قرآنيات

ماذا ينتظرني بعد سقوط «المملحة».. خرفات منشؤها التشاؤم!
«التطيّر والتفاؤل».. «التطيّر» مأخوذ من مادة «طير» وهو معروف، إذ يعني ما يطير بجناحين في الجوّ، ولما كان العرب يتشاءمون غالبا من بعض الطيور، سمي الفأل غير المحبوب تطيّرا، وهو في قبال «التفأل» ومعناه الفأل الحسن المحبوب.

[اشترك]

وقد وردت في القرآن الإشارة إلى هذا المعنى مرارا وهي أن المشركين الخرافيّين كانوا يواجهون أنبياءهم بحربة التطير، كما نقرأ ذلك في قصّة موسى وأصحابه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)[1].

وفي الآيات ـ محل البحث ـ أظهر قوم «ثمود» المشركون رد فعلّهم في مقابل نبيّهم «صالح» بالتطير أيضا.

وأساسا، ونقرأ في سورة «يس» أن المشركين تطيّروا من مجيء رسل المسيح عليه‌السلام الى «انطاكية» (يس ـ ١٨).

فإنّ الإنسان لا يمكن أن يقف أمام الحوادث على حال واحدة، فلا بدّ أن يفسّر آخر الأمر لكل حادثة علة ... فإذا كان الإنسان مؤمنا موحدا لله، فإنّه يرجع العلل إلى ذاته المقدسة تعالى طبقا لحكمته، فكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. ولو استند إلى العلم في تحليل العلة والمعلول الطبيعيين، فستحل مشكلته ايضا، وإلّا فإنّه سينتج أوهاما وخرافات لا أساس لها .. أوهاما لا حد لها .. وأحدها «التطير» والفأل السيء!

مثلا كان عرب الجاهلية إذا رأوا الطائر يتحرك من اليمين نحو الشمال عدوّه فألا حسنا، وإذا رأوه يتحرك من الشمال «اليسار» نحو اليمين عدّوه فألا سيئا، ودليلا على الخسران أو الهزيمة! وغيرها من الخرافات الكثيرة عندهم[2].

واليوم يوجد ـ من قبيل هذه الخرافات والأوهام ـ الكثير في مجتمعات لا تؤمن بالله، وإن حققت نصرا من حيث العلم والمعرفة، بحيث لو سقطت «مملحة» على الأرض أقلقتهم إلى حد كبير! ... ويستوحشون من الدار أو البيت أو الكرسي المرقم بـ ١٣، وما زالت سوق المنجمين وأصحاب الفأل رائجة غير كاسدة! فهناك مشترون كثر «للطالع والبخت»!.

إلّا أنّ القرآن جمع كل هذه الأمور فجعلها في جملة موجزة قصيرة فقال : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ).

أجل، فطائركم وطالعكم وانتصاركم وهزيمتكم وتوفيقكم وفشلكم كله عند الله، الله الحكيم الذي يهب عطاياه لمن كانت عنده اللياقة، واللياقة بدورها انعكاس تنعكس عن الإيمان والأعمال الصالحة أو الطالحة!.

وهكذا فإنّ الإسلام يدعو أتباعه ليخرجهم من وادي الخرافة إلى الحقيقة، ومن المفازة[3] إلى الصراط المستقيم.

الهوامش:


[1] الأعراف ، ١٣١. [2] يشير الكميت الأسدي إلى بعض هذه الخرافات في قصيدته البائية فيقول : ولا أنا ممن يزجر الطير همّه أصاح غراب أم تعرض ثعلب ولا السانحات البارحات عشية أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب (المصحح). [3] المفازاة تأتي بمعنى الفوز ، وتأتى بمعنى الهلاك ... فهي من الأضداد في اللغة ـ وهنا معناها الصحراء المهلكة (المصحح).
2022/12/24
السؤال الصعب: نجمع المال ونسعى للمناصب.. أم نزكّي أنفسنا؟!
كلما ازداد عدد أقسام -جمع قسم- القرآن ازدادت أهمية الموضوع، وفي سورة الشمس المباركة أكبر عدد من الأقسام ، خاصّة وأنّ القسم بالذات الإلهية المقدسة تكرر ثلاث مرات.

[اشترك] 

ثمّ جاء التركيز على أن النجاح والفلاح في تزكية النفس ، وأن الخيبة والخسران في ترك التزكية.

وهذه في الواقع أهم مسألة في حياة الإنسان ، والقرآن الكريم إذ يطرح هذه الحقيقة إنّما يؤكّد على أنّ فلاح الإنسان لا يتوقف على الأوهام ولا على جمع المال والمتاع ونيل المنصب والمقام ، ولا على أعمال أشخاص آخرين (كما هو معروف في المسيحية بشأن ارتباط فلاح الإنسان بتضحية السيد المسيح) ... بل الفلاح يرتبط بتزكية النفس وتطهيرها وسمّوها في ظل الإيمان والعمل الصالح.

وشقاء الإنسان ليس أيضا وليد قضاء وقدر وبالإجبار ، ولا نتيجة مصير مرسوم ، ولا بسبب فعل هذا وذاك ، بل هو فقط بسبب التلوث بالذنوب والانحراف عن مسير التقوى.

وفي الأثر أن زوج العزيز (زليخا) قالت ليوسف لما أصبح حاكم مصر: «إنّ الحرص والشهوة تصير الملوك عبيدا ، وأن الصبر والتقوى يصير العبيد ملوكا ، فقال يوسف : قال الله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)» (١).

وعنها أيضا قالت لما رأت موكب يوسف مارا من أمامها: «الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا» (٢)

نعم، عبادة النفس تؤدي إلى وقوع الإنسان في أغلال الرقية بينما تزكية النفس توفّر أسباب التحكم في الكون.

ما أكثر الذين وصلوا بعبوديتهم لله تعالى درجة جعلتهم أصحاب ولاية تكوينية ، ومكنتهم بإذن الله أن يؤثروا في حوادث هذا العالم وأن تصدر منهم الكرامات وخوارق العادات!!

إلهي! أعنّا على أنفسنا وعلى كبح جماح أهوائنا.

إلهي! لقد ألهمتنا «الفجور» و «التقوى» فوفقنا للاستفادة من هذا الإلهام.

إلهي! دسائس الشيطان خفية غامضة في نفس الإنسان ، فوفقنا لمعرفتها.

آمين يا ربّ العالمين

الهوامش: (١) المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١١٦. (٢) المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١١٧.
2022/12/14
من هم الراسخون في العلم؟!
هذا التعبير القرآني ورد في موضعين. هذا أحدهما هنا والآخر في سورة النساء، إذ يقول: (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)[1].

[اشترك]

وبحسب المعنى اللغوي لهذه الكلمة، فإنّها تعني الذين لهم قدم ثابتة في العلم والمعرفة.

طبيعي أن يكون معنى الكلمة واسعا يضمّ جميع العلماء والمفكّرين، إلّا أن بين هؤلاء أفرادا متميّزين لهم مكانتهم الخاصّة، ويأتون على رأس مصاديق الراسخين في العلم وتنصرف إليهم الأذهان عند استعمال هذه الكلمة قبل غيرهم.

وهذا هو الذي تقول به بعض الأحاديث التي تفسّر الراسخين في العلم بأنّهم النبيّ صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم وأئمّة الهدى عليهم ‌السلام، فقد سبق أن قلنا إنّ لكلمات القرآن ومفاهيمه معاني واسعة، ومن مصاديقها البارزة الشخصيّات النموذجية السامية التي تذكر أحيانا وحدها في تفسير تلك الكلمات والمفاهيم.

عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر «الباقر» عليه‌ السلام: قول الله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قال: «يعني تأويل القرآن كلّه، إلّا الله والراسخون في العلم، فرسول الله أفضل الراسخين، وقد علّمه جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه»[2].

 

وهناك أحاديث كثيرة أخرى في أصول الكافي[3] وسائر كتب الحديث بهذا الشأن، جمعها صاحبا تفسير «نور الثقلين» وتفسير «البرهان» في ذيل هذه الآية. وكما قلنا فإنّ تفسير الراسخين بالعلم بأنّهم النبيّ صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم وأئمّة الهدى عليهم‌ السلام لا يتعارض مع المفهوم الواسع الذي يشمله هذا التعبير، فقد نقل عن ابن عبّاس أنّه قال «أنا أيضا من الراسخين في العلم» إلّا أنّ كلّ امرئ يتعرّف على أسرار تأويل آيات القرآن بقدر سعته العلمية، فالذين يصدرون في علمهم عن علم الله اللامتناهي لا شكّ أعلم بأسرار تأويل القرآن، والآخرون يعلمون جزءا من تلك الأسرار.

الراسخون في العلم يعرفون معنى المتشابهات

ثمّة نقاش هامّ يدور بين المفسّرين والعلماء حول ما إذا كانت عبارة (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) بداية جملة مستقلّة، أم أنّها معطوفة على (إِلَّا اللهَ). وبعبارة أخرى: هل أنّ معنى الآية وأنّه (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)؟ أم أنّه (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)؟ إنّ لكلّ فريق من مؤيّدي هذين الاتجاهين أدلّته وبراهينه وشواهده. أمّا القرائن الموجودة في الآية والأحاديث المشهورة المنسجمة معها فتقول إنّ (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) معطوفة على «الله» ، وذلك:

أوّلا: يستبعد كثيرا أن تكون في القرآن آيات لا يعلم أسرارها إلّا الله وحده.

ألم تنزل هذه الآيات لهداية البشر وتربيتهم؟ فكيف يمكن أن لا يعلم بمعانيها وتأويلها حتّى النبيّ الذي نزلت عليه؟ هذا أشبه بمن يؤلّف كتابا لا يفهم معاني بعض أجزائه سواه!

وثانيا: كما يقول المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان»: لم يسبق أن رأينا بين علماء الإسلام والمفسّرين من يمتنع عن تفسير آية بحجّة أنّها من الآيات التي لا يعرف معناها سوى الله، بل كانوا جميعا يجدّون ويجتهدون لكشف أسرار القرآن ومعانيه.

وثالثا: إذا كان القصد هو أنّ الراسخين في العلم يسلّمون لما لا يعرفونه، لكان الأولى أن يقال: والراسخون في الإيمان يقولون آمنّا به. لأنّ الرسوخ في العلم يتناسب مع العلم بتأويل القرآن، ولا يتناسب مع عدم العلم به والتسليم له.

ورابعا: أنّ الأحاديث الكثيرة التي تفسّر هذه الآية تؤكّد كلّها أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وعليه فيجب أن تكون معطوفة على «الله». الشيء الوحيد الباقي هو إنّ خطبة «الأشباح» للإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة يستفاد منها أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل الآيات ويعترفون بعجزهم.

«وأعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب الحجوب»[4].

ولكن فضلا عن كون هذه العبارة تناقض بعض الأحاديث المنقولة عنه عليه ‌السلام التي قال فيها: إنّ الراسخين في العلم معطوفة على «الله» وإنّهم عالمون بتأويل القرآن، فإنّها لا تنسجم أيضا مع الأدلّة التي سبق ذكرها[5]. وعليه فيلزم تفسير هذه الجملة من خطبه «الأشباح» بما يتّفق والأسانيد الأخرى التي بين أيدينا.

الهوامش:
[1] النساء : ١٦٢. [2] تفسير العيّاشي : ج ١ ص ١٦٤. [3] اصول الكافي : ج ١ ص ٢١٣. [4] نهج البلاغة : الخطبة ٩١. [5] انظر تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٣١٥.
2022/12/03
كيف يستفيد الشيطان من ’الأغاني’ و ’القوة العسكرية’ في السيطرة علينا؟!
بالرغم من أنّ المخاطب في الآيات (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ... وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً). هو الشيطان ، وأنّ الله جلّ جلاله يتوعده ويقول له : افعل كل ما تريده في سبيل غواية الناس ، واستخدم كل طرقك في ذلك ، إلّا أنّ هذا الوعيد ـ في الواقع ـ هو تهديد وتنبيه لنا نحن بني الإنسان حتى نعرف الطرق التي ينفذ منها الشيطان والوسائل التي يستخدمها في وساوسه وإغوائه.

[اشترك]

الطريف في الأمر أنّ الآيات القرآنية تشير إلى أربعة طرق وأساليب مهمّة وأساسية من أساليب الشيطان ، وتقول للإنسان : عليك بمراقبة نفسك من خلال الجوانب الأربعة هذه :

أ: البرامج التبليغية التي تجد دلالتها في التعبير القرآني (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) حيث اعتبر بعض المفسّرين أنّها تعني ـ فقط ـ أنغام الموسيقي الشهوانية المثيرة ، والأغاني المبتذلة ، ولكن هذا المعنى يتسع حتى يشمل جميع البرامج الدعائية التي تقود للانحراف والتي تستخدم ـ عادة ـ الأجهزة الصوتية والسمعية.

لهذا فإنّ أوّل برامج الشيطان هو الاستفادة من هذه الأجهزة. هذه القضية تتوضح في زماننا هذا أكثر ، لأنّ عالمنا اليوم هو عالم الأمواج الراديوية ، وعالم الدعاية والتبليغ الواسع ، سواء كان على الصعيد السمعي أو البصري. حيث أنّ الشياطين وأحزابهم في الشرق والغرب يعتمدون على هذه الأجهزة ويخصصون قسما كبيرا من ميزانيتهم للصرف في هذا الطريق حتى يستعمروا عبيد الله ، ويحرفوهم عن طريق الحق والاستقلال ، ويزيغوا بهم عن طريق الهداية والإيمان والتقوى ، ويجعلون منهم عبيدا تابعين لا حول لهم ولا قوة.

ب : الاستفادة من القوة العسكرية : وهذا لا يخص زماننا حيث أنّ الشياطين يستخدمون القوّة العسكرية لأجل الحصول على مناطق للنفوذ. إنّ الأداة العسكرية تعتبر أداة خطرة لكل الظالمين والمستكبرين في العالم. فهؤلاء وفي لحظة واحدة يصرخون في قواتهم العسكرية ويرسلونها إلى المناطق التي تحاول الحصول على حريتها واستقلالها وتسعى إلى الاعتماد بقوات على قدراتها الخاصّة.

وفي عصرنا الحاضر نرى أنّهم نظّموا ما يسمونه بقوات (التدخل السريع) والذي هو نفس مفهوم (الإجلاب) القرآني ، وهذا يعني أنّهم جعلوا جزءا من قواتهم العسكرية على شكل قوات خاصّة كي يستطيعوا إرسالها في أسرع وقت إلى أي منطقة من مناطق العالم تتعرض فيها مصالحهم غير المشروعة للخطر ، لكي يقضوا بواسطة هذه القوات على أي حركة تطالب بالحق وتنادي بالاستقلال.

وقبل أن تصل القوات السريعة الخاصّة هذه ، يكون هؤلاء قد هيأوا الأرضية بواسطة جواسيسهم الماهرين ، والذين هم في الواقع كناية عن جيش المشاة (الرجّالة).

إنّ هؤلاء في مخططاتهم هذه قد غفلوا عن أنّ الله سبحانه وتعالى قد وعد أولياءه الحقيقيين ـ في نفس هذه الآيات ـ بأنّ الشيطان وجيشه لا يستطيع أن يسيطر عليهم.

ج : البرامج الاقتصادية ذات الظاهر الإنساني : من أساليب الشيطان الأخرى المؤثرة في النفوذ والغواية ، هي المشاركة في الأموال والأنفس ، وهنا نرى أيضا : أنّ بعض المفسّرين يخصص هذه المشاركة ب (الربا). أمّا المشاركة في الأولاد فيحصر معناها بـ «الأولاد غير الشرعين» (١).

في حين أنّ هاتين الكلمتين لهما معاني أوسع ، إذ تشمل جميع الأموال المستحصلة عن طريق الحرام ، والأبناء غير الشرعيين وغيرهم. فمثلا في زماننا الحاضر نشاهد أنّ الشياطين المستكبرين يقترحون دائما استثمار وتأسيس الشركات ، وإيجاد مختلف المصانع والمصالح الاقتصادية في الدول الضعيفة ، وتحت غطاء هذه الشركات تتم مختلف أشكال النشاطات الخطرة والضارّة بالبلد المستضعف ، حيث يرسل الشياطين جواسيسهم تحت عنوان خبراء فنيين أو مستشارين اقتصاديين أو مهندسين تقنيين ، ويقوم هؤلاء جميعا بامتصاص خيرات البلد الذين هم فيه بأبرع الحيل وأظرفها ، ويقفون حائلا بين البلد وبين تحقيقه لاستقلاله الاقتصادي على بنية اقتصادية تحتية حقيقية.

وعن طريق تأسيس المدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والمراكز السياحية ، فإنّهم يشاركون هذه الدول الضعيفة في أبنائها حيث يحاولون أن يستميلوا هؤلاء نحوهم ، وأحيانا عن طريق توفير (المنح الدراسية) لشباب ، فإنّهم يقومون (بجلبهم) نحو ثقافتهم ويشاركونهم في أفكارهم ، وما يترتب على ذلك من فساد العقيدة.

ومن الأساليب الرائجة والمخربة لهؤلاء الشياطين إيجاد مراكز الفساد تحت غطاء الفنادق العالمية وإيجاد المناطق الترفيهية ودور السينما والافلام المبتذلة وأمثال ذلك ، حيث لا تكون هذه الوسائل أدوات لترويج الفحشاء وزيادة أولاد الزنا فحسب ، بل تؤدي إلى انحراف جيل الشباب وتميّعهم وتغرّبهم ، وتصنع منهم أشخاصا فاقدين للإرادة. وكلما أمعنا النظر في دسائسهم ومكرهم تكشفت لنا الأخطار الكبيرة الكامنة في هذه الوساوس الشيطانية.

د : برامج التخريب النفسي : من البرامج الأخرى التي يتبعها الشياطين ، الاستفادة من الوعود والأمنيات الكاذبة التي يطلقونها بمختلف الحيل ، فهؤلاء الشياطين يعدّون مجموعة ماهرة ومتمكنة من علماء النفس لغواية الناس البسطاء منهم والأذكياء ، كلا بما يناسب وضعه ، ففي بعض الأحيان يصورون لهم حالهم بأنّهم سيصبحون قريبا من الدول المتمدنة والكبيرة ، أو أنّ شبابهم لا مثيل له ، ويستطيع الشباب في بلدانهم أن يصل من خلال إتباعه برامجهم إلى أوج العظمة ، وهكذا في بلدانهم يغرقوهم في هذه الخيالات الواهية التي تتلخّص في جملة (وَعِدْهُمْ).

في أحيان أخرى يسلك الشياطين طريقا معكوسة ، إذ يصوّرون للبلد بأنّه لا يستطيع مطلقا مواجهة القوى الكبرى ، وأنّهم متأخرون عن هذه القوى بمائة عام أو أكثر ، وبهذا الأسلوب تزرع المبررات النفسية لاستمرار التخلف وعدم انطلاق جهود البلد الضعيف نحو العمل والبناء الحقيقي.

بالطبع هذه القصّة لها بدايات بعيدة ، وطرق نفوذ الشيطان فيها لا تنحصر بواحد أو اثنتين.

