السؤال: مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وملاحظة تأثيرها السلبي على الشخص وخاصة على فئة الشباب من نواحٍ متعددة، فما هي النصيحة للتعامل الأمثل معها؟
[اشترك]
الجواب:
لا شك في أنّ لوسائل التواصل الاجتماعي فوائد من نواحٍ متعددة إلا أن الإنسان بحاجة إلى تحديدٍ وتقنينٍ لاستعمالها من حيث المدة ومن حيث طبيعة الاستعمال حتى لا يؤدي استعمالها إلى مضاعفات سلبية على ثقافة الإنسان وشخصيته وقيمه والتزاماته الاجتماعية والوظيفية والأسرية، وهي مضاعفات كبيرة وخطيرة وأساسية ملحوظة بأدنى استقراء للواقع المعاش، كما تؤكده الدراسات الاجتماعية والنفسية والطبية والتربوية والإحصاءات المتعلقة بها، ويستطيع الإنسان الراشد أن يلمس ذلك بوضوح عند التأمل في تأثير هذه الوسائل على نفسه وعلى آخرين من حوله.
وهذا التقنين ينبغي أن يتكفله الإنسان بنفسه ـــ بشكل طوعي ـــ بعد بلوغ الرشد والنضج في القرار وخاصة عند تكوين الأسرة بالنسبة إلى نفسه.
كما ينبغي أن يمارسه الأولياء بالنسبة إلى الأطفال والمراهقين قبل بلوغ تلك الدرجة من الرشد والنضج، بل ويتحقق بعدها بعض الشيء حتى الاستقلال عن الوالدين وتكوين الأسرة.
والذي نتحدث عنه فعلاً هو حول تقنين الإنسان استخدامه لهذه الوسائل.
أهمية عملية التقنين
وينبغي أن يُعلَم أوّلاً أهمية عملية التقنين، وذلك أنّ القانون يكون كالمسطرة التي تضبط حركة القلم في حد معين، وكذلك فإنه يضع حداً ملائماً للممارسات الإنسانية بغية حفظها في حدود الاعتدال وضبطها في دائرة الاستقامة والاحتراز عن الإفراط والتفريط.
ويعتبر التقنين على العموم ضرورة إنسانية عامة، فالإنسان لا يمكن أن يندفع نحو كل ما تقتضيه غرائزه وانفعالاته على حد الحيوان، بل لا بدّ أن يرعى حدوداً تضمن المصلحة العامة للإنسان، وقد أُودِع في فطرة الإنسان النزوع إلى القانون والنظم والاطراد والاتساق، وليست القوانين البشرية إلا نتاج هذه الفطرة الإنسانية، ولذلك يصح القول إنّ الإنسان بفطرته هو موجود قانوني ولو تأمل الإنسان السلوك السائد بين الناس لوجد أنّه يجري عموماً وفق قواعد عامة وإن كانت غير مدوّنة، كما يظهر ذلك بملاحظة تعامل أفراد الأسرة في ما بينهم وتعامل الإنسان مع الجِوار والأصدقاء والأرحام وسائر الأصناف والمجتمع العام، فيسعى الوالدان منذ ولادة الطفل إلى اتباع نظام ملائم في إدارة أمور الطفل ورعايته مما يتعلق بصحته وتغذيته وسلوكه، وكلما كبر الطفل احتاج إلى مزيد من التقنين لسلوكه في الأبعاد المختلفة التي يكتشفها وتتجدد له القدرة على التعامل معها.
والتقنين على ضربين:
1- تقنين نوعي: وهو التقنين الذي ينظم حياة الناس في ما بينهم.
وهذا التقنين:
منه تقنين رسمي ومدوّن: من خلال التشريعات التي وضعت في الدين أو من قبل الدولة وما يتبعها من القرارات والأوامر التنفيذية.
