قرآنيات

نساء وخمر في الجنة: هل يرسّخ القرآن ’الشهوات’ في أذهان المسلمين؟!

الشهوة طبيعة راسخة في الإنسان لا يحتاج إلى من يذكره بها، بل على العكس من ذلك فالإنسان بحاجة إلى من ينبهه إلى مخاطر الانجراف نحوها، فكل شهوة لها جانبان إيجابي والآخر سلبي، والذي يميز بين الجانبين هو مدى سيطرة الإنسان على الشهوة أو سيطرة الشهوة على الإنسان.

[اشترك]

فعندما يتحكم الإنسان في شهواته تصبح الشهوات ضرورة لا تستقيم الحياة إلا بها، وعندما تتحكم الشهوات بالإنسان تصبح خطراً يهدد بقاء الحياة، وعليه فإن التوازن بين حاجات الروح وحاجات البدن هو الذي يمكّن الإنسان من توظيف شهواته بشكل إيجابي، ولذا نجد القرآن الكريم يحث الإنسان بشكل دائم على القيم والفضائل والمعاني السامية التي تمثل كمالاً للروح، فالآيات التي تأمر بالعقل والتعقل تستهدف بالأساس تمكين الإنسان من الهيمنة على شهوات نفسه.

وعليه فالشهوات راسخة في الإنسان ولا تحتاج إلى مزيد من الترسيخ، ويبدو أن الجذر المحرك لكل الشهوات هو حب الإنسان لذاته، فالإنسان بغريزته يجلب لنفسه المصلحة ويدفع عنها المخاطر، ومن هنا فإن مواقف الإنسان وسلوكياته تبنى بحسب مصلحة الذات أو مفسدتها، قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)؛ الأمر الذي يدل على أن حب الذات هو الباعث لرضا النفس أو سخطها، وبالتالي مواقف الإنسان قائمة بالأساس على الخوف والرجاء، ومن هنا كان التبشير بالجنة والتحذير من النار ليس إلا توجيهاً إيجابياً لغريزة الخوف والرجاء، فالإنسان بجهله يتصور أن صلاحه في الشهوات وفساده في ضياعها، ولذا نجد أن معظم الناس يتعلقون بشهوات الحياة وزينتها، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)، فالآية لا تنفي اشتهاء الإنسان للنساء والأموال والأولاد وإنما تؤكد على أنها حقيقة راسخة عند الجميع، إلا أن الآية تلفت الانتباه إلى كونها شهوات محدودة بالحياة الدنيا، ولا تستحق أن يفني الإنسان عمره المحدود في الركض خلفها دون هدى أو بصيرة، ولذا ختمت الآية بقوله: (وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

فالمعادلة التي يوجدها القرآن بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا قائمة على تحديد هدف مركزي لتلك الحياة، ويتلخص هذا الهدف في عبادة الله تعالى، وحتى يتحقق هذا الهدف لابد من ترسيخ جوانب القوة في الإنسان مثل العقل والعلم والإرادة، ومن هنا كانت آيات القرآن تذكير مستمر بهذه الحقائق، وفي نفس الوقت العمل على تحويل جانب الضعف فيه إلى عوامل قوة من خلال توجيهها إلى نفس الهدف المركزي وهو عبادة الله تعالى، ففي الوقت الذي لم يحرم الإنسان من شهوات الدنيا بالمقدار الذي لا يتصادم مع كونه عبداً لله تعالى نجده أيضاً بشره بنعيم ابدي في الجنة، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى  النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ Q فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ)، وعليه لم يكن وصف الجنة وما فيها من النعيم ترسيخ للشهوة الدنيوية، وإنما توجيهها في المسار الذي يجعلها دافعاً نحو الصراط المستقيم.

2022/02/01
القصة الغامضة: هل نحن أبناء من ركب ’سفينة نوح’؟!

هل العنصر البشريّ من نتاج من ركب سفينة نوح (ع)؟

[اشترك]

هذه المسألة عرض لها المفسّرون من أهل العلم عند تفسيرهم لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) [الصافات: 77]، وبيّنوا أنّ هناك رأياً مشهوراً يذهب إليه جمهور أهل العلم، وحاصله: أنّ كلّ أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته. وقد نقل الكثير من المؤرخين بقاء ثلاثة أولاد من ذرية نوح هم (سام) و (حام) و (يافث) بعد الطوفان، وكل القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية تنتهي إليهم.

وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي، فيما عرف العرق التركي ومجموعة أخرى بأنهم من أولاد "يافث" ، أما "حام" فإن ذريته تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة ، كما أن الأقباط والبربر هم من ذريته أيضا .

وفي مقابل هذا الرأي المشهور يطرح بعض المفسّرين سؤالين ينتج من خلالهما رأيٌ آخر في هذا المقام، وحاصل السؤال الأوّل: هل كل القوميات البشرية تعود في أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة؟

والآخر: ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل ماتوا جميعا من دون أن يتركوا أي خلف لهم وإن كان لهم ذرية، فهل كانوا بنات تزوجن من أولاد نوح؟ هذه القضية من وجهة نظر التأريخ لا تزال غامضة، مع أنّ هناك أحاديث وآيات تشير إلى وجود أقوام وأمم على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح. فمنها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم القميّ عن الإمام الباقر (عليه السلام) في توضيح الآية المذكورة أعلاه: الحق والنبوة والكتاب والإيمان في عقبه، وليس كل من في الأرض من بني آدم من ولد نوح (عليه السلام). قال الله عز وجل في كتابه: احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ومن آمن وما آمن معه إلا قليل، وقال الله عز وجل أيضا: ذرية من حملنا مع نوح.

وعلى هذا فإن انتهاء كل العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير ثابت.

[ينظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج ١٤، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ص ٣٤٤، وتفسير نور الثقلين وتفسير كنز الدقائق عند تفسير قوله تعالى (وجعلنا ذريّته هم الباقين).

2022/01/30
ليس منّا: الانتماء لـ ’عنوان التشيّع’ وحده لا يكفي!

قال تعالى: (قَالَ يَا نُوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود: 46]

[اشترك]

ومن المناسب أن نستلهم من الآية فنشير إلى قسم من الأحاديث الإسلامية التي ترى طوائف كثيرة من المسلمين، أو أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في الظاهر مطرودين وخارجين عن صف المؤمنين والشيعة:

1 ـ فقد ورد عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «من غش مسلماً فليس منّا» (1).

2 ـ كما روي عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال: «ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حرام» (2).

3 ـ ويقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا ومن أكرمه النّاس اتقاء شره فليس منّي».

4 ـ وروي عن الإمام علي أنّه قال: «ليس من شيعتنا من يظلم الناس».

5 ـ وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم» (3).

6 ـ ويقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم» (4).

7 ـ وقال الإمام الباقر (عليه السلام) لأحد أصحابه وكان يدعى «جابراً»: «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّاً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا: إنّك رجل سوء، لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنّك رجل صالح، لم يسرك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله» (5).

هذه الأحاديث تضع علامة «البطلان» على تصورات من يقنع بالاسم فحسب ولكنّهم لا يعيرون أهمية للعمل بالتكليف، أو للروابط الايمانية، وتثبت بوضوح أنّ الأصل في مذهب القادة الرّبانيين والأساس هو الإيمان بالعقيدة والعمل بمناهجهم، وينبغي أن يقاس كل شخص بهذا المقياس.


الهوامش

1. وسائل الشيعة، ج17، ص283، ح22528.

2. وسائل الشيعة، ج12، ص53.

3. بحار الانوار، ج72، ص279، ح1.

4. اصول الكافي، ج2، ص164، ح5.

5. سفينة البحار، ج2، ص691.

المصدر: تفسير الأمثل، ج6.

2022/01/26
لا إكراه في الدين.. هل تتعارض هذه الآية مع ’الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر’؟!

لا تعارض بين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فكل مسألة تتحرك في دائرة مختلفة عن الأخرى، حيث نجد تفسير عدم الإكراه في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

[اشترك]

مما يعني أن أساس الدين هو الايمان النابع عن اليقين والاقتناع، وهذا يتعارض بالضرورة مع إكراه واجبار المخالفين للدين، فلا يجوز حملهم بالقوة على الإيمان به، ومن هنا كان الأصل والمبدأ العام في التعامل مع من لا يؤمن بالدين هو دعوته بالتي هي أحسن، وهذا يختلف عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يستهدف هذا المبدأ استقامة المجتمع الإسلامي، أي أنه يتحرك داخل دائرة المؤمنين، وأساس ذلك قد نجده في قوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أدوات التذكير داخل المجتمع الإسلامي، فبما أن المسلمين قد توافقوا على ما هو معروف وما هو منكر، فمن الطبيعي حينها أن يكون هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر حتى يستقيم المجتمع على التعاليم والآداب التي تواطؤا عليها.

 ومع أهمية هذا المبدأ في المجتمع المؤمن إلا أنه يراعي المبدأ العام القائم على أهمية توفر اليقين والقناعة، ولذا اشترط الفقهاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استجابة من يتم أمره ونهيه، أي أن يكون أمره ونهيه مؤثراً وله انعكاس حقيقي على الواقع العملي، وإلا يتحول إلى سبب للتنازع والتخاصم وتشتيت والمجتمع المؤمن، ومن هنا نص الفقهاء على سقوط الوجوب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن مؤثراً فيمن يتوجه له الأمر والنهي.

جاء في الموسوعة الفقهية التابعة لمؤسسة دائرة المعارف للفقه الإسلامي، ج17، ص  199 ما نصه: (يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يحتمل الآمر أو الناهي تأثير أمره ونهيه في المأمور أو المنهي، فلو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب وتسقط وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نفى المحقّق النجفي الخلاف عنه، بل في ظاهر كلمات العلّامة الحلّي الإجماع عليه؛ لأنّ الغرض من إيجاب‌ الأمر والنهي وقوع المعروف وارتفاع المنكر، فمع العلم بعدم حصولهما فالأمر والنهي لغو، فكأنّ ذلك بمثابة مقيّد لبّي لإطلاقات النصوص يستفاد من مناسبات الحكم والموضوع.

بل قد يستفاد من قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى‌ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فإنّها تشير إلى كفاية احتمال التقوى والاتّعاظ مع قلّته لوجود المؤشّرات على نزول العذاب عليهم.

واستدلّ له أيضاً بالروايات: منها: رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: (إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلًا...).

قال مسعدة: وسمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: وسُئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر)، ما معناه؟ قال: (هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلّا فلا).

وتقريب الاستدلال بها بثلاث عبارات: الاولى: قوله‌ عليه السلام: (إنّما هو على القويّ المطاع)، فإنّ (إنّما) أداة حصر تدلّ على انحصار الوجوب بالمطاع، الدالّة بالمفهوم على انتفائه عند انتفاء المطاعية، والمطاعية تعبير آخر عن حصول التأثير.

الثانية: قوله عليه السلام: (هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه)، فإنّها بمفهوم الشرط تدلّ على أنّه لو كان لا يقبل أمره فلا وجوب.

الثالثة: قوله عليه السلام: (وإلّا فلا)، فإنّه صرّح بانتفاء وجوب الأمر لو انتفت المعرفة.

ومنها: خبر يحيى الطويل صاحب المقري قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: (إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا).

فإنّه مع حصر وجوب الأمر والنهي بالمؤمن والجاهل مرتّباً الغرض من أمرهما ونهيهما على الاتّعاظ والتعلّم الدالّ بإطلاقه على عدم ترتّب غرض آخر غيرهما فيما يخصّ المؤمن والجاهل، ومع عدم مأمور غيرهما يعلم انحصار الأمر والنهي بتحقّق الغرضين المذكورين، فمع انتفائهما لا يجب أمر ولا نهي)

وهناك تفصيل فقهي واسع حول الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما فيدنا في المقام هو نفي التعارض بينه وبين عدم الإكراه في الدين، وهذا قد تبين من خلال ما قدمنا.

 

2022/01/01
لا إكراه في الدين: هداية لا إجبار!

(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة:256

[اشترك]

الإكراه من (كره يكره) وهو مقت الشيء والاشمئزاز منه، وعليه يكون الإكراه هو الحمل على خلاف ما يحب ويرغب، سواء كان إكراهاً للنفس مثل أن يكره الإنسان نفسه على فعل شيء لا يحبه، أو كان إكراهاً للغير كأن يجبر شخصاً آخر على فعل ما يمقته ويشمئز منه، وقد نهت الآية عن الإكراه في الدين مطلقاً، أي لا يجوز حمل الناس على دين الله وهم لا يرغبون فيه، قال تعالى: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) أي لا يمكن أن نجبركم على الإسلام وأنتم كارهون له، والسبب في ذلك أن الإسلام يشترط في الانتماء إليه حصول اليقين والقناعة، قال تعالى: (إن في ذٰلك لذكرىٰ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) أي أن استجابة الإنسان للدين يجب أن تكون نابعةً من قلبه وعقله، وقد عللت الآية عدم الإكراه بقولها (قد تبين الرشد من الغي) فمسؤولية الدين هي الهداية لطريق الرشد وليس إجبارهم على إتباعه، وإنما على الإنسان اختيار الرشد وإتباعه بكامل حريته وإرادته، قال تعالى: (ونفس وما سواها ( 7 ) فألهمها فجورها وتقواها ( 8 ) قد أفلح من زكاها ( 9 ) وقد خاب من دساها ( 10 ). فالقول إن الهداية من الله لا يعني أن الله هو الذي ينوب عن عباده، أو هو الذي يأخذ بأيديهم من دون إرادة واختيار منهم، وإنما تقع مسؤولية ذلك على المكلفين فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. 

ولتفصيل أكثر ننقل ما جاء في تفسير الميزان بخصوص هذه الآية:   

(بيان) قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، الإكراه هو الإجبار والحمل على الفعل من غير رضى، والرشد بالضم والضمتين: إصابة وجه الأمر ومحجة الطريق ويقابله الغي، فهما أعم من الهدى والضلال، فإنهما إصابة الطريق الموصل وعدمها على ما قيل، والظاهر أن استعمال الرشد في إصابة محجة الطريق من باب الانطباق على المصداق، فإن إصابة وجه الأمر من سالك الطريق إن يركب المحجة وسواء السبيل، فلزومه الطريق من مصاديق إصابة وجه الأمر، فالحق أن معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر وهو ظاهر، قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً"، وقال تعالى: "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل"، وكذلك القول في الغي والضلال، ولذلك ذكرنا سابقاً: أن الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية والمقصد، والغي هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الإنسان الغوي ماذا يريد وماذا يقصد. 

وفي قوله تعالى: لا إكراه في الدين، نفي الدين الإجباري، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقاً علمياً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيةً إخباريةً حاكيةً عن حال التكوين أنتج حكماً دينياً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائياً تشريعياً كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: قد تبين الرشد من الغي، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متكئ على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. 

وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبين الرشد من الغي، وهو في مقام التعليل فإن الإكراه والإجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور ورداءة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات أخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في إتباعه، والغي في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين. 

وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم (تفسير الميزان ج7، ص 342 – 343).

2021/12/23
كيف نتعامل مع ’الإشاعات’؟.. حلول قرآنية

الإشاعات وسبل معالجتها من المنظور القرآني

الإشاعة والشائعة تُستعمل لغة في: "الخبر ينتشر من دون التثبّت فيه" (1) وقيل في معناها أيضاً: "خبرٌ مكذوبٌ غير موثوق فيه وغير مؤكَّد، ينتشر بين النَّاس" (2) فكما تُستَعمَل في الخبر الذي لا أساس له، تُستَعمَل أيضا فيما يتمّ تضخيمه وإخراجه عن حجمه الواقعي.

[اشترك]

وهي ظاهرةٌ لا ينفكّ عنها مجتمع ما دامت ثمَّة قِوى واتجاهات مختلفة تتجاذبه، بَيْدَ أنّ تأثيرها يتناسب عكسا مع درجة الوعي والثقافة في المجتمع.

وبما أنَّ القرآن الكريم قد أَخَذَ في جملة أهمّ مقاصده بناء مجتمعٍ متماسكٍ بما يتناسب مع مهمة الاستخلاف في الأرض التي أنيطت بالإنسان نلاحظ أنّه قد اهتمّ بالتحذير من كثير من الأمراض التي تصيب بنيَة المجتمع ومنها الاشاعات التي إذا ما تفشّت في مجتمعٍ آلَ أمره إلى الضعف والاضمحلال. وفي هذه الورقة الموجزة نقف على أهمّ تلك التدابير التي نبَّه عليها الكتاب الكريم في هذا الصدد، والكلام في نقطتين.

أولاً: حرمة بثّ الإشاعات والوعيد عليه

للوعيد أثرٌ نفسيٌ شديد في الزجر عن الاتيان بالفعل الذي تعلّقَ به، وهو أحد السبُل التي اتبعها القرآن الكريم في تنفير الناس من الرذائل وكلّ ما يضرّ بالإنسان والمجتمع الإنساني، والتي منها بث الشائعات ومن الآيات التي جاءت في هذا السياق:

1- قوله تعالى: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ" (النور/15).

فالإشاعة في المقام الأوَّل هي ترويجٌ لقولٍ بلا علمٍ أي من دون معرفة مصادره والتدبّر في مقاصده وفي هذه الآية ردعٌ صريح ينطوي على بيان مدى قبح التقوّل على الناس من دون التثبُّت والتأكّد من صحّة الخبر، وهو المراد من قوله عزّ وجلّ: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ" فتقييد "التَلَقي بالألسنة للدلالة على أنّه كان "مجرد انتقالٍ للقول من لسانٍ إلى لسان من غير تثبّتٍ وتدبرٍ فيه" (3) فيكون العطف في قوله: "وتقولون.." من قبيل عطف التفسير وقد قيّده أيضاً بقوله: "بأفواهكم.." للتأكيد على كونه انتقال من دون دراية ومعرفة.

ولمّا كانت الاشاعة قولاً لا واقع له وإنّما محض اختلاق تتداوله الألسنة فهي بهتان وهو عند الله تعالى عظيم.

2- قوله تعالى: " لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " (التوبة/47).

أي لو خَرَجت هذه الجماعة مع المسلمين الى الجهاد لم يكن لها من عملٍ سوى الحرص على إفشالهم وفساد أمرهم بواسطة النميمة والتهويل وبث الإشاعات والدعايات في صفوفهم، فمن الخَبال اضطراب الرأي " بتزيين أمرٍ لقومٍ وتقبيحه لآخرين ليختلفوا وتفترق كلمتهم" (4) وهذا ضربٌ من الإشاعات كما سبق بيانه في تعريفها.

وذَيل الآية دليلٌ على أنّ هؤلاء الذين يُعِيرون آذانهم لتلك الإشاعات من دون معرفة وعلمٍ ظالمون (5) وتقريب ذلك أنّهم إنّما يظلمون أنفسهم بقبولهم لما هو خلاف الواقع وأيضا يظلمون مجتمعاتهم بإشاعة الجهل فيها.

وفي الكتاب الكريم نصوص أخرى في التحذير من الإشاعات نتركها اختصارا.

ثانياً: منهج القرآن الكريم في معالجة الشائعات

من خلال تتبع النص القرآني يمكن رصد مجموعة من الآليات التي تَعامَل في ضوئها مع موضوع الشائعات وهي تتكامل مع بعضها ولا يكفي الأخذ بكلّ واحدة منها على حدة ومنها..

1- منهج نقد المصادر

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6).

فمن أهمّ وسائل مواجهة الاشاعات منهج نقد المصادر والذي يعدّ نقداً خارجياً يبتني على تجاوز المضمون بتسليط النظر على مَنشئِه لاستبانة أكبر قدر ممكن من القرائن الخارجيّة التي يمكن أن ترجِّح صدقه أو كذبه، ومن ثمّ يكون المعيار في قبوله في هذه المرحلة مبني على أساس رصانة المَصدر، ولا يخفى أنّ العلاقة بينهما في المسائل النقليّة طرديّة.

والآية الكريمة تُرشد إلى ضرورة التبيّن وعدم التسرّع في قبول خبر الفاسق الذي لا رادع له عن الكذب من دون التثبُّت منه، أي التوقّف في قبوله والتأني حتى تَثبت حقيقته (6) وهي في الواقع بمثابة إمضاء لما جرت عليه السيرة العقلائيّة "من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يُخبر به وعدم ترتيب الأثر على خبره " (7).

والذي يجدر التنبيه عليه هنا أنّه كلّما ازدادت مخاطر وتبعات الأخذ بالمضمون تزداد بنسبة مساوية أهميّة التثبّت وضرورته حتى إنْ كان احتمال مخالفة الخبر للواقع ضعيفاً وذلك لأنّ قيمة الاحتمال لا تبتني على درجة وضوحه وكاشفيته فقط وإنما يُراعى فيها الموازنة بينها وبين قيمة المحتمَل فمثلاً نرى العقلاء يتجنبون ما يحتملون ترتب الضرر البليغ عليه وإن كان احتمالاً ضعيفا وليس ذلك منهم إلّا اعتداداً بخطورة المحتمَل ومن هنا علَّلت الآية الكريمة ضرورة التثبت بقوله تعالى: { تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } فإصابة قومٍ أبرياء واضحٌ أنّها ليست لازماً لا ينفكّ عن خبر الفاسق لكنّها تصلح مقتضياً لضرورة التثبت من جهة خطورة الأثر المترتب عليها لو وقَعَت.

2- منهج نقد المضمون

قال تعال: " الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ " (الزمر:18).

وهذا هو المنهج الآخر المعتَمَد قرآنيا في مواجهة الشائعات وهو يقوم على أساس نقد مضمون الخبر بالفحص عن وجود التهافت فيه او وجود ما يمنع من صحّته عقلاً او نقلاً او وجود قرائن تُضعِّف النسبة الاحتماليّة لصدقه، بل صريح الآية الذهاب الى أبعد من ذلك حيث جعلت المعيار في الأخذ بالمضمون تمييزه الى قبيحٍ وحَسَنٍ وأحسَن، وأنّ الذي ينبغي الأخذ به واشاعته هو خصوص القسم الثالث فالله تعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا " نُقّاداً في الدين يميزون بين الحَسَن والأحسَن "(8).

 ومن المعلوم أن الحُسن في القول غير موقوف على مادته في نفسها فقط بل يدخل في ذلك الأثر والغرض الذي يبتغيه القائل وهو ما يعرف بالحسن الفاعلي فهو دخيل في صدق الحسن على اشاعة المضمون ولعله الى هذه النكتة أشار تعالى في قوله " وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً " (البقرة: 83) بتقريب أنّ (حُسناً) جاءت بضمّ أوَّلها بدلاً من فتحه للدلالة على المبالغة، وهذا المنهج يتكامل مع منهج نقد المصادر وليس في قباله.

3- ضرورة الرجوع الى أهل العلم والخبرة

قال تعالى: " وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا " (النساء: 83).

فالرجوع الى أصحاب العلم والمعرفة فضلاً عن كونه ضرورة عقلية من جهة حكم العقل بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم هو أيضا يمثل ضمانة لتحصين المجتمع من الانسياق وراء كل شاردة وواردة من الاشاعات التي تعصف بالناس، وذلك من حيث أن أهل العلم يمثلون جهة قادرة على التعامل مع هذه الأخبار من جهة امتلاكهم الادوات العلميّة والمعرفيّة اللازمة لتفكيك المضمون ونقد المصادر.

