رَجَب.. بابٌ إلى آل محمد (ص) !
بسم الله الرحمن الرحيم
رَجَب، واحدٌ من الأشهر الأربعة الحُرُم..
يَتَرَقَّبُهُ المؤمنون لِما يعلمون من فَضلِهِ وبركته وعَظيم شأنه.
فعن الإمام الصادق عليه السلام: إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ فَضَّلَهُ اللَّه وَعَظَّمَ حُرْمَتَهُ وَأَوْجَبَ لِلصَّائِمِينَ فِيهِ كَرَامَتَهُ (فضائل الأشهر الثلاثة ص18).
وعنه عليه السلام أنّه: شَهْرٌ مُبَارَكٌ عَظِيمُ الْحُرْمَةِ مَسْمُوعُ الدُّعَاءِ (فضائل الأشهر الثلاثة ص34).
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: رَجَبٌ شَهْرٌ عَظِيمٌ، يُضَاعِفُ اللَّهُ فِيهِ الْحَسَنَاتِ، وَيَمْحُو فِيهِ السَّيِّئَاتِ (الفقيه، ج2، ص: 92).
تتجلى البركةُ في هذا الشهر، وتظهر كرامةُ الله للصائمين فيه، حينما يورِثُ الصومُ فيه براءة من النار.. وخلوداً في جنات الرحمان!
لكن..
قد يتساءل سائلٌ فيقول:
كيف يكون الصوم في هذا الشهر أماناً من سَكَرات الموت؟ وهَول المُطَّلَع؟ وعذاب القبر؟ وشدائد يوم القيامة وأهواله؟
هل يُعقل أن ينال الصائمُ ثواباً لا يُحصى قَدرُه؟!
أيُعقل أن نعصي الله تعالى أيامنا.. ثمَّ نَتَوَجَّه إليه في الأشهر المباركة فننال الفوزَ عندَه ؟!
هل يكتفي الله عزَّ وجلَّ منّا بصيامٍ وقيامٍ في أوقاتٍ عَظَّمَها وشرَّفها ؟ ثمَّ لنا أن نفعل ما شاء سائر أيامنا؟
وهل ينال كلُّ مسلمٍ هذا الثواب مهما كان مذهبه وعقيدته؟!
لكنَّ المؤمن لا يُعدَم جواباً على هذه التساؤلات، ويوضحُ ذلك في أمور:
أولاً: اشتراط الثواب بالإخلاص
إنَّ عَظيمَ الثواب مشروطٌ بأمورٍ منها الإخلاص لله عزَّ وجل، وقد ورد ذلك عن النبي (ص) في صيام شهر رجب عندما ذكر لذلك ثواباً وشَرَطَه فقال: (إِذَا أَخْلَصَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وهذه قاعدةٌ سيّالة، فإنَّ الله عزَّ وجل إنما يعطي الثواب العظيم على القليل الذي يؤتى به خالصاً لوجهه.
وقد ورد عن الصادق عليه السلام: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَحِيمٌ يَشْكُرُ الْقَلِيلَ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُرِيدُ بِهِمَا وَجْهَ اللَّهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّهُ لَيَتَصَدَّقُ بِالدِّرْهَمِ يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ (المحاسن ج1 ص253)
فليست العبرةُ عند الله تعالى بكثرة العمل، بل بحُسنه، ولا يكون ذلك بغير الإخلاص والتوجُّه إليه تعالى، ومع الإخلاص تَتَغيَّرُ حياةُ العبد، فيصير من الصالحين، لأنَّ الإخلاص يعني التوجه إلى الله عز وجل وحده، فلا يشوب العمل حينها شائبةٌ أبداً..
ومَن كان كذلك بلغَ من درجات القُرب من الله مبلغاً عظيماً.. فقد ورد في الحديث عن الباقر عليه السلام: مَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعِينَ يَوْماً.. إِلَّا زَهَّدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا وَبَصَّرَهُ دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا فَأَثْبَتَ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ (الكافي ج2 ص16).
وهذه منزلة جليلةٌ ينالُها الإنسان بالإخلاص، وما يُذكَرُ من ثوابٍ عَظيم موقوفٌ عليه.
ثمَّ إنَّ مِن تمام التوجُّه نحو الله تعالى والإخلاص له الامتناع عن معصيته..