ومنه عرفي: وهو يتمثل في الأعراف والآداب الاجتماعية، فإنّ كل مجتمع لا يخلو عن حدود مرعية غير القانون الرسمي، وهذه الحدود هي تساعد الإنسان على رعاية القانون الرسمي وتحقق له المصالح الاجتماعية الخاصة مثل مصلحة الأسرة ومصلحة العشيرة ومصلحة أهل المدينة الواحدة أو المحلة الواحدة وهكذا.
2- تقنين شخصي: وهو القانون الذي يضعه الإنسان لنفسه ويلتزم به تحقيقاً لمصلحته، وهذا التقنين هو أيضاً أمر مهم، بل هو ظاهرة حضارية وعقلانية راقية تعبّر عن رقي الإنسان وكماله النفسي والعقلي، بل يمكن القول إنّه لا يخلو أي عمل إنساني مثمر فردياً كان أو اجتماعياً في أي مجال عن ضرب من التقنين وإن لم يكن مدوّناً، ويساعد تقنين الإنسان لسلوكه على تكوين التزامات نافعة، ويسهل الأعمال الراشدة عن طريق ربط السلوكيات بعضها ببعض وإيجاد نسق واحد لها، وتكوين عادات داخلية تسهل للإنسان مقتضياتها وتقلل له عناء التكلف والعزم، فإنّه متى اعتاد الإنسان على شيء تذلل له وصار سهلاً. ومن دون التقنين يميل الإنسان في تعامله مع الأشياء إلى الإفراط أو التفريط في جهة على حساب جهة أخرى أو يقع في الفوضى والضياع. ويكون التقنين الشخصي من الإنسان لعمله لغايتين:
الأولى: رعاية القوانين القائمة الدستورية والعرفية حيث إنّ رعاية تلك القوانين قد تتوقف على إيجاد أرضيات مناسبة لها من خلال التزامات شخصية.
والثانية: تحقيق مصالح شخصية للإنسان لن يتأتى للمرء تحقيقها إلا من خلال تقنين سلوكه والتزامه بنظمٍ معين لا يعدوه عموماً.
وأهمُ بُعدٍ يرعاه الإنسان العاقل في سلوكياته والتزاماته هو تقييم الأمور من خلال مضاعفاتها وعواقبها وآثارها وعدم اقتصار الإنسان على النظر إلى لحظته التي يعيشها، فربّ ممارسة من كلمة أو سلوك أو مسار تثير الشعور بالمتعة واللذة والسعادة في حينها ولكنها تترك ندوباً لا يمكن إزالتها من حياة الإنسان فهي أشبه بالسم اللذيذ الذي سوف ينقض على من تناوله تدريجاً ويؤدي فيه إلى عوارض مرضية ومؤذية على وجه مزمن.
وكلما كان الإنسان أكثر تعقلاً وتجربة ووعياً كان انتباهه وحذره عن العواقب التي يتبعها أشد وآكد، وربّ أمر لن يستطيع المرء من توقي ضرره بعد ممارسته؛ لأنّه سوف يؤثر فيه أثراً لا يمكن إزالته، أو لأنّه سوف يتعلق به بحسب طبيعته التي تؤدي إلى الاعتياد عليه والتمسك به، فلا يكون له مهرب عنه، وأخطر شيء هو الأشياء الخدّاعة للإنسان وهي أشياء ما لا يضر قليلها فيغري متعتها المرء، ولكنها تستدرج المرء إلى الإكثار منها فينزلق إليها ويتضرر بها تضرراً فاحشاً.
ويحتاج تقنين التعامل مع وسائل التواصل إلى عدة عناصر:
1 - الانتباه والوعي إلى مقاصد هذا التقنين.
2- الصيغة الملائمة لهذا التقنين.
3- الأداة الملائمة لتنفيذ هذا التقنين.
أما العنصر الأوّل: فإن لكل تقنين راشد مقاصد مناسبة تضمن للإنسان مصالحه في هذه الحياة على وجه ملائم، والالتفات إلى هذه المقاصد يساعد على مزيد الاقتناع بالقانون ويسهل له الالتزام بها، ويقيه من الأخطاء في فهمه والاستجابة له.
