قرآنيات

2023/11/01
الكفار في «معيشة ضنكاً».. حقيقة أم وهم؟!
قال الله تعالى في سورة طه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾(1).

ظاهر الآية أنَّ الضنك والضيق والشقاء في المعيشة تُصيب المعرض عن ذكر الله في الدنيا بقرينة قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ فإنَّ ظاهر الآية أن المعرض عن ذكر الله يُبتلى بضيق المعيشة في الدنيا ثم يُحشر يوم القيامة أعمى، وهذا بخلاف ما نجده من أنَّ الكثير من المعرضين عن ذكر الله تعالى في رغدٍ وسعة من العيش، وكذلك فإنَّ العديد من الآيات نصَّت على أنَّ الكافرين يُمتعون في الدنيا كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ.. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾(2).

فكيف نوفِّق بين ما دلَّ على أنَّ الكافر يمتع في الدنيا وبين الآية التي أفادت أنَّ المعرض عن ذكر الله تكون له معيشة ضنكا.

ليس المراد من قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ هو الضيق في الرزق أو المرض أو عدم الأمن أو غيرها من أسباب الضيق في المعيشة، فإنَّ ذلك يُصيبُ الكافر ويُصيب المؤمن بل المراد من الآية- ظاهراً- هو أنَّ المُعرِض عن الله والجاحدَ لوجوده والمنكرَ لربوبيته يكون تعلُّقه متمحِّضاً بالدنيا لا يرجو غيرها لذلك يشتدُّ حرصُه على أن يتنعَّم فيها بأقصى ما يُتاح له، فهي الفرصة السانحة التي لا تقبل التكرار بحسب اعتقاده، ولهذا فإنَّه كلَّما حظيَ فيها بنعيمٍ أو لذَّة فإنَّه يحرصُ على أن يحظى بما هو أكثر فيكدح ويشغل قلبَه ويُجهد نفسه لغرض الوصول إلى ما يرغب إليه من المزيد فيشغله حرصه الدائم على المزيد عن الشعور بالهناء والسعادة الكاملة بما في يده، وهذا الحرص هو ما يبعثُ في نفسِه الشعور بالضيق، فلا يكاد يشعرُ بالراحة حتى تُساوره مشاعر الجشع والنهَم وطلبِ المزيد، وذلك ما يُكدِّر صفوه ويُقلق راحته لأنَّه يخشى أن يموت قبل الوصول إلى رغباته ومشتهياته التي لا تنتهي، ولا تقفُ عند حد.

ثم إنَّ الشعور بالهمِّ وضيقِ الصدر لا ينشأ عن طلب المزيد وحسب بل ينشأ كذلك عن الخشية من زوال ما بيدِه من أسباب الراحة، فهو يخشى دائماً أنْ يُصاب بمرضٍ يمنعُه من التلذُّذ بما في يدِه أو يخشى على أموالِه من التلف أو الضياع وعلى تجارته من الخسارة أو يخشى من ذهاب المنصب أو الموقع الذي يتبوأه أو يخشى أن يفقد مَن يُحبُّهم ويألفُهم، ويخشى أنْ يتقدَّم به السنُّ فلا يُتاح له التلذُّذ بما تحت يده، فهو دائماً في غمٍّ وهمِّ واضطرابٍ وقلقٍ وخوف من المجهول. وهذا هو معنى ضنك المعيشة التي يُبتلى بها المُعرِض عن ذكر الله والذي لا يرجو اللهَ واليوم الآخر.

وكذلك فإنَّ الحياة بطبعها محفوفة بالمكاره والمنغِّصات، فإنَّ ذلك لا يخلو منه إنسان، فلا تخلو الحياة من فقدٍ للأحبة أو إخفاق في مسعى أو عارض من مرضٍ أو عداوة أو خصومة وغير ذلك من المكاره والمنغِّصات، فالإنسانُ الذي لا يُؤمن بالله واليوم الآخر يضيقُ صدره بهذه المكاره أشدَّ الضيق لأنَّه يعتقد بأنَّ هذه الحياة غيرُ قابلةٍ للتكرار، فهو يرى أنَّ هذه الكاره وهذه المُعوِّقات تُفوِّتُ عليه فرصته الوحيدة في الاستمتاع والسعادة، لذلك فهو يشعر بالضيق والغيظ والتبرُّم والخشية من أنْ يمضي العمر على هذه الوتيرة.

وعلى خلاف ذلك المؤمنُ بالله حقَّ الإيمان والمعتقِدُ صادقاً أنَّ لهذه الدنيا ما وراءها وأنَّ المكارَه والمصائب معوَّضة بأوفرِ ما يكون العوض، وأنَّ ثمة حياةً بعد هذه الحياة ليس فيها موت، وأنَّ ثمة نعيماً لا يشوبه تنغيص ولا يخطر امتدادُه وسِعتُه على قلب بشر، وأنَّ هذه الدنيا دارُ بلاءٍ وامتحان مَن صبرَ فيها على المكروه وعمل فيها بمرضاتِ الله كان مآله إلى جنَّة يحظى فيها بعطاءٍ وافرٍ غير مجذوذٍ ولا مقطوع، مثلُ هذا يتلقَّى مكاره الدنيا بقلبٍ مطمئنٍ واثقٍ بوعد الله الصادق: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(3) وإذا أصاب من هذه الدنيا خيراً شعر بالقناعة والامتنان لربِّه ولم تذهبْ نفسُه حسراتٍ على ما يفوته من نعيمِ هذه الدنيا، لأنَّه ينتظرُ نعيماً واسعاً ليس له انقطاع فذلك هو ما يبعثُ في نفسه الشعور بالقناعة والرضا بما قُدِّر له في هذه الدنيا ، وهذه القناعة هي التي تمنحُه الراحة والاستقرار.

وخلاصة القول: إنَّ معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ هو أنَّ المعرِض عن ذكر الله تعالى يكون حظُّه من هذه الحياة ضيقَ الصدر واضطراب البال والحرص الشديد على الاستكثار من الملذَّات والخشية من فوات ما في يدِه منها ، وهو ما يسلب منه الشعور بالراحة والاستقرار، فلا يكادُ يشعر بالسعادة حتى تُساوره مشاعر القلق والخوف من المجهول فتُحيل غبطته بما صار في يده إلى توجُّسٍ واكتئاب.

الهوامش: 1- سورة طه / 124. 2- سورة لقمان / 23-24. 3- سورة الزمر / 10.
2023/10/23
مجازر وتشريد: متى تنتهي معاناة المسلمين بـ «نصر من الله»؟!
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّی يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ (٢١٤ - البقرة)

‏قال بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت عند ما حوصر المسلمون و اشتدّ الخوف و الفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت علی قلوبهم و تعدهم بالنصر.

‏و قيل: إنّ عبد اللّه بن أبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلی متی تتعرّضون للقتل و لو كان محمّد نبيّا لما واجهتم الأسر و التقتيل، فنزلت الآية١.

‏الصعاب والمشاقّ سنّة إلهية

‏يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت تری أنّ إظهار الإيمان باللّه وحده كاف لدخولهم الجنّة، و لذلك لم يوطنوا أنفسهم علی تحمّل الصعاب‌ و المشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم و دفع شرّ الأعداء عنهم.

‏الآية تردّ علی هذا الفهم الخاطئ و تشير إلی سنّة إلهية دائمة في الحياة، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ و التحدّيات علی طريق الإيمان ليكون ذلك اختبارا لصدق إيمانهم، و مثل هذا الاختبار قانون عامّ سری علی كلّ الأمم السابقة.

‏و يتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل- مثلا- و ما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر و نجاتهم من التسلّط الفرعوني، خاصّة حين حوصروا بين البحر و جيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقد فيها بعضهم نفسه، لكن لطف اللّه شملهم في تلك اللحظات و نصرهم علی أعدائهم.

‏و هذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عامّ لكلّ‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ و هو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة و تربيتها. فكلّ الأمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلی فولاذ أكثر مقاومة و أصلب عودا. ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الاختبار من هو اللائق، و ليسقط غير اللائق و يخرج من الساحة الاجتماعية.

‏المسألة الأخری التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية: أنّ الجماعة المؤمنة و علی رأسها النبيّ صلی اللّه عليه و آله و سلّم ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول‌ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌؟!، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب و الدعاء.

‏فتقول الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ ....

‏و بما أنّهم كانوا في غاية الاستقامة و الصبر مقابل تلك الحوادث و المصائب، و كانوا في غاية التوكّل و تفويض الأمر إلی اللّطف الإلهي، فلذلك تعقّب الآية أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ‌.

‏(بأساء) من مادّة (بأس) و كما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في‌ الأصل تعني الشّدة و أمثالها، و تطلق علی كلّ نوع من العذاب و المشّقة، و يطلق علی الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوة و شدّة (بأيس) أو (ذو البأس).

‏و كلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء، و هي ما يسرّ الإنسان و يجلب له النفع، فعلی هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يصيب الإنسان، سواء في المال أو العرض أو النفس و أمثال ذلك.

‏جملة مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌ قيلت من قبل النبي و المؤمنين حينما كانوا في منتهی الشّدة و المحنة، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهيّة، بل هو نوع من الطلّب و الدعاء، و لذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

‏و ما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متی نصر اللّه) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، و جملة (ألا إنّ نصر اللّه قريب) قيلت من قبل النبي صلی اللّه عليه و آله و سلّم بعيد جدّا.

‏و علی ايّة حال، فإنّ الآية أعلاه تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعا، و تنذر المؤمنين في جميع الأزمنة و الأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر و التوفيق و المواهب الاخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات و المشاكل و يبذلوا التضحيات في هذا السبيل، و في الحقيقة إنّ هذه المشاكل و الصّعوبات ما هي إلّا إمتحان و تربية للمؤمنين و لتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

‏و عبارة الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ تقول للمسلمين: أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتلوا أيضا بهذه الشدائد و المصائب إلی درجة أنّهم مسّتهم البأساء و الضرّاء حتّی استغاثوا منها.

‏و أساسا فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يحاط الأفراد و المجتمعات في دائرة البلاء و الشّدائد حتّی يكونوا كالفولاذ الخالص و تتفتّح قابليّاتهم الداخليّة و ملكاتهم النفسانيّة و يشتد إيمانهم باللّه تعالی، و يتميّز كذلك المؤمنون و الصّابرون‌ عن الأشخاص الانتهازيّين، و نختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف:

‏يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام: قال قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا ألا تدعو اللّه لنا.

‏فقال صلی اللّه عليه و آله و سلّم: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار علی مفرق رأسه فيخلص إلی قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه و يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه و عظمه لا يصرفه ذلك عن دينه؛ ثمّ قال: و اللّه ليتمن هذا الأمر حتّی يسير الراكب من صنعاء إلی حضرموت لا يخاف إلّا اللّه و الذئب علی غنمه و كلّكم يستعجلون»٢.

*مقتبس من تفسير الأمثل الهوامش: ‏١ مجمع البيان، ج ١، ص ٣٠٨. ‏٢ الدر المنثور: ج ١ ص ٢٤٣، تفسير الكبير: ج ٦ ص ٢٠.
2023/10/18
جواب صادم لمنكري «القرآن» و «النبوّة»!
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‌ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّـهِ سُبْحانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣).

‏هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابق- كذلك- وهي تناقش المنكرين للقرآن و نبوّة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم و قدرة اللّه سبحانه.

‏وهي آيات تبدأ جميعها ب «أم» التي تفيد الاستفهام و تشكّل سلسلة من‌ الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعا (بصورة الاستفهام الإنكاري)، و بتعبير أجلی: إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهربا في عبارات موجزة و مؤثّرة جدّا بحيث ينحني الإنسان لها من دون إختياره إعظاما و يعترف و يقرّ بانسجامها و عظمتها. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‌ءٍ أَمْ هُمُ‌ الْخالِقُونَ‌١.

‏وهذه العبارة الموجزة و المقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلی «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة و علم الكلام لإثبات وجود اللّه، و هو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّ- فيه- حادث (لأنّه في تغيير دائم، و كلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث، و كلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديما و أزليّا).

‏و الآن ينقدح هذا السؤال، و هو إذا كان العالم حادثا فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية:

‏١- وجد من دون علّة!

٢- هو نفسه علّة لنفسه.

‏٣- معلولات العالم علّة لوجوده.

‏٤- إنّ هذا العالم معلول لعلّة اخری و هي معلولة لعلّة اخری إلی ما لا نهاية.

‏٥- إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتيا له.

‏و بطلان الاحتمالات الأربع المتقدّمة واضح، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال، و إلّا فينبغي أن يكون كلّ شي‌ء موجودا في أي ظرف كان، و الأمر ليس كذلك! و الاحتمال الثاني و هو أن يوجد الشي‌ء من نفسه محال أيضا، لأنّ مفهومه أن‌ يكون موجودا قبل وجوده، و يلزم منه اجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

‏و كذلك الاحتمال الثالث و هو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته، و هو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور!.

‏و كذلك الاحتمال الرابع و هو تسلسل العلل و ترتّب العلل و المعلول إلی ما لا نهاية أيضا محال، لأنّ سلسلة المعلولات اللّامحدودة مخلوقة، و المخلوق مخلوق و يحتاج إلی خالق أوجده، تری هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلی عدد؟! أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! و هل يولد الغنی من ما لا نهاية له في الفقر و الفاقة؟

‏فبناء علی ذلك لا طريق إلّا القبول بالاحتمال الخامس، أي خالقية واجب الوجود [فلاحظوا بدقّة أيضا].

‏و حيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الاحتمال الأوّل و الثاني فإنّ القرآن اقتنع به فحسب.

‏و الآن ندرك جيّدا وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة! الآية التالية تثير سؤالا آخر علی الادّعاء في المرحلة الأدنی من المرحلة السابقة فتقول: أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‌.

‏فإذا لم يوجدوا من دون علّة و لم يكونوا علّة أنفسهم أيضا، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات و الأرض؟! و إذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود، فهل أو كل اللّه إليهم أمر خلق السماء و الأرض؟ فعلی هذا هم مخلوقون و بيدهم أمر الخلق أيضا!!.

‏من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الادّعاء الباطل، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول: بَلْ لا يُوقِنُونَ‌! أجل، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فرارا من الإيمان! ثمّ يتساءل القرآن قائلا: فإذا لم يدّعوا هذه الأمور و لم يكن لهم نصيب في‌ الخلق، فهل عندهم خزائن اللّه‌ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ‌٢ ليهبوا من شاؤوا نعمة النبوّة و العلم أو الأرزاق الآخر و يمنعوا من شاؤوا ذلك: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ‌ علی جميع العوالم و في أيديهم امور الخلائق؟! انّهم لا يستطيعون- أن يدّعوا أبدا أنّ عندهم خزائن اللّه تعالی، و لا يملكون تسلّطا علی تدبير العالم، لأنّ ضعفهم و عجزهم إزاء أقل مرض بل حتّی علی بعوضة تافهة و كذلك احتياجهم إلی الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل علی عدم قدرتهم و فقدان هيمنتهم! و إنّما يجرّهم إلی إنكار الحقائق هوی النفس و العناد و حبّ الجاه و التعصّب و الأنانية!.

‏و كلمة: «مصيطرون» إشارة إلی أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء، إذ كانوا يعتقدون أنّ كلّ نوع من أنواع العالم إنسانا كان أمّ حيوانا آخر أم جمادا أم نباتا له مدبّر و ربّ خاصّ يدعی بربّ النوع و يدعون اللّه «ربّ الأرباب» و هذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركا» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو للّه وحده و يصفه بربّ العالمين.

‏وأصل هذه الكلمة من «سطر» و معناه صفّ الكلمات عند الكتابة، و «المسيطر» كلمة تطلق علی من له تسلّط علی شي‌ء ما و يقوم بتوجيهه، كما أنّ الكاتب يكون مسيطرا علی كلماته (و ينبغي الالتفات إلی أنّ هذه الكلمة تكتب بالسين و بالصاد علی السواء- مسيطر و مصيطر- فهما بمعنی واحد و إن كان الرسم القرآن المشهور بالصاد «مصيطر»).

‏و من المعلوم أنّه لا منكرو النبوّة و لا المشركون في العصر الجاهلي و لا سواهما يدّعي أيّا من الأمور الخمسة التي ذكرها القرآن، و لذلك فإنّه يشير إلی موضوع آخر في الآية التالية فيقول: إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم‌ أو يدعون أنّ لهم سلّما يرتقون عليه إلی السماء فيستمعون إلی أسرار الوحي: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‌.

‏و حيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم علی معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرة بعد هذا الكلام بالدليل فيقول: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ‌.

‏و من الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الادّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب، إذ لم يكن لهم دليل علی ذلك أبدا٣.

‏ثمّ يضيف القرآن قائلا: هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة إناث و هم بنات اللّه؟! أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ‌؟! و في هذه الآية إشارة إلی واحد من اعتقاداتهم الباطلة، و هو استياؤهم من البنات بشدّة، و إذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتا» اسودّت وجوههم من الحياء و الخجل! و مع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات اللّه، فإذا كانوا مرتبطين بالملإ الأعلی و يعرفون أسرار الوحي، فهل لديهم سوی هذه الخرافات المضحكة .. و هذه العقائد المخجلة؟! و بديهي أنّ الذكر و الأنثی لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية .. و التعبير في الآية المتقدّمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة و محاججتهم بها.

‏و القرآن يعوّل- في آيات متعدّدة- علی نفي هذه العقيدة الباطلة و يحاكمهم في هذا المجال و يفضحهم‌!! ثمّ يتنازل القرآن إلی مرحلة اخری، فيذكر واحدا من الأمور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‌.

‏«المغرم»- علی وزن مغنم و هو ضدّ معناه- أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة، أمّا الغريم فيطلق علی الدائن و المدين أيضا.

‏و «المثّقل» مشتقّ من الأثقال، و معناه تحميل العب‌ء و المشقّة، فبناء علی هذا المعنی يكون المراد من الآية: تری هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون علی أدائها و لذلك يرفضون الإيمان؟! و قد تكرّرت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النّبي فحسب، بل في شأن كثير من الأنبياء، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لأممهم: لا نريد علی إبلاغنا الرسالة إليكم أجرا .. ليثبت عدم قصدهم شيئا من وراء دعوتهم و لئلّا تبقی ذريعة للمتذرّعين أيضا.

‏و مرّة اخری يخاطبهم القرآن متسائلا أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‌ فهؤلاء يدّعون أنّ النّبي شاعر و ينتظرون موته لينطوي بساطه و ينتهي كلّ شي‌ء بموته و تلقی دعوته في سلّة الإهمال، كما تقدّم في الآية السابقة ذلك علی لسان المشركين إذ كانوا يقولون .. نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ‌.

‏فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! و من أخبرهم بالغيب؟! و يحتمل أيضا أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية و أحكام اللّه و لستم بحاجة إلی القرآن و دين محمّد فهذا كذب عظيم‌٤.

‏ثمّ يتناول القرآن احتمالا آخر فيقول: لو لم يكن كلّ هذه الأمور المتقدّمة، فلا بدّ أنّهم يتآمرون لقتل النّبي و إجهاض دعوته و لكن ليعلموا أنّ كيد اللّه أعلی‌ و أقوی من كيدهم: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ‌٥.

‏و الآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (٥٤) من سورة آل عمران التي تقول: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّـهُ وَ اللَّـهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ‌.

‏و احتمل جماعة من المفسّرين أنّ المراد من الآية محلّ البحث هو: «انّ مؤامراتهم ستعود عليهم أخيرا و تكون وبالا عليهم ...» و هذا المعنی يشبه ما ورد في الآية (٤٣) من سورة فاطر: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‌.

‏و الجمع بين التّفسيرين الآنفين ممكن و لا مانع منه.

‏و يمكن أن يكون لهذه الآية ارتباط آخر بالآية المتقدّمة، و هو أنّ أعداء الإسلام كانوا يقولون: ننتظر موت محمّد. فالقرآن يردّهم بالقول بأنّهم ليسوا خارجين عن واحد من الأمرين التاليين .. أمّا أنّهم يدّعون بأنّ محمّدا يموت قبل موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الادّعاء أنّهم يعلمون الغيب، و أمّا أنّ مرادهم أنّه سيمضي بمؤامراتهم فاللّه أشدّ مكرا و يردّ كيدهم إليهم، فهم المكيدون! و إذا كانوا يتصوّرون أنّ في اجتماعهم في دار الندوة و رشق النّبي بالتّهم كالكهانة و الجنون و الشعر أنّهم سينتصرون علی النّبي فهم في منتهی العمی و الحمق، لأنّ قدرة اللّه فوق كلّ قدرة، و قد ضمن لنبيّه السلامة و النجاة حتّی يبلغ دعوته العالمية.

‏و أخيرا فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّـهِ‌؟! و يضيف- منزّها- سُبْحانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‌.

‏فعلی هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من اللّه و يحميهم، و هكذا فإنّ القرآن يستدرجهم و يضعهم أمام استجواب عجيب و أسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلّفة من أحد عشر سؤالا! و يقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلی الوراء!! و يضطرهم‌ إلی التنزّل من الادّعاءات ثمّ يوصد عليهم سبل الفرار كلّها و يحاصرهم في طريق مغلق!.

‏كم هي رائعة استدلالات القرآن و كم هي متينة أسئلته و استجوابه! .. فلو أنّ في أحد منهم روحا تبحث عن الحقّ و تطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة و استسلمت لها.

‏الطريف أنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث لا تذكر دليلا لنفي المعبودات ممّا سوی اللّه، و تكتفي بتنزيه اللّه‌ سُبْحانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‌.

‏و ذلك لأنّ بطلان الوهية الأصنام و الأوثان المصنوعة من الأحجار و الخشب و غيرهما مع ما فيها من ضعف و احتياج أجلی و أوضح من أي بيان و تفصيل آخر، أضف إلی كلّ ذلك فإنّ القرآن استدلّ علی إبطال هذا الموضوع بآيات متعدّدة غير هذه الآية.

‏١ هناك تفسيرات أخر و احتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية، منها أنّ مفادها: هل خلقوا بلا هدف و لم يك عليهم أيّة مسئولية؟! .. و بالرغم أنّ جماعة من المفسّرين اختاروا هذا الوجه إلّا أنّه مع الالتفات لبقيّة الآية: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن، أي خلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!.

‏٢ الخزائن جمع الخزينة و معناها مكان كلّ شي‌ء محفوظ لا تصل إليه اليد و يدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ‌[ الحجر الآية ٢١].

