ليس عملية دخول في الأعمال الخيرية فقط، بل العمل الخيري تجسيد للتماسك مع مستويات المجتمع كافة.

لماذا تزول البركات؟

واذا اردنا تفسير لمعنى التعاون نرجع لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)، هذا تفسير واضح للآية القرآنية، فإذا لا يتعاون الإنسان على البرّ والتقوى تعاونا استراتيجيا عميقا في المجتمع، فإن البركات تزول، لأنها تأتي للمجموع وليس للفرد فقط.

فالعيش الفردي يؤدي بالنتيجة إلى التفاوت الطبقي، عندما نفتقد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفتقد للتعاون على البر والتقوى، سوف يصبح المجتمع فئويا بسبب التفاوت الطبقي، وتتكون طبقات مختلفة متصارعة فيما بينها، أحزاب وكتل وجماعات مختلفة، تتصارع فيما بينها.

بالنتيجة لن يكن لهؤلاء ناصر في الأرض ولا في السماء، لأنهم أناس أنانيون، فعندما يتصارع لكي يصعد جماعته فقط على حساب الآخرين، يتصوّر نفسه أنه سوف يكون منتصرا، كلا لن ينتصر، لأن الله تعالى لا ينصره، بل هو مهزوم أصلا داخل نفسه، فالإنسان المستهتر والمتنازع والمتصارع علينا أن نعرف بأنه خاسر دائما وإن كان في ظاهره رابحا، بل هو خاسر في كل الأحوال.

طريق الذنوب المفتوح

الإنسان المتعاون والمشارك مع المجتمع، هو رابح دائما، لأنه إذا لم يتعاون على البرّ والتقوى، سوف يتعاون على الإثم والعدوان، ويكون طريق الذنوب مفتوحا له، والذنوب والآثام طريق سريع للتدمير، وللعنف والعدوان مهما كانت صغيرة وقليلة، إذا تم الاستهانة بها ولم تتم التوبة، حسب قانون التراكم.

خطر الاستهانة بالذنوب

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى حاضنة، وعدم وجود فاعلية مع هذه القاعدة، لأن المجتمع غير متعاون بل متصارع، فإذا كان الناس متصارعين فكيف يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك فإن طريق الذنوب مشكلة خطيرة، بعض الأشخاص يستهينون بالذنوب ولا يتوبون من باب الغاية تبرر الوسيلة، أو من باب سوف أتوب بعد فترة من الزمن، هذا كله لا ينفع، لأن قانون التراكم في هذه الحالة يؤدي إلى حالة يصفها القرآن (بالإثم والعدوان) إلى أن تصبح ظاهرة خطيرة جدا في المجتمع.

هناك أمثلة واضحة في المجتمع يمكن ملاحظتها، ومنها الفساد وكيف انتشر في المجتمع، لأن الفساد هو عبارة عن تراكم الذنوب مثل الرشوة، التي تتراكم في المجتمع لتصل إلى مرحلة تدميرية نهائية خطيرة.

قانون التبادل

الشيء الأساسي في قانون التبادل وقوع الامر على سبيل البدل حتما، أما هذا وأما ذاك كما يستنتج من الآية القرآنية ذلك، أي إذا لم نتعاون في الخير سنتعاون على الشر، والإنسان الذي لا يتعاون على الخير فإن طاقاته وموارده كلّها تذهب نحو الشر، مثل المال الموجود عند الإنسان.

إن المال قدرة كبيرة، فإذا لا يصرف المال في الخير، وان كان قد خبأه او جمده في البنوك وأصبحت محايدة، ولكنه سيصرف في النهاية في الشر والعدوان، لذلك هو مسؤولية كبيرة، والتعاون على ذلك مسؤولية أكبر، في النهاية فإن الطاقات الإنسانية في هذا المنعطف سوف تُصرَف في طريق العدوان، والتعادي والتباغض والاقتتال. (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) التوبة 34.

وسائل التواصل وتفجير الصراعات

شبكات التواصل هي تعبير وإفراز عن الواقع الذي نعيشه، ولكنه تعبير متضخم، فالإنسان في بعض الأحيان ليس له القدرة على أن يعبر عن شيء إلا بوجود أداة قوية تعبّر عنه، لذلك فمواقع التواصل هي تعبير قوي عن كل الثقافة التي نعيشها، والأخلاق والسلوكيات الموجودة لدينا، وفي أحيان كثيرة فإن شبكات التواصل تعبّر عن ذلك الخزين من العدوان والصراع الموجود في داخل الإنسان، تتحول إلى طاقة سلبية هائلة من التسقيط والتهم والغيبة والنميمة. لذا هي تعبير هائل عن ذلك المخزون السيّئ في قلب البعض من الناس.

في حين يمكن للإنسان أن يستفيد من هذه الوسائل لإدارة عمل الخير، ومساعدة الفقراء، وقيادة الحملات الجيدة، ومنها تشجيع الرأي العام على التشجير في مواجهة التصحر، أو في مناصرة قضايا الحرية وحقوق الإنسان، كل هذه الأمور جيدة، ولكن التعاون كما ذكرنا في البداية يحتاج إلى نقطة أساسية، لكي يكون منتجا وله مخرجات صحيحة، مدخلات التعاون هو مفهوم التقوى، لأن التقوى تضبط الإنسان، وتُسهم في عملية صياغة الإنسان وبلورته وكبح نوازع الأنانية في نفسه.

التقوى تطرد الأمراض النفسية

التقوى تقلع الأمراض النفسية والأخلاقية من ذات الانسان، مثل التمحور على الذات، والطمع، والحرص، والحسد، بحيث تجعل من الإنسان قابلا ومطواعا للتعاون، ومتفهما له، لذلك فإن التقوى هي جوهر التعاون، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق 2-3.

ان أكبر خطر نواجهه هو الصراعات الموجودة على مستوى العالم، وعدم التعاون لمواجهة وحل التحديات والمخاطر الكبيرة والكوارث الهائلة، لأن كل واحد يفكر في نفسه فقط.

وعدم التعاون بين الدول في مواجهة المشكلات هو سبب ما يحدث في العالم، لأن كل إنسان يفكر في مصالحه الخاصة، ومن يسيء الظن في الآخر يكون غير مستعد للتنازل عن مطالبه، لأن نرجسيته الذاتية قوية جدا، ويتصوّر أنه إذا تنازل سوف يسقط، لذلك فإن التعاون هو المدخل الأساسي لحل المشكلات بأنواعها، سواء المشكلات العائلية أو الاجتماعية، أو المشكلات الموجودة في الدولة أو حتى مشكلات العالم.

المشترك الموجود في داخل العائلة قوي جدا، لكن لماذا لا يكون هناك انسجام وإجماع في داخل الأسرة؟ السبب لأن لكل فرد منهم مدخل فيه أنانية، فلا يخاف الله ولا يخشى العواقب، ولا يخاف مما يأتي، فالأنانية تعمي الإنسان، وتُسْكِر الإنسان وتجعله غافلا، بالنتيجة عندما يكون الإنسان غافلا وسكرانا في غمرة الحياة، وغائصا في سكرة العصبية والعناد والتوتر، وحب الذات والتكبر والتجبّر، فإنه بالنتيجة سيقع في كل هذه المحاذير والصراعات، لاسيما إذا كان يرتكب الذنوب ولا يخشى ذلك.

التقوى منهج لبناء النفس

فكما لاحظنا في الآية القرآنية أن الإنسان المتقي لا يرتكب الذنوب، بل ينزع عن نفسه تلك الأنانية والفردية التي تجعل منه طاغية أمام الآخرين، لذلك ومن يتقي الله يجعل له مخرجا، أي يكون ناجيا من تلك الأزمات والمشكلات.

التقوى هي التي تقود إلى التعاون، لأنها تستخرج كل جوانب الخير والعطاء والتفاعل والتضحية في الإنسان، وتحتوي كل النوازع الذاتية والفردية في إطار جمعي، وتستجمع الطاقات في قنوات وحواضن جيدة حتى تكون مخرجاتها صحيحة، لذلك فإن التقوى هي جوهر التعاون، وجوهر الإنسان المسلم.

يتصور البعض أن التقوى خاصة بالناس الذين ينشغلون بالعبادة فقط، بينما التقوى هي منهج لبناء النفس، وترويض للذات، وبناء الجهاز المناعي النفسي والجسدي، معظم الناس حاليا يأخذون (فيتامينات) ومكملات غذائية، لكي يقوى الجهاز المناعي في الجسم، فلماذا لا يأخذون الفيتامينات التي تقوّي الجهاز الروحي والمعنوي؟

التقوى هو الجهاز المناعي في الإنسان الذي يحميه من السقوط، وفعلا الجهاز المناعي النفسي والروحي هو الذي يجعل الجهاز المناعي الجسمي أقوى، وهو الذي يطور الصحة في الجهاز الجسمي، والتقوى أمر بسيط وليس صعبا، فقط على الإنسان أن يتعوّد اجتناب الذنوب، فالتقوى هي أن يتعلم حالة اجتناب الذنوب حتى تصبح له عادة متكرّسة في داخله، أو كما سميّناها سابقا ملَكَة ثابتة، هذه عملية مهمة في بناء التعاون من خلال التقوى.

تفكيك التعاون بالاستبداد

هناك مشكلتان في عدم تطور مبدأ التعاون في مجتمعاتنا، إن الإنسان يبتعد عن المفاهيم الأصيلة والأساسية بسبب الجهل مثل التعاون والتقوى، وهذه المفاهيم تستدعي معرفةً وفهمًا وحكمةً، لأنها عملية بناء ثقافي وتربوي، الإنسان بطبيعته يستعجل في حياته، ويذهب نحو مصالحه الخاصة كالأكل والشرب وشؤون الحياة الأخرى، بالأخص عندما تحكم الأنظمة الفاسدة تلك المجتمعات فتؤدي إلى فسادها.

هذه الأنظمة الفاسدة تقمع نوازع الخير فتظهر نوازع الشر، علما أن أهم هدف للنظام المستبد هو أن يتفكك المجتمع، فلا يكون المجتمع متعاونا فيما بينه، لأن التعاون يشكلا خطرا على وجود النظام المستبد، لكننا اليوم نعيش في عالم منفتح، فلابد أن نبحث عن الأنظمة والمناهج الصحيحة في حياتنا، حتى نتعلم ونمضي في بناء الحياة الصالحة لأبنائنا، عبر فهم منهجي لقيم التقدم خصوصا التعاون.

الابتعاد عن المفاهيم المغلوطة

في السابق لم يكن عند الناس طرق كثيرة لتربية أولادهم، لكنهم اليوم من خلال الاطلاع والقراءة والاتصال بنظام المعلومات العالمي، سمح للناس بالاطلاع على الكثير من المناهج الموجودة، فلابد للإنسان أن يختار المفاهيم الصحيحة لأولاده، ويبتعد عن المفاهيم المغلوطة التي تعزز الأنانية، والمحورية في نفس الإنسان.

لابد للأب والأم والأسرة والحاضنات الاجتماعية بمختلف أشكالها ومسمياتها أن تتحرك لبناء هذه المفاهيم وهي التعاون والتقوى، لأنهما يشكلان المدخل الصحيح لبناء الانسان السالم والمجتمع المتسالم، وتحقيق الأمن الاجتماعي والأمن الثقافي، وتخليص المجتمع من النزاعات والصراعات، لأن النزاعات والصراعات الآن كامنة في عمق المجتمع، بسبب توارث الأعراف الخاطئة والتمسك بالعادات الخاطئة، مع قضية الاستهانة بارتكاب الذنوب أيضا، سواء كانت ذنوبا صغيرة أو كبيرة، هذه كلها تؤدي إلى عدم قدرة الإنسان بالوصول إلى مفاهيم جيدة في حياته، كالتعاون.

الارتقاء بالمشاركة

إن ثقافة التعاون ترتقي بالإنسان ارتقاءً هائلا، وتُحدِث شعورا عاليا في داخله، ويجد لذة عظيمة في المشاركة والتشارك مع الآخرين، لكن للأسف الشديد أننا نلاحظ بعض الناس يفكر في مشروعه الخاص، ولا يقبل بأن يتعاون مع الآخرين في بناء المشاريع المشتركة، فيتصور أنه بذلك يحقق المجد الذاتي لنفسه، فيقول عنه الناس بأنه صاحب المشروع الفلاني.

لكن هذا الأمر خاطئ لأن المشروع الحقيقي هو الذي يقوم على التعاون، لأنه ليس مشروعا ماديا فحسب، وإنما هو مشروع لبناء الإنسان، في ثقافة العطاء والتضحية التي لا تنحصر في المال فقط، وإنما بإعطاء الذات في مشروع يشمل المجتمع بثقافته التعاونية.