ومن جملة المقاصد التي ينبغي للإنسان الالتفات إليها عند التقنين لوسائل التواصل ما يلي:
الأوّل: ينبغي للإنسان الاهتمام بالحفاظ على ما يقتضيه نظام الحياة، فللحياة الإنسانية الراشدة مقتضيات تتقوّم بها، فالإنسان منذ المراهقة ثمّ الرشد وقبل تكوين الأسرة ينبغي أن يكوّن لنفسه شخصية مناسبة؛ ليرتقي الذَكَر من فتى مراهق إلى شخصية رجل يتجه ليكون صاحب مسؤولية ورب أسرة، وترتقي الأنثى من فتاة مراهقة إلى شخصية امرأة تكون صاحبة مسؤولية كربة بيت وذات مسؤولية تجاه الآخرين، ومع ذلك فإنّ على الإنسان اهتمامات شخصية ضرورية بنظافته ومأكله وملبسه وخلقه، واهتمامات أخرى دراسية في أوان الدراسة، أو عملية إذا كان يعمل، فالمفروض بالإنسان أن يواظب على هذه الاهتمامات بنحو ملائم.
وقد لوحظ في العديد من الحالات تضرر الشباب بالانشغال بوسائل التواصل عن الاعتناء بالحوائج الشخصية، مما أدى إلى ضعف الدراسة أو تركها وتراجع الطموح والتفكير بشأنها، أو الإعراض عن البحث عن العمل، أو التهاون في العمل بما يؤدي إلى مشاكل مع رب العمل وتدني العمل في مدته ومستواه وكفاءته وإتقانه.
ثمّ بعد تكوين الأسرة يتأكد في شأنه الاعتناء بقوام شخصيته ونضجه ومتانته واستقامته من خلال رعاية الاهتمامات المتقدمة بشكل أكبر، وتضاف إليها اهتمامات أسرية مثل المعاشرة الملائمة بين الزوج والزوجة والأولاد، فتهتم المرأة بإدارة البيت وحضانة الأولاد والعناية بالزوج وبنفسها، وقد يكون لها عمل أو وظيفة ينبغي القيام بمقتضياتها في حدود لا تخل بدورها الأسري ويتم ذلك من خلال التفاهم مع الزوج، ويهتم الرجل كذلك بالعمل والوظيفة وتحصيل الرزق وحسن المعاشرة بالمعروف مع الزوجة والسهر على راحة الأسرة والقيام بشؤونها، والاستعداد للمستقبل.
وقد لوحظ في العديد من الحالات التأثير السلبي لاستخدام وسائل التواصل على أداء المرأة أو الرجل للدور الأسري بانشغال المرأة عن الاهتمام بالبيت أو الأولاد أو الزوج والإكثار من التواصل مع الصديقات والزميلات أو اكتساب صداقات أخرى بشكل يخرج عن الحد المعقول. وربما اتفق ـــ نعوذ بالله ـــ حصول علاقات وصلات خاطئة أو غير لائقة تثير شكوك الزوج في زمان تكون الثقة فيه هي أهم احتياجٍ في داخل الأسرة، وكذلك انشغال الزوج بهذه الوسائل عن المعاشرة اللائقة مع الزوجة والأولاد أو عن القيام بالوظيفة أو العمل على وجهه أو وقوعه في علاقات خاطئة وضارة تهدد سلامة حياته الأسرية وصلاحها ولا تجلب له ما يتوقعه من السعادة، بل تستتبع النكد والعناء والشقاء النفسي والأسري والاجتماعي والوظيفي.
فعلى الرجل والمرأة الاهتمام بعدم اختلال هذا النظام وعدم تشويهه بالإفراط في استخدام هذه الوسائل أو الاستخدام غير الملائم لها.