ولكنّ (عباد الله) الحقيقيين والمخلصين ، وبالاتكاء على الوعد القرآني القاطع بالنصر ، والذي تضمنته هذه الآيات ، سيقومون بمحاربة الشياطين ولا يسمحون بالتردد يساور أنفسهم ، وهم يعلمون ـ برغم الأصوات الكثيرة للشياطين ـ أنّهم سينتصرون ، وإنّهم بصبرهم وصمودهم وبإيمانهم وتوكلهم على الله سوف يفشلون الخطط الشيطانية ، وذلك قوله تعالى : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

٣ ـ أمّا لماذا خلق الله الشيطان؟ فقد بحثنا ذلك في الآية (٣٩) من سورة البقرة. وفيما يخص وساوس الشيطان وأشكالها ولبوساتها ، ومعنى الشيطان في القرآن ، فقد بحثنا كل ذلك في ذيل الآية (١٣) من سورة الأعراف. والآية (٣٩) من سورة البقرة من هذا التّفسير.

*مقتطف من كتاب تفسير الأمثل لـ "آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي" - مرجع ديني
الهوامش: 
(١) في معاني المفردات تراجع مفردات الراغب ، ومجمع البيان.
(2) وردت روايات متعدّدة في أنّ مشاركة الشيطان في الأولاد تعني الأبناء غير الشرعيين ، أو المنعقدة نطفتهم من مال حرام ، أو انعقاد النطفة في لحظة غفلة الوالدين عن الخالق ، ولكن ـ كما قلنا مرّات ـ إنّ هذه التفاسير تبيّن جانبا من المصداق الواضح وهي ليست دليلا على حصر المعنى. (راجع تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة ١٨٤).  
2022/11/19
2022/11/08
أعطيناك «فاطمة».. ما علاقة ذرية النبي (ص) بسورة الكوثر؟
الكوثر له معنى واسع يشمل كل خير وهبه الله لنبيّه صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، ومصاديقه كثيرة، لكن كثيرا من علماء الشيعة ذهبوا إلى أنّ «فاطمة الزهراء عليها ‌السلام» من أوضح مصاديق الكوثر، لأنّ رواية سبب النزول تقول: إنّ المشركين وصموا النّبي بالأبتر، أي بالشخص المعدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

[اشترك]

ومن هنا نستنتج أن الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء عليها‌ السلام، لأن نسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة ... وذرية الرسول من فاطمة لم يكونوا امتدادا جسميا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب، بل كانوا امتدادا رساليا صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمّة الدين الإثني عشر، أو الخلفاء الإثني عشر بعد النّبي كما أخبر عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث المتواترة بين السنة والشيعة، وكان منهم أيضا الآلاف المؤلفة من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسّرين وقادة الامّة.

والفخر الرازي في استعراضه لتفاسير معنى الكوثر يقول: القول الثّالث «الكوثر» أولاده. قالوا لأنّ هذه السّورة إنّما نزلت ردّا على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد فالمعنى أنّه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم ‌السلام والنفس الزكية وأمثالهم[1].


الهوامش: [1] تفسير الفخر الرازي، ج ٣٢، ص ١٢٤.
2022/11/03
هل الشيطان شخصية حقيقية أم هو من هواجس النفس الإنسانية؟!

 

يبدو أن السائل يبحث عن الفوارق بين وسوسة الشيطان وهواجس النفس، ولا يقصد التشكيك في وجود الشيطان من الأساس، لكون ذلك من المسلمات عند جميع المسلمين، فكل من يؤمن بالقرآن وبرسالة الإسلام لا يمكنه التشكيك في وجود الشيطان.

[اشترك]

وإذا افترضنا وجود من يشكك في ذلك بالفعل فلا يمكن مناقشته في وجود الشيطان قبل مناقشته في أمور أخرى سابقة للإيمان بوجوده، فإثبات وجود الشيطان يأتي في مرتبة متأخرة بعد إثبات وجود الله وإثبات نبوة النبي ومحمد وإثبات كون القرآن من الله، ولا نظن أن السائل يقصد كل ذلك، وعليه سوف نختصر الإجابة في بيان بعض الفوارق بين وسوسة الشيطان وسوسة النفس.

من الواضح أن إثبات كون الشيطان شخصية حقيقية لا ينفي وجود هواجس نفسية والعكس صحيح أيضاً، فلكل واحد منهما وجوده الخاص الذي لا ينفي وجود الآخر، فليس من الصحيح تفسير وسوسة الشيطان بالهواجس النفسية أو تفسير الهواجس النفسية بوسوسة الشيطان، ويبدو أن التشابه بينهما يعود إلى كونهما يمثلان شعوراً نفسياً واحداً، فالإنسان قد لا يميز بين الشعور النفسي حال الوسوسة الشيطانية وبين الشعور النفسي حال الهواجس النفسية، فيخال للإنسان إنهما أمراً واحداً، إلا أن حقيقة الاختلاف لا تعود إلى جهة الشعور النفسي، وإنما تعود إلى جهة المضمون والمحتوى، فالوسوسة الشيطانية لها طابع وغاية تختلف عن طابع وغاية والوساوس النفسية، وقبل بيان ذلك لابد من الإشارة إلى أن النصوص الإسلامية تؤكد على وجود نوعين من الوسوسة، الأولى تعود إلى النفس، والثانية تعود إلى الشيطان.

فالنسبة لوسوسة النفس قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لكل قلب وسواس، فإذا فتق الوسواس حجاب القلب نطق به اللسان وأخذ به العبد، وإذا لم يفتق القلب ولم ينطق به اللسان فلا حرج).

وبالنسبة لوسوسة الشيطان قال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إذا وسوس الشيطان لأحدكم فليتعوذ بالله، وليقل بلسانه وقلبه آمنت بالله ورسوله مخلصا له الدين).

وإذا كانت النصوص قد فرقت بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان فمن الممكن أن نكتشف تلك الفوارق من خلال طبيعة الشيطان ووظيفته وطبيعة النفس ووظيفتها.

فإذا نظرنا للنفس نجد أن الأهواء والشهوات والغرائز هي التي تتحكم في ميولها، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)، فالآية تتحدث عن طبيعة المتاع في الدنيا وفي نفس الوقت تتحدث عن طبيعة ما تهواه النفس الإنسانية، وعند هذا المستوى يتساوى جميع البشر فمطامعهم واحدة ورغباتهم مشتركة، ومن الطبيعي في هذه المرحلة أن تحدث كل إنسان نفسه بالحصول على متع الحياة، إلا أن هناك مرحلة ثانية فيها ينقسم البشر إلى مؤمن وكافر وهي المرحلة التي اشارت لها الآية بقوله: (وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) في إشارة إلى وجود حياة أخرى غير حياة الدنيا، وعند هذه النقطة تأتي وسوسة الشيطان، حيث تكون وظيفته صرف الإنسان عن حياة الآخرة وتركيز همة في الحياة الدنيا، فالشيطان يستغل رغبة الإنسان وميله النفسي لملذات الحياة فيحجبه عن رؤية الآخرة، ومن هنا يمكننا القول إن كل وسوسة في الصدر تدعو الإنسان لعمل فيه مخالفة لما أراد الله هي من الشيطان، أما ما يجول في النفس من رغبات وتمنيات دون أن تكون مدخلاً يستغله الشيطان هي من وساوس الصدر التي لا يحاسب الإنسان عليها، وهذا صريح كثير من الروايات، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (تجاوز الله لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تنطق به أو تعمل). وعنه صلى الله عليه وآله: (أن الله تبارك وتعالى عفا لأمتي عن وساوس الصدر) وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه سئل عن حديث النفس، فقال: من يطيق ألا تحدث نفسه؟!.

وعليه فإن أساس وسوسة الشيطان وغايتها هي إضلال الإنسان، بينما وسوسة النفس هي رغبات النفس وشهواتها، فيمكن للنفس أن توسوس بشيء ويمكن تحقيق ذلك الشيء بالحلال، إلا أن وظيفة الشيطان هي ترغيبها في تحقيقه بالحرام، وأفضل وسيلة لمعرفة وسوسة الشيطان هي معرفة ما يريده الشيطان من الإنسان، وقد بينت آيات القرآن ذلك في كثير من الآيات، ومن خلال الوقوف على تلك الآيات يمكن التعرف على نوع الوسوسة الشيطانية، قوله تعالى: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، وقال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وقال تعالى: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا)، وقال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) إلى غير ذلك من الآيات التي تبين اهداف الشيطان وغاياته.

2022/10/29
آية قرآنية ستحطّم لديك «القلق» و «الخوف» من المستقبل!

إن الاضطراب والقلق من أكبر المصاعب في حياة الناس، والنتائج الحاصلة منهما في حياة الفرد والمجتمع واضحة للعيان، والاطمئنان واحد من اهمّ اهتمامات البشر، وإذا حاولنا أن نجمع سعي وجهاد الإنسانية على طول التاريخ في بحثهم للحصول على الاطمئنان بالطرق الصحيحة وغير الصحيحة، فسوف تتكوّن لدينا كتب كثيرة ومختلفة تعرض تلك الجهود.

[اشترك]

يقول بعض العلماء: عند ظهور بعض الأمراض المعدية ـ كالطاعون ـ فإنّ من بين العشرة الأفراد الذين يموتون بسبب المرض ـ ظاهرا ـ أكثرهم يموت بسبب القلق والخوف، وعدّة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة.

وبشكل عام «الاطمئنان» و «الاضطراب» لهما دور مهمّ في سلامة ومرض الفرد والمجتمع وسعادة وشقاء الإنسانية، وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها، ولهذا السبب الّفت كتب كثيرة في موضوع القلق وطرق التخلّص منه، وكيفيّة الحصول على الراحة، والتاريخ الإنساني مليء بالمواقف المؤسفة لتحصيل الراحة، وكيف أن الإنسان يتشبّث بكلّ وسيلة غير مشروعة كأنواع الاعتياد على المواد المخدّرة لنيل الاطمئنان النفسي.

ولكن القرآن الكريم يبيّن أقصر الطرق من خلال جملة قصيرة ولكنّها كبيرة المعنى حيث يقول: (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)!

ولتوضيح هذا المعنى ومعرفة عوامل القلق والاضطراب لا بدّ من ملاحظة ما يلي:

أوّلا: يحدث الاضطراب مرّة بسبب ما يجول في فكر الإنسان عن المستقبل المظلم، فيحتمل زوال النعمة، أو الأسر على يد الأعداء، أو الضعف والمرض، فكلّ هذه تؤلم الإنسان، لكن الإيمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم، الله الذي تكفّل برحمة عباده.. هذا الإيمان يستطيع أن يمحو آثار القلق والاضطراب ويمنحه الاطمئنان في مقابل هذه الأحداث ويؤكّد له انّك لست وحيدا، بل لك ربّ قادر رحيم.

ثانيا: ومرّة يشغل فكر الإنسان ماضيه الأسود فيمسي قلقا بسبب الذنوب التي ارتكبها وبسبب التقصير والزلّات، ولكن بالنظر إلى أن الله غفّار الذنوب وقابل التوبة وغفور رحيم، فإنّ هذه الصفات تمنح الإنسان الثقة وتجعله أكثر اطمئنانا وتقول له: أعتذر إلى الله من سالف أعمالي السيّئة واتّجه إليه بالنيّة الصادقة.

ثالثا: ضعف الإنسان في مقابل العوامل الطبيعيّة، أو مقابل كثرة الأعداء يؤكّد في نفسه حالة القلق وانّه كيف يمكن مواجهة هؤلاء القوم في ساحة الجهاد أو في الميادين الأخرى؟

ولكنّه إذا تذكّر الله، واستند إلى قدرته ورحمته.. هذه القدرة المطلقة التي لا يمكن أن تقف أمامها أية قدرة أخرى، سوف يطمئنّ قلبه، ويقول في نفسه: نعم إنني لست وحيدا، بل في ظلّ القدرة الإلهية المطلقة!

فالمواقف البطولية للمجاهدين في ساحات القتال، في الماضي أو الحاضر، وشجاعتهم النادرة حتّى في المنازلة الفردية لهم، كلّها تبيّن حالة الاطمئنان التي تنشأ في ظلّ الإيمان.

نحن نشاهد أو نسمع أن أحد الضبّاط المؤمنين فقد بصره مثلا أو أصابته جراحات كثيرة بعد قتال شديد مع أعداء الإسلام ولكن عند ما يتحدّث كأنّه لم يكن به شيء، وهذه نتيجة الاستقرار والطمأنينة في ظلّ الإيمان بالله.

رابعا: ومن جانب آخر يمكن أن يكون أصل المشقّة هي التي تؤذي الإنسان، كالإحساس بتفاهة الحياة أو اللاهدفية فيها، ولكن المؤمن بالله الذي يعتقد أن الهدف من الحياة هو السير نحو التكامل المعنوي والمادّي، ويرى أن كلّ الحوادث تصبّ في هذا الإطار، سوف لا يحسّ باللاهدفيّة ولا يضطرب في المسيرة.

خامسا: ومن العوامل الأخرى أن الإنسان مرّة يتحمّل كثيرا من المتاعب للوصول إلى الهدف، ولكن لا يرى من يقيّم أعماله ويشكر له هذا السعي، وهذه العملية تؤلمه كثيرا فيعيش حالة من الاضطراب والقلق، وأما إذا علم أن هناك من يعلم بهذا السعي ويشكره عليه ويثيبه، فليس للاضطراب والقلق هنا محل من الأعراب.

سادسا: سوء الظنّ عامل آخر من عوامل الاضطراب والذي يصبّ كثيرا من الناس في حياتهم ويبعث فيهم الألم والهمّ، ولكنّ الإيمان بالله ولطفه المطلق وحسن الظنّ به هي من وظائف الفرد المؤمن التي سوف تزيل عنه حالة العذاب والقلق وتحلّ محلّها حالة الاطمئنان والاستقرار.

سابعا: الهوى وحبّ الدنيا من أهمّ عوامل القلق والاضطراب، وقد تصل الحالة في عدم الحصول على لون خاص في الملبس، أو أي شيء آخر من مظاهر الحياة البرّاقة أن يعيش الإنسان حالة من القلق قد تستمر أياما وشهورا.

ولكن الإيمان بالله والتزام المؤمن بالزهد والاقتصاد وعدم الإستئسار في مخالب الحياة المادية ومظاهرها البرّاقة ينهي حالة الاضطراب هذه، وكما قال الإمام علي عليه‌ السلام: «دنياكم هذه أهون عندي من ورقة في فمّ جرادة تقضمها» فمن كانت له مثل هذه الرؤية كيف يمكن أن تحدث عنده حالة الخوف والقلق نتيجة لعدم الحصول على شيء من وسائل الحياة الماديّة أو فقدانها؟!

ثامنا: من العوامل المهمّة الأخرى الخوف من الموت، وبما أن الموت لا يحصل فقط في السنّ المتأخّرة، بل في كافّة السنين وخصوصا أثناء المرض والحروب، والعوامل الأخرى فالقلق يستوعب كافّة الأفراد. ولكن إذا اعتقدنا أن الموت يعني الفناء ونهاية كلّ شيء (كما يعتقده المادّيون) فإنّ الاضطراب والقلق في محلّه، ولا بدّ أن يخاف الإنسان من هذا الموت الذي ينهي عنده كلّ الآمال والأماني والطموحات. ولكن الإيمان بالله يمنحنا الثقة بأنّ الموت هو باب لحياة أوسع وأفضل من هذه الحياة، وبرزخ يمرّ منه الإنسان إلى دار فضاؤها رحب، فلا معنى للقلق حينئذ، بل أن مثل هذا الموت ـ إذا ما كان في سبيل الله يكون محبوبا ومطلوبا.

إن عوامل الاضطراب لا تنحصر بهذه العوامل المذكورة فقط، فهناك عوامل كثيرة أخرى، ولكن كلّ مصادرها تعود إلى ما ذكرناه أعلاه.

وعند ما رأينا أن كلّ هذه العوامل تذوب وتضمحلّ في مقابل الإيمان بالله سوف نصدّق انّه (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

الطمأنينة والخوف من الله

طرح بعض المفسّرين هنا هذا السؤال، وخلاصته: نحن قرأنا في الآية أعلاه (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ومن جانب آخر فإنّ الآية ٢ من سورة الأنفال تقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فهل أن هاتين الآيتين متناقضتين؟

الجواب: إن الطمأنينة المحمودة هي ما كانت في مقابل العوامل المادية التي تقلق الإنسان ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ ولكن المؤمنين لا بدّ وان يكونوا قلقين في مقابل مسئولياتهم، وبعبارة أخرى: أن المؤمنين لا يشكون من الاضطراب المدمّر الذي يشكّل غالبية أشكال القلق والاضطرابات، ولكن القلق البنّاء الذي يحسّ به الإنسان تجاه مسئولياته أمام الله فهو المطلوب ولا بدّ منه، وهذا هو الخوف من الله.

ما هو ذكر الله، وكيف يتمّ؟

«الذكر» كما يقول الراغب في مفرداته: حفظ المعاني والعلوم، ويستعمل الحفظ للبدء به، بينما الذكر للاستمرار فيه، ويأتي في معنى آخر هو ذكر الشيء باللسان أو القلب، لذلك قالوا: أن الذكر نوعين «ذكر القلب» و «ذكر اللسان» وكلّ واحد منها على نوعين: بعد النسيان أو بدونه.

وعلى أية حال ليس المقصود من الذكر ـ في الآية أعلاه ـ هو ذكره باللسان فقط فنقوم بتسبيحه وتهليله وتكبيره، بل المقصود هو التوجّه القلبي له وادراك علمه وبأنّه الحاضر والناظر، وهذا التوجّه هو مبدا الحركة والعمل والجهاد والسعي نحو الخير، وهو سدّ منيع عن الذنوب، فهذا هو الذكر الذي له كلّ هذه الآثار والبركات كما أشارت إليه عدّة من الرّوايات.

فمن وصايا النّبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم للإمام علي عليه‌ السلام يقول له: «يا علي، ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كلّ حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله اكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله عز وجل عنده وتركه».

وقال الإمام علي عليه السلام: «الذكر ذكران: ذكر الله عز وجل عند المصيبة، وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرّم الله عليك فيكون حاجزا».

ولهذا السبب اعتبرت بعض الرّوايات الذكر وقاية ووسيلة دفاعية، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إن النّبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم خاطب أصحابه يوما فقال لهم: اتّخذوا جننا، فقالوا يا رسول الله امن عدو وقد أظلنا؟ قال: لا، ولكن من النار، قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله والله اكبر».

وإذا ما رأينا أن بعض الرّوايات تتحدّث عن «ذكر الله» انّه رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم فذلك لأنه صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم يذكّر الناس بالله تعالى، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) قال: «بمحمّد تطمئن القلوب وهو ذكر الله وحجابه».

*من كتاب: تفسير الأمثل ج 7 – آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي 
2022/10/26
الدليل من القرآن الكريم على «وجوب الحجاب»

نص القرآن بشكل واضح وصريح على وجوب ستر المرأة لجسمها وزينتها، وبالتالي لا يجوز لها مطلقاً الانكشاف أمام الناظر الأجنبي، ولم يجادل في ذلك أحد من فقهاء الأمة الإسلامية بجميع طوائفها ومذاهبها.

[اشترك]

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله  تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، والآية نص صريح على وجوب احتجاب المرأة من جميع الرجال ما عداء زوجها وأبوها وأخوها وابنها إلى أخر ما بينته الآية من مستثنيات.

