قرآنيات

الحروف المقطّعة في القرآن.. ماذا تعني؟!

تتصدر تسع وعشرون سورة من سور القرآن بحروفٍ مفردةٍ أو مركبةٍ من حروف الهجاء، عند قراءتها الآن لا تعطينا معنىً محدد، ولا دلالة لفظية مباشرة لها  بشكل مستقل، وقد اصطلح عليها بالمقطعات ، وفواتح السور، والحروف النورانية، و تسميتها الأشهر : هي (الحروف المُقَطّعَة)، وهي أربعة عشر حرفاً ، وتسميتها حروفاً لا يعني أنّها حرفٌ واحد، فبعضها بالفعل حرفٌ هجائي واحد مثل: (ص، ق، ن) لكن بعضها الآخر من حرفين مثل: (طه، طس، يس، حم) و قسم ثالث من ثلاثة حروف، مثل: (الم، الر، طسم)، وهكذا منها من أربعة حروف، مثل: (المص، المر) ومنها المؤلف من خمسة حروف هجائية، مثل: (كهيعص، حم عسق)، وسبب تسميتها بالمقطعة هو؛  تقطيعها عند القراءة ؛ إذ تقرأ  : ألف لام ميم ، أو ألف لام راء، وهكذا، وسبب الكتابة عنها : كثرة القيل والقال فيها واثارة الاشكال عليها، حتى استسخف نفسه أحدهم فكتب لغواً: في غياب تفسير مقنع لهذه الأحرف يجب ادراجها ضمن ما يسمى "اللغو"!

المذاهب في تفسيرها ومعناها

إنّ موضوعاً كالحروف المقطعة بلغ من التشعب والسعة مبلغاً أن تكتب فيه الكتب، وتؤلف فيه البحوث، وتجرى عليه الدراسات اللغوية والتفسيرية (ككتاب: الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية للدكتور محمد أحمد أبو فراخ ، وغيره)، وأن تختلف الأقوال فيه الأقوال لتبلغ العشرة أو تزيد ، كما سردها صاحب تفسير مجمع البيان في أول استعمال لها ، بل ضاعف بعضهم عدد الآراء ليقول: (الْأَقْوَالِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ قَوْلًا.(أضواء البيان-2/166) ، أقول: إنّ موضوعاً كهذا لا يمكن الإلمام بتفاصيله في مقالة همها أن تبين أرجح الآراء فيه، وأقربها للصواب، والغريب حقاً ، أنّ هذا الاختلاف الفاحش بين مفسري القرآن تقابله حقيقة تاريخية هي: أنّ أحداً من العرب آنذاك لم يستغرب استعمالها أو ينكر معناها، أو يعيب على النبي (ص) قراءتها، وهم المتربصون به؛ بحثاً عما يبرر عدم إيمانهم برسالته والكتاب الذي أنزل عليه!، ويزداد الأمر غرابة أنهم لم يستعملوا بل لم يعهدوا مثل هذا الاستعمال !، إذن هذا أحد أسباب عدم عرض الأقوال كلها ومناقشتها، والسبب الآخر هو أنّ هذه الآراء في معظمها مجرّد استحسانات وتخمينات لا مستند لها، وقد رأى بعضهم وراج قوله هذا بين الناس: "من الأسرار الغريبة في هذه المقطعات أنها تصير بعد التركيب وحذف المكررات (...صراط علي حق نمسكه)." (تفسير الصافي،ج1/ص92)، بيد أنّه لا يختلف عن سائر الاجتهادات الشخصية والاستحسانات الظنيّة، فلم يخبرنا: لماذا لا يُصبّ هذا التركيب في جملة أخرى غير تلك، مثل: (وصح طريقك مع السنة) أو (نصٌ حكيمٌ قطعاً له سر) أو غيرهما؟!، وأياً يكن فنحن هنا نناقش رأيين منافيين لما سنرجحه لاحقاً، الأول منهما يرى "أنّها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها ولا يعلم تأويلها إلا هو هذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام (المجمع، ج1،ص75)، وصاحب الميزان وإنْ لم يقبل تصحيح هذا الرأي؛ لأن الحروف المقطعة لا دلالة لفظية لها، و "الإحكام والتشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها" (الميزان،ج18،ص8)، فهو يرى انتفاء موضوع المحكم والمتشابه فيها، ويغدو الحديث عن تشابهها من السالبة بانتفاء الموضوع كما يقال في المنطق، إلا أنّه جنح لرأي ليس ببعيد  كثيراً عمّا أبطله؛ فقد كتب: أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله (ص) خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا. (المصدر السابق).

الرأي الراجح ، ومعطياته

إنّ الرأي الذي تميل إليه المقالة مولَّفٌ من رأيين من العشرة التي عرضها الطبرسي، ونرى فيهما علاقة تكامل لا تضاد؛ إذ ينص الثامن على المراد منها: (حروف المعجم)، فيما العاشر يوضح الغرض من ايرادها: (تبكيت العرب والزامهم الحجة)، وحينئذٍ يكون معنى المقطعة في أوائل السور هي أحرف المعجم و الهجاء، والغرض من استعمالها القرآني في مطلع السور إقامة الحجة على وحيانية النص القرآني، وتتمثل تلك الحجة في أنّ مادة القرآن ومادة كلام العرب واحدة، وهي هذه الحروف، من ثمّ فالتحدي القرآني لهم، وعجز الخصم عن مجاراته والإتيان بمثله؛ برهانٌ جلي على كونه نصّاً معجزاً ووحياً من الله تعالى، وإلا لماذا عجز جميع العرب عن مجراته، ومادته متاحة لذلك الجميع في أشعارهم ورسائلهم وخطبهم؟!، ولعلّ أبرز سؤالين يواجههما هذا الرأي: لماذا اكتفى بأربعة عشر حرفاً من حروف المعجم، و لم يستعمل جميع حروف الهجاء؟ والسؤال الآخر: لماذا لم تذكر جميع الحروف المقطعة متفرقة على السور ألم يكن الأجدر أن تسرد في أول القرآن؟، وجواباً عن الأول، يفيد الطبرسي في تقرير الرأي الثامن: "استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفا كما يستغني بذكر : قفا نبك ... عن ذكر باقي القصيدة، وكما يقال: أب، في (أبجد) وفي(أ ب ت ث) ولم يذكروا باقي الحروف، قال الراجز:

لما رأيت أنها في حطي، أخذت منها بقرون شمط

وإنما أراد الخبر عن المرأة بأنّها في (أبجد)، فأقام قوله: حطي، مقامه؛ لدلالة الكلام عليه "(المجمع: ج1،ص76)، وجواباً عن الآخر ينصّ الزمخشري : أنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلّف منها لا غير، وتجديدُه في غير موضع واحد، أوصلُ إلى الغرض، وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن، فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. (الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل،ج1،ص30) .

ونحن إذ لا نجزم بهذا الرأي، غير أنّ شواهده وقرائنه متضافرة متكاثرة، وهي على كثرتها على قسمين:

الأول: داخلية، مستفادة من تتبع نفس سياق الاستعمال القرآني لها، وخلاصة هذه القرينة: اقتران الأحرف المقطعة بالحديث عن الاعجاز، وفي الأغلب تمثّل بالقرآن الكريم، بوصفه النص الوحياني المعجز للنبي محمد (ص)، وقد جاء ذلك بالفاظٍ مختلفة: الكتاب – القرآن - الآيات، وبعضها جمعت بين لفظين، كما أنّ بعض تلكم السور ابدأت وفي أول آية لها بـ(القرآن)، وختمتْ به، أدناه شاهد لكل هذه الأنحاء:

1ـ لفظ (الكتاب)، ففي أول استعمال لها في المصحف وبعد (ألم) تلاها مباشرة قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : 2]، وذات الاستعمال في سورة آل عمران، وحسب التتبع وجدتُ أكثر المقطعات قد استعمل بعدها هذا التعبير (الكتاب)، معرّفاً أو منكراً، باضافة أو بغيرها.