الثاني: ينبغي اهتمام الإنسان بالحفاظ على العقيدة وقوتها، فلا يصح للإنسان بعد أن اتخذ عقيدة راشدة على أصول موثوقة أن تُختلَس منه هذه العقيدة أو تهون عليه بسبب منشورات إعلامية وترويجية تهوِّن من تلك العقيدة أو تحرفه لصالح عقيدة أخرى بأسلوب السخرية والاستهزاء أو الانتقاص ونحو ذلك من الأساليب غير الجادة في نقد العقائد وتمحيصها.
وقد لوحظ في عدد من الحالات تأثر بعض الناشئين ممن يعتقد بعقائد موضوعية ومنطقية لها حجج موثوقة ومقنعة بشبهات بسيطة أو بأساليب فكاهية لا تصح في ميزان العقل والحكمة أن تكون مأخذاً لفكرة ولا مصدراً لحقيقة ولا مستشاراً ناصحاً ولا دليلاً واعياً ولا مستقراً لرأي ولا منيراً لطريق، فوسائل التواصل ليست مصدراً موثوقاً للعقيدة ولا دليلاً أميناً لاختيار الدين.
الثالث: ينبغي اهتمام الإنسان بالإيفاء بالواجبات والاستحقاقات الشرعية مثل الصلاة والزيارات ونحوها، فلا يصح استخدام هذه الوسائل على وجه يؤدي إلى الإخلال بهذه الواجبات والاستحقاقات إما بتركها أو تقطّعها أو التساهل فيها، بل لا بدّ من التعامل مع هذه الواجبات والاستحقاقات كجزءٍ أساس من السلوك الإنساني السليم.
وقد لوحظ في العديد من الحالات أنّ الانشغال المتصل والكثير بوسائل التواصل أدى إلى الاختلال في الإيفاء بذلك مثل تأخير الصلاة أو تضييعها ـــ نعوذ بالله سبحانه من ذلك ـــ ، أو النوم عنها، أو الزهد في تلاوة القرآن الكريم والاستماع إليه وقراءة الأدعية والزيارات الشريفة التي تعطي الإنسان تذكراً للمثل العليا.
والواقع أنّه بغض النظر عن تعبدنا بالأدلة الشرعية التي توجب أعمالاً وتندب إلى أخرى فإنّ الحياة المعاصرة تؤكد حاجة الإنسان إلى رعاية الجوانب الروحية والمعنوية في خضم تنامي الجوانب المادية والحسية للحفاظ على الاستقامة والطمأنينة والسكينة فضلاً عن الاستعداد لما بعد هذه الحياة والذي ينبغي أن يكون هاجساً لدى الإنسان المؤمن في جميع الأحوال.
الرابع: ينبغي اهتمام الإنسان بالإيفاء بالحقوق والاستحقاقات الاجتماعية الحية مثل التواصل مع الوالدين والأسرة والأولاد والأرحام والأصدقاء وسائر المجتمع كل بحسب مقتضى الوشيجة الفطرية معه من حضور أسبوعي أو شهري أو في المناسبات الخاصة من الأفراح والأتراح.
وقد لوحظ في العديد من الحالات اختلال أداء الحقوق عن طريق الانعزال والانغلاق على وسائل التواصل بما أدى إلى خمول الإنسان وتقوقعه في داخله وتراجع قابلياته النفسية والاجتماعية.
الخامس: ينبغي اهتمام الإنسان بالحفاظ على الاستقامة الأخلاقية التي زُوّد بها الإنسان بحسب فطرته النقية وقريحته الصافية والتربية السليمة، فإن في كثير من المنشورات في وسائل التواصل والاتصال ما يشوّه هذه الفطرة ويحرف المرء عن تلك الوجهة ويوجب له خصالاً سيئة، وقد يوجب له بعضها عادات وعاهات أخلاقية مستدامة لا تزال تكون مصدراً للوساوس الخاطئة والهواجس السلبية والأفكار الخاطئة، وتوجب اختلالاً في شخصية الإنسان وحياته الأسرية والاجتماعية.
