[اشترك]
قد يُثارُ هذا الإشكال، وحينئذٍ قد يُقال واستنتاجاً لهذا الإشكال بأنَّه ليس من الصحيح أنَّ ثمَّة أئمةً قد فَرضَ اللهُ طاعَتهم وزعامتَهم وولايتهم على الأمة وهم صغارُ السن.
وهذا الإشكالُ كما تُلاحظون لا يعدو الاستبعادَ فهو إشكالٌ ثبوتي لا نحتاجُ في مقامِ الإجابةِ عنه إلى عناءٍ يُذكر، بعد أنْ كان لظاهرةِ الإمامةِ المبكِّرة جذورٌ في تاريخِ الرسالات، فقد أكَّد القرآنُ الكريمُ أنّ يحيى بنَ زكريا (ع) تحَّمل أعباءَ النبوَّةِ وهو في عمرِ الصبي، قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(1)، ويقولُ الله تعالى في شأنِ عيسى بنِ مريم (ع)، والحوارِ الذي وقعَ بين بني إسرائيل وبين السيدة مريم، حين جاءت برضيعِها تحملُه، فأشارت إليه أنْ كلِّموه ولا تسألوا مِن أين جئتِ بهذا الصبيِّ، فقالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا / قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا / وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا / وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا / وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(2).
وفي كلا الموردين نوَّه القرآنُ على أنَّ من منَحهُ اللهُ تعالى مقامَ النبوَّةَ والحكمَ في عمر الصبى قد منحَه قبل ذلك أو في عرضِه العلمَ بالكتاب. كما هو مفادُ قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾(3) وهو مفاد قوله تعالى على لسان عيسى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(4).
إذنْ فظاهرةُ الإمامة المبكِّرة لها جذورٌ في تاريخ الرسالات، ولعلَّ أحدَ مناشىءِ تأهيلِ مَن هُم في عمر الصبى لمقامي النبوة أو الإمامة هو التأكيدُ على أن مثل هذه المقامات لا يصلُها أحدٌ بجُهدِه وإنَّما هي مَلَكة تُمنحُ من عند الله تعالى ابتداءً، فقد يصلُ المرءُ إلى أرذلِ العمر، ويشتغلُ بطلب العلمِ طيلةَ عمره، ويخبُرُ الحياةَ فلا يتأهلُ لهذه المَلَكة، ثم يتأهلُ لها مثلُ عيسى المسيح وهو في المهد فيفوقُ في أهليَّتِه أكثرَ الأنبياء ليكون في مصافِّ أولي العزم منهم رغم انَّ عمره المساوقَ لعمرِ نبوَّتِه لم يمتد لأكثرَ من ثلاثةِ عقود بعدها توفَّاه اللهُ إليه ورفعه إلى سمائِه.
ستُّ نقاط للتنبيه على حقّانية الإمامة المبكرة:وحتى يتبلورَ الأمرُ ويُصبحَ أكثرَ وضوحاً -فيما يتصل بظاهرةِ الإمامة المبكِّرة عند أهلِ البيت (ع)- نُنبِّه على مقدماتٍ ستَ أشار إليها الشهيدُ الصدر الأول -قدس الله نفسه الزكية-، وحين تتضحُ هذه المقدمات يتبيَّنُ أنَّ ظاهرةَ الإمامةِ لم تكن جزافية، بل كانت ظاهرةً واقعية اقتضتها العنايةُ والحكمة الإلهيَّة، فكان لها الأثرُ البليغُ في ترسيخ العقيدة ِالامامية.