ومن أفضل الطرق لبناء التعاون عند الإنسان، أن يسلم أمره لله سبحانه وتعالى، فيخرج من نفسه، وإذا خرج من نفسه ودخل في المنظومة الإلهية يصبح متعاونا مع الجميع.

 

والبحث في التعاون له تتمة حول فلسفة التعاون...

2022/11/07

أمور سوف نُسأل عنها في «القبر»!
عقد محمد بن يعقوب الكليني باباً في الكافي تحت عنوان (المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل) وأورد تحت هذا العنوان مجموعة من الأحاديث التي تحصر عذاب القبر ونعيمه فيمن محض الكفر أو الإيمان.

[اشترك]

ومثال لذلك عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسأل في القبر إلا من محض الايمان محضا أو محض الكفر محضا والآخرون يلهون عنهم). وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما يسأل في قبره من محض الايمان محضا والكفر محضا وأما ما سوى ذلك فيلهى عنهم). وعن منصور بن يونس، عن ابن بكير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال، إنما يسأل في قبره من محض الايمان محضا والكفر محضا وأما ما سوى ذلك فيلهى عنه) (الكافي، ج ٣، ص٢٣٥)

وأورد العلامة الحر العاملي في كتابه (الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، ولا يسأل في الرجعة إلا من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، قلت: فسائر الناس؟ قال: يلهى عنه) (ج1، ص 254)

وقد أكد الشيخ المفيد ذلك في اجوبته على المسائل السروية، وقد نقلها عنه العلامة المجلسي في بحاره حيث قال: وقال الشيخ المفيد رحمه الله في أجوبة المسائل السروية حيث سئل: ما قوله أدام الله تأييده في عذاب القبر وكيفيته؟ ومتى يكون؟ وهل ترد الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين؟ الجواب:

الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل.

وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: ليس يعذب في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر محضا، ولا ينعم كل ماض لسبيله، وإنما ينعم منهم من محض الايمان محضا، فأما ما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم، وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه..) (بحار الأنوار، ج6، ص 272)

وقد وافق علامة المجلسي الشيخ المفيد بقوله: (اعلم أن الذي ظهر من الآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة والبراهين القاطعة هو أن النفس باقية بعد الموت، إما معذبة إن كان ممن محض الكفر، أو منعمة إن كان ممن محض الايمان، أو يلهى عنه إن كان من المستضعفين، ويرد إليه الحياة في القبر إما كاملا أو إلى بعض بدنه كما مر في بعض الأخبار، ويسأل بعضهم عن بعض العقائد وبعض الاعمال، ويثاب ويعاقب بحسب ذلك، وتضغط أجساد بعضهم، وإنما السؤال والضغطة في الأجساد الأصلية، وقد يرتفعان عن بعض المؤمنين كمن لقن كما سيأتي، أو مات في ليلة الجمعة أو يومها أو غير ذلك مما مر وسيأتي في تضاعيف أخبار..)

وبناءً على ذلك فإن السؤال والعذاب والنعيم في القبر خاص بمن محض الإيمان أو محض الكفر ولا يشمل جميع الموتى، وبحسب الروايات فإن الله يرسل ملكين لمن تقع عليه مسألة القبر، يسألانه عن ربه الذي كان يعبده، ودينه الذي كان يدين به، ونبيه الذي أُرسل إليه، وكتابه الذي كان يتلوه، وإمامه الذي كان يتولّاه، وعن صلاته وزكاته وصومه وحجه، فإن أجاب بالحقّ استقبلته الملائكة بالروح والريحان، وبشرته بالجنة والرضوان وفسحت له في قبره مدّ البصر، وإن تردد في الكلام وعجز عن إحكام الجواب، أو أجاب بغير الحقّ، أو لم يدرِ ما يقول، استقبلته الملائكة وبشّرته بالنار.

وعليه فإن المساءلة في القبر وما يتبعها من النعيم أو العذاب، من الحقائق القطعية التي لا يجوز التشكيك فيها، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: (من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا، المعراج، والمسألة في القبر، والشفاعة) (مستدرك الوسائل، ج6، ص223)

وعن الإمام الباقر عن أبيه عليهم سلام قال: (إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا أُدخل قبره أتاه مُنكَرٌ ونَكِيرٌ، فيقعدانه ويقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: ربّي الله ومحمّد نبيّي والإسلام ديني، فيفسحان له في قبره مدّ بصره. ثمّ قال عليه السلام: إذا مات الكافر شيّعه سبعون ألفاً من الزّبانية إلى قبره، وإنّه ليناشد حامليه بصوتٍ يسمعه كلّ شيء إلا الثّقلان، فإذا أُدخل قبره وفارقه النَّاس أتاه منكر ونكير في أهول صورة؛ فيقيمانه، ثمّ يقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيتلجلج لسانه، ولا يقدر على‏ الجواب، فيضربانه ضربةً من عذاب الله، يذعر لها كلّ شي‏ء) (بحار الأنوار، ج6، ص222)

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: (يُسأل الميّت في قبره عن خمس: عن صلاته وزكاته وحجّه وصيامه وولايته إيّانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكنّ من نقص فعليّ تمامه) (الكافي، ج3، ص241).

2022/11/05

ما يصلح للبهائم لا يصلح للإنسان.. عن الهروب من الواقع إلى «اللهو والعبث»؟!
المسلم وثلاثية العابثين لإنسان الذي لم يُخلَق عبثا مطلوب منه أن لا يعيش عبثا، وينبغي له أن يعقل غاية وجوده، فيكون عمله في ضوء هذه الغاية، والهداية الإلهية تأخذ بيده لتنطلق به في طريق الرزق والصلاح، فالعمل الذي يقوم به الإنسان ينبغي أن يكون له باعث وغاية، وأن يكون إيجابيا، وقد أراد الإسلام أن تكون هذه السمة خطا عاما في تربية الفرد والمجتمع.

[اشترك]

في هذا المقال نريد أن نركز على موضوع متفرع من محور (المسلم بين العبث والغاية) يتعلق بثلاثية منبثقة من العبث وهي (اللهو، اللعب، اللغو) حيث العالم اليوم يعيش عبثا هائلا، بسبب التقدم المادي والتكنولوجي وتغول الرفاه الاستهلاكي، لكن هذا التقدم المادي والتكنولوجي ليس هو العتبة الأساسية أو المدخل الأساسي للعبثية البشرية، بل يكمن في ذلك التفكير الذي نشأ عند بعض مفكري ما بعد الحداثة، الذين فلسفوا لعدم الحاجة الى القيم ولا للغايات ولا للأديان ولا للأخلاق، وبأن مايحتاجه الانسان هو اللذة والمتعة واللهو بما يعبر عن حريته الشخصية وتشكيل وجوده الخاص.

الاستهلاك العبثي

هكذا ينظرون إلى وجود الإنسان في اللذة والمتعة، ولكن لننظر إلى أين وصل هذا العبث بالمجتمع البشري، لقد وصل إلى حد أنه قابع فوق جبال من الأسلحة النووية التي إن انطلقت سوف تدمر البشرية كلها، ولا تبقي لها أثرا، وهذا العبث قابع أيضا في تغيّر مناخي هائل، واحتباس حراري مهول بسبب التصرف الطائش العبثي الذي تقوم به الرأسماليات والأنظمة الفاسدة في العالم، حين تلاعبت بالطبيعة واستهلكت مواردها.

الإنسان وخصوصا المسلم عليه أن لا يسير وراء هذه الثقافة العبثية، وأن يكون مدركا لغايته في الحياة، ومدركا لغايته الإسلامية، ويكون متلبّسا بالتفكير الإسلامي الذي يجعله سائرا في طريق القواعد الإلهية حتى يحميه من السقوط في العبث المدمر لحاضرنا ومستقبلنا، فالتفكير بالمخاطر والعواقب مهم لكي يخرج الإنسان من هذه الحالة.

العبث ظلاميّة في النفس

الطمع بالسلطة هو نوع من أنواع العبث الذي يريده البعض حتى يستمتع بلا غاية، ولكن ثم ماذا، فإذا كان (عمل تذهب لذته وتبقى تبعته) كما قال الإمام علي (عليه السلام)، ثم ماذا بعد اللذة، وبعد هذا العبث، يأتي عبث آخر وآخر... حتى يغرق في دوامة مظلمة ليس لها نهاية، فالعبث المستمر يصطدم بعالم من الظلامية يستفحل في نفس الإنسان، ويستقر في اعماق البشرية التي خرجت عن غايتها الأساسية وانحرفت عنها ودخلت في عالم مظلم، متلبّسة باليأس والإحباط والقلق والشك الوجودي.

الإمام علي (عليه السلام) يقصد أولئك الطامعين بالسلطة في هذه الكلمة الرائعة ويحدد لنا غاياتنا في الحياة، فيقول (عليه السلام): (أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً).

 

غريب هذا الانغماس الكبير واللهفة الكبيرة على المادة كالبهيمة، وعجيب هذا الاهمال والترك، وقد حبانا الله تعالى بالعقل والادراك، والعقل يوجهنا إلى وجود غاية وفهم لطريقة صحيحة في الحياة.

اللهو وهدر الوقت

لقد أصبح الّلهو اليوم نمط حياة منتشر جدا، وتعريف اللهو هو كل فعل يهدر الوقت ولا يفيد الإنسان بشيء، وهو اللعب غير المجدي والأعمال غير النافعة، وإضاعة الوقت في أمور غير مجدية ولا تفيد الإنسان، (كالبهيمة المربوطة، همّها علفها)، فتأكل كل شيء يقع أمامها، لأن البهيمة لا تعرف ماذا تأكل، فكل شيء يكون أمامها تأكله دون أي تفكير بالعواقب.

هذا لا يصح للإنسان لأنه كائن عاقل، يجب أن يكون في حياته التي يعيشها هدف، كل إنسان عليه أن يسأل نفسه من أين بدأت وإلى أين سأنتهي، هذا السؤال يجب أن يكون موجودا عند كل إنسان، لأنه خُلق ومعه العقل لذا عليه أن يستثمر عقله ويعرف هدفه.

وفي الآية القرآنية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) لقمان 6. أي أن الإنسان الذي ينشغل باللهو كأنه يشتري شيئا بلا فائدة، ويفقد عمره بلا ثمن، فيهدر وقته في الفراغ وفي اللاشيء وفي اللامعنى، فيقوده حديثه ولهوه إلى الضلال فينحرف عن سبيل الله من دون علم بسبب الجهل، فاللاهي يزداد جهلا وانحرافا وضلالة وخسارة في الحياة، ثم ينتهي بالنتيجة إلى المهانة والعذاب في الدنيا والآخرة، لأنه بالنتيجة عندما لا يقدّر نفسه فإنه يهينها.

اللاهون لايشبعون

إن الآية القرآنية التي ذكرناها آنفا أجابت عن هذا الأمر، وأن هذا السلوك هو تضييع للنفس، وتضييع للعمر وخسارة، وجبن وهزيمة في مواجهة تحديات الواقع، واقع الإنسان حين تكون نفسه رخيصة، فيهرب نحو اللهو والعبث، والعجيب في هذا الأمر إن أولئك الذين يهربون من واقعهم باللهو يُصابون باكتئاب شديد، ولا يشبعون، أي لا يحصلون على الإشباع الروحي والنفسي، فيبقى يشعر بالفراغ، ومهما غاص في الملذات فإنه يصل إلى مرحلة معينة يفقد كل شيء، لأن اللهو ليس غاية وإنما عبث.

العبث يصل بالإنسان إلى النهاية السوداء، لذلك فإن هذا الهروب هو هروب وهمي من واقع حقيقي، والإنسان العاقل الذكي، سوف يتصدى لهذا الواقع، ويستغل عمره في عملية بناء نفسه وذاته، أما عكس ذلك فإنه سوف يفشل.