2ـ لفظ (القرآن)، كما في سورة طه؛إذ بعد الآية الأولى منها:(طه)، أُتبعت في الثانية بقوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه : 2]، وعين الأمر مع سورة يس.

3ـ آيات الكتاب أو القرآن، كقوله تعالى: في مطلع سورة يونس: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، وقد جمعتْ سورة النمل النحوين: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) [النمل: 1].

4ـ وسورة (ق) هي التي ورد فيها لفظ القرآن في مطلعها وآخرها، ففي آيتها الأولى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق: 1]، وفي آخر آية : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45].

الثاني : خارجية، أي هي قرينة مؤيدة للمعنى للتفسير المتقدم للحروف المقطعة، و ليس هذا المؤيّد من داخل النص القرآني بل من خارجه، ويتمثل في خبرين مهمّين، ضمن الأخبار التي وضعها الصدوق في كتابه: معاني الأخبار، تحت باب : معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، وقد أورد فيه ستة أحاديث، جاءتْ في سياق بيان المعنى التأويلي والباطني للحروف المقطعة ـ ما خلا الحديث الرابع ـ وليس في ذلك قدحٌ أو تقليل من أحاديث التأويل وبيان المعنى الباطن للآية، كما ليس في إبراز أحد البطون واستجلاء بعض اسرار الكتاب  ما يتعارض مع الظاهر سيّما الذي قررناه آنفاً بخصوص الأحرف المقطعة؛ فإنّ للقرآن تأويلاً وله ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعـة أبطن، غاية الأمر: لا يمسّ باطنه من البشر إلا المطهّرون، ولا يعلم تأويله إلا الراسخون، من ثمّ تركنا تلكم الأحاديث لخروجها عمّا نحن فيه، وهو دراسة الحروف المقطّعة حسب ظاهر التنزيل، الأمر الذي جاء فيه حديثان عن أهل البيت، الأول هو رابع أحاديث الباب المذكور آنفاً، وهو حديث طويلٌ مرويٌّ عن الإمام العسكري عن آبائه (ع)، لكن نقتبس منه ما يؤدي الغرض ويتقرّر به الاستشهاد :

كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا : سحر مبين تقوّله، فقال الله : الم ذلِكَ الْكِتابُ، أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة، التي منها: ألف لام ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن إنّهم لا يقدرون عليه بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء : 88]...إلخ الحديث. (الصدوق-معاني الأخبار،ص24 )،وفي باب آخر، ورواية أخرى، رواها الصدوق أيضاً ،عن الإمام الرضا (عليه السلام) جاء في آخرها ما يدل على المطلوب بشكل واضح : " إن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب ثم قال (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). ( الصدوق – معاني الأخبار، ص43، باب معاني حروف المعجم، ح1).

ختاماً: من هاتين الروايتين، ومن السياق القرآني في الاستعمال، تبيّن أنّ الحروف المقطّعة غير مقطوعة الصلة، لا عن العترة ولا عن الآيات والجمل القرآنية اللاحقة لها، وبوصلها بالكتاب والعترة يتضح معناها وينكشف مغزاها .

2019/07/29
مصير البشرية: القرآن يحدثنا عن ٥ أمور ستحدث للعالم

لقد أولى القرآن هذه المسألة اهتماماً خاصاً وأشار إليها في آيات كثيرة ووضح وبصورة تامة مستقبل البشرية وما يؤول إليه مصير العالم، فإذا ما جمعنا تلك الآيات ودرسناها دراسة شاملة وبإمعان وتأمّل فستتّضح لنا حينئذ النظرية القرآنية في هذا المجال، ولذلك سوف نستعرض هذه الآيات التي تحدّثت عن هذه المسألة في موارد مختلفة والتي يبلغ عددها عشر آيات مباركات، نذكرها تحت العناوين التي أشارت إليها.

1. وراثة الصالحين للأرض

إنّ الرؤية المستقبلية للإنسان واهتمامه بمصيره وبمستقبله يحثّانه على التعرّف على عاقبته ومصيره وما آلت إليه الأقوام والشعوب السابقة، لأنّه ومنذ  بزغ فجر التاريخ الإنساني اقترن بالنزاع والخصام بين الحقّ والباطل، وانّ النصر يكون حليف الحق تارة وأُخرى حليف الباطل، أي انّ الحرب كانت بينهما سجالاً وحسب التعبير القرآني:

( ...وتِلكََ الأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاس... ) .( [1])

فبالرغم من أنّ التاريخ البشري منذ ولادة الإنسان وإلى الآن يعيش حالة الصراع والسجال  وتبادل النصر والهزيمة، ولكن القرآن الكريم يقطع بأنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت بأنّ العاقبة ومستقبل البشرية سيكون من نصيب الصالحين والمؤمنين الذين سيرثون الأرض وما عليها، وانّهم سيقيمون حكومة العدل والحقّ الإلهي وسيكون زمام الأُمور بأيديهم لا بيد الباطل وأهله، وانّ العالم بأسره سينضوي تحت راية الحق والعدل ولا تقوم للباطل بعد ذلك قائمة، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة:

( وَلََقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُور مِنْ بَعْدِ الذِّكْر أَنَّ الأَرْض يَرِثُها عِبادي الصّالِحُون ) .( [2])

وفي آية أُخرى يقول:

( وَعََدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... ) .( [3])

إنّ الاستخلاف المذكور في الآية ـ سواء قلنا: إنّهم خلفاء اللّه سبحانه، أو قلنا: إنّهم خلفاء لمن سبقهم من الناس ـ يعني القيام بتدبير الأُمور وإقامة العدل  الإلهي والقسط في المجتمع، وإعمار الأرض وإصلاحها. وفي آية ثالثة هناك إشارة إلى أنّ العاقبة للمتّقين ( ...وَالعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) .( [4])

2. استقرار رسالة اللّه في الأرض وإشاعة الأمن

لقد وعد القرآن الكريم بأنّ الإسلام سيعمّ المعمورة بأسرها وأنّ النصر النهائي حليف المسلمين، ولكنّ هذا الوعد الإلهي ـ الذي لابدّ أن يقع يوماً ما ـ لم يتحقّق حتّى هذه اللحظة، ولكن الروايات الشريفة تؤكد انّ هذا الوعد الإلهي القطعي سيتحقّق في ظروف خاصة وفي دورة تاريخية أُخرى، وهي التي يمسك فيها زمام الأُمور كلّها آخر وصي من أوصياء الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الا وهو الحجة بن الحسن الإمام المهدي(عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف)، وحينئذ سيملأ الأرض ـ شرقاً وغرباً ـ قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. يقول تعالى مشيراً إلى هذا الوعد الإلهي الحقّ:

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولهُ بِالهُدى وَدِين الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون ) .( [5])

وفي آية أُخرى إشارة إلى نفس هذا المضمون ولكن بعبارة أُخرى حيث عبّرت الآية عن تلك الحقيقة بأنّ نور اللّه سبحانه لن يطفأ أبداً مهما حاولوا ذلك فقال تعالى:

( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّه بِأَفْواهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُون ) .( [6])

3. انتصار الأنبياء

لقد بذل الأنبياء والرسل(عليهم السلام) جهوداً حثيثة ومساعي جبارة وجهاداً عظيماً في طريق نشر رسالتهم الإلهية، ولكن وبسبب الكثير من المحاولات المضادة لم يتمكّنوا من بسط تلك الرسالة على جميع أنحاء المعمورة وفي جميع أرجاء العالم، ومن بين تلك الأسباب المانعة هي أنّهم قد واجهوا في كلّ عصر الكثير من المعاندين والمخالفين الذين تصدّوا لهذه الرسالة الإلهية الحقّة فكانوا مانعاً أساسياً في طريق الأنبياء(عليهم السلام) لتحقيق هدفهم المقدّس.