المقدمة الأولى: هي إنَّ إمامةَ أهلِ البيت (ع) لم تكن -كما هو بيِّن- مركزاً من مراكز السلطة، فلم تكن وزارةً في سلطة أو دائرةً تابعةً لدوائرِ الخلافة، وإنَّما كانت حالةً مستقلةً بل ومباينةً للسلطة. فلو كانت الإمامةُ مركزاً، أو دائرةً من دوائرِ السلطة بحيث كانت تذودُ عنها وترعاها، وتُروِّجُ لها، لكان الأمر ربَّما يُصحِّحُ التشكيك إلا أنَّها لم تكن كذلك، فلم يكن يحميها من أحد، ولم يروِّجْ لها من أحد. بل كانت تعتمد -الإمامة- على التغلغل الرُّوحي في نفوس الأمة، وتستندُ إلى التفوُّق العلمي والفكري الكاشفِ بذاته عن الكفاءة، فحين يدّعي أحدٌ من أهل البيت (ع) أنّه إمامٌ مفترَضُ الطاعة فهو إنَّما يعتمدُ في إثباتِ ذلك على تفوِّقه العلمي، وعلى تفوِّقه الفكري، فيستند القبولُ لدعواه على ذلك وعلى تميِّزه الروحي، حيث يجده الناس مثالاً منقطعَ النظير في الورعِ التقوى، والنُسُكِ، والأخلاقِ الفاضلة، وكانت تظهر على يديه الفضائلُ، والكرامات، التي لا يتفق صدورها إلا لأصفياء الله ونجبائه، فكان ذلك كلُّه مجتمعاً هو ما ينشأ عنه الإذعان لإمامته عند من يُؤمن به. فلم يكن مذهبُ أهل البيت (ع) يعتمدُ على ترويجِ السلطان وإعلامه، بل كان السلطان وأعوانُه وجهازُه الإعلامي يسعون جاهدين على التعميةِ والتشويشِ والإخفاءِ لفضائلِ أهلِ البيتِ، وكراماتهم، وما يعبِّر عن تفوقِهم العلميّ، هذه هي المقدمة الأولى، وهي حقيقةٌ لا يسع من أحدٍ أن يتنكر لها.
أما المقدمة الثانية: فهي نوعيَّةُ القواعدِ الواسعةِ المنتميةِ لأهلِ البيت (ع)، والممتدةِ في عمقِ الحواضرِ الإسلامية، فهي في خراسانَ والأهوازِ والريِّ وفارس وقم، وفي العراقين، وفي حلب وفي الحجاز، وفي اليمنِ وغيرِها من حواضر الإسلام، وهذه القواعد لم تكنْ من الهمجِ الرعاع، بل كان فيهم الكثيرُ من ذوي الوجاهاتِ والمواقعِ الاجتماعية، وكان فيهم العلماءُ والفقهاءُ، وفيهم المتكلِّمون والمفسِّرون، وكان فيهم القرَّاء وحملةُ الحديث والمؤرخون والأدباء والشعراء، وفيهم من تتلمذ على أيديهم الكثيرُ من علماء العامة والخاصة في مختلف حقول المعرفة المتداولة في تلك العصور. فلم يكن شيعةُ أهلِ البيت (ع) جماعةً من السُوقة والهمجِ الرعاع بل لا زال التراثُ الإسلامي يحتفظُ بالكثير من مآثر هؤلاء المنتمين لأهلِ البيت (ع) ويحتفظُ بالكثير من نظرياتهم في الطبِّ والكيمياءِ وعلمِ الهيئةِ والجَبْرِ والحسابِ وعلمِ المنطقِ والكلام والعَروضِ والنحو، وكان فحولُ شعراءِ العصر الأموي والعباسي منهم، والكثيرُ من الأسماءِ اللامعةِ في العديدِ من العلوم هم من أبناء هذه المدرسة. ومثلُ هؤلاء لا يصحُّ في حقِّهم التوهُّمُ بأنَّ اتَّباعهم لأهلِ البيت(ع) نشأ جزافاً وعن غير رويةٍ وتثبُّت، إنَّ مثلَ هؤلاءِ لا يليقُ بشأنِهم الإذعانُ مجتمعين بإمامةِ أهلِ البيت (ع) لولم يجدوا فيهم الكفاءةَ الجدارةَ للموقعِ الذي يعتقدونَه فيهم.