وكذلك من الآيات التي تؤكد ضرورة احتجاب المرأة عن الأجانب بشكل مطلق هي قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ)، فالآية أوجبت على من يتعامل مع النساء أن يكون التعامل معهن من وراء حجاب، وبالتالي لا يجوز سؤالهن والتحدث معهن بدون أن يكون هناك ساتر يسترهن عن السائل، ومع أن كلمة الحجاب في الآية تشمل الحجاب الطبيعي مثل الجدار كما تشمل أيضاً الحجاب من القماش، إلا أن البعض حاول أن يخصص الحجاب في الآية بالحجاب الطبيعي فقط، وإذا سلمنا بذلك فإن القدر المتيقن من الآية يكفي في إثبات حرمة النظر للمرأة بشكل مباشر وبدون حاجب يمنع من الرؤية.

ومن الآيات التي تحدثت عن الجلباب والخمار كوصف عملي لحجاب المرأة هي قوله هي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلاَ يُؤذَينَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)، وقوله تعالى: (وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ..)، فالآية الأولى تتحدث عن إدناء الجلباب على الجسم بحيث لا تبدو معه زينة المرأة، وتحدثت الآية الثانية عن الخمار الذي تختمر به المرأة، فكلمة خمار في اللغة هي كل ما يستر، وسميت الخمرة خمراً لأنها تستر العقل وتحجبه، وخمار المرأة هو ما تغطي به رأسها، وخمار الرجل عمامته، وعليه لم تقف الآيات عند حدود الأمر الكلي بضرورة الحجاب وإنما فصلت في بعض مناحيه مثل إدناء الجلباب والضرب بالخمار.

ومن ذلك يتضح أن حكم الإسلام في ما يخص لباس المرأة هو ضرورة الستر لجسمها وزينتها من كل ناظر أجنبي ولا يجوز لها التخلي عن ذلك إلا في حالة واحدة فقط وهي إذا كبر سنها وأصبحت من القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً، وهذا صريح قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ومع أن الله سمح للمرأة التي لا ترجو نكاحاً بوضع ثيابها إلا أنه اشترط عليها عدم التبرج بزينة، كما نصحها في آخر الآية بضرورة الالتزام بالعفة لكونها خير لهن.

وإذا اتضح ذلك يتضح أن ترك المرأة للحجاب لضرورة العمل لا يجوز، وإذا تعارض العمل مع الحجاب وجب ترك العمل، وعلى كل مكلف الرجوع إلى مرجعه لأخذ الفتوى الشرعية منه مباشرة. 

2022/10/22
’وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ’.. هل يوحى إلى غير الأنبياء؟!

 

لا شكّ أنّ للوحي في القرآن الكريم معاني مختلفة: فقد جاء أحيانا بمعنى الصوت الواطئ، أو القول همسا. وهذا هو المعنى الأصلي لهذا اللفظ في اللغة العربية.

[اشترك]

وجاء أحيانا بمعنى الإشارة الرمزية إلى شيء ما، مثل: (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١).

وأحيانا بمعنى الإلهام الغريزي، مثل (أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٢).

وأحيانا بمعنى الأمر التكويني، الأمر الذي يصدر بلسان الخلقة، مثل (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٣).

وورد أحيانا بمعنى الإلهام الذي يلقى في قلوب المؤمنين، وإن لم يكونوا أنبياء أو أئمّة، مثل: (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٤).

إلّا أنّ أهمّ موارد استعماله في القرآن المجيد هي النداءات الإلهيّة الخاصّة بالأنبياء، مثل : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (٥).

فبناء على هذا، فإنّ لكلمة الوحي معنى واسعا وجامعا يشمل هذه الموارد، ولهذا فسوف لا نعجب من استعمال كلمة الوحي في شأن أمّ موسى.

*مقتطف من تفسير الأمثل

2022/10/18
تذكرة من السيد محمد باقر السيستاني: لا تفرح.. الحياة معبر والزوجة والأولاد ودائع

 

قال الله سبحانه وتعالى في آية معبرة من سورة آل عمران من القران الكريم: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة آل عمران: آية 188).

إنّ في هذه الآية بلاغاً أكيداً للإنسان من خلال أصلين مهمين من أصول الطاعة لله سبحانه وتعالى وتزكية النفس وسلامة الإنسان في الدنيا والآخرة:

الأصل الأوّل: هو أن لا يفرح الإنسان بما أوتي..

ومرجعه إلى أن لايندمج الإنسان مع النعم الدنيوية من الزوجة والأولاد والإمكانات فرحاً بما يملأ وجوده، وينسى به الهاجس الأصلي الذي ينبغي أن يكون هو منشأ سروره وفرحه ومحل اهتمامه وهو التوفيق في تحصيل رضى الله سبحانه وتعالى والاستعداد للدار الآخرة.

فإنّ هذه الحياة الدنيا مَعْبَرٌ، وما الزوجة والأولاد والأموال إلاّ رفقاء وودائع، وإذا انتبه الإنسان واقعاً إلى هذا الأمر ووعاه حقّاً صَلُحَ أمر دينه.

فمشكلة الإنسان هي وضع الدنيا في موضع لا يليق بها، وهو أن تملأ نفس الإنسان بالفرح والسرور وتكون الهمّ الشاغل والمهيمن على الإنسان.

إنّ الإنسان ينبغي أن يكون نظره شاخصاً دائماً إلى غايته التي ينتهي إليها بعد أيام قلائل ويكون ذاك محل اهتمامه الأول وأساس فرحه وسروره ويكون مليئاً بتذكر ذاك المقصد الأصلي، مثله في ذلك مثل المسافر الذي يكون نظره شاخصاً إلى المقصد ولا يغفل في أية لحظة عنه.

 

والأصل الثاني: هو أن لا يحب الإنسان أن يُحمَد على ما لم يفعله من خدمة أو صدق أو إخلاص أو عبادة أو غير ذلك، وبمثابة ذلك أن لا يحب أن يُحمَد على خصلة لم يتصف بها أو اتصف بها بمستوى ما، ولكنه يحب أن يوصف ويحمد على مستوى أعلى من ذلك من علم أو دراسة أو عدالة أو زهد أو خلق أو نسب أو مكانة موروثة للآباء والأجداد.

فمحبة الإنسان أن يُحمَد من قبل الناس على ما لم يفعله هي من أصول الصفات الذميمة التي ترسي في داخل الإنسان أساساً خاطئاً، وهو أساس التجمّل الكاذب والرياء الزائف والازدواجية في السلوك والنفاق في الادعاء والمبالغة في بعض المظاهر.

وإنّ تزكية النفس من هذه الصفة لهي فرض عين على كل إنسان، إذ يترتب على هذه الصفة لا محالة ارتكاب الخطايا واقتراف الذنوب، وإنّ الله سبحانه لن يزكي امرأً يحب أن يُحمَد على ما لم يفعل ويمدح بما لا يتصف به.

فعلى المرء أن يقتنع بما هو عليه، ويكره أن يُحمَد على ما يزيد على ذلك، ويتجنب أن يكون انطباع الناس عنه أزيد مما هو عليه مما يعلمه عن نفسه بصدق، ويعلمه الله تعالى عنه وهو العالم بالسرائر والمطلع على الضمائر.

وإذا جانب المؤمن هذه الصفة فعلاً كان ذلك باباً للفلاح والسلامة عند الله سبحانه وتعالى والنجاة غداً.

إنّ الإنسان المؤمن حقاً ليحذر من مدحه أزيد من حذره من ذمّه وتعييبه؛ خشية أن يكون هذا المدح غير مستحق، ويكون هو قد تسبّب بنفسه من خلال تصنعه وفرضه ورغبته في صدور هذا المديح فيكون آثماً ذميماً عند الله عز وجل

ولذلك نجد أنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ذكر في خطبة المتقين في توصيف صفات المتقين: (إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَه، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ) (نهج البلاغة: 305).

فليتأمل كل امرئٍ حال نفسه ويحاسبها قبل يوم حسابه، ليصلح ما فسد من شأن أمرها، ليخرج من الدنيا سليما، وان غدا لناظره قريب.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتزكية نفوسنا وصلاح أحوالنا حتى نلقاه كراما عليه كما فعل بأوليائه الصالحين.

والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين

الأحد 12 ربيع1 1444هـ

[اشترك]

2022/10/15
2022/10/12
نزل بلغتهم: هل القرآن الكريم حجة على العرب فقط؟
نزول القرآن بلسان عربي لا يعني أن حجيته مختصة بالعرب، وذلك لأن الحجة لا تدور مدار النص وإنما تدور مدار الحقائق التي يحتويها النص.

[اشترك]

فالحجة في نظر العقلاء هي كل حقيقة تستوجب العلم واليقين، وليس للغة دور في ذلك سواء أنها وسيلة لنقل الحقائق، ومن هنا لا يعد القرآن خطاباً للإنسان بوصفه عربياً وإنما خطاب للإنسان بوصفه عاقل، فإذا افترضنا نزول القرآن بلغة أخرى لكانت حقائقه حجة على العرب كما هو حجة على غيرهم، وعليه فإن الجميع في قبال حجية القرآن في مرتبة واحدة حتى لو تباينت لغاتهم، ويعود الأمر في ذلك إلى طبيعة الحقائق العلمية والمعارف الإنسانية فهي بذاتها عابرة للزمان والمكان واللغة، ولذلك فإن المعارف الإنسانية واحدة لجميع البشر وبجميع اعراقهم ولغاتهم، ولم تعاني الإنسانية في ما يتعلق بتبادل العلوم والمعارف، فلو كانت الحقائق العلمية مرتبطة بلغاتها الأصلية لأصبح لكل لغة معارفها الخاصة التي لا يعرفها غيرهم، وعليه فإن نزول القرآن باللغة العربية لا يشكل عائقاً يمنع الآخرين من الوقوف على حقائق القرآن، فكما أن اللغة اليونانية لم تمنع العرب من التعرف على الفلسفات اليونانية كذلك لغة القرآن لا تمنعهم من الوقوف على  حقائقه، وخير دليل على ذلك واقع المسلمين اليوم حيث نجد نسبة غير العرب أكثر بكثير من نسبة العرب.

 ومع ذلك يبقى هنالك سؤال وهو: لماذا نزل القرآن بالعربية دون غيرها من اللغات؟ والاجابة على هذا السؤال يرتبط بمميزات اللغة العربية ولا ربط له بمبحث الحجية؛ وذلك لأن الحجية مبحث له علاقة بالدلالة بينما لغة النص له علاقة بمبحث البيان، ومع أن هناك تداخل بين الأمرين إلا أن لكل واحد مبحثه الخاص، فعلماء الأصول يبحثون الدلالة والحجية بينما يبحث علماء اللغة البلاغة والبيان، وقد بين علماء اللغة بالفعل مميزات اللغة العربية وسر افضليتها على جميع اللغات.

2022/09/14
’إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ’: هل النساء أكثر حنكة ودهاءً من الرجال؟!
الكيد في اللغة هو الحيلة أو التدبير في الخفاء، ولذلك لا يأتي ارتجالاً وإنما يكون مسبوقاً بالتفكير والتخطيط والتدبير، وعليه فإن الكيد هو معالجة العمل والتلبس به بعد التخطيط له على وجه الخفاء.

[اشترك]

وهو بهذا المعنى لا يختلف عن المكر فكليهما لا يكونان إلا بتدبير خفي، فمن معاني المكر التخطيط الخفي للوصول الى أمر ما به مضرة الآخر أو نفعه، ومن هنا لا يعد الكيد والمكر أمراً سلبياً بالمطلق وإنما يتبدل بتبدل العنوان، فإن تعلق بالخير كان حسناً وإن تعلق بالشر كان قبيحاً، فهناك بعض الآيات التي نسبت الكيد والمكر لله تعالى مثل وقوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وقوله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) فإمهال الله للكفار والمشركين وعدم معاجلتهم بالعذاب يعد نوعاً من كيد الله بهم، فالكافر بظنه يحسب أنه يخادع الله وهو في الواقع لا يخدع إلا نفسه، قال تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) وبالتالي يضرون أنفسهم من حيث لا يشعرون.

 فالمكر والمكيدة وإن كانت تطلق في الغالب على من يفعل الشر إلا أنه يصح إطلاقها على من يفعل الخير أيضاً، فالمكر بالأعداء والكيد بهم في الحروب يعد فعلاً حسناً طالما كان ذلك جهاداً في سبيل الله، بينما المكر والمكايدة التي يكون فيها ظلماً للآخرين وتعدياً على الحقوق تعد قبيحة عقلاً ومحرمة شرعاً.

والفعل الذي يتم التدبير له في الخفاء ليس خاص بالنساء وإنما يشمل الرجال أيضاً، قال تعالى: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِين) حيث نسبت الآية الكيد لإخوة يوسف وهم من الرجال، وبالتالي يتساوى الرجال والنساء في هذه الصفة ويبقى الكلام عن الفرق بين كيد النساء وكيد الرجال.

وقد وصف كيد النساء بأنه عظيم في قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)، والظاهر من الآية أن هذا وصف على لسان عزيز مصر وليس وصفاً مباشراً من الله للنساء، وبالتالي تكون الآية في مقام الإخبار عما وقع بالفعل ولا علاقة لها بإقرار أو تكذيب ما كان يعتقده عزيز مصر في النساء، إلا أن البعض يعد سكوت القرآن وعدم تعقيبه بالنفي أو الإثبات إقرارا لما جاء على لسان العزيز، ومما لا شك فيه أن امرأة العزيز كادت بيوسف وأرادت أن توقعه في الحرام، وعليه فإن قول العزيز صحيح من جهة كون ما حدث من كيدهن،  ويبقى الكلام في موضوع كونه عظيم، وهل هو بمعنى أن كيد النساء دائماً يكون عظيماً؟ أم في بعض الموارد يكون كذلك وفي موارد أخرى لا يكون عظيماً؟ أم أنه فقط عظيم في نظر العزيز؟ أم أنه عظيم في حال تم مقارنته مع كيد الرجال؟

فبحسب القرائن العقلية لا يمكن الجزم بأن أي كيد من النساء يكون بالضرورة عظيماً بالمطلق، فقد يكون كيد بعض الرجال أعظم من كيد بعض النساء، ولا يمكن أن نقول إن كيد النساء عظيم فقط في تصور العزيز لأن القرآن لم يعقب بالنفي أو الإثبات، فإن كان أمراً مخالفاً للواقع لوجب الاستدراك عليه، والذي يبدو أن كيد النساء عظيم إذا قورن بكيد الرجال في الجملة وليس بالجملة، أي أن الصفة الغالبة في النساء أنهن اكثر حنكة ودهاء من الرجال في وضع الحيل والتدابير ورسم الخطط، وبخاصة في الأمور الاجتماعية والاسرية والشواهد على ذلك كثيرة، والسبب في ذلك أن المرأة ضعيفة بطبعها ولذا تميل إلى الحيلة والتخطيط للوصول إلى مآربها، وكلما كان الشخص ضعيفاً كلما كان أكثر مكراً ومكيدة، وعليه فإن المكيدة في النساء قد تكون مطلوبة فبها تتمكن من تحويل ضعفها إلى قوة، وبالتالي تحافظ بها على حقوقها وتمنع وقوع الضرر والظلم بها، وبالتالي ليست صفة سلبية بالمطلق إذا تم توظيفها في الخير دون الشر.

ويمكن أن يقال إن كيد المرأة عظيم لأنها أكثر تأثيراً في الرجال بما حباها الله من جاذبية خاصة للرجال، ولذلك يقول السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية: (ان كيدكن عظيم وذلك أن الرجال أوتوا من الميل والانجذاب إليهن ما ليس يخفى وأوتين من أسباب الاستمالة والجلب ما في وسعهن ان يأخذن بمجامع قلوب الرجال ويسخرن أرواحهم بجلوات فتانة وأطوار سحارة تسلب أحلامهم وتصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون وهو الكيد وإرادة الانسان بالسوء ومفاد الآية ان العزيز لما شاهد ان قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (ع) على امرأته)

وبناءً على متقدم لا تصح المقارنة بين كيد الشيطان وبين كيد النساء، فقد وصف الله كيد الشيطان بالضعف في مقابل كيد الله تعالى، مضافاً إلى أن الآية جاءت في مقام تشجيع المؤمنين على القتال، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)، فكيد الشيطان ضعيف لأن ليس له سلطة على الإنسان وبإمكان الإنسان التعرف على حيله وخططه والعمل على تجنبها، وفي نفس الوقت قد يكون كيد الشيطان عظيماً إذا تم العمل على وفقه مثل من يقتل الأنبياء استجابة لحيل الشيطان ومكائده، وعليه فإن وصف الكيد بالضعف له اعتبار بينما وصفه بالعظمة له اعتبار آخر.

2022/08/08
النبي يتحدى نصارى نجران.. آية المباهلة تكشف تفاصيل الحادثة
في آية المُباهلة لماذا ذكر النّساء ولم يقل بناتنا لأنّ الزهراء بنتُّ النبيِّ (ص)؟

[اشترك]

إنَّ معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(1).

إنَّ معنى الآية المباركة هو أنَّ نصارى نجران ونظراً لعدم قبولهم بالبراهين التي قدَّمها رسولُ الله (ص) لهم على فساد دعواهم أنَّ عيسى المسيح ابن الله تعالى، نظراً لذلك أمرَه اللهُ تعالى أنْ يدعوهم للمباهلة، فمَن وقعت عليه اللعنةُ والعذابُ الفوري فهو الكاذب والمبطِل، وأمرَه اللهُ تعالى بأنْ يدعوهم للحضور للمباهلة بأنفسِهم وبخاصَّتِهم من الأولاد والنساء، وأنْ يحضرَ هو بنفسه وخاصَّته من النساء والأولاد، وذلك لأنَّ الإنسان لا يُعرِّض نفسَه وخاصَّته للهلاك، فالحضورُ للمباهلة بالنفس وبأخصِّ الأهل من النساء والأولاد فيه تعبيرٌ عن الاطمئنان بصوابيَّة ما هو عليه من مُعتقَد وبأنَّه وخاصَّتَه لن يُصابوا بمكروه.

فالآيةُ لم تكن بصدد تحديد الهويّة الشخصيَّة لمَن يلزمُه الحضور للمباهلة وإنَّما هي بصدد بيان أنَّ المباهلة إنَّما تكونُ بالنفس وبأخصِّ الأهل.

والنبيُّ (ص) في مقام تطبيق الآية وامتثالها اختار عليَّاً (ع) ليكون مصداقًا للنفس واختار فاطمة (ع‌) لتكون مصداقاً لخاصَّته من النساء، واختار الحسنين (ع) ليكونا مصداقًا لأبنائه. وذلك ثابتٌ بالتواتر عن الفريقين(2).

وأما أنَّ فاطمة (ع‌) بنتٌّ فذلك لا يقتضي أنَّ عنوان النساء غير صادقٍ عليها، فهي بنتٌ وهي من النساء المنتسبن إليه، وأمَّا لماذا لم يقل بناتنا بدلاً عن قوله: ﴿نِسَاءنَا﴾ فلأنَّه أراد أن يكون العنوان شاملاً لمثل الأخوات والزوجات، فالغرض هو بيان امكانيَّة دخول خاصَّة كلٍّ من الطرفين في المُباهلة، فلو قال: (بناتنا) لكان ذلك مقتضيًا لتوهُّم المنع من دخول مثل الأخت والزوجة في المباهلة والحال أنَّ الغرض من الآية هو بيان أنَّ لكلٍّ من طرفي المُباهلة اختيار مَن شاء من خاصَّته من النساء.