ولكنّ القرآن  الكريم يؤكد أنّ هذه المواجهة والمعارضة من قبل أصحاب الباطل ما هي إلاّ مواجهة مؤقتة ستؤول إلى الاندثار والانهزام، وأنّ هذا الجدار الذي بناه الطغاة وأصحاب الباطل سينهار حتماً ـ يوماً ما ـ و أنّ رسالة الأنبياء وأولياء اللّه هي التي ستحكم الأرض وتعمّ العالم بأسره.

ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في آيات متعدّدة منها:

( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوم يَقُومُ الأَشهاد ) .( [7])

وفي آية أُخرى أكّد القرآن الكريم أنّ المشيئة الإلهية قد تعلّقت بأنّ النصر سيكون حليف الأنبياء ورسالتهم، حيث قال سبحانه:

( وَلَقَدْسَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلين * انّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورون * وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُون ) .( [8])

وقال سبحانه في آية أُخرى: ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلي... ) .( [9])

4. انتصار الحقّ على الباطل

إنّ  آيات الذكر الحكيم كما أنّها تؤكد على أنّ النظام التكويني هو نظام الخير والصلاح وانّ الخير سيتغلب على الشر قطعاً، وكذلك ترى النظام الاجتماعي المبني على الحقّ والتوحيد والعدل هو النظام المستحكم والذي ستكون له الغلبة والانتصار على النظام الباطل المبني على الشرك والجور والطغيان، وانّ العاقبة الحميدة والنصر النهائي سيكون من نصيب الصالحين والصادقين والمؤمنين حيث قال سبحانه:

( بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِق... ) .( [10])

وفي آية أُخرى نرى  القرآن الكريم يصف الحق والباطل بأجمل وصف وأدق تعبير حيث يشبّه الحق بـ«الماء» و الباطل بـ«الزبد» وانّه خلال حركة الحقّ ومسيرته الطويلة سيمتطي الباطل ظهر الحق ويعتلي على رقبته فترة وجيزة، ولكن سرعان ما تنجلي الغبرة عن زوال الباطل «الزبد» من الوجود و تنتهي وتزول كلّ آثاره من المجتمع ولم يبق في الساحة إلاّ الحقّ الذي هو كماء الحياة يبقى يسري في العروق ليبعث فيها الدفء والحياة والحركة.

يقول سبحانه:

( ...أَمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنْفَعُ الناسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرض... ) .( [11])

5. الإمداد الغيبي لمستقبل البشرية

يؤكّد القرآن الكريم على حقيقة مهمة وهي أنّ مصير البشرية سيؤول إلى انتصار الحقّ حتماً، وذلك لأنّه سيظهر أفراد في المجتمع يضحّون بكلّ وجودهم ويبذلون الغالي والنفيس في نصر الإسلام والحقّ وإذلال الكفر والباطل، ولذلك يحذر اللّه سبحانه البعض من الناس انّهم في حالة انحرافهم عن الطريق القويم والصراط المستقيم وارتدادهم إلى وادي الجهل والانحراف، فإنّ عملهم هذا لن يضر الإسلام والمسلمين شيئاً وانّهم لم ولن يستطيعوا محو الرسالة الإسلامية الحقّة والقضاء عليها أبداً، وانّ التاريخ البشري يشهد أنّه في كلّ عصر تظهر مجموعة من المؤمنين الذين يحبّهم اللّه ويحبّونه، علاقتهم مع المؤمنين مبنيّة على الحب والتواضع والعزة والاحترام وانّهم  أعزّة على الكافرين يدافعون وبكلّ قوّة وثبات من أجل نصر الحقّ وإعلاء كلمته يقول سبحانه:

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوفَ يَأتِي اللّهُ بِقَوم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونهُ أَذِلّة عَلى المُؤْمِنين أَعِزَّة عَلى الكافِرينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَومة لائِم... ) .( [12])

وحينئذ لابدّ من ملاحظة انّ هذه الوعود الإلهية والبشارات السماوية، بحكومة العدل الإلهي وشمول الرسالة للعالم بأسره والتي لم تتحقّق حتّى هذه اللحظة، لنرى متى يتم هذا الوعد وتتحقّق تلك الأُمنية التي طالما حلم بها  الأنبياء والمرسلون والصالحون؟

إنّ الروايات  الإسلامية الصحيحة هي التي تحلّ لنا هذه العقدة وتكشف لنا حقيقة الأمر وتضع اليد على ذلك المجهول الذي طالما انتظرنا تحقّقه، وذلك في عصر ظهور المهدي المنتظر(عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف) .

إنّ الروايات الكثيرة قد تحدّثت وبصورة قطعية عن تطوّر البشرية وتكاملها عقلياً وفكرياً وفي مجال التطور الصناعي والتكنولوجي، كما أنّها قد تحدّثت عن شمول العدل الإلهي لجميع ربوع المعمورة، وانّ رسالة التوحيد هي التي تعم البشرية في نهاية المطاف.


[1] . آل عمران: 140.

[2] . الأنبياء: 105.

[3] . النور: 55.

[4] . طه: 132.

[5] . التوبة:33; والصف: 9.

[6] . الصف: 8.

[7] . غافر: 51.

[8] . الصافات:171ـ 173.

[9] . المجادلة: 21.

[10] . الأنبياء: 18.

[11] . الرعد: 17.

[12] . المائدة: 54.

2019/07/17
من القرآن الكريم.. هذه هي مراحل «خلق الإنسان»

هل الإنسان خلق دفعة واحدة أو أنّ عملية خلق الإنسان مرّت بمراحل؟ وعلى الفرض الثاني ماهي تلك المراحل وكيف تمّت؟

انّ من أُولى البحوث التي تطرح حول الإنسان هي مسألة مراحل خلقه وكيف خلق؟ ومن أيّ شيء خلق؟

ولقد أجاب القرآن الكريم ـ الذي يعتبر أصحّ مصادر الفكر الإسلامي ـ عن تلك الأسئلة وأوضح المسألة بصورة مفصّلة، وانّ المتتبّع لآيات الذكر الحكيم التي تعرّضت للبحث في هذه القضية يدرك جلياً انّ عملية خلق الإنسان قد مرّت بثلاث مراحل، وهي:

المرحلة الأُولى: التراب المتحوّل

1. التراب، 2. الطين، 3. الطين اللازب، 4. صلصال من حمأ مسنون 5. سلالة من طين 6. صلصال كالفخار.

إنّ مجموع هذه الحالات الست المختلفة ترجع في حقيقتها إلى شيء واحد، وإنّ المادة الأساسية في كلّ هذه الحالات هي مادة واحدة، ومن أجل التعرف على متون الآيات التي تتعلّق بهذه الأُمور الستة نكتفي بذكر آية واحدة لكلّ عنوان منها:

1. التراب:

(إنّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُراب ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .([1])

2. الطين:

(الَّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طين) .( [2])

انظر في هذا المجال الآية 2 من سورة الأنعام، والآية 12 من سورة الأعراف، والآية 61 من سورة الإسراء، والآيتين 71و 76 من سورة ص.

3. طين لازب:

(...إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طين لازِب). ( [3])

4. صلصال من حمأ مسنون:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ صَلْصال مِنْ حَمَإ مَسْنُون). ( [4])

وانظر أيضاً الآيتين 28 و33 من نفس السورة.

5. سلالة من طين:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ سُلالَة مِنْ طين). ( [5])

6.  صلصال كالفخار:

(خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصال كَالفَخّارِ). ( [6])

وفي نفس المضمون الآيات 26، 28و 33 من سورة الحجر، انّ هذه الآيات تشير إلى المادة الأُولى التي خلق منها آدم (عليه السلام) وذريته من بني الإنسان، ومن المسلّم انّ هذه الأُمور الستة ترتبط وبصورة مباشرة بالحالات المادّية لخلق الإنسان الأوّل المتمثّل في أبي البشر آدم (عليه السلام) وانّ القرآن الكريم ينسبها ـ وبنحو ما ـ إلى جميع البشر حيث يقول تعالى:

(خَلَقْناكُمْ مِنْ تُراب) أو (خَلَقْناهُمْ مِنْ طين لازِب).