ما هي نتائج السقوط في عالم اللهو؟

هناك نتائج عجيبة غريبة يمكن أن نلاحظها عند كثير من الناس الذين انغمسوا في اللهو وهي:

أولا: الغباء والتفاهة

فكلما يبتعد الإنسان عن الواقع باللهو واللعب والاستغراق في اللذات والمتع، يزداد جهلا ويتضاءل عقلا، وبالنتيجة يصبح تافها، وقد سمّي عصرنا هذا بعصر التفاهة لكثرة الملذات والملهيات، وكلما كثرت اللذات والمغريات يزداد الإنسان تفاهة وغباءً، لأن الإنسان إذا لم يملأ عقله بالأفكار الصحيحة السليمة والجدية والجيدة، فإنه يمتلئ بالتفاهات الفارغة والمضلة والمنحرفة، والمعلومات الخاطئة. لذلك فإن الملتهي أو اللاهي كثيرا يفتقد قواعد التفكير السليم والتعقّل الصحيح.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (اللهو قوت الحماقة) فكلما يتغذى الإنسان باللهو أكثر، يزداد حماقة، لا يستخدم طاقاته بشكل جيد، كالمدمن على الخمر أو المخدرات، فإنه يهرب من الواقع حتى يهرب من مشكلاته، كذلك اللاهي أيضا يغرق نفسه بالجهل هربا من مسؤوليات الوعي والتعلم فيصبح غبيا وأحمقا.

وعن الإمام علي الهادي (عليه السلام) يقول: (الهزل فكاهة السفهاء وصناعة الجهال)، الهزل هو المزاح الذي لا معنى له أو يفتقد للمعنى، وفيه نوع من الاستهزاء والسخرية، والتنابز بالألقاب، فيعتبر نفسه كوميديا فيأنس ويضحك عندما يهزأ بالناس.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (من كثر لهوه استحمق)، و(من كثر لهوه قلّ عقله) أي يتضاءل عقله، لذلك إذا أراد الإنسان أن يبني عقله وينمو ويكبر ويتطور، فإن (أفضل العقل مجانبة اللهو)، لأن (اللهو من ثمار الجهل) فكلما يزداد الإنسان جهلا يزداد فقدانا لغايته، ويزداد لهوا وعبثا في الحياة.

ثانيا: تضييع العمر

عن الإمام علي (عليه السلام): (شرّما ضُيِّعَ فيه العمر اللعب)، ولكن على العكس من ذلك (المؤمن مشغول وقته)، أي ممتلئ بالبر والإحسان والعمل الصالح.

ثالثا: النزاع والصراع

إن سبب النزاعات والصراعات هو اللعب واللهو، لأن اللهو يجعل الإنسان يزداد جهلا ويقلّ حكمة وعقلا، ويصطدم مع الآخرين لأنه يفقد قواعد التعقّل والحكمة.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (أول اللهو لعبٌ وآخره حرب)، فبعض الحكام المتغطرسين المستبدين الطغاة عندهم الحرب لعبة، يتلذذَون بها، كما أن بعض المفكرين أو المثقفين العبثيين وكذلك وسائل الإعلام، يتلاعبون بأفكار وعقول الناس وعواطفهم، فالحياة عندهم لعبة، ويسمونها لعبة الحياة، ويسمون السياسة لًعبة أو قواعد اللعبة، وكل شيء يؤطّرونه في إطار لعبة، وكأنه صراع ومنافسة.

ومنها لعبة الأمم وصراعات الأمم، وهذا هو العبث وفقدان الغاية في الحياة، وكل ما نلاحظه في عالم اليوم هو نتيجة للعبث الأخلاقي، وبالنتيجة البحث عن المتعة، فالهدف بالنسبة لهم المتعة، فيحصلون على الموارد ثم يصرفون ما يكسبونه على المتع، لذلك يُكثّرون من أماكن اللعب واللهو بمختلف الأشكال، حتى يكون وقت الإنسان كلّه مشغول باللهو.

وقد أصبح الإنسان في هذا العصر يعمل كل أيام الأسبوع، ثم يصل إلى عطلة نهاية الأسبوع فيصرف ما كسبه على اللعب واللهو والمتعة.

ربما يحتاج الإنسان إلى نوع من الترويح النفسي لكي يكسر الروتين الذي أمضاه على مدار الأسبوع، بالعمل والجد والكدّ والدراسة، فانه قد يحتاج أحيانا إلى السفر مثلا، وإلى اللذة الحلال واللذة المؤدبة، وإلى المتعة المنضبطة التي تنبع من غاية وتصل الى غاية.

الإنسان الذي يستثمر وقته بالجلوس مع أصدقائه، تارة يجلس معهم جلسة لهو ولغو يقضونها بالتسقيط والتنابز والنميمة، وتارة يخرج معهم بمباحث جميلة مربية ومنبّهة وفيها موعظة، وتارة يسافر، أو يمارس بعض الألعاب الرياضية التي يحتاجها الإنسان جسما وروحا، فيقضي وقته في أشياء جيدة نافعة له.

لماذا أصبح الإنسان كئيبا؟

لكن اللهو أصبح اليوم ثقافة، سلوك متكامل، وأصبح اللهو غاية في الحياة، فغايته مثلا أن يرتاد المطعم ليأكل، أو يمضي وقته في اللعب، وفي المقاهي، أو ينفق كل وقته في شبكات التواصل الاجتماعي بلا فائدة، لذلك نلاحظ أن الإنسان أصبح كئيبا، فكلما ينشغل الإنسان بعالم العبث يصبح أكثر كآبة، وكلما اقترب من الغايات يصبح أكثر سلامة نفسيا.

هذه الكآبة سبّبت للإنسان آلاما نفسية، وإذا أراد أن يتخلص من هذه الآلام يذهب إلى أماكن اللهو لكي يزيح هذه الآلام، وهذا نوع من التغطية على واقعه ومشكلاته الحقيقية، حتى أن الأطباء النفسيين يصفون هذه الأمراض بأنها أمراض الكآبة، حيث يستغرق الإنسان وقته في أشياء معينة يدمن عليها، مثل التسوّق واللهو واللعب وقضاء الوقت في المقاهي والمطاعم.

الإشباع والتناسق مع الغاية

هذا كله نوع من التغطية على الفراغ الذي يعيشه الإنسان في داخله، ولكن لا يحقق النجاح في هذا الأمر ولا يحصل على الإشباع، لأن الإشباع الحقيقي هو إشباع روحي ونفسي، يتحقق من خلال التناسق مع الغاية، فالإنسان المتوازن في حياته وشخصيته، لابد أن يتناغم مع الغايات الأساسية، ويخرج عن حالة العبث، وينقذ نفسه من حالة تضييع الوقت في أشياء غير مجدية لاغية ولا معنى لها، وليس لها مضمون في حياته.

رابعا: الفشل

عن الإمام علي (عليه السلام) قال: (أبعد الناس من النجاح المستهتر باللهو والمزاح)، فعندما يقضي وقته كله بالمزاح واللهو يكون إنسانا فاشلا، لأنه غير جدي في حياته، والنجاح يتحقق كما عنه (عليه السلام): (المؤمن يعاف اللهو ويألف الجد)، فيكون جدّيًا في حياته، وليس بمعنى صارمًا، بل معنى ذلك أنه مستثمر لوقته بشكل جيد يتناغم مع غايته الأساسية.

خامسا: قسوة القلب

من نتائج اللهو انه يبني القسوة في قلب الإنسان ونفسه وفكره، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الملاهي تورث قساوة القلب وتورث النفاق) فتغيب الأخلاق تماما، ولا توجد محبة ولا تسامح، ولا يوجد تفاهم مع الآخرين، وحين يستغرق الإنسان في العبث فإنه سوف يواجه كل هذه النتائج، ويكون قاسيا، ويصبح إنسانا لا مباليا كما ذكرنا ذلك في محور اللامبالاة سابقا، ومن يكون قلبه قاسيا لا يتفهّم الحياة، ولا يتفّهم الآخرين.

لذلك نلاحظ أن الذين ينشغلون في اللهو واللعب، تكون قلوبهم قاسية جدا، لأنه ليس لهم مبدأ في الحياة، وهناك ازدواجية في شخصياتهم وتعاملهم مع القضايا، فيتباكون على قط مشرد ويغضون البصر عن ملايين الجائعين، وهذا هو معنى النفاق، فمن المهم أن نركز على نتائج اللهو، حتى يتجنب الإنسان الوقوع في هذه النتائج العبثية الخطيرة.

اللغو وفقدان المضمون

هناك ثلاثة مصطلحات تدخل في معنى العبث، (اللهو، اللعب، واللغو)، فاللهو يرتبط بسلوك الإنسان ويعني تضييع الوقت وتضييع العمر، واللعب فقدان الهدف والفائدة في الحياة، واللغو يعني فقدان المضمون والجدوى وفي الآية القرآنية (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) المؤمنون 3.

واللغو منتشر في المجتمع بكثرة، ويتضح ذلك من كثرة الكلام الذي لا فائدة فيه، كالنميمة، الكلام الهذر، الثرثرة الزائدة، حيث يجلس الناس ويغتابون الآخرين، في بعض الأحيان يقول الإنسان كلمة واحدة تحطم أناسا آخرين.

ومعنى اللغو ما لا يعتدّ به من كلام وغيره، ولا يُحصَل منه على فائدة ونفع، لنفترض أنك الآن تدير جلسة ما، وبمجرد أن تبدأ كلامك تتحول الجلسة إلى ثرثرة زائدة، ولغو في أشياء ثانية، والفرار من الكلام الجدي والنافع.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (في قوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون) هو أن يتقول الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك، فتعرض عنه لله). أي يتّهمك أو يغتابك أو يمارس التسقيط عليك، بما ينتابه من أوهام وحسد.

ما يعنيك وما لا يعنيك

وفي جوهر كلامنا حول هوية المسلم، هو المسلم الغائي، المسلم الذي يعيش الهدف في عمره، وأن يترك ما لا يعنيه يعرض عن اللغو ويذهب في ما يعنيه، فإذا لاحظت أحدهم يغتاب إنسانا آخر عليك أن تبتعد فورا، لأن هذا الموضوع لا يعنيك، بل يسمّم فكرك بمقولات باطلة، مقولات يروجها من في نفوسهم مرض، فزادهم الله مرضا.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وعن الإمام علي (عليه السلام): (من اشتغل بما لا يعنيه، فاته ما يعنيه) وهذا هو الذي أشرنا له في قضية ترك الأهم والمهم والعمل بغير المهم أو العمل باللغو الذي هو أسوأ المراتب، فأسوأ المراتب أن يشتغل الإنسان باللغو والكلام الذي لا فائدة منه.

ومهما تكلم الإنسان ضد الآخرين، أو حاول أن يسقّطهم، فإنه لا يفلح، ويبقى مريضا، لأن هذا الأمر هو مرض نفسي، فيبقى يشتعل في داخله، لذلك جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (راحة النفس ترك ما لا يعنيها)، إذن اترك الناس وشأنهم ولا تتدخل في حياتهم، فالأمر لا يعنيك، أحيانا يتدخل أحدهم في بناء بيت وهو لا يمتلك الخبرة في البناء، ومع ذلك تجده يتدخل فيه رغم عدم معرفته ببناء البيت، فيحاول أن يجعل من نفسه مهندسا ويتدخل في البناء إلى أن يؤدي ذلك إلى مشكلة في بناء البيت، وينطبق هذا على أمور أخرى كثيرة.

هناك إنسان لا يمتلك الخبرة ومع ذلك ينصح إنسانا آخر بشيء لا يعرفه، فيقول له مثلا يجب أن تشتري الحاجة الفلانية، فيقوم الشخص بشرائها ثم يكتشف أنها لا تفيده بشيء، وهكذا ألحق ضررا بالشخص لأنه تدخّل فيما لا يعنيه، وليس من اختصاصه.

وعن الإمام الصادق (ع): (إياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل). فالكرامة والعزة في السلوك الحكيم الذي يدرك عناصر النجاح والتوفيق، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ترك ما لا يعني زينة الورع)، والذلة والمهانة والفشل للسلوك العابث الذي يستغرق في الجدالات والصراعات اللاغية والامنيات الغبية، وعدم إدراك ما يجب ان يدرك، فمن يتدخل خارج حدوده وقدرته وفهمه ويتحدث فيما لايجب مصيره الفشل، والبعض لايتورع ويقف عنده حدوده ويتسنم موقعا او منصبا فيتسبب بأضرار هائلة قد لايمكن تلافيها.

للأسف أننا اليوم نشعر بوجود تسونامي هائل من اللغو، يضرب المجتمع الفاقد للمضمون، لذلك فإن المجتمع الذي يفقد المضمون، تجده يعيش في مشاكل كبيرة، لأن الكلام كلّه خاطئ وعبثي لا علاقة له بالحقيقة والواقع، فتجد المجتمع كله مستنقع للأخطاء والزلّات والانحرافات بسبب اللغو الذي يمارسه ويستمتع به.

وعن الإمام علي (ع): (لا تقولن ما يوافق هواك وإن قلته لهوا أو خلته لغوا، فرب لهو يوحش منك حرا، ولغو يجلب عليك شرا).