وعليه فالفضيلةُ التي تميَّزت بها فاطمة (ع‌) دون غيرها من خاصِّة النبيِّ (ص) هي أنَّ النبيَّ (ص) اختارها دون سواها من خاصَّته من النساء وذلك يُعبِّرُ عن أنَّها أقربُ خاصَّته اليه وأحظاهنَّ عنده، فهي أخصُّ خاصَّتِه من النساء وأَليَقهنَّ بهذا المقام وإلا لكان قد اختار غيرها، إذ أنَّ أفعال النبيِّ (ص) لا تصدرُ جزافاً أو محاباةً نظراً لعصمتِه.

ولو كان في النساء مَن يفضُلُ فاطمة (ع‌) أو يُضاهيها في الفضل لاختارها دون فاطمة (ع‌) أو لكان قد اختارها مع فاطمة، فقد اختار مع الحسنِ (ع) الحسينَ (ع) فكان له أنْ يختار مع فاطمة غيرها لو كان ثمة من يُدانيها في الفضل، فعدمُ اختيار غيرِها معها دليلٌ على تميُّزِها عمَّن سواها.

ثم إنَّ النبيَّ (ص) صرَّح حينذاك وفي مواردَ كثيرة أنَّ فاطمة وعليَّاً والحسنَ والحسينَ (ﻉ) هم أهلُ بيتِه وخاصَّته دون سواهم(3).

الهوامش: 1- سورة آل عمران / 61. 2- لاحظ صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص120، صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج15 / ص411، المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص147، 150، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص301، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج1 / ص185، السنن الكبرى -البيهقي- ج7 / ص63، أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص68، تفسير السمعاني -السمعاني- ج1 / ص327، شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج1 / ص182،164،163،161،160،158،156، زاد المسير -ابن الجوزي- ج1 / ص339،338، جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج3 / ص410،409، تفسير ابن أبي حاتم -ابن أبي حاتم الرازي- ج2 / ص663، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج1 / ص245، تفسير ابن زمنين -أبي عبد الله محمد بن أبي زمنين- ج1 / ص292 وغيرهم كثير. 3- سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص361 قال: هذا حديث حسن صحيح، مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج12 / ص451، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص54،55، ج33 ص281، 335، شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج2 / ص130،128،127،126،106،100،97،63،50، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص283 قال: اسناده جيد روى من وجوه عن شهر، ج10 / ص347 قال: رواه الترمذي مختصراً وصححه من طريق الثوري، أسد الغابة -ابن الأثير- ج4 / ص29، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص144،143،140،139، ج42 / ص98، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج8 / ص42 وغيرهم كثير.
2022/07/25
ما المقصود بـ ’ النبأ العظيم’؟
وردت عدّة روايات تبيّن أنّ المقصود بالنبأ العظيم في هذه الآية المباركة هو ولاية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فمن هذه الروايات ما يلي:

[اشترك]

أوّلاّ: في كتاب الكافي للكلينيّ ( 1/418، ح34 ) : الحسين بن محمّد ، عن معلَّى بن محمّد ، عن محمّد بن أورمة ومحمّد بن عبد اللَّه ، عن عليّ بن حسّان ، عن عبد اللَّه بن كثير ، عن أبي عبد اللَّه - عليه السّلام - في قوله - تعالى - : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ » قال : « النَّبَأِ الْعَظِيمِ » الولاية .

ثانياً: وفي كتاب الكافي أيضاً ( 1 / 207 ، ح 3 ): محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن أبي عمير أو غيره ، عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر - عليه السّلام - قال : قلت له : جعلت فداك ، إنّ الشّيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ » .قال : ذلك إليّ ، إن شئت أخبرتهم ، وإن شئت لم أخبرهم . ثمّ قال : لكنّي أخبرك بتفسيرها . قلت : « عمّ يتساءلون » . قال : فقال :هي في أمير المؤمنين - عليه السّلام - كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول : ما للَّه آية هي أكبر منّي ، ولا للَّه من نبأ أعظم منّي .

وفي روضة الكافي ( 8 / 30 ، ح 4 ) : خطبة لأمير المؤمنين - عليه السّلام - وهي خطبة الوسيلة ، قال فيها : وإنّي النّبأ العظيم .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم ( 2 / 401) : حدّثني أبي ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن الرّضا - عليه السّلام - في قوله - تعالى - : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ » قال : قال أمير المؤمنين - عليه السّلام - : ما للَّه نبأ أعظم منّي ، وما للَّه آية أكبر منّي ، ولقد عرض فضلي على الأمم الماضية على اختلاف ألسنتها فلم تقرّ بفضلي .

وفي عيون الأخبار للشيخ الصدوق ( 2 / 6 ، ح 13  ) ، بإسناده إلى ياسر الخادم : عن الرّضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن الحسين بن عليّ - عليهم السّلام - قال : قال رسول اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وآله - لعليّ : يا عليّ ، أنت حجّة اللَّه وأنت باب اللَّه ، وأنت الطريق إلى اللَّه ، وأنت النّبأ العظيم .

وفي شرح الآيات الباهرة ( 2 / 758 ، ح 3 ) : قال محمّد بن العبّاس - رحمه اللَّه - : حدّثنا أحمد بن هوذة ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن عبد اللَّه بن حمّاد ، عن أبان بن تغلب قال : سألت أبا عبد اللَّه - عليه السّلام - عن قول اللَّه : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ » . فقال : هو عليّ - عليه السّلام - ، لأنّ رسول اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وآله - ليس فيه خلاف.

 

2022/07/24
تشملنا جميعاً: ثلاثة أيّام صعبة في مصير الإنسان!
قال تعالى في سورة مريم: «سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا..».

[اشترك]

إنّ التعبير بـ (سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) يبيّن أن في تاريخ حياة الإنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيّام صعبة:

يوم يضع قدمه في هذه الدنيا: (يَوْمَ وُلِدَ) ويوم موته وانتقاله إلى عالم البرزخ (وَيَوْمَ يَمُوتُ) ويوم بعثه في العالم الآخر (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).

ولما كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للاضطرابات والقلق ، فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصّة عباده بسلامه وعافيته ، ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

وبالرغم من أنّ هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط ، في حق يحيى وفي حق عيسى عليه ‌السلام ، إلّا أنّ التعبير القرآن في شأن يحيى امتيازا خاصّا ، لأنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ، في حين أنّ المسيح عليه ‌السلام هو المتكلم في حق نفسه.

ومن الواضح أنّ الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة.

ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام : «إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يلد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث حيا فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلم الله على يحيى عليه ‌السلام في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته ، فقال: وسلام عليه ...».

2022/07/21
موسى في بيت فرعون.. هل أكل من أموال ملوثة؟!
إذا رجعنا إلى القرآن الكريم ووقفنا على تفاصيل الأحداث التي مرت على نبي الله موسى (عليه السلام) لوجدنا أن الله هو الذي تكفل برعايته في كل خطوة من خطوات حياته.

فمثلاً سورة القصص من الآية السابعة إلى الآية الثالثة عشر تحكي عن رعاية الله له منذ لحظات ولادته، حيث قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) كل تلك التفاصيل تدل على أن يد الغيب هي التي تكفلت برعاية نبي الله موسى (عليه السلام)، بل حتى موضوع الرضاعة لم يجري وفقاً للأسباب الطبيعة حيث حرم الله عليه جميع المراضع حتى يرجعه إلى أمه من جديد، وقد أكدت الآية التاسعة والثلاثون من سورة طه هذا الأمر بشكل واضح حيث قال تعالى: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِ)، فقوله (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِ) تدلل بشكل قطعي على أن جميع ما جرى على موسى (عليه السلام) كان بعين الله تعالى، وبالتالي لا يمكن أن نتصور دخول أي مال ملوث إلى جوفه عليه السلام، إذ كيف يمكن تصور ذلك وقد كانت صناعته وتربيته تجري بعين الله تعالى؟ ففي الآية الواحد والأربعون من سورة طه تصريح بذلك حيث قال تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِ)، أي أن موسى كان خالصاً لله تعالى في كل تفصيل من تفاصيل حياته.

2022/07/20
معلّم موسى.. من هو الخضر؟!
لقد رأينا القرآن الكريم يتحدّث عن العالم من دون أن يسميّه بالخضر وقد عبّر عن معلّم موسى عليه السلام بقوله: (عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة، لذا فإنّنا غالبا ما نصفه بالرجل العالم.

[اشترك]

أمّا الرّوايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرّفت هذا الرجل باسم (الخضر) ومن بعض هذه الرّوايات نستفيد بأنّ اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان) أمّا الخضر فهو لقب له، حيث أنّه أينما كان يطأ الأرض فإنّ الأرض كانت تخضر تحت قدميه.

البعض احتمل أنّ اسم الرجل العالم هذا هو (إلياس) ومن هنا ظهرت فكرة أن إلياس والخضر هما اسمان لشخص واحد.

ولكن المشهور المعروف بين المفسّرين والرواة هو الأوّل.

وطبيعي أن نقول: إنّ اسم الرجل العالم أيّا كان فهو غير مهم لا لمضمون القصّة ولا لقصدها، إذ المهم أن نعرف أنّه كان عالما إلهيا، شملته الرحمة الإلهية الخاصّة، وكان مكلّفا بالباطن والنظام التكويني للعالم، ويعرف بعض الأسرار، وكان معلّم موسى بن عمران بالرغم من أنّ موسى عليه السلام كان أفضل منه من بعض الجوانب.

وهناك أيضا آراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيّا أم لا.

ففي المجلد الأوّل من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أنّ هذا الرجل لم يكن نبيّا، بل كان عالما مثل (ذو القرنين) و (آصف بن برخيا) (١).

 

في حين نستفيد من روايات أخرى أنّه كان نبيّا، وظاهر بعض الآيات أعلاه يدل على هذا المعنى، لأنّها تقول على لسانه: (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). وفي مكان آخر قوله :(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ ...).

ونستفيد من روايات أخرى أنّ الخضر عمّر طويلا.

وهنا قد يطرح هذا السؤال: هل ذكرت قصّة موسى وهذا العالم الكبير في مصادر اليهود والمسيح؟

في الجواب نقول: إذا كان المقصود هو كتب العهدين (التوراة والإنجيل) فإنّ ذلك غير مذكور فيهما، أمّا بعض كتب علماء اليهود التي تمّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي، ففيها قصّة تشبه إلى حد كبير حادثة موسى عليه السلام وعالم زمانه بالرغم من أنّها تذكر أنّ أبطال تلك القصّة هما (إلياس) و (يوشع بن لاوي) وهما من مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي، وتختلف من خلال عدّة أمور عن قصّة موسى والخضر، والقصة هذه هي:

«وهو (اي يوشع) يطلب من الله أن يلقى الياس ، وبمجردّ أن يستجاب دعاؤه ويحظى بلقاء الياس فإنّه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار. فيجيبه الياس : إنّك لا طاقة لك على تحمّل ذلك ، إلّا أن يوشع يصّر ويلحّ في طلبه فيستجيب له الياس مشترطا عليه أن لا يسأل عن أيّ شيء يراه ، وإذا تخلّف يوشع عن هذا الشرط فإنّ الياس حرّ في الانفصال عنه وتركه ، وعلى أساس هذا الاتّفاق يترافق يوشع والياس في السفر.

وأثناء سفرهما يدخلان إلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحرّ استقبال ويكرم وفادهما. وكان لأهل ذلك البيت بقرة هي كلّ ما يملكون من حطام الدنيا حيث كانوا يوفّرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها. فيأمر الياس صاحب البيت أن يذبح تلك البقرة ، ويستولي على يوشع العجب والاستغراب من هذا التصّرف ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرّر لهذا الفعل. فيذكّره الياس بما اتّفقا عليه ويهددّه بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.

ومن هناك يواصلان سفرهما إلى قرية أخرى فيدخلان إلى بيت شخص ثريّ وينهض الياس إلى جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرمّمه ويقيمه. وفي قرية أخرى يواجهان عددا من سكان تلك القرية مجتمعين في مكان معيّن ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم الياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعا إلى الرئاسة. وفي قرية رابعة يواجههما سكّانها باحترام فائق فيدعو لهم الياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إلى الرئاسة. وبالتالي فإنّ يوشع بن لاوى لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقايع الأربع ، ويجيبه الياس : بأنّه في البيت الأوّل كانت زوجة ربّ الدار مريضة ولو أنّ تلك البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإنّ تلك المرأة تموت ويصاب صاحب الدار بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة ، وفي البيت الثّاني كان هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم ، وأمّا إنّه قد دعوت لأهل القرية الثّالثة بأن يصلوا إلى الرئاسة جميعا فذلك لكي تضطرب أمورهم ويختلّ النظام عندهم. على العكس من أهل القرية الرّابعة فإنّهم إذا أسندوا زمام أمورهم إلى شخص واحد فإنّ أمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام» (2).

ويجب عدم التوهّم أنّنا نرى بأنّ القصتين هما قصة واحدة، بل إنّ غرضنا الإشارة إلى أنّ القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مشابهة أو محرّفة لما حصل أصلا لموسى عليه‌ السلام والخضر، وقد تغيرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشكل.

*آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

الهوامش: 1 أصول الكافي ، المجلد الأوّل ، باب «إنّ الأئمّة بمن يشبهون فيمن مضى» ، ص ٢١٠. 2 ما ورد أعلاه منقول عن كتاب (أعلام القرآن) ، ص ٢١٣.
2022/07/12
ما هي أسباب هبوط آدم من الجنة إلى الأرض؟
خلق الله آدم ليكون خليفته في الأرض، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، وما حصل له من امتحان في الجنة يعد تجربة عملية لما سيحصل من صراع في الأرض مع الشيطان.

[اشترك]

قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وقد كشف الله لآدم ما يكون عليه الشيطان من خبث من خلال التجربة العملية التي حصلت له، قال تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)، وبالتالي نزول آدم وحواء إلى الأرض هو الذي يحقق تلك الخلافة ومن ذريتهما يكون الأنبياء والصالحين وبهما تعمر الأرض ومن خلالهما ينتصر الحق على الباطل.

وقد تعددت آراء المفسرين في سبب إدخال آدم الجنة، وإن اتفقت في كونه تمهيد لحياته في الأرض.

"لعل مرحلة مكوث آدم في الجنّة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمّل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإِلهية في تحقيق سعادته، ولإِعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

وكان من الضروري أيضاً أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية. فمعصية الله ـ لا تسدّ إلى الإبد ـ أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإِلهية.

ينبغي أن ينضج آدم (عليه السلام) في هذا الجوّ إلى حد معيّن، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض". الأمثل ج1، ص165.

وذهب العلامة الطباطبائي (ره) الى أن السبب هو كون إدراكات آدم وزوجته مازالت في عالم الأرواح والملائكة، ولم تصر الى الان مناسبة للحياة الأرضية، فرسم الحق سبحانه طريقاً لهما لحصول ذلك، من خلال "تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة، والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، وانتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة، وهي العورة بقرينة قوله تعالى: وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني و يستلزم التغذي و النمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء سوآتهما". الميزان، ج1، ص73.

وقال ره: "و آدم و زوجته و إن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، و لم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما و لا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا و احتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، و أنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما و لما ينفصلا و لما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح و الملائكة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: ليبدي لهما ما ووري عنهما و لم يقل ما كان ووري عنهما، و هو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة و إنما تمشت دفعة ما و استعقب ذلك إسكان الجنة". المصدر نفسه.

وفي المحصلة يمكننا القول إن هبوط آدم إلى الأرض يمثل البداية لخلافته على الأرض، ولذلك قدر الله منذ البداية أن يكون آدم وحواء بداية الحياة البشرية على الأرض، ولكي يقف آدم على دور الشطان في إضلال ذريته كان لابد من الوقوف على ذلك بشكل عملي.

2022/07/11
ما هو الصّراط المستقيم؟
الصّراط كما يبدو من تفحص آيات الذكر الحكيم هو دين التوحيد والالتزام بأوامر اللّه. ولكنه ورد في القرآن بتعابير مختلفة.

[اشترك]

فهو الدين القيم و نهج إبراهيم عليه السّلام و نفي كل أشكال الشّرك كما جاء في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ 1، فهذه الآية الشريفة عرّفت الصراط المستقيم من جنبة ايديولوجية.

وهو أيضا رفض عبادة الشيطان والاتجاه إلى عبادة اللّه وحده، كما في قوله: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ 2.

أمّا الطريق إلى الصراط المستقيم فتمّ من خلال الاعتصام باللّه: ﴿ ... وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ 3.

يلزمنا أن نذكر أنّ الطريق المستقيم هو طريق واحد لا أكثر، لأنه لا يوجد بين نقطتين أكثر من خطّ مستقيم واحد، يشكل أقصر طريق بينهما. من هنا كان الصراط المستقيم في المفهوم القرآني، هو الدين الإلهي في الجوانب العقائدية و العملية، ذلك لأن هذا الدين أقرب طريق للارتباط باللّه تعالى. و من هنا أيضا فإن الدين الحقيقي واحد لا أكثر ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... ﴾ 4.

وسنرى فيما بعد- إن شاء اللّه- أن للإسلام معنى واسعا يشمل كل دين توحيدي في عصره، أي قبل أن ينسخ بدين جديد.

من هذا يتضح أن التفاسير المختلفة للصراط المستقيم، تعود كلها إلى معنى واحد.

فقد قالوا: إنه الإسلام.

وقالوا: إنه القرآن.

وقالوا: إنه الأنبياء والأئمة.

وقالوا: إنه دين اللّه، الذي لا يقبل سواه.

وكل هذه المعاني تعود إلى نفس الدين الإلهي في جوانبه الاعتقادية و العملية.

والروايات الموجودة في المصادر الإسلامية في هذا الحقل، تشير إلى جوانب متعددة من هذه الحقيقة الواحدة، وتعود جميعا إلى أصل واحد منها: عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اهدنا الصّراط المستقيم صراط الأنبياء، و هم الّذين أنعم اللّه عليهم‌5.

وعن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام في تفسير الآية: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‌، قال: «الطّريق هو معرفة الإمام»5.

وعنه  أيضا: «و اللّه نحن الصّراط المستقيم»5.

وعنه  أيضا: «الصّراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السّلام»5.

ومن الواضح أن النّبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، دعوا جميعا إلى دين التوحيد الإلهي، و الالتزام به عقائديا و عمليا.

و اللافت للنظر، أنّ «الراغب» يقول في مفرداته في معنى الصراط: إنّه الطريق المستقيم، فكلمة الصراط تتضمّن معنى الاستقامة. ووصفه بالمستقيم كذلك تأكيد على هذه الصفة6.

*آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

 الهوامش: 1. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 161، الصفحة: 150. 2. القران الكريم: سورة يس (36)، الآية: 60 و 61، الصفحة: 444. 3. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 101، الصفحة: 63. 4. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 19، الصفحة: 52. 5. a. b. c. d. تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 20 و 21.
2022/07/11
كيف نعالج الفقر في المجتمعات؟
لحل هذه المعضلة قدّم العلماء منذ القدم علاجات ، والبشرية جربت علاجين مختلفين.