وقد لوحظ في العديد من الحالات ابتلاء الشباب ولا سيما في مرحلة المراهقة التي تتبلور وتتشكل فيها شخصية الإنسان بمحاذير مختلفة بسبب الانفتاح والتوسع في استخدام هذه الوسائل.
السادس: ينبغي اهتمام الإنسان بالحفاظ على روح الرشد والحكمة في داخله، فإن في بعض المنشورات في هذه الوسائل ما يؤدي إلى ضياع الإنسان وانسياقه وراء أفكار غير مدروسة وانفعالات غالبة وهيجانات كاذبة، وتبعده عن العقلانية الراشدة والحكيمة والتدبر في العواقب ومراعاة الأولويات وتوجب تأثره بالتلقين والتقليد الأعمى.
وقد لوحظ في العديد من الحالات ظواهر من هذا القبيل لدى بعض المراهقين في أثر التعامل المسترسل والاندفاع الخاطئ في التعامل مع هذه الوسائل.
السابع: ينبغي اهتمام الإنسان بالحفاظ على صحته النفسية والجسدية، فإن في التعامل الخاطئ مع هذه الوسائل ما يؤدي إلى عوارض مرضية جسدية أو نفسية إما من جهة الإكثار من استخدامها أو التوقيت الخاطئ لها، أو لطبيعة المنشورات التي يتم الاطلاع عليها.
ومن العوارض المعروفة: الإدمان، والوسوسة، وفقدان الطمأنينة والسكينة وزيادة القلق، واضطرابات النوم، وقلة النوم، وحدّة الانفعال، وضعف التركيز والحفظ، وضعف الإرادة والعزيمة، وروح الإهمال والتكاسل، ونحو ذلك.
ومن مؤشرات الإدمان: عدم استقرار المرء من دون اصطحاب هذه الأجهزة، أو في حال بعض الانقطاع عنها، وصعوبة أن يمارس عملاً من دون أن تكون معه وهو يستمع أو ينظر إليها، ومراودة هواجس مؤذية ومقلقة له في حال الانفصال لبعض الوقت عنها، ودوام الانتظار والتفكير فيها وحولها.
الثامن: ينبغي اهتمام الإنسان بالحفاظ على وحدة شخصيته وتناسقها والتوقي عن الازدواجية والانفصام، وهو ما يكون المرء عرضة له بسبب استعمال هذه الوسائل.
وقد لوحظ في العديد من الحالات، وقوع الإنسان في هذا المحذور، فكانت له شخصية ذات مواصفات ملائمة في التعامل الاجتماعي العام مع الناس من حيث الأخلاق والآداب والسلوك بمراعاة الحدود الشرعية اللائقة أمام الآخرين، لكنه يتحرر من كل ذلك في وسائل التواصل في ما يطلع عليه أو يتفوه به ويبديه من خلال الأسماء المستعارة والرمزية والتقمصات الكاذبة.
التاسع: ينبغي اهتمام الإنسان بحفاظه على خصوصياته الشخصية والأسرية، من معلومات وصور، وسلوكيات، ويتجنب عن عرضها للآخرين بحثاً عن الشهرة ولفت الأنظار، فإنّ تلك العروض مضاعفات سلبية وخيمة على حياة الإنسان ونفسيته وأسرته في وقت لا يستطيع أن يمحو تلك المعلومات عن ذاكرة المطلعين عليها ولا عمّا انتشر فيها من وسائل التواصل وغيرها.
وقد لوحظ في العديد من الحالات اهتمام بعض الناس بعرض خصائصهم على الآخرين ومعاناتهم من آثار ذلك لاحقاً حتى أدى ذلك إلى إثارة اضطرابات في حياته الشخصية والأسرية والاجتماعية، وهو عاجز عن إصلاح ذلك، بل أدى مثل ذلك في بعض الحالات إلى محاولة الانتحار تخلصاً عن الضغوط التي يشعر بها المرء في إثر ذلك.