ولا ريب انّ المادة الأُولى لخلق الإنسان قد مرّت بتغيّرات كيفية تمثّلت بالحالات الستة التي أشارت إليها الآيات السابقة ولم يحدث أبداً أي تغيير جوهري أو انقلاب نوعي في تلك المادة.

ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم ليس من كتب العلوم الطبيعية لكي يبحث في هذه الأُمور بصورة مفصّلة، ولكنّه ولأسباب وأهداف تربوية أشار إلى تلك التحوّلات الستة التي وقعت على المادة الأُولى لخلق الإنسان مذكّراً الإنسان بحقيقة مكوّناته لكيلا يغتر من جهة ولكي يرعوي المتكبّر ويعرف أنّه كيف قد تداركته الرحمة الإلهية ونقلته من حضيض التراب إلى أوج السمو والرفعة.

المرحلة الثانية: مرحلة التصوير

اعتبر القرآن الكريم مرحلة تصوير آدم هي المرحلة الثانية من مراحل خلق الإنسان حيث قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوّرناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْليسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدينَ). ([7])

ولكن لابدّ من بيان المراد من التصوير الذي تتحدّث عنه الآية والذي جاء ذكره بعد الخلق لنعرف ما هي حقيقته؟

إنّ توضيح هذا الأمر يتوقّف على بيان المراد والمقصود من الخلق الوارد في الآية، لأنّ لفظ «الخلق» يطلق تارة ويراد منه الإيجاد، وتارة أُخرى يراد منه التقدير، كما تقول العرب: «خلق الخياط الثوب»، وهذا المعنى الثاني وإن كان صحيحاً في محلّه إلاّ أنّه بالنسبة إلى هذه الآية غير صحيح، لأنّ المراد منه هو الإيجاد والخلق، والشاهد على ذلك انّه قد جاء بعد جملة (خَلَقْناكُمْ) جملة  (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ)، ومن المعلوم أنّ التصوير يناسب الخلق من المادة الأُولى ولا يناسب معنى القياس والتقدير العلمي الذي قد يصدق حتّى مع عدم وجود المادة.

وحينئذ لابدّ من معرفة المراد من التصوير ما هو؟

إنّ مفهوم التصوير هو نفس مفهوم التسوية الذي ورد في آية أُخرى حيث قال تعالى: (وَ إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصال مِنْ حمإ مَسْنُون * فَإذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ). ([8])

المرحلة الثالثة: مرحلة نفخ الروح

المرحلة الثالثة من المراحل التي مرّت بها عملية خلق الإنسان هي عملية نفخ الروح أو النفس في البدن، وفي الحقيقة انّ هذه المرحلة هي أهمّ المراحل، لأنّ من خلال هذه المرحلة امتاز الإنسان عن غيره وجعلت له أفضلية على غيره، لأنّ هذه المرحلة جعلت منه موجوداً مركباً من عدّة أبعاد، فمن جهة هو موجود متعقّل مفكّر يمتلك فكراً وعقلاً يوصله إلى مصاف الملائكة، ومن جهة أُخرى جهّز بمجموعة من الغرائز والميول النفسية التي إن لم تخضع للسيطرة والموازنة والرقابة العقلية فانّها تجمح به لتلقيه في قعر الذلّ والسقوط والانحدار.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المرحلة بقوله سبحانه: (فإذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ).

وبهذا المضمون وردت الآية 72 من سورة ص.

والنكتة الجديرة بالذكر هنا والتي تنفع لرفع التوهّم الذي قد يحصل من خلال ظاهر الآية، وهي: إنّ من الثابت قطعاً أنّ اللّه سبحانه ليس بجسم ولا روح لكي ينفخ في الإنسان منها، وإنّما عبّر عنها بهذا الأُسلوب وأضافها إليه لغرض بيان عظمة الروح الإنسانية كما أضاف سبحانه الكعبة المشرّفة إليه، وقال جلّ شأنه: ( ...أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ للطَّائِفينَ... )( [9]) .( [10])


[1] . آل عمران: 59.

[2] . السجدة: 7.

[3] . الصافات: 11.

[4] . الحجر: 26.

[5] . المؤمنون: 12.

[6] . الرحمن: 14.

[7] . الأعراف: 11.

[8] . الحجر:28ـ 29.

[9] . البقرة: 125.

[10] . منشور جاويد:11/18ـ 24 و ج4/199ـ 203.

2019/07/11
القرآن يتحدث عن «النوم».. ما الذي يحدث لأعضاء الجسم؟!

من الامور التي تُعَدُّ حالة عاديةً بحسب ظاهرها، هي حالتا النوم واليقظة اللتان استند اليهما القرآن الكريم على وجه الخصوص.

1 ـ قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَسْمَعُوْنَ)[1]

2 ـ وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِباساً والنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)[2]

3 ـ وقال تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنا اللَّيْلَ لِباساً)[3]

4 ـ وقال تعالى : (إذْ يُغَشِّيْكُمُ النُّعاسُ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنْزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)[4]

جمع الآيات وتفسيرها:

اَنَّ نومكم من آيات الله: في الآية الاولى من البحث يَعُدُّ القرآن الكريمُ نومَ الانسان في الليل والنهار أحدَ البراهين على علمِ وقدرةِ الله تعالى فيقول: (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ). وهو في نهاية الآية يؤكد هذا البرهان (إنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَسْمَعُوْنَ). ومما لا شك فيه انَّ الكائنات الحيّة كافة تحتاجُ الى الراحةِ لتجديد قواها، واكتساب الطاقة اللازمة لاستمرار نشاطاتها الحياتية، الراحةُ التي تلاحقهم تلقائياً، وتجبُرُ حتى الحريصين على التمتع بها. فايُّ عامل افضلُ من النومِ يمكنُ ان نفكر به من اجل تحقيق هذا الهدف حيث يلاحق الانسانَ بشكل اجباريٍّ ويضطره لإيقاف جميع نشاطاته الجسمية، بل حتى بعض من نشاطاته الفكرية الاساسية، وفي النتيجة يغطُّ في راحة عميقة، وخلال هذه الفترة تقوم أجهزة الجسم باعادة البناء والاستعداد للسعي والحركة من جديد.

ومما لا شك فيه ان الانسانَ لولا النوم، فانه يذبُلُ ويتْلَفُ، ويُصيبُهُ العَجَزُ والانكسار بسرعة، لذلك فقد قالوا: إنَّ النومَ المعتدل والاستقرار سرُّ السلامةِ وطولِ العمر وحيوية الشباب.

واللطيفُ اَنَّ الآيةَ التي نبحثها وضعت (النوم)، و (ابْتِغاء فَضْلِ اللهِ) في مقابل بعضهما، وحسب قول بعض المفسرين انَّ الأولَ هو علامة الموت والثاني علامة القيامة.

انَّ تعبير (اِبْتغاءَ فَضْلِ اللهِ) اشارةٌ الى مسألة لطيفة، تهتُم بسعي وجدِّ الانسانِ في حياته، وبفضل الله ايضاً، أي انَّ مزجهما مع بعضهما يُفيدُ الانسان من هبات العالم.

وفي الآية الثانية بعد أن يُصرِّحَ (هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) يشيرُ الى مسألة النوم حيث يقول تعالى (وَالنَّوْمَ سُباتاً). ومن الممكن ان يكون تعبير (هو الذي) اشارة الى الجانب التوحيدي لهذه الامور، فكلٌ منها دليلٌ على الذات المقدسة، أو جانبِ الاَنعامِ كي يعرفَ الانسانُ وليَّ نعمتِهِ، ومن المسلَّم به ان معرفة وليَّ النعمة ستكون مقدمةً لمعرفته ايضاً.