‏٣ سلّم يعني« المصعد» كما يأتي بمعنی أيّة وسيلة كانت و قد اختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شي‌ء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم: ادّعوا الوحي و قال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد و الشركاء للّه ... و فسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم« و لا مانع من الجمع بين هذه المعاني و إن كان المعنی الأوّل أجلی».

‏٤ قال بعض المفسرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ، و قال بعضهم: بل هو إشارة إلی ادّعاءات المشركين و قولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند اللّه مقام كريم. إلّا أنّ هذه التفاسير لا تتناسب و الآية محلّ البحث و لا يرتبط بعضها ببعض.

‏٥ الكيد علی وزن صيد نوع من الحيلة و قد يستعمل في التحيّل إلی سبيل الخير، إلّا أنّه غالبا ما يستعمل في الشرّ، و تعني هذه الكلمة المكر و السعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحيانا.

*مقتطف من تفسير الأمثل الهوامش: ‏١ هناك تفسيرات أخر و احتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية، منها أنّ مفادها: هل خلقوا بلا هدف و لم يك عليهم أيّة مسئولية؟! .. و بالرغم أنّ جماعة من المفسّرين اختاروا هذا الوجه إلّا أنّه مع الالتفات لبقيّة الآية: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن، أي خلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!. ‏٢ الخزائن جمع الخزينة و معناها مكان كلّ شي‌ء محفوظ لا تصل إليه اليد و يدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ‌[ الحجر الآية ٢١]. ‏٣ سلّم يعني« المصعد» كما يأتي بمعنی أيّة وسيلة كانت و قد اختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شي‌ء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم: ادّعوا الوحي و قال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد و الشركاء للّه ... و فسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم« و لا مانع من الجمع بين هذه المعاني و إن كان المعنی الأوّل أجلی». ‏٤ قال بعض المفسرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ، و قال بعضهم: بل هو إشارة إلی ادّعاءات المشركين و قولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند اللّه مقام كريم. إلّا أنّ هذه التفاسير لا تتناسب و الآية محلّ البحث و لا يرتبط بعضها ببعض. ‏٥ الكيد علی وزن صيد نوع من الحيلة و قد يستعمل في التحيّل إلی سبيل الخير، إلّا أنّه غالبا ما يستعمل في الشرّ، و تعني هذه الكلمة المكر و السعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحيانا ..
2023/10/02
عبس وتولى.. هل نزلت في حق النبي (ص)؟!
أجمعَ علماؤنا ومفسّرونا على أنّ قولَه تعالى (عبسَ وتولّى) ليسَ المعنيُّ بها النبيّ (ص) كما يذهبُ إلى ذلكَ جمهورُ علماءِ العامّة، وإنّما المعنيُّ بها شخصٌ آخر كانَ جالِساً في ذلكَ المكان، وهوَ الذي عبسَ لـمّا رأى ابنَ أمِّ مكتوم الأعمى يخاطبُ النبيَّ (ص)، فلذا نزلَت فيه هذهِ الآية.

نقلَ الشيخُ الطبرسيّ في مجمعِ البيان (ج10/ص438) عن السيّدِ علمِ الهُدى (ره) في كتابِه التنزيه (ص118) قولَه: أمّا ظاهرُ الآيةِ فغيرُ دالٍّ على توجّهِها إلى النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، ولا فيها ما يدلُّ على أنّها خطابٌ له ، بل هيَ خبرٌ محضٌ لم يُصرِّح بالمُخبَرِ عنه ، وفيها ما يدلُّ عند التأمّلِ على أنَّ المعنيَّ بها غيرُ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، لأنّهُ وصفَه بالعُبوس، وليسَ هذا مِن صفاتِ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله في قرآنٍ ولا خبرٍ معَ الأعداءِ المُباينينَ، فضلاً عن المؤمنينَ المُسترشدينَ ، ثمَّ وصفَه بأنّه يتصدّى للأغنياء، ويتلهّى عن الفقراء، وهذا ممّا لا يصفُ به نبيُّنا صلّى اللهُ عليه وآله مَن يعرفُه ، فليسَ هذا مُشابِهاً لأخلاقِه الواسعةِ وتحنّنِه إلى قومِه ، وتعطّفِه ، وكيفَ يقولُ له صلّى اللهُ عليهِ وآله : " وما عليكَ ألّا يزكى " وهوَ صلّى اللهُ عليهِ وآله مبعوثٌ للدّعاءِ والتنبيه؟ وكيفَ لا يكونُ ذلكَ عليهِ وكانَ هذا القولُ إغراءً بتركِ الحرصِ على إيمانِ قومِه ؟ وقد قيلَ : إنَّ هذه السورةَ نزلَت في رجلٍ مِن أصحابِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليه وآله كانَ منهُ هذا الفعلُ المنعوتُ فيها ، ونحنُ وإن شكَكنا في عينِ مَن نزلَت فيه فلا ينبغي أن نشكَّ في أنّها لم يعنِ بها النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، وأيُّ تنفيرٍ أبلغُ منَ العبوسِ في وجوهِ المؤمنين ، والتلهّي عنهم ، والإقبالِ على الأغنياءِ الكافرين؟ وقد نزَّهَ اللهُ تعالى النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله عمّا دونَ هذا في التنفيرِ بكثيرٍ انتهى.

قلتُ: ومِـمّا يؤيّدُ ذلكَ أنَّ هناكَ كثيراً منَ الآياتِ في حقِّ الرّسولِ (ص) تمنعُ منَ التصديقِ بما أوردَه جمهورُ العامّةِ مِن أحاديثَ تزعمُ أنّها نزلَت في النبيّ (ص)، ومِن هذهِ الآياتِ: قولُه تعالى يصفُ فيها نبيّنا الأكرمَ (ص) بقولِه: ((بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيم )) (التوبةُ: 128). وكذلكَ قولُه تعالى: ((وإنّكَ لعُلى خُلقٍ عظيم)) (القلمُ:4)، وقولُه تعالى: ((واخفِض جناحكَ لمَن اتّبعكَ منَ المؤمنين)) (الشعراءُ:215)، وقولُه تعالى عن الرّسول: ((ولقد كانَ لكُم في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنة )) (الأحزاب:21). وعليهِ: كيفَ سمحَ جمهورُ عُلماءِ العامّةِ لأنفسِهم بتصديقِ مثلِ الرواياتِ التي هيَ منَ الوضوحِ بمكانٍ أنّها مُخالفةٌ لآياتِ الكتابِ العزيز آنفاً، والظاهرُ أنّهم ما عرفوا حقَّ رسولَ الله (ص) ولا مكانتَه ولا صفاتِه كما يجب، إذ لو أنّهم عرفوا ذلكَ حقّاً خصوصاً فيما يتعلّقُ بصفاتِه العُليا التي مدحَه اللهُ تعالى بها ومنزلتهِ الساميةِ لاكتشفوا أنّ تلكم الرواياتِ التي تزعمُ صدورَ هذا الأمرَ المُنافيَ للأخلاقِ عنه (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) هيَ مِن تلفيقِ الكذّابين؟!! 

ثُمَّ هاهُنا أمرٌ ينبغي التنبيهُ عليه، وهوَ: أنَّ قسماً مِن كبارِ عُلماءِ السنّةِ ومُفسّريهم , لا يُسلّمُ أنَّ خطابَ (( عبسَ وتولّى )) متوجّهٌ إلى النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) , لأنّه ليسَ مِن صفاتِ النبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) العبوسةُ، ومِن هؤلاء :

1- المُفسّرُ الكبيرُ فخرُ الدينِ الرازي , المتوفّى 606 هـ , في كتابِه (عصمةُ الأنبياءِ ص 137 ـ ط دارُ الكُتبِ العلميّة ـ بيروت) .

2- القاضي عيّاض اليحصبي , المتوفّى 544 هـ , في كتابِه (الشفا بتعريفِ حقوقِ المُصطفى 2/161 ـ ط دارُ الفِكر ـ بيروت) .

3- الزركشي , المتوفّى 794 هـ , في كتابِه (البرهانُ في علومِ القُرآنِ 2/242 ـ ط دارُ إحياءِ الكتبِ العربيّة ـ القاهرة) .

4- الصالحي الشامي , المتوفّى 942 هـ , في كتابِه (سبلُ الهُدى والرشادِ 11/474 ـ ط دارُ الكُتبِ العلميّة ـ بيروت.

2023/10/01
هل أثبت القرآن كروية الأرض؟
إن كروية الأرض تمثل إحدى أسرار الخلقة التي أشار لها القرآن الكريم، فتستفاد هذه الحقيقة من الآيات التالية:

1- «وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها» [الأعراف: 137].

2- «ربّ السماوات والأرض وما بينهما وربّ المشارق» [الصافات: 5].

3- «فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنّا لقادرون» [المعارج: 40].

إن هذه الآيات – وكما مرّ في جواب السؤال السابق – تكشف عن تعدّد مشارق الشمس ومغاربها، وهو ملازم لكروية الأرض؛ إذ لو كانت الأرض مسطحة للزم عدم وجود أكثر من مشرقٍ ومغربٍ واحدٍ لها، أما في حالة كرويتها فبالنظر لتعدّد أنحائها يكون لكلّ نقطةٍ منها مشرق ومغرب مستقل، وشروق الشمس على ناحيةٍ ما يلازم غروبها عن الناحية المقابلة لها. وعليه فتعدّد المشارق والمغارب دليل واضح على كروية الأرض.

كروية الأرض في الروايات:

يمكن استفادة كروية الأرض من الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، منها ما روي عن الامام الصادق (عليه الصلاة والسلام)، قال: "صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر [الغلس: الظلمة آخر الليل؛ أي كان يصلي الفجر في ظلمة آخر الليل]، وكنت أنا أصلي المغرب اذا غربت الشمس، وأصلي الفجر اذا استبان لي الفجر، فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فان الشمس تطلع على قوم قبلنا، وتغرب عنّا وهي طالعة على آخرين بعد ؟ قال: فقلت: إنما علينا أن نصلي اذا وجبت الشمس عنّا، واذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلا ذلك، وعلى أولئك أن يصلوا اذا غربت عنهم" [وسائل الشيعة :4/ 180].

وروي عنه أيضاً قال: "إنّما عليك مشرقك ومغربك، وليس على الناس أن يبحثوا" [وسائل الشيعة :4/ 198]. وما ذاك إلا لكروية الأرض لا غير.

2023/09/25
«ولا تركنوا إلى الذين ظلموا».. ما هو الركون؟ ومن هم الذين ظلموا؟
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (هود - 113) ما معنى الركون إلى الظالمين؟

إن هذه الآية تبين واحدا من أقوى وأهم الأسس والبرامج الاجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا والسبب واضح فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ومعلوم عندئذ حالكم ثم لا تنصرون.

ما هو مفهوم الركون؟

مفهوم "الركون" مشتق من مادة "ركن" ومعناه العمود الضخم من الحجر أو الجدار الذي يربط البناء أو الأشياء الأخرى بعضها إلى بعض، ثم اطلق هذا اللفظ على الاعتماد أو الاستناد إلى الشئ.

وبالرغم من أن المفسرين أعطوا معاني كثيرة لهذه الكلمة في تفسيرهم للآية، ولكنها في الغالب تعود إلى مفهوم جامع وكلي فمثلا فسرها البعض بالميل، وفسرها البعض ب‍ " التعاون "، وفسرها البعض ب‍ " إظهار الرضا "، وفسرها آخرون ب‍ " المودة "، كما فسرها جماعة بالطاعة وطلب الخير، وكل هذه المعاني ترجع إلى الاعتماد والاتكاء كما هو واضح.

في أي الأمور لا ينبغي الركون إلى الظالمين؟

بديهي أنه في الدرجة الأولى لا يصح الاشتراك معهم في الظلم أو طلب الإعانة منهم، وبالدرجة الثانية الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الإسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله إلى مجتمع تابع وضعيف لا يستحق الحياة، لأن هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الإسلامي.

وأما ما نلاحظه أحيانا من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الإسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الإسلامية وثباتها، فهذا ليس داخلا في مفهوم الركون إلى الظالمين ولم يكن شيئا ممنوعا من وجهة نظر الإسلام، وفي عصر النبي نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) والأعصار التي تلته كانت هذه الأمور موجودة وطبيعية أيضا.

فلسفة تحريم الركون إلى الظالمين الركون إلى الظالمين يورث مفاسد كثيرة لا تخفى على أحد بصورتها الإجمالية ولكن كلما تفحصنا في هذه المسألة أكثر اكتشفنا مسائل دقيقة جديدة.

فالركون إلى الظالمين يبعث على تقويتهم، وتقويتهم مدعاة إلى اتساع رقعة الظلم والفساد في المجتمعات، ونقرأ في الأوامر الإسلامية أن الإنسان ما لم يجبر "وفي بعض الأحيان حتى مع الإجبار" لا يحق له أن يراجع القاضي الظالم من أجل اكتساب حقه، لأن مراجعة مثل هذا القاضي الحاكم الجائر من أجل إحقاق الحق مفهومها أن يعترف ضمنا برسميته وتقواه، ولعل ضرر هذا العمل أكبر من الخسارة التي تقع نتيجة فقدان الحق.

والركون إلى الظلمة يؤثر تدريجا على الثقافة الفكرية للمجتمع، فيضمحل مفهوم "قبح الظلم" ويؤدي بالناس إلى الرغبة في الظلم.

وأساسا لا نتيجة من الركون إلى الغير بصورة التعلق وارتباط الشديد إلا سوء الحظ والشقاء، فكيف إذا كان هذا الركون إلى الظالمين؟

إن المجتمع الحضاري المقتدر هو المجتمع الذي يقف على قدميه، كما يعبر القرآن الكريم في مثل بديع في الآية (29) من سورة الفتح إذ يقول: فاستوى على سوقه والمجتمع الحر المستقل هو المجتمع الذي يكتفي ذاتيا، وارتباطه أو تعاونه مع الآخرين هو ارتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس ركون الضعيف إلى القوي، لأن هذا الركون - سواء كان من جهة فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو عسكرية أو سياسية - لا يخلف سوى الأسر والاستثمار، ولا يثمر سوى المساهمة في ظلمهم والمشاركة في خططهم.

وبالطبع فإن الآية المتقدمة ليست خاصة بالمجتمعات فحسب، بل تشمل العلاقة وارتباط بين فردين أيضا، فلا يجوز لإنسان مؤمن أن يركن إلى أي ظالم، فإنه إضافة إلى فقدان استقلاله لركونه إلى دائرة ظلمه، فسيؤدي إلى تقويته واتساع الفساد والعدوان كذلك.

من المقصود ب‍ «الذين ظلموا»؟

ذكر المفسرون في هذا المجال احتمالات مختلفة، فقال بعضهم: المقصود ب‍ «الذين ظلموا هم المشركون» ولكن - كما قال آخرون - لا دليل على انحصار هذا اللفظ بالمشركين رغم أن مصداق الظالمين في عصر نزول الآية هو المشركين.

كما إن تفسير هذه الكلمة في الروايات بالمشركين لا يدل على الانحصار، لأننا قلنا مرارا وتكرارا إن مثل هذه الروايات إنما تبين المصداق الواضح والجلي، فعلى هذا الأساس يدخل في دائرة هذه الآية جميع الذين امتدت أيديهم إلى الظلم والفساد، أو استعبدوا خلق الله وعباده، أو استغلوا قواهم لمنافعهم، وباختصار كل الذين دخلوا في المفهوم العام لهذا التعبير الذين ظلموا.

ولكن من الواضح أن من أخطأوا في حياتهم خطأ بسيطا وصاروا من مصاديق الظالم أحيانا غير داخلين في مفهوم الآية قطعا لأنه في هذه الصور لا يخرج عن شمولية هذه الآية إلا النادر، فلا يصح الركون والاعتماد على أي شخص، اللهم إلا أن نقول: إن المراد بالركون هو الاعتماد على الظالم من جهة ظلمه وجوره، وفي هذه الحال حتى الذين تلوثت أيديهم بالظلم مرة واحدة لا يجوز الركون إليهم.

إشكال بعض المفسرين من أهل السنة إشكالا يصعب الجواب عليه من مبناهم وهو ما ورد في رواياتهم من وجوب الطاعة والتسليم لسلطان الوقت الذي هو من أولو الأمر أيا كان، لما نقلوا حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوب طاعة السلطان " وإن أخذ مالك وضرب ظهرك... "! وروايات أخرى تؤكد طاعة السلطان بمعناها الواسع.

ومن جهة أخرى تقول الآية: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فهل يصح الجمع بين هذين الأمرين؟!

أراد البعض أن يرفع هذا التضاد باستثناء واحد، وهو أن طاعة السلطان تكون واجبة ما لم ينحرف إلى طريق العصيان ويخطو في طريق الكفر.

ولكن لحن تلك الروايات لا ينسجم مع هذا الاستثناء.

وعلى كل حال فنحن نعتقد - وكما ورد في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) - بوجوب طاعة ولي الأمر العادل والعالم الذي يصح أن يكون خليفة عاما للنبي وإماما من بعده فحسب.

وإذا كان سلاطين بني أمية وبني العباس قد وضعوا الأحاديث في هذا المجال لمصلحتهم، فلا تنسجم بأي وجه مع أصول مذهبنا والتعليمات القرآنية، وينبغي أن نعالج هذه الروايات، فإن كانت تقبل التخصيص خصصناها، وإلا طرحناها جانبا، لان كل رواية تخالف كتاب الله فهي مردودة وباطلة، والقرآن يصرح أن إمام المسلمين لا يجوز أن يكون ظالما، والآية المتقدمة تقول بصراحة أيضا: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا... أو نقول: إن أمثال هذه الروايات مخصوصة بالحالات الضرورية والاضطرارية.

2023/09/16
هل قصة سفينة نوح خرافة؟ وكيف استوعبت أعداد هائلة من الحيوانات؟!
لا يخفى أنّ الإشكال المذكور مبني على أنّ نبي الله نوحاً (عليه السلام) قد اصطحب معه في سفينته اثنين من كل زوجين من حيوانات الأرض – كما ذهب إليه جملةٌ من المفسرين – استظهاراً من قوله تعالى: {حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُل زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَاۤ ءَامَنَ مَعَهُۥۤ إِلَّا قَلِیل} بضميمة ما جاء في الكتب السماوية السابقة أو الروايات الشريفة من تفسير الزوجين بالزوجين من الحيوانات، وإلا فإنّ نفس الآية لا صراحة لها في ذلك، وإن كان قد يُتوصل إليه من خلال أداة العموم.

ولكنّ الصحيح أنّ هذا الاستظهار مما لا مجال له إلا أن نكون بمعزل عن بيانات الراسخين في العلم (عليهم السلام) الذين هم عدل القرآن والثقل الثاني ولسان الله الناطق، وأما بعد الرجوع إلى بياناتهم من خلال الروايات الواردة عنهم – إذ لا سبيل لفهم مشكلات القرآن وغوامض آياته إلا منهم (عليهم السلام) – فإنه يتضح أنّ مفردة (كل زوجين) في الآية المذكورة لا يراد بها زوجان من كل أجناس الحيوانات، بل يراد بها زوجان من أجناس معهودة ومحددة، وهي التي تتكفل بمعيشة مَن بقيَ مِن قوم نوح (عليه السلام) واستمرار حياتهم بعد انتهاء الطوفان.

وهذا ما ورد صريحاً في خبر العيّاشي بسنده عن إسماعيل الجعفي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ” صنعها في مائة سنة، ثم أمره أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين الأزواجَ الثمانية الحلال التي خرج بها آدم من الجنة، ليكون معيشة لعقب نوح في الأرض، كما عاش عقب آدم، فإنّ الأرض تغرق وما فيها إلا ما كان معه في السفينة.

فحمل نوح في السفينة من الأزواج الثمانية التي قال الله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين. . ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) ”.

والمتحصّل من هذا الحديث: أنّ هنالك ثلاث آيات قرآنية مترابطة، وهي:

قوله تعالى: {قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُلࣲّ زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ}.

وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲۚ}.

وقوله تعالى: {ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣲۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَیۡنِۗ … وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَیۡنِۗ قُلۡ ءَاۤلذَّكَرَیۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَیَیۡن}.

وبيانُ وجه ترابط هذه الآيات الثلاث – على ضوء الرواية الشريفة المتقدمة وأمثالها – هو: أنّ المراد بالزوجين في الآية الأولى ليس الأزواج من مطلق أجناس الحيوانات، بل خصوص الأزواج الثمانية المعهودة المذكورة في الآية الثانية، والتي بها قوام المعيشة، وهي زوجان من الضأن وآخران من المعز ومثلهما من الإبل وكذلك من البقر، كما جاء بيانه في الآية الثالثة.

وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني بالنتيجة: أنّ ما حمله نبي الله نوح (عليه السلام) في سفينته لا يتجاوز ستة عشر حيواناً فقط، وقد تزيد قليلاً طبقاً لما تشير إليه بعض الروايات الأخرى، وبهذا البيان المستفاد من روايات العترة الطاهرة يسقط الإشكال من أساسه.

وإن أبى شخصٌ عن قبول هذا البيان للتشكيك في اعتبار الرواية المذكورة، فلنا أن نجيبه ببيانٍ آخر يفضي بنا إلى نفس النتيجة، وتوضيحه:

أنّ عموم العام قابل للتخصيص بكل ما يدل على التخصيص من القرائن، ولو كان من القرائن الخارجية، فمثلاً: لو أراد شخص أن يسافر بسيارته، فالتفت إلى ولده وقال له: (احمل معنا فيها من كل زوجين اثنين) فإنه لا ينصرف ذهن أحد إلى أنّ المراد بكل زوجين في كلامه: كلُّ زوجين من كل شيء في الدنيا، فإنّ القرينة الخارجية – وهي: عدم استيعاب السيارة لكل ذلك – تمنع من الانصراف المذكور، وتوجب تخصيص عموم العبارة المذكورة بالزوجين من كل شيء متوفر في البيت – مثلاً – أو مما يحتاجانه في السفر – كما هو مقتضى القرينة الحالية – ونحو ذلك من المحتملات.