الاعتدال بين الخوف والرجاء

ما هو الكلام المباح الذي لا يندرج ضمن اللغو، ومن يحدد هذا النوع من الكلام؟، الإمام علي (عليه السلام) يحدّد ذلك بقوله: (أفضل المسلمين إسلاما من كان همه لأخراه، واعتدل خوفه ورجاه) الاعتدال طريق للحياة الصالحة، لان غايته آخرته، وحين يفكر بالآخرة سوف يتجنب اللغو واللهو والعبث، لأن الآخرة عنده غاية، فيكون حذرا.

إذا كان الإنسان عنده غاية وهو عاقل ومؤمن وخاشع، فإنه بالنتيجة ينسجم مع غايته، (واعتدل خوفه ورجاه)، أي يكون معتدلا في حياته ولا يكون خائفا إلى درجة تعيق غايته في الحياة، بحيث يكون خوفه قائما على الاعتدال في طريقة منهجية منتظمة، وأن لا يكون في رجائه إفراط، فهو يعيش حياته عابثا مستمرا في لهوه لكنه يرجو من الله أن يغفر له.

اللذة في الاعتدال

لذلك نحتاج إلى التوازن في قضية العبث والله واللغو، ويجب على الإنسان أن لا يُفْرِط ولا يفرِّط، بالطبع أغلب الناس مفْرطين في قضية العبث واللهو واللغو، بينما الإنسان المعتدل يكون سعيدا مستقرا ومرتاحا، ويقضي حياته بسعادة ومتعة ولذة لأنه يعيش التوازن في حياته، واللذة الحقيقية تتحقق في الاعتدال، فالإنسان إذا تناول الطعام وأكل أكلا قليلا فإنه يلتذّ بالطعام، أما إذا أكل طعاما كثيرا فوق طاقته فإنه سوف يُتخَم، وتصيبه الآلام.

فما فائدة اللذة التي تسببت له بالآلام من التخمة، لذا يجب عليه الاعتدال، وأن يأكل بما يتناسب مع حاجته للطعام، وليس مع شهوته وأهوائه، لأن الأهواء تقود الإنسان نحو العبث واللهو واللغو، فالاعتدال منهج حياة، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).

الاعتدال هو الذي يوصل الإنسان إلى الغاية وإلى الهدف ويجعل حياته منظَّمة متوازنة، ويكون قادرا على إدارة كل ما يجري حوله، ولابد للإنسان أن يعتدل في تقسيم وقته أيضا مثلا للعبادة والدراسة والأعمال التي تنفع الناس، لأن الإنسان كائن اجتماعي ولابد أن يكون له تواصل مع الآخرين كعيادة مريض أو صلة الأرحام، وهي سلوكيات تنضوي تحت مهمات المسلم والمؤمن حقا.

2022/11/01

القُرّاءُ لا يسرقون.. واللصوص لا يقرأون!
سوقُ بيعِ الكتبِ، يشهدُ وجودَه لأولِ مرّة كبائع، بعد أنْ كانَ يشهدُه كقارئٍ ينتقلُ بين بضائعِ الباعةِ الورقيةِ ينتقي منها ما يُلائمُ ذائقته.

[اشترك]

كانَ مُنهَكًا بعض الشيء وهو يُحاولُ ترتيبَ مجموعته بطريقةِ عرضٍ تُشبهُ تلك التي تعارفَ الباعةُ عليها، فكانَ يُقدِّمُ هذا الكتابَ ويؤخِّرُ ذاك حتى استقرَّ رأيُه على شكلٍ معينٍ كانتْ يدُ الزبائنِ تُغيّرُه بينَ حينٍ وآخر، ليُعيدَ هو ترتيبه مرةً أخرى كما كان، وكأنّ نمطَ العرضِ الذي اختارَه هو، يُمثِّلُ الأنموذجَ الذي وقعَ عليه إجماعُ أهلِ السوق.

مضتْ ساعاتٌ ولم يبِعْ من تُراثِ مكتبتِه شيئًا، ورغمَ أنّه جاءَ ليبيعها برغبةٍ منه -ليشغلَ جُزءًا من وقته بعدَ إحالتِه على التقاعد- إلا أنّه في الوقتِ ذاته كانَ لا يعرفُ مشاعره في تلك اللحظةِ التي سيتناولُ بها زبونٌ ما أحدَ تلك الكتبِ ويمضي به بعيدًا حيثُ لا رجعةَ مُقابل شيءٍ من المال.

بينما كانَ مُطرِقًا بشيءٍ من الحزنِ وهو ينظرُ إلى نفائسَ غادرتْ رفوفَ مكتبتِه، واستقرّتْ على رصيفِ الجمعةِ، طرقَ مسامعَه صوتُ زبونٍ وهو يحملُ بيدِه واحدًا منها:

- بكم هذا الكتاب؟

كانَ وقعُ سؤالِ الرجلِ كالصاعقةِ على قلبه، أحسَّ بشعورٍ غريبٍ يشبهُ الشعورَ باقترابِ فراقِ شخصٍ عزيزٍ..

أعادَ الزبونُ سؤاله:

- بكم هذا الكتاب؟

أجابَ بشيءٍ من الحزن:

- بعشرة آلاف.

مدَّ الزبونُ يده إلى جيبه، أخرجَ المالَ وأعطاه إيّاه دونَ أنْ يتفوّهَ بشيء.. تأبّطَ الكتابَ وسارَ بزهو، كانَ يرقبه وينظرُ لكتابه نظرةَ الوداع الأخير؛ فهذا الكتابُ –بالذات- من الكتبِ التي كانتْ له معها ذكرياتٌ جميلة، وفيه ما يُميّزُه عن غيره.. على حين اختفى الزبونُ بكتابه بين المارّة.

صوتُ زبونٍ آخر يُعيدُه من ذكرياته إلى الواقعِ، وكتابٌ آخر يُغادرُ دونَ وداعٍ جعلَه يُتمتِم:

لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ.

دارَ في خلدِه أنْ يطلبَ من الزبائنِ أنْ يمنحوه فرصةً لتقبيلِ كُتبِه قبلَ أنْ يمضوا بها إلى مكتباتهم، لكنّه تذكّرَ أنَّ عليه الاعتيادَ على ذلك، وأنْ لا ينسى أنَّ اليومَ الأولَ في كُلِّ مجالٍ يختلفُ عن غيره... هذا ما علّمَتْه الحياةُ إيّاه وهو في عقدِه السابع..

مضتْ ساعةٌ أخرى تناقصتْ معها أعدادُ كتبه.. بدأ يتقبّلُ الأمرَ لكثرةِ ما فقدَ منها، وأصبحَ يُرتِّبُ الأوراقَ النقديةَ بحسبِ الفئاتِ قبلَ أنْ يضعَها في جيبِه، بعدَ أنْ كانَ لا يكترثُ بذلك عندَ الصباح حيثُ رحيل كتبِه الأولى.

نعم، إنّه يتأقلّمُ مع الفراق، وعليه أنْ يتأقلّمَ مع الباعة، فهو مُنذُ الصباحِ لم يتكلّمْ مع أحدٍ منهم.. كانَ ينظرُ إليهم وهم يتحدّثون مع بعضِهم في أمورٍ شتى.. لم يلتفتْ إليه أحدٌ منهم، ولعلّ ذلك بسبب انشغالهم بالبيع، فيومُ الجمعةِ يختلفُ عن غيره.. كانَ يُحدِّثُ نفسَه بذلك وهو يرجو أنْ تكونَ له في الأيامِ القادمةِ علاقةٌ بأحدهم.

صارَ الوقتُ ظهرًا.. وعليه أنْ يتناولَ الغداء، لكن كيفَ سيتركُ بضاعته على الأرضِ دونَ رقيب؟ وهل يُمكنُه أنْ يستعينَ بشخصٍ ما ليُراقبَ له كتبه؟

كانَ يبعدُ عن هؤلاءِ الباعةِ بمسافةٍ لا تسمحُ له بالاختلاطِ بهم، فالمكانُ الذي اختاره لبضاعتِه ليس من الأماكنِ الحيويةِ أو المُتصدِّرةِ في هذا السوق.. وحتى لو وافقَ أحدُهم على أنْ يحرسَ بضاعته فإنّه سيكونُ بعيدًا عنها.. ولو أنَّ الأمرَ يقتصرُ على تناولِ الغداءِ لأمكنه تدبُّر أمره.. لكنّه كانَ بحاجةٍ إلى المزيدِ من الوقتِ لقضاءِ حاجته والوضوءِ والصلاةِ وبعدها تناولِ وجبةٍ سريعة..

لم يكنْ أمامَه سوى خيارين؛ إمّا أنْ يبقى مع بضاعتِه، أو أنْ يتركَها على الرصيفِ ويمضي.

طالَ حديثُه مع نفسِه، ولعلَّ ما يُميّزُ هذا اليومُ أنّه من أكثرِ الأيامِ التي تحدّثَ فيها مع نفسه..

خطرتْ في باله مقولةٌ كانَ قد قرأها في وقتٍ ما، أخذَ يُردِّدُها وهو ينظر إلى كتبه: "القُرّاءُ لا يسرقون، واللصوصُ لا يقرؤون"

وصار يقولُ: نعم.. نعم.. إنّه الواقعُ، فلا هؤلاءِ يسرقون، ولا أولئك يقرؤون..

قرّرَ أنْ يُغادرَ دونَ أنْ يوصيَ أحدًا ويمضي دونَ أنْ يلتفتَ إلى بضاعته، وهو يبني على تلك المقولة قناعاتٍ ثابتةً..

بعد ساعةٍ كانَ قد تناولَ فيها طعامَه وتوضّأ وصلّى، عادَ إلى مكانه، لكنّه فوجئَ باختفاءِ بضاعته.. مشى بضعة خطواتٍ ليتأكّدَ من مكانِها فلعلّه نسيَ أينَ هو بالضبط، لكنّ المكانَ هو هو.. كانَ بعضُ الباعةِ قد غادروا أماكنهم، والمساحاتُ الفارغةُ أصبحتْ كثيرة.. ولا مجالَ حتى لسؤالِ أحدٍ منهم -ممّن بقيَ على الرصيف- فهو لا يعرفُ أحدًا منهم، بالإضافةِ إلى بعدِه عنهم..

لا مجالَ للشكِّ بأنَّ بضاعتَه سُرِقَتْ..

ولكن..

أيُعقلُ أنْ تموتَ قناعتُه بأنَّ القُرّاءَ لا يسرقون؟

أيُعقَلُ أنْ يتلاشى يقينُه بأنًّ اللصوصَ لا يقرؤون.. ولِمَ لا؟..

فهذا الواقعُ يُثبِتُ خلافَ ذلك..

استمرَّ بالحديثِ مع نفسِه، وهو يُعيدُ النظرَ في اعتقادِه بالمقولةِ، وصارَ ينظرُ إلى شيءٍ جديدٍ ينسفُ به اعتناقَ هذه الفكرة..

أصبحَ يبحثُ عن مقولاتٍ أخرى أثبتَ الواقعُ زيفَها وكذبَها، وحالة الفشلِ التي أصابتها عندَ أولِ اختبار..

استغرقَ طويلًا في أفكاره وهو يتكئ على عربةٍ مركونةٍ لبائعٍ جوّالٍ كانَ قد ربطَ عجلاتِها بسلسلةٍ حديديةٍ وقفلٍ كبير.. صارَ ينظرُ لسلسلةِ الحديدِ والقفلِ وهو يتساءلُ بحزن:

- يا تُرى من الذي سرقَ كتبي.. قارئٌ أم لص؟..

وسطَ تساؤلاتِه وحيرته.. صكَّ أسماعَه صوتُ شابٍ كانَ يُناديه من الرصيفِ المُقابلِ في هذا الشارع:

- يا حاج.. يا أستاذ.. يا عمّ..

رفعَ رأسَه وهو ينظرُ إليه قائلًا:

- تتحدّثُ معي؟

أجابَه الشابُ وكانَ يرتدي بدلةَ عمّالِ النظافة:

- نعم يا عمّ.. هل هذه الكتب لك؟..

اقتربَ منها بلهفةٍ.. كانتْ مُبعثرةً، لكنّها كانتْ ما تزالُ فوقَ قطعةِ القماشِ الكبيرةِ التي وضعها تحتها..

- نعم، إنّها لي.. مَنْ جاءَ بها إلى هنا؟

أجابه الشاب:

- نعتذرُ يا حاجّ، لقد طلبَ مِنّا المشرفُ تنظيفَ المكانِ ولم نجدك.. فاضطررنا لنقلِها إلى هنا.. لكن اطمئن إنّها بخير.. كانَ الشابُ يتحدّثُ دونَ أنْ تُفارِقَ الابتسامةُ وجهه..