[اشترك]

الأول : يعتقد الاشتراكيون والشيوعيون أنَّ الفقر مشكلة نجد جذورها في الملكية الخاصة ، فاذا ما اجتثثنا جذور هذه المشكلة فانَّ المشكلة ستُحل.

إنّ اصحاب هذه الفكرة جربوا هذا العلاج مدة سبعين عاماً ، قتلوا خلالها الملايين من البشر ، وارتكبوا جرائم كثيرة وتحلموا التكاليف الباهضة وواعدوا الناس وعوداً كاذبة كثيرة ، وأمّلوهم بحياة متعالية ، وتحدثوا مع الناس عن جنة الأرض ، بل اعتبروا جنة الانبياء هي نتيجة اعمالهم و.. إلّا انهم اعترفوا بفشلهم بعد هذه التجربة وتلاشى نظامهم ، الامر الذي أراح الناس الذين كانوا يرضخون تحت حكومتهم.

الثاني: رسمت الدول الرأسمالية خططاً اخرَى لرفع معظلة الفقر ، فشكلوا لأجل ذلك مؤسسات ومنظمات كثيرة ، مثل : الهلال الأحمر وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصندوق التعاون ومؤسسات الاعانات الاقتصادية والغذائية للدول الفقيرة ، وخصصوا لأجل ذلك ميزانيات ، لكنها جميعاً كانت تعاني من نقطتي ضعف :

الاولى : إجراءاتها محدودة وقليلة وغير متناسبة مع نفوس الدول الفقيرة ، ولذلك لم تحدث تغييراً في مستوى الفقر في هذه الدول.

الثانية : كثيراً ما تقترن هذه الاعانات بأغراض سياسية ، فاذا اقتضت مصالح هذه الدول الاعانة أعانوا والَّا امتنعوا عن الاعانة ، وأحياناً يعترف بعض مسؤولي هذه الدول بهذه الامور. (1)

وعلى هذا فان العلاج الثاني ما حل عقدة من عقد الفقر العالمي.

علاجات الإسلام

إنّ العلاج الاخر لمعضلة الفقر هو وصايا الإسلام ، فإنَّ العمل بها يؤدي إلى ملء فجوة الفقر وتقليل الفاصلة بين الطبقات الفقيرة والغنية.

لقد حصل هذا في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنَّ العمل بها حصل لاول مرة في التاريخ في ذلك العهد وكانت نتيجة ذلك هو مجتمع غير مقسم إلى طبقات ، أو مجتمع مع مفارقات طبقية محدودة جداً.

إذا تمكنا اليوم تطبيق هذه الوصايا والاوامر الالهية في مجتمعنا هذا بل وفي المجتمعات البشرية لكانت الثروة موزعة على البشر بشكل عادل ولصغرت الفجوة بين الفقير والغني في مجتمعات الكرة الارضية.

الإنفاق طريق لرفع الفقر

الانفاق هو احد الوصايا والأوامر الالهية القيمة التي هي موضوع بحثنا هنا. إنَّ القرآن المجيد أكَّد كثيراً على موضوع الانفاق وقد كان هذا الامر موضوعاً لكثير من آياته ، والآيات التي تضمنت مادة الانفاق تقدر بسبعين آية ، وإذا اضفنا اليها الايات التي اشارت لهذا الموضوع من دون أنْ تأتي بمادة الانفاق ، فالعدد يتجاوز عن هذا الحد بكثير.

أمر الله في القرآن الإنسان أنْ يدفع مقداراً مما كان من نصيبه في هذه الحياة الدنيا. الآية 19 من سورة الذاريات أمرت بهذا بتعبير جميل : (وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ والمَحْرُومِ) ، وبناء على هذه الآية فان للفقراء والمساكين حقاً في أموال الناس.

ولأجل تشجيع الناس على الإنفاق جاء القرآن بآيات عبرت عن الأمر بتعابير جميلة:

1 ـ يقول الله في الآية 96 من سورة النحل : (مَا عِنْدَكُم يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ)

يا له من تعبير جميل! فالعبارة تضم معان كثيرة رغم صغرها. وهي تعني أنّ الإنسان إذا صرف الملايين من امواله فان تلك الملايين تعد نافدة ومستهلكة ، بينما إذا صرف اقل مقدار من امواله انفاقاً في سبيل الله فإنَّ ذلك سيبقى في خزينة الله الغيبية ولا ينفد ، وهذا خلاف ما يتصوره اكثر الناس.

2 ـ جاء في الآية 89 من سورة النمل : (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ونفسها في سورة القصص الآية 84.

وحسب ما صرحت به هذه الآية ، فإنَّ الصدقة والانفاق لا يذهبان سدى فحسب ، بل يمنح الله عليهما شيئاً افضل منهما عوضاً عن ذلك.

3 ـ الآية 160 من سورة الانعام رفعت من قيمة الانفاق لتصرح بما يلي : (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا)

الآية تحدثت عن الحسنات عموماً ، وباعتبار أنَّ الانفاق من الحسنات العظيمة فهي تشمله. وحسب ما صرحت به ، فإنَّ للإنفاق عشرة أضعاف من الثواب والأجر.

أمّا الآية المبحوث هنا (261 من سورة البقرة) فقد رفعت مستوى الانفاق إلى أعلى مستوى ممكن ، فمثلت الانفاق بالسنابل التي تضمّ حبات كثيرة وكل حبة تنبت سنابل كثيرة ، وهي بذلك تشير إلى التضاعف التصاعدي للثواب المترتب على الانفاق. ولكي تجيب الآية عن بعض التساؤلات التي تتراود في اذهان البعض عن مصدر هذه العطاءات أشارت إلى أن ذلك كله من كنوز الله العظيمة ، وهو واسع وأوسع من أنْ يتصور.

*آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – مرجع ديني

الهوامش: (1) كما شهدنا ذلك في حرب البوسنة وفي شتائها القارص ، إذا اعترف بعض رؤساء هذه الدول بعدم وجود مصالح لها في البوسنة لكي تتدخّل عسكرياً في النزاع الدائر هناك.
2022/07/03
قل أعوذ برب الفلق: هل تأثّر النبي (ص) بـ ’السحر’؟!
وردت روايات متعدِّدة من طرق الفريقين مفادها أنَّ منشأ نزول المعوَّذتين هو أنَّ لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبيَّ (ص)(1) وفي بعضها (2) أنَّ بناتِه سحرنَ النبيَّ (ص).

[اشترك]

وذلك بأنْ اتخذنَ مِشاطةَ رأسٍ وأسنانَ مُشطٍ وخيطاً عقدنَه احدى عشرة عُقدة وغرزن فيها الإبَر ثم وضعن كلَّ ذلك في قشر الطلع وخبأنَه في بئرٍ تحت صخرةٍ فتوَّعك النبيُّ (ص) لذلك وأصابه وجعٌ في بدنه فهبط عليه الوحيُ فأخبره بذلك فبعث عليَّاً (ع) وقيل بعث معه الزبير وعمَّاراً فاستخرج عليٌ (ع) المُشاطة وأسنان المُشط والخيط المعقود وجاء بها إلى النبيِّ (ص) فأنزل الله تعالى المعوِّذتين فتعوَّذ بهما النبيُّ (ص) فذهب عنه أثرُ السحر.

هذا حاصلُ ما ورد في سبب نزول المعوَّذتين، ولم يثبتْ شيءٌ من هذه الروايات من حيثُ السند.

إلا انَّه على فرض ثبوتها واقعاً فإنَّها لا تُنافي شيئاً من أصول العقيدة، فلا محذور من الالتزام بمضمونها، إذ لا مانع من الالتزام بإمكانية تأثُّر جسد النبيِّ (ص) بالسحر، فالعصمةُ الثابتةُ للنبيِّ (ص) يقيناً لا تقتضي مصونيَّة جسده من التأثُّر بالسحر، نعم العصمة تقتضي امتناع تأثُّر عقلِه بالسحر، لذلك يلزم طرح بعض الروايات (3) المُوهِمة بتأثُّر عقلِ النبيِّ (ص) بالسحر، لأنَّها منافيةٌ لواحدٍ من أُصول العقيدة وهي عصمةُ النبيِّ (ص) من الخطأ والوهم.

وأما ما ورد في القرآن من التشنيع على الكافرين حيث وصفوا النبيَّ (ص) بالمسحور في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا / انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا ..﴾(4).

فالمرادُ منها هو تنزيه النبيِّ (ص) عمَّا ادَّعاه عليه الكافرون من أنَّه رجل مسحورٌ في عقله، فمرادُهم من أنَّ النبيَّ (ص) مسحورٌ هو أنَّه مصابٌ في عقله لذلك تصدَّى القرآن الكريم للتشنيع عليهم ونفي مدَّعاهم وتفنيده.

*من كتاب: شؤون قرآنية الشيخ محمد صنقور

الهوامش: 1- تفسير فرات الكوفي -فرات بن إبراهيم الكوفي- ص619، طب الأئمة -ابن سابور الزيات- ص113، مكارم الأخلاق -الشيخ الطبرسي- ص413، مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج13 / ص107، تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج10 / ص492، تفسير نور الثقلين -الشيخ الحويزي- ج5 / ص718، تفسير مقاتل بن سليمان -مقاتل بن سليمان- ج3 / ص537، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج3 / ص610. 2- التبيان -الشيخ الطوسي- ج10 / ص434، تفسير البغوي -البغوي- ج4 / ص547، زاد المسير -ابن الجوزي- ج8 / ص434، تفسير القرطبي -القرطبي- ج20 / ص259، البرهان -الزركشي- ج1 / ص25، تفسير الثعالبي -الثعالبي- ج5 / ص641. 3- الروايات الموهِمة لذلك وردت من طرق العامة فأفاد بعضها انَّ النبي كان يُخيَّل اليه انه يفعل الشيء وما فعله، لاحظ صحيح البخاري -البخاري- ج4 / ص91، ج7 / ص88،28، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج7 / ص14، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج6 / ص96،63،57، صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج14 / ص545، معرفة السنن والآثار -البيهقي- ج6 / ص275، مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج8 / ص291. 4- سورة الفرقان / 8-9.
2022/07/02
بحضور آدم والملائكة.. هذا ما حدث لحظة ’طرد إبليس’!
إن القرآن الكريم يكثر من ذكر الأنبياء السلف، رغبة في أن نتأسى بهديهم، ونكتشف الدروس من حياتهم -ومع الأسف- فإننا ننظر إلى أن هذه قصص كباقي القصص.. والحال بأن القرآن الكريم، لم يرد ذكر هذه الأمور لمجرد الذكر، وإنما لأجل الاعتبار بما وقع على الأنبياء عليهم السلام.

[اشترك]

نبدأ نبي الله آدم، الذي نرتبط به ارتباطا عاطفيا وعضويا، لأنه هو أبونا وحواء أمنا.. ولهذا فإن البعض من الصالحين، يوصي بأنه في ضمن ذكر الأرحام والوالدين والأجداد، علينا أن نخص آدم بالذكر، لأنه جدنا الأكبر.

إن تذكّر هذه الحالة الجامعة، وهي أننا جميعا من نسل آدم، أيضا يلقننا شيئا من حالة الإحساس بالأخوة مع من حولنا.. فالأخوة الأرضية -بالإضافة إلى الأخوة الإسلامية، والإيمانية، والتقوائية، وغيرها- هي من العناصر المشتركة بيننا وبين كل إنسان على وجه الأرض، كوننا من هذا الوجود المبارك.

هنالك بعض المحطات الملفتة في حياة آدم (ع)، منها:

أولا: خلقة آدم، وقصة السجود له، وتمرد إبليس على السجود.

ثانيا: مسألة الأسماء التي علمها آدم، أو عُرضت عليه.. فما هي هذه الأسماء؟..

ثالثا: مسألة اقترابه من الشجرة المنهية، ووسوسة الشيطان له.

رابعا: الخروج من الجنة، وما آل إليه الأمر.

خامسا: البحث في أن هذه القضية هل هي معصية أو غير معصية؟..

إن الله عز وجل عندما ذكر آدم في سورة البقرة، جعل الآية تبدأ بهذه المقولة الإلهية: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.. فالمستفاد من هذه الآية، ومن آيات أخرى شبيهة، أن الكلام ليس بالنسبة لآدم فحسب!.. فكلمة الخليفة في القرآن أُطلقت على آدم، كما في هذه الآية.. وفي نفس الوقت في سور أخرى، فبني آدم هم المخاطبون بهذه الخلافة كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ}، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ}.. فإذن، إن هذه الآيات تؤكد على أن هذه السمة العظيمة -سمة الخلافة الإلهية- سمة أعطيت لآدم، وبني آدم.

ومن أجلّ أوصاف الإنسان على وجه الأرض، أن يكون خليفة لله عز وجل، بمعنى أن يكون عاكسا لصفات الرب في حدود البشرية.. فعادة الخليفة يمثل المستخلف في صفاته الأساسية وبدرجة متقاربة.. ففي السفارات في الدول، إن توجه السفير الفكري، ونمط معيشته، ولغته، وثقافته، وحضارته، وعاداته، تشابه إلى حد كبير الجهة التي أرسلته.. وإلا لو كان على مستوى المرسل، لما كان سفيرا بل كان أميرا.. والفارق هو أن السفير يشبه الأمير، ولهذا اختير كسفير بينه وبين الطرف المقابل.

ومن الأبحاث الملفتة في هذه السورة، هذه الآيات: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}.. فمن أين علمت الملائكة بهذه الخصوصية؟

 وهنا رأيان:

 الرأي الأول يقول: بأن الملائكة لاحظت أن هذا الوجود يحتوي على قوتين: قوة الشهوة، وقوة الغضب.. ولكل من هاتين الشهوتين آثارهما في الحياة الدنيا: فالشهوة تجر الإنسان إلى الإفساد، وقوة الغضب تجر الإنسان إلى سفك الدماء.. وخاصة عندما يلاحظ أن آدم هو رأس سلسلة، ولو كان يعيش في هذه الدنيا لوحده، أو مع قرينته حواء لهان الأمر.. فالملائكة تعلم أن هناك نسلا، وأن هنالك حضارات، ومدنا: أفرادا ومجتمعات.. ومن الطبيعي عندما تتكاثر الأفراد في البيئة الواحدة، وتتزاحم المصالح.. أن توجد هذه الأرضية.

فإذن، إن القرآن الكريم عندما يعبّر هذا التعبير، يلحظ أن هنالك وجودا مدنيا، ووجودا حضاريا، ولازمة التكاثر في الأفراد، تظهر هذه المفاسد.. ومن هنا نعلم أن الإسلام يريد منا أن نكون على مستوى الخلافة الأرضية، في خضم التعامل مع البشر.. وإلا، فلو كان الإنسان وحيدا في هذه الدنيا، في مغارة، أو في صومعة، قد لا يبتلى بهذه الانحرافات الشهوية والغضبية.

وهناك رأي آخر: مروي هذا عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: (ما عَلِم الملائكة بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}، لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء).. فهذه النظرية تقول بأن هنالك أجيالا بشرية منقرضة قبل آدم عليه السلام.. وإن كانت هذه الأجيال افتراضا بأنها في مستوى عقلي وشعوري أقل من هذا النسل الأخير، الذي بدئ بآدم، واستمر إلى النبي الخاتم، ثم ينتهي إلى قيام القائم، ثم القيامة بعد ذلك.

ومن الأبحاث الملفتة في هذه الصفحة من القرآن الكريم، أنها تتناول موضوع تعليم آدم الأسماء الحسنى.. فهنا المفسرون عاشوا في بحث، أو في حالة من حالات التنازع فيما بينهم في تفسير هذه الأسماء.. فمنهم من ذهب إلى أنها أسماء لفظية بسيطة، كأسماء الأشياء: هذه شجرة، وهذه أرض، وهذه سماء.. فاقتصروا على الجانب اللفظي، وقالوا: بأن هذه هي الأسماء المتعارفة.. وطبعا هذا الرأي مع التدبر والتأمل، لا يمكن أن يقبل، لأن هذا ليس من باب التميز.. فالطفل عندما يلقن بأن هذه اسمها شجرة، يقول بأنها شجرة، فهذه حالة من حالات البغبغائية في حياة الإنسان.. وليس هذا مما يمكن أن يقدّم رب العالمين آدم كموجود متميز بما يسكتهم.. فالقرآن يريد أن يقنع الملائكة بأن هذا الموجود جدير بالخلافة، وأن هذا الموجود جدير بالسجود له.. فإذاً، إن القضية أرقى من الأسماء العادية، وخاصة عندما نصل إلى قوله تعالى: {فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء}.. فيبدو أن هناك إشارة لموجودات راقية، وأن آدم عليه السلام اطلع على حقائق عالية في هذا الوجود.. وهذه الحقائق لم تكن منكشفة للملائكة حق الانكشاف، وكانت محجوبة بحجاب الغيب.. ومن هنا قال بعض المفسرين: بأن المراد بها الوجودات الطاهرة، المتمثلة بالنبي وآله صلوات الله وسلامه عليهم.. وهذا التفسير مناسب لجو الآية.. فالله عز وجل يبين فضل آدم، من خلال معرفته بحقائق عالية مقدسة، وهذه الحقائق كانت خافية على الملائكة.

أما مسألة السجود، فهي أيضا من المحطات الملفتة في هذا المجال.. فيلاحظ بأن أول درس أراد الله عز وجل أن يعلمه للملائكة وآدم ومن تتلى عليه هذه الآيات، مسألة العبودية لله عز وجل.. فثمرة الحياة، وثمرة الرسالات، وثمرة الخلقة، هي أن يعيش الإنسان حالة التعبد لله عز وجل.. وهذه العبودية قد تظهر بأشكال مختلفة، قد توافق المزاج، وقد لا توافق المزاج.. فالعبودية الكاملة أن يكون الإنسان بين يدي مولاه، وكأنه لا اختيار له.. قال الصادق (ع): (أمر الله إبليس بالسجود لآدم، فقال: يا ربّ!.. وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم، لأعبدنّك عبادةً ما عبدك أحدٌ قطّ مثلها).. وإبليس بسابقته في العبادة وطول سجوده وصلاته، من الذين يتوقع منهم هذه الدعوة في قبال الملائكة.. ولكن انظروا إلى الجواب من الله عز وجل: (قال الله جلّ جلاله: إني أحبّ أن أُطاع من حيث أريد).. أي أن إرادتي الآن يا إبليس أن تكون ساجدا لآدم.. وهذا السجود إذا كان لآدم بأمر الله عز وجل، فلا ضير في ذلك أبدا.

ومن هنا نحن نستغرب من الذين ينكرون على البعض التفاتهم، أو توسلهم، أو تقديرهم للذوات الطاهرة، من الذين يمثلون الرسالة الخاتمة من النبي وآله.. حيث أن تعظيم ذلك النبي بالزيارة، وبالتوسل به، وتشييد مقامه، والقيام بأي عمل يدل على تعظيم هذا الموجود: بشعرٍ، أو بنثرٍ، أو ببناءٍ، أو بأي حركة.. يعود إلى الله عز وجل تعظيما لشعائره، وتكريما لأوليائه.. كما أن السجود لآدم -بحسب الظاهر- هو لمخلوق أرضي، ولكنه لله في النتيجة.