4- ضرورة ردع مثيري الإشاعات في المجتمع

وهذا إجراءٌ تدبيري يعالجُ الإشاعة من خلال تجفيف منابعها في ضوء مجموعة تدابير إجرائية يُلقى بعضها على عاتق السلطات الرسميّة المعنيّة بحفظ مصالح المجتمع العامّة كتعزير من يعمل على ابتداع الاشاعات وافشائها مع مراعاة ظرفها وحجم تداعياتها وما تقتضيه المصلحة العامّة، بينما يكون بعضها الآخر من تكاليف عامّة أفراد المجتمع كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مراتبه الدنيا التي لا تتطلب إذناً من الحاكم الشرعي، وعموماً من الاجراءات التي ذكرها القرآن الكريم في هذا الصدد:

  • بما أنّ الإشاعة كَذِب وبهتان لا واقع له، يُراد به السوء بالمجتمع فلا شكّ في كون النهي عنها من مصاديق النهي عن المنكر الذي هو واجب على جميع أفراد المجتمع بشرطه وشروطه، قال تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" (آل عمران:110).
  •  ومن التدابير التي تُناط بعامّة المجتمع ضرورة عدم الاهتمام بآراء مثيري الاشاعات والإعراض عنهم قال تعالى في صفة المؤمنين: "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ " (القصص:55)، إذ من معاني اللغو: الكلام الباطل (9).

هذا ما اقتضاه المقام بإيجازٍ، ويمكن القول أنّها مفاتيح يمكن الانطلاق منها لبحث القضيّة بحثاً موسعاً لمن يجد في نفسه ما يلزم لذلك والله تعالى وليّ التوفيق والحمد لله رب العالمين.


الهوامش

  1. ظ: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة:1/503.
  2. معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار:2/ 1257.
  3. الميزان في تفسير القرآن: 15/ 92.
  4. البيان في تفسير القرآن:9/278 حكاه عن الفراء.
  5. ظ: مفاهيم القرآن، الشيخ السبحاني:5/449.
  6. ظ: مجمع البيان:9/221.
  7. الميزان في تفسير القرآن:18/311.
  8. جوامع الجامع:3/214.
  9. ظ: العين، الخليل الفراهيدي:4/449.

 

2021/11/29
تاريخ حافل بالصراع: لماذا يهتم القرآن بـ ’بني إسرائيل’؟

من الواضح أن الحكاية عن بني إسرائيل احتلت النصيب الأكبر من مجمل ما حكاه القرآن عن الأمم السابقة.

[اشترك]

ويبدو أن السبب في ذلك هو تاريخهم الحافل بالمواقف والأحداث مع الأنبياء السابقين، حيث مثلت تلك المواقف والأحداث أفضل الصور لصراع الحق مع الباطل، ولذا فصلها القرآن لتكون عبرة لأولي الألباب، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ).

 فقد خص الله بني إسرائيل بميراث الأنبياء وفضلهم على العالمين، قال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، حيث يعود نسبهم إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) أبو الأنبياء، قال تعالى حكاية عن إبراهيم: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ).

فلم يكونوا مجرد أمة من الأمم التي مضت في التاريخ، حيث خصهم الله بما لم يخص به غيرهم، ففيهم بعث الأنبياء وإليهم نزلت كتب السماء، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) ومن المفترض على بني إسرائيل تحمل المسؤولية وحفظ هذا الإرث وصيانته.

 وقد نبههم الله كثيراً على هذا الفضل وما خصهم به من النعم، قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) حيث أكدت الآية على أن بني إسرائيل كان لهم من المميزات ما تفضلهم على بقية الأمم والمجتمعات في تلك الفترة التاريخية، ومن الواضح أن كلمة عالمين في الآية لا تعني أفضليتهم على جميع البشرية منذ آدم إلى قيام يوم الدين، وإنما كان ذلك بالمقارنة مع من كان معهم في تلك الفترة التاريخية، وما يؤكد ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) فاختيارهم لا يكون إلا بمقارنتهم مع من هم معهم، أي أن الخيار وقع عليهم من بين المجموعات البشرية الأخرى، وقد نجد هذه الإشارة أيضاً في قوله تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) أي أن الله جعلها مباركة لهذه المجموعة التي هاجرت إليها.

وعليه فإن هناك عناية خاصة ببني إسرائيل وأنهم الأمة المرشحة لحمل رسالات الله، ومن الطبيعي حينها أن نفهم توالى الحساب والعقاب بمقدار توالي تلك النعم، فبمقدار ما خصهم الله به من النعم يكون حسابهم وعقابهم، فالمراقبة على مثل هذه الأمة تكون لصيقة ومباشرة، فمن جهة يرسل الله إليهم الأنبياء وينزل عليهم النعم، ومن جهة أخرى يبتليهم بالعذاب والعقاب في حالة انحرافهم عما أراده الله منهم، فالمعادلة الخاصة ببني إسرائيل هي توالي النعم إذا تم حفظها وشكرها، ونزول العذاب في الدنيا والآخرة إذا تم جحدها والكفر بها، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) وقال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ - وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ - وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ - وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)

والذي حدث أن بني إسرائيل آمن منهم القليل وكفر منهم الكثير، فكان منهم البغض والعداء لأهل الإيمان، وقتل الأنبياء والرسل، وتحريف كلام الله، ونشر الفتنة والفساد في الأرض، واشتهارهم بنقض العهود والمواثيق، ومن أجل كل ذلك استحقوا العذاب، فالله حريص على هدايتهم وتطهيرهم من درن الذنوب، إلا أن كفرهم وتمردهم على أمر الله لم يدع لهم مجال للعفو والمسامحة، و قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مع ذلك لم يعذب الله بني إسرائيل بعذاب يستأصلهم كما حصل مع قوم نوح عاد وثمود. قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى).

وعليه كل ما نعرفه أن الله أنزل بعض أنواع العذاب على بني إسرائيل بما استحقوه من أفعال، وما لا يمكن معرفته لماذا يعذب الله في الدنيا على ذنوب لا يعذب بها آخرين؟ أو لماذا لا يكون العذاب متشابه إذا كانت الذنوب متشابهة؟ وليس بمقدورنا الاقتراح أو التقدير لما يجب أن يكون، فالإنسان مهما بلغ من العلم يظل جاهلاً بحقائق الأمور وعللها وغاياتها، فما نسلم به هو أن الله أعلم بحال خلقه، وهو العادل الذي لا يظلم أحد من رعيته، وهو الحكيم الذي ليس في فعل عبث، ومن لم يتم حسابه وعقابه في الدنيا فإن الحساب ينتظره في الآخرة، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ).

2021/11/13
​ما حقيقة خلق ’حواء’ من ضلع ’آدم’؟!

يعتقد كثيرون أن (حواء) قد خلقت من ضلع من أضلاع (آدم)، بل من الضلع الأيسر لآدم، فهل هذا صحيح؟

[اشترك]

إن الرأي الراجح عند شيعة أهل البيت (عليهم السلام) هو أن حواء خلقت من طينة آدم (عليه السلام) وقد رووا عن أئمتهم الكثير من الروايات التي تثبت ذلك، وقد خالفهم في ذلك أهل السنة حيث أطبقت أحاديثهم على خلق حواء من ضلع آدم (عليه السلام)، والذي سبب إشكالا عند بعض الشيعة هو وجود بعض المرويات عن أهل البيت (عليهم السلام) تتفق مع مرويات أهل السنة، مما يؤكد وجود تعارض بين الروايات المثبتة والروايات النافية، ومن هنا نحن نؤكد وجود طائفتين من الروايات. 

الطائفة الأولى: هي الروايات التي تؤكد على أن أمنا حواء خلقت من الطينة التي خلق منها أبونا آدم (عليه السلام) وتمتاز هذه الطائفة من الروايات بعدة ميزات: 

1- كثرة مروياتها، فهي أكثر من المرويات المخالفة لها، وأكثر اعتبارا منها. 

2-  في هذه الروايات الأخبار الصحيحة والعالية المضامين.  

3- هذه الروايات ناظرة في بعضها لتكذيب ما جاء في الروايات المثبتة. 

ومن أخبار هذه الطائفة، ما رواه العياشي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه، قال: سألت أبا جعفر (ع): من أي شي‏ء خلق الله حواء؟ فقال: أي شي‏ء يقول هذا الخلق؟ قلت: يقولون إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم، فقال: كذبوا، كان يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟! فقلت: جعلت فداك يا ابن رسول الله، من أي شي‏ء خلقها؟ فقال أخبرني أبي عن آبائه (ع) قال قال رسول الله: إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه، وكلتا يديه يمين، فخلق منها آدم، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء. 

وفي رواية من لا يحضره الفقيه عن زرارة بن أعين أنه قال سئل أبو عبد الله (ع) عن خلق حواء، وقيل له: إن أناسا عندنا يقولون: إن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى، فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، أيقول من يقول هذا إن الله تبارك وتعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه.. 

الطائفة الثانية: وهي الروايات التي تثبت خلق حواء من ضلع آدم (عليه السلام)، وأخبار هذه الطائفة أقل من أخبار الطائفة الأولى، وإن كان بعضها صحيحا وبعضها الآخر مرسلا وضعيفا، ومن روايات هذا الباب، ما رواه الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) ، أن علي بن أبي طالب (ع) كان يورث الخنثى فيعد أضلاعه ؛ فإن كانت أضلاعه ناقصة من أضلاع النساء بضلع ، ورث ميراث الرجل ؛ لأن الرجل تنقص أضلاعه عن ضلع النساء بضلع ؛ لأن حواء خلقت من ضلع آدم (ع) القصوى اليسرى فنقص من أضلاعه ضلع واحد. 

ومن المعروف في حالة التعارض بين المرويات يعمل على جمعها ما أمكن وإلا تم ترجيح أحدها على الأخرى، وقد حمل العلماء الروايات المثبتة لخلق حواء من ضلع آدم على التقية لكونها موافقة لروايات المخالفين، وما يشهد على ذلك قول الإمام الصادق (عليه السلام) في صحيحة زرارة قال سئل أبو عبد الله عليه السلام عن خلق حواء، وقيل له: إن أناسا عندنا يقولون أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى... فقال (عليه السلام): إذن آدم كان ينكح بعضه بعضا إذا كانت من ضلعه ما لهؤلاء حكم الله بيننا وبينهم.. ففي الرواية تعريض بمن يقول أن حواء خلقت من ضلع آدم، ومن هنا تحمل الروايات الموافقة لهم على التقية. 

 وقال العلامة المجلسي بعد ذكره للروايات المثبتة: فالأخبار السابقة إما محمولة على التقية، أو على أنها خلقت من طينة ضلع من أضلاعه. وما ذهب إليه العلامة المجلسي من توجيه أخذه عن نص الرواية الواردة في علل الشرائع التي تقول: من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر، وعليه تكون حواء قد خلقت من طينة الضلع وليس من ذات الضلع. 

وقال السيد نعمة الله الجزائري في قصص الأنبياء، وما ورد من أنه خلق من ضلع من أضلاعه وهو الضلع الأيسر القصير، محمول على التقية، أو على التأويل، أو بأن يراد أن الطينة التي قررها الله سبحانه لذلك الضلع، خلق منها حواء لأنها خلقت منه بعد خلقه.

وقال الشيخ الصدوق: إن حواء خلقت من فضلة الطينة التي خلق منها آدم (ع)، وكانت تلك الطينة مبقاة من طينة أضلاعه، لا أنها خلقت من ضلعه بعد ما أكمل خلقه فأخذ ضلع من أضلاعه اليسرى فخلقت منها. 

وفي المحصلة هناك ترجيح للروايات التي تنفي خلق حواء من ضلع آدم، لكونها أكثر وأقوى ومخالفة لمرويات المخالفين.

2021/11/10
آيات تؤكد الحساب يوم القيامة وأخرى تنفيه.. كيف نوفّق بينهما؟

كتب الشيخ محمد هادي معرفة:

والوزن يومئذ الحق

قال تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) وقال:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) وقال:(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) وقال: (... وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ...).

[اشترك]

هذا مع قوله تعالى بشأن المؤمنين:( ... فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله:( ... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله بشأن الكافرين:(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).

 فكيف يمكن التوفيق بين هذه الآيات فهل ثمة ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال؟

ليس في القرآن ما ينفي المحاسبة وموازنة الأعمال، والآيات المُستَند إليها إنّما تعني شيئاً آخر وهو: الرزق والأجر بما يَفوق الحساب، وكذا الذي حَبِطت أعماله، لا وزن له عند اللّه ولا مِقدار.

قال الطبرسي ـ عند قوله تعالى: (... وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) 1: فيه أقوال:

أحدهما: أنّ معناه يُعطيهم الكثير الواسع الذي لا يَدخله الحساب مِن كثرته.

ثانيهما: أنّه تعالى لا يَرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، وكذا في الآخرة لا يُثيبهم على قَدَرِ أعمالهم بل يَزيدهم فضلاً منه وإنعاماً.

ثالثها: أنّه تعالى يُعطي العطاء لا يؤاخذه عليه أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاءً ولا مُكافأة.

رابعها: أنّه يعطي العدد من الشيء الذي لا يُضبط بالحساب ولا يأتي عليه العَدَد؛ لأنّ ما يَقدر عليه غير متناهٍ ولا محصور، فهو يُعطي الشيء لا مِن عدد أكثر منه فينقص منه، كمَن يُعطي الألف من الألفين، والعشرة من المِئة، قاله قطرب.

خامسها: أنّ معناه يُعطي أهل الجنّة ما لا يَتناهى ولا يأتي عليه الحساب.

ثمّ قال رحمه اللّه: وكلّ هذه الوجوه جائز حسن 2.

وقال الزمخشري ـ في تفسير قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا )3: (ضلّ سعيهم) ضاع وبطل... وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمالٍ يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبالِ تَهامة، فإذا وَزَنوها لم تَزن شيئاً،( ... فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) 4 فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ولا مِقدار 5.

وقال الطبرسي: أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة، ولا نعتدّ بهم، بل نستخفّ بهم ونُعاقبهم، تقول العرب: ما لفلانٍ عندنا وزن أي قَدر ومَنزلة، ويُوصف الجاهل بأنّه لا وزن له؛ لخفّته بسرعة بطشه وقلة تثبّته، ورُوي في الصحيح: أنّ النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: (إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السَّمين يومَ القيامة لا يَزن جَناح بعوضة) 6.

قال العلامة الطباطبائي: والوزن هنا هو الثِقل في العمل في مقابلة الخِفّة في العمل، وربّما تبلغ إلى مرتبة فَقْدِ الوزن رأساً.

وقال ـ في قوله تعالى:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ... ) 7: المراد أنّ الوزن الذي تُوزن به الأعمال يومئذٍ إنّما هو الحقّ. فبقَدَر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته، والحسنات مُشتملة على الحقّ، فلها ثِقل، كما أن السيّئات ليست إلاّ باطلة فلا ثِقل لها، واللّه سبحانه يَزن الأعمال يومئذٍ بالحقّ، فما اشتمل عليه العمل مِن الحقّ فهو وزنه وثِقله 8.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 212، الصفحة: 33.

2. مجمع البيان، ج2، ص305 ـ 306.

3. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآيات: 103 - 106، الصفحة: 304.

4. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 105، الصفحة: 304.

5. الكشّاف، ج2، ص749.

6. مجمع البيان، ج6، ص497.

7. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 8، الصفحة: 151.

8. الميزان للطباطبائي، ج8، ص8 ـ9.

المصدر: شُبُهَات و ردود حول القرآن الكريم

2021/11/07
ما حقيقة رفع ’النبي عيسى’ إلى السماء.. وما علاقتها بـ ’غيبة الإمام المهدي’؟

قال تعالى: (إِذ قالَ اللَّه يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إِلَيَّ ومُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَومِ القِيامَةِ).

[اشترك]

هل معنى الآيةِ الكريمةِ أنّ اللهَ تعالى رفعَ عيسى (عليه السّلام) إلى السّماء؟ وهل هيَ صورة أخرى مِن صورِ غيبةِ المعصوم، فتنطبقُ على غيبةِ إمامِنا المهدي (عجّلَ اللهُ تعالى فرجَه)؟ 

إن معنى الآيةِ الكريمةِ هوَ أخذُ النبيّ عيسى (عليه السّلام) مِن عالمِ الأرضِ ومِن بينِ الناسِ، وحِفظه عن مكرِ اليهود، مِن دونِ أن ينالوا منهُ شيئاً حتّى زمانِ عودتِه إلى الأرض، ورفعِه عالياً ـ وهوَ أعمُّ منَ العلوّ المعنويّ كشرفِ المنزلةِ والفضيلة، والعلوِّ المحسوسِ الظاهريّ إلى السماءِ كما في الأجسامِ الخارجيّة ِإذا أُعليَت عَن مقرِّها ـ، وتطهيرُه مِن رجسِ الكافرينَ وكفرِهم، وابتعادِه عن مُخالطتِهم ومكائدِهم وعن مجتمعٍ استولت عليهِ كلُّ رذيلةٍ وكُفرٍ وجحود، ووعدُه وتبشيرُه وتبشيرُ أتباعِه الذينَ آمنوا به واهتدوا بهديهِ بالخيرِ والتفوّقِ على الذينَ كفروا. [ينظر: مواهبُ الرّحمن ج5 ص387ـ392]. 

ومنَ الواضحِ أنّ صعودَ النبيّ عيسى (عليه السّلام) إلى السماءِ حيّاً هوَ الغيبةُ بعينِها، فإنّ رفعَه يعني أنّ عيسى (عليهِ السّلام) حيّ  محجوب  عن الناسِ كما هو الحالُ في غيبةِ إمامِنا الحُجّةِ المُنتظر (عجّلَ اللهُ فرجَه الشريف).. غايةُ الأمر، أنّ غيبةَ النبيّ عيسى (عليه السّلام) بأخذِه للسّماءِ وانقطاعِه عن الناس، بينما غيبةُ وليّنا المُنتظر (سلامُ اللهِ عليه) هيَ غيبةُ العنوانِ لا غيبةُ الشخص، فهوَ موجود  بينَ الناسِ لكنّهم لا يعرفونَ أنّه الإمامُ (عليهِ السلّام)، وفي دعاءِ الندبة: «بِنَفسِي أَنتَ مِن مُغَيَّبٍ لَم يَخلُ مِنّا، بِنَفسِي أَنتَ مِن نازِحٍ ما نَزَحَ عَنّا». 

ثمّ هناكَ جهة  أخرى في حياةِ النبيّ عيسى (عليهِ السّلام) مرتبطة  بالغيبة، وهي سياحتُه في الأرض، وقد نبّهَ عليها الشيخُ الصّدوقُ في [كمالِ الدينِ ص160] بقوله: (وكانَت للمسيحِ (عليه السّلام) غيبات  يسيحُ فيها في الأرضِ، فلا يعرفُ قومُه وشيعتُه خبرَه، ثمّ ظهرَ فأوصى إلى شمعونَ بنِ حمون (عليهِ السّلام)، فلمّا مضى شمعونُ غابَت الحُججُ بعدَه واشتدَّت الطلب، وعظمَت البلوى، ودرسَ الدينُ، وضُيّعَت الحقوق، وأميتَت الفروضُ والسُّنن، وذهبَ الناسُ يميناً وشمالاً لا يعرفونَ أيّاً مِن أي، فكانَت الغيبةُ مائتينِ و خمسينَ سنة).

2021/11/06
هل يعلم الشيطان بأفكار ونوايا الإنسان؟!

لا إشكال في أنّ الشيطان قريب جداً من الإنسان، وهو يجري منه مجرى الدم، كما ثبت بطريق معتبر في [الكافي ج2 ص440]، فهو ملازم للإنسان ويوسوس له ويلقي في روعه الخواطر ويدفعه نحو ارتكاب المعاصي والآثام، كما هو واضح.

[اشترك]

بل الشيطان يثبّط الإنسان إذا أراد امتثال طاعة، كما يشجّعه إذا أراد ارتكاب معصية، فقد روى الكلينيّ في [الكافي ج2 ص267] عن أبي عبد الله (عليه السلام): « إنّ للقلب أذنين، فإذا همّ العبد بذنب قال له روح الإيمان: لا تفعل، وقال له الشيطان: افعل»، وفي بعض الأدعية عند ذكر الشيطان: « إِنْ هَمَمْتُ بِفَاحِشَةٍ شَجَّعَنِي، وَإِنْ هَمَمْتُ بِصَالِحٍ ثَبَّطَنِي » [مصباح المتهجد ص560]، والهمّ بالشيء هو حديث النفس بفعله، فهو على نحو الخواطر والنوايا، فقد يستفاد من ذلك اطلاع الشيطان على خواطر ونوايا الإنسان؛ لأن تشجيعه على المعاصي وتثبيطه عن الطاعات فرع اطلاعه على إرادة الإنسان ونيته لارتكاب المعصية أو الطاعة.

قال المحقّق النراقيّ في [جامع السعادات ص113]: «لا ريب في أنّ أكثر القلوب قد فتحها جنود الشياطين وملكوها، ويتصرّفون فيها بضروب الوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة وإطراح الآجلة، والسرّ فيه: أنّ سلطنة الشيطان سارية في لحم الإنسان ودمه ومحيطة بمجامع قلبه وبده، كما أن الشهوات ممتزجة بجميع ذلك، ومن هنا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم»، وقال الله سبحانه حكاية عن لسان اللعين: "لأقعدنّ لهم صراطَك المستقيم * ثم لاتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم"»، وقال أيضاً: « فالأبواب المفتوحة للشيطان إلى القلب كثيرة».

وقال السيّد الطباطبائيّ في [تفسير الميزان ج8 ص44]: «وإن لإبليس أعواناً من الجن والإنس وذرية مختلفي الأنواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الانسان من الدنيا وما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق، وتزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.

وهم يتصرفون في قلب الانسان وفي بدنه وفي سائر شؤون الحياة الدنيا من أموال وبنين وغير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعاً وانفراداً، وسرعة وبطؤاً، وبلا واسطة ومع الواسطة، والواسطة ربما كانت خيراً أو شراً، وطاعة أو معصية.

ولا يشعر الانسان في شيء من ذلك بهم ولا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه، ولا يقع بصره إلا بعمله، فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الانسان ولا، ذواتهم وأعيانهم في عرض وجود الانسان، غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن وأنهم مخلوقون من النار، وكان أول وجوده وآخره مختلفان».

2021/10/27
هل تحدّث القرآن الكريم عن «عذاب القبر»؟!

عذاب القبر هو مما تسالم عليه المسلمون جميعهم، والأدلة عليه من القرآن والسنة أكثر من أن تحصى، وهذه بعض الأدلة القرآنية كما طلبتِ:

[اشترك]

1- يقول تعالى في سورة غافر الآية (46) عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر:46) .

فالآية صريحة وهي تتحدث عن عذابين: عذاب قبل يوم القيامة وعذاب في يوم القيامة، والعذاب الذي قبل يوم القيامة هو الذي يصطلح عليه بعذاب القبر أو عذاب البرزخ.

2- وفي سورة البروج الآية (10) يتحدث سبحانه عن أصحاب الأخدود فيقول: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10).

وهنا الآية صريحة أيضا في الحديث عن عذابين: عذاب جهنم، وعذاب الحريق، ومن المعلوم أن عذاب جهنم هو عذاب الآخرة، ويبقى عذاب الحريق هو عذاب البرزخ أو ما يسمى بعذاب القبر.

3- وفي سورة ال عمران الآية (169) وما بعدها يحدّثنا سبحانه وتعالى عن الشهداء فيقول: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (عمران:169- 170).

فهذه الآيات صريحة في نعيم البرزخ، لأنها تتحدث عن مرحلة لا يمكن أن يكون المراد بها يوم القيامة؛ لأنه في يوم القيامة لا يوجد هناك من ننتظره للحضور فالكل سيحشر وينتقل إلى الدار الآخرة، ولا يوجد من يبقى ورائنا حتى ننتظره ونتمنى لحوقه بنا، فالآية صريحة في الدلالة على عالم البرزخ أو عذاب القبر ونعيمه.