وهكذا يُقال في المقام، فإنّ الآية المباركة – محل الاستشهاد – وإن كان لسانها لسان العموم، ولكنها مخصصة بالقرينة الخارجية، وهي عدم استيعاب السفينة لاثنين من الأزواج من كل أجناس الحيوانات، وبالتالي فلا ينصرف ذهنُ أحدٍ إلى ما انصرف إليه ذهن المستشكل أو صاحب الشبهة من إرادة اثنين من كل أزواج حيوانات الأرض وبالأرقام المذكورة في السؤال، لمنع القرينة المذكورة من هذا الاحتمال، وإيجابها تخصيص عموم الآية بخصوص الأزواج التي يحتاجها نبي الله نوح (عليه السلام) ومَن معه في الطوفان وبعده، أو بالأزواج التي كانت متاحة له في حدود المنطقة التي كان يعيش فيها ؛ إذ أنّ جمع جميع أزواج الحيوانات من كل بقاع الأرض وأطرافها يتطلب خرق العادة، ولا دليل على أنّ نبي الله نوحاً (عليه السلام) قد استفاد من الإعجاز أو الولاء التكويني في قضيته، ومقتضى كونه قد جمع الأزواج بشكل اعتيادي أنه جمع ما يتيسر له من الأزواج التي كانت متوفرة بين يديه حينها.

والحاصل: فإنّ القرينة الخارجية تقضي بتخصيص عموم الآية الكريمة إما بأزواج الحيوانات محل حاجة النبي وأتباعه أو بأزواج الحيوانات المتاح لهم جمعها، وعلى كلا التقديرين فإنّ هذا المقدار من الأزواج ليس مما يمتنع حمله في سفينة كبيرة.

هامش:
قِصَّةُ نُوحٍ هِيَ مِنْ إِحْدَى القَصَصِ المَلْحَمِيَّةِ المَلِيئَةِ بِالمُغَالَطَاتِ المَنْطِقِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الوَاضِحَةِ، مُخْتَصَرُ القِصَّةِ أنَّ قَوْمَ نُوحٍ عَصَوا اللهَ فَأمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أنْ يَبْنِيَ سَفِينَةً فِي الصَّحْرَاءِ بِشَكْلٍ مُعَيَّنٍ وَيَخْتَبِئَ هُوَ وَحَيَوَانَاتُ الأرْضِ بِدَاخِلِهَا إِلَى حِينِ انْتِهَاءِ عِقَابِ اللهِ. أَوَّلًا: هُنَاكَ مَا بَيْنَ 10.000.000 إِلَى 100.000.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الحَيَوَانَاتِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَبِمَا أنَّ اللهَ أمَرَهُ أنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فَهَذَا يَعْنِي أنَّهُ أخَذَ مَعَهُ مَا بَيْنَ 20.000.000 وَ 200.000.000 حَيَوَانٍ، هَلْ تُقِرُّ بِمَنْطِقِيَّةِ هَذَا الكَلَامِ؟ ثَانِيًا: مَاذَا عَنْ الدَّيْنَاصُورَاتِ؟ هُنَاكَ مَا بَيْنَ 300 إِلَى 550 فَصِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ الدَّيْنَاصُورَاتِ، هَلْ أخَذَ نُوحٌ مَعَهُ زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ فَصِيلَةٍ؟ هَلْ تَدُرِكُ المَسَاحَةَ المَطْلُوبَةَ لِحَشْرِ 1100 دَيْنَاصُورٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ؟ ثَالِثًا: هُنَاكَ 25.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الفَرَاشَاتِ، 10.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الطُّيُورِ، وَحَوَالَيْ 5.000 فَصِيلَةٍ مِنْ الخَنَافِسِ.. هَلْ أخَذَ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أيْضًا؟ رَابِعًا: هَلْ أخَذَ مَعَهُ النَّمْلَ؟ الذُّبَابَ؟ الصَّرَاصِيرَ؟ النَّامُوسَ؟ الفِئْرَانَ؟ خَامِسًا: هَنْدَسِيًّا، هَلْ يُمْكِنُ أنْ تَتَحَمَّلَ سَفِينَةٌ مَصْنُوعَةٌ مِنْ الخَشَبِ هَذَا الكَمَّ الهَائِلَ مِنْ الحَيَوَانَاتِ وَالدَّيْنَاصُورَاتِ؟
2023/09/10
في الجنة أم في النار: ما مصير النصارى واليهود يوم القيامة؟!
ينبغي علينا أولاً التطرّق الى النصوص القرآنية المشار اليها كاملةً قبل بسط الكلام في معناها وتفسيرها، وهي كما يلي:

1- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» [1].

2- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» [2].

3- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» [3].

يمكن التصور أول وهلة أن هذه الآيات الشريفة بصدد إثبات أن أتباع تلك الأديان يفلحون برضا الله جلّ وعلا إن هم حافظوا على إيمانهم بالله واليوم الآخر وواظبوا على أداء الأعمال الصالحة، ما يعني أن أديانهم لم تنسخ بعد حتى مع مجيء الاسلام، بل كل واحد منها يمثل سبيلاً الى الله تعالى، وبوسع الإنسان سلوك أي واحدٍ من تلك السبل المتعددة ليصل اليه تعالى ولا يتعين عليه اتبّاع شريعة بعينها كالإسلام مثلاً.  هذا ما يكرره من لا يمتلك من القرآن إلا معلومات سطحية.

لكن ينبغي الالتفات الى أن أساس تفسير آيةٍ ما لا يبتني على النظر اليها بمفردها وبمعزلٍ عن باقي الآيات القرآنية، بل لا بدّ من الرجوع الى شأن نزول تلك الآية والأخذ بنظر الاعتبار الآيات السابقة والتالية لها، بل يجب أخذ كافة الآيات القرآنية بالحسبان.

واذا كان من الصحيح البقاء على الأديان السماوية السابقة للإسلام -ففضلاً عن لغوية تشريع دينٍ جديدٍ باسم الإسلام- تنتفي الغاية من إرسال النبي (ص) مكاتيب الى ملوك زمانه وأمراء عصره وبعث الرسل إليهم لدعوتهم الى الدين الاسلامي الحنيف، معتبراً دينه ديناً عالمياً وشريعته شريعةً خاتمةً للشرائع.

إن كتب النبي (ص) ودعواته المتواصلة وجهاد المسلمين المضني لأهل الكتاب في عصر النبي (ص) وبعده وما وصلنا من أحاديث مستفيضة عن أئمة أهل البيت (ع) في هذا المجال، تكشف جميعاً عن أن ظهور الاسلام ختم ما قبله من الأديان، ولم يعد هناك رسالة سوى الرسالة الاسلامية ونبوة غير نبوة النبي محمد (ص).

أما الآن فيجب استجلاء الهدف من نزول تلك الآيات القرآنية، وهي في الحقيقة تبيّن حقيقتين، الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية:

1- إن كان اليهود والنصارى يؤمنون بالله والقيامة حقاً ولا يراؤون في تدينهم، يلزم عليهم الايمان بنبوة نبي الاسلام النبي محمد (ص) وفقاً لما جاء في كتبهم من توراة وإنجيل وغيرها؛ لأنها بشّرت بظهوره وذكرت علامات ذلك حتى أنهم صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [4].

والطريف أن القرآن الكريم أوضح هذه الحقيقة في سورة المائدة قبل الآية المذكورة آنفاً فقال تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكمْ مِنْ رَبِّكمْ» [5].

فالمقصود بإقامة هذه الكتب السماوية العمل بمحتوياتها، وأحد محتوياتها نبوة النبي محمد (ص) ورسالته العالمية التي طالما ذكرها القرآن الكريم.  ولو كان أولئك يؤمنون بالله واليوم الآخر بحقٍّ لكان عليهم الإيمان بالرسالة النبوية التي تعتبر جزءاً من التعاليم الالهية في كتب العهدين، وفي هذه الحالة يصبحون من المسلمين بلا شك ويؤجرون على اتّباعهم تعاليم النبي (ص).

وباختصار: لا ينفك الايمان بالله تعالى واليوم الآخر عن الايمان بالكتب السماوية المساوق للإيمان بنبوة خاتم الأنبياء الرسل؛ ومن يؤمن بذلك يغدو مسلماً ولا يمكنه البقاء على المسيحية.

2- مع الأخذ بنظر الاعتبار الآيات السابقة للآية المذكورة من سورة البقرة يتضح أن هذه الآية تتعلق بتلك الفئة من الناس الذين كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر في عصر الأنبياء السالفين ويسيرون في ضوء تعاليمهم، في مقابل من زاغ عن جادّة الصواب وأخذ بعبادة العجل حتى بلغت بهم الجرأة أن يقولوا للنبي موسى (ع) وبكل صراحة: «يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» [6].  ونتيجة لهذا السلوك الشائن شملهم الغضب الالهي فقال تعالى : «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِك بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِك بِمَا عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» [7].

فلأجل أن يبين الله تعالى أن حساب من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من أهل الكتاب يختلف عن غيرهم وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أنزل تلك الآيات على نبيه الكريم (ص).

وفي هذه الحالة لا تشمل الآيات الآنفة من يعيش في عصر الرسالة النبوية، بل تقتصر على من تتوفر فيه الشروط المذكورة من أهل الكتاب ممن كان موجوداً قبل البعثة النبوية الشريفة.

ومن ناحية أخرى فان شأن نزول الآية يلعب دوراً أكبر في معرفة المراد منها؛ فبعد نزول القرآن وبعثة نبي الرحمة (ص) تساءل بعض المسلمين عن أجدادهم الذين كانوا يعتنقون ديناً آخر بعد أن علموا أن الاسلام هو الدين الحقّ وطريق النجاة الأوحد!

هنالك نزلت هذه الآية الشريفة لتعلن أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ونبي زمانه وعمل صالحاً هو من أهل النجاة والفلاح ولا بأس عليه.

لما أسلم سلمان على يدي النبي (ص) تحدث له عن رفاقه من الرهبان في دير الموصل فقال له: كان جميع الرهبان هناك ينتظرون بعثتك لكنهم توفوا قبل وقوعها، فقال له أحد الحاضرين في المجلس: أولئك من أهل النار.  فاغتمّ سلمان من ذلك، فنزلت تلك الآية الشريفة على النبي (ص) موضحةً أن من آمن بالأديان السابقة ايماناً حقيقياً لا خوف عليه من دخول النار، وان لم يدرك عصر الرسالة النبوية.

وباختصار: من عاش قبل الاسلام وآمن بالدين الموجود آنذاك ايماناً راسخاً سينجو من أهوال يوم القيامة، وعليه لا تمتّ الآية بصلةٍ الى القول بأن أتباع كافة الأديان الأخرى سينجون يوم القيامة، وهكذا تفسير يعكس مدى الجهل بمفاد هذه الآية والآيات الأخرى ذات الصلة.

وبقطع النظر عن كل ذلك، فان الآية الثالثة (الآية 17 من سورة الحج) لا ترتبط من قريب أو من بعيد بادعاءٍ كهذا؛ فلا تدلّ على أكثر من أن الله تعالى يفصل بين أتباع الديانات المختلفة يوم القيامة، ولا دلالة فيه على نجاة معتنقي جميع الأديان إذ ذاك [8].

الهوامش: [1] البقرة :62. [2] المائدة :69. [3] الحج :17. [4] انظر: البقرة /146 والأنعام/ 20. [5] المائدة :68. [6] البقرة: 55. [7] البقرة: 61. [8] لمزيد من الايضاح يرجى مراجعة "التفسير الأمثل في كتاب الله المنزّل" لسماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي.
2023/09/04
ما المقصود بـ «السماوات السبع»؟!
ذكر العلماء والمفسرون عدّة تفاسير للسماوات السبع التي ورد ذكرها في القرآن الكريم:

1- المراد من "السبع" هنا الكثرة لا غير أي السماوات المتعددة، فيكون الله تعالى خلق عدّة سماوات؛ وهذا غالباً ما يستعمل في اللغة العربية وغيرها، إذ يذكر عدد بعينه ولا يراد منه خصوص المقدار المذكور، بل يراد بيان كثرة الشيء.

فعلى سبيل المثال، كثيراً ما نقول: كلمتك بكذا سبعين مرة، أو طالتبته عشر مرات؛ في حين لا نقصد من ذلك خصوص السبعين والعشرة بعينها، بل المقصود كثيراً ما تحدثت في الموضوع الكذائي، وكثيراً ما طالبت الشخص المقابل.

وكشاهدٍ على ذلك قال تعالى بشأن كلمات أو معلومات الباري جلّ وعلا: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كلِمَاتُ اللَّهِ ([لقمان: 27]، فمن البديهي أن العدد "سبعة" جيء به لبيان الكثرة والتعدد؛ وإلا فنحن نعلم أنه لو أضيفت الى تلك الأبحر عشرة أو مائة أخرى لم تنفد كلمات الله أيضاً؛ لأنه تعالى غير متناهٍ في كلّ الأحوال.

وكذلك الأعداد الأخرى نحو "سبعين" وغيرها، حيث استعملت في القرآن واللغة العربية وغيرها من اللغات بهدف الكثرة، ولا خصوصية فيها لنفس العدد.

2- المقصود من السماوات السبع الكواكب المعروفة للناس أثناء نزول القرآن الكريم، أو الكواكب المرئية الآن من قبل الجميع بالعين المجردة .

3- المراد من السماوات السبع طبقات الهواء المختلفة المحيطة بالأرض .

4- يعتقد كبار العلماء أن جميع الكواكب والأجرام السماوية والمجرّات المرئية هي جزء من السماء الأولى، وثمة ستة عوالم أخرى وراء هذا العالم.

إن مراد القرآن من السماوات السبع هو مجموع العوالم السبع الموجودة في الكون، وإن لم يتمكن العلم الحديث إلا من الكشف عن واحدٍ منها فقط؛ فلا مانع من اكتشاف العوالم الستة الأخرى مستقبلاً نتيجة استكمال العلوم الانسانية. ويستشهد أصحاب هذه العقيدة بقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكوَاكبِ ([الصافات:6]، حيث يستفاد من هذه الآية أن جميع الكواكب واقعة في السماء الأولى (مع العلم أن الدنيا لغةً تعني: السفلى والقريبة).

وعلى أية حال، لا بدّ من التنويه الى نقطةٍ مهمةٍ هي أن الآيات والروايات الدالّة على وجود سبع سماوات لا تدلّ بوجهٍ من الوجوه على صحة نظرية هيئة بطليموس القائمة على أن السماوات تتكون من أفلاك كطبقات قشر البصل؛ إذ إن تلك النظرية تعتبر السماوات تسعة لا سبعة.

أما فيما يتعلق بالأرضين السبع التي تعرض لها القرآن الكريم من باب الاشارة وتطرقت لها بعض الأحاديث بصراحة، فهناك نظريات مشابهة للنظريات المذكورة في السماوات، منها أن الرقم "سبعة" إنما ذكر للكثرة فحسب، أو أنه يشير الى الطبقات المختلفة للأرض، أو أن المراد منها هي الكواكب السبعة: عطارد، الزهرة، زحل، الأرض، المريخ، المشتري والقمر؛ أي كواكب المنظومة الشمسية المرئية بالنسبة لنا (فثمة كواكب أخرى في المنظومة الشمسية بيد أنها لا ترى بالعين المجردة ).

وبناء على هذا التفسير، فالمراد من السماوات السبع هو الفضاء الموجود فوق كلّ واحدٍ من تلك الكواكب السبعة.

وبعبارةٍ أخرى: يعتبر كل واحد من تلك الكواكب أرضاً، والفضاء المحيط بها سماءً لها، مع العلم أن السماء تعني الشيء العالي والسامي .

هذا موجز لتفسير العلماء والمفسرين للسماوات السبع والأرضين السبع، وأما الأدلة والقرائن التي نصبها كل واحدٍ لدعم النظرية التي يتبناها، خاصة النظرية الأخيرة التي تبدو أقرب الى الواقع، فهي ما يحتاج الى بسط الكلام بما لا يتسع له المجال هنا، فيرجى مراجعة كتب التفسير لذلك الغرض.  

2023/09/03
هل ذكر القرآن تقليد «مراجع الدين»؟!
يجب أن نعلم أولاً أننا لسنا نحن من يقرّرُ على الله ورسوله ماذا يقولون لصلاح الناس.

وكيف يدرجهم اللهُ ورسوله مع الثقلين مع عدم عصمتهم في حين أنّ الثقلين معصومان؟ سيؤدي هذا إلى التناقض، فطاعةُ الأئمة مطلقة، واتّباعهم واجبٌ في كلّ شيء، بخلاف المراجع والفقهاء، فالمكلف يقلدهم في المسائل الابتلائية الشرعية فقط.

ينبغي ملاحظة أنّ القرآن سكت عن مسائل عديدة لها أهميتها وترك بيانها للسنة المتمثلة بأقوال وأفعال النبيّ وعترته عليهم الصلاةُ والسلام وتقريراتهم، قال الله عزّ وجلّ : ( وأنزلنا إليك الذكرَ لتبينَ للناس ما أنزل إليهم) [النحل، 44]

وفحوى التقليد مذكورٌ في روايات أهل البيت (ع)، فهي بيانٌ للقرآن.

مثلا روى الكشيّ بسنده عن علي بن المسيب، قال: قلت للرضا عليه السلام شقتي بعيدة ولست أصلُ إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالمَ ديني؟ فقال: من زكريا بن آدم القميّ المأمون على الدين والدنيا) اختيار معرفة الرجال،ج2 ص422

أمّا عدمُ تعرّضِ القرآن للتقليد، فغير دقيق، نعم لم يورد القرآنُ الكريم هذه اللفظة، ولكن ذكر ما يؤدي معناها وذاك في قوله عزّ وجلّ : (وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يَحْذَرُونَ) [التوبة 122]

هنا شجّعَ الله عزّ وجلّ على نفور بعض الناس لطلب العلم والتفقه في الدين، ليرجعوا إلى الناس ليبينوا لهم أحكامَ الله وينذروهم، ولا شكّ أنّ أكثر المسائل التي يحتاجها الناس هي ما يبتلونَ به من المسائل المرتبطة بحياتهم اليومية من عباداتٍ ومعاملات، فهؤلاء الناس لا قدرة لهم على استنباط ومعرفةِ الحكم الشرعي، ومطلوبٌ ممّن تعلم وتفقهَ أن يعلمهم، وهم لا شكّ سيعملونَ بما يقولُ لهم هذا المتفقه، وهذا هو التقليد عينه !

من الآيات التي يستفادُ منها معنى التقليد هو قول الله تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل ، 43

قد يقال: إنّ المقصود بأهل الذكر هم أهل البيت عليهم السلام، وهذا صحيح، وقد سألهم الناسُ من شيعتهم إلى من يرجعون، وأوصوهم عليهم السلام أن يرجعوا إلى كبار الأصحابِ ليأخذوا عنهم معالم الدين، أو إلى الفقهاء أمناءِ الله على حلالهِ وحرامه، والرواياتُ في هذا الشأن عديدةٌ وفيها ما هو صحيحُ السّند.

هامش: المقال رداً على سؤال: إذا كان الشرع أراد منا اتباع المراجع والأخذ بفتاويهم لماذا لم يدرجهم مع الثقلين حيث حصرَ الاتباع بالقرآن والعترة حصراً كما جاء بالحديث الشريف.. ولم يتعرض للتقليد من قريب أو بعيد؟
2023/08/16
آية التبليغ.. كيف عصم الله النبي من الناس؟
قال الله عزوجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }(1)

كيف عصم الله عزوجل نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) من تكذيب الناس يوم الغدير في قوله : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وقد كذبه البعض لاحقاً وحصول الفرقة بين الناس كما تذكر ذلك كتب السّير والمعاجم الحديثية؛ وما هو المقصود من العصمة في الآية الكريمة؟

المراد ظاهراً من قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} هو الوعد من الله تعالى لنبيِّه (ص) بأنْ يحفظه من الناس وذلك بأنْ يردَّ كيدهم ويُبطل تدبيرهم فلا ينالون منه ما أرادوه.

والواضح من لحن الآية ومساقها أنَّ ثمة مؤشِّرات بيِّنةً لدى الرسول (ص) بأنَّ جماعة وازنة من أمَّته وهم المنافقون يعملون جاهدين للحيلولة دون تبليغ الرسول (ص) لفريضة الولاية لعليٍّ وعترة أهل البيت(ع) في جموع الحجاج، فقد لا يتَّفق للرسول (ص) أنْ يجتمع بهذا الكمِّ الكبير من المسلمين في فرصةٍ أخرى خصوصاً وأنَّه قد نُبِّأ بأنَّ رحيله عن الدنيا قد اقترب.

فالمنافقون من طُلقاءِ قريش والممالئين لهم يُدركون جيداً أنَّ تبليغ النبيِّ(ص) لفريضة الولاية في موسم الحج وفي جموع الحُجَّاج سوف يُوقعُهم في حرجٍ شديدٍ، وقد يحولُ بينهم وبين ما يُخطِّطون له بعد رحيل الرسول (ص) لذلك كانوا يُدبِّرون لمنع النبيِّ (ص) من تبليغ فريضة الولاية في جموع الحُجَّاج، فالنبيُّ (ص) وإنْ كان قد بيَّنَ في مشاهد كثيرة أنَّ الخلافةَ وولاية الأمر بعده لعليٍّ(ع) إلا أنَّ ذلك كان في محضر أعدادٍ محدودة بالمقارنة للأعداد غير المسبوقة التي حضرتْ في حجَّة الوداع والتي كانت تتميز بأنَّها من مختلف قبائل الجزيرة العربيَّة، ولذلك كان المنافقون يحرصون على أنْ لا يتم التبليغُ لفريضة الولاية في جموع الحجَّاج، وكانوا على استعدادٍ أن يفعلوا أيَّ شيءٍ من أجل الحيلولة دون تبليغ الرسول (ص) لفريضةِ الولاية في موسم الحجِّ، فكانوا مستعدِّين لاغتياله قبل التبليغ، وإنْ لم يتهيأ لهم اغتيالُه أو اغتيالُ عليٍّ (ع) فإنَّ الخيار الآخر هو العمل على الإرجاف وبثِّ التشكيك في مصداقيَّة ما سيبلِّغه الرسول (ص) وإنْ وجدوا أنَّ هذا الخيار غير ناجعٍ ووأنَّه لن يُصغي المسلمون لإرجافهم وتشكيكهم فإنَّ الخيار الأخير هو التشويش وإثارة اللَّغط في كلِّ محضرٍ ومشهدٍ من مشاهد الحجِّ -يتحدَّث في النبيِّ (ص) عما يتعيَّن على المسلمين التزامه بعد رحيله-  ليحولوا دون وصول البلاغ لعامَّة الحجاج، وقد عملوا على الخيارات الثلاثة فدبَّروا لاغتيال النبيِّ (ص) في الحجِّ إلا أنَّه لم يتهيأ لهم ذلك لالتفاف الحجَّاج حول الرسول (ص) في الطريق وفي جميع مشاهد الحج، وقد عيَّن الرسول (ص) حرساً يتناوبون على حراسة خيمته ليلَ نهار كما سننقل ذلك (2)، وأمَّا التشويش وإثارة اللَّغط فتُشير إليه الرواياتُ المتظافرة والتي أفادت أنَّ النبيَّ (ص) حين أعلنَ في عرفة أو في حجَّة الوداع أنَّ الأئمة من بعده اثنا عشر فإنَّ الراوي قال إنَّه لم يسمع بقيَّة خطاب الرسول (ص) لكثرة اللَّغط والضجيج (3)، فلم يتهيأ للرسول (ص) أنْ يبلِّغ فريضة الولاية بالنحو الذي يصلُ لعامة الحجَّاج أو لأكثرهم، ولعلَّه شعر بأنَّ الفرصة لن تكون سانحة في ظلِّ هذه المعوِّقات، فقد يتم اغتياله قبل أن يتمكَّن من التبليغ، وقد يتمكنون من اقناع عددٍ وازن من المسلمين بأنَّ فرض الولاية لعليٍّ (ع) مخالفٌ لمصلحة العرب ويتمكنون من إقناعهم بأنَّ فرض الولاية له ليس من عند الله تعالى وإنَّما هو محاباةٌ من النبيِّ (ص) لصهره وابن عمِّه(4)، وبذلك يسلبون التبليغ لفرض الولاية -لو وقع - المصداقية الدينيَّة، وقد يتمكَّنون من التشويش والحيلولة دون وصول صوت النبيِّ (ص) لعامَّة المسلمين كلما أراد التبليغ لفريضة الولاية كما وقع ذلك في عرفات.