المقدمة الثالثة: إنَّ الشروط التي يعتمدُها ويتبّناها أصحابُ هذه المدرسةِ في الإمام لم تكن شروطاً ميسورة، بل هي شديدةُ التعقيد، يتعسَّرُ على أكثر خلق الله أن يكونوا واجدين لها أو حتى لبعضِها، فقد كانوا يشترطون في الإمام مضافاً إلى النصِّ عليه أنْ يكونْ معصوماً من صغائرِ الذنوب فضلاً عن كبائرِها، ومعصوماً حتى من الخطأ، وأن يكونَ أعلمَ الناس على الإطلاق وأتقاهم، وكانوا يشترطونَ في الإمام العديدَ من الملكاتِ والكفاءات فلا يُذعنون بإمامته ما لم يكن واجداً لهذه الصفاتِ والملكات، فهم حينما قبلوا بإمامة الجواد (ع) مثلاً وهو في عمر الصبى لم يكن ذلك اعتباطاً، وإنّما أذعنوا له بالإمامة لأنَّهم وجدوا فيه ما لا يسعُهم إلا الإذعانُ بإمامته.
فتىً في عمرِ الصبى يجلسُ بين يديه ذوو السنِّ من الفقهاء والمتكلمين ممن تتلمذوا على يد الصادق والكاظم والرضا (ع) فيسألونَه وهو يجيبُ دون تريُّثٍ أو إعداد حتى احصى بعضُ الرُواة -كما في الصحيح -ثلاثينَ ألفَ مسألةٍ كانت مجموعَ ما ألقي على الإمام من الأسئلة في إحدى المواسمِ وكانت اجاباتُه كلُّها مطابقةً لما كانوا قد تلقَّوه من اجاباتِ الصادقين من آبائه (ع).
وهذا عليُّ بن جعفر -ابن الإمام الصادق (ع)- أدرك الإمامَ الجواد (ع) فهو عمُّ أبيه، وكان من كبارِ علماءِ أهل البيت (ع)، فكانَ يجلسُ في المسجدِ النبويِّ الشريف فيتحلَّقُ حولَه روَّادُ العلمِ يكتبونَ ما يُمليه عليهم، وكان عمرُه قد نيَّف على السبعين .. ينقل عنه مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ جَالِساً بِالْمَدِينَةِ وكُنْتُ أَقَمْتُ عِنْدَه سَنَتَيْنِ أَكْتُبُ عَنْه مَا يَسْمَعُ مِنْ أَخِيه يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ (ع) إِذْ دَخَلَ عَلَيْه أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الجواد (ع) الْمَسْجِدَ - مَسْجِدَ الرَّسُولِ (ص) فَوَثَبَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ بِلَا حِذَاءٍ ولَا رِدَاءٍ فَقَبَّلَ يَدَه وعَظَّمَه فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (ع): يَا عَمِّ اجْلِسْ رَحِمَكَ اللَّه فَقَالَ: يَا سَيِّدِي كَيْفَ أَجْلِسُ وأَنْتَ قَائِمٌ، فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ إلى مَجْلِسِه جَعَلَ أَصْحَابُه يُوَبِّخُونَه ويَقُولُونَ: أَنْتَ عَمُّ أَبِيه وأَنْتَ تَفْعَلُ بِه هَذَا الْفِعْلَ؟ فَقَالَ: اسْكُتُوا إِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ -وقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِه- لَمْ يُؤَهِّلْ هَذِه الشَّيْبَةَ وأَهَّلَ هَذَا الْفَتَى ووَضَعَه حَيْثُ وَضَعَه، أُنْكِرُ فَضْلَه؟! نَعُوذُ بِاللَّه مِمَّا تَقُولُونَ بَلْ أَنَا لَه عَبْدٌ"(5).