2021/10/23
لا تجعلها تمر مرّ السحاب.. كيف تغتنم فرص ’الفوز’؟

تضييع الفرص

يقول تعالى في سورة “هود”: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

[اشترك]

لقد كان هناك فرصة لنجاة هذا الولد الذي لم يكن باراً بأبيه، ولم يكن مطيعاً لربه، فكان من المغرقين! هذه الآية يُضرب بها المثل في تفويت الفرص، وقضية الفرص مسألة مهمة في حياة الإنسان، فكم يأتيه من فرص الفوز والنجاة والربح، ولكنه لا يغتنمها!

الفرص في الحياة

أولاً: فرصة الفراغ قبل الشغل: إن الشاب المتزوج حديثاً هو في أفضل أوقات العمر: لأن الإنسان الأعزب يعيش حالة من حالات الشهوة التي لا تُطفأ؛ أي إثارة من دون إشباع.. والمتزوج الذي له أولاد؛ هذا إنسان مشغول بأولاده.. أما المتزوج الفارغ الذي له: زوجة مطيعة، ورزق يكفيه؛ فهذه فرصة العمر بالنسبة له، والذي لا يغتنمها يفوّت على نفسه الفرصة!

ثانياً: الفرص المكانية والزمانية: الفرص المكانية: إن الإنسان الذي يذهب إلى العمرة -مثلاً- والساعة التي يمكن أن يمضيها في الطواف، أو في الصلاة عند الكعبة؛ ويفوتها بالنوم الطويل، أو بالجلوس مع أصدقائه، أو بالأكل المتواصل؛ هذا تفويت لهذه الفرصة المكانية! لذا بعض من يذهب إلى العمرة أو الحج؛ يبقى على ما هو عليه!

الفرص الزمانية: هناك تفويت للفرصة الزمانية، ومثاله شهر رمضان الذي كل نفس فيه تسبيح، وكل لحظة فيه يكون الإنسان في ضيافة الله عز وجل.. ومع ذلك هناك من لا يستغل هذه الفرصة!

ثالثاً: الفرصة الحالتية: يقول العلماء: إذا جاءتك حالة الرقة لا تقطعها باختيارك، دعها تزول تدريجياً.. فهذه الحالة من الطبيعي أنها ستزول، ولن تبقى مع الإنسان؛ هي عبارة عن منحة لمدة ساعة أو نصف ساعة، وبعض الأوقات لمدة دقائق فقط ثم تذهب.. إذا ذهبت الرقة عندئذ يقوم الإنسان من مكانه، وإلا عليه البقاء على ما هو عليه! فمثلاً:

1. إن الإنسان الذي يُقيم الليل وهو مقبل، هذه فرصة من فرص العمر، فإن قطع هو بنفسه إقباله؛ هذا تفويت لهذه الفرصة.

2. إن الإنسان الذي يذهب إلى المسجد، ويصلي المغرب وهو مدبر، ويصلي العشاء وهو مدبر أيضاً؛ ولكن عند صلاة الوتيرة كان مقبلاً، هنا عليه ألا يقطع الحالة باختياره؛ هذه منحة إلهية، طالما كان ينتظرها، عليه أن يغتنم فرصة الإقبال هذه التي أتته بلا احتساب!

3. إن جاءت الرقة للإنسان وهو في الركوع، عليه أن يطيل الركوع؛ لأنه من الممكن أن تذهب هذه الحالة عندما يذهب إلى السجود.. وإن جاءت الرقة في القنوت؛ عليه أن يطيل قنوته؛ كي لا يكون سبباً في سرعة ذهاب هذه الفرصة!

اغتنام الفرص

1. عن النبي الأعظم (ص): (مَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْخَيْرِ فَلْيَنْتَهِزْهُ؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَتَى يُغْلَقُ عَنْهُ).. عندما يُفتح باب الفرصة للإنسان، عليه أن يغتنمها؛ لأنها منح إلهية!

2. عن الإمام علي (عليه السلام): (انتهزوا فُرص الخير؛ فإنّها تمرّ مرّ السحاب).. فكما أن هناك غضباً تراكمياً: أي أن الإنسان قد يرتكب ذنباً واحداً، فلا ينزل عليه العذاب؛ ولكن بعد أن يصل إلى الذنب الرابع أو الخامس؛ تهبط درجة الميزان، فيحلل عليه الغضب، يقول تعالى: (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى).. هنالك أيضاً منح تراكمية: قد يقوم الإنسان بعمل صالح عشرات المرات، فلا يُعطى جائزة؛ ولكنه يقوم بعمل صالح آخر؛ فيُعطى منحة الإقبال! هذه فرصة رب العالمين لم يعطه إياها إلا بعد عشرات الأعمال الصالحة؛ لذا عليه أن يغتنمها!

3. عن الإمام المجتبى (عليه السلام): (يا ابن آدم!.. إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فجد بما في يديك.. فإن المؤمن يتزود، والكافر يتمتع)!

ـ (إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك).. أكبر الناس سناً هو الرضيع؛ لأن الفرصة أمامه طويلة.. وكلما تقدم في العمر، يقلّ عمره لا يكبر! والمؤمن له في ختام كل ليلة حالة من حالات الحزن -إن كان يلتفت- لأنه كل يوم يقترب خطوة إلى القبر أكثر فأكثر!

ـ (فجد بما في يديك).. هذه عبارة جميلة، إذا أراد الإنسان أن يستمتع استمتاعاً محرماً أو استمتاعاً يشغله عن عبادة، كأن يُؤذَّن لصلاة الظهر، والإنسان مشغول بطبق شهي، أو في جلسة ساهية لاهية؛ عليه أن يجعل هذه الرواية أمامه دائماً وأبداً، ولا بأس أن تكتب هذه الرواية في غرفة الطعام، لتكون مذكرة!

ـ (فإن المؤمن يتزود، والكافر يتمتع).. فرق بين التمتع والتزود: فالإنسان الذي يذهب إلى محطة البنزين، ويتزود بالوقود؛ فإنه يُكمل سيره، لا ليقف في مكانه، ويشتغل بالأكل والشرب، وهو في ذلك المكان.. المؤمن هكذا يتزود: فنومه هو زاد لآخرته، لأنه إذا لم ينم لن يستيقظ نشطاً لصلاة الليل.. بعض الناس ينام مبكراً لا لأجل الصحة والعافية فقط، فمن موجبات العافية؛ النوم المبكر، ولكنه يخشى إن نام متأخراً ألا يستيقظ لصلاة لليل، ولو استيقظ فإنه يخاف أن يتكلم وهو من غير وعي، فلا يُعطي صلاة الليل حقها؛ هذا شعار المؤمن في كل تقلباته!

4. عن الإمام علي (عليه السلام): (بادر الفرصة، قبل أن تكون غصة).. هناك أنواع من العذاب في القبر، ومن أشد أنواع عذاب القبر على ما يُفهم من بعض القضايا: هو الحزن على ما فات الإنسان من الفرص، وتضييع العمر، حتى لو بالحلال، لأنه كان بإمكان الإنسان أن يتزود لآخرته، ولكنه اشتغل بالمباح عن المستحب، يقول تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

 

2021/10/12
ولهم عذاب أليم.. هل يتعمّد القرآن تخويفنا؟!

إن جوهر القرآن وحقيقته شيء آخر غير البشارة والإنذار، وما فيه من آيات النار إنما هي نتاج لموقف الإنسان مما جاء في القرآن من معارف وحقائق.

[اشترك]

وعليه فإن القرآن في جوهره هو دعوة للإنسان للعروج في مدارج الكمال من خلال الحقائق والمعاني السامية التي جاءت في آياته، ومن يخالف ذلك ويسير على غير هدى القرآن يكون مصيره النار، فالأصل في القرآن هو ما فيه من معارف وحقائق، أما النار فهي نتاج طبيعي لموقف الإنسان، ومن هنا يمكننا القول إن آيات البشارة والنذارة تشكل حافزاً للإنسان ليتمسك أكثر بما في القرآن من حقائق ومعارف، ولتقريب الصورة يمكننا أن نضرب مثلاً (بالمدارس) التي أسست للتعليم والارتقاء بالإنسان معرفياً، فمع أن رسالة المدارس هو التعليم إلا أن ذلك قد يستتبع مكافئة المجدين ومعاقبة المهملين، ولا يمكن حينها تجاهل الهدف الجوهري للمدارس والتمسك بما فيها من عقاب، وهكذا الحال في آيات العذاب في القرآن إنما جاءت لإقامة الحجة على الإنسان وحتى لا يغفل عن المصير الذي ينتظره إذا لم يبني حياته على الحق والهدى، قال تعالى: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا).

ومن جهة أخرى لا يمكن إهمال ما جاء في آيات القرآن من ترغيب في رضوان الله وجناته وما ينتظر المؤمن من نعيم أبدى، والإنسان المؤمن هو الذي يتوقع رحمة الله ويرجو فضله فلا تكون آيات النار في نظره إلا محفزات تدعوه للاجتهاد أكثر في طريق الحق، أما الذي يسيء الظن بالله ولا يتوقع منه إلا العذاب فإن ظنه هذا هو الذي يرديه في نار جهنم، قال تعالى: (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) وقال تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) وقد جاء في الأخبار والروايات ما يدعو إلى حسن الظن برضوان الله ونعيمه، وقد جمع بعضها في كتاب ميزان الحكمة (ج2، ص 1788) وهي كالتالي:

عن الإمام الرضا (عليه السلام): أحسن الظن بالله، فإن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي لا إله إلا هو، لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه.

وعنه (صلى الله عليه وآله): لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله عز وجل، فإن حسن الظن بالله عز وجل ثمن الجنة.

وعن الإمام علي (عليه السلام): من حسن ظنه بالله فاز بالجنة، من حسن ظنه بالدنيا تمكنت منه المحنة.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسن الظن بالله من عبادة الله.

وعنه (صلى الله عليه وآله): ليس من عبد يظن بالله عز وجل خيرا إلا كان عند ظنه به، وذلك قوله عز وجل: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرديكم فأصبحتم من الخاسرين).

وعنه (صلى الله عليه وآله): رأيت رجلا من أمتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف فجاءه حسن ظنه بالله فمسكت رعدته.

 وفي الخلاصة: إن القرآن الذي دعانا للحق من الطبيعي أن يبين جزاء من يقبل الحق ومن لا يقبله وآيات الجنة والنار من هذا القبيل، فالذي يحسن ظنه بالله ويجتهد في مرضاته فإن مصيره الجنة برحمة الله تعالى.

2021/09/30
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم.. لماذا ذُكرت ’الزهراء’ بصيغة الجمع في آية ’المباهلة’؟

لماذا النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه في يومِ المُباهلةِ ذكرَ الزّهراءَ بصيغةِ الجمعِ (نساءنا)؟

[اشترك]

لم يذكُر النّبيُّ يومَ المباهلةِ السّيّدةَ الزّهراءَ بنسائِنا وإنّما جاءَت هذهِ اللّفظةُ في الآيةِ التي طلبَ اللهُ فيها منَ النّبيّ مباهلةَ النّصارى، وهيَ الآيةُ 61 مِن سورةِ آلِ عمران، وهيَ قوله تعالى: (فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعَالَوا نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَّعنَتَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ) فعندَما جاءَ النّبيُّ لموعدِ المباهلةِ اصطحب معَه الإمامَ عليّاً والسّيّدةَ فاطمةَ الزّهراء والحسنَ والحُسينَ (عليهم السّلام) ولم يأتِ كما كانَ متوقّعاً بأبناءِ ونساءِ المُسلمين، وإنّما اكتفى بالحسنِ والحُسينِ (عليهم السّلام) منَ الأبناءِ، ومنَ النّساءِ بالسّيّدةِ الزّهراءِ (عليها السّلام)، وبالإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) في منزلةِ أنفسِنا، ولا خلافَ بين الأمّةِ على أنَّ هؤلاءِ الخمسةَ هُم الذينَ جاءوا لمُباهلةِ نصارى نجران، وعندَما رأى النّصارى هذهِ الوجوهَ المُشرقةَ ارتعشوا خوفاً، وسألوا الأسقفَ زعيمَهم: يا أبا حارثةَ، ماذا ترى في الأمرِ؟ فأجابَهم: أرى وجوهاً لو سألَ اللهُ بها أحداً أن يزيلَ جبلاً مِن مكانِه لأزالَه. أفلا تنظرونَ محمّداً رافعاً يديهِ ينظرُ ما تجيبانِ به، وحقِّ المسيحِ إذا نطقَ فوهُ بكلمةٍ لا نرجعُ إلى أهلٍ ولا مال) (الدّرُّ المنثورُ، السّيوطيّ ج2 مِن سورةِ آلِ عمران آية 61)

وقد رَوت المصادرُ الموثوقةُ عندَ أهلِ السّنّةِ هذهِ الحادثةَ مثلِ مسلمٍ والتّرمذي كلاهُما في بابِ فضائلِ عليّ (ع): (عَن سعدٍ بنِ أبي وقّاص قالَ: لما نزلَت هذهِ الآيةُ (قُل تعالوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءنا..) دعا رسولُ اللهِ (ص) عليّاً وفاطمةَ وحسناً وحسيناً، فقالَ: اللهمَّ هؤلاءِ أهلي) (صحيحُ مسلم ج2 ص360)

وفي المحصّلةِ لم يذكُر رسولُ اللهِ السّيّدةَ فاطمةَ الزّهراء بخطابِ الجمعِ (بنسائِنا) وإنّما أختارَها مِن بينِ النّساءِ ليباهلَ بها نصارى نجران، ولم يُحضِر غيرَها لعدمِ وجودِ مَن هوَ مثلها مِن بينِ النّساء.

المصدر: مركز الرصد العقائدي

2021/08/04
أنفسنا وأنفسكم.. 3 دلالات لآية ’المباهلة’

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) «سورة آل عمران 61»

الآية المباركة التي نزلت في يوم المباهلة لها عدة دلالات:

[اشترك]

الدلالة الأولى: أن هؤلاء الخمسة الذين شكلوا طرف المباهلة هم أفضل الخلق، لأن المباهلة مع دين آخر - كدين النصارى - تتوقف على أن يحضر فيها أقرب الناس إلى الله عز وجل، ولذلك كما ذكر الزمخشري في كشافه، والرازي في تفسيره، والبضاوي والسيوطي وغيرهم، أنه لما باهل رسول الله نصارى نجران خرج بيده الحسن والحسين، وخلفه فاطمة، وخلف فاطمة علي، ولما وقف أمام نصارى نجران قال: إذا دعوتُ فأمّنوا، فلو كان هناك أناس أقرب من هؤلاء إلى الله، أو مثلهم في القرب من الله، لأخرجهم الرسول  في هذا الموقف الخطير موقف المباهلة.

الدلالة الثانية: أن الرسول أراد أن يعلم الأمة درسًا، أن هؤلاء الصفوة هم وسائل الخلق إلى الله عز وجل، فالله عندما يقول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) فما هي الوسيلة؟! هذه الآية الثانية تحدد لنا الوسيلة التي يتخذها المؤمن في التقرب إلى الله عز وجل، الوسيلة هم الذين قال لهم النبي: إذا دعوتُ فأمنوا، مع أنه أشرف الخلق، ودعاؤه أقرب دعاء إلى الله تبارك وتعالى، فلماذا طلب من علي وفاطمة وحسن وحسين أن يؤمنوا على دعائه؟ أراد أن يقول للأمة: إن الوسيلة التي نادت بها الآية الأخرى - (وابتغوا إليه الوسيلة) - هم هؤلاء، فلا يصح التقرب إلى الله إلا بالتوسل بهؤلاء الصفوة المطهرة الذين قال لهم الرسول المصطفى: إذا دعوتُ فأمّنوا.

الدلالة الثالثة: أراد النبي أن يقول للأمة من خلال هذا الجمع أن هؤلاء الخمسة روّاد لحركة واحدة، حركة تعتمد على دعامتي النبوة والإمامة، هذه الحركة التي تعتمد على دعامتي النبوة والإمامة لكل واحد من الخمسة دورٌ فيها، فدور رسول الله  دور تأسيس الكيان الإسلامي، ودور فاطمة الزهراء  الدفاع عن حق الأمة في الخلافة الراشدة، حيث قالت: ”أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبن بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين“، ودور علي  هو تطبيق وتفعيل أطروحة الدولة الإسلامية، فإن الدولة الإسلامية ما تجسدت بمرافقها من قضاء وشرطة وبيت المال واقتصاد إلا في زمن الإمام علي  كما أجمع عليه سائر المسلمين، وكان دور الحسن الزكي التمهيد لثورة أخيه الحسين، وكان دور الخامس منهم - ألا وهو الحسين بن علي «صلوات الله وسلامه عليه» - أنه صار مجددًا لهذه الحركة، صائنًا لثغورها، موقظًا للأمة من سباتها، مجددًا إرادتها ويقظتها، في قوله: ”إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“.

*مقتطف من محاضرة لسماحة آية الله السيد منير الخباز

2021/08/04
سور في المصحف.. عن قصة ’جمع القرآن’ لدى الشيعة

كتب السيد عبد الهادي العلوي:

إنّ البحث حول جمع القرآن الكريم وتأليفه مصحفاً بين دفّتين يكون في مرحلتين:         

المرحلة الأولى: أنّ جمع الآيات وتنظيمها وترتيبها القائم ضمن السور في أعدادها الخاصّة، كما هو الموجود الآن، حصل على عهد الرسالة توقيفيّاً وبنصّ صاحب الشريعة، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

[اشترك]

المرحلة الثانية: جمع السور وترتيبها بصورة مصحف مؤلّف بين دفّتين كما هو الآن، هل حصل في عهد الرسالة توقيفاً أم حصل بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله؟ فيه خلاف بين علمائنا.

القول الأول: أنّه حصل بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله، فإنّ السور كانت مكتملة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وآياتها وأسماؤها مرتّبة، غير أنّ جمعها بين دفّتين لم يكن قد حصل بعد؛ نظراً لترقّب نزول قرآن على عهده صلى الله عليه وآله، فما دام لم ينقطع الوحي لم يصحّ تأليف السور مصحفاً إلّا بعد الاكتمال وانقطاع الوحي.

وهذا القول ممّا ذهب إليه السيّد الطباطبائيّ، فأفاد: أنّ تأليف القرآن وجمعه مصحفاً واحداً إنّما كان بعدما قُبض النبيّ صلى الله عليه وآله، وأكّد على أنّ ترتيب السور على ما هو عليه الآن شيء حصل بفعل الصحابة وعن اجتهاد منهم، ولم يقبل دعوى التوقيف في ترتيب السور. ينظر: تفسير الميزان ج12 ص124، وج3 ص78. 

وممّن ذهب لهذا القول أيضاً الشيخ محمّد هادي معرفة، وقد أفاض في الكلام حول المسألة مبرهناً على هذا القول. ينظر: التمهيد في علوم القرآن ج1 ص285.

القول الثاني: أنّ القرآن الكريم بنظمه القائم وترتيبه الحاضر كان قد حصل في حياة الرسول صلى الله عليه وآله. وممّن ذهب لهذا الرأي السيّد المرتضى علم الهدى، فأفاد: أنّ القرآن على عهده صلى الله عليه وآل كان مجموعاً مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يُدرَّس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى عيّن جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يُعرض على النبيّ صلى الله عليه وآله ويُتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة ـ مثل عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب وغيرهما ـ ختموا القرآن على النبيّ صلى الله عليه وآله عدّة ختمات. وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث. ينظر: مجمع البيان ج1 ص15.

وممّن ذهب لهذا القول أيضاً السيّد أبو القاسم الخوئيّ. ينظر: البيان في تفسير القرآن ص237 وما بعده.  

2021/06/30
قوة غيبية أم ملك.. ما هو ’روح القدس’؟!

‏للمفسرين آراء مختلفة في معنی روح القدس:

[اشترك]

‏١- قالوا إنه جبرائيل، فيكون معنی الآية علی هذا إن اللّه أيّد عيسی بجبرائيل. و شاهدهم علی ذلك قوله تعالی: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ‌1 و وجه تسمية جبرائيل بروح القدس، هو أن جبرائيل ملك، و الجانب الروح‍ي في الملائكة أمر واضح، و إطلاق كلمة «‍الروح‍» عليهم متناسب مع طبيعتهم، و إضافة الروح إلی «القدس» إشارة إلی طهر هذا الملك و قداسته الفائقة.

‏٢- و قيل إن «روح القدس» هو القوّة الغيبية التي أيّدت عيسی عليه السّلام، و بهذه القوة الخفية الإلهية كان عيسی يحيي الموتی. هذه القوّة الغيبية موجودة طبعا بشكل أضعف في جميع المؤمنين علی اختلاف درجة إيمانهم. و هذا الإمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات و تحمل الصعاب، و يقيه من السقوط في الذنوب و الزلات. من هنا

‏ورد عن رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم قوله لحسان: «لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا»

‏و قول بعض أئمة أهل البيت لشاعر قرأ أبياتا ملتزمة: «إنّما نفث روح القدس علی لسانك».

‏٣- و من المفسرين من قال إن روح القدس هو «الإنجيل»2 و يبدو أن التّفسيرين السابقين أقرب إلی المعنی.

‏٣- مفهوم «روح القدس» لدی المسيحيين‌

‏ورد في قاموس الكتاب المقدس: «إن روح القدس هو الأقنوم الثالث من الأقانيم الثلاثة الإلهية. و يقال له (الروح)، لأنه مبدع الحياة، و يسمی مقدسا لأن من أعماله تقديس قلوب المؤمنين، و لما له من علاقة باللّه و المسيح يسمی أيضا (روح اللّه) و (روح المسيح)».

‏و ورد أيضا في هذه القاموس تفسير آخر هو: «أما روح القدس الذي يؤنسنا فهو الذي يحثنا دوما إلی قبول و فهم الاستقامة و الإيمان و الطاعة، و يحيي الأشخاص الذين ماتوا في الذنوب و الخطايا، و يطهرهم و ينزههم و يجعلهم لائقين لتمجيد حضرة واجب الوجود».

‏و كما يلاحظ، إن عبارات قاموس الكتاب المقدس أشارات إلی معنيين لروح القدس: الأول، إن روح القدس أحد الأرباب الثلاثة، و هذه هي عقيدة التثليث، و هي عقيدة شرك باللّه و مرفوضة، و الثاني يشبه التّفسير الثاني المذكور أعلاه.

‏٤- قلوب غافلة محجوبة

‏كان اليهود في المدينة يقفون بوجه الدعوة، و يمتنعون عن قبولها، و يتذرعون لذلك بمختلف الحجج، و الآية التي نحن بصددها تشير إلی واحدة من ذرائعهم.

‏وَ قالُوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ‌ و لا ينفذ إليها قول!! كانوا يقولون ذلك عن استهزاء، غير أن القرآن أيّد مقالتهم، فبكفرهم و نفاقهم أسدل علی قلوبهم حجب من الظلمات و الذنوب، و ابتعدوا عن رحمة اللّه، فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ‌.

‏و هذه مسألة تطرحها آية اخری من قوله تعالی: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا3.

الهوامش:

‏1 النحل، ١٠٢.

‏2 تفسير المنار، ذيل الآية المذكورة.

3 النساء، ١٥٥.

المصدر: الأمثل

2021/04/26
‏ماذا تعرف عن ’هاروت’ و ’ماروت’‌ وتاريخ السحر؟

‏كثر الحديث بين أصحاب القصص والأساطير عن هذين الملكين، واختلطت الخرافة بالحقيقة بشأنهما، حتی ما عاد بالإمكان استخلاص الحقائق مما كتب بشأن هذه الحادثة التاريخية، و يظهر أن أصح ما قيل بهذا الشأن و أقربه إلی الموازين العقلية و التاريخية و الأحاديث الشريفة هو ما يلي:

[اشترك]

‏شاع السحر في أرض بابل و أدّی إلی إحراج النّاس و ازعاجهم، فبعث اللّه ملكين بصورة البشر، و أمرهما أن يعلما النّاس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شرّ السحرة.