ففي هذا الظرف المشحون بالتحدِّيات نزلت آية التبليغ فشدَّدت على ضرورة التبليغ لفريضة الولاية قبل رحيل جموع الحجَّاج إلى بلدانهم وعدم تفويت هذه الفرصة ووعدت الآيةُ النبيَّ الكريم(ص) أنَّ الله تعالى سيعصمُه من الناس فيتمكَّن دون عوائق من إنجاز المهمَّة التي كُلِّف بها، لذلك بادرَ الرسولَ (ص) إلى لَمِّ فلول الحجَّاج في غدير خم وصدع بالرسالة التي كلَّفه الله تعالى بأدائها، ولعلَّ من تدبير الله تعالى أنْ يتأخَّر تبليغ الرسالة بفرض الولاية إلى وقتٍ شعرَ فيه المنافقون أنَّهم تمكَّنوا من منع النبيِّ (ص) من التبليغ وأنَّ فرصةَ التبليغ في جموع الحجَّاج قد تمَّ فواتُها، لذلك كان ما فعله النبيُّ (ص) في غدير خم مفاجئاً، وكذلك فإن من تدبيره تعالى أن يسبق التبليغ لفريضة الولاية نزول آية التبليغ لتُشدَّد على ضرورة التبليغ، وبذلك ينتفي توهُّم أنْ فرض الولاية لعليٍّ (ع) كان محاباةً من الرسول (ص) فالآية وحدها كانت وحدها كفيلة بحماية الرسول (ص) من هذه التهمة التي عمل المنافقون على الإرجاف بها

فدعوةُ الرسول (ص) لفلول الحجَّاج، واسترجاع من تقدَّم واستقدام من تأخَّر، ونصبُ المنبر في هجير الصحراء يستثير فضولَ الناس ويسترعي اهتمامَهم وجودةَ اصغائهم لما سيقولُ الرسول (ص) وهو ما فوَّت على المنافقين فرصة التشويش الذي تمكَّنوا منه يوم عرفات.

وهكذا أنجز اللهُ تعالى لنبيِّه (ص) وعدَه فعصمَه من بغيهم، فلم يتمكنوا من اغتياله قبل أنْ يؤدِّى الرسالة التي كُلِّف بأدائها في جموع الحجَّاج، ومنعَهم من أنْ ينالوا من مصداقيَّة ما بلَّغه للمسلمين عن ربِّه، وأبطلَ سعيَهم، فلم يتهيأ لهم الحيلولة دون وصولِ صوتِه لمسامع المسلمين، وزاد رسولُ الله على ذلك -إمعاناً في إقامة الحجَّة - فوضع كفَّ عليِّ(ع) في كفِّه ورفعها من فوق منبره عالياً حتى بانَ بياضُ إبطيهما لجموع الحجَّاج ليظلَّ هذا المشهدُ اليتيم وغيرُ المسبوق محفوراً في الذاكرة .

فالعصمة التي وعد اللهُ نبيَّه (ص) بها في الآية الشريفة تعني الحفظ له من بغي المنافقين وكيدهم إلى أنْ ينتهي من الإبلاغ للرسالة التي كُلِّف بأدائها ليهلَكَ بعدها من هلكَ عن بيِّنة ويحيى من حيَّ عن بيِّنة. وقد أنجزَ اللهُ تعالى لنبيِّه (ص) وعدَه فحفِظه من بغي المنافقين وكيدِهم إلى أنْ أكمل التبليغ لرسالة ربِّه وبيَّن للمسلمين ما فرضَه الله عليهم من الإذعان لفريضة الولاية لعليٍّ والعترة الطاهرة (ع) وعندها نزل القرآن بالإعلان عن أنَّ الدين قد كمل وأنَّ النعمة قد تمَّت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(5)

فالعصمةُ في الآية الشريفة لم تكن تعني الوعد بالحفظ للنبيِّ (ص) من غائلة المنافقين إلى منتهى أجله، فشأنُ النبيِّ (ص) شأن سائر الأنبياء والمصلحين يكون دائماً في معرض القتل، غايتُه أنَّ الله تعالى وعده بالحفظ إلى أنْ يُتم عليهم حجَّته كاملةً وافية، فلا يبقى بعدها عذرٌ لمعتذر، وذلك هو مؤدَّى قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(6)  فهو لا يقسِرُ الناس على الهداية وإنَّما يُرشدهم إليها ثم لهم أن يختاروا الهدى أو الضلال، ولعلَّ ممَّا يُؤيد عدم اقتضاء الآية للوعد بالحفظ من القتل إلى منتهى الأجل قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(7) فهو تعالى لم يضمن لنبيِّه (ص) أنْ لا يموت مقتولاً شأنُه في ذلك شأنُ المرسلين الذين سبقوه.

وكذلك فإنَّ العصمة التي وعد اللهُ نبيَّه (ص) بها في الآية لا تقتضى منعه من أنْ يتَّهمه المنافقون في صدقِه أو في عقلِه أو في عدلِه أو في أنَّ ما جاء به كان من عند ربِّه، وغاية ما تقتضيه العصمة في الآية هو المنع من تأثير أراجيفهم من قيام الحجَّة عليهم وعلى عامة المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم ، فالنبيُّ (ص) كسائر الأنبياء، وسنَّةُ الله تعالى في أنبيائه أن يكون لهم أعداء، ومقتضى عداوتهم هو المعاندة والمضادَّةُ بمثل المكر والكيد والتشويشِ والتغريرِ والتكذيب والافتراء والتضليل، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ }(8)

الهوامش: 1- سورة المائدة: 67. 2- فمن ذلك ما أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وآله يحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فاخرج النبيُّ صلى الله عليه وآله رأسَه من القبَّة فقال لهم: أيُّها الناس انصرفوا فقد عصَمني الله" قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الاسناد ولم يخرجاه . ج2/ 313 ومنه: ما أخرجه ابن جرير الطبري بسنده عن ابن جريج ، قال : كان النبي ( ص ) يهابُ قريشا ، فلمَّا نزلت : {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} استلقى ثم قال : من شاء فليخذلني مرَّتين أو ثلاثا" جامع البيان- ج6/ 416 ومنه: ما أخرجه ابن جرير الطبري بسنده عن سعيد بن جبير ، قال : لمَّا نزلت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قال رسول الله ( ص ) : لا تحرسوني إنَّ ربِّي قد عصمني" جامع البيان - الطبري- ج 6/ 414 ومنه: ما أخرجه ابن جرير الطبري بسنده عن القرظي : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحرس ، حتى أنزل الله :وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}"  ج10/ 470 ومنه: ما أخرجه ابن جرير الطبري بسنده عن محمد بن كعب القرظي قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابُه ، فأنزل الله تعالى ذكره :{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }" ج10/ 469. 3- من ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه يسنده عن جابر بن سمرة قال انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبى فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثنى عشر خليفة فقال كلمة صمَّنيها الناس فقلت: لأبي ما قال؟ قال: كلُّهم من قريش" صحيح مسلم ج6/ 4 ومنه: ما أخرجه أحمد في المسند بسنده عن جابر بن سمرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: لن يزال هذا الدين عزيزا منيعا ظاهرا على من ناواه لا يضره من فارقه أو خالفه حتى يملك اثنا عشر كلهم من قريش أو كما قال" مسند أحمد ج5/ 96 ومنه: ما أخرجه أحمد في مسنده بسنده عن جابر بن سمرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يزال هذا الامر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة فكبَّر الناس وضجُّوا وقال كلمة خفية قلت لأبي يا أبت ما قال قال كلهم من قريش" مسند أحمد ج5/ 98 ومنه: ما أخرجه أحمد بسنده عن جابر بن سمرة السوائي قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: انَّ هذا الدين لن يزال ظاهرا على من ناواه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضي من أمتي اثنا عشر خليفة قال: ثم تكلم بشئ لم أفهمه فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلُّهم من قريش مسند أحمد ج5/ 87 ومنه: ما أخرجه أحمد بن حنبل بسنده عن جابر بن سمرة السوائي قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع : لا يزال هذا الدين ظاهرا على من ناواه لا يضره مخالف، ولا مفارق حتى يمضي من أمتي اثنا عشر أميراً كلُّهم ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكان أبي أقرب إلى راحلةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني فقلت: يا أبتاه ما الذي خفى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يقول: كلُّهم من قريش مسند أحمد ج5/ 87 ومنه: ما أورده الشيخ الصدوق في الخصال بسنده عن جابر بن - سمرة السوائي قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وآله فقال : يلي هذا الامر اثنا عشر . قال : فصرخ الناس فلم أسمع ما قال ، فقلت لأبي - وكان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مني - فقلتُ : ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال : قال : كلُّهم من قريش وكلُّهم لا يُرى مثله" الخصال - الصدوق- ص 473 ومنه: ما أخرجه أحمد بن حنبل بسنده عن الشعبي قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثنى عشر خليفة قال: فجعل الناس يقومون ويقعدون" مسند أحمد ج5/ 99. 4- لاحظ مثلا: ما ورد في تفسير العياشي عن جابر بن أرقم قال : بينا نحن في مجلس لنا وأخو زيد بن أرقم يحدثنا إذ أقبل رجل على فرسه عليه هيئة السفر فسلم علينا ثم وقف ، فقال : أفيكم زيد ابن أرقم ؟ فقال زيد : انا زيد بن أرقم فما تريد ؟ فقال الرجل : أتدري من أين جئت قال : لا ، قال : من فسطاط مصر لأسئلك عن حديث بلغني عنك تذكره عن رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال له زيد : وما هو ؟ قال : حديث غدير خم في ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام .. نزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فبينا نحن كذلك إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ينادى : أيها الناس أجيبوا داعى الله انا رسول الله فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضع بعض ثوبه على رأسه وبعضه على قدميه من الحر وأمر بقَمِّ ما تحت الدوح، فقُمَّ ما كان ثمة من الشوك والحجارة ، فقال رجل : ما دعاه إلى قمِّ هذا المكان وهو يريد أن يرحل من ساعته ليأتينَّكم اليوم بداهية ، فلما فرغوا من ألقمِّ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أنْ يؤتى بأحلاس دوابنا وأثاث ابلنا وحقائبها فوضعنا بعضها على بعض ، ثم ألقينا عليها ثوبا ثم صعد عليها رسول الله (ص) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيُّها الناس إنَّه نزل علي عشية عرفة أمرٌ ضقت به ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك حتى جاءني في هذا الموضع وعيدٌ من ربى إنْ لم أفعل ، ألا وانِّى غير هائبٍ لقومٍ ولا محابٍ لقرابتي، أيها الناس مَن أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : الله و رسوله قال : اللهمَّ اشهد، وأنت يا جبرئيلُ فاشهد حتى قالها ثلثا ثم أخذ بيد عليِّ بن أبي طالب عليه السلام فرفعه إليه ، ثم قال : اللهمَّ من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله قالها ثلثا ، ثم قال : هل سمعتم ؟ فقالوا اللهم بلى قال : فأقررتم ؟ قالوا اللهم نعم ، ثم قال : اللهمَّ اشهد وأنت يا جبرئيلُ فاشهد ثم نزل فانصرفنا إلى رحالنا.." تفسير العياشي - محمد بن مسعود العياشي-ج2/ 97 5- سورة المائدة:3. 6- سورة الأنعام : 149. 7-سورة آل عمران: 144. 8- سورة الأنعام:112، 113 .
2023/07/15
كواليس الحفظ والتدوين: هكذا وصلنا القرآن الكريم من عصر النبي
إنَّ القرآن المجيد بسوَره وآياته وصِيغ جُملِه كان متواتراً منذُ عصر النبيِّ (ص) بين جيل الصحابة، فكانت سِورُه وآياتُه محفوظةً لدى كثيرٍ منهم، وكان النبيُّ (ص) يأمرُ كتَّابه بكتابة ما ينزلُ ثم يتمُّ استنساخه وتداوله كتابةً وحفظاً عن ظهر قلب لدى الكثير.

وكان النبيُّ (ص) بنفسه يُقرِءُ عدداً من المتميِّزين من الصحابة ويستمعُ لقراءتهم، وكانت له معهم جلساتٌ خاصة، وكانت تُعقَد الحلقاتُ في المسجد النبويِّ أيَّام رسول الله (ص) يُقِرءُ فيها القرَّاء مَن يريد الإجادة والحفظ.

وكان من أبرز هؤلاء القرَّاء الإمامُ عليُّ بن أبي طالب، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وحذيفة بن اليمان، والمقداد بن الأسود، وزيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو زيد الأنصاري، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حُذيفة وغيرهم كثير.

فما من سورةٍ أو آيةٍ تنزلُ إلا وقد تواترَ نقلُها بين الصحابة في عصر الرسول (ص) ثم توسَّع الحفظُ والكتابة بين الجيل الأول بعد الصحابة وهو جيلُ التابعين وأخذ في التوسُّع في جيل تابعي التابعين، وهكذا أخذت تتوسَّع دائرةُ الحفَّاظ والكتابة جيلاً بعد جيل، فدائرةُ الحفَّاظ وعددُ المصاحف في الجيل اللاحق أوسعُ منها بكثيرٍ في الجيل الذي سبقَه وهكذا إلى يومنا هذا، فلم يتَّفق لكتابٍ غير القرآن أنْ حظيَ بهذه السعةِ في الحفظ والتناقل في كلِّ جيل من الأجيال المتعاقبة، فتواترُ القرآن أُفقيٌّ وعمودي، ففي كلِّ جيل يكون حفَّاظه وحملتُه ومصاحفه يفوقُ عددهم حدَّ التواتر بكثير فيأتي الجيل اللاحق فيأخذُ الكثيرُ منهم عن الكثيرِ ممَّن سبقَهم.

تواتر الحديث والفرق بينه وبين تواتر القرآن:

أمَّا كتبُ الحديث فالمتواترُ منها معناه تواترُ انتسابِه لمؤلِّفِه، وأمَّا مضامينها فقد تلقَّاها مؤلِّفُها من طُرقِ الآحاد، وقد يتَّفق أنْ تكون له طرقٌ مستفيضةٌ لبعض الأحاديث، وقد يتَّفق أنْ تكون له طُرقٌ تبلغُ حدَّ التواتر لبعض الأحاديث وينقطع التواتر عنده إلا أنْ يكونَ لغيره طرقٌ لذات الحديث أو لمضامينه، على أنَّ دائرة التواتر غالباً ما تكونُ منحصرةً بالرواة والمحدِّثين.

وببيانٍ آخر:

التواترُ لبعض كتب الحديث مثل كتاب الكافي معناه تواتر انتساب الكتاب لمؤلِّفه وذلك لاشتهار انتساب الكتاب إليه شهرةً عظيمة ولوجود طرقٍ كثيرة إليه لدى الرواة المعاصرين والمتعاقبين إلا أنَّ الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب لا تكون متواترة لأنَّ الطرق إليها تنتهي إلى مؤلِّفها وهو واحد، نعم قد يتَّفق لبعض أحاديث الكتاب طرقٌ أخرى لمؤلفين آخرين قد تصلُ إلى حدِّ الاستفاضة، وقد تتجاوز هذه الطرق حدَّ الاستفاضة وتصلُ إلى حدِّ التواتر فيكون ذلك الحديث متواتراً لتعدُّد طرقه في جميع الطبقات بما فيها طبقة المؤلفين، فتواترُ كتب الحديث لا يُساوق تواتر الأحاديث التي اشتملت عليها تلك الكتب، نعم قد يتَّفق لبعض الأحاديث التي اشتملت عليها كتبُ الأحاديث أن تكون متواترة كما لو كانت مذكورة في عدةِ كتب تبلغ حدَّ التواتر. وغالباً ما يكون تواتر الأحاديث معنويَّاً أو اجماليَّاً. وذلك بأنْ تتوافق أحاديث كثيرة من كتبٍ مختلفة على معنى واحد فيكون هذا المعنى ثابتاً بالتواتر وهو علة تامة لحصول العلم بهذا المعنى الذي تضمنته هذه الأحاديث وإنْ كان كلُّ واحدٍ من هذه الأحاديث الذي تشكل منه التواتر يُعدُّ من أخبار الآحاد.

كل آياته متواترة

وأمَّا القرآن المجيد فكلُّ سورةٍ وكلُّ آيةٍ من آياتِه فهي متواترة، ودائرةُ تواترها واسعةٌ لا تختصُّ بالرواة، فالقرآنُ يحفظُه مضافاً إلى الرواة الكثيرُ من المعلِّمين والكثيرُ من الرجال والنساء والأطفال ممَّن لا شأن له بعلوم الدين، فكان لكلِّ معلِّم في المساجد والكتاتيب عشرات بل مئات الطلبة يحفظونَ عنه ويُدوِّنون ما يقرأون، فكانت سِورُ القرآن وآياتِه متواترةً في عصر النبوَّة حتى وردَ أنَّ من قُتل من الحفاظ في حادثة بئر معونة أيام النبي (ص) كانوا سبعين أو أربعين في بعض النقولات ومن قتل في معركة اليمامة التي وقعت في سنة الحادي عشر من الهجرة ضد مسيلمة يبلغون أربعمائة والمقل ذكر أنَّهم سبعون حافظاً.

وتوسَّع تواترُه بين جيل الصحابة والذين انتشروا في البلاد المفتوحة كالبصرة والكوفة والشام ومصر واليمن مضافاً إلى الحجاز مكة والمدينة، وكانوا يعقدون حلقات التحفيظ والقراءة ويأخذُ عنهم الكثير من طلبة العلم والأطفال ثم توسَّعت دائرةُ التحفيظ والقراءة لكلِّ سورةٍ سورة في عصر التابعين ثم عصر تابعي التابعين وهكذا.

نعم قد لا يحفظُ جميعُ هؤلاء جميعَ سوَرِ القرآن وآياته ولكنَّ كلَّ سورةٍ وكلَّ آيةٍ لها من الحفَظة والمدونين ما يبلغُ حدَّ التواتر ويفوقُ بمراتب بل إنَّ عدد مَن يحفظُ القرآن كاملاً في كلِّ جيلٍ عن ظهر قلب يفوقُ تعدادُهم حدَّ التواتر.

وخلاصة القول:

إنَّ تواتر القرآن في عصر النبيِّ الكريم (ص) يتمُّ بواسطة إخبار النبيِّ (ص) للمسلمين أنَّه قد نزلت عليه سورةٌ أو آية أو عددٌ من الآيات ويقوم (ص) بقراءتها في الصلاة وفي خُطَبِه ومجلسه ويأمر كتَّاب الوحي بتدوينها ثم يأمرُهم أنْ يقرأوا عليه ما كتبوه ليقوم بتقويمه ويجعل نسخةً من ذلك في المسجد عند منبره الشريف ويأذن باستنساخ الناس له وتداوله بينهم ثم يأمر بحفظه والإكثار من تلاوته في المحافل والخلوات وفي النوافل ويأمر بترديده في الأسفار في الحضر، وكانت السور تُستنسخ للنساء، وكان النبيُّ (ص) يدخلُ المسجد فيراه يعجُّ بالتالين للقرآن فربما أمرَ بخفض الصوت وربما طلب من بعضهم أن يتلوَ عليه ما حفظه أو أتقنه، وكان يأمرُ جماعةً من المتقنين للتصدي لتعليم الناس وتحفيظهم، فلم تكن هناك سورةٌ من سوَر القرآن إلا ويحفظها عددٌ يفوقُ حدَّ التواتر، ولم يرحل الرسول (ص) إلى ربه إلا وجميع سِور القرآن وآياته محفوظةٌ في صدور المئات من المسلمين مضافاً إلى كونِه مدوَّناً عند الكثير من الصحابة، فهم وإن اختلفوا في ترتيب سوره لكنَّه كان مجموعاً عندهم.

ومن المحفوظ والمدوَّن لدى الصحابة ومن مصحف الإمام الذي كُتب منه خمس نسخ أو سبع أيام عثمان في محضر عامة الصحابة – ومنهم كتاب الوحي كعليِّ بن أبي طالب، وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت -وإقرارهم استنسخ جيلُ التابعين القرآن، وأخذ استنساخه وحفظه في التوسُّع في عامة الحواضر الإسلاميَّة كالعراق واليمن والشام ومصر ومكة والطائف مضافاً إلى المدينة وهكذا أخذ في التوسُّع على نطاقٍ أوسع جيلاً بعد جيل يتعبُّد الناس بحفظه وتدوينه وتلاوته وكان القرآن هو محور حلقات التعليم في المساجد والكتاتيب.

2023/06/11
تدفع عنك ألف مكروه.. ما هي فلسفة آية الكرسي؟
بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ صدق الله العليّ العظيم

[اشترك]

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في محورين:

في بيان المحكم والمتشابه.

في بيان معنى الكرسي ونسبته إلى العرش بالنسبة لله تبارك وتعالى.