وقد وردت رواياتٌ عديدة متعاضِدة وفيها ما هو صحيحُ السند قريبةٌ من هذا المضمون، أتُرى أنَّ عليَّ بن جعفر- الشيخ الكبير وهو كما وصفوه من عظماءِ أهل البيت- يُذعنُ بالإمامة لصبيٍّ لو لم يجد فيه ما يُؤهِّله لهذا المقام؟! ثم لم يكن ذلك من عليِّ بن جعفرٍ وحسب، فقد كان يَقصدُ الإمامَ الجواد (ع) علماءُ من بغدادَ، والكوفة، والحجازِ وخراسان وغيرها من الحواضر يستفتونه، ويسألونَه، فيجدون عنده ما لا يجدونه عند غيره من شيوخ الإسلام! -هذه هي النقطة الثالثة-.
أما المقدمة الرابعة: وهي الحقيقة التأريخية التي يُؤكِّدها المؤرخون، وهي إنَّ ولاية أهلِ البيت (ع)، والانتماءَ لهم، كان يُكلِّف غالياً، فكان ينتهي بالمنتمين لهم خصوصاً من ذوي الشأنِ منهم في الكثيرِ من الأحيانِ إلى السجونِ، والطواميرِ، أو المطاردةِ، والتصفيةِ الجسدية، وكان مَن دونَهم في الشأن يُحرمُ الكثيرُ منهم من عطائهم ويُحاربون في أرزاقهم ومعائشهم، فالإنتماء لمدرسةِ أهل البيت (ع) في العصر الأموي والعباسي الأول كان يساوقُ القبول بضَنكِ العيش وقسوةِ الحياة وكان يعني الترقُّبَ للاستهداف بالتصفيةِ أو السجنِ أو التهجيرِ أو الحرمانِ من العطاء بل والمصادرةِ للمال.
ورغم كلَّ ذلك ظلَّ أتباعُ هذه المدرسةِ متمسكينَ بما هم عليه من الاعتقاد بإمامة أئمةِ أهل البيت (ع) دون أنْ يُثنيهم عن ذلك ما كانوا يتكبَّدونه من عناءٍ وعنَت، أتُراهم يتحمَّلون كلَّ هذا المشاقِّ والشدائد دون أن يكونوا قد وجدوا أنَّ ما هم عليه هو الطريق المُفضي للرضوان الإلهي؟! إذن يكونوا حمقى، وقد علم الجميعُ أنَّهم عقلاء وأنَّ فيهم النابهين وذوي العلم والحِجى والفضل.
وأما المقدمة الخامسة: فهي إنَّ الإمام من أئمة أهل البيت (ع) لم يكن معزولاً، فلم يكن في بروجٍ مُشَّيدة، تحوطوها الحجَّاب، فيُشار إليها بأنَّ في هذه البروج رجلاً إلهيّاً، تظهرُ على يديه الكرامات، ويعلم بكتابِ الله وسُنَّة رسوله (ص)، لم يكن الأمرُ كذلك حتى يُقال إنَّ الشيعة قد آمنت بإمامة رجلٍ دون معاينةٍ ودون أنْ تقومَ عندهم الدلائلُ على إمامته بما يجدونه في حديثِه وما كان يظهرُ على يديه من الخوارقِ التي لا يتفقُ صدورُها إلا من أصفياءِ الله ونجبائه.