‏كان الملكان مضطرين لتعليم النّاس اصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر. واستغلت مجموعة هذه الأصول، فانخرطت في زمرة الساحرين، وأصبحت مصدر أذی للناس.

‏الملكان حذرا النّاس- حين التعليم- من الوقوع في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثّر في مجموعة منهم١.

‏وهذا الذي ذكرناه ينسجم مع العقل والمنطق، و تؤيده أحاديث أئمّة آل البيت عليهم السّلام منها ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (و قد أورده في أحد طرقه عن الإمام الرضا عليه السّلام في طريق آخر عن الامام الحسن العسكري عليه السّلام)٢.

‏أمّا ما تتحدث عنه بعض كتب التاريخ ودوائر المعارف بهذا الشأن فمشوب بالخرافات والأساطير، و بعيد كل البعد عمّا ذكره القرآن، من ذاك مثلا أن الملكين أرسلا إلی الأرض ليثبت لهما سهولة سقوطهما في الذنب إن كانا مكان البشر، فنزلا و ارتكبا أنواع الآثام و الذنوب و الكبائر!! والنص القرآني بعيد عن هذه الأساطير و منزّه منها.

‏لفظ هاروت وماروت‌

‏زعم بعض المحققين أن «هاروت» و «ماروت» لفظان فارسيان قديمان.

‏وقال: إن كلمة «هوروت» تعني «الخصب»، و «موروت» تعني «عديم الموت» واسما هاروت و ماروت مأخوذان، من هذين اللفظين٣. و هذا الاتجاه في فهم معنی الاسمين لا يقوم علی دليل.

‏و في كتاب «أوستا» وردت ألفاظ مثل: «هرودات» و يعني «شهر خرداد»، و كذلك «أمردات» بمعنی عديم الموت، و هو نفسه اسم «شهر مرداد»٤.

‏و في معجم (دهخدا) تفسير للفظين شبيه بما سبق.

‏و العجيب أن البعض ذهب إلی أن هاروت و ماروت من البشر و من سكنة بابل!، و قيل أيضا أنّهما من الشياطين!! و الآيات المذكورة ترفض ذلك طبعا.

‏كيف يكون الملك معلما للإنسان؟

‏يبقی السّؤال عن الرابطة بين الملك والإنسان، وهل يمكن أن تكون بينهما رابطة تعليمية؟ الآيات المذكورة تصرح بأن هاروت و ماروت علّما النّاس السحر، و هذا تمّ طبعا من أجل إحباط سحر السحرة في ذلك المجتمع. فهل يمكن للملك أن يكون معلما للإنسان؟

‏الأحاديث الواردة بشأن الملكين تجيب علی هذا السّؤال، و تقول: إن اللّه بعثهما علی شكل البشر، و هذه الحقيقة يمكن فهمها من الآية التاسعة لسورة الأنعام أيضا، حيث يقول تعالی: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.

‏لا قدرة لأحد علی عمل دون إذن اللّه‌

‏نفهم من قول اللّه في هذه الآيات أن السحرة ما كانوا قادرين علی إنزال الضّر بأحد دون إذن اللّه سبحانه، و ليس في الأمر «جبر» و لا إرغام، بل إن هذا المعنی يشير إلی مبدأ أساس في التوحيد، و هو إن كلّ القوی في هذا الكون تنطلق من قدرة اللّه تعالی، النار إذ تحرق إنما تحرق بإذن اللّه، و السكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر اللّه. لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليفة خلافا لإرادة اللّه.

‏كلّ ما نراه من آثار و خواص إنما هي آثار و خواص جعلها اللّه سبحانه للموجودات المختلفة، و من هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة الإلهية و منهم من يسي‌ء الاستفادة منها. و «الاختيار» الذي منحه اللّه للإنسان إنما هو وسيلة لاختباره و تكامله.

‏السحر و تأريخه

‏الحديث عن السحر و تاريخه طويل، و نكتفي هنا بالقول إن جذوره ضاربة في أعماق التاريخ، و لكن بداياته و تطوراته التاريخية يلفّها الغموض و لا يمكن تشخيص أول من استعمل السحر.

‏و بشأن معناه يمكن القول: إنه نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، و هو أحيانا نوع من المهارة و الخفة في الحركة و إيهام للأنظار، كما إنه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.

‏و السحر في اللغة له معنيان:

‏١- الخداع و الشّعوذة و الحركة الماهرة.

‏٢- كل ما لطف و دقّ.

‏و الراغب ذكر للفظ السحر ثلاثة معان قرآنية:

‏الأوّل: الخداع و تخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يده، و ما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع.

‏الثّاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه.

‏الثّالث: هو اسم لفعل يزعمون أنه من قوّته يغيّر الصور و الطبائع فيجعل الإنسان حمارا، و لا حقيقة لذلك‌٥.

‏نستنتج من دراسة ٥١ موضعا من مواضع ذكر كلمة «سحر» في القرآن الكريم أن السحر ينقسم في رأي القرآن الكريم علی قسمين:

‏١- الخداع و الشعبذة و خفة اليد و ليس له حقيقة كما جاء في قوله تعالی:

‏فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعی‌٩ و قوله: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ‌٦ و يستفاد من هذه الآيات أن السحر ليس له حقيقة موضوعية حتی يمكنه التأثير في الأشياء، بل هو خفة حركة اليد و نوع من خداع البصر فيظهر ما هو خلاف الواقع.

‏٢- يستفاد من آيات اخری أن للسحر أثرا واقعيا، كقوله سبحانه:

‏فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ‌، و قوله: وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ‌ كما مرّ في الآيات التي نحن بصددها.

‏و هل إن للسحر تأثيرا نفسيا فقط، أم يتعدی ذلك إلی الجسم أيضا؟ لم تشر الآيات أعلاه إلی ذلك، و يعتقد بعض النّاس أن هذا التأثير نفسي لا غير.

‏جدير بالذكر أن بعض ألوان السحر كانت تمارس عن طريق الاستفادة من خواص المواد الكيمياوية و الفيزياوية لخداع النّاس. فيحدثنا التاريخ أن سحرة فرعون وضعوا داخل حبالهم و عصيّهم مادة كيمياوية خاصّة (و لعلها الزئبق)، كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة اخری، و توحي للمشاهد أنها حيّة. و هذا اللون من السحر ليس بقليل في عصرنا الرّاهن.

‏السّحر في رأي الإسلام‌

‏أجمعت الفقهاء علی حرمة تعلم السحر وممارسته، و جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام: «من تعلّم من السّحر قليلا أو كثيرا فقد كفر و كان آخر عهده بربّه»٧.

‏و لكن- كما ذكرناه يجوز تعلم السحر لإبطال سحر السحرة، بل يرتفع الجواز أحيانا إلی حد الوجوب الكفائي، لإحباط كيد الكائدين و الحيلولة دون نزول الأذی بالنّاس من قبل المحتالين. دليلنا علی ذلك حديث‌ روي عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر محمّد الصادق عليه السّلام: «كان عيسی بن شقفی ساحرا يأتيه النّاس و يأخذ علی ذلك الأجر فقال له جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السّحر و كنت آخذ عليه الأجر و كان معاشي و قد حججت منه و منّ اللّه عليّ بلقائك و قد تبت إلی اللّه عزّ و جلّ فهل لي في شي‌ء من ذلك مخرج فقال له أبو عبد اللّه حلّ و لا تعقد»٨.

‏و يستفاد من هذا الحديث أن تعلّم السحر و العمل به من أجل فتح و حلّ عقد السحر لا إشكال فيه.

‏السحر في رأي التوراة

‏أعمال السحر و الشّعبذة في كتب العهد القديم (التوراة و ملحقاتها) هي أيضا ذميمة غير جائزة. فالتوراة تقول: «لا تلتفتوا إلی الجان و لا تطلبوا التوابع فتنجسوا بهم و أنا الربّ إلهكم»٩.

‏و جاء في موضع آخر من التوراة: «و النفس التي تلتفت إلی الجان و إلی‌ التوابع لتزني ورائهم اجعل وجهي ضد تلك النفس و اقطعها من شعبها»١٠.

‏و يقول قاموس الكتاب المقدس: «واضح أن السحر لم يكن له وجود في شريعة موسی، بل إن الشريعة شددت كثيرا علی أولئك الذين كانوا يستمدون من السحر».

‏و من الطريف أن قاموس الكتاب المقدس الذي يؤكد علی أن السحر مذموم في شريعة موسی، يصرح بأن اليهود تعلّموا السحر و عملوا به خلافا لتعاليم التوراة فيقول: «... و لكن مع ذلك تسرّبت هذه المادة الفاسدة بين اليهود، فآمن بها قوم، و لجأوا إليه في وقت الحاجة»١١.

‏و لذلك ذمهم القرآن، و أدانهم لجشعهم و طمعهم و تهافتهم علی متاع الحياة الدنيا.

‏السحر في عصرنا

‏توجد في عصرنا مجموعة من العلوم كان السحرة في العصور السالفة يستغلونها للوصول إلی مآربهم.

‏١- الاستفادة من الخواص الفيزياوية و الكيمياوية للأجسام، كما ورد في قصّة سحرة فرعون و استفادتهم من خواص الزئبق أو أمثاله لتحريك الحبال و العصيّ.

‏واضح أن الاستفادة من الخصائص الكيمياوية و الفيزياوية للأجسام ليس بالعمل الحرام، بل لا بدّ من الاطلاع علی هذه الخصائص لاستثمار مواهب الطبيعة، لكن المحرم هو استغلام هذه الخواص المجهولة عند عامة النّاس لإيهام الآخرين و خداعهم و تضليلهم، مثل هذا العمل من مصاديق السحر، (تأمل بدقة). ٢- الاستفادة من التنويم المغناطيسي، و الهيبنوتيزم، و المانيةتيزم، و التله‌باتي (انتقال الأفكار من المسافات البعيدة).

‏هذه العلوم هي أيضا إيجابية يمكن الاستفادة منها بشكل صحيح في كثير من شؤون الحياة. لكن السحرة كانوا يستغلونها للخداع و التضليل.

‏ولو استخدمت هذه العلوم اليوم أيضا علی هذا الطريق المنحرف فهي من «السحر» المحرّم.

‏بعبارة موجزة: إن السحر له معنی واسع يشمل كل ما ذكرناه هنا و ما أشرنا إليه سابقا.

‏و من الثابت كذلك أن قوة الإرادة في الإنسان تنطوي علی طاقات عظيمة.

‏و تزداد هذه الطاقات بالرياضات النفسية، و يصل بها الأمر أنها نستطيع أن تؤثر علی الموجودات المحيطة بها، و هذا مشهود في قدرة المرتاضين علی القيام بأعمال خارقة للعادة نتيجة رياضاتهم النفسية.

‏جدير بالذكر أن هذه الرياضات تكون مشروعة تارة، و غير مشروعة تارة اخری.

الرياضات المشروعة تخلق في النفوس الطاهرة قوة إيجابية بناءة، و الرياضات غير المشروعة تخلق قوة شيطانية، و قد تكون كلا القوتين قادرتين علی القيام بأعمال خارقة للعادة، لكن الاولی إيجابية بناءة، و الاخری مخربة هدامة.

 الهوامش:

‏١ مجمع البيان، في تفسير الآية المذكورة. الوسائل، ج ١٢، ص ١٠٦- ١٠٧.

‏٢ نفس المصدر.

‏٣ أعلام القرآن، ص ٦٥٥.

‏٤ نفس المصدر.

‏٥ مفردات الراغب، مادة سحر.

‏٦ طه، ٦٦.

‏٧ الأعراف، ١١٦.

‏٨ وسائل الشيعة، الباب ٢٥، من أبواب ما يكتسب به، حديث ٧.

‏٩ وسائل الشيعة، ج ١٢، ص ١٠٥، ح ٥.

‏١٠ الكتاب المقدس سفر لاويين الإصحاح، ١٩ الرقم ٣١.

‏١١ الكتاب المقدس سفر لاويين الإصحاح ٢٠ الرقم ٦.

2021/04/20
حقيقة أم خيال: هل وقع ’التحريف’ في القرآن؟!

عدم تحريف القرآن

نحن نعتقد ـ بالرغم من كل الدعايات السيّئة للنّيل من الشيعة ـ بأنّ القرآن الكريم الموجود عندنا وعند جميع المسلمين اليوم هو عين القرآن الذي نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون زيادة أو نقصان حتى في كلمة واحدة.

[اشترك]

وقد بيّنا هذا الأمر بوضوح في كتب التفسير وأصول الفقه وغيرها من الكتب ، وأثبتنا ذلك بالأدلة العقلية والنقلية.

نحن نعتقد بأنّ المسلمين ـ أعم من الشيعة والسنّة ـ متفقون على أنّ القرآن الموجود بين الدفتين لم يضف إليه شيء ، وأمّا بالنسبة لجانب النقص فأكثر المحقّقين من الطرفين ـ بل كاد يكونُ إجماعاً ـ على عدم وجود النقص في القرآن الكريم.

هناك أشخاص معدودون من كلا الفريقين يعتقدون بوجود نقص في القرآن الكريم ، ولا يوجد من يؤيد كلامهم بين أهل التحقيق المعروفين من المسلمين.

كتابان من كلا الفريقين

ومن جملة هؤلاء : «ابن الخطيب المصري» وهو من أهل السنّة ، فقد ألّف كتاباً بعنوان «الفرقان في تحريف القرآن» ونشر في سنة ١٩٤٨ م الموافق لعام ١٣٦٧ ه‍ ـ ق ، وعند ما علمت جامعة الأزهر بذلك قامت بسحب جميع النسخ وإتلافها ، إلّا أنّ هناك بعض النسخ وقعت في أيدي بعض الناس وبشكل غير قانوني.

وكذلك هناك كتاب تحت عنوان «فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب» كتب بقلم أحد محدّثي الشيعة هو «الحاج نوري» وطبع في سنة ١٢٩١ ه‍ ـ ق ، وبمجرّد أن طبع استنكر كبار علماء حوزة النجف الأشرف هذا العمل وأمروا بجمع نسخ الكتاب ، وكتبوا كتباً متعددة في الردّ عليه ، ومن جملة العلماء الذين كتبوا في الردّ على كتاب «فصل الخطاب» :

١. الفقيه الكبير المرحوم الشيخ محمود بن أبي القاسم ، المعروف بمعرب الطهراني (توفي سنة ١٣١٣ ه‍ ـ) كتب كتاباً تحت عنوان «كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب».

٢. المرحوم العلّامة السيد محمّد حسين الشهرستاني (توفي سنة ١٣١٥ ه‍ ـ) كتب في الرد على كتاب فصل الخطاب كتاباً تحت عنوان «حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف».

٣. المرحوم العلّامة البلاغي (توفي سنة ١٣٥٢ ه‍ ـ) وهو أحد المحقّقين في حوزة النجف الأشرف خصص فصلاً في تفسيره المعروف «آلاء الرحمن» للردّ على كتاب «فصل الخطاب»1.

٤. ونحن بدورنا بحثنا مسألة تحريف القرآن الكريم بحثاً موسّعاً في كتابنا «أنوار الأصول» وأجبنا بشكل قاطع عن كل الشبهات الموجودة في كتاب «فصل الخطاب».

إنّ المرحوم الحاج النوري مع كونه عالماً ، إلّا أنّه اعتمد على روايات ضعيفة كما قال العلّامة البلاغي وقد ندم بعد انتشار كتابه على ما خطته يداه. وعد كبار علماء حوزة النجف الأشرف عمله هذا من الأخطاء الواضحة2.

والملفت للنظر أنّ الحاج النوري بعد انتشار كتابه اضطر إثر النقد الكبير الذي واجهه من قبل الطرفين أن يكتب رسالة يدافع بها عن نفسه ويوضّح أن مقصوده من ذلك عدم وقوع التحريف في كتاب الله ، وأنّ الناقدين أساءوا فهم عباراته.

يقول المرحوم العلّامة السيد هبة الدين الشهرستاني : «عند ما كنت في سامراء التي حوّلها المرحوم الميرزا الشيرازي الكبير إلى مركز علمي ، كانت هناك ضجة كبيرة ضد الحاج النوري وضد كتابه ، وأطلق بعضهم كلمات بذيئة ونابية تنال من شخصه»3.

ومع هذا كله ، هل يمكن القول بأنّ كلام الشيخ النوري يمثّل عقيدة الشيعة؟

ولكن هناك عدّة من الوهابيين المتعصبين ـ بحجّة وجود كتاب فصل الخطاب ـ مصرون على نسبة مسألة تحريف القرآن للشيعة. فإذا كان رأي كاتب ما دليلا على اعتقاد الشيعة بهذا الأمر ، فلا بد أن ننسب مسألة تحريف القرآن الكريم أيضاً إلى علماء السنّة ؛ لأن «ابن الخطيب» ذكر هذا الأمر في كتابه «الفرقان في تحريف القرآن». فإذا كان انزعاج علماء الأزهر من هذا الكتاب دليلا على معارضتهم لمضمونه ، فكذلك الأمر بالنسبة لمعارضة علماء النجف الأشرف لكتاب «فصل الخطاب» يكون دليلا على نفي التحريف.

وقد نقل كلّ من تفسير «القرطبي» و «الدر المنثور» ـ وهما من التفاسير المعروفة عند أهل السنّة ـ عن عائشة (زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) قولها : «إنّها ـ أي سورة الأحزاب ـ كانت مائتي آية فلم يبق منها إلّا ثلاث وسبعون»4. بل هناك في صحيح البخاري وصحيح مسلم روايات يشم منها رائحة التحريف5.

ولكننا لا نجيز لأنفسنا أن ننسب القول بالتحريف لإخواننا السنّة استناداً لرأي كاتب ، أو وجود روايات ضعيفة في كتبهم ، وفي المقابل ، عليهم أن لا ينسبوا ذلك للشيعة لمجرد وجود رأي كاتب ما ، أو وجود روايات ضعيفة في كتبهم لا يقبلها علماء الشيعة. ولو ألقينا نظرة على مجموع الروايات التي اعتمدها الشيخ النوري لوجدنا أنّها مروية عن ثلاثة رواة ، وهم ما بين فاسد المذهب أو كذّاب أو مجهول الحال وهم :

أحمد بن محمّد السياري : فاسد المذهب.

علي بن أحمد الكوفي : كذّاب.

أبو الجارود : مجهول الحال أو مردود6.

مخاطر هذه الاتهامات

هناك أفراد يصرون على توجيه تهمة تحريف كتاب الله ، للشيعة ، وكأنّهم غير ملتفتين إلى أنّ توجيه التهمة لمجرّد الخصومة الطائفية يؤدّي إلى زعزعة أصل الإسلام ؛ وذلك لأنّ الأعداء يقولون : إنّ مسألة عدم تحريف القرآن غير مسلّمة عند المسلمين ، وهناك فرقة عظيمة تعتقد بتحريف القرآن ، ونحن ننصح هؤلاء الإخوة أن لا يجعلوا قلب الإسلام ، وهو القرآن الكريم ، هدفاً بسبب الخلافات والتعصبات المذهبية. ارحموا الإسلام والقرآن ، لكي لا يستغل الأعداء كثرة الحديث عن التحريف للنيل من الإسلام والقرآن الكريم.

لقد انتشرت هذه التهم والافتراءات إلى حدٍّ كبير وللأسف ، حتى أنني التقيت في إحدى سفراتي إلى بيت الله الحرام للعمرة ، وزير الشئون الدينية السعودي ، وقال : لقد سمعت أنّ لكم مصحفاً غير مصحفنا!!

فقلت له : إنّ اكتشاف هذا الأمر سهل جدّاً ، فما عليك إلّا أن تذهب بشخصك أو تبعث مندوباً عنك ـ على نفقتنا ـ إلى طهران ، وتبحث في جميع نسخ القرآن الموجودة في المساجد والبيوت ، وانتخب أي مسجد تشاء وأي منزل ترغب ، واطلب قرآناً من أي شخص ، فستجد أنّه لا يوجد أي اختلاف ولا في كلمة واحدة مع جميع نسخ القرآن الموجودة في العالم الإسلامي ، وعالم كبير مثلك يجب أن لا يقع تحت تأثير هذه الشائعات والأكاذيب.

وقرّاؤنا ولله الحمد شاركوا في الكثير من المسابقات الدولية لقراءة القرآن وحصلوا على المراكز الأولى ، وكان حفّاظنا وخصوصاً البراعم منهم مورد إعجاب وثناء الكثيرين من شخصيات دول العالم الإسلامي.

ويزداد عدد القرّاء وحفّاظ القرآن عندنا بالآلاف في كل عام ، ومدارس حفظ القرآن وتلاوته وتفسيره ، وكليات علوم القرآن منتشرة في جميع أنحاء بلادنا الواسعة ، ومن السهل إثبات ذلك للجميع من خلال مشاهدة تلك البرامج عن كثب.

ولا يوجد في جميع هذه الأماكن قرآن آخر غير هذا القرآن المعروف بين جميع المسلمين ، ولا يوجد أحد يعرف قرآناً غيره ، ولا حديث عندنا عن تحريف القرآن في أي مناسبة أو احتفال.

 الهوامش:

1. تفسير آلاء الرحمن ، ج ١ ، ص ٢٥.

2. تفسير آلاء الرحمن ، ج ٢ ، ص ٣١١.

3. «برهان روشن» باللغة الفارسية ، ص ١٤٣.

4. تفسير القرطبي ، ج ١٢ ، ص ١١٣ ؛ وتفسير الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ١٨٠.

5. صحيح البخاري ، ج ٨ ، ص ٢٠٨ ـ ٢١١ ؛ وصحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٦٧ وج ٥ ، ص ١١٦.

6. لمعرفة المزيد عن أحوال هؤلاء يراجع كتاب رجال النجاشي وفهرست الشيخ الطوسي وكتب رجالية أخرى.

*من كتاب الشيعة شبهات وردود

2021/03/30
«كواعب أترابا»: فتيات الجنة.. متساويات في السنّ والجمال
معنى قوله تعالى (وكواعب أترابا) هو ما ذهب إليه طائفةٌ من أهل العلم والتفسير، وسنقتصر في بيان هذه الآية على ثلاثة مصادر: [اشترك]

أحدها: ما ورد في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسيّ، إذْ بيّن المراد من الآية من حيث اللغة، ومن حيث المعنى المراد من الآية وفْق ما عليه جمهور المفسّرين، فمن حيث اللغة: قال: والكواعب: جمع الكاعب، وهي الجارية التي نهد ثدياها.

والأتراب: جمع الترب. وهي اللدة التي تنشأ مع لدتها على سنِّ الصبيّ الذي يلعب بالتراب.

وأمّا من حيث المعنى المراد من الآية، فقال الطبرسيّ: (وكواعب أترابا ) أي جواري تكعب ثديهنَّ مستويات في السنِّ، عن قتادة، ومعناه: استواء الخلقة والقامة والصورة والسنّ، حتّى يكنَّ متشاكلات، وقيل: أتراباً على مقدار أزواجهنّ في الحسن والصورة والسن، عن أبي عليّ الجبائيّ.

وثانيها: ما ورد في تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب للشيخ الميرزا محمّد المشهديّ (ج 14/ص115)، إذْ نقل عن تفسير عليّ بن إبراهيم: قوله: « وكَواعِبَ أَتْراباً » قال: جوار وأتراب لأهل الجنّة.  ونقل عن رواية أبي الجارود عن أبي جعفر - عليه السّلام - قال في قوله: « وكَواعِبَ أَتْراباً »، أي: الفتيات النّواهد.