وعلى الإجمال فينبغي للمرء أن يرعى جميع الجوانب العقلائية والأخلاقية والدينية والشرعية في هذه الوسائل كما يرعاها في الأجواء الحية والواقعية وأن يكون واعياً وفطناً ومنضبطاً في التعامل مع هذه الوسائل في ما تنشره من مواد في جميع المجالات.
العاشر: ينبغي اهتمام الإنسان بمسؤوليته في عدم تلويث الجو الاجتماعي في هذه الوسائل بنشره ما يؤدي إلى نشر الفساد والرذيلة سواء كانت قصصاً حقيقية أو قصصاً مخترعة أو صوراً خادشة للحياء والآداب العامة أو تعابير فاحشة أو إشاعة لأمور كاذبة أو تشويهاً لشخصيات مصونة ومستورة، وذلك لأنّ لهذه الأجواء وإن كانت افتراضية حرمتها كالأجواء الاجتماعية الحية مادام أنّها محل إطلاع الآخرين وهو مؤثر عليهم من النواحي النفسية والتربوية والأخلاقية والدينية.
وقد لوحظ في العديد من الحالات أنّ بعض الناس يعمدون إلى نشر وإرسال أمور فاحشة من هذا القبيل، ويصطنع بعضهم قصصاً واهمة للرذيلة يوهمون أنّها واقعية أو يصفون أموراً فاحشة لا يصح الإعلان عنها ولو على وجهٍ مبهمٍ، وهم يشعرون بذلك بالمتعة العابرة والكاذبة ويسرون بإبداء الآخرين الإعجاب بها في اندفاع غريب إلى استحصال تحسين المجهول من أناس آخرين مجهولين.
الحادي عشر: ينبغي اهتمام الإنسان أن يكون مؤثراً في أجواء هذه الوسائل تأثيراً إيجابياً من خلال نشر ما ينفع الناس ويثير فيهم روح الوعي والرشد والتعقل والفضيلة والمعروف ويبعدهم عن الغفلة والجهل والتسرع والرذيلة والمنكر، داعياً إلى الحق والحقيقة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فأجواء هذه الوسائل وإن كانت افتراضية إلا أنّها تشبه الأجواء الاجتماعية الحقيقية من حيث تأثيرها على الناس فمن نطق بكلمة حسنة فيها كان له أجرها ومن أثر تأثيراً حسناً كتب له ثوابه والله يضاعف لمن يشاء.
وأمّا العنصر الثاني: ــــ وهي الصيغة الملائمة للتقنين ــــ فهي تشتمل على عدة بنود:
1- ينبغي للإنسان التحديد الزمني الكمي للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، بأن يحدد الإنسان لنفسه مدة لا يتجاوزها عموماً كثلاث ساعات في اليوم مثلاً، وضبط هذا الأمر متاح وفق إمكانات الأجهزة المتداولة.
2- ينبغي للإنسان تحديد وقت الانشغال بها وذلك باختيار أوقات ملائمة مع مجموع وظائفه وواجباته والامتناع عن الانشغال بها في غيرها كاستعمالها حين معاشرة الآخرين والاستماع إليهم وقبل النوم وعند الغداء ونحو ذلك.
3- ينبغي تحديد المادة التي يطلع عليها بالاستفادة من المواد النافعة والمفيدة في المجالات المختلفة وتجنب المواد الضارة والقبيحة وغير الموثوقة والابتعاد عن المحرمات كالمواد الخلاعية وأشباهها.
4- ينبغي للإنسان تحديد المهمات التي يعتمد فيها على العالم الافتراضي على وجه ملائم والتحرز عن اتخاذه بديلاً عن العالم الحي في التعلم والتربية والعلاقات الاجتماعية ونحوها، فإنّ العالم الافتراضي لا يلبي الحاجات النفسية والاجتماعية والفكرية العميقة للإنسان فلو عوّل عليه بدلاً عن العالم الحقيقي الحي لأدى ذلك إلى التضرر والإخلال بهذه الحاجات عن المستوى المطلوب فيها، كما أنّه يؤدي إلى الإفراط والزيادة في استخدام تلك الوسائل لجبران ما يعوزه من فقدان التواصل الحقيقي.