انحنى على كتبه وهو يهمُّ بإعادةِ ترتيبها.. والتأكُّدِ من سلامتها.. لكنّه عادَ ليقف من جديدٍ يحدثُ نفسَه: - على ما يبدو أنَّ المقولةَ لم تفشلْ في الاختبار، وعليَّ العودةُ للاعتقادِ بها؛ فهذه كُتُبي لم يسرقها قارئٌ، ولم يقرأْها لصّ.

2022/11/01

ودّع الهمّ والغمّ: هل يمنحنا الدين وصفة لـ «السعادة»؟
لم تفرق معاجم اللغة كثيراً بين الهم والغم والحزن، فقيل إن الهم والغم بمعنى وأحد، وقيل أن الهم هو الحزن، والغم هو الكرب والضرر، وقيل إن الهم يكون من أمر يتوقع حصوله، والغم يكون من أمر تم حصوله بالفعل.

[اشترك]

إلا أن التدقيق في هذه الفروقات لا يقودنا إلى مفاهيم منضبطة لهذه الكلمات، ومن هنا يجب الحديث عنها بوصفها كلمات تدل في الجملة على معنى واحد وهو عدم الراحة النفسية، وفي المقابل فإن كلمات الفرح والسرور والسعادة تدل في الجملة أيضاً على معنى واحد وهو الراحة النفسية، ولطبيعة المقابلة بين الشعورين فإن معرفة أسباب أي واحد منها يقود إلى معرفة أسباب ما يقابلها، أي أن معرفة أسباب الحزن يقود إلى معرفة أسباب الفرح، ومعرفة أسباب السرور يقود إلى معرفة أسباب الهم والغم، وعلى ذلك فإن البحث عن أسباب السعادة هو بحث في الاتجاه المعاكس عن أسباب الشقاوة، وبناءً على ذلك يمكن القول إن الإسلام بكل تعاليمه وأحكامه هو إجابة عن السؤال الذي يبحث عن أسباب السعادة والشقاوة؛ لأن الإسلام في حقيقته هو المشروع الذي يحقق للروح الساعدة وللقلب الاطمئنان وللنفس الرضا، وعلى ذلك يجب التعامل مع جميع أوامره ونواهيه على أنها أسباب مباشرة لإزالة كل ما يعكر صفو الإنسان.

وإذا حاولنا تحليل السعادة من جهة كونها شعور نفسي سنجد أنها غير مرتبطة بالظروف والعوامل المادية التي يعيش فيها الإنسان، فقد تجد الفقير أكثر راحة نفسية من الغني، وتجد المريض أكثر توازناً واطمئناناً من السليم والمعافى، وهكذا لا يمكن ربط الشعور النفسي بالظرف المادي فقط، وإنما يجب البحث عن عامل آخر اكثر تأثيراً وتحكماً في حالة الإنسان النفسية، فمثلاً لا يكون العيش في القصر سبباً للراحة النفسية مالم يكن ذلك مقترناً بأمر آخر، فالإمام الكاظم كان أكثر اطمئناناً وانسجاماً نفسياً وروحياً مع أنه كان يعيش في مطامير السجون، بينما هارون كان أكثر قلقاً واضطراباً مع أنه كان يعيش في القصور، ومن هنا يجب أن لا ننظر للدين بوصفه مشروع سعادة في الآخرة فقط وإنما هو مشروع السعادة في الدنيا أيضاً، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وإذا لم تكن السعادة مرتبطة بالأسباب المادية فقط فإن المعيشة الضنكة لا تعني بالضرورة الحرمان من الوسائل المادية، وبناءً على هذه الآية فإن الابتعاد عن الله هو السبب المباشر لكل ما يصيب النفس من قلق وتوتر، وبمقدار البعد عن الله يكون مقدار الضنك الذي يصيب الإنسان، ومن هنا لا يمكن أن نحكم على المؤمن بأنه معفياً من حالات الهم والغم والحزن، طالما كان الإيمان بين إدبار وإقبال، فالمؤمن لا يصيبه الهم والغم إلا في حالة الغفلة التي يستغلها الشيطان، وقد جزم أمير المؤمن عليه السلام بذلك في قوله: (من قصر في العمل ابتلي بالهم)، وفي المقابل عندما يكون المؤمن قريب من الله تعالى وبعيد عن الشيطان يكون بالضرورة في حالة سكينة واطمئنان، وهذا صريح قوله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسر الذي يجنب الإنسان من الهم بقوله: (يا علي، أمان لامتي من الهم: لا حول ولا قوة إلا بالله لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه)، فالارتباط بالله واستحضاره في القلوب هو السر الذي لا يبقى معه هم وحزن بسبب الدنيا، وبما أن القلب لا يخلو من الغفلة فإن الله جعل الهم والغم كفارة للذنوب التي تصدر منه، وقد فسرت الكثير من الروايات حصول الهم والغم للمؤمن بذلك، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا تزال الغموم والهموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنباً، وقال عليه السلام: لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه ويذكره ربه)، وعن الحارث بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن العبد المؤمن ليهتم في الدنيا حتى يخرج منها ولا ذنب له)، وعليه من كان كثير الهم والغم ودائم الحزن يجب أن يراجع إيمانه وصلته بالله تعالى، وعندها سيكتشف بالضرورة أن هناك خللاً ما.

وقد بينت الروايات طريقة التخلص من الهم والغم الذي يكون بسبب الذنوب وغفلة القلب، حيث أكدت أن معالجة ذلك يكون بالتوبة والاستغفار واستذكار الله تعالى، ومن تلك الروايات قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مَن أكثر الاستغفار جعل الله له مِن كل همّ فرجاً، ومِن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (يا سفيان! إذا حزنك أمر من سلطان أو غيره؛ فأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة)، وعنه عليه السلام قال: (وعجبت لمَن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: ﴿لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

كما أن روايات أهل البيت (عليهم السلام) لم تهمل الأسباب المادية التي تجلب الهم والغم، فالظروف الصحية والبيئية وأنواع الأكل وغير ذلك لها تأثير مباشر على المزاج النفسي للإنسان، ومن تلك الروايات قول امير المؤمنين (عليه السلام): (غسل الثياب يذهب بالهم والحزن، وهو طهور للصلاة)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (الرائحة الطيبة؛ تشد القلب)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن الله تعالى يحب الجمال والتجمل، ويكره البؤس والتباؤس.. فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة؛ أحب أن يرى عليه أثرها، قيل: وكيف ذلك؟ قال: ينظف ثوبه، ويطيّب ريحه، ويحسّن داره، ويكنس أفنيته.. حتى أن السراج قبل مغيب الشمس: ينفي الفقر، ويزيد في الرزق).

وقد نصحت بعض الروايات ببعض الأفعال التي تساعد على تحسين الحالة النفسية مثل الاغتسال بالماء، فإنه يعيد النشاط ويذهب عن الإنسان الكدر والهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من وجد همّا فلا يدري ما هو؛ فليغسل رأسه! وقال: إذا توالت الهموم؛ فعليك بلا حول ولا قوة إلا بالله)، وغير ذلك من الروايات التي تنصح ببعض الاكلات التي تساعد على إزاحة الهم والغم مثل قول الأمام الصادق عليه السلام أن العنب الأسود ليذهب غمَك.

2022/10/31

المصائب مُنح الله: لماذا تواجهنا تحدّيات الحياة؟!

عند ذهاب الإنسان إلى أيّ مكان ينبغي أن يتعرف على طبيعة ذلك المكان، وأن يحدّد المهمّة التي جاء إليه من أجلها، حتى يتهيأ ويكيِّف وضعه مع أجواء ذلك المكان، ويتجه إلى إنـجاز تلك المهمّة، حيث تختلف طبيعة الأمكنة والمهام.

[اشترك]

فحين تسافر إلى بلدٍ، تحتاج إلى معلومات أوّلية عنه، لتوفر المستلزمات المناسبة للسفر إليه. كما تحتاج إلى تحديد غرضك من الذهاب إليه، هل هو الدراسة أو التجارة أو العلاج أو السياحة. فقد يستلزم كلّ غرض وسائل وبرامج تختلف عن الغرض الآخر.

بل حتى المواقع التي تذهب إليها، قد تستلزم تهيئًا واستعدادًا خاصًّا لكلّ موقع، فإنّ تهيئك للذهاب لصالة رياضية، يختلف عن تهيئك للذهاب للمسجد، أو لصالة اجتماعات.

وتشبّه كثير من النصوص الدينية وجود الإنسان في الدنيا بالسفر، فهي رحلة، ما تلبث أن تنتهي.

ورد عن الإمام علي عليه السلام: «إِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ بَيْنَا هُمْ حَلُّوا إِذْ صَاحَ بِهِمْ سَائِقُهُمْ فَارْتَحَلُوا».

وفي كلمة أخرى عنه عليه السلام: «إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْرٍ سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ».

معرفة طبيعة الحياة

ورحلة الإنسان في هذه الحياة تتطلب معرفة بطبيعتها، وتهيؤًا واستعدادًا لتحقيق الغرض من هذه الرّحلة، وهذا ما توضحه الرسالات السماوية، ويدركه الإنسان بضميره وعقله السّليم.

وأول ما توضحه الرسالات السماوية هو تبيين طبيعة هذه الحياة للإنسان، فهي رحلة مقرّرة للإنسان من قبل الله تعالى، في بدئها ونهايتها ومقوماتها. وهي رحلة كفاح، وبذل جهد، وليست رحلة راحة واستجمام.

يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾.

أي في مشقة ومعاناة، و (في) تفيد الظرفية، وتعني أنّ الإنسان في هذه الحياة، يعيش في ظرف ووعاء المعاناة والمشقّة، تحيط به كما يحيط الظرف بالمظروف.

إنّها معاناة تبدأ من وقت الولادة، والتكيّف مع الحياة الجديدة، وتستمرّ إلى معاناة الخروج من هذه الحياة.

إنه يعاني من الصّراع في داخل نفسه، بين أهوائه ورغباته المختلفة، ويعاني في وضع جسمه، حيث تعتوره الآلام والأسقام، ويعاني في توفير متطلبات الحياة.

ويعاني في علاقته مع محيطه الاجتماعي، وفي عيشه في أحضان الطبيعة.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، والكدح: بذل الجهد وتحمّل العناء، فهو كدح مستمرٌّ إلى ملاقاة الله تعالى.

وقد يتصور الإنسان أنّ هناك في الحياة من لا يناله التعب والمشقة، لأنه يرى ظاهر حياتهم، وذلك وهم، فكلّ إنسان يحمل همومه وأتعابه، صحيح أنّها تتفاوت لكنّها تشمل الجميع، العالم والجاهل، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم. وفي هذا البلد وذاك البلد.

لا للرؤية التشاؤمية

ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله «إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَضَعْتُ اَلرَّاحَةَ فِي اَلْجَنَّةِ وَاَلنَّاسُ يَطْلُبُونَهَا فِي اَلدُّنْيَا فَلاَ يَجِدُونَهَا».

وورد عن الإمام علي بن الحسين السّجاد عليه السلام: «اَلرَّاحَةُ لَمْ تُخْلَقْ فِي اَلدُّنْيَا وَلاَ لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا إِنَّمَا خُلِقَتِ اَلرَّاحَةُ فِي اَلْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ اَلْجَنَّةِ».

ويقول الشاعر أبو الحسن التهامي (ت: 416 هـ):

طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها          صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ

وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها             مُتَطَّلِبٌ في الماءِ جَذوةَ نارِ

لماذا التأكيد على هذه الطبيعة للدنيا؟

هل ذلك لبثّ حالة التشاؤم والضّجر؟

كلّا؛ فالنصوص الدينية لا تصنع رؤية تشاؤمية عن الحياة، بل تتحدّث عن نعم الله التي أفاضها على الإنسان في الحياة.

يقول تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾.

ويقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

كما تتحدّث آيات القرآن الكريم، عن جمال الكون، وثروات الطبيعة، وتسخير كلّ الإمكانات لخدمة الإنسان.

وإنّما التأكيد على طبيعة المعاناة في الدنيا ليتهيأ الإنسان لمواجهة واقع الحياة، ويستعدّ لتحمّل أعبائها، بإرادة ووعي، حتى لا يسيطر عليه الإحباط واليأس، ولا يعيش في خيال الرغبات والتمنّيات.