المحور الأول:

قال تبارك وتعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، المحكم هو الآية الواضحة الدلالة، والمتشابه هو الآية المجملة في دلالتها الغامضة في تحديد معناها، وسبب ذلك ومنشأ ذلك أنّ الآيات المحكمات هي الآيات التي تتضمّن مضامينَ عامّة وتتحدّث عن مبادئَ عامةٍ، فلأنها تتحدث عن مبادئَ عامّةٍ تكون دلالتها واضحة، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، هذه مضامين عامة في الكتاب فآياتها آيات محكمة، أمّا الآيات المتشابهة فما هو سبب التشابه «أي: ما هو منشأ إجمال دلالتها وغموض معناها»؟

نشير إلى مناشئ ثلاثة:

المنشأ الأول:

قد يكون منشأ الإجمال ومنشأ الغموض في الآية هو الإطلاق وعدم التحديد، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾، أطلق اليد ولم يحدّدها، مع أنّ اليد في اللغة تطلق على تمام هذا العضو، وتطلق على الذراع، وتطلق على الكفّ، وتطلق على الأصابع، فحيث إنه أطلق اليد ولم يحدّدها صار ذلك منشأ لإجمال الآية فأصبحت من الآيات المتشابهة.

المنشأ الثاني:

أن يكون نفس اللفظ مجملاً بحسب معناه اللغوي، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، «أنّى» بحسب اللغة هي لفظ مجملٌ لا يعلم أنّ المراد به الزمان أو يراد به المكان، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يعني: في أي زمان شئتم إلا زمان الحيض، أو ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يعني: من أين مكان شئتم إلا ما أخرجه الدّليل الآخر؟ ف «أنّى» مجملة بين الزّمان وبين المكان بحسب معناها اللغوي، وهذا هو الذي أوجب إجمال الآية وكون الآية من الآيات المتشابهة.

المنشأ الثالث:

أن يكون منشأ التّشابه هو وصف المجرّدات بوصف الماديّات، القرآن الكريم استخدم الكناية والاستعارة والمجاز المرسل في كثير من مضامينه وفي كثير من مداليله، أحيانًا تقتضي الكيانة أو الاستعارة أنْ يصف الأشياء المجرّدة - يعني: الأشياء التي ليست ماديّة - بأوصاف المادّة فيقع الاشتباهُ ويقع الغموضُ، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾، الله ليس أمرًا ماديًا لكنّه وصفه بأوصاف المادّة، قال: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ فحصل الاشتباهُ في الآية، صارت من الآيات المتشابهة، مثلاً: عندما يقول: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ الله ليس جسمًا حتى يُعْقَلُ فيه المجيءُ والذهابُ، لكن وصفه بأوصاف الأجسام، قال: ﴿وَجَاءَ رَبُّك﴾ فأصبحت الآية من الآيات المتشابهة، وقوله عزّ وجلّ مثلاً: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ والاستواء من أوصاف المادّة فأصبحت الآية من الآيات المتشابهة.

إذا قمنا بالمقارنة بين قوله عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ نجد أنّ هذه الآية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ محكمة، لماذا محكمة؟ لأنها تعرّضت لمعنى عام ولم تصف المجرّد بأوصاف المادّة فأصبحت آية محكمة، بينما قوله عزّ وجلّ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ لأنّها تعرّضت لخصوصيّة معيّنة وهي خصوصيّة علاقة الله بالعرش ووصفت هذه الخصوصيّة بوصف المادّة أصبحت الآية من الآيات المتشابهة، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، أيضًا آية الكرسي التي ابتدأنا بها وهي قوله عزّ وجلّ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ الله يريد أنْ يتحدّث عن علاقته بالسّماوات والأرض والكون، وصف هذه العلاقة بوصف المادّة وهو الكرسي، الكرسي من أوصاف الأجسام، من أوصاف المادّة، أصبحت هذه الآية من الآيات المتشابهة، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.

المحور الثاني: ما يتعلق بالحديث حول الكرسي والعرش ونسبته إلى الوجود

هنا أذكر أمورًا ثلاثةً:

الأمر الأوّل: آية الكرسي أفضل آيات القرآن بعد سورة الفاتحة

ورد في الأحاديث الشريفة في تفسير العياشي عن الصّادق عليه السّلام قال له: ما أفضل آية نزلت على النبي ؟ قال: ”هي آية الكرسي“، أفضل آية نزلت على النبي هي آية الكرسي، طبعًا إذا نقارن آية الكرسي بآيات أخرى ربّما يكون المعنى موجودًا في آيات أخرى، مثلاً قوله في سورة طه نفس هذا اللّفظ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾َ لكن لم يقل: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، قال: ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ هذا في سورة طه، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾، فتعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ إجمالي، لم يبيّن ما هي الأسماء الحسنى، أمّا في آية الكرسي تعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ تفصيلي، يعني: بيّن ما هي الأسماء الحسنى، قال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ...﴾ فتعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ تفصيلي، بينما في تلك الآية الموجودة في سورة طه تعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ إجمالي.

في روايةٍ أخرى - هذه الرّواية مهمٌ أنْ تعرفوها - يذكر الشّيخ الصّدوق في كتابه «المعاني» عن الباهلي عن الصّادق عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليًا عليه السّلام قال: ”لا يوجد رجلٌ أدرك عقله الإسلامَ - يعني: عرف الإسلامَ - أو وُلِدَ في الإسلام يبيت ليلته سوادَها حتى يقرأ هذه الآية“ يعني آية الكرسي، يعني ما يصير مسلم يبيت ليلة دون أن يقرأ آية الكرسي، لا يوجد رجلٌ أدرك عقله الإسلام أو وُلِدَ في الإسلام يبيت ليلته سوادَها حتى يقرأ هذه الآية، ثم قرأها إلى ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾، لم يقرأ الآيات الثلاث ممّا يدلّ على أنّ آية الكرسي إذا أطلقت تنصرف إلى الآية الأولى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.

وقال أمير المؤمنين: ”لقد سمعتُ من رسول الله  أنّه قال: أعطيت آية الكرسي من كنز هو تحت العرش“ ثم قال أميرُ المؤمنين: ”فمنذ سمعتُ ذلك ما تركتها ليلة قط“، إذن هذا يدلّ على مرغوبيّة ومحبوبيّة قراءة آية الكرسي هذه الآية العظيمة في كلّ ليلة وفي كلّ حال كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.

الأمر الثاني: نسبة الكرسي إلى العرش

في آيات أخرى تحدّث عن العرش، قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾، هنا تحدّث عن الكرسي، قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، ما هي نسبة الكرسي إلى العرش؟

هنا نتحدّث عن منظورات ثلاثة: المنظور السّياقي والمنظور الفلسفي والمنظور الرّوائي.

1 - نأتي أولاً للمنظور السّياقي:

نحن وسياق الآية مع غمض النّظر عمّا ذكرته الرّواياتُ الشّريفة، لو كنّا نحن وسياق الآية، الآية تقول: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذه الصّفة الأولى صفة التّوحيد، يعني: هو واحدٌ، ﴿الْحَيُّ﴾ يعني: له الحياة المطلقة، ﴿الْقَيُّومُ﴾ له القيوميّة والإحاطة والسّيطرة المطلقة، ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ إشارة إلى القدرة وأنّه لا يطرؤ عليه عجزٌ أبدًا، هو القادر المطلق جلّ وعلا، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إشارة إلى الملك كما قال في آيةٍ أخرى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ هذا إشارة إلى الملك، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ولذلك - يعني: لأنّ بيده الملك - لا يستطيع أحدٌ أنْ يشفع عنده إلا بإذنه، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ هو المالك فلا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، ثم تعرّض لصفة العلم، قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ هذه صفة العلم، ثم جاء إلى صفة السّلطنة، قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ هذه كناية عن السّلطنة، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ فالكرسي هنا بحسب المنظور السّياقي للآية المباركة كناية عن سلطنته تبارك وتعالى ونفوذ أمره، ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾ إشارة إلى نفوذ الأمر والسّلطنة قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.

2 - المنظور الفلسفي في تحديد نسبة الكرسي إلى العرش:

الكرسي، العرش، كلها مراتب من علمه تبارك وتعالى، العرش والكرسي إشارة إلى مراتب من علمه عزّ وجلّ، يعني: من مراتب علمه العرش، من مراتب علمه الكرسي، من مراتب علمه العلم الفعلي، كلّ ذلك إشارة إلى مراتب علمه، إنّما كلّ مرتبةٍ من مراتب العلم يعبّر عنها بعنوان معيّن ويعبّر عنها بمقام معيّن، حتى أشرح لك هذا المعنى أنا أمثل لك بمثالٍ حسي ومن خلاله يتّضح لك: إذا افترضنا أنّ إنسانًا عنده شركة أو إنسان ملك دولة، هذا الملك مراتب ملكه وهذا الذي عنده الشّركة مراتب ملكه ثلاث:

المرتبة الأولى: مرتبة الملك الفعلي.

ما هو معنى مرتبة العلم الفعلي؟

يعني: عنده عمّال تشتغل، هؤلاء العمّال الذين يشتغلون بأمره - هذا يحرث، هذا يرزع، هذا يصنع، هذا.. - هؤلاء العمّال، هذا مثلاً ملك دولة، وهذه الحكومة عندها شركات، وهذه الشّركات عندها موظفون، وهؤلاء الموظفون يعملون، كلّ موظفٍ في مقام معيّن، في زاويةٍ معيّنةٍ، في جهةٍ معيّنةٍ، هؤلاء العمّال الذين يعملون يشكّلون مرتبة من مراتب ملكه، وتسمّى هذه المرتبة بمرتبة الملك الفعلي، مرتبة الملك الخارجي، هذه المرتبة ألا وهي مرتبة الملك الفعلي يعبّر عنها الفلسفة بمرتبة تزاحم الإرادات، كيف يعني مرتبة تزاحم الإرادات؟

يعني: هذا العامل يشتغل في هذه الجهة، ربّما يزاحم العاملَ الثاني، والعامل الثاني يزاحم العاملَ الثالث، فيقع التزاحمُ والتنافسُ والتعارضُ بين العمّال الذين يعملون، كلٌ في مكانه لكنّ بعضهم قد يطغى على بعض، بعضهم قد يغلب على البعض الآخر، فمرتبة الملك الفعلي هي مرتبة تزاحم الإرادات وتنافس الإرادات، هذه المرتبة الأولى.

المرتبة الثانية من مراتب ملكه هي: مرتبة الحكومة بين هذه الإرادات.

مَنِ الذي يحكم ويقدّم إرادة على أخرى ويرجّح عاملاً على آخر ويقدّم شركة على أخرى؟ مَنْ؟! هو نفسه هذا الملك، هو نفسه هذا صاحب الشّركة، صاحب الشّركة مِنْ مراتب ملكه الحكومة بين الإرادت، والفصل بين الخصومات، ورفع التّنازع، وتقديم إرادة على أخرى، وتقديم سبب على آخر، هذه من مراتب ملكه: الحكومة والسّلطنة فوق الإرادات كلها، هذه المرتبة الثّانية نعبّر عنها بمرتبة السّلطنة.

عندنا مرتبة الثالثة وهي: مرتبة التّقدير.

هذا لا يدير شركة بدون مخطط، وهذا الملك لا يدير دولة بدون مخطط، لم نسمع بملك يدير دولة بدون مخطط، لا محالة عنده مخطط، هذا المخطط فيه تفاصيلُ شؤون الشّركة، تفاصيل شؤون الدّولة، كلّ شركة، كلّ عامل، كلّ موظف، يرتبط بسلسلةٍ معيّنةٍ من الأنظمة، بسلسلةٍ معيّنةٍ من القوانين، وجميع هذه التسلسلات محفوظة في وعاء لدى هذا الملك، لدى صاحب الشّركة، يسمّى ذلك الوعاءُ وعاءَ التّقدير.

إذن هناك مرتبة الملك الفعلي، هناك مرتبة السّلطنة، هناك مرتبة التّقدير والإحاطة، نحن إذا أردنا أن نعبّر عن هذه المراتب نسمّي المرتبة الأولى: مرتبة الوجود، نسّمي المرتبة الثانية: مرتبة الكرسي، الكرسي هو مرتبة الحكومة والسّلطنة، ونسمّي المرتبة الثالثة - ألا وهي مرتبة التّقدير والإحاطة - بمرتبة العرش، فالعرش مرتبة فوق مرتبة الكرسي، والكرسي مرتبة فوق مرتبة الوجود الخارجي، فهي مراتب ثلاثة للملك، وكلّ مرتبةٍ تسمّى باسم معيّن.

نأتي بالنّسبة إلى الله جلّ جلاله، نقول: هناك مرتبة من مراتب علمه وهي وجودنا نحن، وجودنا المادي بحدودنا الماديّة، هذا العالَم - العالَم المادّي - عالمُ أنواع: إنسان، حيوان، نبات، ملك، جن... عالم أنواع، ونفس الأنواع تنقسم إلى أصناف، الإنسان ينقسم إلى أصناف: إنسان مثلاً إفريقي، إنسان آسيوي، إنسان إنجليزي... وهؤلاء الأصناف تنقسم إلى أفراد، هذا الإنسان الآيسوي ينقسم إلى زيد وبكر وخالد وعمرو و... إلخ، هذه كلها حدود، هذا العالم المادّي بحدوده معلومٌ لدى الله عزّ وجلّ، وعلمه به عزّ وجلّ عين وجوده، علم الله بي هو عين وجودي، يعني الله لا يحتاج أنْ يأخذ عني صورة حتى يعرفني، لا، علمه بي عين وجودي، وجودي عنده هو عين علمه بي وليس شيئًا آخر، فلذلك هذه المرتبة من الوجود المادّي بحدوده، بتفاصيله، تسمّى مرتبة العلم الفعلي، هو يعلم بنا وعلمه بنا عين وجودنا، وهذا ما يسمّى بمرتبة العلم الفعلي.

نأتي إلى مرتبة من علمه أعلى من هذه المرتبة، وهي ما نسمّيها بمرتبة السّلطنة، هو علمٌ، مرتبة من علمه، لكنّ تسمّى بمرتبة السّلطنة، كيف؟

نحن أيضًا نحن الآن موجودون في هذا الكون وجودًا ماديًا، لكن لنا وجودًا قبل هذا الوجود، وجود غير مادّي، وجود غير محدود، كنّا موجودين وجودًا غير محدودٍ، وهنا في عالم المادّة لنا وجودٌ محدودٌ، لماذا؟

الفلاسفة يقولون: المادّة منشأ الحدّ والنّقص والتجرّد منشأ الكمال والإطلاق، يعني أنا الآن منذ أنْ أصبح مادّةً «مادة لها طولٌ وعرضٌ وعمقٌ، مادة تشغل حيزًا من الفارغ» بمجرّد أنْ أصبح مادة لازم يصبح لي حد، المادّة منشأ الحدّ، المادّة مساوقة للحدّ، لا يمكن أن يصبح مادة ما لم يكن له حدٌ، والحدّ منشأ النّقص، هذا الحجر لا يستطيع أنْ يصبح نباتًا، هناك حدٌ صارمٌ يحجب الحجر عن أنْ يتطوّر فيصبح نباتًا، النّبات أيضًا محدودٌ لا يستطيع أنْ يصبح حيوانًا، هناك حدٌ يمنعه أنْ يتحوّل إلى متحرّكٍ بالإرادة، إلى حيوان، الحيوان هناك حدٌ يمنعه أنْ يتحوّل إلى إنسانٍ، لكلّ موجودٍ مادي حدٌ وهو فقدان المرتبة الأعلى، فالمادّة منشأ الحدّ والحدّ منشأ النّقص.

تأتي الآن إلى المجرّد الذي ليس ماديًا، ليس له حدود ماديّة، هذا لا يعرف الحدّ، مادام ليس ماديًا ليس له حدٌ، لأنّ منشأ الحدّ هو المادّة، ولا يعرف النّقص، يكون كمالاً محضًا، فالتّجرّد منشأ الإطلاق - يعني: اللامحدوديّة - ومنشأ الكمال، نحن قبل وجودنا هذا المادّي كنّا في عالم موجودين لكن ليس عندنا هذه الحدود الماديّة، محدودون بعلم الله عزّ وجلّ لا أكثر، ليست لنا هذه الحدود الماديّة وإنّما نحن محدودون بعلم الله، كان لنا وجودٌ ليس ماديًا، لا يعرف الحدّ، لا يعرف النّقص، وذلك الوجود الذي كان لنا هو عين علمه بنا تبارك وتعالى، وذلك العلم هو المسمّى بالكرسي.

لاحظ كيف الإنسان ينزل ويهبط من عالم الكرسي إلى عالم المادّة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، أنت كنتَ في عالم الكرسي، كنتَ في عالم الكرسي وجودًا غير محدودٍ، غير مقدّر، يعني: كنتَ في عالم الكرسي مختزنًا، ثم نُزّلَت إلى عالم المادّة نزولاً محدودًا ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ فعالم الكرسي هو مرتبة من علم الله، وهو العلم بالأشياء من حيث أنّها غير محدودةٍ، من حيث أنّها مجرّدة لا من حيث أنّها محدودة، وبما أنّه عَلِمَ بالأشياء قبل أنْ ينزّلها إلى عالم المادّة، عَلِمَ بها من حيث أنّها مجرّدة، فهذه المرتبة من العلم - وهي علمه بالأشياء من حيث أنّها مجرّدة - تسمّى بالكرسي، وهي مقام السّلطنة ومظهرٌ لسلطنته تبارك وتعالى.

فوق هذه المرتبة من العلم علمه بجميع ما سواه، ليس فقط علمه بالماديّات، ليس فقط علمه بالسّماوات والأرض، لا، لا، بجميع ما سواه، فوق هذه المرتبة - مرتبة الكرسي - علمه بجميع ما سواه تبارك وتعالى، الذي يشمل عالم الجبروت، وهو عالم العقول، وعالم الملكوت، وهو عالم النّفوس، وعالم الملك... وهكذا من العوالم، علمه بجميع ما سواه تبارك وتعالى، وفي هذه المرتبة من العلم مبدأ الأشياء كلّها، يعني الآن مثلاً: هذا الإنسان ينحدر من سبب وهو النطفة، النطفة تنحدر من سبب وهو الأب، الأب ينحدر من سبب... إلى أنْ تنتهي هذه الأسباب الجزئيّة إلى أسباب كليّة، إلى مناشئَ كليّةٍ، جميع هذه السّلسلة من الأسباب والمسبَّبات معلومةٌ في مرتبة علمه الأولى، وتلك المرتبة التي هي العلم بجميع ما سواه تسمّى بالعرش، وهذه المرتبة التي تسمّى بالعرش هي مظهر لمالكيّته تبارك وتعالى وقيوميّته تبارك وتعالى لجميع ما سواه، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، هذا بحسب المنظور الفلسفي.

3 - نأتي الآن إلى المنظور الرّوائي:

ما يستفاد من بعض الرّوايات الشّريفة الواردة عن أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نأتي الآن إلى هذه الرّواية «رواية جيّدة، نقتصر على روايةٍ واحدةٍ»: في التّوحيد للشّيخ الصّدوق عليه الرّحمة في كتاب التّوحيد عن حنّان بن سدير عن الصّادق عليه السّلام سأله: ما العرش وما الكرسي؟ فأجابه الإمام، قال: ”العرش والكرسي بابان من أبواب الغيوب - بابان من أبواب الغيب - وهما مقرونان بالغيب - يعني: لا ينفكّان، كلٌ منهما ملازمٌ للآخر - وهما مقرونان بالغيب، فالكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، منه مطلع الأشياء ومنه البَدْع، والعرش هو الباب الباطن من الغيب، وفيه علم الكيف والقدر والمشيئة وصفة الإرادة والكون“ ما هذا الكلام؟! كلام عظيم، كلام العظماء عظيم الكلام، وأنت تذهب وتدوّخ حالك مع قتادة؟! ماذا قال قتادة وماذا قال الرّازي...؟! أنت اسمع ماذا يقول جعفرُ بن محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله، من أين يتحدّث هؤلاء؟! من أين يخبرون؟!

جاء قتادة إلى الإمام الباقر، قتادة إذا تفتح تفاسير إخوانا أهل السنّة تجد قتادة وقتادة، إذا تدخل الكشّاف للزّمخشري أو تدخل التّفسير الكبير للرّازي قال قتادة وقال قتادة! قتادة دخل على الإمام الباقر عليه السّلام، قال: يا قتادة! بلغني أنّك تفسّر القرآن؟! قال: نعم، قال: ”إنْ كنتَ تفسّره من عندك فقد هلكتَ وأهلكت، وإنْ كنتَ تفسّره من الرّجال فقد هلكتَ وأهلكت، إنّما يعرف القرآنَ مَنْ خوطب به - يعني: النبي محمّدٌ  - إنّما يعرف القرآنَ من خوطب به وما هو - يعني: بعد النبي - إلا عند الخاصّة من ذرّية نبينا محمّدٍ ، وما ورّثك اللهُ من كتابه حرفًا“، حديث الثقلين يقول لكم ارجعوا إلى هؤلاء فلماذا أنت تذهب إلى قتادة؟! ”إنّي مخلّفٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوضَ“ وأنت متمسّكٌ بقتادة ومتمسّكٌ ب...؟! هذا مثلما يقول أهلُ الأوّل: ورقة ملزقة بتمر! إذا كان هنالك شيء ملزقٌ بتمر فهل يقف؟! لا يقف، يسقط، هذا هكذا ملزقة بتمر!