واللطيف اَنّه يقول بعد ذلك: (وَجَعَلَ النَّهارَ نَشُوراً)[5] .أجَلْ.. ففي وضح النهار تنتشر الروحُ ويستيقظ الانسانُ بشكل كامل، اَذ لا يخلو من شَبَه بنشورِ يوم القيامة والحياة ما بعد الموت. وهذا الاحتمالُ ممكن ايضاً، حيث يشير الى انتشار الناس في ميدان الحياة.

توضيحات:

ظاهرة النوم الخفيّة: مع انَّ «النوم» و «الرؤيا» تعتبر بالنسبة لنا أمراً عادياً، إلاّ انَّ العلماء لم يتوصلوا الى عمق هاتين الظاهرتين المهمتين بالرغم مما بذلوه من مساع وجهود. فايُّ فِعْل وانفعالات تطرأُ على الانسان ليتوقف فجأة القسم الاعظم من نشاطاته الجسمية والروحية؟! ويحصلُ هذا التغيير في جميع اجزاء جسمه وروحهِ كذلك، فلا يفهمُ شيئاً ولا يبدي أىَّ حركة ويستلقي جانباً كالميت، ولو غرقت الدنيا بأكملها فهو نائمٌ لا يدري.

ومع كل هذه التوضيحات والآراء والفرضيات التي قيلت في هذا المجال، فقد حافظ النوم على صورته المدهشة! والاكثر عجباً من ذلك مسألةُ (الرؤيا) التي تُعَدُّ من الالغاز العظيمة كروح الانسان.

وطبعاً ان الحديث المفصَّلَ بصدد حقيقة واسرار هاتين الظاهرتين خارجٌ عن موضوع بحثنا، لأنَّ الغايةَ من بحث الآيات المذكورة هي بيان المنافع الكثيرة، والفوائد التي لا تُحصى للنوم من جانب ومن جانب آخر كونه نعمة من نعم الله. فالنوم المعتدل دائماً يعتبر دليلا على سلامةِ روح واعصاب الانسان، لذلك فان اهمُ اسئلةِ الاطباء لمرضى النفس تدور حول كيفية نومهم.

لا تتوقف الاجهزة الاساسية في جسم الانسان كالقلب والرئة اثناء النوم، لكنها تعملُ بهدوء اكثر، ويصبحُ دوران الدَّم في الاعضاء اكثرُ تناسقاً، ويتوقفُ نشاطُ الدَّماغ تقريباً، وتستقر جميعُ العضلات ايضاً، فتؤدي كلُّ هذه الامور الى حصول هذه الاعضاء على فرصة لِتجديد بناء ذاتها. وخلالَ النومِ تُزالُ سمومُ الجسم، وتُعالجُ كثير من الامراض.

لقد اورد «روخلين» في كتابه (الرؤيا في نظر بافلوف) بحثاً تحت عنوان (العلاج بالنوم العميق) قائلا: «بناءً على فرضية «بافلوف» فانَّ النومَ عبارةٌ عن ظاهرةِ توقُف من اجل الصيانة وتجديد القوى، وعليه فيمكن استغلالهُ كعامل للعلاج من الامراض المختلفة، وتؤيدُ التجاربُ اليومية دور النوم في ذلك ايضاً»

ثم يضيف: «انَّ النومَ العميق الطويل مؤثر على تحسُن صحة المريض، لانَّ المرضى ينامون اكثر من المعهود بعد مرض طويل من اجلِ استعادةِ قواهم وسلامتهم».

ويقول: «لقد واجه العلاجُ عن طريق النوم رواجاً واسعاً في الاتحاد السوفيتي، وقد استخدمت هذه الطريقةُ لأولِ مرة لمعالجة (جنون الشباب) «الشيزوفرينيا» الذي يعتبر من الامراض النفسية الشائعة».

ويقول في جانب آخر من حديثه: «تم الحصول على نتيجة مُرضيَة لعلاج المصابين بارتفاع ضغط الدم عن طريق النوم العميق... فالنوم الطويل الذي هو حالة من الراحةِ الكاملة للمخ، يُجدد قدرةَ الجهاز العصبي ويوازن تنظيم نشاط الاعضاء الداخلية، ويترك اثراً ايجابياً مساعداً للوضع العام للانسان ([6]).

أَجَل فالذي خلق الانسان سالماً من اجل السعي والنشاط، وضع جميع وسائل ذلك تحت تصرفهِ، وأحدُها نظام النوم واليقظة، النظام الذي تبرز فيه بكل وضوح براهينُ حكمةِ الباري عز وجل.[7]


*مقتطف من تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل لآية الله ناصر مكارم الشيرازي

[1] الروم الآية: 23.

[2] الفرقان الآية: 47.

[3] النبأ الآية: 9 و 10.

[4] الانفال الآية: 11 .

[5] تأملوا جيداً انَّ «النشور» معنى لمصدر، و «السُبات» معنى لمصدر ايضاً أو اسمٌ مصدريٌ، واطلاقهما على الليل والنهار يفيد المبالغة والتأكيد.

[6] النوم في نظر بافلوف ص 112 ـ 116 (مع الاختصار).

[7] نفحات القران: ج2 ص141

2019/01/08
لماذا رفض إِبليس السجود لآدم؟!
«الشّيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشّياطين. أمّا «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس ـ كما صرح القرآن ـ ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية. قال تعالى: (فَسَجدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ)(1).

باعثه على الامتناع عن السجود كبُر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم، بل ينبغي أن يؤمر آدم بالسجود له...

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإِلهي، وبذلك لم يعصِ فحسب، بل انحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.

وعبارة (كَانَ مِنَ الْكَافِرينَ) تشير إلى أن إبليس كان قبل صدور الأمر الإِلهي إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة الله، وأسرَّ في نفسه الاستكبار والجحود. لعله عزم في قرارة نفسه أن لا يخضع لو صدرت إليه أوامر بالخضوع والسجود. ومن المحتمل أن تكون عبارة (مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) إشارة إلى ذلك. وورد هذا المعنى في حديث عن الإِمام الحسن العسكري(عليه السلام). قال إِبْليسُ: «لَئِنْ أَمْرَنِي اللهُ بِالسُّجُودِ لِهَذَا لَعَصَيْتُهُ إِلى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَالَ اللهُ تَعَالى لِلْمَلاَئِكَةِ: أُسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا فَأَخْرَجَ إِبْلِيسُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحَسَدِ فَأَبِى أَنْ يَسْجُدَ»(2).


مقتطف من تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل – لآية الله ناصر مكارم الشيرازي ----------- 1 ـ الكهف، 50. 2 ـ تفسير الميزان، ج 1، ص 125.
2019/01/05
احذر! قد تُغلق الأبواب!!

تناول القرآن الكريم في مواضع متعددة ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه، فقد جاء في الآية (35) من سورة المؤمن: (كذلك يطبع اللّه على قلب كلّ متكبر جبّار).

وقال في موضع آخر: (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (1).

وجاء في الآية (46) من سورة الحج: (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور).

نعم.. فأسوأ ما للاستمرار في الذنوب من آثار: اسوداد القلب، فقدان نور العلم، موت قدرة التشخيص بين ما هو حق وباطل.

فآثار ما تقترفه الجوارح من ذنوب تصل إلى القلب وتحوله إلى مستنقع آسن، وعندها لا يقوى الإنسان على تشخيص طريق خلاصه، فيهوى في حفر الضلالة التي توصله لأدنى دركات الانحطاط، وتكون النتيجة أن يرمي ذلك الإنسان مفتاح سعادته بنفسه من يده، ولا يجني حينها إلاّ الخيبة والخسران.

وروي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «كثرة الذنوب مفسدة للقلب».(2)

وفي حديث آخر: «إنّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرين الذي ذكر اللّه في القرآن: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (3).

وروي الحديث (بتفاوت يسير) عن الإمام الباقر (عليه السلام) (4).

وعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب، إنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلائه الحديث». (5)

ومن الثابت في علم النفس، أنّ للأعمال الأثر الكبير على نفسية وروحية الإنسان، فنفسية الإنسان تتكيف تدريجياً على ضوء تلك الآثار، وبالنتيجة سينعكس ذلك على فكر وآراء الإنسان.

وينبغي التنويه إلى: أنّ روح الإنسان تتعامل طردياً مع الذنوب، فمع استمرار الذنوب تغوص الروح في أعماق الظلام لحظة بلحظة، حتى تصل إلى درجة يبدأ الإنسان يرى سيئاته حسنات، وربّما يتفاخر بها! وعندها.. ستغلق أمامه أبواب العودة: (إلاّ أن يشاء اللّه)، وهذه الحال من أخطر ما تعرض للإنسان في حياته الدنيوية من حالات. (6)


*مقتطف من تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

1 ـ البقرة، الآية 7.

2 ـ تفسير الدر المنثور: ج6، ص326.

3 ـ المصدر السابق، ص325.

4 ـ نور الثقلين، ج5، ص531، الحديث 22.

5 ـ المصدر السابق، الحديث 23.

6- تفسير الأمثل : ج20 ص29.

2018/12/30
نساؤكم حرث لكم... هل يعتبر القرآن "المرأة" أداة للجنس والإنجاب؟

ذكر كامل النجار في كتابه قرأة منهجيه للإسلام أن مجموعة من المفكرين طرحوا إشكالية حول نظرة القرآن لدور الزوجة قالوا بأن القرآن الكريم يرى أن الزوجة مجرد أداة لإستمتاع الرجل وأنها ماكينه لتفريخ والإنجاب ولا يراها القرآن في موقع الشراكة الحقيقة للرجل في بناء الأسرة وتبادل العلاقات العاطفية وذلك من خلال عدة آيات مثلا قوله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، التعبير بالحرث إهانة للمرآة وجرح لشخصيتها لأن التعبير عنها بالحرث يحصر دورها وكأنها دجاجة تبيض وتفرخ وليس لها دور آخر بإعتبار أن الحرث هو ما كان خزانة للبذور التي تثمر وتنتج وفي آية أخرى قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾، هذه الآية صريحة في أن المرأة أداة لمتعة الرجل فقط ولذلك إذا لم تستجب لشهوة الرجل وغريزته فله أن يضربها حتى يحصل على قضاء وطره وإشباع شهوته وهذا إهدار لكرامة وشخصية المرأة.

وفي آية ثالثة يقول تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ﴾ جعل المرأة في صف الحمامات مما يعني أن المرأة بنظر القرآن علاقتها بالرجل كعلاقتها بالحمام، فكما يقذف الرجل أوساخه من بدنه في الحمام لأنه يقذف مائه في المرأة ويقوم عنها، إذا علاقة المرأة بالرجل بنظر القرآن الكريم مجرد أن المرأة أداة لاستمتاع الرجل وقضاء شهوته أو أنها مكان للتفريخ والإنجاب ولم يجعلها القرآن في موقعها الحضاري المناسب لها وهو موقع الشراكة الحقيقية للرجل في بناء الأسرة وتبادل العلاقات العاطفية.

نحن نسجل على هذه المقالة عدة ملاحظات:

لولا الزواج لانقرض الوجود البشري

الملاحظة الأولى: أن المرأة عنصر ضروري لاستقرار الحياة على الارض، الحياة الزوجية ما هو الهدف منها؟ قد يكون الهدف من الزواج والعلاقة الزوجية هدفاً اعتباريا كأن يتزوج الإنسان من عائلة معروفة بالذكاء حتى يخرج اولاده أذكياء، أو يتزوج الإنسان من امرأة أجنبية عن عائلته حتى يتخلص من أمراض تداخل القبائل والعروق هذا هدفاً اعتباري وليس هدفاً أصيلاً وحقيقياً، الهدف الأساس للعلاقة الزوجية استمرار الحياة على الأرض لو لم يكن هناك زواج لانقرض وتوقف النسل البشري عن وجه الأرض، من أجل استمرار الحياة والوجود البشري والنوع الإنساني على الأرض لابد من علاقة زوجيه فالعلاقة من أهدافها الرئيسية والأساسية استمرار الوجود البشري على الأرض وهذا الهدف ليس هدفاً اعتباريا أو ثانوياً بل هو هدف فرضته الطبيعة البشرية والفطرية للإنسان أن الهدف من الزواج هو استمرار الوجود الانساني على الأرض.. كيف ذلك؟ نذكر ثلاثة أدله:

الزواج هدف فطري

الدليل الأول: لا تجد مجتمعا بشريا من يوم آدم الى هذا اليوم إلا وفيه علاقة زوجة لا يوجد مجتمع بدون زواج ومهما اختلفت الأديان والمذاهب فهو يرى العلاقة الزوجية ولهذا هو هدف فطري انساني اتفقت كل المجتمعات البشرية على العلاقة الزوجية.

المرأة مصدر الوجود الإنساني

الدليل الثاني: لو نظرنا لطبيعة المرأة انظر إلى جهاز جسم المرأة، جهزت المرأة بالرحم والمبيض وثديين، لماذا هذا الجهاز الذي جهزت به المرأة؟ من أجل استمرار الحياة البشرية على الأرض، إذا استمرار الحياة البشرية على الأرض هدف ينسجم مع جهاز وطبيعة المرأة نفسها، إذا القرآن لم يجعل الهدف، هدف الإنجاب والنسل واستمرار البشر هدفٌ فرضته طبيعة المرآة ولم يفرضه القرآن الكريم ولم تفرضه نظرة السماء فولدت المرأة وطبيعتها مهيأة للإنجاب والإيلاد وفطرتها وخلقتها معدة لأن تكون مصدراً للوجود الإنساني على الأرض فهذا ليس هدفا اعتباريا بل هو هدفٌ طبيعي فطري.

لا يمكن الاستغناء عن المرأة

الدليل الثالث: عندما نلاحظ العقل يقرر حتى لو لم يذكر القرآن ولم يذكر أحد ولم تتفق المجتمعات البشرية على العلاقة الزوجية، العقل هو يقرر بنفسه يقول بأن استمرار الحياة على الأرض يتوقف على وجود المرآة إذا فلابد من هذه العلاقة تحقيقا لاستمرار الحياة البشرية على الأرض، هذا فرض فرضه العقل ولم يفرضه القرآن الكريم، بل إذا راجعنا علماء الطب والبيولوجيا ماذا يقولون؟

يقولون يمكن أن يستغنى عن الرجل لكن لا يمكن أن يستغني عن المرأة، يمكن الآن أن تلد المرأة عن طريق استنساخ الخلية ووضعها في رحمها بدون حويمن الرجل إطلاقاً، إذا دور المرأة أصبح ضرورياً لاستمرار الحياة لا يمكن أبدا الاستغناء عن المرأة في استمرار الحياة على الأرض فالمرأة عنصر ضروري بل هي العنصر الأساس في وجود الإنسان على الأرض، من هنا نفهم التعبير بالآية المباركة: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، ليس المراد بهذا التعبير تصوير المرآة كدجاجة تبيض وتفرخ وإنما المقصود بهذا التعبير أنه لا يمكن الاستغناء عن المرأة فإنها هي العنصر الأساس لبقاء الحياة الإنسانية على كوكب الأرض هذا هو المعنى بـ "حَرْثٌ لَّكُمْ" والقرآن بهذا بين أهمية وضرورة وجود المرأة لا أنه احتقرها أو أهان كرامتها.