التحدّيات طريق لتكامل الإنسان

لماذا قدّر الله تعالى للإنسان أن تكون رحلته في هذه الحياة محفوفة بالمشقّة والمعاناة؟

لأنه تعالى شاء أن تكون الحياة دار امتحان يصقل فيها الإنسان إرادته، ويعتصر فكره، ويفجر قدراته النفسية، وينمّي خبرته ومهاراته.

إنّها الطريق لتكامل الإنسان روحًا وفكرًا وسلوكًا.

وحين يدخل الإنسان إلى قاعة امتحان وتدريب، عليه ألّا يتوقع الترفيه، بل مواجهة تحدّي الأسئلة، والمواقف الصعبة، سواء في الامتحانات العلمية الاكاديمية أو التدريبات الرياضية والعسكرية، أو حتى امتحان رخصة القيادة للسيّارة والطائرة.

وهذا الاختبار والامتحان ليس لتعذيب الإنسان وإيذائه، وإنّما لتربية الإنسان، وزرع التطلّع والطموح للكمال والنجاح في نفسه.

وفي القرآن الكريم والأحاديث نصوص كثيرة تؤكّد على هذه الحقيقة.

يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾.

وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾.

ورد عنه عليه السلام: «لَولا ثَلاثٌ فِي ابنِ آدَمَ ما طَأطَأَ رَأسَهُ شَيءٌ: المَرَضُ، وَالفَقرُ، وَالمَوتُ، كُلُّهُم فيهِ، وإنَّهُ مَعَهُنَّ لَوَثّابٌ».

وجاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «اَلْمَصَائِبُ مِنَحٌ مِنَ اَللَّه».

التطلّع إلى الآخرة

كما أنّ صعوبات الحياة وآلامها، تحفّز الإنسان للتطلّع إلى حياة أفضل، تخلو من الصّعوبات والآلام، كما يدفع الظمأ الإنسان للبحث عن الماء، لذلك تتحدّث النصوص الدينية، عن نعيم الجنة، والخلود فيها، لبعص الشوق في نفس الإنسان إليها.

يقول تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.

ويقول تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‎﴿٧٠﴾‏ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

ويقول تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‎﴿٢٥﴾‏ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾

ورد عن أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب عليه السلام فِي صِفَةِ اَلْجَنَّةِ: «دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ، وَمَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ، لاَ يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَلاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يَهْرَمُ خَالِدُهَا، وَلاَ يَيْأَسُ سَاكِنُهَا».

2022/10/26

هل تخافون على الدين من ’التمدّن’ و ’التحضّر’؟!

هل برأيكُم انتشارُ التمدّنِ والانفتاحِ في وسطِ وجنوبِ العراق سيؤثّرُ على عقليّةِ الشابِّ الشيعيّ ناهيكَ عن ضعفِ عقيدةِ بعضِ الشباب.

[اشترك]

إنّنا لا نخشى على إسلامِنا ودينِنا منَ الثقافةِ والعلمِ والتحضّرِ والمدنيّةِ إلى غيرِ ذلكَ منَ الاصطلاحات.  بل العكسُ هوَ الصحيح، فالدينُ الإسلاميُّ دينٌ صحيحٌ قائمٌ على أسسٍ صحيحة، تلتئمُ تمامَ الالتئام معَ القواعدِ العلميّةِ الثابتة.

والدينُ الإسلاميُّ حثَّ في أدلّةٍ كثيرةٍ على ضرورةِ العلمِ والتعلّمِ والتدبّرِ والتأمّلِ في كلِّ شيء.

قالَ تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلاَفًا كَثِيرًا). (النساء /83).

 وقالَ تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا) (سورة رسولِ الله م ح م د / 25)

وقالَ اللهُ تعالى: (إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر/29).

ومضمونُ الآيةِ الأخيرةِ أنَّ العلماءَ هُم أكثرُ الناسِ خوفاً منَ اللهِ تعالى وذلكَ لمعرفتِهم بأنَّ لهذا الوجودِ خالقاً مُدبّرأ، بسببِ ما يرونَه منَ الآياتِ الدالّةِ على وجودِه تباركَ وتعالى.

وقد روى الكُلينيّ رحمَه الله عن أبي عبدِ الله عليهِ السلام أنّه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله: مَن سلكَ طريقاً يطلبُ فيه علماً سلكَ اللهُ به طريقاً إلى الجنّةِ وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها لطالبِ العلمِ رضاً به. الكافي الكُلينيّ (1/ 44)

طبعاً لابدَّ منَ التنويهِ إلى أنَّ الأجرَ والثوابَ المُترتّبَ على طلبِ العلمِ إنّما يكونُ لو كانَ لوجهِ اللهِ تعالى.

ومُلخّصُ ما أقولُ إنّنا نخشى على مُجتمعِنا الإسلاميّ وتحديداً جيلَ الشبابِ مِنه، منَ الدعاياتِ المُضلّلةِ، التي تستهدفُ ضُعفاءَ العقولِ ومَن ليسَ له درايةٌ بأساليبِ التضليلِ وطرقِ الحربِ الناعمةِ التي تمارسُها المؤسّساتُ الإعلاميّةُ المُتخصّصةُ بنشرِ الفتنِ والأكاذيبِ المُضلّلة.

2022/10/20

هل الدين طقوس فردية أم منهج حياة؟

 

من الأخطاء التي وقعت فيها بعض القراءات الدينية هي تقديمها للدين وكأنه ليس له علاقة بالهموم الحياتية للإنسان، وقد تمظهر ذلك في كثير من الاتجاهات التي حصرت الدين في جانب الاعتقاد الشخصي والطقوس الفردية.

[اشترك]

 بل تطرفت بعض الاتجاهات التي عارضت أي فهم ديني يسعى لتطوير حياة الإنسان وإعمار دنياه، والسبب في ذلك هو الفهم المشوه الذي صور الدين بوصفه خطاب لآخرة الإنسان ولا علاقة له بدنياه، وهذا خلاف حتى للتقييم الأولي الذي يقودنا للقول إن الدين الذي لا يكون صالحاً في الدنيا لا يكون صالحاً في الآخرة، ومن هنا فإن معيار تقييم الدين وفهمه يجب أن ينطلق من فهم الحياة وفلسفة وجود الإنسان فيها، ولا يمكن تحقيق ذلك في ظل تهميش الإنسان وإبعاده عن مسؤولياته في بناء حضارته القيمية، فمن الأخطاء الفاتحة تصوير التقدم، والتنمية، والكرامة، والرفعة، والعزة، وغيرها من القيم الحضارية على أنها مفاهيم شرقية أو غربية، بل الإسلام وجميع رسالات الله لم تأتِ إلا من أجل الارتقاء بالإنسان إلى مستوى يكون فيه مسؤولاً عن تحقيق هذه القيم. 

ومن هنا يمكننا تسجيل ملاحظات على مجمل الخطاب الإسلامي، أو على مستوى الوعي الديني المتاح عند الإنسان المسلم، فالوعي الذي حققه ذلك الخطاب، قد عمل على استبعاد الإنسان كقيمة محورية جاءت من أجلها التشريعات، وكرس الاهتمام بهذه التشريعات بوصفها قيمة في نفسها، مع أن التشريعات لا تكتسب قيمتها بعيداً عن الإنسان، كما أن الإنسان لا يكتسب قيمته إلا من خلال القيم التي تؤكد عليها تلك التشريعات، ومن هنا تنبع خطورة تهميش الخطاب الإسلامي للإنسان كقيمة محورية، وتركيزه على التشريع بوصفها طقوساً مطلوبة لذاتها.

[صلة]

فحقيقة الانتماء للإسلام ضمن الوعي السلفي للدين، لا تتجاوز النظرة القشرية للأحكام والتشريعات، فتحول الإسلام عند بعض التيارات إلي ممارسات ظاهرية تقف عند حدود الشعيرة دون أن تتعداها إلي المضمون والجوهر، فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من العبادات، لا تعدو كونها- ضمن هذا الوعي السطحي- واجبات يثاب عليها الإنسان يوم القيامة، أما على مستوى الحياة الدنيا فليس لها قيمة ملموسة ترتبط بالسلوك الحضاري للإنسان، وقد ساعد في ذلك إهمال البحوث الفقهية التي تبحث عن حِكم الأحكام وقيم التشريعات، مع أن البحث عن ذلك هو الذي ينفتح الباب أمام فهم جديد للفقه يستوعب حاجات الإنسان وطموحاته، وبالتالي فإن الخطاب الإسلامي المتوارث في الجملة، قد عمل على تفريغ الدين من محتواه المتمثل في القيم.

فالإسلام هو الرسالة الخالدة التي جاءت تتويجاً لجهود الأنبياء السابقين، وكون الإسلام خالداً، يدل على شمول الخطاب وتمام التشريع، كما أن الخاتمية تعني قمة ما يريده الخالق للمخلوق، وهذا النوع من التفكير هو الذي يخلق مساحة للتفاعل بين الإنسان ومضامين الدين وحِكم التشريع؛ لأنه نوع من الوعي الباحث عن مراد الله وحِكمته من خلق الإنسان ووجوده، فقيمة الإنسان في ما أراده الشارع للإنسان، وليس في ما أراده من الإنسان، حتى العبادة لا تكون عطاءً من الإنسان بقدر ما هي عطاءٌ للإنسان؛ لأن معناها حقيقةً ليس سلب شيء من الإنسان وإنما تحقيق قيمة له.

والإسلام بهذا المعنى، هو النظام الإلهي الذي يهدف إلى بناء الإنسان وتكامله في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإذا اردنا أن نلخص فلسفة الإسلام يمكننا أن نقول إنه المبدأ الذي يدفع بالإنسان نحو الأمام في كل ميادين الحياة، وانطلاقاً من هذه البصيرة يمكننا تشكيل معيار لمحاكمة ما هو موجود في الساحة من خطابات إسلامية، فالخطاب الذي يكون معبراً عن حقيقة الإسلام هو الخطاب القائم على رؤية تكاملية للإنسان، ابتداءً من تصوره المعرفي والعقائدي ومروراً بسلوكه العبادي وانتهاءً بدوره الحضاري في الحياة.

2022/10/18

الديمقراطية والإسلام: هل الحق مع الأكثرية؟!

 

لقد استنكرت آيات القرآن الكريم «الأكثرية» من الناس، في حين نرى أنّ «الأكثرية» يقرّرون اليوم صلاح الشيء أو عدمه فهم معيار الحسن والقبح في المجتمع، وهذا يثير علامة استفهام كبيرة.

[اشترك]

وليس الكلام في الآيات التي تذكر الأكثرية مع إضافة ضمير (هم) حيث يكون المراد منها أكثر الكافرين والمشركين وأمثالهم ، بل الكلام حول الآيات التي تذكر عنوان (أكثر الناس) من قبيل : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).[1]

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[2].

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)[3].

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[4].

(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً)[5].

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)[6].

ومن جهة أخرى اهتمت بعض آيات القرآن بمنهج أكثرية المؤمنين باعتباره معيارا صحيحا للآخرين، فقد جاء في الآية الخامسة عشرة بعد المائة من سورة النساء: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

ونجد في الرّوايات الإسلامية لدى تعارض الرّوايات أنّ أحد المعايير للترجيح هو الشهرة بين أصحاب أئمّة الهدى وأنصارهم وأتباعهم، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»[7].

ونقرأ في نهج البلاغة : «والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب»[8].

ونقرأ أيضا في نهج البلاغة: «والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة»[9].

وعلى هذا قد يتراءى للبعض تناقض بين هاتين المجموعتين من الآيات والأحاديث.

ومن جهة أخرى يمكن أن يتصوّر مخالفة الإسلام للديمقراطية التي تعتمد على آراء أكثر الناس، وهذا ما رفضه القرآن بشدّة.

ولكن بالتدقيق في الآيات والأحاديث السابقة ومقارنة بعضها ببعض يتّضح المفهوم الحقيقي، وهو أنّ الأكثرية لو كانت من المؤمنين الواعين الذين ينتهجون الحقّ ويرفضون الباطل، لاستحقّوا الاحترام، وحظي رأيهم بالتقدير والقبول.

أمّا إذا كانوا فئة جاهلة أو واعية لكنّها مستسلمة لرغباتها وشهواتها على علم منها، فلا طاعة لها ولا رأي. لأنّ اتّباعها يؤدّي إلى الضلالة والضياع، كما يقول القرآن المجيد.

وعلى هذا الأساس فلو أردنا تحقيق «ديمقراطية سليمة» لوجب السعي أوّلا لتوعية الناس وتكوين جماعة مؤمنة واعية، ثمّ الاستناد على رأي أكثريتهم كمعيار لسلامة الأهداف الاجتماعية، وإلّا فإنّ ديمقراطية الأكثرية الضّالة لا تنتج سوى ضلال المجتمع وجرّه إلى جهنّم.