وثالثها: ما ورد في كتاب الأمثل في تفسير كتاب الله المنزّل للشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ (ج 19/ص352): قال: (الكواعب) جمع كاعب، وهي البنت حديثة الثدي، للإشارة إلى شباب زوجات المتّقين في الجنّة.  و(الأتراب): جمع ترب، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساويين في العمر، واستعماله في الإناث أكثر، قيل: إنّها من الترائب، وهي: أضلاع الصدر، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.  ويحتمل أن يكون المراد من الأتراب التساوي بين نساء أهل الجنّة في العمر، فيكوننّ شابّات متساويات في القدّ والقامة والجمال، أو تساوي العمر بينهن وبين أزواجهنَّ من المؤمنين، لأنّ للتساوي في العمر له أثره النفسيّ على إدراك مشاعر الطرف الآخر..  إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسباً.

2021/02/16
تحريف القرآن: ’’فصل الخطاب’’ .. خطيئة كاتب أو خطأٌ في الكتاب!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

تقوم تهمة الشيعة بتحريف القرآن على مبرّرين، وتستند إلى أمرين لا ثالث لهما:

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

الأول- الأحاديث والروايات المتواترة، وكما لا يخفى، فإنّ التواتر يثبت الصدور، ولا شأن له لا بالدلالة، ولا بجهة الصدور، كما سيتبيّن.

الثاني- تصريحات بعض العلماء، بل تصنيفهم كما وقع من المحدّث النوري(ت1320هـ) في تصنيفه لكتاب: فصل الخطاب...!

 ومسألة التحريف تعتمد أولاً وأخيراً على تحرير المصطلح، وتنقيح دلالة اللفظ، من حيث إنّ هذا اللفظ (التحريف) قد يطلق على معنى لا يختلف اثنان على تحقّقه في كتاب الله تعالى، ومن ثمّ نقول: إنّ منشأ التشنيع، وسبب مؤاخذة الشيعة لا يخلو من أمرين:

فإمّا هو استعمال اللفظ (التحريف) واطلاق هذا المصطلح، فمضافاً إلى أنّ أمر الألفاظ هينٌ، فقد استعمله كبار علماء أهل السنة، فخذ مثلاً: صاحب فيض الباري الذي كتب قائلاً: "والذي تحقَق عندي أن التحريفَ فيه (القرآن) لفظيُّ أيضًا.. " .(الكشميري الهندي- فيض الباري على صحيح البخاري ج4 / 98).

أو أنّ الأمر يعود لمعنى التحريف، فعندها فلابد من تنقيح مدلوله وتحرير معناه قبل استعماله، فإنّ الحكم على الشيء قبل تصوره؛ باطلٌ عقلياً و عقلائياً، وعليه: تختلف المواقف منه باختلاف معناه، ذلك أنّ مفهوم "تحريف القرآن" له ستة معانٍ أو تزيد، ولا أريد اجترار ما قد فصّله الأعلام في هذا الشأن (فراجع مثلاً: البيان للخوئي، ص196)، وإنّما الشأن كلّه في تحقيق أمرين بإيجاز:

الأوّل- أنّ اجماع أهل السنة قائم على التحريف بالزيادة والنقيصة.

 والمقصود بالزيادة أن بعضاً مما في المصحف ليس من كلام الله عزّ وجل ووحيه المنزل على نبيه (ص)، كأن يقال بزيادة سورة، أو آية ، أو جملة أو كلمة أو حتى حرف، وهو أوضح مظهرٍ لعنوان: تحريف القرآن، وعلى الرغم من الأدلة القاطعة على نفيه وبطلانه، و اجماع المسلمين (نظريّاً) على انكاره، وخلو روايات أهل البيت وأقوال علماء الشيعة منه اطلاقاً وقولاً واحداً، يقول الصدوق (ت381هـ): اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد (ص) هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس... ومن نسب إلينا أنا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب. (الاعتقادات،ص84)، بيد أنّ أهل السنة والجماعة يروون أحاديث صحيحة تفيد وقوع هذا النوع من التحريف، ومن أوضحها ما جاء من أخبار في المعوّذتين، فقد روى البخاري عَنْ زِرٍّ بن حُبيش قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أُبَيٌّ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: ((قِيلَ لِي فَقُلْتُ))، قَالَ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ!!! ( صحيح البخاري، ح 4977)، وقد حلّ هذا الحديث المطلسم ابن حجر وكشف ابهامه قائلاً:" هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظ مُبْهَمًا، وَكَأَنَّ بَعْض الرُّوَاة أَبْهَمَهُ اِسْتِعْظَامًا لَهُ...كَانَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود يَحُكّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفه، وَيَقُول: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَاب اللَّه ..."( فتح الباري 8/ 742).

وأمّا التحريف بالحذف و النقصان، فغُلّف عند عامة أهل السنة  تحت شعار "النسخ"، في مغالطة واضحة تُعرف بـ : (اعطه اسماً، ودعه يمرُّ، بنحت مصطلح جديد)، فاستُبدل مصطلح التحريف بمصطلح "النسخ"، وبالخصوص: نسخ التلاوة دون الحكم، من قبيل: آية الرجم الواردة في الصحيحين: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة..)، أو مع الحكم، ومثاله قول عائشة: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات يحرمن) فالجملة الأولى منسوخة في التلاوة والحكم، أما الجملة الثانية فهي منسوخة في التلاوة فقط، فهذان القسمان من النسخ هما عين القول بالتحريف بالنقصان، وهذا مع سابقه يفضيان للقول بالتحريف في أجلى صوره: الزيادة والنقصان! وهما منفيان في مذهب أهل البيت جزماً..!

الثاني- التحريف في روايات الشيعة وعلمائهم

وبالعودة لما جاء في مقدمة المقال، يتوجب الان تفكيك ذينك المبررين:

1ـ أمّا الروايات، فينصّ الأعلام على تواتر مجموع أحاديث التحريف، وحكمهم هذا غير مجانب للصواب، غير أنّ الكلام ليس عن صدورها ليقال بناءً على تواترها: إنكم تعتقدون بالتحريف! وإنّما عن مضمونها ودلالتها، وعن معنى التحريف فيها، فالصدور شيء والمضمون شيءٌ آخر، فمثلاً: يتفق كلّ المسلمين على تواتر حديث الغدير أو الثقلين..، لكنّهم لا يقرّون  لأهل البيت بالإمامة،  ليس لأنّهم يُنكرون صدور الحديثين؛ بل لأنّهم يختلفون في مضمونه ودلالته ومعناه، فهكذا الحال في روايات التحريف، فقسمٌ كبير منها يتحدث عن التحريف المعنوي وهو ثابت بلا ريب، وإلا فلا معنى لتعدد التفاسير، واختلاف المسلمين، كتلك التي تضمّنت التحريف بلفظه مثل: "أصحاب العربية يحرفون كلام الله عز وجل عن مواضعه" وقسمٌ آخر من الروايات تطلق لفظ القرآن أو التنزيل على التأويل والتفسير، مثل: "نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد - ص - هكذا: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا – في علي - فأتوا بسورة من مثله "، أو التي الرواية تقول: "لو قرئ القرآن - كما أنزل - لألفينا مسمين"، وفي هذا السياق يقول المفيد(ت413هـ) : وقد يسمّى تأويل القرآن (قرآناً) قال الله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه : 114] فسمّى تأويل القرآن قرآنا، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف (أوائل المقالات،ص82)، وعلى هذا المعنى يحمل الخبر الذي يقول: إنّ القرآن الذي جاء به جبريل إلى النبي سبعة عشر ألف آية، وبعض الروايات يشير لقراءة اهل البيت، واختلافها عن قراءة حفص عن عاصم، أو بقية القراءات، مثل الرواية التي تنصّ على أنّ قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110] تقرأ : كنتم خير أئمة. وهكذا.

2ـ وأمّا كلمات بعض الأعلام بهذا الشأن أعني وقوع التحريف في القرآن الكريم فهي على أقسام، فمنها غير الظاهر في المراد وللعالم نفسه كلام آخر يعارضه، ومنها الظاهر في إرادة التحريف المعنوي، وثمة كلمات شاذة ظاهرها اعتقاد صاحبها بالتحريف،  ولا تعدو أن تكون أقوال رجال لا يوصف أصحابها بأكثر من الخطأ، والمحدّث النوري، هو أكثر من يرد اسمه في هذا السياق بمقتضى تأليفه كتاب: فصل الخطاب في اثبات تحريف كتاب رب الأرباب، الذي جمع فيه الأحاديث الواردة من الفريقين بشأن  التحريف، وقد مرّ علينا إلى أنّها على طوائف، والأهمّ من ذلك، هو أنّ الرجل اعترف بالخطأ في تسمية الكتاب، وأنّ عنوانه يدل على خلاف ما يريد ، كما نقل عنه تلميذه آغا بزرك الطهراني قائلاً: إنّي اثبتُّ في هذا الكتاب أنّ هذا الموجود المجموع بين الدفتين كذلك، باقٍ على ما كان عليه في أول جمعه كذلك في عصر عثمان، ولم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع على سائر الكتب السماوية، فكان حريّاً بأنّ يسمّى: (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب)، فتسميته بهذا الاسم الذي يحمله الناس على خلاف مرادي خطأٌ في التسمية. (الذريعة إلى تصانيف الشيعة،ج16،ص232)، ولم يشفع الاعتراف بالخطأ للنوري عند بعض المعاصرين، حتى اعتبره خطيئة وذنبٌ عظيم، قد بكتْ عليه السماوات، وكادت تتدكدك على الأرض" (الخميني-أنوار الهداية،ج1ص245).

 

2021/02/07
كيف أعرف أن القرآن معجزة إلهية وليس من إنشاء ’النبي’؟ ... آية الله السيد السيستاني يجيب
ينشر «موقع الأئمة الاثني عشر» نص إجابة سماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني، دامت بركاته، على سؤال يخص القرآن الكريم كمعجزة إلهية ليست من انشاء النبي (ص).

أدناه نص السؤال مع الجواب وتتمته مرفقة في ملف (PDF):

كيف يمكنني أن أعرف أن القرآن الكريم معجزة إلهية؟

الجواب: إن معرفة كون القرآن الكريم معجزة إلهية وليس إنشاءً من الرسول محمد (ص) يمكن أن تكون بطريقين:

١ ــ طريق تاريخي.

٢ ــ وطريق وجداني.

والفرق بينهما: أن الطريق التاريخي إنّما يتضح إذا استطاع الإنسان أن ينقل نفسه من خلال الاطلاع على ثوابت التاريخ إلى تلك الحقبة التاريخية.

ويتأمل الموضوع تأملاً حياً في ظروف نشأته وتكونه ويلاحظ دلالاته من هذا المنطلق، وبذلك يثير كثيراً من الدلالات التي أصبحت كامنة ومعتادة بمرور الزمن، بالنظر إلى معايشة آثار الحادث التاريخي المستقرة في المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.

ومن البديهي أن المعلومات التاريخية الواضحة تصلح حجة حاضرة للناس، لأن الاهتمام بالتاريخ حالة فطرية في الإنسان ويهتم الإنسان عموماً بالوقائع العظيمة والمهمة التي وقعت في التاريخ الإنساني ويسعى إلى تحريها والاطلاع عليها، وهو ينتفع بها في معرفة دلالات الحاضر واتجاهاته، ومن ثم كانت مادة التاريخ أحد الموارد التعليمية العامة التي يتعهد عامة العقلاء في العصر الحاضر بالتدريس والتعليم.

وأما الطريق الوجداني فهو طريق يجد المرء دلالته فعلاً من غير حاجة إلى استحضار جو تاريخي سابق.

الطريق التاريخي:

أمّا الطريق التاريخي: فهو يقتضي أن نطلع على ظروف نشأة القرآن الكريم وتاريخه، لكن ما نحتاج إليه في هذا الجانب ليس أموراً تاريخية حدسية أو اجتهادية، بل يكفي الاطلاع على ثوابت التاريخ وبديهياته التي لا يرد الشك فيها.

لقد كان النبي (ص) فرداً من قبيلة قريش التي لم تكن تابعة لكتاب منزل ورسالة إلهية تتداولها، بل كان الغالب عليها كسائر القبائل العربية عقيدة الشرك رغم الأساس التوحيدي للبيت الحرام ــ حيث نشأ على يد إبراهيم (ع) الذي كان موحداً لله سبحانه ــ لكن جلّ قريش وسائر القبائل في الجزيرة العربية ضموا إلى الإيمان بالله العظيم ــ إله إبراهيم (ع) ــ أصناماً عبدوها كآلهة خاصة لهم، حتى بنيت ثقافتهم وعباداتهم مثل صلاتهم وحجهم ودعائهم وروابطهم الاجتماعية ومنافعهم الاقتصادية كلها على الشرك.

كما إنهم كانوا معنيين ببلاغة القول والكلام حتى كانوا يتنافسون فيها، ويقدرون المتكلم البليغ تقديراً مميزاً، وقد جاء أنهم اختاروا من قصائد العرب عدداً منها وعلقوها على الكعبة، وقد سميت لأجل ذلك بالمعلقات، وكانت هناك عروضات أدبية في الأسواق مثل سوق عكاظ.

تتمة الجواب في الملف المرفق للتحميل اضغط هنا

2021/01/09
د. ’شحرور’ وفهمه الخاطئ للقرآن: لماذا فرض الله الحجاب؟!

 

وَقْفَةٌ مَعَ الدُكْتور شَحْرور في آيَةِ الْحجَابِ

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59].

صدق الله العلي العظيم

 

انطلاقا من الآية المباركة نطرح محاور ثلاثة:

المحور الأول: في الفرق بين التدبر والتفسير

التدبر عملية متاحة لكل مسلم باحث في القرآن حيث يقول القرآن الكريم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)[ص: 29].

التدبر هو عبارة عن التأمل واقتناص العظة أو العبرة أو الدروس التربوية أو المعلومات التحليلية، فعندما يقرأ الإنسان الآيات التي تتحدث عن الآخرة يقتنص منها العظة، فهذا تبدر، وعندما يقرأ الإنسان قصة التاريخ القرآني يستلهم الدروس الاجتماعية والتربوية من خلال العرض القرآني فإن هذا تدبر، وعندما يقوم الإنسان بالمقارنة بين ألفاظ القرآن وبين ما وصلت إليه حقائق العلوم الطبيعية، مثلا عندما يقرأ الإنسان قوله تعالى(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت: 11]، فما هو الفرق بين الدخان وبين أن هذا الكون كان كتلة غازية هلامية، وعندما يقرأ الإنسان قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) [الأنبياء: 30]، فما هي علاقة «الفتق» بنظرية الانفجار العظيم، فإن كل هذا يُعد تدبر، فهو تأمل في أجواء القرآن وآفاق القرآن، وهذه العملية متاحة لكل مسلم.

أما التفسير فإنه عملية أعمق من التدبر، فالتفسير وضع النقاط على الحروف، فهو تحديد المعنى الحقيقي للآية المباركة، أي أن الإنسان يُشخّص أن هذا هو المعنى المقصود لله تبارك وتعالى في هذه الآيات المباركات، فإن تحديد المعنى الحقيقي للآية هي عملية تفسير، وهي أعمق من التدبر وأدق منها، لذلك عملية التفسير ليست متاحة لكل أحد.

إن عملية التفسير ليست متاحة لكل أحد لكن ليس لأنها حرام بل لأنها تحتاج إلى خبرة علمية أكثر مما تحتاجها عملية التدبر، فإن عملية تفسير القرآن تعتمد على أربعة علوم أساسية:

العلم الأول: علم اللغة

فإن القرآن الكريم نزل باللغة العربية (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195») [الشعراء: 193 - 195]، فبما أن القرآن الكريم باللغة العربية فإذن فهم ألفاظه بعد 1400 سنة يحتاج إلى إلمام بعلم اللغة، واللغة العربية بطبيعتها تتغير وتخفى بعض ألفاظها وبعض معانيها وتنكمش بعض مضامينها، إذن تحتاج إلى خبرة بعلم اللغة حتى يستطيع الإنسان أن يضع الألفاظ بإزاء معانيها اللغوية العربية كما نزلت به من السماء.

العلم الثاني: علم البلاغة

القرآن قمة في البلاغة، فهل من الممكن أن أخوض فيه من دون معلومات بلاغية، فإن هذا غير ممكن، فإن القرآن يقول بنفسه (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88]، إذن يحتاج علم البلاغة حاضرا عندما يدخل المفسر آفاق القرآن الكريم، مثلا عندما يقول تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة: 55]، فهو عبّر بلفظ الجمع مع أنه يريد إنسانا واحدا، فلماذا عبر بلفظ الجمع؟ وما هي النكتة البلاغية في التعبير بلفظ الجمع مع أن القرآن يُريد شخصا واحدا؟ فإن هذا نوع من البلاغة، إذن علم البلاغة علمٌ أساس في تفسير القرآن الكريم.

العلم الثالث: علم القانون

القرآن هو كتاب قانون، فالقرآن ثلثه قوانين وتشريعات، هذه التشريعات وهذه القوانين منها المطلق ومنها المقيِّد، منها المجمل ومنها المفصل، منها موارد التعارض، ومنها موارد التزاحم، ومنها ما يُعمل فيه بالدليل، ومنها ما يُعمل فيه بالأصل، إذن الخوض في قوانين القرآن يحتاج إلى علم القانون، لذلك أسس الفقهاء علم الأصول، فعلم أصول الفقه هو عبارة أخرى عن علم القانون، فإن علم القانون بلغة حوزوية هو الذي يُعنى بإدارة القوانين وتحليلها والربط ما بينها سواء كانت في القرآن أو السنة النبوية.

العلم الرابع: علم الحديث

ربما يأتي إنسان ويقول لا نحتاج إلى الحديث والقرآن عربي، ونحن عرب والألفاظ واضحة فلماذا ندخل في علم الحديث؟ وما هو ربطه بالقرآن؟ نحن نقول أن القرآن نفسه يدعو لذلك، فأنت عندما تقرأ قوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) [الجمعة: 2]، يعني الكتاب يحتاج إلى تعليم وليس واضحا كما تراه، فالكتاب مع أنه نزل بلفظ عربي واضح إلا أن المعاني الدقيقة الواقعية للكتاب تحتاج إلى تعليم، فالقرآن نفسه يقول (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران: 7] وكذا يقول (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت: 49]، إذن يحتاج القرآن إلى علم، وأهل العلم به هم من وضعهم النبي  فقد اتفق المسلمون جميعا على صحة حديث الثقلين «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُم‏ بِهِمَا»، فالقرآن وأهل البيت، فأهل البيت شارح للقرآن ومفسر له، فلابد من الرجوع إلى أحاديث أهل البيت، ولا نقصد أيَّ حديث بل الأحاديث الصحيحة الثابتة والتي يُعتمد عليها في مجال تفسير القرآن الكريم.

هذه علوم أساسية أربعة في تفسير القرآن الكريم، وكذلك هناك علوم فرعية يحتاجها المفسر، فالقرآن يضم مضامين فلسفية، فالمفسر يحتاج إلى خلفية ثقافية فلسفية، فالقرآن يتحدث عن قصص الإنسان منذ يوم آدم إلى يوم النبي ، فالغور في هذا الباب يحتاج إلى علم الاجتماع ليكتشف الإنسان كيفية تكون المجتمعات واندراسها، وما هي السنن التاريخية التي تتحكم في مسيرة المجتمعات، فالقرآن يتحدث عن النفس وشؤونها وخواطرها وجميع تفاصيلها الدقيقة، فيحتاج الإنسان إلى العلم الإنساني علم النفس ليتدبر المعاني القرآنية في هذا المجال.

إذن عملية التفسير ليست عملية سلسة ومتاحة وبراحة الإنسان أن يسلكها بل هي عملية معقدة تحتاج مجموعة من العلوم، ولذلك رُبطت بمن يمتلك هذه الأدوات وبمن يمتلك هذه العلوم.

المحور الثاني: في تناول آيتي الحجاب

المرحوم الدكتور محمد شحرور تناول آيتي الحجاب كما تناول عدّة آيات من القرآن الكريم بمنهج خاص سلكه في تحليل مضامين القرآن الكريم.

الآية الأولى: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59].

هنا الدكتور استند إلى عنصرين:

العنصر الأول: عنصر النبوة

في عنصر النبوة قال أن الآية افتتحت بالنبي ولم تفتتح بالرسول، فلم تقل «يا أيها الرسول» بل «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ»، وفَرْق بين النبوة والرسالة، فإن النبوة تعني من تَلقى أنباء الغيب، والرسالة تعني من حمل التشريعات وبلّغها إلى المجتمع البشري، ففرق بين المقامين والموقعين، فالنبي هو من يتلقى أنباء الغيب عِبر الوحي، بينما الرسول مُكلّفٌ برسالة يُبلغها للمجتمع، وهذا الفرق بين النبي والرسول يرجع إلى جذر آخر - ذكره الدكتور في كتابه القرآن والكتاب - وهو الفرق بين القرآن والكتاب، فالقرآن هو مجمع العلوم، بينما الكتاب هو مجمع القوانين والتكاليف، والقرآن عنصر حضوري وموضوعي، بينما الكتاب عنصر ذاتي ومتغير.

ما هو الفرق بين العنصر الموضوعي والعنصر الذاتي؟

العنصر الموضوعي هو العنصر الثابت الذي لا يتغير بتغير الإنسان، فوجود الشمس عنصر موضوعي سواء وُجد الإنسان على الأرض أو لم يوجد فالشمس باقية، مات الإنسان أو بقي فإن الشمس باقية فهذا عنصر موضوعي، البعث عنصر موضوعي فإنه سيكون يوم بعث على كل حال، سواء أراد الإنسان أم لم يرد فإن هذا شيء ثابت لا يتغير بتغير الإنسان، وهذه تُسمى عناصر موضوعية؛ لأنها لا تدور مدار اختيار الإنسان ولا حركته، وهذه العناصر الموضوعية تضمنها القرآن الكريم، فكل المعلومات عن الكون وما وراء الكون حملها جزء من الكتاب يُسمى القرآن، فالقرآن مجمع للعلوم - علوم الكون وما وراء الكون - لذلك القرآن عنصر موضوعي، سواء صار تشريع أو لا، صار إنسان أو لا، فإن هذه العلوم عناصر ثابتة وموضوعية.

بينما نأتي للكتاب فإنه تشريعات وقوانين، وهذه القوانين مربوطة بالإنسان، فلو لم يكن إنسان على الأرض لما جاءت هذه القوانين، وكما أن تفعيل هذه القوانين يحتاج إلى الإنسان وحركة الإنسان واختيار الإنسان، فلو أن الإنسان رفضها ولم يمتثلها أصبحت القوانين فاشلة وعاطلة، إذن الكتاب عنصر ذاتي يدور مدار الإنسان، ليس مثل القرآن الذي هو عنصر موضوعي ثابت، ولهذا يقول أن القرآن شيء وأم الكتاب شيء آخر، فإن أم الكتاب فيها الحدود والعبادات والتعليمات والشرائع المرحلية والظرفية والدائمة، بينما القرآن ليس فيه أي تشريع بل هو وعاء العلم، ووعاء المعلومات والكون وما وراء الكون.

من هنا «النبي» هو من تلقى القرآن، والرسول من تلقى الكتاب. صحيح أن الوحي نزل - الوحي على قسمين - فهو نزل بعنصر موضوعي ثابت وهو القرآن فتلقاه، فمن تلقاه فهو نبي، ونزل بعنصر ذاتي متغير حسب حركة الإنسان فمن تلقاه فهو رسول، هذا هو الفرق بين موقع النبي وموقع الرسول.

ويريد أن يصل من هذا الكلام إلى أنه إذا ذُكر لفظ الرسول في القرآن الكريم فإن ما بعده تشريع؛ لأن الرسول هو من يحمل التشريعات، فعندما يقول «يا أيها الرسول بلّغ» فهو تشريع، لكن عندما يقول «يا أيها النبي» فإن هذا معناه معلومات لا تشريع، فإن ما يأتي بعد النبي من مضامين فهي تعليمات وليست تشريعات، فهي ليست تكاليف إلزامية للناس بل هي مجرد تعليمات وإرشادات.