الزوجة شريكة وليست خادمة

الملاحظة الثانية: تنوع الأهداف القرآنية، نلاحظ بعض الكتاب اقتصر على آية واحده ولم يقرأ مجموع الآيات القرآنية ولو قرأ مجموع الآيات لرأى تنوع الاهداف القرآنية، أن القرآن ينص على شراكة المرأة وأنها شريك حقيقي في بناء الحياة والعلاقة العاطفية عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ وهذا خطاب لجميع المؤمنين رجالا ونساء وجعل بينهم شراكة حقيقية ولم يقل القرآن خدماً لكم فجعل بينهم شراكة في تبادل العواطف والمشاعر قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لُهنَّ﴾، كما أن الرجل زينة للمرأة فالمرأة زينة للرجل قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾، أي أن حقوق

الرجل وحقوق المرأة متساويان فهما شريكان في الحقوق إلا ما استثني للرجل أو استثني للمرأة لبعض الخصوصيات فالقاعدة العامة ترى أنهما شريكان في الحقوق وتبادل العلاقة العاطفية.

ضرب المرأة

الملاحظة الثالثة: إن آية الضرب ذكرت الضرب كأخر وسيلة للردع عن الخطأ ولم تذكر الضرب وليس كوسيلة لتسخير المرأة لإشباع شهوة الرجل، تبين ذلك أن المرأة عندما ترفض اللقاء الجنسي تارة يكون رفضها بدافع عقلاني وتارة يكون بدافع عداوني، إذا كان رفضها للقاء الجنسي بدافع عقلاني أي أنها مريضة أو متعبة أو أنها في حرج هذا ليس نشوزاً فالعلاقة هي امرأة معدة نفسياً وجسدياً لتبادل الرجل في القيام بهذا الدور، لذلك لو لم تكن المرأة معدة لمرض جسديا او نفسيا او حرجا عليها فليس رفضها نشوزاً وينبغي للرجل أن يقدر ويدرك ذلك، إذا كان رفضها لداعي عقلاني فلا تستحق عليه الضرب والهجران أما إذا كان رفضها لداعي عدواني وهو الإعراض إنما رفضت للإعراض عن زوجها، الإعراض يعد خطأ جسيماً لأن إعراض المرأة عن الرجل يخلق جواً من الاحتدام والصدام داخل الأسرة المستقرة لذلك الإعراض عن الرجل خطأ والخطأ لابد من علاجه.

وقد ذكر القرآن خطوات لعلاج هذا الخطأ:

أولاً: النصيحة ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ النصيحة والموعظة فإن لم تجدي هذه الخطوة يصل الأمر الى الخطوة الثانية: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ كوسيلة للردع عن الخطأ فإن لم تجدي هذه الوسيلة تضرب المرأة ولكن ضرب غير مبرح أي ضرباً لا يوجب حتى احمرار البدن، لأنه ليس المقصود هو الضرب في القرآن هو الضرب وإنما المقصود التعبير والردع والتنبيه على الخطأ وذكر الفقهاء أن المقصود بالضرب هنا هو الضرب غير المبرح الذي لا يوجب دية.

إذن القرآن لم يذكر الضرب كوسيلة لتسخير المرأة لإشباع شهوة الرجل وإنما ذكر الضرب آخر أسلوب للردع عن الخطأ وإلا لو لم تكن المرأة معرضة عن الرجل لا تضرب، تضرب كآخر وسيلة للردع عن الخطأ، فكما أنت تعتبر ضربها خطأ فإن إعراضها خطأ أيضا وإعراضها يوجب إثارة أجواء الأسرة، إذن فبالنتيجة من أجل الردع عن الخطأ وكآخر أسلوب تضرب ضربا غير مبرح، ربما تقول امرأة في حال الرجل أعرض ما الحل؟ إعراض المرأة عن الرجل أيضا حرام لأنه يدخل أيضا ضمن الإضرار بالمرأة «ولا ضرر ولا ضرار» على مؤمن.

إذا اعرض الرجل عنها رفعت أمرها الحاكم الشرعي القرآن يقول: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، بأن يتعامل معها كما يحب أن تتعامل معه أن تكون علاقته معها كما تحب أن تكون علاقة به.

الملاحظة الأخيرة: في قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ﴾، ليس النساء هنا لخصوصية في النساء وإنما ذكر النساء في الآية كناية عن اللقاء الجنسي كما أن قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ﴾ هل هناك خصوصية للغائط إنما هو مثال وكناية عن الحدث أو من أحدث سواءً من أحدث بريحٍ أو بولٍ أو غائط فلا خصوصية للغائط كذلك قوله: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ لا خصوصية للنساء وإنما هو كناية عن اللقاء الجنسي بين الرجل والمرأة بعقد وإلا فغيره من اللقاءات فهي محرمه، لكن لو حصل هذا اللقاء المحرم فإنه يوجب الغسل قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ﴾ إذا كلمة أو لامستم النساء مجرد مثال ولا خصوصية للمرأة كي يقال جعلت المرأة في صف الحمامات وهذا إهانة للمرأة فلابد من الانتباه من خصوصيات الآيات القرآنية، إذاً القرآن وضع المرآة في موقع الشراكة مع الرجل قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ ولم يضع المرآة مجرد أداة لاستمتاع الرجل.

يتبع...

2018/04/02
لهذه الأسباب.. شرّع الإسلام الحجاب

1ـ إن الغريزة الجنسية، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقاً، وكانت عبر التأريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة حتى قيل: إن وراء كل حادثة مهمة امرأة.

فتعرّي النساء وما يرافقه من تجميل وتبرّج وما شاكل ذلك يحرّك الرجال ـ خاصة الشباب ـ ويحطّم أعصابهم وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي. وأحياناً يكون ذلك مصدراً للأمراض النفسية، فأعصاب الإنسان محدودة التحمل وهو لا يتمكن من الاستمرار في حالة الهيجان.

وينسب إلى أحد أطباء علم النفس: \أن هذه الحالة سبب للأمراض النفسية\. بينما يريد الإسلام للرجال المسلمين والنساء المسلمات نفساً مطمئنة وأعصاباً سليمة ونظراً وسمعاً طاهرين.

2-تبين إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكك الأسرة في العالم بسبب زيادة التعري، لأن الناس أتباع الهوى غالباً وهكذا يتحول حب الرجل من امرأة إلى أخرى كل يوم بل كل ساعة.

فسوق التعرّي والحرية الجنسية يعتبر المرأة سلعة تباع وتشترى أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال، عندها يفقد عقد الزواج حرمته وتنهار أسس الأسرة بسرعة؛ كانهيار بيت العنكبوت. ويتحمل الأبناء أعباء هذه المصيبة بعد أن يفقدوا أولياءهم ويفقدوا حنان الأسرة.

أما في البيئة التي يسودها الحجاب (والتعاليم الإسلامية الأخرى) فالعلاقة وثيقة بين الزوج وزوجته ومشاعرهما وحبهما مشترك.

3- إن لقضية ابتذال المرأة وسقوط شخصيتها في المجتمع الغربي دلالة واضحة لا تحتاج إلى أرقام، فعندما يرغب المجتمع في تعري المرأة ليتبعه اعتياد التجميل الفاضح والانحدار السلوكي وسقوط شخصية المرأة في مجتمع يركز على جاذبيتها الجنسية، ليجعلها وسيلة إعلامية يروج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح.

وهذا السقوط يفقدها كل قيمتها الإنسانية، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنه المصدر الوحيد لفخرها ومكانتها، فلا يبقى لها من إنسانيتها سوى أنها أداة لإشباع شهوات الآخرين الوحوش الكاسرة في صور البشر.

ومن المؤسف كيف تلعب المرأة دوراً سلبياً باسم الفن، وتشتهر وتكسب المال الوفير وتنحط إلى حد الابتذال في المجتمع ليرحب بها مسيّرو هذا المجتمع المنحط خلقياً في المهرجانات والحفلات الساهرة وغيرها من مظاهر الفساد والانحراف.

4- انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعيين، يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب وكما نرى ولا حاجة إلى إحصائية بهذا الصدد. فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي وواضحة بدرجة لا تحتاج إلى بيان.

حتى أن علماء الغرب حذروا المسؤولين من مغبة هذا الوضع بسبب الخطر الذي أوجده هؤلاء الأبناء لأمن المجتمع فقد وجدوا أنهم يمثلون القسم الأعظم من ملفات القضايا الخاصة بالجرائم. ومن هنا ندرك أهمية هذه القضية، وأنها كارثة حتى للذين لا يؤمنون بدين ولا يهتمون بأخلاق.