فتشهد ملائكة الرحمان لله تعالى أن العبد كان في الأشهر المباركة:عَمَّا مَنَعْتَهُ فِيهَا مُمْتَنِعاً.. لَقَدْ صَامَ بِبَطْنِهِ، وَفَرْجِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ.. وَكَثُرَتْ نَفَقَاتُهُ فِيهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَعَظُمَتْ أَيَادِيهِ وَإِحْسَانُهُ إِلَى عِبَادِكَ، صَحِبَهَا أَكْرَمَ صُحْبَةٍ، وَوَدَّعَهَا أَحْسَنَ تَوْدِيعٍ، أَقَامَ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا عَنْهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَلَمْ يَهْتِكْ عِنْدَ إِدْبَارِهَا سُتُورَ حُرُمَاتِكَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ هَذَا (تفسير الإمام ص655).
هكذا يكونُ المُخلِصُ الذي يستحقُّ الثواب، يُعظِّمُ هذه الأشهر عندَ حضورِها، ثم لا ينسلِخُ عن الطاعة بعد انسلاخها، لأنَّه يعبد الله ولا يعبدها !
وليس هو ممَّن يحفظ حُرُمات الله فيها ويهتكها في سواها من الليالي والأيام.. فكلُّ الأيام لله، وإن كان بعضُها أعظم من بعض..
هكذا يكونُ الإخلاص لله، وهكذا يكون المُخلِص، نِعمَ العَبد الصادق في عبادته، فيستحق عظيم الثواب من الله تعالى.
ثانياً: الثواب فَضلٌ من الإله العظيم
لقد ابتدأ الله عزَّ وجلَّ الإنسان بالنِّعَمِ العظيمة قبل أن يسأل، ودون أن يعمل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها).
فإنَّ أحدَنا لو تجرَّدَ وَجَدَ أنَّ النِّعَمَ التي أسبغها عليه الإلهُ العظيم في غاية العظمة، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والعابد والجاحد، والصدِّيق والزنديق.. ثم لم يكن الأمرُ مُستغرَباً، لِما نعلم من كَرَمِ الإله العظيم وَجُودِه ومَنِّهِ وعطائه.
لكنّا لِجَهلِنا لا نألف أن يُعطينا الإلهُ جنّاتٍ عرضُها السماوات والأرض جزاءَ القليل من أفعالنا.
يغيبُ عنّا أن ليس شيءٌ يُعجِزُ الله تعالى، بل يستوي عنده اليسيرُ والخَطير، وفليس في قُدرةِ الله سَهلٌ وصَعبٌ! فقدرَتُه واحدةٌ تجاه المقدورات كلِّها..
ويَغيبُ عنّا أن ليس ينقصُ من سلطانه ومُلكه شيء مع كثرة العطاء..
ويَغيبُ عنّا أنَّ مَن ابتدأ بالعَطاء دون السؤال أحقُّ أن يعطي بعد السؤال.. ومَن أعطى المؤمن والكافر في دار الامتحان نِعَماً لا تُحصى، جديرٌ بأن يعطي المؤمن في دار الجزاء ما هو أعظَمُ مِن ذلك..
إنَّ الله تعالى يعلَم أن من توجَّهَ إليه في شهر رجب مخلِصاً صادقاً، وتَطَوَّعَ فيما لم يوجِب عليه، تعظيماً لِشَهرٍ عظَّمَهُ الله، هو من أهل الصلاح الذين يستحقون الثناء، ويسعون نحو رضا الرحمان.
لذا تشهدُ له هذه الشُّهور المباركة بين يدي الرحمان:
فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ حُرْمَةَ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، ووَصَلَهُمَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الشُّهُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. بِتَعْظِيمِهِ لَهَا (تفسير الإمام ص655).
ثمَّ تَصف الملائكة فِعلَه في هذه الأشهر فتقول لله تعالى:
وَلَقَدْ تَعَرَّضَ بِجُهْدِهِ لِرِضَاكَ، وَطَلَبَ بِطَاقَتِهِ مَحَبَّتَكَ (تفسير الإمام ص655).