ولذا لما نأتي إلى الفرق بين هاتين الآيتين (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النحل: 90] وبين قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11] فإن الفرق أن الآية الأولى تشريع ولذلك تدخل في الكتاب، والثاني علم ولذلك تدخل في القرآن، ومن تلقى الأولى فهو رسول، ومن تلقى الثانية فهو نبي، وهذا هو الفرق بينهما، فمتى أتت لفظة «النبي» فإن ما بعدها تعليمات، ومتى ما أتت لفظة «الرسول» فإن ما بعدها تشريعات.

الآن لما نُطبقها على آية الحجاب (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ولم يقل الرسول، إذن هذه تعليمات، (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) إدناء الجلباب يعني أن تُدني المرأة على صدرها، فإنه يقول أن هذا ليس بتكليف وليس بتشريع من السماء وإنما هو مجرد تعليم لظرف معين لتدارك مفسدة معينة وليس تشريعا لأن الآية بدأت ب «النبي».

العنصر الثاني: عنصر التاريخ

قال أننا إذا قرأنا التاريخ فإنه منذ بدء السومرية فإنه تاريخٌ كان يُقدّس الأنثى فكان تاريخا أموميا، ثم بعد أن جاءت الحضارة البابلية والآشورية صار التاريخ يُقدّس الذكر، فتحول المجتمع من أمومي إلى أبوي، ثم أخذ المجتمع أدوارا تارة مع الأنثى وتارة مع الذكر، حتى الديانات السماوية تأثرت بالمجتمعات التي عاشتها. العرب قبل مجيء الإسلام كان عندهم حرائر وإماء، وكانوا يميزون بين الحرة والأمة باللباس، فالحرة لها لباس والأمة لها لباس، فالحرة مثل خديجة - الدكتور يصف لباس خديجة - فهي تلبس غطاء يغطي شعرها عن التبعثر، وتلبس ثوبا من المنكبين إلى قريب القدمين، وهذا الثوب ليس فيه فتحات بل فيه فتحة واحدة في الأعلى تُبرز أعلى صدرها، هكذا أذناها ووجهها بارزان حتى مقدار من صدرها وهذا حال الحرائر قبل الإسلام، بينما الأَمَةُ شعرها بارز وبدنها بارز لأنها بضاعة والبضاعة تُشترى وتباع فلابد أن تكون بمرأى ومسمع من أهل السوق، فإذا ذهب المشتري إلى سوق النخاسة كيف يشتري الأمة؟ فإنه لابد أن يتأملها ويتفحص شعرها ومفاتنها فإذا أعجبته اشتراها، وهذا هو المائز بين الحرة وبين الأَمَة. وانعكس هذا المائز على الإسلام، فالإسلام لما جاء لم يغير شيء، فالوضع كما هو، حرّة وأَمَة وهذه الحرة لها لباس والأمة لها لباس، ولذا بعض الحرائر - خصوصا الشابة - ليس لها مزاج بأن تجعل على شعرها غطاء، وثوب طويل - وإن كانت حرة - فهي ترغب أن تخرج إلى السوق والشارع بلباس الأمة ليكون أَكَثر حرية لها، فتخرجن، وإذا خرجت هذه يظنها الناس أمة فيتعرضون لها لأن الإماء يتعرضن لتحرشات الفساق ومرضى النفوس فتصاب الحرة بالأذى نتيجة عدم تمييزها عن الأمَة، ولذا جاء القرآن الكريم ووضع مائزا وقال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) كلهن حرائر، (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) وهذا ليس لأنه هذا تشريع سماوي وتكليف بل لتمتاز الحرة عن الأمة فلا تؤذى، (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وهذا تعليم مرحلي، ظرفي من أجل تدارك تلك المفسدة في ذلك الظرف وإلا هو ليس تشريعا سماويا نازلا من السماء.

هذا تحليل الدكتور محمد شحرور شرحناه مفصلا، ونحن نضع عدّة ملاحظات على هذا التفسير للآية المباركة:

الملاحظة الأولى: هل فعلا أن القرآن يعني قسما من الكتاب وهو المعلومات، والكتاب يعني التشريعات والتكاليف أم لا؟ نقول أن هذا ليس متطابقا مع الآيات القرآنية، لأننا إذا رجعنا إلى الآيات القرآنية نجد أن القرآن تفصيل للكتاب، فإننا عندما نقرأ قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود: 1] يعني أن القرآن خضع لمرحلتين، مرحلة إحكام وهي نُسميها قواعد عامة، كما لو أن أحدهم يريد أن يكتب كتابا في الرياضيات أو الفيزياء فهو أولا يضع قواعد عامة ثم يدخل في التفاصيل والتطبيقات، كذلك القرآن، مَرَّ بمرحلة إحكام - وضع قواعد عامة - ثم مرحلة تفصيل (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) وكلاهما منه تعالى (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1]، فمرحلة الإحكام هي الكتاب، ومرحلة التفصيل هي القرآن، فالقرآن تفصيل للكتاب لا أن القرآن قسم يتضمن المعلومات، والكتاب قسم يتضمن التشريعات، بل الكتاب هو الإحكام وهو الآيات (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: 7]، فأم الكتاب يعني القواعد العامة، والتفاصيل هي عبارة عن القرآن، وكذلك قوله تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3]، كيف أنه قرآن فُصلتْ آياته قرآنا؟ لما نأتي ونعرضها على علماء النحو فإنهم يقولون أن «قرآنا» تمييز، «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» فإن هذا الكتاب موصوف بأنه قرآن عربي، فالقرآن وصف للكتاب ولذلك وقع هنا تمييز، ويَعرِفُ من يدرس النحو الفرق بين الحال والتمييز، فالحال تسبقه المعرفة، وأما التمييز تسبقه النكرة، وهنا تمييز وليس حال لأنه سبقته النكرة، ولأجل ذلك القرآن تفصيل.

كذلك الآية الأخرى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17») [القيامة: 16 - 17]، قرآنه يعني تفصيله، فنحن نجمع ونحن نُفصّل، نحن نُحكم ونحن نفصل، (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ «19») [القيامة: 16 - 19]، وقال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) [الإسراء: 106].

إذن القرآن هو تفصيلٌ للكتاب وليس القرآن هو مجمع علوم والكتاب مجمع تشريعات كما ذُكر وشرح سابقا.

الملاحظة الثانية: صحيح أن هناك فرق بين النبي والرسول، لكن الفرق بينهما هو أن النبي هو من يتلقى أنباء الغيب للعمل بها، فليست وظيفة النبي هي وظيفة نظرية بحيث يتلقى فقط، ووظيفة الرسول هي وظيفة عملية، بل النبي من يتلقى أنباء الغيب ليعمل بها، فحيثية العمل مأخوذة في النبي، عندنا أنبياء وليسوا برسل، النبي شعيب  والنبي داوود  والنبي سليمان  فإن هؤلاء لم يكن عندهم شريعة بل كان النبي داوود والنبي سليمان  يسيرون على شريعة النبي موسى ، والنبي شعيب  كان على شريعة النبي إبراهيم ، فليس لهم شرائع لكن كانت لهم حيثية عملية يتلقى أنباء الغيب ليعمل بها، فالنبي له حيثية عملية، وهذه الحيثية العملية هي عبارة عن إدارة المجتمع، فإن إدارة المجتمع تعتمد على ركنين ألا وهما التشريع والتطبيق، فحتى تُدير مجتمعا لابد أن تُشرع قانونا ومن ثم تطبق القانون على موارده، النبي مهمته عملية وهي إدارة المجتمع تشريعا وتطبيقا، لا أن النبي يتلقى المعلومات فقط والرسول هو الذي يُنفذ تلك المعلومات في المجتمع، وهاهنا أعرض لك بعض الآيات القرآنية حتى تكتشف صحة ما بينا، فإننا إذا لاحظنا الآيات القرآنية فإنها تُسند إلى النبي دائما مهمات عملية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) [الأنفال: 65]، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) [التحريم: 9]، هذه مهمات عملية تتطلب تشريعا وتطبيقا، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1]، هنا دعنا نسأل الدكتور شحرور هل أن التطليق هو تشريع أم تعليم؟ هو تشريع طبعا، فلا أحد يقول أن الطلاق تعليم مرحلي لظرف معين، فالطلاق تشريع وليس تعليم، وعندما يقول القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ) [الممتحنة: 12] فهذه إدارة عملية للمجتمع، وكذا عندما يقول القرآن الكريم (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]، يعني أن النبي له مقام الولاية في إدارة المجتمع.

إذن القرآن نسب أدوارا عملية حيوية للنبي بما هو نبي، ولأجل ذلك نجد ذات الوصف الذي وصفه القرآن للأنبياء وصفه للرسول تماما، فقال: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة: 213]، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165] يعني الدور واحد، فالمتاح والموكل لوصف النبي هو الموكل لوصف الرسول ، ومن هنا نقول أن ما ذكره الدكتور شحرور من أنه إذا قالت الآية نبي فإنه ليس تشريع بعد بل تعليم وإذا قالت الآية رسول فإن ما بعدها تشريع فإن هذا شيء غير متطابق مع القرآن، فإنه يأتي لفظ «النبي» وبعده تشريع كما يأتي لفظ «الرسول» وبعده تشريع، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.

الملاحظة الثالثة: تقرأ كتاب «الكتاب والقرآن للدكتور شحرور» صفحات لنقل التاريخ الإنساني كيف كان يتعامل مع المرأة، وكيف كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكيف انعكس هذا على تعاليم الإسلام، إلى أن يأتي إلى هذه الآية - آية الحجاب - فيقول أن لها ليست تشريعا سماويا بل مجرد تعليم ونصيحة لتمييز الحرة عن الأمة لا أكثر من ذلك، إلا أن المنهجية الأكاديمية الموضوعية تقتضي أن لا تُقحم التاريخ في تفسير القرآن إلا إذا كان هذا التاريخ موثوقا، فإننا لا نشرح معلقة امرئ القيس ولا زهير بن أبي سُلمى حتى يعتمد التاريخ، بل تشرح القرآن، فإن اعتماد مادة تاريخية في شرح القرآن يتوقف على أن تكون هذه المادة التاريخية مادة موثقة، فإنه من غير الممكن أن آخذ من الطبري وابن كثير بعض المعلومات وأعتبرها قرينة من قرائن تفسير القرآن لأن الطبري ذكرها أو ابن كثير، بل لابد للباحث الأكاديمي الموضوعي أن يُعمل دليل حساب الاحتمالات، فإنه بدون دليل حساب الاحتمالات لا تستطيع أن تصل إلى نتيجة يقينية إطلاقا، فإنه من خلال دليل حساب الاحتمالات تجمع القرآن المختلفة ثم تقوم بضرب الاحتمالات بعضها في البعض حتى تصل إلى الوثوق بالمعلومة التاريخية، أما مجرد معلومة تاريخية مذكورة ونستخدمها في تفسير القرآن فإنه ليس من البحث الموضوعي بمكان.

الملاحظة الرابعة: إذا كانت الآية مجرد تعليم وليست تشريع فلماذا يقول في ذيل الآية (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فإنه ليس هناك تكليف ولا ذنب، يعني لو أن الحرة لم تسمع هذا التعليم ولم تُطبق هذه النصيحة وخرجت مثلها مثل الأمة لم تُخالف تشريعا سماويا، وإذا لم تُخالف تشريعا سماويا لم ترتكب ذنبا فلا تحتاج إلى مغفرة، إذن تعبير الآية في ذيلها (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فيه دلالة على أن مضمون الآية كان تشريعا سماويا تُلزم به المرأة، وإذا تخلفت عنه كان ذنبا، القرآن الكريم يقول ما مضى من عملكم أنا أغفره لكن ما يأتي يجب أن يكون على طبق القانون (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).

الآية الثانية: قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31].

عندما يأتي الدكتور شحرور لهذه الآية يقول أنها هذه الآية قالت (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) فإن ما ظهر يعني أن الزينة قسمين منها ظاهر ومنها خفي، والظاهر لا يجب ستره والخفي هو ما يجب ستره.

ما هي الزينة الظاهرة وما هي الزينة الخفية؟ قال الزينة الظاهرة ما أظهره الله، فالله خلقه ظاهر، فلماذا تُستره، والزينة الخفية هو ما خلقه الله خفيّا، فالفرق بين الزينة الظاهرة بحسب خلقة المرأة، فالمرأة خُلق جسمها بنوعين من الزينة، زينة ظاهرة وزينة خفية، فالزينة الظاهرة مثل شعرها ووجهها، صدرها، بطنها، ظهرها، ساقها، فالله أظهره، فهذه الزينة هي زينة ظاهرة لا يجب سترها لأن القرآن قال (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ). وأما الزينة الخفية هي الجيوب، والجيوب جمع «جيب» والجيب فتحةٌ لها طبقتان، وكل فتحة لها طبقتان فهي جيب، والجيب زينة خفية يجب سترها، فإن ما بين الإيليتين جيب، وما تحت الإبطين جيب، وما تحت النهدين جيب، وما بين النهدين جيب، فإن كل هذه جيوب لأن الله  خلقها في جسم المرأة مخفية، وهذه الجيوب على المرأة أن تسترها وتغطيها تشريعا سماويا (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) يعني الزينة الظاهرة يجوز لها أن تظهرها، فطبيعي للمرأة أن تخرج بلا غطاء للرأس وبلا ستر للبدن، لأن هذه زينة الله أظهرها فلا يجب سترها. ثم لما يأتي إلى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فالخمر يعني الستور، والجيوب هي الزينة الخفية فيجب سترها بالخمار.

وهنا عندنا عدّة ملاحظات على هذا التفسير أذكرها باختصار:

الملاحظة الأولى: لم يستند الدكتور إلى مصدر لغوي معتمد، فأنت عندما تُفسر الزينة الخفية بالجيوب تحتاج إلى مصدر، وعندما تُفسر الجيوب هي كل فتحة في البدن لها طبقتان فهي جيوب، فما هو المصدر اللغوي المعتمد في ذلك؟! قد يأتي أحدهم ويحلل لكن هذا لا يصح به تفسير القرآن، بل نحتاج إلى مصادر لغوية معتمدة تؤكد لنا ذلك.

الملاحظة الثانية: نحن كلّنا عرب وعندنا لا ذوق عربي لا أقل، فهل ثمة عربي يقبل بذوقه أن يقال له ما تحت الإبطين زينة؟! أو داخل الفم زينة لأنه فتحة لها طبقتان؟! أو داخل الأنف زينة لأنه فتحة لها طبقتان؟! أو داخل الأذن زينة لأنها فتحة لها طبقتان؟! أو بين أصابع الرجلين زينة لأنه فتحة لها طبقتان؟! فإن هذا شيء ممجوج عربيا، فإن الذوق العربي السليم يمج ويستبشع أن تُفسر الزينة بالجيوب، وتُفسر الجيوب بهذا التفسير ويعتبر هذا من الزينة في جسم المرأة الخفية، مع أن أغلب هذه الجيوب موجودة في جسم الرجل أيضا، فنفس الجيوب موجودة في جسم الرجل، فما يفعل الرجل؟! إذن هي ليست زينة حتى يجب سترها وتدخل تحت إطار الزينة.

الملاحظة الثالثة: يلزم على تفسير الدكتور تكرار في الآية، لأن قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) معناه الجيوب، فيجب سترها، ثم يعود مرة أخرى ويقول (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) وهذا تكرار في الآية لا ينسجم مع بلاغة القرآن الكريم.

ولذلك الفقهاء لما يأتون لهذه الآية المباركة هم بين فريقين:

الفريق الأول يقول: (مَا ظَهَرَ) أي ما ظهر قهرا على المرأة، فالمرأة تخرج إلى الشارع مغطاة لكن أحيانا تأتي الريح وترفع سترها قهرا عليها فيظهر شيئا من محاسنها فهي معذورة لأن هذا الظهور صار قهرا عليها، فالمقصود بقوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) يعني ما ظهر قهرا عليها فهي معذورة من جهته إذ أنها لم تتعمد كشفه وإنما ظهر قهرا عليها. ولذلك بعض الفقهاء مثل السيد الخوئي «قدس» عنده الأحوط وجوبا ستر حتى وجه المرأة لأنه يقول لا توجد زينة أبلغ من وجه المرأة، فإنه إذا كان صدرها زينة فإن وجهها أولى لأنه أشد زينة، لذلك عنده احتياط وجوبي حتى بستر وجه المرأة، فيقول أن الآية مطلقة ((وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) إلا ما ظهر قهرا على المرأة أو بدون اختيارها.

الفريق الثاني: يعتمد على الرواية، فكما قلنا أن علم الحديث علم أساس في تفسير القرآن الكريم يعتمد الرواية الصحيحة، ففي معتبرة الفضيل بن يسار يقول: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الذِّرَاعَيْنِ - أي ذراعي المراة - مِنَ الْمَرْأَةِ أَ هُمَا مِن‏الزِّينَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) قَالَ نَعَمْ وَ مَا دُونَ الْخِمَارِ - هو ما يضرب على العنق من هذا الكتف إلى الكتف - مِنَ الزِّينَةِ وَ مَا دُونَ السِّوَارَيْن‏ - فالسوار يُجعل على المعصم عند الكف -.

وكذلك في رواية مسعدة بن زياد سُئل جعفر بن محمد ما هي الزينة الظاهرة التي قال (إِلَّا مَا ظَهَرَ) فقال: الوجه والكفان.

إذن بالنتيجة فإن تناول الدكتور محمد شحرور لآيتي الحجاب كان تناولا غير مبتني على أسس علمية رصينة، وكذا كثير من المقالات والبحوث القرآنية التي طرقها فإنها ابتنت على منهج شخصي تحليلي ولو عُرِض - هذا البحث والتحليل - بحسب الموازين الأكاديمية فإنه لا يكون بحثا علميا، ولا يكون بحثا موضوعيا.

المحور الثالث: في القدوة الزهراء

القرآن الكريم فرضَ الحجاب على المرأة، وَضع الجلباب على صدرها، ووضع الخمار على بدنها، ولم يَفْرض الحجاب لأجل خَنق المرأة ولأجل سد باب الحرية على المرأة وإعاقتها عن مشروعها العلمي والعملي، بل هي مثل الذكر والمجال مفتوح أمامها، وإنما فرض الحجاب لهدفين أساسيين:

 

الهدف الأول: أن الحجاب مظهر للعفاف

فالمرأة عندما تخرج بزينتها ومفاتنها الجذابة تُصبح - شاءت أم أبت - معرضا للتحرش والأذى والتناول من قبل مرضى النفوس، وهذه الحالة أراد الإسلام أن يسد بابها، أراد أن يحافظ على عزة المرأة وكرامتها أن تتعرض لمثل هذه المحاولات المرضية المشينة، فأمرها بالحجاب كمظهر لعزتها وكرامتها وعفافها، فالمرأة عندما تتحجب كأنها تقول للرجل هذا مظهر لعتفي وكرامتي وحرمتي، صحيح الحجاب ليس لباسا بل هو مضمون وفلسفة، الحجاب ليس قماشا بل هو مضمون وفلسفة عملية وسلوكية، لكن هذه العملية القماشية اللباسية التي يأمر الإسلام بها هي عملية رمزية ترمز للعفاف وترمز للعزة والكرامة، ولذلك أمر بها الإسلام كمظهر وكرمز لحرمة المرأة وكرامتها.

الهدف الثاني: المحافظة على الترابط الأسري

أنت لو تعيش في الولايات المتحدة أو أوربا وانظر أي الأسرة، ما الذي بقي من الأسرة، فعندما ارتفعت الحواجز بين الرجل والمرأة أصبح الرجل يجد له متنوعات وآفاق يُشبع بها غريزته وعاطفته، وأصبحت المرأة لها أصدقاء تُشبع من خلالها عاطفتها وبالتالي بردت العلاقة العاطفية الحميمة بين الزوج والزوجة، بل أصبحت علاقة وظيفية كأنهما موظفان في مؤسسة، فالأواصر العائلية والروابط الأسرية تزعزت نتيجة ارتفاع الحواجز بين الرجل والمرأة، فالمرأة تجد لها متنافسين، والرجل يجد له متنافسات، فلم يعد أحدهما يحتاج للآخر لإشباع عاطفته ولإشباع غريزته، لذلك أصبحت الأسرة مهددة بانعدام الأمن العاطفي، وبانعدام الشعور العاطفي الرقيق بين الزوجين الذي تحدث عنه القرآن الكريم بقوله: (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21].

من هنا وظيفتنا المحافظة على هذين الهدفين، هدف ظهور زوجاتنا وبناتنا ومتعلقينا بمظهر العفة والحرمة والكرامة، بمظهر الحجاب الكامل (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) [التحريم: 6]، فأنت مسؤول عن زوجتك، وعن بناتك، فنحن مسؤولون عن المحافظة على هذا المجتمع المتدين، والمجتمع المحافظ، المجتمع الذي لم يعقه الحجاب عن بروز بناته في مجال الطب والهندسة وفي مجالات متعددة، فالحجاب غير عائق، فالمحافظة على الصورة الدينية الجميلة لمجتمعنا من خلال نسائنا وبناتنا وأرحامنا مسؤوليتنا المعلقة على عوتقنا وأعناقنا (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: 71]، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 104]، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 110]، أما إذا أراد تيار معين أن يفرض نفسه على المجتمع من خلال مظاهر معينة وصور معينة فإن هذا لا يعني أن المجتمع تبخر دينه، فإن مجتمعنا لا زال - والحمد لله - واعيا ملتفتا رشيدا، فالأمل ما زال في مجتمعنا أن يحافظ على مظاهر الاحتشام والحجاب والتدين والالتزام فالزهراء قدوتنا.

الزهراء قدوتنا في الجهاد، قدوتنا في التضحية، قدوتنا في البذل، وهي القدوة في مجال الخفر والصون والحجاب، فاطمة الزهراء  أول مجاهد في خط الإمامة، فاطمة الزهراء أول شهيد في درب الإمامة، فاطمة الزهراء أول أم أنجبت أبطالا بذلوا كل ما عندهم في سبيل الإسلام حسنا وحسينا وزينب وأم كلثوم، فاطمة الزهراء علمت أبناءها منذ نعومة أظفارهم على العطاء والبذل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9») [الإنسان: 8 - 9].

المرحوم الشاعر الولائي أبو رياض محمد سعيد الجشي «رحمه الله» يقول:

صَلَى  الإلهُ  عَلَى  البتولِ  وآلِها

نَبويَّةُ    الأعراقِ   طَيِّبَةُ   الشّذَى

مَا قُورِنَتْ شَمْسُ الضُحى بِجمالِها

هي   صورةٌ  مِنْ  أَحْمَدٍ  وضاءَةٌ

 مَنْ  تَخْضَعُ  الأمْلاكُ عِنْدَ جَلالِها

عِطْرُ  الْجِنان  يفوحُ  مِنْ  أَذيالِها

إلا    تَسامَتْ    رِفْعةً    بِجلالِها

والشَّمسُ  تَمْنَحُ  ضَوْءَها  لِهلالِها

فاطمة الزهراء  أقبل إليها الحسن وهو صغير، فقال لها: سمعت جدي رسول الله يقول: ما هو أفضل شيء للمرأة، فقالت يا بني: أفضل شيء للمرأة أن لا ترى أجنبيا ولا يراها أجنبي، وفي رواية أخرى: أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها، فالحديث يتحدث عن مرتبتين، المرتبة الأعلى من الكمال أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها، المرتبة الأدنى من تمام الحجاب أن لا ترى الرجل رؤية تُحرك غريزتها وأن لا يراها الرجل رؤية تُحرك غريزته.