ويلاحظ بأن للشيطان -على كل حال- اعترافات جميلة في بعض النصوص، تدل على أن إبليس تأذى من حالة الطرد الإلهي واللعن.. وقال: (إنّ إبليس رنّ أربعة رنّات: أوّلّهن يوم لُعن).. أي طُرد من رحمة الله عز وجل، ولهذا الطرد آثاره، فإبليس يعلم أن هذا الطرد له تبعاته في الدنيا وفي الآخرة.. (ويوم أُهبط إلى الأرض، وحيث بعث محمّدا (ص) على فترة من الرسل).. وبعثة النبي (ص) أيضا جعلته في عداد اللعن الإلهي، لأن وجود النبي وجود رحمة، كما أن اللعن طرد من الرحمة، فكذلك بعثة النبي جلب للرحمة، وهي معاكسة لمسيرة إبليس.. (وحين اُنزلت أمّ الكتاب)، ومن الغريب أن الرواية تجعل المحطة الرابعة، وحين أنزلت أم الكتاب، أي سورة الحمد!.. فهذه السورة كأنها من المحطات التاريخية التي أزعجت إبليس، ولا عجب في ذلك، بعد أن نلاحظ بأن التقرب إلى الله عز وجل في الصلاة، لا يتم إلا من خلال فاتحة الكتاب.

 

إن الله عز وجل عندما حذر من تلك الشجرة قال: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ}.. فسياسة الشريعة، والقرآن، ورب العالمين بالنسبة للمعاصي، أن يبعد الإنسان عن الاقتراب من أجواء المعصية.. ففي عالم التعامل مع النساء، إن الزنا -وهو قمة الانحراف طبعا- أمر منهي عنه.. ولكن قبل ذلك هناك نهي عن النظر، وعن الاقتراب، وعن الاختلاط، وعن الجلوس في موضع يحس فيه الرجل بحرارة امرأة -مثلا- وأن يأخذ المتاع من وراء حجاب، وتشريع الحجاب، واللين في القول والخضوع في القول.. كل هذه التشريعات تشريعات احتياطية، من أجل عدم وقوع الإنسان في المعصية.

ثم يذكر القرآن الكريم كيد إبليس فيقول: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}.. وكأن القضية أرقى من الوسوسة، فالشيطان يوسوس للإنسان، ولكن عندما يصل الأمر لآدم يقول: {أَزَلَّهُمَا}.. يبدو أن هنالك عملية حسية، وأن الشيطان بتمثله أمام آدم، وهذه الحركة من المناصحة، ومن الإغواء بقوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}.. فكأن الشيطان كان له دور قوي جدا إلى حد يصدق عليه بأنه أزلهما، وليست مجرد وسوسة.

إن هذا الأمر قد يتفق في حياتنا نحن أيضا.. فالإنسان الذي يطيع إبليس، ويعيش الأجواء الإبليسية، ويكثر من المتابعة.. فإنه قد يصل في بعض الحالات إلى هذه الدرجة، وهي أن الشيطان يتحكم فيه تحكما.. فالمسألة تتجاوز الوسوسة إلى مسألة الإضلال والإغواء الحسي، وقد يصل الأمر في البعض إلى هذه الدرجة.

ولكن هل هذه الحركة كانت معصية من آدم؟..

إن الآيات حسب الظاهر فيها نوع من أنواع الإشعار بذلك {فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.. إلا أن لدى التأمل في قصة آدم، بعد الفراغ من مسألة أن الأنبياء إذا جوزنا عليهم المعصية، سقطوا عن قابلية الاقتداء.. فمع هذه القاعدة الكلية، يبدو أن الله عز وجل نهى آدم نهيا تنزيهيا، لا مولويا.. بمعنى أن الله عز وجل أراد أن يقول لآدم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}.. أي إذا أردتم السعادة، فعليكم الامتثال لهذا الأمر بعدم الأكل من هذه الشجرة.. وإذا أكلتم فإن النتيجة الطبيعية هو الطرد من هذه الجنة، وتحمل الأرض ومشاق الأرض.

وكأن الله عز وجل أراد أن يقول: إن البقاء في هذا المكان المريح، والملفت، والذي تتنعمون فيه؛ مشروط بهذا الشرط.. وعليه، فإن المراد هنا بالظلم ظلم النفس وحرمانها من هذا الامتياز العظيم، أي العيش في هذه الجنة.. ولهذا القرآن في آية أخرى يقول: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}.. أي إذا خرجت من الجنة، فإن هناك مجالا لأن تجوع، ولأن تعرى، ولأن تظمأ إلى آخره من خصوصيات هذه الأرض؛ فالظلم هنا بهذا المعنى.. والعصيان بمعنى المخالفة للأمر الإرشادي، ولهذا الأمر النصحي.

ومن الأمور المؤيدة لهذه النظرية، أي أن المسألة لم تكن معصية بالمعنى الاصطلاحي.. فنحن نعلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.. فآدم (ع) بكى بعد خروجه من الجنة بكاءً كثيراً، ويعد من البكّائين في التاريخ.. فإذن، إن كان عاصيا، فمن المفروض أن الله سبحانه وتعالى -لطفاً به- أن يرده إلى ما كان فيه.. فقد كان في الجنة، فأخطأ خطأً، أو عصيانا -كما هو فرض القائل- ثم تاب إلى الله عز وجل، وكأنه لم يعمل شيئا.. ولكن لم يرجع إلى الجنة، لأن المسألة ليست مسألة معصية بالمعنى المصطلح.. إنما هي مسألة تكوينية، فمثلا: إذا اقتربت من هذه النار فسوف تحترق، ثم ندمت، وتبت بعد ذلك، فلا أثر له، فأنت احترقت بهذه النار.. أو دخلت البحر من دون سباحة تغرق.. فإذاً، إن ندامة آدم عليه السلام لم تنفعه شيئا، لأن القضية كانت في عالم التكوين لا في عالم التشريع.

ودليل ثالث وهو بيِّن أيضا: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. وبالتالي، فإن التشريعات الإلهية: الحلال، والحرام، والنهي، والهدي الإلهي، أو التشريع.. قد جاءت بعد النزول من تلك الجنة، وإلا، فإن في الجنة لم يكن هناك تشريع ونهي مولوي، وإنما كان بعد الهبوط.

فإذن، هذه ثلاثة أدلة: الظلم ظلم للنفس.. والنهي نهي تنزيهي، لا نهي مولوي.. والأمر لو كان من باب المعصية، فمن المفروض أن يرجع للجنة بعد ذلك.. وكذلك فإن التشريع بدأ بعد الهبوط.

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.. هناك مقولة معروفة، وهي: أن توبة العبد بين توبتين من الله عز وجل.. التوبة الأولى: من الله، أي رجوع الله على عبده، بأن ييسر له أسباب التوبة، ويذكره بالتوبة، ويذكره بالمصير الأبدي؛ وفي قصة آدم {تَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}.. وعليه، فإن الحركة الأولية هي من الله عز وجل في تهيئة الأسباب، ثم العبد الموفق يتوب إلى الله عز وجل؛ فهنا توبة العبد.. ثم تأتي التوبة النهائية، وهو الاصطفاء الإلهي، والتجاوز، والتعامل مع العبد، وكأنه لم يذنب.

ومن هنا نعلم أن الإنسان العاصي، إذا أراد أن يتوب، فليطلب من الله عز وجل هاتين التوبتين: وهي أن يوفقه أولا للإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.. ثم يطلب من ربه أن يرجع إليه بالرحمة، ويرد عليه ما كان قد سلبه بمعصيته لله سبحانه وتعالى.

إن الآية تقول: {اهْبِطُواْ} وبعد الهبوط إلى الأرض يعيشون حالة العداوة {اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.. فلازمة الحياة الأرضية هي: هذه المشاكسات، والتداخلات، والتزاحمات بين المصالح.. وبالتالي، فإن من أراد أن يعيش في المجتمع، عليه أن يتجهز بما يعينه على عدم التورط في المعاصي، التي تتطلبها الحياة الاجتماعية.

2022/06/08
متى بدأ تفسير القرآن الكريم؟
تفسير القرآن بالمعنى الحقيقي بدأ منذ عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، بل من بدء نزول الوحي إلّا أنّه كـ «علم مدوّن» بدأ من زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام كما تجمع على ذلك أقوال المورّخين و المفسّرين، و رجال هذا العلم يصلون بسلسلة أسانيدهم إليه، و لا عجب في ذلك، فهو باب مدينة علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم.

[اشترك]

إنّ مئات التفاسير كتبت لحدّ الآن، و بلغات مختلفة، و بأساليب و مناهج متنوعة، منها الأدبي، و الفلسفي، و الأخلاقي، و الروائي، و التأريخي، و العلمي، و كلّ واحد من المفسّرين تناول القرآن من زاوية تخصّصه.

و في هذا «بستان» مثمر و مزدهر ...، شغف أحدهم بمناظره الشاعريّة الخلّابة.

و آخر عكف على ما فيه من إشكاليات طبيعيّة ترتبط بتكوين النبات و هندسة الأزهار و عمل الجذور.

وثالث ألفت نظره الى المواد الغذائية المستفادة منه.

ورابع اتّجه إلى دارسة الخواصّ العلاجيّة في نباتاته.

وخامس اهتمّ بكشف أسرار الخلقة في عجائب ثماره اليانعة و أوراده الملوّنة.

وسادس راح يفكّر من أيّ أزهاره يستطيع استخراج أفضل العطور.

وسابع كالنحلة لا تفكّر إلّا بامتصاص رحيق الورد لتهيئة العسل.

وهكذا روّاد طريق التّفسير القرآني، عكس كلّ منهم بما يملكه من مرآة خاصّة، مظهرا من مظاهر جمال القرآن وأسراره.

واضح أنّ كلّ هذه التفاسير في الوقت الذي تعتبر فيه تفسيرا للقرآن، إلّا أنها ليست تفسيرا للقرآن، لأنّ كلّ واحد منها يميط اللثام عن بعد من أبعاد القرآن لا عن كلّ الأبعاد، و حتى لو جمعناها لتجلّى من خلالها بعض أبعاد القرآن لا جميع أبعاده.

ذلك لأنّ القرآن كلام اللّه وفيض من علمه اللامتناهي، وكلامه مظهر لعلمه، و علمه مظهر لذاته، و كلّها لا متناهية.

من هنا، لا ينبغي أن نتوقع استطاعة البشر إدراك جميع أبعاد القرآن، فالكوز لا يسع البحر.

طبعا، ممّا لا شكّ فيه أنّنا نستطيع أن نغرف من هذا البحر الكبير ... الكبير جدا ... بقدر سعة آنية فكرنا، و من هنا كان على العلماء فرض أن لا يتوانوا في كلّ عصر و زمان عن كشف مزيد من حقائق القرآن الكريم، و أن يبذلوا جهودهم المخلصة في هذا المجال ما استطاعوا، عليهم أن يستفيدوا ممّا خلّفه الأسلاف رضوان اللّه عليهم في هذا المجال، و لكن لا يجوز لهم أن يكتفوا به،فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال عن كتاب اللّه العزيز: «لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه».

*مقتطف من كتاب الامثل في تفسير كتاب الله المنزل‌، لسماحة آية الله الشيخ مكارم الشيرازي دامت بركاته.

2022/06/08
ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها: لماذا نذمّ من يطلب الدنيا؟!
قال تعالى: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (آل عمران - 145) هذه الآية نوّهت إلى فئتين من المسلمين، الأولى في قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ منها)، إذْ جاءت هذه الآية للتعريض بأولئك الذين شغلتهم الغنائم في يوم أُحد، حتّى انكسر جيش المسلمين وحصل ما حصل.

[اشترك]

والأخرى في قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ، التي جاءت لمدح مَنْ شكر نعمة الله، وثبت في جهاد الكافرين والمشركين ولم يفرّ، أو ينشغل بالغنام،  إذ الثواب هو ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، ففي مجمع البيان (1/515): عن الباقر - عليه السّلام - : أنّه أصاب عليّا - عليه السّلام - يوم أُحد ستّون جراحة ، وأنّ النّبيّ - صلَّى اللَّه عليه وآله - أمر أمّ سليم وأمّ عطيّة أن تداوياه ، فقالتا : إنّا لا نعالج منه مكانا إلَّا انفتق مكان ، وقد خفنا عليه . فدخل رسول اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وآله - والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة ، فجعل يمسحه بيده ويقول : إنّ رجلا لقي هذا في اللَّه فقد أبلى وأعذر . فكان القرح الَّذي يمسحه رسول اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وآله - يلتئم ، فقال عليّ - عليه السّلام - : الحمد للَّه إذ لم أفرّ ولم أُوَلِّ الدّبر . فشكر اللَّه له ذلك في موضعين من القرآن ، وهو قوله : « سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ » [ من الرزق في الدنيا ]، وسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. [ينظر:  تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، ج ٣، الشيخ محمد بن محمد رضا القمي المشهدي، ص ٢٤٠].

وعليه فلا علاقة لهذه الآية بطلب الدنيا وعدم الحصول عليها، هذا فضلاً عن أنّ طلب أمور الدنيا والتعلّق بها أمرٌ مذموم كما دلت على ذلك كثير من الآيات القرآنيّة التي منها:

قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة : 212].

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة : 86].

وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران : 14].

وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران : 185].

فعلى من طلب الدنيا ولم يحصل عليها أنْ يحمد الله تعالى ويشكره كثيرا ، لأنّه الله سبحانه ما أراد له أنْ يكون من المبعدين عن رحمته ولطفه، وعليه أنْ يوظّف نفسه ويفكّر بالعمل الصالح مادام مؤمنا حتّى يحيا حياة طيبة. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

2022/06/04
ماذا تعرف عن ’أصحاب الرقيم’ وما علاقتهم بفتية الكهف؟!
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا﴾([1]) مَن هم أصحاب الرقيم هل هم أصحابُ الكهف أنفسهم أو أنَّ الآية الشريفة تُشير إلى آخرين؟ الجواب من سماحة الشيخ محمد الصنقور: أصحابُ الرقيم هم أصحابُ الكهف:

المشهور -ظاهرًا- بين المفسِّرين أنَّ أصحاب الرقيم هم أنفسُهم أصحابُ الكهف وإنَّما جاء توصيفهم بأصحاب الرقيم لغرض الزيادة في التعريف بهويَّة أصحاب الكهف، تمامًا كما يُقال أصحاب الكساء وآية التطهير، فإنَّ المقصودين بأصحاب آية التطهير هم أنفسُهم المقصودون من أصحاب الكساء وإنَّما تمَّ عطفُ العنوان الثاني على الأول للتوضيح والتحديد لهويَّة المقصودين من العنوان الأول.