الصّادق عليه السّلام منهل العلم، مصدر العلم، يقول: هذا هو الكرسي وهذا هو العرش، ”الكرسي الباب الظاهر من الغيب، منه مطلع الأشياء ومنه البَدْع، والعرش هو الباب الباطن من الغيب، بابان مقرونان“ بمعنى أنّ العرش والكرسي عبارة عن علمه تبارك وتعالى لكنّ علمه له لحاظان: لحاظ بالنّسبة إليه جلّ وعلا، ولحاظ بالنّسبة إلى الوجود، علمه عزّ وجلّ إذا لوحظ بالنّسبة إليه فهو الباب الباطن من الغيب، وإذا لوحظ بالنّسبة إلى عالم الوجود فهو الباب الظاهر، علمه بالنّسبة إليه بابٌ باطنٌ من الغيب لا يعلمه إلا هو، علمه بالنّسبة إلى الوجود حيث إنّ هذا الوجود ينحدر عن علمه، وينبعث عن علمه، فنسبة هذا الوجود إلى علمه يكون العلم هو الباب الظاهر من الغيب، وقد قلنا بأنّ علمه تبارك وتعالى وهو غيب الغيوب ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ علمه تبارك وتعالى ليس علمًا صوريًا، يعني: نتيجة صور، لا، علمه علمٌ حضوريٌ، المعلوم حاضرٌ بنفسه عنده وليس عبر الصّورة ولا بواسطة الصّورة، ونحن الموجودات التي خلقها وبرأها، نحن لنا ثلاث حالات، ليس علمه هو يتغيّر، ليس علمه هو يتبدّل، التّبدّل والتّغيّر والتّحوّل في المعلوم نفسه لا في علمه، علمه عين حضور المعلوم، المعلوم هو يتّصف بثلاث حالات، ما هي الحالات التي نتّصف بها؟ نحن مرننا بثلاث حالات، ما هي هذه الحالات؟

الحالة الأولى: أنّنا كنّا كلنا وجودًا واحدًا يسمّى وجودًا إجماليًا

لا يوجد في ذلك الوجود زيد وعمرو وبكر وإنسان وحيوان... لا، خيط الوجود خيط واحدٌ جامعٌ لشتات الموجودات، فذلك وجودٌ إجماليٌ بسيط لا كثرة فيه ولا تعدّد فيه، كلّ هذه الموجودات كانت مطويّة، كلها كانت مطويّة، الوجود واحدٌ وهو وجودٌ إجماليٌ بسيط لا كثرة فيه، لا تعدّد فيه، جميع الموجودات هكذا، ثم بسط هذا المطويَّ فخرج من اللف إلى النشر، من الطي إلى البسط، من الإجمال إلى التفصيل، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، ولذلك هذا الوجود الذي نحن نعيش فيه الآن الذي فيه سماء وأرض وشمس وقمر وإنسان وحيوان ونبات وحجر يعاد مرة ثانية، يطوى، يرجع إلى الوجود البسيط الإجمالي، يعاد مرة أخرى ويطوى، أشارت الآياتُ القرآنيّة إلى يوم الطيّ ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يوم الجمع هذه التفاصيل كلها تُجْمَع في وجودٍ واحدٍ، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، إذن كان هذا الوجودُ وجودًا إجماليًا بسيطًا، وعلمه بهذا الوجود عين إفاضته له تبارك وتعالى، وتلك المرتبة من العلم المسمّاة بالعرش، فهي الباب الباطن من الغيب.

ثم هذا الموجود مرّ بحالةٍ ثانيةٍ: صار كثيرًا، بسط الوجود الإجمالي فأصبح وجودًا تفصيليًا لكنّه مازال مجرّدًا من المادّة، وُجِدْنَا نحن في عالم آخر وجودًا تجرّديًا، وُجِدْنَا وجودًا تجرّديًا، وعلمه بنا في ذلك العالم الآخر هو عين إيجادنا وجودًا تجرّديًا، وذلك العالم الآخر هو عالم الكرسي، فهو الباب الظاهر من الغيب.

ثم تنزلنا إلى هذا العالم المادّي: نزلنا بالحدود، بالأقدار، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، هذا الوجود الذي نحن فيه هو عالم المحو والإثبات ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.

2023/04/26
من أسمائه الحسنى ’المؤمن’.. بماذا يؤمن الله؟!
من أسماء الله تعالى (المؤمن) فبماذا يؤمن الله؟ وما معنى هذا الاسم، وعلى ماذا يدل؟

[اشترك]

الإيمان مصدر آمن وأيمن، ويعني التصديق والاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه ريب، ولا يرقى إليه شك، والمؤمن هو المصدّق بالشيء تصديقا يقينيا جازما لا شك فيه ولا ريب، كما هو الحال في المؤمن بالله، أي المصدق به المعتقد بوجوده سبحانه وتعالى.

والمؤمن من أسماء الله الحسنى التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن ندعوه بها في قوله عزّ من قائل في الآية (180) من سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

وقد ورد هذا الاسم المبارك في آية واحدة في القرآن الكريم، هي قوله سبحانه وتعالى في الآية (23) من سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

وقيل إن له معنيين، أولهما متعلق بالله عز وجل، كتصديقه لنفسه وشهادته لذاته بالوحدانية قبل تصديق وإيمان وشهادة خلقه له بذلك، وهو ما أشار إليه في قوله تعالى في الآية (18) من سورة آل عمران: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، والمعنى (أنه بين لخلقه توحيده وألوهيته بما أقام لهم من الدلائل) كما في المجلد الخامس، الجزء التاسع ص400 من مجمع البيان للطبرسي.

وكذا تصديقه لرسله وأنبيائه فيما بعثهم به إلى خلقه، وإظهار صدقهم وإعلاء كلمتهم على غيرهم، وكذا تصديقه للمؤمنين بإيمانهم، وتكذيبه الكافرين بكفرهم...إلى غير ذلك مما يعود إلى ذاته ويتعلق به سبحانه وتعالى.

والمعنى الثاني متعلق بالعباد وإليهم يعود، فالله هو المؤمن لأنه تعالى يهب الأمن ويعطي الأمان، وفي لقرآن الكريم عدة آيات تشير إلى هذا المعنى، بل تذكره صراحة وتؤكد كل التأكيد، ونحن نذكر بعضها دون شرح ولا تعليق حتى لا يطول بنا المقام.

فمن ذلك إعطائه الأمن للمؤمنين الصادقين، كما في قوله تعالى في الآية (82) من سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.

وهو الذي جعل للمتقين مقاما آمنا، فقال في الآيتين (51-52) من سورة الدخان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، كما أعطاهم الأمن والسلام، فقال في الآيتين (45-46) من سورة الحجر: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}.

كما وعد المؤمنين أن يستبدل خوفهم بالأمن كما في قوله سبحانه في الآية (56) من سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

وهو سبحانه وتعالى معطي المؤمنين العاملين المحسنين الأمن من فزع يوم القيامة، كما في قوله عز وجل في الآية (89) من سورة النمل: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، وقوله عز من قائل في الآية (37) من سورة سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}.

وهو الذي جعل البيت الحرام مكان أمن وأمان، كما دلت على ذلك عدة آيات بينات، منها قوله تبارك وتعالى في الآية (97) من سورة آل عمران: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.

إلى غير ذلك من الآيات البينات الدالة على أن الله هو مصدر الأمن، ومعطي الأمان، وهذا عدى ما ورد في الأحاديث الشريفة الدالة على ذلك، كما في الحديث عن ابن عباس: (إذا كان يوم القيامة أًخرج أهل التوحيد من النار، وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي، حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي، قال الله تعالى لباقيهم: "أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن" فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين) كما في ج10ص401 من تفسير (من هدي القرآن).

وأما الأدعية الشريفة فمليئة بهذا المعنى، ومنه ما في دعاء الافتتاح: (اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي يُؤْمِنُ الْخائِفينَ، وَيُنَجِّى الصّالِحينَ، وَيَرْفَعُ الْمُسْتَضْعَفينَ، وَيَضَعُ الْمُسْتَكْبِرينَ، يهْلِكُ مُلُوكاً وَيَسْتَخْلِفُ آخَرينِ)

بل هو الأمن والأمان لكل هذا الكون بكل عوالمه وموجوداته، ولو ارتفع أمنه وأمانه عنه لحظة بل وأقل، لعاد عدما ولما أصبح له من وجود، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

2023/03/22
الرحمن الرحيم.. هل سألت نفسك عن معناها؟!
لا أقلّ من عشرين مرّة في اليوم: يجب عليك شرعاً أن تقول: (الرحمن الرحيم)!، وأحسب أنّ المقصود واضح: ففي كلّ فريضة تقرأ (البسملة) أربع مرّات، وبضرب الأربعة في الفرائض الخمسة فإنّ الناتج عشرون مرّة تقول: الرحمن الرحيم.

[اشترك]

فهل سألتَ نفسك عن معناها؟ ثمّ وهل استحضرتَه حال الصلاة؟!

الرحمة نفسها كقاسم مشترك بين الصفتين؛ مفهومها واضح، وإنّما الكلام عن الفرق الفارق، والحدّ الفاصل بين الصفتين: الرحمن-الرحيم!

قيل الكثير في هذا الجانب، لكنّ أقربها للصواب-والعلم عند أهله- هو ما اختزل فيما ورد من عبارة جامعة مانعة وموجزة: (الرحمن اسم خاص لصفة عامة، والرحيم اسم عام لصفة خاصة).

وبيانها بإيجاز ويسر:

1-الرحمن اسم خاصّ: أيّ أنّه خاص بالله تعالى ولا يطلق على غيره، ومعنى أنّه صفّة عامّة: أي أنّ الرحمن تعني العطاء، والعطاء الإلهي يشمل كلّ الأشياء ويعمّ جميع النعم.

2-الرحيم اسم عام: أي طلق بالاشتراك على الله تعالى، وعلى غيره فوصف النبي بها: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، والمقصود بالصفّة الخاصّة أنّها تعني التوفيق والهداية والتسديد والرعاية وهو أمرٌ خاصّ بالمتقين دون غيرهم.

اللهم اجعلنا من عبادك المرحومين برحمتك الخاصّة يا رحمن يا رحيم بحق محمد وآله الطاهرين.

2023/03/19
هل كان النكاح محرماً في ليل شهر رمضان؟
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (سورة البقرة ـ ١٨٧).

[اشترك]

في تفسير القمي عن الصادق عليه ‌السلام قال: كان الاكل والنكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الافطار، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان.

وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الانصاري اخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه اصحابه وبقي في اثنى عشر رجلا فقتل على باب الشعب، وكان اخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، وكان صائما مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطات عليه اهله بالطعام فنام قبل ان يفطر، فلما انتبه قال لاهله، قد حرم على الاكل في هذه الليلة فلما اصبح حضر حفر الخندق فاغمى عليه فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرق له وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، والاكل بعد النوم إلى طلوع الفجر لقوله: حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، قال: هو بياض النهار من سواد الليل.

اقول:

وقوله: يعني إلى قوله: وكان رجل، من كلام الراوي، وهذا المعنى مروي بروايات أخرى، رواها الكليني والعياشي وغيرهما، وفي جميعها ان سبب نزول قوله: وكلوا واشربوا (الخ) إنما هو قصة خوات بن جبير الانصاري وان سبب نزول قوله: أحل لكم (الخ)، ماكان يفعله الشبان من المسلمين.

وفي الدر المنثور عن عدة من اصحاب التفسير والرواية عن البراء بن عازب قال: كان اصحاب النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الانصاري كان صائما فكان يومه ذاك يعمل في ارضه فلما حضر الافطار اتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك، أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث، إلى قوله: من الفجر ففرحوا بها فرحا شديدا.

اقول: وروي بطرق أخر القصة وفي بعضها أبو قبيس بن صرمة وفي بعضها صرمه بن مالك الانصاري على اختلاف ما في القصة.

وفي الدر المنثور أيضا: واخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: ان المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء ـ حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله احل لكم ليلة الصيام، إلى قوله: فالآن باشروهن يعني انكحوهن.

اقول: والروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وفي أكثرها اسم من عمر، وهي متحدة في ان حكم النكاح بالليل كحكم الاكل والشرب وأنها جميعا كانت محللة قبل النوم محرمة بعده، وظاهر ما أوردناه من الرواية الاولى ان النكاح كان محرما في شهر رمضان بالليل والنهار جميعا بخلاف الاكل والشرب فقد كانا محللين في اول الليل قبل النوم محرمين بعده، وسياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الاكل والشرب محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ ان يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله: كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض الخ، وقد قال تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، ولم يأت بقيد يدل على الغاية، وكذا ما اشتمل عليه بعض الروايات: ان الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الاكل والشرب أيضا لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم ( الخ )، قبل قوله: كلوا واشربوا.

وفي الدر المنثور أيضا: ان رسول الله قال: الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، واما المستطيل الذي يأخذ الافق فإنه يحل الصلوة ويحرم الطعام.

اقول:

والروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة والخاصة وكذا الروايات في الاعتكاف وحرمة الجماع فيه.

مقتطف من تفسير الميزان ج ٢
2023/03/18
السماء والأرض والنباتات.. ما حقيقة تسبيح كل الكائنات لله تعالى؟
تذكر الآيات القرآنية المختلفة تسبيح وحمد جميع موجودات عالم الوجود لله تعالى، (...) أنّ جميع الموجودات في العالم، الأرض والسماء، النجوم والفضاء، الأناس والحيوانات وأوراق الشجر، وحتى الذرات الصغيرة، تشترك جميعا في هذا التسبيح والحمد العام.

[اشترك]

يبيّن القرآن الكريم أنّ عالم الوجود قطعة واحدة من التسبيح والحمد، وأنّ كل موجود يؤدي هذا التسبيح ويقوم به بشكل معين ويثني على الباري عزوجل، وأنّ أزيز هذا التسبيح والحمد يملأ عالم الوجود المترامي الأطراف، ولكن الجهلاء لا يستطيعون سماع هذا الأزيز، بعكس المستبصرين المتأملين والعلماء الذين أضاء الله قلوبهم وأرواحهم بنور الإيمان، فإنّ هؤلاء يسمعون هذا الصوت من جميع الجهات بشكل جيّد.

هناك كلام كثير بين العلماء والمفسّرين والفلاسفة حول تفسير حقيقة هذا الحمد والتسبيح، فبعضهم اعتبر الحمد والتسبيح (حالا) والبعض الآخر (قولا)، أمّا خلاصة أقوالهم فهي:

١ ـ البعض يعتقد أنّ جميع ذرات الوجود في هذا العالم لها نوع من الإدراك والشعور، سواء كانت هذه الموجودات عاقلة أو غير عاقلة. وهي تقوم بالتسبيح والحمد في نطاق عالمها الخاص، بالرغم من أنّنا لا نستطيع إدراك ذلك أو الإحساس بهذا الحمد والتسبيح وسماعه. آيات كثيرة تؤكّد هذا المعنى منها الآية رقم (٧٤) من سورة البقرة واصفة الحجارة أو نوع منها: (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). ثمّ قوله تعالى في الآية (١١) من سورة فصّلت: (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

٢ ـ الكثير يعتقد أنّ هذا التسبيح والحمد هو على شاكلة ما نسميه بـ «لسان الحال» وهو حقيقي غير مجازي إلّا أنّه بلسان الحال وليس بالقول. (تأمّل ذلك).

ولتوضيح ذلك تقول: قد يحدث أن نشاهد آثار عدم الارتياح والألم، وعدم النوم في وجه أو عيني شخص ما ونقول له: بالرغم من أنّك لم تتحدث عن شيء من هذا القبيل، إلّا أن عينيك تقولان بأنّك لم تنم الليلة الماضية، ووجهك يؤكّد بأنّك غير مرتاح ومتألم! وقد يكون لسان الحال من الوضوح بدرجة بحيث أنّه يغطي على لسان القول لو حاول التستر عليها قولا.

وهذا هو المعنى الذي صرّح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بقوله : «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه».

من جانب آخر هل يمكن التصديق بأنّ لوحة فنية جميلة للغاية تدل على ذوق ومهارة رسامها، لا تمدحه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين أشعار أساطين الشعر والأدب وتمجيدها لقرائحهم واذواقهم الرفيعة؟ أو يمكن انكار أن بناء عظيما أو مصنعا كبيرا أو عقولا الكترونية معقدة أو أمثالها، أنّها تمدح صانعها ومبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟

لذا يجب التصديق والتسليم بأنّ عالم الوجود العجيب ذا الأسرار المتعدّدة والعظمة الكبيرة، والجزئيات العديدة المحيّرة، يقوم بتسبيح وحمد الخالق عزوجل، وإلّا فهل «التسبيح» سوى التنزيه عن جميع العيوب؟ فنظام عالم الوجود ناطق بأنّ خالقه ليس فيه أي نقص أو عيب:

ثمّ هل «الحمد» سوى بيان الصفات الكمالية؟ فنظام الخلق والوجود كلّه يتحدث عن الصفات الكمالية للخالق وعلمه وقدرته اللامتناهية وحكمته الوسيعة.

خاصّة وأنّ تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار وخفايا هذا العالم الواسع، توضح هذا الحمد والتسبيح العام بصورة أجلى.

فاليوم مثلا ألّف علماء النبات المؤلفات العديدة عن أوراق الأشجار، وخلايا هذه الأوراق، والطبقات السبع الداخلة في تكوينها، والجهاز التنفسي لها، وطريقة التغذية وسائر الأمور الأخرى التي تتصل بهذا العالم.

لذلك، فإنّ كل ورقة توحد الله ليلا ونهارا، وينتشر صوت تسبيحها في البساتين والغابات، وفوق الجبال وفي الوديان، إلّا أنّ الجهلاء لا يفقهون ذلك، ويعتبرونها جامدة لا تنطق.

إنّ هذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه تماما، وليست هناك حاجة لأن نعتقد بوجود إدراك وشعور لكل ذرات الوجود، لأنّه لا يوجد دليل قاطع على ذلك، والآيات السابقة يحتمل أن يكون مقصودها التسبيح والحمد بلسان الحال.

الجواب على سؤال

يبقى سؤال واحد، وهو إذا كان الغرض من الحمد والتسبيح هو تعبير نظام الكون عن نزاهة وعظمة وقدرة الخالق عزوجل، وتبيان الصفات السلبية والثبوتية، فلما ذا يقول القرآن: (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأنّه إذا كان البعض لا يفقه، فإنّ العلماء يفقهون ويعلمون؟

هناك جوابان على هذا السؤال هما:

الأوّل: إنّ الآية توجّه خطابها إلى الأكثرية الجاهلة من عموم الناس، خصوصا إلى المشركين، حيث أنّ العلماء المؤمنين قلّة وهم مستثنون من هذا التعميم، وفقا لقاعدة ما من عام إلّا وفيه استثناء.

الثّاني: هو أنّ ما نعلمه من أسرار وخفايا العالم في مقابل ما لا نعلمه كالقطرة في قبال البحر، وكالذرة في قبال الجبل العظيم. وإذا فكرنا بشكل صحيح فلا نستطيع أن نسمّي الذي نعرفه بأنّه (علم).

إنّنا في الواقع لا نستطيع أن نسمع تسبيح وحمد هذه الموجودات الكونية مهما أوتينا من العلم، لأنّ ما نسمعه هو كلمة واحدة فقط من هذا الكتاب العظيم!

وعلى هذا الأساس تستطيع الآية أن تخاطب العالم بأجمعه وتقول لهم : إنّكم لا تفقهون تسبيح وحمد الموجودات بلسان حالها، أمّا الشيء الذي تفقهوه فهو لا يساوي شيئا بالنسبة إلى ما تجهلون.

٣ ـ بعض المفسّرين يحتمل أنّ الحمد والتسبيح هو تركيب من لسان : «الحال» و «القول». وبعبارة أخرى : يعتقدون بأنّه تسبيح تكويني وتشريعي، لأنّ أكثر البشر وكل الملائكة يحمدون الله عن إدراك وشعور ؛ وكل ذرات الوجود نتحدّث عن عظمة الخالق بلسان حالها. وبالرغم من أنّ هذين النوعين من الحمد والتسبيح مختلفين، إلّا أنّهما يشتركان في المفهوم الواسع لكلمتي الحمد والتسبيح.

ولكن التّفسير الثّاني ـ حسب الظاهر ـ أكثر قبولا للنفس من التّفسيرين الآخرين.

جانب من روايات العترة الطاهرة

هناك تعابير لطيفة في هذا المجال وردت في أحاديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل البيتعليهم‌السلام، منها:

* أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : سألت الإمام عن تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فقال عليه‌السلام : «كل شيء يسبّح بحمده وإنّا لنرى أن ينقض الجدار وهو تسبيحها».

* وعن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام قال : «نهى رسول الله أن توسم البهائم في وجوهها، وأن تضرب وجوهها لأنّها تسبّح بحمد ربّها».

* وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «ما من طير يصاد في بر ولا بحر، ولا شيء يصاد من الوحش إلّا بتضييعه التسبيح».

* أمّا الإمام الباقر عليه‌السلام، فعند ما سمع يوما صوت عصفور، فقال لأبي حمزة الثمالي ـ وكان من خاصّة أصحابه ـ : «يسبحن ربّهنّ عزوجل ويسألن قوت يومهن».

* وفي حديث آخر نقرأ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى إلى عائشة، وقال لها : «اغسلي هذين الثوبين» فقالت : يا رسول الله، لقد غسلتهما أمس، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا علمت أنّ الثوب يسبّح فإذا اتسخ انقطع عن تسبيحه».

* في حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله عليه‌السلام : «للدابة على صاحبها ستة حقوق : لا يحملها فوق طاقتها، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، ويبدأ بعلفها إذا نزل، ولا يسمها في وجهها، ولا يضربها فإنّها تسبح، ويعرض عليها الماء إذا مرّ بها».

إنّ هذه المجموعة من الأحاديث والرّوايات والتي لبعضها معاني دقيقة، تظهر أنّ التسبيح العام للموجودات يشمل كل شيء بدون استثناء، وكل هذا يتطابق مع ما ذكرناه في التّفسير الثّاني (أي إن التسبيح هو تسبيح تكويني أو تسبيح بلسان الحال).

أمّا ما قرأناه في هذه الأحاديث من أنّ اللباس إذا توسخ ينقطع تسبيحه، فهو كناية عن أنّ المخلوقات إذا كانت محافظة على نظافتها الطبيعية فسوف تذكّر الإنسان بخالقه، أمّا إذا فقدت نظافتها الطبيعية فسوف لا تقوم بالتذكير.

مقتطف من تفسير الأمثل ج ٩
2023/03/13
العالم في رجل: لماذا وصف الله النبي إبراهيم بأنه كان ’أمة’؟
(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً). ذكر المفسّرون أسبابا كثيرة للتعبير عن إبراهيم عليه‌ السلام بأنّه «أمّة» وأهمها أربع:

[اشترك]

الأوّل: كان لإبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أمّة بذاته، وشعاع شخصية الإنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أمّة بكاملها.

الثّاني: كان إبراهيم عليه ‌السلام قائدا وقدوة حسنة ومعلما كبيرا للإنسانية، ولذلك أطلق عليه (أُمَّةً) لأنّ «أمّة» اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.

وثمّة ارتباط معنوي خاص بين المعنيين الأوّل والثاني، حيث أنّ الذي يكون بمرتبة إمام صدق واستقامة لأمّة ما، يكون شريكا لهم في أعمالهم وكأنّه نفس تلك الأمّة.

الثّالث: كان إبراهيم عليه‌السلام موحدا في محيط خال من أيّ موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه «أمّة» في قبال أمّة المشركين (الذين حوله).

الرّابع: كان إبراهيم عليه‌السلام منبعا لوجود أمّة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة «أمّة».

ولا مانع من أن تحمل هذه الكلمة القصيرة الموجزة كل ما ذكر ما معان كبيرة.

نعم فقد كان إبراهيم أمّة وكان إماما عظيما، وكان رجلا صانع أمّة، وكان مناديا بالتوحيد وسط بيئة اجتماعية خالية من أيّ موحد.

وقال الشاعر :

ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد.