ومن الضروري التنبيه إلى أننا نعتقد أنّ رأي الأكثرية الواعية المؤمنة إنّما يكون محترما ومقبولا فيما إذا لم يخالف الكتاب والسنّة والأحكام الإلهيّة.

ولجوء الأمم والشعوب في هذا العصر إلى رأي الأكثرية مبعثه انعدام المعيار الموثوق به في قياس ما ينفع المصلحة العامّة وما يضرّها، فهذه المجتمعات لا تستنير بكتاب ربّاني ولا تلتزم رسالة نبي كريم، وليس لديها سوى الرجوع إلى رأي العامّة. وبما أنّ المتسلّطين لا يسعون لتوعية رعاياهم، بل يجتهدون في استدامة غفلة الناس وضآلة اطّلاعهم على ما ينهض بتقدّمهم وازدهار حياتهم، ليتسنّى لهؤلاء الاستمرار في الهيمنة على الناس والعبث بمصيرهم، لذلك جعلوا الأكثرية الكميّة معيارا لإسكات الأصوات المعترضة.

ولو دقّقّنا في وضع المجتمعات المعاصرة والقوانين والأنظمة السائدة، لوجدنا أكثر مصائبهم نابعة من اللجوء إلى ما يسمّى رأي الأكثرية.

فما أسوأ القوانين وأقبح المقرّرات التي جعلتها «الأكثرية»، وما أكثر الفتن والحروب التي اندلعت بسبب رأي الأكثرية الجاهلة، وما أعظم المظالم وأشكال العدوان التي قرّرت الأكثرية صحّتها ومشروعيتها!!

مقتطف من كتاب تفسير الأمثل ج 10

 

الهوامش:
[1] البقرة ، 243. [2] الأعراف ، 187. [3] هود ، 17. [4] يوسف 103. [5] الإسراء ، 89. [6] الأنعام ، 116. [7] وسائل الشيعة ، المجلّد الثامن عشر ، صفحة 72 (كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي). [8] نهج البلاغة ، الخطبة 127. [9] نهج البلاغة ، الخطبة 151.
2022/10/16

السلام الداخلي والتصالح مع النفس وتقبّل الذات.. مفاهيم إيجابية أم سلبية؟!

 

التصالح مع النفس أو التصالح مع الذات من المفاهيم التي يكثر استخدامها بين المهتمين بالتنمية البشرية وتطوير الذات.

ويبدو أن مصطلح التصالح مع النفس يحمل في طياته دلالة إشكالية في حد نفسه، إذا كيف يصبح التصالح مع النفس طريق إلى تطويرها وتنميتها؟ فالظاهر من دلالة المصطلح هو قبول ما عليه النفس من إيجابيات وسلبيات، وبالتالي التعايش معها دون العمل على تغييرها، وهذا المعنى يتناقض تماماً مع أهداف التنمية البشرية وتطوير الذات، ويبدو أن هذه الدلالة الإشكالية هي التي جعلت بعض مدربي التنمية البشرية يتورط في تقديم توصيات قد تتعارض مع توصيات الإسلام حول النفس، مثل إشعار النفس بالخطيئة وعدم التساهل مع الذنوب ومحاسبة النفس ولومها.

 ومن الواضح أن هذا فهم مشوه للمقصود من مصطلح التصالح مع الذات، ففي كتاب «قوة التصالح مع الذات» للدكتورة وفاء محمد مصطفى، خبيرة التنمية البشرية، اعتبرت التصالح والتسامح وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن أن يتحقق التسامح الاجتماعي وقبول الآخر من غير أن يتحقق التصالح مع النفس أولاً، الأمر الذي يؤكد أن المقصود من التصالح هو تجاوز سلبيات النفس من خلال التقييم الموضوعي والواقعي لحقيقتها، فمن يرى في نفسه عوامل النقص سوف يرى الآخرين بعين العفو والغفران، ومن يرى فيها عوامل الكمال سوف يكون أكثر عطاءً وحباً ورحمة، فالتصالح يعني التوازن بين الإفراط والتفريط، فلا يستحقر الإنسان نفسه فيقضي على كل عوامل الخير فيه، ولا يرى نفسه بعين العظمة والغرور فيستحقر هو الآخرين.

وعليه فإن لإطار الذي يجب أن يصنف فيه مفهوم التصالح على أنه مفهوم إيجابي هو عندما يكون عاملاً مساعداً على تخليص النفس من مشاعرها السلبية وأمراضها النفسية، وبهذا الطريقة يحفز التصالح النفس نحو النجاح والإبداع بدل أن تظل حبيسة تصوراتها الخاطئة نحو ذاتها ونحو الآخرين، فحتى يعيش الإنسان في جو خالٍ من الأحقاد والعداوات لابد أن ينطلق من تقييم واقعي لذاته، ويبدو أن التحليل النفسي لأكثر المشاكل النفسية والاجتماعية يحمل المسؤولية للنظرة غير المتوازنة للذات، فمثلاً الناس الذين يعيشون حالة من العزلة والانطواء والاكتئاب يحملون في الواقع نظرة خاطئة لذواتهم، فالإنسان الذي لا يجد لنفسه قيمة ولا يثق في قدراته سيفضل الهروب والانطواء على المواجهة والتحدي، وقد تتعاظم هذه الحالة حتى تؤدي إلى أمراض خطيرة نفسياً واجتماعياً، وقد اصطلح على هذه الحالة باضطراب الشخصية الاجتنابية (Avoidant personality disorder).  وسميت بذلك لأن من يعاني منها يسعى جاهداً لتجنب الاحتكاك بالآخرين، ولذا قد يترك العمل أو الدراسة وكل الأنشطة الاجتماعية خوفاً من تقييم الآخرين، والتصالح مع النفس لمثل هذه الحالات يقوم بتشجيعهم على تقييم ذواتهم دون الالتفات لتقييمات الآخرين، فأحياناً يعمل المجتمع والأسرة والتربية على فرض نمط محدد للشخصية، وعندما يجد الإنسان نفسه لا تنسجم مع الشخصية المفروضة عليه، يحصر نفسه بين خيارين، أما أن يكفر بذاته فيصاب بالإحباط والعجز الاستسلام، وإما أن يكفر بالمجتمع فيصاب بحالة من الغرور والتكبر، ومن هنا يجب على الإنسان أن يتصالح مع ذاته ويكتشف نفسه كما هي ليتمكن من بناء حياته التي تناسبه.

وعليه فإن المقصود من التصالح مع النفس هو أن يعيش الإنسان بشخصيته الحقيقية لا بشخصية مزيفة قائمة على النفاق، فيتعامل مع الآخرين بواقعية تنطلق من شعوره العميق بذاته، ولا يعني ذلك الاسترسال مع النفس بحيث يسلم لها زمام المبادرة وإنما يعني  فهمها حتى يسهل ترويضها وقيادتها، فالمعانة التي تواجه الإنسان في الحياة هي انعكاس للمعانة التي يعيشها في الداخل، فمع أن المتصالح يرى كل ما في حياة من كراهية وبغض ونزاع ومشاكل إلا أنه يتسامى عليها، ولا يكون ذلك من موقع الإنكار والتجاهل وإنما من موقع الحِكمة والقوة والاقتدار، فمثلاً عندما يعترف الإنسان بجهلة في قضية ما ويتصالح مع هذه الحقيقة لا يمكن أن يجادل الآخرين ويتخاصم معهم في أمر هو يعترف بجهله فيه، وكذلك لا يمكن للمتصالح مع جهله أن يكره أو يعادي من لا يعرف عنه شيء، وهكذا من يتصالح مع نفسه لا يرى نفسه افضل من الآخرين ولا عرقه ارقي من أعراق الآخرين ولا يمكن أن يعيش في خصومة ونزاع دائم بسبب نظرته المشوهة  لذاته؛ لأنه يعرف قدره ومقداره ويعرف إمكاناته وقدراته كما يعرف نقصه وسلبياته، وعليه من يتعالم مع نفسه بواقعية سوف يتعامل مع الواقع بواقعية اكبر.

ويبدو أن العقبة الكبرى أمام تصالح الإنسان مع ذاته هو المناخ الاجتماعي والثقافي، الأمر الذي يجعل الفرد في حالة من الخداع الدائم لذاته ليكون كما يريده الآخرين لا كما يريد هو أن يكون، وقد ذم الله التقليد والاتباع الأعمى للمجتمعات، وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، وفي الحديث الشريف: (لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا)، وقد نسب لأمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).

وفي المحصلة لا يجوز فهم التصالح مع الذات على أنه توطين النفس على الخطأ والرذيلة وإنما يعني اكتشاف الذات بعمق وفهمها على حقيقتها من غير خداع وتزوير، وإذا حقق الإنسان السلام الداخلي بين متناقضات النفس تمكن من توظيف مواطن قوته كما يتمكن من تدارك مواطن ضعفه.

[اشترك]

2022/10/15

حبس العقل في المختبر: هل يصح البحث عن الظاهرة الدينية في الآثار المادية؟!

 

إن دراسة التاريخ الإنساني لا تنحصر في المناهج المادية القائمة على الحفريات والآثار، فإن كانت هذه المناهج ضرورية وفاعلة في الكشف عن الآثار المادية للحضارات القديمة إلا أنها غير فاعلة في الكشف عن الجوانب الإنسانية لتلك الحضارات.

فمثلاً لا يمكن فهم الحضارة اليونانية من خلال الاكتفاء بما في أثينا من آثار مادية؛ لأن في ذلك تضييع للتاريخ الإنساني الذي كانت تحفل به تلك الحضارة، فالموروث الثقافي للإنسان لا يقل أهمية عن موروثه المادي، فلا يمكن مثلاً البحث عن أفكار افلاطون وارسطو وغيرهم من الفلاسفة في جدران وحصون أثينا، وإنما لابد من البحث عن ذلك بمنهجيات تناسب موروث الإنسان الروحي والفكري والثقافي، ومن المغالطات الكبرى التي وقع فيها بعض المغرورين بمناهج العلوم التجريبية هي تعميم تلك المناهج لتشمل العلوم الإنسانية، وفي ذلك تجاهل واضح للإنسان صاحب القصد والإرادة، فالإنسان ليس مادة مجردة عن الروح والشعور والإدراك حتى تتم دراسته بين جدران المختبر، وإنما هو بنفسه له القدرة على التفكير والاستنتاج بوصفه صاحب عقل وإرادة، فالمعارف التي تعتمد على الفهم والاستنباط، والمفاهيم القائمة على التحليل والاستنتاج، تنتمي إلى المعارف التي يكتسبها العقل عندما يحلق في آفاق الحياة الواسعة، بما لها من تاريخ عريق، وحضارات متنوعة، واجتماع إنساني فاعل ومتفاعل، فحصر العقل وحبسه بين جدران المختبر جريمة في حق العقل والعلم معاً، وعليه لا يمكن رصد الإنسان وتقييمه ضمن إطار مادّي خارجي فحسب، لأنه موجود له (قصد) أي أن سلوكه تحدده دوافع إنسانية داخلية، ولا يمكن الوصول إليها عن طريق الرصد المادي وإدخاله ضمن قانون السببية المادية وقوانين الطبيعة؛ لأن معرفة الظاهرة الإنسانية لا تقوم على الوصف والشرح كما هو الحال في الظاهرة الطبيعية، وإنما تحتاج إلى تعقّلٍ وإدراك وتفهّمٍ يقوم على التعاطف والمعايشة ومن ثم كشف مخزونه الداخلي.