القول المقابل لقول المشهور: وفي مقابل ما أفاده مشهورُ المفسِّرين ذهب آخرون إلى أنَّ الآية قصدت من الذكر لأصحاب الرقيم الإشارة إلى حدثٍ آخر وقع في تاريخ الرسالات لكنَّها لم تتصدَّ كما لم تتصدَّ الآياتُ الأخرى في عموم القرآن للتعريف بهذا الحدَث، نعم ورد في السنَّة الشريفة -بحسب زعم أصحاب هذا القول- أنَّ أصحاب الرقيم كانوا ثلاثة نفرٍ من الرجال "خرجوا يرتادون لأهلهم، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطَّت صخرةٌ وسدَّت بابه. فقال أحدُهم: اذكروا أيَّكم عمِل حسنةً لعلَّ اللَّه يرحمُنا ببركته .." فبدأ أحدُهم فذكر معروفًا كان قد أسداه لآخر ثم قال: "اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُ ذلك لوجهك فافرج عنا، فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء". ثم تصدَّى الثاني فذكر أنَّه فعل معروفًا لامرأةٍ ذاتِ عيال دون أنْ يبتزَّها رغم قدرته على ذلك، ثم قال: "اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُه لوجهك فافرج عنا، فانصدع حتى تعارفوا". ثمَّ تصدَّى الثالث فذكر إحسانه لأبوبه الهرمين وكيف كان يبرُّهما ويؤثرهما على نفسه ثم قال: "اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُه لوجهِك فافرج عنا. ففرَّج اللَّه عنهم فخرجوا" قال البيضاوي في تفسيره: "وقد رفع ذلك نعمان بن بشير"([2]). وقد أورد أحمدُ بن حنبل في مسنده والطبراني في المعجم الأوسط هذه القصَّة بسندٍ ينتهي إلى النعمان بن بشير أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الرقيم فقال: "إنَّ ثلاثة كانوا في كهفٍ فوقع الجبل على باب الكهف فأوصد عليهم قال قائل منهم: تذاكروا أيكم عمل حسنة .."([3]). وكذلك أورد هذه القصَّة البخاريُّ في صحيحه عن ابن عمر عن الرسول (ص) إلا أنَّ ابن عمر لم يذكر أنَّ أصحاب هذه القصَّة هم أصحاب الرقيم وإنْ كان البخاري قد أوردها في سياق التفسير لآية: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾([4]). هذا وقد زعم بعضُهم أنَّ أصحاب الرقيم "قومٌ من أهل السراة كانت حالهم كحال أصحاب الكهف"([5]).  ترجيح قول المشهور ومستنده: إلا أنَّ الصحيح هو ما ذهب إليه مشهورُ المفسِّرين من أنَّ أصحاب الرقيم هم أنفسهم أصحاب الكهف الذين أورد الله تعالى قصتهم في سورة الكهف، فمضافًا إلى ظهور الآية في ذلك حيث تمَّ عطف الرقيم على الكهف فصارا معًا بمثابة المضاف لكلمة أصحاب وهو ما يقتضي استظهار إرادة الإشارة إلى معنونٍ واحد وإلا كان المناسب أنْ يُقال أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم فمضافًا إلى ظهور الآية في اتحاد المعنون أو لا أقلَّ من إشعارها بذلك فإنَّ الروايات الواردة من طُرقنا ظاهرةٌ في أنَّ أصحاب الرقيم هم أنفسُهم أصحاب الكهف، فمِن ذلك ما رواه العيَّاشي في تفسيره عن محمد عن أحمد بن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا﴾ قال (ع): هم قومٌ فرَّوا، وكتب ملكُ ذلك الزمان بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشايرهم في صُحفٍ من رصاص، فهو قوله: ﴿أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾"([6]). فالرواية صريحة في أنَّ أصحاب الرقيم هم أنفسهم أصحاب الكهف، وذلك لتصدِّي الإمام (ع) لمنشأ وصف أصحاب الكهف بأصحاب الرقيم وهو أنَّ ملك ذلك الزمان كتب أي رقَمَ أسماءهم وأسماء آبائهم وعشائرهم في صحفٍ من رصاص. ومِن الروايات الدالَّة على ذلك ما أورده القمِّي بسندٍ معتبر قال: حدَّثني أبي عن ابن عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "كان سببُ نزولها يعنى سورة الكهف .. فلمَّا كان بعد أربعين يومًا نزل عليه بسورة الكهف فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل لقد أبطأتَ؟ فقال: إنَّا لا نقدرُ أنْ ننزلَ إلا بإذن الله فأنزل ﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ يا محمد ﴿أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا﴾ ثم قصَّ قصتهم فقال: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إلى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾([7]) فقال الصادق (عليه السلام): إنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملِكٍ جبار عاتٍ، وكان يدعو أهلَ مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يُجبه قتله، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزَّ وجل ووكَّل الملك بباب المدينة .."([8]). فالرواية شديدة الظهور في أنَّ أصحاب الرقيم هم أنفسُهم أصحاب الكهف حيث قال (ع): "ثم قصَّ قصتهم" والواضح أنَّه -القرآن- إنَّما قصَّ قصة أصحاب الكهف وذلك يقتضي أنَّ العنوانين يُشيران إلى معنونٍ واحد، وأصرحُ من ذلك قول الصادق (ع): "إنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملِكٍ جبَّار عاتٍ .." فذكر قصَّةً واحدة للعنوانين. الأقوال في منشأ تسميتهم بأصحاب الرقيم: ثم إنَّ المشهور رغم اتفاقهم على أنَّ أصحاب الرقيم هم أنفسُهم أصحاب الكهف إلا أنَّهم اختلفوا في منشأ تسمية أصحاب الكهف بأصحاب الرقيم، ويُمكن إنهاءُ أقوالهم في ذلك إلى خمسة: الأول: الرقيم من الرقم وهو الكتابة، يُقال رقمتُ الكتاب أرقمه يعني كتبتُه، وكتاب مرقوم يعني مكتوب، ويُسمَّى الكتاب رقيم باعتبار كونه ظرفًا للرقم والكتابة، أو لكونه مرقومًا أي مكتوبًا، فهو رقيم على وزن فعيل بمعنى مفعول كجريح بمعنى مجروح وقتيل بمعنى مقتول، وطريد ولعين بمعنى مطرود وملعون. وسُمِّي أصحاب الكهف بأصحاب الرقيم لأنَّهم بعد أن لجأوا إلى الكهف وغابوا في وسطه، كُتبت أسماؤهم أو قصَّتُهم في لوحٍ من رصاص أو حجر وعُلِّق على باب الكهف أو تمَّ إيداعه في خزانة ملِك ذلك الزمان ثم تعاقب الملوك على توارثه وإيداعه في خزائنهم، لذلك عُرف أصحاب الكهف بأصحاب الرقيم أي عُرفوا بأصحاب ذلك اللوح المرقوم. الثاني: أنَّ الرقيم اسمٌ للجبل الذي فيه الكهف، فالكهف مغارةٌ في الجبل، والرقيم اسم لذلك الجبل الذي دخل أصحاب الكهف إلى مغارته، نُسب ذلك للحسن البصري وعطية. الثالث: أنَّ الرقيم هو اسمُ الوادي الذي كان فيه الكهف، ومن ذلك رقمة الوادي وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة، ودع الضّفة. والضِّفتان جانبا الوادي. نُسب هذا القول لابن عباس والضحاك، وقتادة. الرابع: أنَّ الرقيم هو اسم الكلب الذي اصطحبوه معهم إلى الكهف والذي قال الله فيه: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾([9]) نسبَ ذلك يزيدُ بن درهم إلى أنس بن مالك ونُسب أيضًا إلى سعيد بن جبير. الخامس: أنَّ الرقيم هو اسم القرية التي خرج منها أصحابُ الكهف، نُسب ذلك إلى السدي([10]). وأرجحُ الأقوال هو الأول فمضافًا إلى تناسبه مع المدلول اللُّغوي لكلمة الرقيم فإنَّه مرويٌّ عن الإمام الصادق (ع) كما في تفسير العياشي.
الهوامش: [1]- سورة الكهف / 9. [2]- تفسير البيضاوي -البيضاوي- ج3 / ص479. ونصُّ الخبر: "أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدت بابه فقال أحدهم اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله يرحمنا ببركته فقال أحدهم استعملت اجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته ثم اجرهم فغضب أحدهم وترك اجره فوضعته في جانب البيت ثم مر بي بقر فاشتريت به فصيلة فبلغت ما شاء الله فرجع إلي بعد حين شيخا ضعيفا لا اعرفه وقال إنه لي عندك حقا وذكره لي حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا اللهم أن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء وقال آخر كان في فضل وصابت الناس شدة فجاءتني امرأة فطلبت مني معروفا فقلت والله ما هو دون فك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثا ثم ذكرت لزوجها فقال أجيبي له واغيثي عيالك فأتت وسلمت إلي نفسها فلما تكشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت ما لك قالت أخاف الله فقلت لها خفته في الشدة ولم اخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها اللهم أن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا فانصدع حتى تعارفوا وقال الثالث كان لي أبوان هرمان وكانت لي غنم وكنت اطعمهما واسقيهما ثم ارجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيث فلم أبرح حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت أليهما فوجدتهما نائمين فشق علي أن أوقظهما فوقعت جاليا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهم أن كنت فعلته لوجهك فافرح عنا ففرج الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك نعمان بن بشير" ج3 / ص479، 480. [3]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج4 / ص274، المعجم الأوسط- الطبراني- ج3 / ص9. [4]- صحيح البخاري -البخاري ج4 / ص147، 148. [5]- تفسير القرآن وهو اختصار لتفسير الماوردي -عز الدين عبد السلام الدمشقي- ج2 / ص239. [6]- تفسير العياشي -العياشي- ج2 / ص321. [7]- سورة الكهف / 10. [8]- تفسير القمي -القمي- ج2 / ص32. [9]- سورة الكهف / 18. [10]- لاحظ: التبيان في تفسير القرآن -الشيخ الطوسي- ج7 / ص11، تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج6 / ص314، جامع البيان عن تأويل آي القرآن -الطبري- ج15 / ص249، معاني القرآن -النحاس- ج4 / ص217. تفسير الثعلبي ج6 / ص147، زاد المسير -ابن الجوزي- ج5 / ص76.
2022/05/26
سبع سماوات.. في أي سماء نحن؟!

الظاهر نحن في السماء الدنيا، وهناك عدّة نصوص قرآنيّة تدلُّ على ذلك، فمنها:

[اشترك]

1-  قوله تعالى: إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بِزينَةٍ الكَواكِبِ ﴿٦﴾ وَحِفظًا مِن كُلِّ شَيطانٍ مارِدٍ ﴿٧﴾ لا يَسَّمَّعونَ إِلَى المَلَإِ الأَعلىٰ وَيُقذَفونَ مِن كُلِّ جانِبٍ ﴿٨﴾ الصافات.

2- وقوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بِمَصابيحَ وَحِفظًا، ذٰلِكَ تَقديرُ العَزيزِ العَليمِ ﴿١٢﴾ فصلت.

3- وقوله تعالى: وَلَقَد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بِمَصابيحَ وَجَعَلناها رُجومًا لِلشَّياطينِ، وَأَعتَدنا لَهُم عَذابَ السَّعيرِ ﴿٥﴾ الملك.

 4- وقوله تعالى:  وَتَصريفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ ﴿١٦٤﴾ البقرة.

5- وقوله تعالى:  وَهُوَ الَّذي أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيءٍ 99 الانعام.

6- وقوله تعالى:  وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُم 11 الانفال.

7- وقوله تعالى:  إِنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنزَلناهُ مِنَ السَّماءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ 24 يونس.

8- وقوله تعالى:  أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَت أَودِيَةٌ 17 الرعد.

9- وقوله تعالى:  أَلَم يَرَوا إِلَى الطَّيرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ 17 النحل.

10- وقوله تعالى:  وَأَنزَلنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنبَتنا فيها مِن كُلِّ زَوجٍ كَريمٍ ﴿١٠﴾ لقمان.

فهذه الآيات واضحة أنّها تشير إلى السماء الدنيا.

2022/04/16
هل يعتقد الشيعة بـ ’تحريف القرآن’؟!

هناك إجماع من محققي الشيعة وعلمائها على صيانة القرآن من الزيادة أو النقصان، ومع أن مسألة حفظ القرآن من التحريف من المسلمات عند جميع المسلمين، إلا أن هناك الكثير من الروايات التي وردت عن طريق أهل السنة والشيعة يظهر منها وقوع النقص في القرآن، وقد اشكلت هذه الروايات على حشوية أهل السنة وأخباريه الشيعة.

[اشترك]

وما قام به المحدث النوري هو تتبع هذه الروايات من جميع مصادر المسلمين ووضعها في كتاب واحد وهو كتابه فصل الخطاب، الأمر الذي جعلها ظاهرة بعد أن كانت مخفية وضائعة وسط الكتب والمصادر،  ففصل الخطاب في حقيقته ليس فيه غير الروايات التي جمعها من مصادر المسلمين، وحينها ينحصر الخلاف بين قبول هذه الروايات أو رفضها، وقد تعرض الميزرا النوري لهجوم شديد لقيامه بهذا العمل، مع أن البعض نفى أن يكون قصده من هذا الكتاب إثبات تحريف القرآن، كما نقل تلميذه المحقق أغا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة عند ترجمته لكتاب فصل الخطاب بقوله: (فصل‌ الخطاب‌ في‌ تحريف‌ الكتاب‌ لشيخنا الحاج‌ ميرزا حسين‌ النوري‌ّ الطبرستاني‌ّ ابن‌ المولي‌ محمّد تقي‌ بن‌ الميرزا علی محمّد النوري‌ّ.. ثم يقول بعد ذكر ترجمته: أثبت فيه عدم التحريف بالزيادة والتغيير والتبديل وغيرها، ممّا تحقّق ووقع في غير القرآن، ولو بكلمة واحدة، لا نعلم مكانها، واختار في خصوص ما عدا آيات الأحكام وقوع تنقيص عن الجامعين، بحيث لا نعلم عين المنقوص المذخور عند أهله؛ بل يعلم إجمالاً من الأخبار التي ذكرها في الكتاب مفصلاً، ثبوت النقص فقط) وبذلك لا يكون كتاب فصل الخطاب في مورد إثبات تحريف القرآن الذي بين أيدينا، فما هو موجود كله قرآن من غير أن يزيد فيه حرف واحد، ولذا عندما كتب الشيخ محمود الطهراني رسالة في الرد على فصل الخطاب تحت عنوان (كشف الارتياب عن تحريف الكتاب) علق عليه الميرزا النوري في رسالته بقوله: (أنّ الاعتراض‌ مبنيّ علی المغالطة‌ في‌ لفظ‌ التحريف‌، فإنّه‌ ليس‌ مرادي‌ من‌ التحريف‌ التغيير والتبديل‌، بل‌ خصوص‌ الإسقاط‌ لبعض‌ المنزل‌ المحفوظ‌ عند أهله‌. وليس‌ مرادي‌ من‌ الكتاب‌ القرآن‌ الموجود بين‌ الدفّتين‌، فإنّه‌ باق‌ علی الحالة‌ التي‌ وضع‌ بين‌ الدفّتين‌ في‌ عصر عثمان‌، لم‌ يلحقه‌ زيادة‌ ولا نقصان‌، بل‌ المراد الكتاب‌ الإلهيّ المنزل‌) وعليه فإن الميرزا النوري لا يعتقد بوجود زيادة في القرآن الذي بين أيدنيا ولكنه لا يستبعد حدوث النقيصة بسبب هذه الروايات التي عمل على جمعها، وهذا ما لا يمكن قبوله والتسليم به، فالقرآن كما هو محفوظ من الزيادة كذلك محفوظ أيضاً من النقيصة، والروايات التي جاءت على خلاف ذلك أما ضعيفة وأما قابلة للتوجيه وأما ناظرة للتحريف في تفسيرات القرآن ومعانيه وليس في ألفاظه.

وإذا رجعنا لكتاب فصل الخطاب نجده قائم على أثني عشر دليلاً، عشرة منها من روايات أهل السنة، وأثنان فقط على مرويات الشيعة، ومع كثرة الروايات التي تم حشدها في هذا الكتاب إلا أنها لا تخلو جميعها من الإشكالات، وأفضل من تتبع هذا الأمر هو العلامة جعفر مرتضى العاملي في كتابه (حقائق هامة حول القرآن الكريم) حيث تتبع هذه المرويات وقام بتفنيد كل ما يدل على تحريف كتاب الله تعالى، وبذلك اثبت بما لا يدع مجالاً للشك صيانة القرآن من كل نقص وزيادة.

 وفي إجابة على سؤال حول كتاب فصل الخطاب يقول المحقق مرتضى العاملي: بالنسبة لكتاب فصل الخطاب للمحدث النوري نقول: لقد خُدع هذا المحدث ـ أو فقل انبهر ـ بروايات غير الشيعة، فقد وجدها مدونة في أصح الكتب عندهم.. وكتابه خير شاهد على ما نقول.. فإنه يتألف من اثني عشر دليلاً، عشرة منها مأخوذة من كتب أهل السنة، ولربما يورد منها نزراً يسيراً من كتب الشيعة.. ودليلان فقط مأخوذان من كتب الشيعة، ولربما يورد منها نزراً يسيراً من كتب أهل السنة.

ويمكن تلخيص أدلَّته على النحو التالي:

استدلَّ أولاً: بروايات أهل السنة، وقليل منها عن الشيعة، القائلة: بأن ما وقع في الأمم السالفة، سيقع في هذه الأمة.. قال: ومن ذلك تحريف الكتاب.

ولكن هذا الاستدلال باطل؛ لأن المقصود بهذه الروايات، هو حصول الصورة الكلية من حيث الجوهر والمضمون، وذلك في خصوص الحوادث الاجتماعية، والسنن التاريخية، بصورة كلية، وعامة.. وإلا.. فإن كثيراً من الأمور، قد حدثت في الأمم السالفة، دون هذه الأمة، وذلك مثل: عبادة العجل.. وتيه بني إسرائيل.. وغرق فرعون.. وملك سليمان.. ورفع عيسى.. وموت هارون وهو الوصي قبل موسى النبيّ.. وعذاب الاستئصال.. وولادة عيسى من غير أب.. وقصة أهل الكهف، وقصة الذي أماته الله مئة عام، ثم بعثه.. وغير ذلك..

فلو صحت الرواية.. فهي تدلُّ على وجود شبه ما بين ما يقع في هذه الأمة، وما يقع في الأمم السالفة، من بعض الوجوه.

فالتحريف الذي وقع في الأمم السالفة، قد بذلت محاولة لنظيره في هذه الأمة، ولكن عندما فشلت محاولاتهم لتحريف النص عمدوا إلى التحريف في معاني القرآن، وحدوده، وإن كانوا قد أقاموا حروفه.. والنتيجة المتوخاة من التحريفين الواقعين، في هذه الأمة، وفي الأمم الخالية، واحدة..

ومما يدلُّ على صون القرآن من التحريف في حروفه: أنه أحد الثقلين اللذين يحفظان الأمة من الضلال إلى يوم القيامة، وأنه كتاب الشريعة الخاتمة، التي وعد الله أن يظهرها على الدين كله ولو كره الكافرون.. وهو أيضاً المعجزة الخالدة، والحجة الصامتة التي هي عدل الحجة الناطقة.. فلا بد ـ بعد إثبات صفتي الإعجاز، والخلود له ـ من حفظه ليبقى إعجازه..

أما الكتب السالفة، فلم تكن هي معجزة الأنبياء أصلاً، فضلاً عن أن تكون معجزة خالدة، فلا يجب تكفُّل حفظها منه تعالى..

كما لا بدّ من حفظه من التحريف في ألفاظه إلى يوم القيامة، ليكون مع العترة حافظاً للأمة من الضلال كما قلنا.

والخلاصة: إنه ليس المراد بالسنن الواردة في الروايات: السنن الكونية، إذ ليس من سنن الكون تحريف الكتب، والتلاعب فيها، بل السنة، هي بقاؤها سليمة على حالها. والتلاعب فيها، هو المخالف للسنن الكونية، الجارية على أصول وقواعد، صحيحة ودقيقة..

وعلى كل حال، لو أردنا استعراض الآيات ـ بغض النظر عن الروايات ـ التي تذكر أحوال الأمم الماضية وسيرتها المتوافقة مع ما يجري في هذه الأمة، لاحتاج الأمر إلى كثير من التوسع لا مجال له هنا.. ابتداء من التكذيب والعناد، والرفض، ومحاولات القتل، فضلاً عن التهديد والأذى، وقتل ذراري الأنبياء، والسعي إلى تحريف الكتب ولو بالمعنى، وحرقها، والكذب بادعاء ما ليس منها أنه منها، وجعل أقوال أحبارهم ورهبانهم شريعة وديناً، وترك موسى وهارون، وأهل بيت هارون.. و.. و.. كما في آية رضاع الكبير، ورجم الشيخ والشيخة، وغير ذلك ـ نعم.. لو أردنا ذلك ـ لطال بنا المقام، واحتجنا إلى تأليف مستقل، وقد حصل مثل ذلك في هذه الأمة.

واستدلَّ ثانياً: بروايات أهل السنة حول جمع القرآن، وأنه قد كان بشاهدين، مما يعني: عدم تواتر القرآن لنا، وإمكانية وقوع التحريف فيه..

والشيعة يرون عدم صحة هذه الروايات، ويثبتون: أنه قد جمع في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» على يد علي بن أبي طالب «عليه السلام» كما ذكر في كتاب حقائق هامة حول القرآن.

كما أن غيره من الصحابة قد جمعه في عهد الرسول «صلى الله عليه وآله» ولو بصورة جزئية، بأن يكون قد فاته تدوين بعض سوره كما هو الحال بالنسبة لابن مسعود، والقرآن أيضاً محفوظ لدى قراء الأمة وحفاظها، ومتواتر على لسان الألوف المؤلفة، في جميع الطبقات..

واستدلَّ ثالثاً: بروايات أهل السنة التي تحدَّثت عن آيات يدعى نسخ تلاوتها؛ فرفض نسخ التلاوة، واعتبر هذه الروايات دالَّة على تحريفهم الكتاب. ونحن نوافقه على رفضه لنسخ التلاوة.. وبالنسبة لأمثلته، نقول:

إنها إما دعاء، أو من كلام الرسول «صلى الله عليه وآله»، مع تعرضها للتصرف من قبل الناقلين لها كما يدلُّ عليه ما يظهر عليها من ركاكة في التعبير.. والحال أنه «صلى الله عليه وآله» أفصح من نطق بالضاد.. أو لعلها من كلام بعض الصحابة، أو أخبار آحاد مكذوبة، وضعها أعداء الإسلام.

ثم استدلَّ رابعاً: بروايات أهل السنة، حول اختلاف مصاحف السلف، ورواياتهم في تقديم وتأخير بعض الآيات، وحول أن ترتيب القرآن كان باجتهاد من الصحابة..

ونقول:

إن هذه الروايات لا يعتدّ بها، ومع ذلك نقول:

إن هذا المقدار ـ لو سلم ـ فهو لا يعني تحريف القرآن..

أما دليله الخامس، فهو: اختلاف مصاحف الصحابة في ذكر بعض الكلمات، والآيات والسور.. مثل سورتي الخلع والحفد، ونحوها..

ونقول:

أما بالنسبة للروايات حول بعض الكلمات، فهي: إما تفسير، أو تأويل، أو دعاء، وما إلى ذلك..

وأما بالنسبة لبعض الآيات والسور، فلا شك في عدم صحة تلك الروايات فيها.

واستدلَّ سادساً: بأن أبي بن كعب، وهو أقرأ الأمة كما يقول غير الشيعة، قد زاد في مصحفه سورتي: الخلع والحفد..