*مقتطف من تفسير الأمثل ج ٨
2023/02/26
أصل النسل البشري: هل تزوج أولاد آدم أخواتهم؟!
قال سبحانه: (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

[اشترك]

هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن يكون الموجود ثالث أي دخالة في ذلك.

وبعبارة أخرى أنّ النسل البشري الموجود إنّما ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى.

وهذا يستلزم أن يكون أبناء آدم (أخوة وأخوات) قد تزاوجوا فيما بينهم، لأنه إذا تمّ تكثير النسل البشري عن طريق تزوجهم بغيرهم لم يصدق ولم يصح قوله: «منهما».

وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعددة أيضا، ولا داعي للتعجب والاستغراب إذ طبقا للاستدلال الذي جاء في طائفة من الأحاديث المنقولة عن أهل البيت عليهم ‌السلام إنّ هذا النوع من الزواج كان مباحا حيث لم يرد بعد حكم بحرمة «تزوج الأخ بأخته».

ومن البديهي أن حرمة شيء تتوقف على تحريم الله سبحانه له، فما الذي يمنع من أن توجب الضرورات الملحة والمصالح المعينة أن يبيح شيئا في زمان، ويحرمه بعد ذلك في زمن آخر.

غير أنّه قد صرّح في أحاديث أخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم، وتحمل بشدّة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب.

ولو كان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن لوجب أن نختار الطائفة الأولى، لأنّها توافق ظاهر الآية الحاضرة كما عرفت قبل هذا.

ثمّ أنّ هاهنا احتمالا آخر يقول: إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر الذين سبقوا آدم ونسله، لأن آدم ـ حسب بعض الروايات ـ لم يكن أوّل إنسان سكن الأرض.

وقد كشفت الدراسات والتحقيقات العلمية اليوم أن النوع الإنساني كان يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم، في حين لم يمر على تاريخ ظهور «آدم» في الأرض زمن طويل، فلا بدّ إذن من القبول النظرية التي تقول: بأنّه كان يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا، فما المانع من أن يكون «أبناء آدم» قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي كان في أواخر انقراضه؟

ولكن هذا الاحتمال هو أيضا لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة (وهذا البحث يحتاج إلى توسع أكثر لا يسعه هذا المجال).

آراء أخرى

يقول آية السيد منير الخباز إن القضية لازالت إلى يومنا هذا محل نقاش ويسرد جملة من آراء العلماء ومنهم صاحب تفسير الميزان (التفسير الأشهر)، وينقل عنه قوله: وفي الاحتجاج عن السجاد عليه السلام في حديث له مع قرشي يصف زواج هابيل لوزة وزواج قابيل بإقليما فقال له القرشي فأولدهما، قال القرشي هذا فعل المجوس، فقال: إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله... 

ويرى العلامة الطباطبائي أن ما ورد في الحديث هو الموافق لظاهر القرآن الكريم.

تفصيل أكثر في الفيديو أدناه:

*مقتطف من تفسير الأمثل ج٣
2023/02/21
كيف خلق الله السماء والأرض في أيام معدودة؟!
يذكر الله تعالى في كتابه الكريم السماء والأرض في آيات عديدة، ونجد أنَّه تعالى قد خلق الأرض في يومين ثم خلق السماء في يومين!

[اشترك]

فكيف يقارن تعالى السماء الهائلة والتي تحوي مليارات بل بلايين البلايين من النجوم ويخلقها الله في يومين والأرض التي لا تعني شيء في هذا الكون بل هي أقل من الذرة بالنسبة لهذا الكون العظيم تُخلق في يومين كذلك؟!

إن الآيتن المشار إليهما في السؤال هما قوله تعالى ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(1)، وقوله تعالى ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا  ..﴾(2).

ولعلَّ منشأ الاشكال المذكور هو توهُّم أنَّ المراد من اليوم في الآيتين المباركتين هو اليوم المعهود عند الإنسان والذي ينشأ عن دوران الأرض حول نفسها دورة كاملة.

إلا أنَّ هذا المعنى غير مرادٍ قطعاً من لفظ اليوم في الآيتين المذكورتين، إذْ المفترض أنَّ الحديث عن خلق الأرض والسماء التي تسبح فيها الشمس، وحينئذٍ كيف يتحقق دوران الأرض حول نفسها بإزاء الشمس فيتعاقب الليل والنهار فيُصبح عندنا يوم معهود والحال أن الأرض لم تُخلق بعدُ ولا السماء وما هي مشتملة عليه.

اليوم هو الطور والمرحلة:

فالمراد إذن من اليوم هو المرحلة، فقوله تعالى ﴿خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾(3)، بمعنى أنَّه تعالى خلق الأرض على مرحلتين وخلق السماوات على مرحلتين.

 واستعمال لفظ اليوم في المرحلة شائع في كلام العرب فيقال مثلاً يوم صفين رغم أن حرب صفين امتدَّت لأكثر من سنة، ويقال يومٌ لك ويومٌ عليك، بمعنى أنَّ حقبةً من الزمن تكون لك وحقبة أخرى تكون عليك، وقد استعمل القرآن لفظ اليوم في غير اليوم المعهود في آيات عديدة مثل قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾(4) وهو إشارة إلى غزوةحنين التي امتدَّت لأيام عديدة وكذلك قوله تعالى ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾(5).

وإذا اتَّضح أنَّ المراد من اليوم هو الطور والمرحلة نقول إنَّ القرآن لم يتصدَّ لبيان مقدار كلِّ مرحلة من هاتين المرحلتين، فقد تمتدُّ كلُّ واحدة منهما لملايين بل لبلايين السنين، وبذلك ينتفي الإشكال، إذ لو افترضنا أنَّ خلق السماوات يحتاج إلى زمن أطول نظراً لتعاظمها بالنسبة إلى الأرض فإنَّ كلَّ مرحلة من مرحلتي خلقها يمكن أن يكون قد استغرق زمناً أضعاف ما استغرقه مجموع المرحلتين اللتين تمَّ فيهما خلق الأرض، ولا مانع من تساوي الحقير والعظيم من حيث مراحل وأطوار النشوء واختلافهما من حيث ما يقتضيانه من زمن لكلِّ مرحلة من مراحل نشوئهما.

وهذا أمر مشاهد بالوجدان، فالمبنى المكوَّن من طابقين قد يكون كبيرًا ويكون ثمة مبنىً آخر مكوَّن من طابقين صغيراً إلا أنَّ مراحل إنشائهما واحدة، غايته أنَّ كلَّ مرحلة من مراحل إنشاء المبنى الكبير تحتاج إلى زمن أطول مما تحتاجه كل مرحلة من مراحل إنشاء المبنى الصغير بل أن مرحلة واحدة من مراحل إنشاء المبنى الكبير قد تستغرق مجموع الزمن الذي يحتاجه إنشاء المبنى الصغير بتمام مراحله.

 *من كتاب شؤون قرآنية الهوامش: 1- سورة فصلت/ 9. 2- سورة فصلت/ 12. 3- سورة فصلت/ 55. 4- سورة التوبة/ 25. 5- سورة المعارج/ 4.
2023/02/14
فيها إبهام وتعقيد: 4 أسباب لتشابه بعض آيات القرآن
إنّ القرآن جاء نورا لهداية عموم الناس، فما سبب احتوائه على آيات متشابهات فيها إبهام وتعقيد بحيث يستغلّها المفسدون لأثارة الفتنة؟

[اشترك]

هذا موضوع مهمّ جدير بالبحث والتدقيق، وعلى العموم يمكن أن تكون النقاط التالية هي السرّ في وجود المتشابهات في القرآن:

أوّلا: إنّ الألفاظ والكلمات التي يستعملها الإنسان لون من الحدود للحوار هي لرفع حاجته اليومية في التفاهم، ولكن ما إن نخرج عن نطاق حياتنا الماديّة وحدودها، كأن نتحدّث عن الخالق الذي لا يحدّه أيّ، نجد بوضوح أنّ ألفاظنا تلك لا تستوعب هذه المعاني، فنضطر إلى استخدام ألفاظ أخرى وإن تكن قاصرة لا تفي بالغرض تماما من مختلف الجهات، وهذا القصور في الألفاظ هو منشأ الكثير من متشابهات القرآن، إنّ آيات مثل (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١) أو (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) أو (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣) التي سوف يأتي تفسيرها في موضعه، تعتبر من هذه النماذج، وهناك أيضا تعبيرات مثل «سميع» و «بصير»، ولكن بالرجوع إلى الآيات المحكمات يمكن تفسيرها بوضوح.

ثانيا: كثير من الحقائق تختصّ بالعالم الآخر، أو بعالم ما وراء الطبيعة ممّا هو بعيد عن أفق تفكيرنا، وإنّنا ـ بحكم وجودنا ضمن حدود سجن الزمان والمكان، غير قادرين على إدراك كنهها العميق، قصور أفق تفكيرنا من جهة، وسمّو تلك المعاني من جهة أخرى، سبب آخر من أسباب التشابه في بعض الآيات، كالتي تتعلّق بيوم القيامة مثلا.

وهذا أشبه بالذي يريد أن يشرح لجنين في بطن أمّه مسائل هذا العالم الذي لم يره بعد، فهو إذا لم يقل شيئا يكون مقصّرا، وإذا قال كان لا بدّ له أن يتحدّث بأسلوب يتناسب مع إدراكه.

ثالثا: من أسرار وجود المتشابهات في القرآن إثارة الحركة في الأفكار والعقول وإيجاد نهضة فكرية بين الناس. وهذا أشبه بالمسائل الفكرية المعقّدة التي يعالجها العلماء لتقوية أفكارهم ولتعميق دقّتهم في المسائل.

رابعا: النقطة الأخرى التي ترد بشأن وجود المتشابهات في القرآن، وتؤيّدها أخبار أهل البيت عليهم‌ السلام، هي أنّ وجود هذه الآيات في القرآن يصعّد حاجة الناس إلى القادة الإلهيّين والنبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم والأوصياء، فتكون سببا يدعو الناس إلى البحث عن هؤلاء واعتراف بقيادتهم عمليا والاستفادة من علومهم الاخرى أيضا. وهذا أشبه ببعض الكتب المدرسية التي أنيط فيها شرح بعض المواضيع إلى المدرّس نفسه، لكي لا تنقطع علاقة التلاميذ بأستاذهم، ولكي يستمرّوا ـ بسبب حاجتهم هذه ـ في التزوّد منه على مختلف الأصعدة.

وهذا أيضا مصداق وصيّة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم حين قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

*مقتطف من تفسير الأمثل 

_____________ (١) الفتح: ١٠. (٢) طه: ٥.  (٣) القيامة: ٣.
2023/02/12
توبة مقبولة: ما هي الكلمات التي تلقاها آدم (ع) فتاب الله عليه؟
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

[اشترك]

تعددت الآراء في تفسير «الكلمات»، التي تلقاها آدم عليه ‌السلام من ربّه.

المعروف أنها الكلمات المذكورة في الآية ٢٣ من سورة الأعراف: (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

وقال آخرون أن المقصود من الكلمات هذا الدعاء: «اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك خير الغافرين».

«اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فارحمني إنّك خير الرّاحمين».

«اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

وهذا ما نقل في رواية عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام(١).

مثل هذه التعابير ذكرها القرآن على لسان يونس وموسى عليهما‌السلام. يونس ناجى ربّه فقال: (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢). وموسى أيضا: (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) (٣).

وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت عليهم السلام أن المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات الله وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ وآدم توسل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها، ولعلّ آدم تلقى من ربّه كل هذه الكلمات، كي يحدث فيه تغيير روحي تام بعد أن يعي حقيقة هذه الكلمات، وليشمله بعد ذلك لطف الله ورحمته.

المصدر: تفسير الأمثل ج1
2023/02/08
كيف عرضت الأمانة على السماوات والأرض وهي غير عاقلة؟!
قالَ السيّدُ المُرتضى - رضيَ اللهُ عنه - في أجوبةِ المسائلِ العكبريّة حيثُ سُئلَ عن تفسيرِ هذهِ الآية:

[اشترك]

إنّه لم يكُن عرضٌ في الحقيقةِ على السماواتِ والأرضِ والجبال بقولٍ صريحٍ أو دليلٍ ينوبُ منابَ القول، وإنّما الكلامُ في هذهِ الآيةِ مجازٌ أريدَ به الإيضاحُ عن عظمِ الأمانةِ وثقلِ التكليفِ بها وشدّتِه على الإنسان، وإنّ السماواتِ والأرضَ والجبالَ لو كانَت ممّا يقبلُ لأبَت حملَ الأمانةِ ولم تؤدِّ معَ ذلكَ حقّها، و نظيرُ ذلك قولهُ تعالى "تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه وتنشقُّ الأرضُ وتخرُّ الجبالُ هدّا" ومعلومٌ أنَّ السماواتِ والأرضَ والجبال جمادٌ لا تعرفُ الكُفرَ منَ الإيمان ولكنَّ المعنى في ذلكَ إعظامُ ما فعلَه المُبطلون، وتفوّهَ به الضالّون، وأقدمَ به المُجرمونَ منَ الكُفر باللهِ تعالى، وأنّه مِن عِظمِه جارٍ مجرى ما يثقلُ باعتمادِه على السماواتِ والأرضِ والجبال، وأنَّ الوزرَ به كذلك، وكانَ الكلامُ في معناه ما جاءَ به التنزيلُ مجازاً واستعارةً كما ذكرناه، ومثلُ ذلكَ قولهُ تعالى "وإنَّ منَ الحجارةِ لمّا يتفجّرُ منهُ الأنهار" ومعلومٌ أنَّ الحجارةَ جمادٌ لا يعلمُ فيخشى أو يرجو ويؤمّل وإنّما المرادُ بذلك تعظيمُ الوزرِ في معصيةِ الله تعالى وما يجبُ أن يكونَ العبدُ عليه مِن خشيةِ الله [تعالى] وقد بيّنَ اللهُ ذلك بقولِه في نظيرِ ما ذكرناه "ولو أنَّ قرآناً سُيّرَت به الجبال" فبيّنَ بهذا المثلِ جلالةَ القرآن وعِظمَ قدرِه وعلوّ شأنِه وأنّه لو كانَ كلامٌ يكونُ به ما عدّه ووصفَه لكانَ بالقرآنِ لعظمِ قدرِه على سائرِ الكلام وقد قيل: إنَّ المعنى في قولِه "إنّا عرَضنا الأمانةَ" عرضَها على أهلِ السماواتِ وأهلِ الأرض وأهلِ الجبال، والعربُ يخبرُ عن أهلِ الموضعِ بذكرِ الموضع ويسمّيهم باسمِه قال اللهُ تعالى "واسأل القريةَ التي كنّا فيها والعيرَ" يريدُ أهلَ القريةِ وأهلَ العيرِ وكانَ العرضُ على أهلِ السماواتِ وأهلِ الأرض وأهلِ الجبال قبلَ خلقِ آدم وخيّروا بينَ التكليفِ لمّا كلفَه آدم وبنوه فأشفَقوا منَ التفريطِ فيه واستعفوا منهُ فاعفوا، فتكلّفَهُ الانسانُ ففرّطَ فيه، وليسَت الآيةُ على ما ذكرَ السائلُ أنّها هيَ الوديعةُ وما في بابِها ولكنّها التكليفُ الذي وصفناه.

2023/02/05
علم الغيب خاص بالله.. كيف أخبرنا الإمام علي (ع) بتفاصيل وأسرار المستقبل؟!
لا مجال للتردد في أنّ الاطلاع على الأسرار الخفية أو الأسرار الماضية والآتية كله خاص بالله.

والآيات المختلفة من القرآن تؤكّد هذه الحقيقة وتؤيدها ايضاً انّه ليس كمثله شيء وهو متفرد بهذه الصفة.

وإذا وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان انّ الأنبياء قد يعلمون بعض الأمور الغيبية، او قرأنا في بعض الآيات أو الرّوايات الكثيرة انّ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم والامام عليّا والائمة المعصومين عليهم‌ السلام قد يخبرون عمّا يجري في المستقبل من حوادث ويبيّنون اسرارا خفيّة منها ، فينبغي ان نعرف ان كل ذلك بتعليم الله سبحانه.

فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من اسرار الغيب، ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود ، بل هو من تعليم الله وهو محدود بمقدار ما يريده الله.
وبهذا البيان تتّضح الاجابة على المنتقدين لعقيدة الشيعة في مجال على الغيب حيث يرون انّ الأنبياء والائمة عليهم‌السلام يعلمون الغيب.

وليس الاطلاع على علم الغيب من قبل الله خاصا بالأنبياء او الائمّة فقد يطلع الله غير النّبي والائمّة على غيبه ايضا، فنحن نقرا في قصّة ام موسى في القرآن انّ الله قال لها : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وقد يطلع الله لضرورة الحياة ـ أحيانا ـ الطيور والحيوانات على الأسرار الخفيّة وحتى على المستقبل البعيد نسبيّا ممّا يصعب علينا تصوّره وبهذا الترتيب قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيبا، هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور او الحيوانات لا تعد من الغيب.

*مقتطف من تفسير الأمثل ج 7
2023/01/30
الإنسان حيوان متطوّر.. ما علاقتنا بآدم وحواء إذاً؟!

كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم وزوجته

ربما قيل: إن اختلاف الألوان في أفراد الإنسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا وأوربا، والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية، والصفرة كلون أهل الصين واليابان، والحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء وعلى هذا فالمبادي الأول لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة.

وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد وأم واحدة، والدليلان ـ كما ترى ـ مدخولان:

أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأن الأبحاث الطبيعية اليوم مبنية على فرضية التطور في الأنواع، ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها، وقد ظفر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء.

وأما مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإن العهد الإنساني على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين، والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة، وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات، وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس، وسهل إلى جبل وبالعكس، وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقة على ما يشرحه علوم طبقات الأرض والهيئة والجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا.

وأما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الإنسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وأنثى هما الأب والأم لجميع الأفراد أما الأب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم، وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة الموجودة، قال تعالى: ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ): « الم السجدة: ٨ » وقال تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ): « آل عمران: ٥٩ » وقال تعالى: ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) الآية: « البقرة: ٣١ » وقال تعالى: ( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) الآيات: « ص: ٧٢ » فإن الآيات ـ كما ترى ـ تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من التأويل.

وربما قيل: إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي كان مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض ومن حيث قيامه بأمر النسل والإيلاد سمي بآدم، وربما استظهر ذلك من قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ): « الأعراف: ١١ » فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير وقد ذكرت الآية أنه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال: ( وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ )، وهكذا قوله تعالى: ( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) « إلى أن قال: ( قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) « إلى أن قال: ( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ): « ص: ٨٣ » حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا.

ويرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى ـ بعد سرد قصة آدم وسجدة الملائكة وإباء إبليس في سورة الأعراف: ( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ): « الأعراف: ٢٧ » فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.

وكذا قوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً ): « إسراء: ٦٢ »، وكذا الآية المبحوث عنها: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) الآية، بالتقريب الذي مر بيانه.

فالآيات ـ كما ترى ـ تأبى أن يسمى الإنسان آدم باعتبار وابن آدم باعتبار آخر، وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في مثل قوله تعالى: « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » الآية، وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية. فالقول بآدم النوعي في حد التفريط، والإفراط الذي يقابله قول بعضهم: إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنة.

كلام في أن الإنسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر

الآيات السابقة تكفي مئونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالإنسانية تنتهي إليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما وإنما حدثا حدوثا.

والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أن الإنسان الأول فرد تكامل إنسانا وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام واعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية وهي « أن الإنسان حيوان تحول إنسانا » مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان.

فإنهم فرضوا أن الأرض ـ وهي أحد الكواكب السيارة ـ قطعة من الشمسمشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة، وكانت تنزل عليها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان على الترتيب هذا كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور.

وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص والآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متباينة من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور على حالات هذه الأنواع دون ذواتها وهي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وأعراضها.

واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع، وإنما المقصود الإشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء علمي.

*مقتطف من تفسير الميزان
2023/01/11
هل قيمة الإنسان بما يملك من مال.. ماذا عن يُتم وفقر نبينا؟!

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)).

قصور فخمة سقفها من فضة؟ (قيم كاذبة)

تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإسلام» ، وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم ، فتقول الآية الأولى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ)[1].

ولجعلنا لهم بيوتا لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ)[2].

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد أن السلالم مصنوعة من الفضة ، وعدم تكرار كلمة الفضة لوضوح المراد. وكأنّهم لم يعتبروا وجود السّلالم لوحدها دليلا على أهمية البيوت ، والأمر ليس كذلك ، إذ أن وجود السلالم الكثيرة دليل على عظمة البناء وتكونه من عدّة طوابق.

«اسقف» جمع سقف، ويعتقد البعض أنها جمع سقيفة ، أي المكان المسقف ، إلّا أنّ القول الأوّل أشهر.

ثمّ تضيف الآية الأخرى : (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ).

وربّما كانت هذه الجملة إشارة إلى الأبواب والأسرّة الفضية، لأنّ الآية السابقة لما تحدثت عن السّقف الفضية امتنع التكرار. ويمكن أيضا أن يكون وجود الأبواب والأسرّة المتعددة ـ خاصّة وأن (أبوابا) و (سررا) نكرة ، وقد وردت هنا لبيان الأهمية ـ دليلا بنفسه على عظمة تلك القصور، لأنّهم يجعلون لبيت حقير عدّة أبواب أبدا ، بل هي مختصة بالقصور والبيوت الفخمة ، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الأسرّة.

ولم تكتف الآية بهذا ، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وأنواع الزينة (وَزُخْرُفاً)[3] لتكمل الحياة المادية وزخارفها وزبارجها من كل الجهات ، القصور الفخمة المتعددة الطبقات الأبواب والأسرّة المتعددة ، وكل وسائل الزينة والنقوش والرسوم وسائر الجواذب التي يتحقّق فيها مراد عبيد الدنيا وأمانيهم.

ثمّ تضيف الآية : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) «الزخرف» في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير ، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة ، فقد قيل له : زخرف ، وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه : كلام مزخرف ، لأنهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولا.

وخلاصة القول: إنّ هذه الأسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية، حقيرة لا قيمة لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلّا من نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق ، ولو لم يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل الله تعالى هذه الأمور من نصيب هذه الفئة فقط ، ليعلم الجميع أن هذه الأمور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.

