العصمة لا تُخرج المعصوم عن بشريته، فكونه لا يخطئ ولا تصدر منه المعاصي لا يعني أنه مخلوق مجرد كالملائكة، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ) وطبيعة البشر قائمة على كونها قبضة من طين ونفخة من روح.
اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام
والإنسان المركب من مادة وروح لابد أن يعيش حالة من النزاع بين متطلبات المادة المتمثلة في الغرائز والشهوات وبين متطلبات الروح المتمثلة في القيم والأخلاق، والإنسان في هذه الحالة إما أن يركن للمادة ويكون طائعاً لرغباته وشهواته وإما أن يتسامى على المادة ويتطلع للكمال المعنوي والأخلاقي، والأديان في حقيقتها ليست إلا تنبيهاً للإنسان بخطورة هذه المعادلة، وكيف يدير هذا الصراع؟ وكيف يخلق توازنات بين متطلبات المادة والروح؟ والانبياء والرسل والائمة ليس إلا نماذج واقعية لدرجة الكمال التي يمكن أن ينالها الإنسان، ومن هنا كانوا هم حجج الله على جميع البشر، قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فإذا لم يعاني الأنبياء هذا الصراع ولم يجاهدوا رغباتهم ولم يحرموا أنفسهم كيف يمكن أن يكونوا لنا أسوة؟ فالعصمة لا تعفي صاحبها من ألم المجاهدة وحرمان النفس كما يقول الامام علي (عليه السلام): (أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ ... وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى)، وقد بين أمير المؤمنين (عليه السلام) فلسفة الامامة بقوله: (وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ) أي أن الامام وجد اساساً لكي يقتدي به عامة الناس، مما يعني أن عصمة الامام لا تجعله بعيداً عما يعاني منه جميع البشر من ضغط الهوى وصعوبة كبح الشهوات والرغبات، ولذا نجده قال مباشرة (أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ) أي أنه الزم نفسه بالقليل من حاجات الجسد مع قدرته وتمكنه من اشباعها بكل ملذات الحياة حيث قال: (وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ) والذي يمنعه من ذلك ليس أنه فاقد للإحساس بهذه الملذات كالملائكة مثلاً وإنما يتغلب بإرادته على هواه ولذا يقول: (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي) ويتضح من ذلك أن المعصوم وصل إلى مرتبة من الكمال جعلته قدوة لغيره، والإنسان العادي الذي يجاهد نفسه إنما يسير في نفس الاتجاه الذي سبقه إليه المعصوم، وهو بذلك يستحق الفضل والاجر إلا أنه يكون قاصراً وبشكل دائم عن بلوغ ما وصل اليه المعصوم من جهاد النفس وتربية الذات.