أما الشيعة، فيقولون: إن علياً وأهل بيته «عليهم السلام» هم أقرأ الأمة.

ولكننا نقول:

إنه لو صحت رواية ذلك عن أبي بن كعب، فلعله كتبهما في مصحفه على انهما دعاء، ولم يكتبهما على أنهما قرآن..

ودليله السابع هو: ما رواه أهل السنة من إحراق عثمان للمصاحف، وحمله الناس على قراءة واحدة..

ونقول:

إن أمير المؤمنين علياً «عليه السلام»، قد أيّد عثمان في جمع الناس على قراءة واحدة، لكثرة ما ظهر في الناس من اللحن في القراءة، والقراءة باللهجات المختلفة وغير ذلك.. فهذا عمل صواب، هدفه حفظ القرآن من التحريف، وليس العكس.

ولكن علياً «عليه السلام» لم يرتض إحراقه المصاحف، فإن ذلك منهي عنه.

ودليله الثامن: هو روايات أهل السنة حول نقص القرآن، وذهاب كثير من آياته وسوره.

ونقول:

قد بحث الشيعة في هذه الروايات، وأوضحوا أنها لا تصلح للاستدلال بها، فراجع كتاب حقائق هامة حول القرآن في فصوله المختلفة.

واستدلَّ تاسعاً: بما ورد في كتب الشيعة: من أن أسماء الأئمة «عليهم السلام» قد وردت في الكتب السماوية فلا بد وأن تكون قد وردت في القرآن أيضاً، ثم حذفت.

وأجابه الشيعة: بأنه لا ملازمة بين تحريف الكتب السالفة في ألفاظه، وتحريف القرآن في ألفاظه، ولا بين ذكرها فيها، وذكرها فيه. إلا إن كان المراد: أن تحريف المعاني الذي حصل في هذه الأمة، فإنه يشبه تحريف النصوص الذي حصل في الكتب المنزلة على الأمم السابقة.

وقد ورد في الروايات عن الأئمة «عليهم السلام» ما يدلُّ على أن عدم ذكر اسم علي «عليه السلام» في القرآن، إنما هو لئلا يتعرض القرآن للتحريف.

واستدلَّ عاشراً: بروايات أهل السنة حول اختلاف القراءات، ويدعمون ذلك بما ورد من أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف.

ونقول:

إن كتاب حقائق هامة حول القرآن الكريم قد بين أن القراءات التي تتضمن تبديلاً أو تحريفاً أو زيادة أو نقيصة في الكلمات لا يصح، وأن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، لا يصح أيضاً.. فراجع ذلك الكتاب..

ودليله الحادي عشر: هو روايات منسوبة إلى الشيعة حول وقوع التحريف في القرآن.

وقد ردّه الشيعة ـ كما في كتاب: حقائق هامة حول القرآن بأنه استدلال فاسد؛ لأنها روايات ظاهرة التأويل، لأن المراد بها تحريف المعنى لا اللفظ.

كما أن بعض الأحاديث النادرة الأخرى إنما رواها الغلاة والضعفاء، والمنحرفون عن مدرسة أهل البيت «عليهم السلام»، وهي مخالفة للضرورة القطعيّة، فلا يلتفت إليها، ولا يعتد بها.. وتقدم أن بعضها يقصد به ذكر التأويل والتفسير المنزل، وليس ذلك من القرآن في شيء..

الثاني عشر: استدلَّ بروايات كثيرة، لربما تصل إلى الألف رواية، ذكرت فيها موارد مخصوصة من الآيات المحرَّفة..

يلاحظ: أن أكثرها يدخل في الأقسام التي تقدمت، أو ترجع إلى التفسير، وشأن النزول أو التأويل، كما أن التكرار فيها كثير وظاهر.. كما أن أكثرها من باب تكثير الأسانيد لا أكثر.. كما يظهر من الحصيلة الروائية التالية:

قد لاحظنا كتاب فصل الخطاب، فوجدنا أن أكثر من 320 رواية منها تنتهي إلى السياري، الفاسد المذهب والمنحرف، والغالي الملعون على لسان الصادق «عليه السلام»، والمطعون فيه من قبل جميع الرجاليين.

وأكثر من 600 من مجموع الألف عبارة عن مكرَّرات، والفرق بينها، إما من جهة نقلها من كتاب آخر، مع وحدة السند، أو من طريق آخر..

وغير هذين القسمين؛ فإن أكثر من مئة حديث منها عبارة عن قراءات مختلفة، أكثرها عن الطبرسي في مجمع البيان الذي يستقي من كتب أهل السنة غالباً.. كما أن أكثرها مشترك نقله بين السنة والشيعة، ولا سيما بملاحظة: أن الطبرسي كان مهتماً جداً بالرواية عن رجال أهل السنة، كقتادة، ومجاهد، وعكرمة، وكثير غيرهم.

وما تبقَّى؛ فإنما هو روايات قليلة جداً لا تستحق الذكر والالتفات.

هذا كله.. عدا عن أن قسماً من أخبار التحريف، منقول عن علي بن أحمد الكوفي، الذي وصفه علماء الرجال بأنه كذاب، فاسد المذهب..

وقسم آخر منقول عن آخرين ممن يوصف بالضعف، أو بالانحراف، كيونس بن ظبيان، الذي ضعفه النجاشي، ووصفه ابن الغضائري بأنه: «غالٍ، كذاب، وضاع للحديث». ومثل منخل بن جميل الكوفي، الذي يقولون فيه: إنه غال، منحرف، ضعيف، فاسد الرواية. ومثل محمد بن حسن بن جمهور، الذي هو غال، فاسد المذهب، ضعيف الحديث. وأمثال هؤلاء، لا يصح الاعتماد على رواياتهم في أبسط المسائل الفرعية، فكيف بما يروونه في هذه المسألة، التي هي من أعظم المسائل، وأشدها خطراً، وعليها يتوقف أمر الإيمان، ومصير الإسلام.

ولا بد من دراسة وافية لمعرفة السبب، الذي دعا الغلاة وفاسدي المذهب للقيام بهذا الدور الهدَّام، في مجال إلصاق هذه الفرية بالقرآن الكريم.

ولا شك أن ذلك مما تقرّ به عيون الزنادقة، ويبتهج له مردة اليهود والنصارى، ويشجعونه، ويُشِيعونه، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً..

وبديهي أن الغلاة ليسوا من الشيعة، ويتجنبهم الشيعة، ويكفّرونهم، فلا يصح نسبة بدع الغلاة وترَّهاتهم إلى الشيعة.

2022/03/20
قصص القرآن: حقائق ومعاجز أم أساطير وخرافات؟!

لابد من التأكيد على أن القرآن ليس كتاباً تاريخياً، فليس من أهدافه استعراض الاحداث التي وقعت في التاريخ الإنساني، وعندما يتعرض لذكر بعض الحوادث الماضية لا يتعرض لها بقصد توثيقها كحدث قد وقع، وإنما بهدف توظيف بعض جوانبها من أجل هدفه العام وهو الهداية.

[اشترك]

ولا يمكن أن يتحقق ذلك الهدف إلا إذا كانت القصة نابعة من الواقع الإنساني وليست محض خيال، حيث لا يمكن الاعتبار من القصة ولا يمكن أن تكشف عن سنة اجتماعية إذا كانت مجرد اسطورة، فواقعية القصة واتصالها المباشر بالفعل الإنساني هو الذي يحقق للقرآن الهدف الذي يرجوه، ومن هنا فإن كل ما في القرآن من وقائع وأحداث ماضية هي حقائق حدثت بالفعل، وقد فرق القرآن بشكل واضح بين الأمثال التي تضرب لتقريب فكرة ما، وبين القصص الواقعية التي تكشف عن سنن تاريخية واجتماعية، فعندما يريد القرآن أن يضرب مثلاً يصرح بذلك كقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وكذلك قوله تعالى: (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتخَّذَتْ بَيْتًا) أو قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بمِا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَ نِدَاء)، وهذا بخلاف تناول القرآن للقصص، فهو يتناولها بوصفها حقائق واقعية متحققة في الخارج، وقد صرح القرآن بذلك في كثير من الآيات كقوله تعالى: (لَقَدْ كاَنَ في قَصَصِهِمْ عِبرْةٌ لّأِوْلىِ الْأَلْبَبِ مَا كاَنَ حَدِيثًا يُفْترَى‏ وَ لَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَينْ‏ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلّ‏ شيءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون) و كذلك قوله: (وَكلاُّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَ جَاءَكَ في هَذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِين)

وعليه فإن القصص القرآنية تعد واحدة من الإعجازات الدالة على كون القرآن وحي من الله تعالى، فما وقع بين الأنبياء وأقوامهم من قصص لا يمكن الوقوف عليها إلا من خلال الوحي؛ وذلك لأن المناهج التاريخية تستوثق من أحداث الماضي بأحد طريقين، الأول: هو الوثائق المكتوبة، والثاني: من خلال البحث في الآثار المادية، والقرآن الكريم في نظر المؤمنين يعتبر أهم مصدر واصدق وثيقة مكتوبة، والذي يشكك في ذلك يتعين النقاش معه كبروياً وليس صغروياً، فإثبات كون القرآن وحي من الله مقدم على اثبات كون القصص القرآني امور واقعية.

 أما المنهجية الثانية وهي الآثار المادية فهي قد تكون صالحة فقط للتعرف على المدن والحصون وغير ذلك من آثار الحضارات القديمة، ولا علاقة لها بما وقع من أحداث اجتماعية وإنسانية، والقصص القرآنية لا تحكي عن آثار مادية حتى نستعين بالحفريات للتأكد منها، وإنما هي قصص لها علاقة بالفعل الإنساني والاحداث الاجتماعية، كما أن مهمة الأنبياء والدور الذي قاموا به ليس له علاقة بترك آثار مادية، فليس من مهامهم بناء المدن وتشييد الحصون كما هو حال ملوك الحضارات القديمة، وإنما كانت مهمتهم الإنسان والعمل على إصلاحه فكرياً واخلاقياً وسلوكياً، وكل ما جاء في القرآن من قصص يخدم هذا الهدف، وبالتالي من الخطأ البحث عن الأثر المادي للقصص القرآنية.

ومن المؤكد أن القصص القرآنية بالنسبة لنا من الأمور الغيبة، ولا يمكن لأي إنسان الادعاء بأنه يمتلك طريقاً للوقوف على حقيقة ما وقع بالفعل، فالطرف الذي يشكك في واقعية هذه القصص إنما يشكك من باب الإنكار والمجادلة؛ وذلك لأنه لا يوجد أي سبيل لإثبات خلاف ما جاء ذكره في القرآن، وقد أشار القرآن لهذا الأمر عندما أكد بأن هذه القصص من أنباء الغيب،  قال تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون)، وقوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون). وعليه أن مصدر كل تلك القصص وما فيها من تفاصيل دقيقة هو الوحي الإلهي وهذا ما يؤكده قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)

وبذلك ننفي وجود أي طريق علمي يمكن الاستعانة به غير التصديق بما جاء في القرآن، ومن لم يرد أن يصدق فهذا شأنه، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)

ويبدو أن تشكيكات البعض في قصص القرآن هو تقليد اعمى لبعض الباحثين الغربيين الذين شككوا في قصص التوراة والانجيل، وهذا قياس لا يمكن قبوله والتسليم به، وقد سبق القرآن هؤلاء الباحثين عندما اكد على التحريفات التي وقعت في تلك الكتب السماوية، وهذا ما لم يحدث مع القرآن الكريم، والأدلة على أن القرآن محفوظ كثيرة وقد ذكرت في محلها، ومن المعلوم أن كتب أهل الكتاب مليئة بالخرافات والاساطير إلى درجة أن بعضها مخالف لأبسط القيم الأخلاقية والضرورات العقلية، وهذا بخلاف ما جاء في القرآن، فكل من يقرأ القرآن وهو متجرد للحقيقة سوف يكتشف الفرق الكبير بينه وبين ما هو موجود في ايدي اليهود والنصارى، فالقرآن ليس فقط ينقل بعض القصص بكل واقعية وموضوعية وإنما ينقل لنا عبر تلك القصص مجموعة من العبر والحِكم والقيم والسنن التاريخية التي نحتاج معرفتها من اجل حياتنا الراهنة، فمع أنها قصص وقعت في الماضي إلا أنها مازالت حاضرة ومتجلية في حياتنا اليومية.

2022/03/17
حقائق في سورة ’الفاتحة’.. تعرّف عليها

كلّ واحدة من الآيات السبع في هذه السّورة تشير إلى حقيقة هامّة:

[اشترك]

( بِسْمِ اللَّهِ ... ) 1 بداية لكلّ عمل، و تعلّمنا الاستمداد من الباري تعالى لدى البدء بأي عمل.

( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) 2 درس في عودة كلّ نعمة و رعاية إلى اللّه تعالى، و إلفات إلى حقيقة انطلاق كلّ هذه المواهب من ذات اللّه تعالى.

( الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) 3 تبيّن هذه الحقيقة، و هي: إنّ خلق اللّه و رعايته و حاكميته تقوم على أساس الرّحمة و الرّحمانية، و هذا المبدأ يشكّل المحور الأساس لنظام رعاية العالم.

( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) 4 استحضار للمعاد و يوم الجزاء، و لحاكمية اللّه على تلك‌المحكمة الكبرى.

 

( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) 5 تبيّن التوحيد في العبادة، و التوحيد في الاستعانة بالأسباب.

( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) 6 توضّح حاجة العباد و رغبتهم الشديدة للهداية، و تؤكّد حقيقة أن كل ألوان الهداية إنما تصدر منه تعالى.

و آخر آية من هذه السّورة ترسم معالم‌ 7 و تميّز بين صراط الذين أنعم اللّه عليهم، و صراط الذين ضلّوا و الذين استحقّوا غضب اللّه عليهم.

و يمكن تقسيم هذه السّورة، من منظار آخر إلى قسمين: قسم يختصّ بحمد اللّه و الثناء عليه، و قسم يتضمّن حاجات العبد.

و إلى هذا التقسيم يشير الحديث الشريف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم قال: «قال اللّه عزّ و جلّ: قسّمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل.

إذا قال العبد ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) 8 قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي و حقّ عليّ أن أتمّم له أموره و أبارك له في أحواله.

فإذا قال: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) 2 قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي و علم أنّ النعم الّتي له من عندي، و أنّ البلايا الّتي دفعت عنه فبتطوّلي، أشهدكم أنّي أضيف له إلى نعم الدّنيا نعم الآخرة، و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدّنيا.

و إذا قال: ( الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) 3 قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرّحمن الرّحيم، أشهدكم لأوفّرنّ من رحمتي حظّه و لأجزلنّ من عطائي نصيبه.

فإذا قال: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) 4 قال اللّه تعالى: أشهدكم كما اعترف بأنيّ أنا مالك يوم الدّين لأسهّلنّ يوم الحساب حسابه، و لأتقبّلنّ حسناته، و لأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فإذا قال: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ... ) 5 قال اللّه عزّ و جلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد أشهدكم لأثيبنّه‌ على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال: ( ... وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) 5 قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي، و إليّ التجأ، أشهدكم لأعيننّه على أمره، و لأغيثنّه في شدائده و لآخذنّ بيده يوم نوائبه.

فإذا قال: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) 6 إلى آخر السّورة قال اللّه عزّ و جلّ: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمّل و آمنته ممّا منه و جل»9 10.


الهوامش:

1. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 1.

2. a. b. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، الآية: 2، الصفحة: 1.

3. a. b. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، الآية: 3، الصفحة: 1.

4. a. b. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، الآية: 4، الصفحة: 1.

5. a. b. c. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، الآية: 5، الصفحة: 1.

6. a. b. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، الآية: 6، الصفحة: 1.

7. القران الكريم: سورة (1)، الآيات: 6 - 5، الصفحة: -1.

8. القران الكريم: سورة الفاتحة (1)، الآية: 1، الصفحة: 1.

9. عيون أخبار الرضا، نقلا عن الميزان، ج 1، ص 37.

10. المصدر: كتاب الامثل في تفسير كتاب الله المنزل‌، لسماحة آية الله الشيخ مكارم الشيرازي

2022/02/16
تبيان لكل شيء.. هل ذكر القرآن الكريم كل «الأحكام الشرعية»؟
إذا كان القرآن الكريم "تبيان لكل شيء" لماذا غيّب الكثير من الأحكام وتفصيلاتها التي بيّنها النبي وأهل البيت (ع) والفقهاء العدول؟

[اشترك]

أولاً: القرآن لم يغيب شيئاً من الأحكام، وذكرها على نحو الإجمال لا يعد تغييباً لها.

ثانياً: كون القرآن تبياناً لكل شيء لا يعني بالضرورة أن يكون ذلك بذكر التفاصيل، فبيان الشيء إما أن يكون عبر بيان أصوله وقواعده وكلياته، وإما أن يكون ببيان تفصيلاته، وعليه حصر معنى البيان في ذكر التفاصيل لا يمكن التسليم به.

ثالثاً: بيان رسول الله للقرآن ليس شيئاً خارجاً عن حدود القرآن حتى يعتبر بياناً من خارج القرآن، فالقرآن الذي وصف نفسه بأنه بيان لكل شيء هو ذاته أمر رسوله ببيان كتابه في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وعليه فالتفاصيل الواردة في السنة هي دليل على كون القرآن بيان لكل شيء.

رابعاً: اشتمل القرآن على كل ما يحتاجه المؤمن من أصول الدين وعقائده، أما الفروع والأحكام التشريعية فقد بين القرآن الطرق في تحصيلها، فإذا تحصل الإنسان عليها بتلك الطرق يكون قد تحصل عليها من القرآن، ومن أهم تلك الطرق هو تقليد الرسول والاقتداء به، فقد قال تعالى: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

ومن هنا فإن علاقة القرآن بالسنة تتصور في عدة وجوه:

1- السنة تؤكد وتقرر ما جاء في القرآن الكريم؛ مثاله: العبادات التي أمرنا الله تعالى بالقيام بها (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) جاء تقريرها وتوكيدها في السنة.

2- السنة تفسر وتفصل وتبين ما جاء مُجملاً في القرآن: لقد جاءت آيات القرآن في كثير من القضايا مجملة، ففصلتها السنة الشريفة سوى كان بالقول أو بالتطبيق العملي. مثل بيان أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة، ونصابها ومقدار الزكاة الواجب إخراجها.

3- السنة تخصص ما جاء عاماً في القرآن الكريم، مثاله: قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) جاء الحكم في الآية بأن الأولاد جميعاً يرثون من آبائهم وأمهاتهم، ولكن السنة النبوية خصصت هذا العموم: (لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً) وكذلك إذا كان الوارث قاتل مورِّثه فيحرم من ميراثه.

4- السنة تقيد ما جاء مطلقاً في القرآن، مثاله: قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) حيث جاءت اليد مطلقة، واليد في اللغة تطلق على الطرف العلوي من الأصابع إلى الكتف، فجاءت السنة الشريفة بتقييد هذا الإطلاق فحددت موضع القطع.

وهكذا لا يمكن فصل القرآن عن السنة، كما لا يمكن تحقيق معناً للإسلام إلا من خلال الجمع بين القرآن والسنة، فالقرآن بين كل شيء إما على نحو الأجمال وإما على نحو التفصيل، فما جاء مجملاً أمر رسوله ببيانه.

2022/02/06