وأمّا العنصر الثالث: ــــ وهي الأدوات الملائمة لتنفيذ هذا التقنين ــــ فهي:
1- ينبغي أن يعي المرء أهمية هذا التقنين في حياته وشخصيته وفي شأن حياته الأخرى أيضاً، وهذا ما يجد كل إنسان منبهات وشواهد عليه من خلال الحالات السلبية التي يطلع عليها عند غياب التقنين الملائم لاستخدام وسائل التواصل ولا سيما من الشباب في سن المراهقة.
2- ينبغي للمرء أن يمتلك العزيمة والثقة بالنفس والقدرة على التحكم في القرار وإنجاز هذا الأمر المهم والضروري، وعدم الاندفاع وراء الرغبات الملحة، وليعلم المرء أن صعوبة هذا الأمر تكمن في أوائله حتى إذا أصبح عادةً مستقرةً سهل ذلك عليه ولم يعانِ في مراعاته.
3- ينبغي للمرء أن يجعل علائم للاتصالات والتواصلات الضرورية، كي لا يقع المرء في فخ احتمال المراجعة الدائمة لهذه الوسائل ومعايشة حال الانتظار والاستعداد نتيجة اتصالات وتواصلات هامشية وترفيهية وغير ضرورية.
4- ينبغي للمرء أن يقتصر في ما يتعلق بكسب المعلومات والأخبار على القنوات الموثوقة، وترك القنوات المتسرعة والمعتمدة على كسب الشهرة بنشر الأخبار المريبة والكاذبة.
5- ينبغي أن يقتصر المرء في ما هو محل احتياجه على ما يفي به والنماذج المعبرة ويتجنب الاطلاع على الأمور المكررة سواء كان ذلك لكسب خبر ومعلومة أو لأجل التنفيس عن النفس، أو للاطلاع على الأحوال العامة والخاصة.
6- ينبغي للإنسان أن يجعل من نفسه رقيباً داخلياً عليها دوماً حذر الانزلاق إلى الإفراط الكمي والكيفي في اتجاه مزيد من الارتباط والتواصل والانغماس في هذه الوسائل، ويهتم بنقد النفس وتقييم سلوكها بشكل دوري.
7- ينبغي للإنسان أن يشعر بشخصيته في مقابل سيطرة هذه الوسائل عليه وصيرورته ألعوبة في وسطها بتتالي الاقتراحات والخواطر التي تتراءى لها وتجدد الميول المحفزة على الإفراط.
8- ينبغي للإنسان النظر إلى النماذج المثلى في مجال السيطرة على التعامل مع هذه الوسائل، وعدم التعالي عن حسن التأسي والاقتداء بالآخرين، فإنّ عنصر الاقتداء من أهم العوامل الباعثة على الخير، قال تعالى: [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ]([1])، وأولى من ذلك الاعتبار بملاحظة النماذج السيئة والاعتبار بها والتوقي عن الوقوع في ما وقعت فيه من الأخطاء والخطايا.
9- ينبغي للإنسان دائماً التوقي من أن يبلغ في تعامله مع هذه الوسائل إلى درجة يكون الاهتمام بها هو الشغل الشاغل للمرء، أو الهاجس الأكبر، ويمثل المساحة الأصلية في نفسه، بل لا بدّ أن يكون طموح المرء وهاجسه هو حياته الأسرية من جهةٍ وعمله الذي يرتزق منه من جهةٍ أخرى، ولا تكون هذه الوسائل بديلاً عن الأسرة ولا العمل ولا الدراسة ولا التربية ويكون موقع هذه الوسائل موقع الأداة للمقاصد المعقولة والملائمة. بل ينبغي أن يسعى الإنسان إلى أن لا تكون هذه الوسائل هي الأسلوب الوحيد للترفيه والتنفيس عن النفس، بل هناك حاجة إلى السفر والزيارة والاختلاط والرياضة ونحوها.