 

فاطمة يقول عنها الحسن - الذي كان عاش مدة أطول من أخوته ولذا كانت له ذكريات عنها أكثر - يقول: ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، فإنها إذا قامت في محرابها لا تنفتل من صلاتها حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، فأقول لها: أماه فاطمة، لمَ لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني، الجار ثم الدار.

فاطمة حافظت على صونها وخفرها حتى عندما قامت بمهمتها، خرجت إلى المسجد تخطب في الناس، وضربت دونها ملاءة محافظة على خفرها وصونها، وخطبت خطبتها البليغة التي ما زالت تتردد أصداءها إلى هذا اليوم، فاطمة لما خطبت أنت أنة أجهش لها الحضور بالبكاء والنحيب، فأنينها يُبكي وحنينها يُبكي، فهي تحمل في قلبها آلام وأشجان، وكانت إذا وقفت على قبر أبيها بثت الأحزان والشجون:

مَاذَا  عَلى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدِ

صُبَّت  عَليّ  مَصائِبٌ لَوْ أَنْها              أَنْ لا يَشَمَّ مَدى الزمانِ غَوالِيا

صُبتْ عَلى الأيامِ صِرْنَ لَيالِيا

للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام:

 https://t.me/The12ImamsWeb


المصدر: موقع آية الله السيد منير الخباز

2021/01/04
كهيعص.. هل للحروف ’المقطّعة’ في القرآن معنى؟!

 في نفي لَغويّة الحروف المقطّعة!

هل للحروف المقطعة معنى ؟!، وكيف ننفي زعم الَّلغويّة؟، فقد سفه أحدهم نفسه وقال: "في غياب تفسير مقنع لهذه الأحرف يجب ادراجها ضمن ما يسمى" اللغو" !.

ما الحروف المقطّعة؟!

تتصدر تسع وعشرون سورة من سور القرآن بحروفٍ مفردةٍ أو مركبةٍ من حروف الهجاء، عند قراءتها الآن لا تعطينا معنىً محدد، ولا دلالة لفظية مباشرة لها  بشكل مستقل، وقد اصطلح عليها بـ( الحروف المُقَطّعَة ) أمّا (حروفٌ)؛ فلأنّها من أربعة عشر حرفاً هجائياً، تنوّع مأخذها منها كمّاً، بين حرف واحد مثل : ( ص ، ق ، ن ) و حرفين مثل: ( طه، طس، يس، حم ) و ثلاثة مثل: ( الم، الر، طسم ) ، وأربعة مثل: ( المص، المر )، ومنها المؤلف من خمسة حروف هجائية، مثل: ( كهيعص ، حم عسق )، وأمّا (مقطّعة)؛ فلتقطيعها عند القراءة ؛ إذ تقرأ  : ألف لام ميم ، أو ألف لام راء ، وهكذا..

لقد بلغت الأقوال في تفسير هذه الظاهرة القرآنية وتأويلها نحو ثلاثين قولاً (أضواء البيان-2/166)، ومعظمها تحكّمات محضة، و استحسانات صرفة، ضمن ذلك: التأويل الذي لقي رواجاً بين الناس من أنّ سرّاً غريباً في هذه المقطعات يتمثّل في أنّها تصير بعد التركيب وحذف المكرّرات: صراطُ عليٍّ حقٌ نمسكه.(تفسير الصافي،ج1/ص92)، ولم يخبرنا أصحابه لماذا لم يصبّوا هذا التركيب في جملة أخرى، مثل : وصح طريقك مع السنة، أو نصٌ حكيمٌ قطعاً له سر ...أو غيرهما ؟!

والرأي الذي تبني عليه المقالة ليس بدعاً، بل توليف بين رأيين من العشرة التي عرضها الطبرسي في المجمع، ونرى فيهما علاقة تكامل لا تضاد، يقول الثامن إنّها حروف المعجم ، فيما العاشر يوضح الغرض من ايرادها: تبكيت العرب والزامهم الحجة، وحينئذٍ يكون معنى المقطعة في أوائل السور هي أحرف المعجم والهجاء، والغرض من استعمالها في مطلع السور -إقامة الحجة على وحيانية النص القرآني، وتتمثل تلك الحجة في أنّ مادة القرآن ومادة كلام العرب واحدة، وهي هذه الحروف، من ثمّ فالتحدي القرآني لهم وعجز الخصم عن مجاراته والإتيان بمثله؛ برهانٌ جلي على كونه نصّاً معجزاً ووحياً من الله تعالى، وإلا لماذا عجز جميع العرب عن مجراته، ومادته متاحة لذلك الجميع في أشعارهم ورسائلهم وخطبهم؟!

ولعلّ أبرز سؤالين يواجههما هذا المنحى هما:

أولاً- لماذا اكتفى بأربعة عشر حرفاً من حروف المعجم، و لم يستعمل جميع حروف الهجاء ؟،وجواباً عنه، كتب الطبرسي: استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفا كما يستغني بذكر : قفا نبك... عن ذكر باقي القصيدة، وكما يقال: أب ، في (أبجد) وفي( أ ب ت ث) ولم يذكروا باقي الحروف، قال الراجز :

 لما رأيت أنها في حطي، أخذت منها بقرون شمط

 وإنما أراد الخبر عن المرأة بأنّها في(أبجد)، فأقام قوله: حطي، مقامه؛ لدلالة الكلام عليه " (المجمع:ج1،ص76)

وجواباً عن ثاني السؤالين: لماذا لم تذكر جميع الحروف المقطعة متفرقة على السور ألم يكن الأجدر أن تسرد في أول القرآن ؟؛ ينصّ الزمخشري: أنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلّف منها لا غير، وتجديدُه في غير موضع واحد، أوصلُ إلى الغرض، وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن، فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. (الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل،ج1،ص30) .

شواهده القول المختار:

وشواهد هذا الرأي وقرائنه متضافرة متكاثرة، وهي على كثرتها على قسمين :

الأول : داخلية، مستفادة من تتبع نفس سياق الاستعمال القرآني لها، وخلاصة هذه القرينة: اقتران الأحرف المقطعة بالحديث عن الاعجاز، وفي الأغلب تمثّل بالقرآن الكريم، بوصفه النص الوحياني المعجز للنبي محمد(ص)، وقد جاء ذلك بالفاظٍ مختلفة : الكتاب- القرآن- الآيات، وبعضها جمعت بين لفظين، كما أنّ بعض تلكم السور ابدأت وفي أول آية لها بـ(القرآن)، وختمتْ به،أدناه شاهد لكل هذه الأنحاء :

1ـ لفظ (الكتاب)، ففي أول استعمال لها في المصحف وبعد (ألم) تلاها مباشرة قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة : 2]، وذات الاستعمال في سورة آل عمران، وحسب التتبع وجدتُ أكثر المقطعات قد استعمل بعدها هذا التعبير(الكتاب)، معرّفاً أو منكراً، باضافة أو بغيرها .

2ـ لفظ( القرآن)، كما في سورة طه؛إذ بعد الآية الأولى منها:(طه)، أُتبعت في الثانية بقوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه : 2]، وعين الأمر مع سورة يس .

3ـ آيات الكتاب أو القرآن ، كقوله تعالى: في مطلع سورة يونس: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}، وقد جمعتْ سورة النمل النحوين: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل : 1]  

4ـ وسورة (ق) هي التي ورد فيها لفظ القرآن في مطلعها وآخرها، ففي آيتها الأولى : {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق : 1] وفي آخر آية : {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق : 45]

الثاني : خارجية، أي هي قرينة مؤيدة للمعنى للتفسير المتقدم للحروف المقطعة، و ليس هذا المؤيّد من داخل النص القرآني بل من خارجه، ويتمثل في خبرين مهمّين، ضمن الأخبار التي وضعها الصدوق في كتابه : معاني الأخبار، تحت باب : معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، وقد أورد فيه ستة أحاديث، جاءتْ في سياق بيان المعنى التأويلي والباطني للحروف المقطعة ـ ما خلا الحديث الرابع ـ وليس في ذلك قدحٌ أو تقليل من أحاديث التأويل وبيان المعنى الباطن للآية، كما ليس في إبراز أحد البطون واستجلاء بعض اسرار الكتاب  ما يتعارض مع الظاهر سيّما الذي قررناه آنفاً بخصوص الأحرف المقطعة؛ فإنّ للقرآن تأويلاً وله ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعـة أبطن، غاية الأمر: لا يمسّ باطنه من البشر إلا المطهّرون، ولا يعلم تأويله إلا الراسخون، من ثمّ تركنا تلكم الأحاديث لخروجها عمّا نحن فيه، وهو دراسة الحروف المقطّعة حسب ظاهر التنزيل، الأمر الذي جاء فيه حديثان عن أهل البيت، الأول هو رابع أحاديث الباب المذكور آنفاً، وهو حديث طويلٌ مرويٌّ عن الإمام العسكري عن آبائه(عليهم السلام)، لكن نقتبس منه ما يؤدي الغرض ويتقرّر به الاستشهاد :

كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا : سحر مبين تقوّله، فقال الله : الم ذلِكَ الْكِتابُ، أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة، التي منها : ألف لام ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن إنّهم لا يقدرون عليه بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء : 88]...إلخ الحديث.(الصدوق-معاني الأخبار،ص24 ).

وفي باب آخر، ورواية أخرى، رواها الصدوق أيضاً ،عن الإمام الرضا (عليه السلام) جاء في آخرها ما يدل على المطلوب بشكل واضح : " إن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب ثم قال قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً . (المصدر السابق،ص43).

للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام:
 https://t.me/The12ImamsWeb

2020/12/26
شاعر يفسّر القرآن برأيه: هل كان ’ابن نوح’ من صلبه؟!

كتب علي الحسيني: مع الأستاذ آل ياسين: هل كان "ابن نوح" من صلبه؟!

في مقطع متداول أُخذ من لقاء تلفزيوني يظهر فيه الأستاذ و الشاعر العراقي (محمد حسين آل ياسين) مُبدياً رأياً غريباً على المشاهدين، فيقول: كان نوح قبل الطوفان قد دعا ربّه أن ينقذ أهله معه، ووعده بذلك، فلمّا رأى ابنه قد غرق، فدعا نوح ربّه: ياربّ إن ابني من أهلي ووعدك الحقّ، فماذا كان الجواب؟.. مو [ليس] إنه من الكافرين، ولا من الضالين، ولا من الفاسقين، لا، [بل كان الجواب ] : إنّه ليس من أهلك، إنّه عملٌ غير صالح، فلا تسألني ما ليس لك به علم، فليس من صلبه، فما وعده الله به قد أنجزه...وختم: بأنّ هذا الرأي لأوّل مرّة يقال.

وقد بدا واضحاً أنّ الأستاذ (آل ياسين) يريد المضمون القرآني، وإلا فلفظ الآيتين من سورة هود هو: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. [هود : 45-46]، والأهمّ من هذا الانصراف إلى كلامه والتعليق عليه:

فلنبدأ معه من حيث انتهى: ليس هذا الرأي من عندياته وابتكاراته، ولا هو بالجديد غير المسبوق، فهو رأيٌ قديم قِدَم التابعين، وأبرز من أخذ به منهم هو الحسن البصري(ت110م) على ما أخرجه الطبري عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال: "نادى نوح ابنه"، لعمْر الله ما هو ابنه!، قال: قلت: يا أبا سعيد يقول: (ونادى نوح ابنه) ، وتقول: ليس بابنه؟! قال: أفرأيت قوله: (إنه ليس من أهلك) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك...(تفسير الطبري، ج15، ص341، الطبعة الأولى-الرسالة، ت:أحمد محمد شاكر).

ينقل علاء الدين الكاساني (ت587هـ ) في بدائع الصنائع أنّ الشاعرة العربيّة ليلى الإخليليّة (من القرن الهجري الأوّل) لمّا دخلت على الحجّاج فأنشدته قصيدة...قال[الحجّاج] لحاجبه: اقطع لسانها، فذهب إلى الحدّاد فأخرج(الموسى) وأراد أن يقطع لسانها، فقالت ليلى: ما هكذا أراد الحجّاج، بل أراد أن تقطعوا لساني بالعطيّة، فلمّا استفسروا من الحجّاج قال لهم كما قالت ليلى، وعاقب الذي أخطأ في الفهم!( ج9ص332، دار الكتب العلمية)، وإذا كان الحال من الاحتياج للاستفسار مع كلام الحجّاج، وفي القرن الهجري الأول، فكيف بنا نحن الآن أبناء العصر الراهن، و مع كتاب الله العظيم؟! وعظمة الكلام، من عظمة المتكلّم؛ من أجل هذا وغيره:

اتّفقتْ أمة محمّد(ص وآله) على عدم صحة الاعتماد على اللغة –وحسب- في فهم القرآن وتفسيره، فهذا المنهج –الامتدادي لمنهج حسبنا كتاب الله- مخالفٌ لصريح القرآن نفسه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم) [النحل : 44]، ويفضي إلى إنكار الحديث بل و ما علم ثبوته من الدين ضرورة، وعلى سبيل المثال: نفى  المهندس محمد شحرور(ت2019) وجوب الصيام في شهر رمضان؛ اعتماداً على المدلول اللغوي (الأوّلي) لكلمة الإطاقة في قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة : 184]...إلى غير ذلك من توالٍ وتطبيقات بيّنة الفساد!، ومع جلاء هذه المسألة ووضوحها، بيد أنّي لم أترك الإشارة إليها ولو باقتضاب؛ لأنّها مسالةٌ منهجيّة تعكس صلب اختلافنا مع هذه الرأي التفسيري وغيره من آراء تطرح على الدوام!

 وفيما يخصّ الشيعة -وطبقاً لحديث الثقلين المتواتر- فإنّهم قد ذهبوا إلى أنّ طريق المعرفة الدينيّة - سيّما تفسير القرآن - بعد النبي؛ منحصرٌ بما ثبت عن أهل البيت، وقد ثبت عنهم (عليهم السلام) أنّ لهم موقفاً مغايراً تمام المغايرة للرأي آنفاً، ولم يكتفِ أهلُ البيت بإبداء الرأي المخالف، وإنّما رفضوا هذا التفسير علانيّة، وكذّبوه في أحاديث صحيحة، ونصوص صريحة، دونك ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا:

حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا (عليه السلام)...قال أبو عبد الله (عليه السلام):

إن الله عزّ وجلّ قال لنوح: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ؛ لأنّه كان مخالفاً له، وجعل من اتبعه من أهله، قال: وسألَني، كيف يقرأون هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنه عملٌ غير صالح، وإنّه عَمِل غير صالح، فقال: كذبوا، هو ابنه، ولكن الله عزّ وجلّ نفاه عنه حين خالفه في دينه. (ج2،ص82).

قلتُ: الحديث صحيح، بل صحيح أعلائيٌ، فرجاله من أعيان الطائفة، كما أنّ صحّته جارية على مبنى الوثوق والوثاقة...، وزاد في خبر آخر من حديث الوشّاء أيضاً: "كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه، كذا من كان منّا لم يطع الله عزّ وجلّ، فليس منّا، وأنت إذا أطعت الله عزّ وجلّ فأنت منا أهل البيت"(ج2،ص257)، ومضمون هذه الزيادة فوق الإحصاء في الأحاديث، ولها أصل قرآني أيضاً: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي...) [البقرة : 249]، و(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : 36].

إنّ كلّاً من (عمل)  و(غير) في قوله تعالى: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) لها قراءتان:

 (عملٌ) اسم مرفوع على أنّه خبر إنّ و(غيرُ) نعتٌ له مرفوع، وهذه القراءة تتلائم مع التفسيرين، وبناءً على تفسير أهل البيت الذي قدّمناه فإنّ الجملة لا تخلو من إشارة بلاغيّة، تعبّر عن بلوغ النصّ الغاية في الذمّ حتى اندكت الذات في الخساسة، واندمجت مع العمل الطالح كما لو أنّهما شيئاً واحداً !

(عَمِلَ)فعل ماض، و(غيرَ) منصوب على أنّه مفعول، أي: أنّ ابنك يا نوح، قد عمل عملاً غير صالح، فالموصوف بغير الصالح هو العمل وليس الذات، وهذه القراءة غير قابلة للتوجيه بناءً على رأي آل ياسين ومن قبله البصري، بل ينهدم مع هذه القراءة أقوى معطيات هذا الرأي كما هو واضح!

وحتى لو كنّا نحن والنصّ القرآني، وبالاعتماد على طريقة قريبة الشبهِ بطريقة الشاعر المحترم؛ يمكننا المساجلة بأنّ قوله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ...[هود : 42] إخبارٌ صريح بالبنوّة، وليس له ما ينفيه أو ما يشير إلى أنّه بلسان الحكاية، كما هو الحال في قوله تعالى حكاية عن نوح: فقال ربّ إنّ ابني من أهلي، من ثمّ لا ترفع اليد عن الصريح بما يحتمل الوجهين:(إنّه ليس من أهلك) في أحسن الأحوال، وبكلمة أخرى أوضح، هاهنا عبارتان: عبارة تقرّر البنوة الصلبيّة صراحة (ونادى نوح ابنه)، ولا نفي صريح إزاءها؛ إذ لم يقل: إنّه ليس ابنك، ولا إنّه ليس من صلبك...، والعبارة الثانية جاءت على لسان نوح:(فقال: ربّ إنّ ابني من أهلي)، وهنا أيضاً، صُبّ النفي على كونه من أهله وحسب، مع أنّ عبارة نوح مركّبة من نسبتين: ابني، ومن أهلي!، نعم، يبقى السؤال عن الجمع و المواءمة بين نفي كونه من أهله، لكن دون المساس بالبنوّة الصلبيّة، وقد مرّ عليك وجهها في حديث أهل البيت، فراجع ثمّة.

2020/12/14
لماذا فُرضت عليهم الجزية؟.. هذه هي حقيقة أهل الكتاب!
هل يُعَدّ مصطلح أهل الكتاب مصطلحاً توقيفياً أو هو ناظرٌ إلى حقيقة؟ بمعنى أنه لو ثبت من الناحية العلمية والتاريخية أن البوذيّين مثلاً كان لهم كتاب أيضاً هل يمكن لذلك اعتبارهم من أهل الكتاب، حتّى وإنْ لم يَرِدْ وصفهم في القرآن بذلك؟

[اشترك]

إن الزرادشتيين والهندوس من أهل الكتاب. وقد قيل للنبيّ: لماذا أخذت الجزية من المجوس، مع أنهم مشركون؟! فقال: إنهم أهل كتاب.

ولذلك فإنّ فقهنا قد أخذ هذه المسألة أخذ المسلَّمات. وأما أهل السنّة فقد وقع الخلاف بينهم في هذا الشأن، والرأي الأرجح عندهم هو أن المجوس من أهل الكتاب. وعليه فإن مسألة أهل الكتاب كانت مطروحةً منذ القِدَم.

والمسألة تذهب إلى أبعد من ذلك، وإن الاختلاف الذي يحاول البعض إثارته بين أهل الكتاب وغيرهم لا أساس له من الصحّة. إن ما يحاول البعض إثباته من الحكم على أهل الكتاب بالطهارة، والقول بنجاسة غير أهل الكتاب، لا يقوم على دليلٍ صحيح، بل ليس هناك دليلٌ على نجاسة أحدٍ بسبب كفره، بل حتّى المرتد ليس نجساً. نعم، كانت هذه المسألة مطروحةً في برهة من الزمن، أما الآن فقد اتَّضح أمرها للجميع، ولم يَعُدْ هناك من ثمرة تترتَّب على تقسيم الناس إلى: كتابيين؛ وغير كتابيين. إن الثمرة المتصوَّرة على هذه المسألة إنما تتجلى في مسألة أخذ الجِزْية وعدمها، وأما في ما يتعلَّق بالحكم بالطهارة والنجاسة فلا فرق بين الكتابي وغيره من هذه الناحية. والجِزْية هي من قبيل: الأحكام الحكومية، ولها بحثها المستقلّ. ونحن اليوم ـ مثلاً ـ لا نأخذ جِزْية من أهل الكتاب الذين يعيشون معنا في هذا الوطن، بل لا توجد إمكانية لطرح هذه المسألة في العالم المعاصر. وهناك روايتان مأثورتان عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيها: إن النبيّ قد جعل دية الداخلين في ذمّته مساوية لدية المسلمين، بمعنى أن اليهود والنصارى الذين دخلوا في ذمّة المسلمين يتساوون معهم في الدية. وقد سأل الراوي الإمام الصادق عليه السلام عن اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون معهم في تلك الفترة؟ فقال الإمام بأن الحكم يشملهم أيضاً، وأن النبي قد أعطى الذمام لجميع اليهود والنصارى.

ثم إن الجِزْية هي نوع ضريبةٍ يعود تحديدها إلى وليّ الأمر في كلّ عصر. وقد كان يتمّ إعفاء اليهود والنصارى من دفع الكثير من الضرائب التي يدفعها المسلمون، وكانوا في المقابل يدفعون الجِزْية بَدَلاً منها، وأما في بلدنا فإن هؤلاء يدفعون جميع أنواع الضرائب، وعليه لا معنى لفرض الجِزْية عليهم. وإن تحديد الجِزْية وبيان مقدارها يعود إلى تشخيص وليّ الأمر، فهي ـ كما تقدَّم ـ من قبيل: الأحكام الحكومية، بمعنى أنها تتعلَّق برأي وليّ الأمر في كلّ عصر بملاحظة نوع الخراج والضرائب المفروضة على أنواع الخراج؛ لأن هؤلاء يتمتَّعون بجميع حقوق المواطنة، أسوةً بسائر المسلمين، فعليهم في المقابل أن يدفعوا الضريبة، وحيث يتمّ الآن في بلدنا أخذ الضرائب من الجميع بالتساوي لا يكون هناك معنى لفرض الجِزْية عليهم. هذا هو حكم المسألة، وليس الأمر بأننا قد تخلَّينا عن هذا الحكم؛ خوفاً من الرأي العام العالمي، أو أننا إنما لم نَعُدْ نأخذ الجِزْية؛ للتخلُّص من الضغوط الدولية.


*مقتطف من حوار مع الشيخ محمد هادي معرفة

2020/07/16
لماذا لم يذكر القرآن كل الأديان والأنبياء؟

هذا أحد الإشكالات التي أثارها المستشرقون أيضاً. وقد سبق لنا أن ذكرنا الإجابة عنه في الجزء السابع من كتاب التمهيد. إن المستشرقين إنما أثاروا هذا الإشكال بهدف إثبات قلّة معلومات النبي الأكرم في هذا الشأن؛ لأنهم على كل حال بصدد إثبات أن القرآن إنما هو من تأليف شخص النبي الأكرم، وأنه لا صلة له بالوحي والسماء، وإن من بين الأدلة على ذلك المستوى المتدنّي من المعلومات التي يمتلكها في هذا الخصوص! وبطبيعة الحال فقد أثاروا إشكالات أخرى أيضاً، من قبيل: إن بعض المعلومات التي يقدِّمها النبي لا تطابق الحقائق، ولا يمكن لها أن تكون من الوحي في شيءٍ! وقد أجبنا عنها بأجمعها. وحتى في مورد قولهم: إن القرآن يحتوي على أخطاء تاريخية أثبتنا أن الذي وقع في الخطأ التاريخي هم أنفسهم، بمعنى أن الوثائق التي قدَّموها لإثبات وقوع القرآن في الخطأ التاريخي تثبت أنهم هم المخطئون، وليس القرآن.