 ويبدو ان التفكير الطفولي الذي كان يطمح في جعل العلوم الإنسانية شبيهة بالعلوم التجريبية هو المسؤول عن هذا الخلل، وقد بدأ هذا النمط من التفكير الحالم مع عصر النهضة، وبنضوج العلوم وتقدم المعرفة بات هذا التفكير مرحلة ساذجة لا يعتد بها أحد، ولذلك أنتهى عصر الفلسفة الوضعية عندما أعلن منظرها الأكبر (سير الفريد آير) "في خمسينات القرن العشرين أن هذه الفلسفة ملأة بالتناقض، بالرغم من أنه قضى السنوات الطوال في معالجة أخطائها. لقد تنبه آير إلى أنه لا يمكننا تطبيق قواعد البحث في العلوم التجريبية التي تعتمد على الحواس (كالكيمياء والفيزياء) على العلوم الإنسانية (كالفلسفة والمنطق والأخلاق). كذلك لا يمكن دراسة المفاهيم الدينية بمقاييس المفاهيم العلمية؛ فلا ينبغي - مثلاً - محاولة فهم مقولة: (إن الله موجود في كل مكان – كلي الوجود-) بمفاهيم المكان في فيزياء نيوتن أو فيزياء آينشتاين. بذلك قام آير بإعلان موت الفلسفة الوضعية المنطقية ودفنها" (عمرو شريف، خرافة الالحاد ص 30)

وعليه من الخطأ البحث عن الظاهرة الدينية من خلال البحث في الآثار المادية، وقد اشرنا في موضوع سابق إلى أن من أهم الدلائل التي تؤكد وجود حدث ما في التاريخ هو تناقله عبر التواتر الاجتماعي، بحيث يظل تأثيره حاضراً جيلاً بعد جيل، ووجود الأنبياء والرسل من هذا القبيل، حيث مازال لهم  حضوراً واضحاً عبر الأجيال إلى يومنا هذا، فوجود اليهود والنصارى والمسلمين واتصالهم التاريخي عبر الأجيال يؤكد بشكل قطعي وجود الأنبياء الذين يمثلون اساساً لأديانهم، وعليه فإن تأثير الأنبياء الملحوظ في مسار التاريخ البشري يؤكد على وجودهم الفعلي في التاريخ، وحينها لا يكون وجود الأثر المادي إلا مجرد حالة حسية لا تشكل إضافة فعلية بالنسبة لما نعلمه من تاريخ الأنبياء بالضرورة، فتاريخهم يمثل موروثاً متكاملاً عقائدياً واخلاقياً وتشريعياً وحضارياً، وبالتالي لا يمكن أثبات كل ذلك من خلال العثور على آثار مادية هنا أو هناك.

ومع ذلك فقد أثبتت دراسات الانثروبولوجيا ملازمة الأديان لكل الحضارات الإنسانية، يقول المؤرخ وكاتب السير والناقد اليوناني الكبير بلوتارك الخيروني (46 – 120م) الذي كان له أثر في كثير من الفلاسفة والأدباء من بينهم شكسبير: (لقد وُجِدت في التاريخ مدنًا بلا حصون، ومدنًا بلا قصور، ومدنًا بلا مدارسَ، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد" (القرضاوي، وجود الله، ص 22). ويقر بذلك أيضا الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برجسون، والحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة1927 في كتابه (أصلا الأخلاق والدين): "لقد وُجدت وتوجد جماعاتٌ إنسانية بدون علومٍ، وفنونٍ، وفلسفاتٍ، ولكنَّه لم توجد قطّ جماعةٌ بغير ديانة"" (الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، الدكتور محمد عبد الله دراز ص 83)

وعليه فإن الدين ظاهرة مرافقة للإنسان لم تنفصل عنه في جميع مراحله التاريخية، والسبب في ذلك أن الإنسان مضطر في عمق كيانه لمعرفة من أوجده، كما أنه مهموم بمصير الحياة ومستقبلها المجهول، الأمر الذي حتم عليه التطلع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادة، وهذا النوع من الوعي المتسامي عن المادة والمترفع عن الحس، يمثل جانب الإشراق في الإنسان، يقول بارتيلمي سانت هيلير: هذا اللغز العظيم الذي يستحدث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاء؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمة، ولا شعب، ولا مجتمع، إلا وضع لها حلولاً جيدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحولة.

فالحقيقة التي لا يرتاب فيها منصف تؤكد بأن واقع الإنسان وتاريخه المتطاول لم يخل من الأديان، وهذا خلاف الإلحاد الذي يعد مساراً معاكساً لتاريخ الإنسان وفطرته المتدينة، ومن هنا لم يجد الإلحاد طريقاً لتبرير موقفه إلا بتقديم تفسيرات مشوهة لنشوء الأديان، ولذا سعى إلى التقليل من أهمية الأديان بالقول بإنها وجدت لتسد الفراغ الذي احدثه جهل الإنسان بظواهر الوجود، ولو صح هذا الزعم لتخلى الإنسان عن الأديان في عصر العلوم والمعارف وهذا ما لم يحصل، فالأديان وفق هذه النظرة لابد أن تكون حالة طارئة سريعاً ما يتخلى عنها الإنسان كلما ازداد علمه، وهذا ما يكذبه الواقع فالإنسانية ظلت متمسكة بأديانها وهي في قمة تقدمها العلمي، يقول الدكتور ماكس نوردوه عن اصالة الشعور الديني: (هذا الإحساس أصيل يجده الإنسان غير المتمدن كما يجده أعلى الناس تفكيراً وأعظمهم حدساً، وستبقى الديانات ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائماً مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة) (عبد الله دراز ص 87) ويقول أرنست رينان في تاريخ الأديان "إنَّ من الممكن أن يضمحلَّ كلُّ شيء نحبُّه، وأن تبطل حريَّة استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن يَنمحي التديُّن، بل سيبقى حجَّة ناطقة على بطلان المذهب المادِّي، الذي يريد أن يحصر الفكرَ الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضيَّة" (عبد الله دراز ص 83).

ويقول معجم (لاروس) للقرن العشرين: إن الغريزة الدينية: مشتركة بين كل الاجناس البشرية، حتى أشدها همجية، واقربها إلى الحياة الحيوانية.. وان الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية. ويقول: إن هذه الغريزة الدينية لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد.

وفي المحصلة لا يمكن إنكار الأديان بحجة عدم توافقها مع المناهج التجريبية، كما لا يمكن إنكار الأنبياء بحجة عدم العثور على آثارهم المادية، وذلك لأن الدين خطاب للإنسان بوصفه روح وعقل لا بوصفه مادة، ولذلك فإن المسار الذي تتحرك فيه مناهج العلوم التجريبية يختلف عن المسار الذي تتحرك فيه العلوم والمعارف الدينية.

[اشترك]

2022/10/13

هل الحجاب فريضة دينية أم موروث اجتماعي؟!
يبدو أن كثيراً من الأوساط قاربت موضوع الحجاب بوصفه حالة اجتماعية، والسبب في ذلك أن الثقافة المجتمعية في نظرهم هي العامل الحاسم في تحديد ما يلبسه الرجال والنساء وليس الدين.

ونحن بدورنا لا يمكننا التنكر على كون الموروث الثقافي هو العامل الأكثر تأثيراً في ذلك، فكل أمة لها طريقتها التي تميزها عن الأمم الأخرى سواءً في ملبسها أو مأكلها أو مسكنها، بل المجتمع هو الذي يفرض على الرجال ما يلبسونه كما يفرض على النساء، ولا يمكن التمرد على هذه السلطة المجتمعية بحيث يستطيع الرجل أن يلبس ملابس النساء أو تلبس المرأة ملابس الرجال، ومع ذلك فإن الاعتراف بهذه الحقيقة لا يتعارض مع ضرورة ستر المرأة لزينتها ومفاتنها، ومن أنكر الحجاب في الإسلام وقع ضحية المغالطة التي صورت ضرورة الستر ونوع الستر وكأنهما قضية واحدة، وهذه مغالطة لأن ضرورة الستر لها علاقة بالجانب الفطري والديني بينما نوع الستر له علاقة بالجانب الحضاري والاجتماعي، ولكي يتضح الأمر لابد من مناقشة كل مسألة بشكل منفصل عن الآخر.

أولاً ضرورة الستر: أن الكلام عن نوع اللباس وشكله يأتي بعد التسالم على أن هناك عورة يجب سترها، وقد سعى الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض إلى ستر عورته، الأمر الذي يؤكد على وجود دافع فطري لذلك، وإلا من الذي هدى البشرية وأرشدها لستر عورتها على امتداد التاريخ؟

ومن هنا يمكننا التأكيد على وجود دافع عقلي وفطري يوجب على الإنسان ستر عورته، وتبقى هناك مساحة للاختلاف في تحديد المقدار الذي يجب ستره بالنسبة للمرأة أو الرجل، ومن هذه الزاوية يأتي دور الدين لبيان حدود ذلك، لأن الدافع العقلي والفطري بعيداً عن أي اعتبار آخر لا يتجاوز حدود المقدار المتيقن من العورة، ولذلك نجد المجتمعات البدائية أكتفت فقط بستر العورة المغلظة دون غيرها، أما الدين وبوصفه مشروعاً يستهدف جوانب متعددة من حياة الإنسان مثل نزاهة المجتمع وطهارته لابد أن يكون له نظرة خاصة تراعي مقومات ومعوقات ذلك المشروع، فهو لا ينظر لعورة المرأة بوصفها سوءة يجب سترها، فهذا المقدار تكفل به الجانب الفطري والعقلي، وإنما ينظر للمرأة بوصفها أحد العناصر المهمة في مشروعه الإنساني، ولذلك نجد إن الإسلام ميز أولاً ما بين عورة الرجل وعورة المرأة، ففي حين اكتفى بستر العورة المغلظة بالنسبة للرجال، لم يكتفي بذلك بالنسبة للنساء، والسبب في ذلك أن جسم المرأة له خصوصية أخرى وهي أنه يعد زينة في عيون الرجال، ومن هنا أمرها الشارع بحجب جسمها حفاظاً لها من نظرات الطامعين، وحفاظاً على طهارة المجتمع وعفته،  ومن هذه الزاوية نتفهم بحوث الإسلاميين التي تدافع عن فلسفة الحجاب واهميته بالنسبة لكرامة المرأة أولاً، وبالنسبة لأمن المجتمع ثانياً.

 والناظر لآيات الحجاب يجد أنها لم تتحدث عن العورة وإنما تحدثت عن الزينة، فستر العورة أمر مفروغ منه عقلياً وفطرياً، ولذا من الطبيعي التركيز على حيثية أخرى يراها الدين ضرورية ولا تلتفت لها الثقافة المجتمعية، قال تعالى: (وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ)، وبذلك يكون الإسلام حرم على المرأة أبدأ زينتها، وتدخل الإسلام في تحديد ما يجب على المرأة تغطيته أمر متوقع وضروري في نفس الوقت؛ لأن إيكال ذلك للعرف والثقافة المجتمعية فيه ضياع لكثير من القيم الأخلاقية التي يراعيها الإسلام ويهملها العرف، فالإسلام بوصفه مشروع للإنسان لا يكتفي بالحياة التقليدية القائمة على العادات والتقاليد، وإنما يعمل على بناء الفرد والمجتمع بالشكل الذي تتحقق معه فلسفة خلق الإنسان ووجوده في هذه الحياة.

ومن خلال ما تقدم يتبين إن وظيفة الإسلام منحصرة في بيان المقدار الذي يتم ستره، أما كيف وبأي وسيلة؟ وما هو شكل الحجاب؟ فإن الإسلام لم يتدخل في كل ذلك.

ثانياً: أن وظيفة العرف والثقافة المجتمعية هي تحديد نوع وشكل اللباس الذي تستر به المرأة جسمها، والإسلام لم ينازع في هذه الحقيقة فحسب، وإنما أوكل للعرف في أكثر الأحيان تحديد موضوعات الأحكام الشرعية، وبهذا تنكشف المغالطة التي تسوق للثقافة المجتمعية بوصفها المسؤولة عن تحديد لباس المرأة وليس الدين، وطبيعة المغالطة هي الاعتماد على فكرة صحيحة ولكن في غير موردها الصحيح، فالدين لم ينازع العرف في ما يجب على المرأة أن تلبس وإنما حدد المساحة التي يجب أن تغطيها، وعليه فإن المرأة في الإسلام حرة تلبس ما تشاء ولكن بشرط أن يغطي زينتها وأن لا يكون لباسها زينة في حد نفسه، وهذا المقدار من التدخل حق تكفله طبيعة القوانين لأي مشرّع، فإذا كان من حق المشرع الفرنسي تشريع قانون يمنع المرأة من الحجاب لأنه يتعارض مع مشروعها العلماني، فكذلك من حق الإسلام أن يشرع الحجاب لأنه يتكامل مع مشروعه الإسلامي، وكما أن المشرع الفرنسي لم يكتفي بما تفرضه الثقافة المجتمعية من مقدار ما يجب تغطيته، كذلك لم كتفي المشرع الإسلامي بالثقافة المجتمعية في تحديد المقدار الذي يجب تغطيته.

وفي المحصلة إن الإجابة على السؤال هل الحجاب فريضة دينية أم موروث اجتماعي؟ لا يمكن الإجابة عنه بإثبات أحد الطرفين ونفي الآخر، وإنما تحمل الإجابة كلا البعدين، فشكل الحجاب وكيفيته موروث اجتماعي، بينما المقدار الذي يجب ستره وتغطيته فريضة دينية.

[اشترك]

2022/10/11