ويأتي النداء يوم القيامة من عند الله تعالى للرجبيين، أصحاب الوجوه المُنيرة يوم القيامة، وَحَمَلَةِ تيجان المُلك.. ومحلِّ كرامة الله تعالى.. يأتيهم النداء:
وَعِزَّتِي وَجَلَالِي: لَأُكْرِمَنَّ مَثْوَاكُمْ، وَلَأُجْزِلَنَّ عَطَاكُمْ.. إِنَّكُمْ تَطَوَّعْتُمْ بِالصَّوْمِ لِي فِي شَهْرٍ عَظَّمْتُ حُرْمَتَهُ، وَأَوْجَبْتُ حَقَّهُ (فضائل الأشهر الثلاثة ص31).
بهذا يصيرُ صيامُ يومٍ واحدٍ من رجب تَطَوُّعاً باباً من أبواب الجنّة، وسبيلاً لرضا الرحمان.
فالله تعالى نَدَبَهُم إلى صيامِه وقيامه فسارَعوا إلى ذلك، فأجزلهم ثواباً عظيماً.
ثالثاً: إشتراط الثواب بولاية آل محمد (ع)
ليست أبوابُ الجِنان مفتوحةً على مِصراعيها لمن صام شهر أيام رجب وقام لياليه، فإنَّ لها شروطاً يرفضُها أكثر الخلق، وأهمُّها ولاية آل محمد عليهم السلام، كما عن الصادق عليه السلام أن كلَّ عبدٍ:
إِنْ أَقَرَّ بِوَلَايَتِنَا ثُمَّ مَاتَ عَلَيْهَا قُبِلَتْ مِنْهُ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ وَزَكَاتُهُ وَحَجُّهُ.
وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِوَلَايَتِنَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ (الأمالي للصدوق ص256).
وهو قوله تعالى: (وقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)، فإنَّها: (أَعْمَالُ مُبْغِضِينَا وَمُبْغِضِي شِيعَتِنَا) (بصائر الدرجات ج1 ص426).
فإذا اكتملت الشرائط، صارَ العبدُ أقربَ ما يكون لآل محمدٍ في درجتهم، كما عن الباقر عليه السلام:
مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَجَعَلَهُ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأمالي للصدوق ص5).
فَبِقَدرِ معرفة الإمام وولايته تُضاعَفُ الأعمال، وتُرفَعُ الدَّرجات.
وبقَدرِ الطاعة والمودة لهم يقتربُ العبدُ منهم عليهم السلام، وإن كانوا في مَحَلٍّ لا يطمحُ إليه طامح.
إنَّ أكثر المؤمنين جِدَّاً في طاعة الله تعالى أقرَبُهُم لآل محمدٍ عليهم السلام (تفسير الإمام ص665).
وقد صار شَهرُ رجب (باباً للتَّقرُّب من آل محمد)، فَعَظَّمَهُ المؤمنُ، وعَظَّمَهُم فيه، وعَرَفَ حرمَتَه، وأدّى حقَّه، فكان من المُفلِحين.
ثمَّ صار يتوجَّه إلى مشاهد أولياء الله في رَجَب، ويدعو الله بما يدعونه به، ويسأله بالمولودين فيه، ثم يخاطبُ سيِّدَ الشُّهداء في أوله ونصفه بخِطَابٍ سامٍ فيقول:
لَبَّيْكَ داعِيَ الله، انْ كانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغاثَتِكَ، وَلِسانِي عِنْدَ اسْتِنْصارِكَ، فَقَدْ أَجابَكَ قَلْبِي وَسَمْعِي وَبَصَرِي ! (الإقبال ج3 ص342).
ها هو قلبُ المؤمنين يهتفُ في غرَّةِ رجَب باسم الحسين.. ويطمعُ بزيارته فيه وفي غيره من الشُّهور.. وقد اتَّخذَ هذا الشَّهرَ باباً إلى الحُسين وأخيه، وأمِّه وأبيه، وجَدِّه وبنيه.. عليهم من الله السلام، والرحمة والإكرام..
اللهم اجعلنا ممن يُعظِّم هذه الأيام، ويمتثِل أمرَك فيها وأمر أوليائك، ويَثبُت على ولايتهم، والبراءة من أعدائهم، إنك سميعٌ مُجيب.
والحمد لله رب العالمين
أولى ليالي رجب الأصبّ 1443 هـ