إن القرآن الكريم قد خاطب العرب، وعليه يجب أن يتكلَّم بلغةٍ يفهمونها، وفي ذلك يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)، بمعنى أن كل نبيٍّ يجب أن يكون على معرفة كاملة ودقيقة بجميع تقاليد وعادات القوم الذين يُرْسَل إليهم، بل ويجب أن يكون مُلِمّاً بجميع أساليبهم اللغوية وحواراتهم اليومية؛ لأنه يعتزم التفاهم معهم، فلو عجز النبيّ عن إثبات وترسيخ أهدافه بين القوم الذين بعث فيهم سيكون عن هداية غيرهم أكثر عجزاً؛ إذ يتعين على قومه وأبناء منطقته إعانته ومساعدته في نشر رسالته، وعليهم أن يشهدوا له بالصدق والصحّة. ومن هنا كان المخالفون يبذلون كل جهدهم من أجل إثبات كفر أبي طالب وعبد الله وحمزة بن عبد المطّلب وغيرهم من القرابة القريبة من النبيّ الأكرم؛ ليخلصوا إلى نتيجة مفادها أن النبيّ لم يكن مرسلاً من الله؛ بدليل أن المقربين من أهل بيته لم يصدِّقوا به ولم يؤمنوا له! ومن هنا كان الأئمة من أهل البيت عليهم السلام يُصرُّون منذ البداية على تكذيب هذا الادّعاء، والقول بأن أبا طالب لم يكن مؤمناً فحَسْب، بل كان من أوّل الناس إيماناً بنبوّة ابن أخيه. إن هذه المسألة لا يخفى تأثيرها من ناحية علم الاجتماع، ولا من ناحية علم النفس، في التبليغ والدعوة. إذن يجب أن يفهم الناس كلامه، وأن لا ينطوي بيانه على أيّ غموض وإبهام، ومن هنا فإنهم كانوا يفهمون القرآن جيداً؛ لأنه كان يستخدم لغتهم وأساليبهم الكلامية. وبطبيعة الحال فإن هذا لا ينافي أن يكون القرآن قد نزل بشكلٍ أجمل وأقوى وأمتن وأرفع من المستوى الأدبي الذي كانوا عليه، حتّى أنه كان معجزةً من هذه الناحية، ولكنه في الوقت نفسه لم يخرج عن حدود معرفتهم.

عندما يتكلَّم النبيّ فمن الواضح أنه يأتي بشواهد تاريخية على إثبات دعوته، بمعنى أنه يأتي بشواهد من تاريخ الأمم والأديان السابقة والأنبياء السابقين. ومن الطبيعي أن الشاهد إنما يكون مقبولاً إذا كان المخاطب يعرفه، بمعنى أنه إذا ذكر اسم أمّةٍ ما يجب أن يكون المخاطبون على معرفة بتلك الأمة، وإذا ذكر اسم نبيٍّ يجب أن يكونوا على معرفة به؛ إذ لا تأثير لمجرد الادّعاء بوجود نبيٍّ في قرية لا نعرف مكانها من الكرة الأرضية، وأنه قام بهذا الإنجاز لقومه، وترك هذا التأثير على أمته وأبناء شعبه؟ فحتّى قصّة عاد، التي تُعَدّ اليوم مثار بحثٍ وجدل؛ حيث لا يزال هناك غموضٌ حولها، وإن البلدة التي كانوا يقطنونها لا تزال إلى اليوم من بين الأماكن التي لم يتمّ اكتشافها، ولكنها في عصر النبيّ ونزول القرآن كانت معروفةً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأحقاف، حيث تقع بين اليمن وحضرموت، ومكانُهم معروفٌ، إلاّ أن السكان هناك معروفون بشدّة البأس والقتال، وإنهم لذلك لا يسمحون بإجراء حفريات في مناطقهم، وقد حاول حتّى بعض تجار حضرموت القيام بهذه الحفريات والتنقيب عن آثار في الأحقاف، وأنفقوا أموالاً طائلة، وحصلوا على بعض الأشياء، بَيْدَ أن سكان تلك المنطقة حالوا دون إتمام المشروع. هناك في الأحقاف الكثير من الرمال التي لا تحتاج إلاّ لقليلٍ من الريح كي تغيِّر معالم المنطقة بلمح البصر.

إن القرآن الكريم يذكر مسألة عادٍ للمخاطبين من العرب وكأنّهم يعرفونهم بداهةً، حيث يقول لهم: إنكم قد رأيتموهم وخبرتموهم. وقال تعالى بشأن قوم لوط عليه السلام: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (الصافّات: 137 ـ 138). فقد كان موضع سكناهم قريباً من الأردن، وكان سكّان شبه الجزيرة العربية في أسفارهم إلى الشام يمرّون بهم عند الصباح، وعند عودتهم كان كلّ شيء على مدى رؤيتهم، بمعنى أن العرب لم ينكروا شيئاً من هذه الأمور التي عرضها القرآن عليهم، والقرآن بدوره إنما أراد بذلك منهم أن يشهدوا له بالأحقّية.

ثم إن القرآن الكريم يقول: (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (النساء: 164)، بمعنى أن هناك أنبياء لم يَرِدْ ذكرُ أسمائهم في القرآن؛ إذ لا توجد فائدةٌ ترجى من ذكر أسمائهم؛ لأن المخاطبين لم يكونوا يعرفونهم. فعلى سبيل المثال: لو مسّت الحاجة إلى ذكر بعض سلاطين الجور من الذين تمّ إسقاطهم، والاستشهاد بهم لداعي الاعتبار، يكفي بطبيعة الحال أن نذكر أسماء ثلاثة منهم؛ إذ من غير المعقول أن نأتي على ذكر أسماء جميع سلاطين وملوك الجور الذين شهدهم العالم، وتمّت الإطاحة بهم جميعاً. يقول علماء البلاغة: إن عدم رعاية أدنى النكات البلاغية من شأنه أن يسقط الكلام من الاعتبار والتأثير، ومن هنا فإننا إذا أردنا الاستشهاد بوجود أممٍ تمرَّدت على الأوامر والأحكام الإلهية، وأنها تعرَّضت للعذاب، وأنه كان هناك أنبياءٌ نجحوا في هداية أقوامهم أو لم ينجحوا في ذلك، يكفي أن نذكر بعض المصاديق والأمثلة القليلة على ذلك. ومن الطبيعة أن تقتصر هذه الأمثلة على الأنبياء الذين يعرفهم المخاطب، دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى ذكر جميع الأنبياء. وعليه فإن عدم ذكر سائر الأنبياء لا ينهض دليلاً على أن المتكلِّم لم يكن يعرفهم، أو أنه لا يعترف لهم بالنبوّة، بل لأنه لم يجِدْ حاجةً أو ضرورة إلى ذكرهم بعد اكتفائه بمَنْ ذكرهم، ومعه يكون ذكرهم زائداً على الحاجة، وغير مُجْدٍ؛ لأنه لا ينطوي على ثمرة بالنسبة إلى المخاطبين.

2020/07/11
إلا عبادك المخلصين: كيف وسوس الشيطان لآدم (ع)؟!

وحقيقة هذا السؤال ترجع إلى أنّ ظاهر الآيات هو تأثير الشيطان في نفس آدم بالوسوسة قال سبحانه: ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ )[1]، وقال سبحانه: ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ)[2]، وعندئذ يتساءل: انّ تطرق الوسوسة إلى آدم من جانب الشيطان، كيف تجتمع مع ما حكاه سبحانه من عدم تسلّط الشيطان على عباد الله المخلصين إذ قال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)[3]، وقال سبحانه حاكياً قول إبليس: ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ )[4]؟

والجواب عن ذلك: انّ المراد من (المُخْلَصِينَ) هم الذين اجتباهم الله سبحانه من بين خلقه، قال تعالى مشيراً إلى ثلة من الأنبياء: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا )[5]، وقال سبحانه مشيراً إلى طائفة من الأنبياء: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).[6]

فإذا كان المخلصون هم الذين اجتباهم الله سبحانه بنوع من الاجتباء، لم يكن آدم عليه السلام يوم خالف النهي من المجتبين، وانّما اجتباه سبحانه بعد ذلك قال سبحانه: (وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ)[7] وعلى ذلك فوسوسة الشيطان لآدم لا تنافي ما ذكره سبحانه في حق المجتبين، وانّ الشيطان ليس له نصيب في حق تلك الصفوة وليس له طريق إليهم.

أضف إلى ذلك: أنّ وسوسة الشيطان في صدور الناس إنّما هي بصورة النفوذ في قلوبهم والسلطان عليهم بنحو يؤثر فيهم، وإن كان لا يسلب عنهم الاختيار والحرية، ويؤيد كون الوسوسة بصورة النفوذ، الإتيان بلفظة « في » في قوله سبحانه: ( يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ )، وأمّا [8]وسوسة الشيطان بالنسبة إلى أبي البشر فلم تكن بصورة النفوذ والتسلّط بشهادة تعديته بلفظة « لهما » أو « إليه »[9]. وهذا التفاوت في التعبير يفيد الفرق بين الوسوستين، وأنَّ إحداهما على نحو الدخول والولوج في الصدور، والأُخرى بنحو القرب والمشارفة.

الهوامش:


[1] الأعراف: 20.

[2] طه: 120.

[3] الحجر: 42.

[4] ص: 82 ـ 83.

[5] مريم: 58.

[6] الأنعام: 87.

[7] طه: 121 ـ 122.

[8] الناس: 5.

[9] الأعراف: 20 ؛ طه: 120.

2020/04/20
هل هناك علاقة بين سورة الكوثر والسيدة الزهراء (ع)؟

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)﴾ [الكوثر: 1 - 3].
عند التأمُّل في هذه السورة المباركة خصوصاً في الفقرة والآية الأولى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، يتّضح لنا جوانب ثلاثة مهمة في عظمة السيدة الصديقة الشهيدة صلوات الله وسلامه عليها وعلى ذريتها:
الجانب الأول:
إنّ المقارنة بين هذه السورة والسورة التي نزلت قبلها وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾ [الضحى: 5] ترشدنا أن العطاء الموعود به لا ينحصر في العطاء الأخروي وهو مقام الشفاعة، وأنّ بيده الصراط والميزان؛ كما ورد في الروايات المعصومية الشريفة.
بل إن قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾ بمقتضى إطلاقها تفيد أنه وعده بعطاءٍ لا حدود له في الدنيا والآخرة.
وأن العطاء الذي وعده به عطاءٌ يُرضيه، وأجلى وأوضح مظاهر العطاء التي منحه الله إياه في الدنيا هو ما قالهُ في السورة الأخرى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، فإن عطاء الكوثر أعظم عطاءٍ أرضاه قلباً وروحاً، وهو عطاء حصل عليه في الدنيا واستمر في الآخرة، ألا وهو العطاء النوراني المعصومي الذي امتدّ بعده حيث إن الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم، الذين انبثقو من رحم الزهراء  عطاء له في الدنيا؛ لأن معارفهم امتداد لرسالته وعطاء له في الآخرة؛ لأنهم أبواب الشفاعة ورفقاءه في مقعد الصدق، ولا أثمن ولا أعظم من هذا العطاء الكبير، فهو المنظور مصداقاً جلياً لقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾.
الجانب الثاني:
أن العطاء في الاستعمالات اللغوية والقرآنية يتضمن معنى السعة والكثرة، فهناك فرق بين الهبة والهدية والعطاء.
فالجميع تمليك وبذل لكن الهبة لا تستبطن أكثر من المنحة وإدخال شيء في حوزة الآخر، والهدية تتضمن المحبة.
وأما الإعطاء فإنه يتضمن السعة والكثرة على سبيل اللطف والإنعام، كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)﴾ [ص: 39 - 40] خصوصاً مع إضافة العطاء إليه تبارك وتعالى من خلال ضمير الجمع وكما في قوله عز وجل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾ [الليل: 5 - 7].
فإن مقام المتقين الصالحين مقام العطاء الذي يفيض سعة وكثرة في القربات والخيرات، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148] فعنوان العطاء متضمن لهذين العنصرين وهما السعة واللطف، لذلك كان المناسب لهذا العطاء أن يكون متعلّقه الكوثر، وهو الخير الكثير كما ذكر اللغويون.
الجانب الثالث:
أنّ الكوثر على صيغة فَوْعَل بمعنى الخير الكثير، والخير الكثير ليس النبوة ولا إظهار الدين والرسالة، وإنما الخير الكثير بقرينة ذيل السورة: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾، هو الخير الكثير في ذريته ونسله لا مطلق الخير الكثير، ولا يوجد صورة أجلى ومصداق أعظم في الخير الكثير من فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وعلى آلها الطاهرين.
فهي بجهادها وعلمها وبكونها حلقة العصمة والطهارة بين النبوة والإمامة، وكونها مبدأ النور في حَديثِ الكِساءِ اليَمانِي، والَّذي منْه هذِه الفَقرةُ التي يُجِيبُ فيها المولَى سُبحَانه عن سُؤالِ جَبرَئِيلَ: قالَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ وَ مَنْ تَحتَ الكِساءِ؟
فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: «هُم أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها، وَبَعلُها وَبَنوها» [راجِعْ كِتابَ البَحرانِي ”عَوالِم العُلومِ“ يَروِيه بسَندٍ جيد عن جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصَاريِّ].
وكونها منبثقاً لأئمة أحد عشر كانوا امتداداً للرسول المصطفى  في تبليغ الرسالة وتمكين الدين، وبهم الفتح وبهم الختم، فلا يوجد صورة للخير الكثير أعظم من ذلك كله.
نسأل الله تبارك وتعالى أن لا يحرمنا في الدنيا خدمتها وولاءها وولاء الأئمة من ذريتها، وأن لا يحرمنا في الآخرة قربها وشفاعتها ورضاها، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

2020/02/15
حرب نفسية: هذا ما تقدمه «الشائعات» لكسب المعركة سياسياً وعسكرياً

إن لاختلاق الشائعات ونشرها من الخطورة والنتائج المشؤومة والأليمة بدرجة أن القرآن المجيد تناولها عدّة مرات، وتعَرَضَ لها من طرق مختلفة مؤثرة، باحثاً محللا لها من أجل ألاّ تجد محلا لها في المجتمع الإسلامي.

قال تعالى: (إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم من الدنيا والآخرة).

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يقل «الذين يشيعون الفاحشة، بل قال: (الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) وهذا يحكي عن الأهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك..

بحثان مهمان:

1 ـ ما معنى إشاعة الفحشاء؟

بما أن الإنسان مخلوق اجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه لَهُ حُرْمة يجب أن لا تقِلَّ عَنْ حرْمتِهِ الشخصيَّةِ، وطهارةُ كِلّ مِنْهُما تُساعِدُ في طهارةِ الآخر، وقبح كلِّ منهما يسري إلى صاحِبه. وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كُلَّ عمل ينشر السموم في المجتمع، أو يدفعه نحو الهاوية والانحطاط.

ولهذا السبب حارب الإسلام ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة، لأن الغيبة تكشف العيوب الخفية، وتسيء إلى حرمة المجتمع.

أوجب الإسلام ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول.

وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء، حتى أن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: «المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له»(1). فالسبب هو ما ذكرنا.

وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشدّة ـ ارتكاب الذنوب في العلن، كإشاعة الفحشاء، فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم، تأتي على المجتمع مِن أساسه فتنخُره حتى تَهْدِمَهُ وَتَذْروهُ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار، أو لمحاصرتها على الأقل. أمّا إذا زدنا النار لهيباً، ونقلناها من مكان إلى آخر، فإنّها ستحرق الجميع، ولا يمكن بَعْدَئذ إطفاؤُها أو السيطرة عليها.

وإضافة إلى ذلك، فإنّه لو عظم الذنب في نظر عامّة الناس، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد، فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة. أمّا اشاعة الفحشاء والذنوب والتجاهر بالفسق، فمن شأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد. ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس، ويسهل التورط فيها.

وقد جاء عن النبي الأكرم (ص) قوله «من أذاع فاحشة كان كمبتدئها»(2).

وممّا يلزم ذكره أنّ لإشاعة الفحشاء صوراً عديدةً فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة ونَقلِها بين الناس، واخرى يكون بانشاء مراكِزَ للفساد ونشر الفحشاء، وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس، أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب، ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملاحظة الدين، ولا رعاية لقانون ولا التفات لآداب عامّة، وكل هذه مصاديق لإشاعة الفحشاء. لانّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً فتأمل.

2 ـ مصيبة الشائعات

إن اختلاق ونشر الشائعة الكاذبة يُودِّي إلى سَيْطَرةِ القَلَقِ واستبدادِ الاضطراب وانعدام الثقةِ، وهذِهِ مِن أهَمِّ ما تَرْمي إليه الحَرْبُ النفسيّةُ للمستعمرين بغية إثارة الْبَلْبلةِ وَنشْرَ الفَزَع، ليتسنى لهم التَّغَلُّب العَسكريّ والسياسيّ.

فعندما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة، يقوم بنشر الشائعات، لبث الرعب والقلق في الناس، ليشغلهم بأنفُسهم، وليتسنَّى لَهُ الظُهُورُ عليهم والتمكُّنُ مِنهُم في كل مجال، واختلاق الشائعة من الأسلحة المخربة المستعملة ضدّ الصالحين والطيبين، لِعَزْلِهِم وإقصاءِ الناس عنهم.

فقد لجأ المنافقون - في زمن النبي (ص) - إلى أخَسَّ السبل لتلويث سمعته والحط من شأنه المقدّس لدى الناس، باختلاق شائعة تمسّ طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم، ممّا أدى إلى تشويش أفكار المسلمين، وإدخال الحزن إلى قلوبهم، بحيث اضطرب الجميع. وأصاب المؤمنين القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة، ومرّغ أنُوفَ المنافقين في الوَحلِ بما اختلقوا هذه الشائعة. وجعلهم عبرة للآخرين .

ورغم أن اختلاق الشائعة يعد نوعاً من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد الناس فيها الحرية… إلاَّ أن من أسبابها ودوافعها الانتقام، وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات الكبيرة. وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية.

ولا يهمنا أن نعلم دوافع اختلاق الشائعات، إنّما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في براثن الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس، وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن نعلّم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها، وإلاّ فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو.


1 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، باب ستر العيوب.

2 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، باب القبح.

*مقتطع من تفسير الأمثل / الجزء الحادي عشر / صفحة -49-

2019/10/28
مسار الإنسان بين البيئة والاختيار.. نماذج من الواقع

قد يظن البعض أن الانسان لا مناص له من تحكم البيئة فيه وهي التي تحدد مساره وتبني له منظومة فكرية تلائم أجواءها ومعتقداتها وتقاليدها... وليس له الفرار من تلك البيئة مطلقا !

ولكن هذا الظن يتلاشى حين نستعرض بعض النماذج التي أعلنت ثورتها على بيئاتها، حيث أن الانسان مختار في أفعاله ودائما ما يعيش الصراع بين الحق والباطل، وحين بروز الحق له جليا وتبيان زيف البيئة التي يعيشها يقف بين جهتي الحق والباطل وله أن يقرر جهة مصيره، فمهما كان عدد وشأن أصحاب الجهة الباطلة، ومهما كانت العوامل المؤثرة عليه والعواقب التي تنتظره فهو يستطيع الفرار من سجن بيئته المنحرفة بحكم اختياره وإرادته .

ومن النماذج التي جابهت بيئاتها بجدارة وعلو همة.. آسيا بنت مزاحم - امرأة فرعون - حيث يستعرض القران الكريم موقفها السامي حينما تبينت لها الحقيقة - برؤية معاجز نبي الله موسى (ع) - كيف حلقت روحها الى سماء الحرية وخلصت من قيود الدنيا الزائلة ولم تبالي للمغريات التي تكبل الانسان عادة كالمركز الذي كانت فيه كـ (ملكة مصر) والترف الذي تعيشه... وآمنت برسالة نبي الله موسى (ع) مع علمها بالعواقب التي تنتظرها وقد ختمت حياتها بالشهادة في سبيل الله حيث ثبتوا يديها ورجليها بالمسامير تحت أشعة الشمس الحارقة ووضعوا على صدرها صخرة كبيرة وهي تدعوا: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وقد استجاب الله لها، بل خلد موقفها الى يوم القيامة.

ومن اللطائف في عبارة: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) التي تشير الى أن هذه المرأة الجليلة القدر رغم كل ما تنعم به وتملكه من خدم وحشم وزخرف الدنيا ومركزها كملكة مصر... ترى أن الخلاص منه نجاة من الهلاك مادام في ظل فرعون! لرسوخ ايمانها وعلو همتها، فلا مغريات الدنيا أثنتها ولا ضغوط العواقب من العذاب وغيره أخضعتها لترك الحق.

وكذلك نموذج السحرة الذين هجروا النعيم الذي كانوا فيه مع فرعون وأعلنوا إيمانهم وثورتهم ضد بيئتهم الفرعونية ولم يبالوا لوعيد فرعون وعذابه بعدما تبين لهم الحق جليا حيث (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)([1]).

وكنموذج آخر أصحاب الكهف: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)([2]).

وهم فتية قاموا ضدَّ طاغوت زمانهم، وقد استطاعوا أن ينسلخوا من حياتهم المترفة والمليئة بما لذ وطاب، بل انسلخوا من حب الجاه - كما هو حال آسيا والسحرة - إذ كانوا يحتلون مراكز رفيعة المستوى في دولة الطاغوت.. فأطلقوا كلمة الحق بوجه الطاغوت وقد علموا أنهم عرَّضوا حياتهم للخطر بشهادة قوله تعالى: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) ([3]).

التفاتات:

1  - رب قائل يقول: كيف استطاع قوم كانوا يعيشون في وسط ملوث بالشرك والكفر أن ينطقوا بكلمتهم الحقة ضد الطواغيت؟! مع ملاحظة تركهم للنعيم الدنيوي الذي كانوا مترفين فيه؟!
الجواب: ليس من الصدفة أن يبرز هؤلاء دون غيرهم ضد طواغيت زمانهم بكلمات خلدتها السماء، بل لابد من وجود اعتدال مسبق في قلوبهم ومقدمات عملية في سلوكهم هيئتهم لهذا التصدي المفعم بالإيمان الراسخ، فمع ذلك يُنبذ منهج: (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا) ([4]).

​2  - قد يبرر البعض بأن الأقليات ليس لها القدرة على المواجهة فيكون الاستسلام هو الحل الأصلح ! ولكن مما تقدم من شواهد قرآنية يظهر أن هذا الرأي ليس في محله .
نعم قد يستدعي الأمر الى توقيت معين أو تجهيز أو غير ذلك من عوامل إنجاح قضية الحق وهذا ليس استسلاما فتدبر.

 3 - قد يسرق الباطلُ شكل الحق فيشتبه على من لا يملك المعيار العلمي والبصيرة، ولكن من يملكهما لا وجود للاشتباه عنده كما حصل مع السحرة الذين خروا سجدا حينما تبين لهم الحق جليا، إذ كانوا على يقين أن ما جاء به موسى (ع) ليس من السحر ومع وجود اعتدال في القلب ومقدمات - كما تقدم - وقتهم من عمى البصيرة، ويشير الى وجود اعتدال في قلوبهم قوله تعالى: (وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ).
ومن هنا يتّضح ـ أيضاً ـ مدى ضعف وعدم واقعيّة أساطير الماديين، وخاصة الماركسيين حول نشأة الدين وتكوّنه، فإنّهم اعتبروا أساس كلّ حركة هو العامل الاقتصادي، في حين أنّ الأمر هنا كان بالعكس تماماً، لأنّ السّحرة قد حضروا حلبة الصراع نتيجة ضغط أجهزة فرعون من جانب، والإغراءات الاقتصادية من جانب آخر، إلاّ أنّ الإيمان بالله قد محا كلّ هذه الاُمور، فقد إنهار المال والجاه الذي وعدهم فرعون به عند أعتاب إيمانهم، ووضعوا أرواحهم العزيزة هديّة لهذا العشق!

([5]).


[1] طه: 72 – 73 .

[2] الكهف: 14 .

[3] الكهف: 20.

[4] المائدة: 104 .

[5] تفسير الأمثل: ج10 ص41 .

2019/09/24