الإسلام يحطم القيم الخاطئة

حقّا لا يمكن العثور على تعبير أبلغ مما ورد في الآيات أعلاه لتحطيم المقاييس والقيم الكاذبة والقضاء عليها ، وتغيير بناء ذلك المجتمع الذي يدور محور تقييم شخصية الأفراد فيه حول مقدار ما يملكون من الإبل ، ومقدار الدراهم والدنانير ، وعدد الغلمان والجواري والبيوت وأدوات الزينة، حتى أنّهم يتعجبون لماذا اختير محمّد صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم للنبوة وهو اليتيم الفقير ماديا؟!

إن أهم عمل لرسالة السماء هو تحطيم أطر القيم الخاطئة هذه، وبناء القيم الإنسانية الأصيلة كالتقوى ، والعلم ، الإيثار والتضحية ، الشهامة والحلم على أنقاضها ، وإلّا فإنّ كل الإصلاحات ستكون فوقية وسطحية وغير ثابتة.

وهذا هو الذي قام به الإسلام والقرآن والرّسول الأعظم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم على أحسن وجه ، ولهذا فإنّ المجتمع الذي كان أكثر المجتمعات البشرية تخلفا وخرافة ، قد تسلق سلّم الرشد والرقي حتى أصبح في المرتبة الأولى في مدّة قصيرة.

والطريف أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم ، في تكملة هذا البحث  : «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء»[4].

ويبلغ أمير المؤمنين علي عليه السلام الكلام في هذا الباب غايته حيث يقول : «ولقد دخل موسى بن عمران وأخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه ، فقال : ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب ، إعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف ولبسه ، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء».

ويقول في موضع آخر من هذه الخطبة: «ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق الأرض مدرا ، وأضيق بطون الأودية قطرا ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف ، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ...».

«ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار ، وسهل وقرار ، جم الأشجار ، داني الثمار ، ملتف البنا ، متصل القرى ، بين برة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء»[5].

وعند ذلك كان الناس سينشغلون بالقيم الظاهرية الخداعة، ويغفلون عن القيم الإلهيّة الواقعية.

على أية حال ، فإنّ أساس الثورة الإسلامية هو تغيير القيم ، وإذا ما أصبح مسلمو اليوم يعانون من ظروف صعبة خانقة ، وتحت ضغط الأعداء الجلادين القساة ، فإنّ ذلك ناتج عن تركهم لقيمهم الأصيلة ، وانتشار القيم والأعراف الجاهلية بينهم مرّة أخرى ، فأصبح المال والمنصب الدنيوي مقياس التقييم ، ونسوا العلم والفضيلة والتقوى ، وغرقوا في بحر المغريات والزخارف المادية ، وأضحوا غرباء عن الإسلام ، وما دام الوضع كذلك فيجب أن يدفعوا كفارة هذا الذنب العظيم ، وما داموا لم يشرعوا بالتغيير ابتداء من القيم الحاكمة على وجودهم ، فسوف لن تشملهم رحمة الله ولطفه ، وذلك : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)[6].

جواب عن سؤال

بمطالعة الآيات المذكورة حول التحقير الشديد للزينة الظاهرية، والثروة والمقام المادي ، يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو : إذا كان الحق كذلك ، فلما ذا يقول القرآن في موضع آخر: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).[7]

أو يقول في موضع آخر : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[8] ، فكيف تتوافق هاتان الفئتان مع الآيات؟

ينبغي الالتفات في الجواب إلى أن الهدف في الآيات ـ مورد البحث ـ هو القضاء على القيم الكاذبة الخاطئة ، الهدف هو أن لا يعد الناس شخصية الإنسان متقومة بثروته وزينته ، ولا يغني هذا أنّ الإمكانيات المادية شيء سيّء ، بل المهم أن تكون مجرّد أدوات ومظاهر للنظر ، وليس كهدف سام وغاية تبلغ.

ثمّ إنّ هذه الإمكانيات تكون ذات قيمة عند ما تكون في حد المعقول واللائق بالحال، وخالية من كلّ أنواع الإسراف والتبذير، لا أن تبنى القصور من الذهب والفضة، وتدّخر الثروات الطائلة منهما.

ومن هنا يتّضح أن وجود جماعة من الكفّار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلا على رفعة شخصيتهم ، ولا أن حرمان المؤمنين منها ، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة ، يضر بإيمانهم وتقواهم ، وهذا هو التفكير الإسلامي والقرآني الصحيح.

*مقتطف من تفسير الأمثل ج 16 الهوامش:
[1] «لبيوتهم» بدل اشتمال بـ (لمن يكفر بالرحمن) وتكرار (اللام) لهذا المعنى ، أو بمعنى (على) أي : على بيوتهم ، لكن الاحتمال الأول أصح. [2] «المعارج» جمع معراج ، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا. [3] اعتبر البعض (زخرفا) عطفا على (سقفا) ، ويعتقدون أنها إشارة إلى وسائل الزينة المستقلة التي توضع تحت تصرف أمثال هؤلاء الأفراد. والبعض اعتبرها عطفا على (من فضة) وكانت في الأصل (من زخرف) ثم نصبت بنزع الخافض ، وعلى هذا يصبح معنى الجملة : إنا جعلنا بعض سقوف وأسرة بيوت هؤلاء من ذهب وبعضها من فضة. [4] تفسير الكشّاف ، المجلد ٤ ، صفحة ٢٥٠. [5] نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢. الخطبة القاصعة. [6] الرعد ، الآية ١١. [7] الأعراف ، الآية ٣٢. [8] الأعراف ، الآية ٣١.
2023/01/10
سعادتك همّ لغيرك: هل تنحصر السعادة في المادة؟.. القرآن الكريم يجيب!

القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكاً وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) طه ـ ١٢٤ ، ويعد الأموال والأولاد عذاباً وإن كنا نعدها نعمة هنيئة. قال تعالى : (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة ـ ٨٥.

وحقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى : (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) البقرة ـ ٣٥ ، أن سرور الإنسان وغمه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة ، هذا أولاً. وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الامور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة، وكذا للحيوان منهما شيء وللإنسان منهما شيء وهكذا ، وهذا ثانياً. والإنسان المادي الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى ، ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهي السعادة المعنوية ، فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة. وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذة على ما صورته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالالوف من الألم ، فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة ، فكان أيضاًً حسرة فلا يزال فيما وجده متألماً به معرضا عنه طالباً لما هو خير منه لعله يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلباً بين الآلام والحسرات. فهذا حاله فيما وجده، وذاك حاله فيما فقده.

وأما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادى متحول متغير ، وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال ، فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة ، جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله ، وموجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضاً من سعادته ونعمت السعادة وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضاًً من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهراً.

وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له والقرآن يسمى سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به ، قال تعالى : (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) آل عمران ـ ١٩٦ ، ١٩٧.

وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعده القرآن عذاباً كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف ، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم ، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر ـ ٦ ، ١٤.

والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والإدراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء ، ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة ، والإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة، وهو كذلك ، فإنه يلقن على أهله : أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله ، ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلا به ، ولا يقصد شيء إلا له.

وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة : بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه ، وما كان فيه سعادة روحه محضاً ، وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذاباً ونكالا ، وأما الإنسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيراً ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه ، وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه ، قال تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) المعارج ـ ٤٢ ، وقال تعالى : (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق ـ ٢٢ ، وقال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) النجم ـ ٣٠ ، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم.

ومن هنا يظهر: أن الإدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصة القرآن غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعاً من نوع واحد هو الإنسان، وبين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيين.

*مقتطف من الميزان في تفسير القرآن - ج ٣
2023/01/09
كيف يتكاثر إبليس؟!
تشير بعض الروايات إلى قدرة إبليس على التكاثر، وان الله سبحانه وتعالى أعطى هذا الأمر له.

ففي تفسير العياشي 1/276 قال: عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله قال : كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى وأول من حدى قال : لما اكل آدم من الشجرة تغنى فلما أهبط حدى به، فلما استقر علي الأرض ناح فاذكره ما في الجنة فقال آدم : رب هذا الذي جعلت بيني وبينه العداوة لم أقو عليه وانا في الجنة، وان لم تعينني عليه لم أقو عليه، فقال الله : السيئة بالسيئة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة قال : رب زدني قال : لا يولد لك ولد إلا جعلت معه ملكين يحفظانه قال : رب زدني قال : التوبة معروضة في الجسد ما دام فيها الروح قال : رب زدني قال : اغفر الذنوب ولا أبالي قال : حسبي، قال فقال إبليس رب هذا الذي كرمت علي وفضلته وان لم تفضل على لم أقو عليه، قال : لا يولد له ولد الا ولد لك ولدان قال : رب زدني قال : تجرى منه مجرى الدم في العروق، قال رب زدني قال تتخذ أنت وذريتك في صدورهم مساكن قال : رب زدني قال : تعدهم وتمنيهم (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيطَانُ إِلَّا غُرُورًا).

وقد أشار العلامة المجلسي في كتابه البحار (ج60/ص306) إلى هذا الموضوع قائلاً: المشهور أن جميع الجن من ذرية إبليس، وبذلك يستدل على أنه ليس من الملائكة، لأن الملائكة لا يتناسلون لأنهم ليس فيهم إناث، وقيل: الجن جنس وإبليس واحد منهم، ولا شك أن لهم ذرية بنص القرآن ومن كفر من الجن يقال له: شيطان. وفي الحديث: لما أراد الله تعالى أن يخلق لإبليس نسلا وزوجة ألقى عليه الغضب فطارت منه شظية من نار فخلق منه امرأته.

ونقل ابن خلكان في تاريخه في ترجمة الشعبي أنه قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل جمال ومعه دن فوضعه ثم جاءني فقال: أنت الشعبي؟ قلت: نعم، قال: أخبرني هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك العرس ما شهدته، قال: ثم ذكرت قوله تعالى:

" أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " فقلت: إنه لا يكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم، فأخذ دنه وانطلق، قال: فرأيته يختبرني.

وروي أن الله تعالى قال لإبليس: لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس أحد من ولد آدم إلا وله شيطان قد قرن به.

وقيل: إن الشياطين فيهم الذكور والإناث يتوالدون من ذلك، وأما إبليس فان الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا فهو ينكح هذه بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات.

وذكر مجاهد أن من ذرية إبليس لاقيس وولها وهو صاحب الطهارة والصلاة، والهفاف وهو صاحب الصحارى، ومرة به يكنى، وزلنبور وهو صاحب الأسواق ويزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلعة. وبثر وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأبيض وهو الذي يوسوس للأنبياء، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى دخل معه ووسوس له فألقى الشر بينه وبين أهله، فان أكل ولم يذكر اسم الله تعالى أكل معه، فإذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله ورأي شيئا يكره فليقل: " داسم داسم أعوذ بالله منه " ومطرش وهو صاحب الاخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ولا يكن لها أصل ولا حقيقة. والأقبض وأمهم طرطبة، وقال النقاش: بل هي حاضنتهم، ويقال: إنه باض ثلاثين بيضة: عشرا في المشرق، وعشرا في المغرب، وعشرا في وسط الأرض، وإنه خرج من كل بيضة جنس من الشياطين كالعفاريت والغيلان والقطاربة والجان و أسماء مختلفة، كلهم عدو لبني آدم لقوله تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو " إلا من آمن منهم، وكنية إبليس أبو مرة. هذا ما لدينا باختصار عن موضوع تكاثر إبليس والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

2023/01/04
كيف نرد على من يشكك في القرآن؟!
هناك فرق بين الشك العلمي الذي يرتكز على مبررات موضوعية ومنهجية، وبين الشك النفسي القائم على الهوى والظنون.

[اشترك]

 فالغرض من الشك المنهجي هو التأكد علمياً من صحة قضية ما.

 بينما الشك النفسي ليس له غرض علمي غير العبث بالحقائق التي تسالم عليها العقلاء.

 فالبحث العلمي لا يعد بحثاً علمياً إذا لم يكن مشتملاً على أحد صورتين:

 الأولى: الكشف عن شيء لم يكن معروفاً، من خلال معطيات تقود الباحث إلى ذلك الكشف.

 والثاني: التأكد من صحة الحقائق المتسالم عليها، أما بتفنيد أدلتها أو بتدعيمها بأدلة جديدة.

 وعليه فإن الشك المنهجي يقوم على افتراض أولي وهو عدم التسليم بمسألة ما، ومن ثم البحث فيها من جديد، فإما أن يتأكد من صحتها فيزاد يقينه، وإما أن يفندها ويضع بديلاً عنها مسألة جديدة، وهكذا يقوم الباحث بحشد الشواهد والأدلة بتجرد كامل وبدون ميول نفسية أو مؤثرات غير علمية، وفي النتيجة يستخلص الباحث رؤيته العلمية حول المسألة المبحوثة.

 فالشك المنهجي يقوم أساسا على إيجاد اليقين وليس محاربة اليقين.

 وكون الشك المنهجي مقبول كمنهجية علمية لا يعني فتح الباب واسعاً للشك في الأمور الواضحة واليقينية؛ لأن ذلك يعد نوعاً من العبث غير المبرر، فالشك بالمعنى المنهجي لا يحدث إلا بعد توفر قرائن واحتمالات عقلائية تستدعي التحقق من جديد في المسألة.

 ومن هنا لا يمكن الرد على عنوان عام يفترض وجود من يشكك في القرآن دون أن نقف على مبررات ذلك الشك، فالسؤال الذي يسبق هذا السؤال هو؛ ما هي المبررات الموضوعية والشواهد التي ارتكز عليها في تشكيكاته؟ ومن دون ذلك لا يمكن التصدي لكل من أراد أن يشكك في القرآن، فليس المهم أن نمنع تشكيك المشككين وإنما المهم أن نمنع المبررات العلمية التي تقود إلى التشكيك.

فالشك النفسي أو الشك من أجل الشك حالة مرضية تجعل البعض في حيرة دائمة وتردد مستمر، قال تعالى: (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) وقد يعود مثل هذا الشك إلى اضطرابات نفسية بسبب التربية أو المحيط الفاسد أو إلى وساوس شيطانية أو إلى غير ذلك.

وفي المحصلة فإن الإسلام طالب الجميع بتحقيق اليقين وبخاصة في الأمور الاعتقادية، وعليه: باب البحث والتحقيق مفتوح أمام المكلفين، ولا يعني هذا فتح الطريق أمام عبث المشككين الذين ينطلقون من مبررات غير علمية، وإنما يجب الالتزام بالضوابط العلمية والمنهجية بشكل صارم حتى لا يكون أمر الدين فوضى بيد العابثين.

وقد واجه علماء الإسلام كل التشكيكات التي يتذرع بها بعض المنكرين للقرآن الكريم وقاموا بتفنيدها حتى لم يبقى مبرر موضوعي يتشبث به من يحترم عقله وتفكيره.

 فبالنسبة للقرآن يدور الأمر بين أن يكون نازلاً من عند الله أو أن يكون من صنع الإنسان.

 وعليه ينحصر البحث في إمكانية مجاراة الإنسان للقرآن وقدرته على الإتيان بمثله، وقد استخدم القرآن نفس هذه الطريقة عندما تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، فكان التحدي هو الذي يقطع الريبة ويزيل الشكوك، فبعجزهم عن ذلك تتم النسبة ويتحقق المطلوب، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). وقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). وقال (قل لَئِن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون) وغيرها من الآيات التي تثبت وقوع التحدي كما أثبت التاريخ والواقع عجز الإنسان عن معارضة القرآن والاتيان بمثله وسوف يستمر عجز البشر إلى قيام الساعة.

2023/01/01
هل يفكر «إبليس» بالتوبة؟!
اسم الشيطان فهو إبليس وهو من الجن وليس من الملائكة.

[اشترك]

قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). (الكهف:51).

وتسمية إبليس بالشيطان، إما مأخوذة من الشطن وهو البعد لأنه ابعد وطرد من رحمة الله تعالى حينما أمره الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام.

قال تعالى: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)). (الحجر:35).

أو من شاط يشيط أي احترق غضبا. مفردات ألفاظ القرآن ـبتصرف- (1/ 539).

هل طلب إبليس التوبة من الله تعالى؟

إبليس لم يفكر بالتوبة قط بل هو مصر على معصيته إلى يوم القيامة.

والقران الكريم قد صرح بآيات كثيرة أن الشيطان مصر على معصيته إلى يوم القيامة.

قال تعالى: (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ). (الاعراف:15 -17).

وقال تعالى: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). (الحجر: 35-39).

قال تعالى: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا). (الاسراء:63-64).

2022/12/31
3 أقسام لـ «الأحلام» التي نراها في النوم.. تعرّف عليها
١ ـ الاعتناء بشأنها. كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى والمنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي، وعند كل قوم قوانين وموازين متفرقة متنوعة يزنون بها المنامات ويعبرونها بها ويكشفون رموزها، ويحلون بها مشكلات إشاراتها فيتوقعون بذلك خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا بزعمهم.

[اشترك]

وقد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه عليه السلام قال: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ـ إلى أن قال ـ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) : الصافات : ١٠٥.

ومنها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف عليه السلام: «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ»: يوسف : ٤.

ومنها رؤيا صاحبي يوسف في السجن: «قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » : يوسف : ٣٦.

ومنها رؤيا الملك: «وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ»: يوسف: ٤٣.

ومنها رؤيا أم موسى قال تعالى : « إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ » : طه : ٣٩ على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا.

ومنها ما ذكر من رؤي رسول الله صلى‌الله‌عليه ‌وآله قال تعالى : « إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ » : الأنفال : ٤٣ ، وقال : « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ » : الفتح : ٢٧ وقال : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ » : الإسراء : ٦٠.

وقد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام تصدق ذلك وتؤيده.

لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة ولا للبحث عن شأنها وارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها ، واحتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية إنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق والصدفة ، وهي منامات كثيرة جدا مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك ، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم.

٢ ـ وللرؤيا حقيقة. ما منا واحد إلا وقد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى والمنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل ، ولا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق وانتفاء أي رابطة بينها وبين ما ينطبق عليها من التأويل. وخاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.

نعم مما لا سبيل أيضا إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي وللخيال فيها عمل ، والمتخيلة من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس والسمع ، وربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور والمعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإنسان التامة إلى رأس ويد ورجل وغير ذلك وتركب البسائط كتركيبها إنسانا مما اختزن عندها من أجزائه وأعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج وربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أو له عشرة رءوس.

وبالجملة للأسباب والعوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر والبرد ونحوها والداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض والعاهات وانحرافات المزاج وامتلاء المعدة والتعب وغيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.

فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء والجمد ونزول الثلوج ، وأن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام وبركان الماء ونزول الأمطار ونحو ذلك ، وأن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل.

وكذلك الأخلاق والسجايا الإنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنسانا أو عملا لا ينفك بتخيله في يقظته ويراه في نومته والضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجئ بصوت يتخيل إثره أمور هائلة لا إلى غاية ، وكذلك البغض والعداوة والعجب والكبر والطمع ونظائرها كل منها يجر الإنسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه وتلائمه ، وقل ما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.

ولذلك كان أغلب الرؤى والمنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شيء من الأسباب الخارجية والداخلية الطبيعية والخلقية ونحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلا كيفية عمل تلك الأسباب وأثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.

وهذا هو الذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان.

ومن المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة وهو غير المدعى وهو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة ورؤيا صادقة تكشف عن حقائق ولا سبيل إلى إنكارها ونفي الرابطة بينها وبين الحوادث الخارجية والأمور المستكشفة كما تقدم.

فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام وهي المسماة بالرؤى لها أصول وأسباب تستدعي وجودها للنفس وظهورها للخيال وهي على اختلافها تحكي وتمثل بأصولها وأسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل وتعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم، وتأويل بعضها السبب الخلقي وبعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم وهو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له.

وإنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات ، وهي الرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية ، أو مزاجية أو اتفاقية ولا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك ، ولها ارتباط بالحوادث الخارجية. والحقائق الكونية.

٣ ـ المنامات الحقة. المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية وخاصة المستقبلية منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى. ولا معنى للارتباط الوجودي بين موجود ومعدوم ، أو أمرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شيء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا ومن الفضة كذا في وعاء صفته كذا وكذا ثم مضى إليه وحفر كما دل عليه فوجده كما رأى ، ولا معنى للارتباط الإدراكي بين النفس وبين ما هو غائب عنها لم ينله شيء من الحواس.

ولذا قيل: إن الارتباط إنما استقر بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة ومن طريق سببها بنفسها.

 

توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة : عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه والأشياء الموجودة فيها صور مادية تجري على نظام الحركة والسكون والتغير والتبدل.

وثانيها : عالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجودا ، وفيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعة وإليها تعود ، وله مقام العلية ونسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.

وثالثها : عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجودا وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير مادة طبيعية ولا صورة ، وله نسبة السببية لما في عالم المثال.

والنفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال وعالم العقل فإذا نام الإنسان وتعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية ورجعت إلى عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد والإمكان.

فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها واستحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية والنورية ، وإلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور والأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة ، ونحكي مفهوم العظمة بالجبل ، ومفهوم الرفعة والعلو بالسماء وما فيها من الأجرام السماوية ونحكي الكائد المكار بالثعلب والحسود بالذئب والشجاع بالأسد إلى غير ذلك.

وإن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها والارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها وأسبابها من غير أن تتصرف فيها بشيء من التغيير ، ويتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلقة بالصدق والصفاء ، وهذه هي المنامات الصريحة.

 

وربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء والتلبس ، والفخار بالتاج والعلم بالنور والجهل بالظلمة وخمود الذكر بالموت ، وربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى وانتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد ومن تصور الحياة إلى تصور الموت وهكذا ، ومن أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلا رأى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الناس وفروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال : إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.

وقد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساما أوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مئونة ، ومنامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده ، وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولي للنفس كرد التاج إلى الفخار ، ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.

ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كان تنتقل مثلا من الشيء إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود ، وهذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.

وقد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: وهي المنامات الصريحة ولاتعبير لها لعدم الحاجة إليه ، وأضغاث الأحلام ولا تعبير فيها لتعذره أو تعسره والمنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهي التي تقبل التعبير.

هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا واستقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.

٤ ـ وفي القرآن ما يؤيد ذلك ـ : قال تعالى : « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ » : الأنعام : ٦٠ ، وقال : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى » : الزمر : ٤٢ وظاهره أن النفوس متوفاة ومأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهي الموت.

وقد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم عليه السلام ورؤيا أم موسى وبعض رؤي النبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ، ومن القسم الثاني ما في قوله تعالى : « قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ » الآية : يوسف : ٤٤ ومن القسم الثالث رؤيا يوسف ومناما صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.

2022/12/27