10 - 0- 1- ية عملية التقنين]ينبغي للإنسان تنمية قدراته على التحكم في الانشغال بهذه الوسائل مثل القدرة على قطع سلسة المتابعة إلى حد معين رعايةً للحدود الملائمة التي قدرها وحذراً من الوقوع في الإدمان ولا تستدرجه المواد إلى المتابعة المفتوحة لها.
11- ينبغي اهتمام الإنسان بالشعور الفعلي بالوقت واستحضاره عند الاشتغال بهذه الوسائل، وإلا فإنّه سيفاجأ ويندم بمرور وقت طويل من دون أن يشعر بذلك، ولا بدّ من الشعور بقيمة الوقت الذي هو رأس مال الإنسان في هذه الحياة وتجنب ضياعه وإهداره بالمعاذير المتكلفة والمصطنعة.
12- ينبغي اهتمام الإنسان بحيوية وفاعلية الدوافع والحوافز الطبيعية والمتعارفة عند العقلاء والراشدين وعدم انطفائها بسبب التوغل في الاشتغال بهذه الوسائل.
13- ينبغي اهتمام الإنسان بتجنب متابعة الأشياء التافهة والقبيحة وغير اللائقة بحجة الترفيه عن النفس وبحثاً عن الإثارة لذاتها، فإنّها تؤدي تدريجاً إلى الاعتياد عليها وتؤثر على سريرة الإنسان وخلقه وسلوكه وأدبه، وربما قلدها بنحو لا شعوري.
14- ينبغي التجنب الأكيد عن الاعتماد على هذه الوسائل كمصدر للعقيدة وسائر القضايا الجادة العلمية والسلوكية، والاعتماد بدلاً عن ذلك على الدراسات العلمية والمصادر الموثوقة والمتابعات الجادة والتحريات الملائمة.
وبعد فإنّ الإنسان المؤمن أوعى من غيره، لأنّ الإيمان الصحيح يفتح منافذ التعقل والرشد والحذر الملائم في داخل الإنسان، وينبّه على أنّ هذه الحياة مبنية على سنن تنتهي إلى الخير وأخرى تنتهي إلى الشر، والمرء يعيش حالة الاختيار في مسيرته بين هذه وتلك، فإن التفت إلى عواقب الأمور سار سيراً حكيماً وأوتي خيراً كثيراً، كما أنّه ـــ أي الإيمان الصحيح ــ يوصي الإنسان دائماً بالاعتبار بالحوادث قبل اختبارها والانتفاع بتجربة الآخرين قبل الوقوع في مثلها، وكذلك يجد من خلال الدين والعقيدة أنّ هذه الحياة فرصة اختبارية للإنسان يزرع فيها المرء ما شاء ليحصده غداً، فمن نسي الحقائق الماثلة من وجود الله سبحانه والدار الآخرة وأهمل الوظائف اللازمة والقيم الفاضلة فقد نسي نفسه وخسرها وقد قال عز من قائل: [فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ]([2])، وقال سبحانه: [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]([3]).
نسأله سبحانه أن ينيرنا بما أودع في فطرتنا، وأكّده برسالاته إلينا، ويقينا من الفتن المضلة والمزالق المهلكة، ويعيننا على أنفسنا وما ائتمنّا عليه وولانا شأنه من أسرة وأولاد ومتعلمين بما أعانه الصالحين، وأن يسيّر لنا الانتفاع بما أنعم به علينا حتى لا يعود بسوء تصرفنا نقمة علينا وسبباً لشقائنا، وأن يكتب لنا سيرة راشدة يرضاها فهو ولينا في الدنيا والآخرة إنّه سميع مجيب.
([1]) سورة الزمر: آية 18.
([2]) سورة الزمر: آية 17 ـــ 18.
([3]) سورة النساء: آية 114.