5- كثرة الأمراض الجنسية التي تعصف بالمجتمع الإنساني نتيجة الممارسات المحرمة. وهذا ما يكلّف الدول والمجتمعات كثيراً من المال والجهد ونحوها. وهذا عامل اقتصادي، حيث تذهب كثير من الطاقات والأموال لعلاج الأمراض الجنسية، وبالتالي يتعرض النوع الإنساني للتشوّهات الخلقية.

*مقتطف من كتاب \التبرّج والسفور وانعكاسهما على الفرد والمجتمع\ صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة

 

2017/12/02
من صور الحجاب.. عدم الخضوع بالقول

قال تعالى:  {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى...} ([1]).

(فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) أي لا ترققن القول وتلِنَ الكلام أي لا تجعلن كلامكنّ ليناً رقيقاً.

بل تكلَّمْنَ عند تحدثكنّ بجد وبأسلوب عاديّ لا كالنساء المتميعات الشخصية.

ومن المؤسف إن بعض النساء غير المتدينات يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحركة للشهوة والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات لكي يدفعن الرجال إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

 {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}  للقول المعروف معنى واسع يتضمن مصاديق عديدة، إضافة إلى أنه ينفي كل قول باطل لا فائدة فيه، ولا هدف من ورائه وكذلك ينفي المعصية وكل ما خالف الحق، ثم يصدر أمراً في باب رعاية العفة والحجاب.

فيقول تعالى:  {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}  أي: الزمن بيوتكن.

(قَرْنَ): من مادة الوقار، أي الثقل، وهو كناية عن التزام البيوت، واحتمل البعض أن تكون من مادة القرار، وهي لا تختلف عن المعنى الأول كثيراً.

والتبرج يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادة برج يبدو ويظهر لأنظار الجميع، والمعنى لا تظهرن زينتكن للأجانب ولا تخرجن على عادة نساء الجاهلية.

والحكم الوارد في الآية المباركة عام والتركيز على نساء النبي (صلى الله عليه وآله) من باب التأكيد الأشد، كما تقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب فلا يعني هذا أنَّ الكذب مجاز ومباح للآخرين، بل المراد أن العالم ينبغي أن يتقي هذا العمل بصورة آكد وأشد.

*مقتطف من كتاب "التبرّج والسفور وانعكاسهما على الفرد والمجتمع" صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة

 



([1]) سورة الأحزاب: آية 32.

2017/11/29
التبرج والسفور ووجوب الحجاب

قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}([1]).

الغض: هو إطباق الجفن على الجفن. والأبصار: جمع بصر وهو العضو الناظر.

فقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ* لما كان {يَغُضُّوا} مترتباً على قوله: {قُلْ} ترتب جواب الشرط عليه دلّ ذلك على كون القول بمعنى الأمر والمعنى مُرْهُم {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} والتقدير: مُرْهُمْ بالغض، إنك إن تأمرهم به (يَغُضُّوا).

ما الحكمة؟

والآية أمر بغض الأبصار ومفادهُ النهي عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من الأجنبي والأجنبية {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي ومرهم {يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}.

والمقابلة بين قوله: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} و{يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها من النظر فضلاً عن الزنا واللواط والعياذ بالله.

ثم أشار إلى وجه المصلحة في الحكم وحثّهم على المراقبة في جنبه بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} . فغض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمن في الدنيا والآخرة وإطلاق البصر والفرج من أسباب النقمة والعذاب في الدنيا والآخرة.

وقدْ دلّت الأحاديث الشريفة أن المراد من الأمر بالغض في الآية المباركة النهي عن مطلق النظر إلى الأجنبية. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "النظر إلى محاسن النساء سهم من سهام إبليس، فمن تركه أذاقه الله طعم عبادة تسرُهُ" ([2]).

ثم توجه الخطاب الإلهي إلى المؤمنات يأمرهن بغض البصر وحفظ الفرج.

قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} .

فلا يجوز لهن النظر إلى مالا يجوز النظر إليه ويجب عليهن ستر العورة عن الأجنبي والأجنبية فأمر المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج -كما أمر المؤمنين بذلك - صيانة لهم من أسباب الفتنة وتحريضاً لهن على أسباب العفة والسلامة.

أفعمياوان أنتما؟

ورد في جوامع الجامع عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي عن النبي صلى الله عليه وآله وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟([3]).

والأمر الإلهي في هاتين الآيتين الكريمتين للمؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج واضح جلي وما ذاك إلا لعظم ما يترتب على عدم حفظهما من الفساد الكبير بين المسلمين.

فإطلاق البصر من وسائل مرض القلب ووقوع الفاحشة، وغض البصر من أسباب السلامة والهداية. كما أن حفظ الفرج واجب، ومن أبرز مظاهر العفة والالتزام بأوامر الله تعالى والانتهاء عما نهى عنه جلّ وعلا.

وعدم الالتزام بذلك من مظاهر سقوط الشخصية وازدياد الفحشاء بين المسلمين وهذا الانحدار والسقوط الخلقي من أظهر أسباب سقوط المجتمع وانحراف الشخصية الإسلامية.

فعلى العبد أن يحذر ربه وأن يستحي منه أن يراه على معصيته أو يفقده من طاعته التي أوجب عليه.

ثم انتقلت الآية المباركة إلى ذكر حكم آخر وهو حرمة إبداء الزينة.

قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .

فلا يحق للنساء الكشف عن زينتهن المخفية وإن كانت لا تُظهر أجسامهن فلا يجوز لهن الكشف عن لباس يتزينّ به تحت اللباس العادي أو العباءة بنص القرآن الكريم، الذي نهاهن عن ذلك وقد فُسّرت الزينة في بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيت (ع) بالقلادة والدملج (وهو نوع من الحلي يوضع على الساعد)، والخلخال ونحوها من أنواع الزينة التي اعتادت النساء التزين بها([4]).

وقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} .

الخُمُرْ ـ بضمتين ـ: جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وينسدل على صدرها. والجيوب: جمع جيب بالفتح فالسكون والمراد به الصدور.

والمعنى: وليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها.

ثم يذكر الكتاب الكريم حكماً آخر زيادة للعفة والحجاب، يقول تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}  أي على النساء أن يتحفظن كثيراً، ويحفظن عفّتهن، ويبتعدن عن كل شيء يثير نار الشهوة في قلوب الرجال حتى لا يتهمن بالانحراف عن طريق العفة. ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدة بحيث لا يصل صوت خلخالهن وما أشبه ذلك إلى آذان غير المحارم، وهذا كله يؤكّد دقّة نظر الإسلام إلى هذه الأمور المهمة.

فاتقوا الله أيها المسلمون وخذوا على أيدي النساء وامنعوهنّ مما حرم الله عليهنّ من السفور والتبرج وإظهار المحاسن والتشبه بالنساء الكافرات، واعلموا أن السكوت عنهن مشاركة لهن في الإثم وتعرض لغضب الله تعالى وعموم عقابه.

وانتهت الآية الكريمة بدعوة جميع المؤمنين رجالاً ونساء إلى التوبة والعودة إلى الله تعالى ليفلحوا {وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وتوبوا أيها الناس مما ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال بعدما اطلعتم على حقائق الأحكام الإسلامية.

 



([1]) سورة النور: آية 30 - 31.

([2]) مستدرك الوسائل: ج2، ص 544.

([3]) بحار الأنوار: ج101، ص37.

([4]) مستدرك الوسائل: ج14، ص6 باب ما يحل النظر اليه من المرأة بغير تلذذ وما لا يجب عليها ستره.

 

*مقطتف من كتاب "التبرّج والسفور وانعكاسهما على الفرد والمجتمع" صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
2017/11/27