كان الإمامُ من أئمةِ أهل البيت (ع) يعيشُ في وسطِ الناسِ، يقصدونه فلا يجدونَ ما يحولُ دون التقائهم به، فكان يدخلُ عليه كلُّ الناس على اختلافهم في المشاربِ والمذاهب يستمعونَ إلى حديثِه ويستفتونَه وأحياناً يمتحنونَه. وكان أتباعُ المذاهب وعلمائِهم على درايةٍ بما يعتقدُه الشيعة في أئمتهم من العصمة والتفوُّق في العلم والمعرفة، فكانَ بإمكانِهم أنْ يُبدِّدوا هذه الهالةَ التي كان يعتقدُ بها الشيعةُ في أئمتِهم (ع)، وذلك بالدخولِ على أئمتِهم وامتحانِهم في محضرِ شيعتِهم، وإحراجِهم، وإفحامهم، وينتهي الموضوع. لماذا لم يفعلوا ذلك؟! أليسَ في الأمّة علماء؟! ألم يكن فيهم فقهاءُ ومحدِّثونَ ومَن عُرفوا بالتميُّز في علم الكلام والتفسير؟! لا ريب أنَّهم كانوا كثيرين، لكنَّهم كانوا يُدركون قصورَهم عن ذلك، نعم بذلت السلطةُ العباسية في ذلك مساعيَ متعدِّدةً وبعناوينَ مختلفة لكنَّ مسعاها في كلِّ مرةٍ يعودُ عليها بنقيضِ غرضِها فكانوا يجمعونَ في كلِّ مرة المتميِّزين من علماءِ المذاهبِ والديانات ويُحرِّضونَهم على التحضير لأكثر المسائل تعقيداً ثم يدعونَ الإمامَ للحضور دون سابقِ إشعارٍ عن غرض الدعوة أملاً في أنْ يكونَ ذلك موجباً لمفاجئته بما لم يكن مستعدَّاً له فينقطعُ أو يتعثَّر في الجواب لكنَّ حظَّ السلطةِ من ذلك في كلِّ مرةٍ هو الإخفاق، ولو كانوا قد أفلحوا في هذا المسعى ولو لمرةٍ واحدةٍ لطاروا بها مبتهجين ولشاعَ ذلك وذاع ولسُوِّدت بالإخبار عنه الصحائفُ، فالمناوئون لأهل البيت (ع) كثُر والدواعي للنقلِ شديدة رغم ذلك لم يصلْ إلينا إلا ما يُعبِّر عن اخفاقِ السلطة وتألقِ الإمام (ع) في كلِّ مناظرةٍ يتمُّ عقدُها وهو ما نشأ عنه المزيدُ من الإكبار والإجلال لأئمة أهل البيت (ع) في مختلف الأوساط.
المقدمة السادسة والأخيرة: إنَّ الخلافةَ كانت تنظُرُ إلى أئمة أهلِ البيت (ع) على أساس أنَّهم خطرٌ على السلطة، وكان احتفاءُ الناس بهم، واتساعُ قواعدِهم وامتدادُها في مختلفِ الأقطارِ الإسلامية، يُحرجُ الخلافةَ العباسية، حتى قال هارونُ: أنا إمامُ الأجساد، وهذا إمامُ الأرواح أو القلوب -يشيرُ إلى الإمام الكاظم (ع)-، فما الذي أعيى السلطةَ فدفع بها نحو التعسُّفِ والبطش؟!. أليس من اليسير عليها أنْ تُبدِّدَ هذه الهالةَ بواسطةِ إحراج هؤلاءِ الأئمة (ع) الذين تُدَّعى لهم الإمامة؟! فعلماءُ العامة جلُّهم يأتمرونَ بأمر السلطة العباسيَّة، ألم يكن في وسع خلفاءِ بني العباس أنْ يستقدموا العلماءَ من مختلفِ الأقطار الإسلامية، ثم يُحضرونَ الإمامَ، ويقولونَ له: أنت تدَّعي الإمامةَ، إذن أجب عن أسئلةِ هؤلاء العلماء. لماذا لم يتوسَّلوا بذلك ولجئوا إلى اعتماد التعسُّفِ، والبطش، والتصفية الجسدية؟ أليس من الميسور أن يتوسلوا بهذه الوسيلة؟ ألم يكونوا مُدركين بأنَّ الظلمَ قد يزيدُ من سعة نفوذِ هؤلاء الأئمةِ وعشقِ الناسِ لهم؟
لا ريب انَّهم كانوا يُدركون ذلك لكنَّ خيار الظلم والبطش هو الخيارُ المتاح، فهم يعرفون أنَّ أئمة أهل البيت (ع) لا يمكن إحراجُهم لأنَّهم أعلمُ الناس، وأعرفُهم بكتاب الله وسنَّة رسوله (ص).
إذا اتَّضحت هذه الحقائقُ يتضحُ أنَّ ظاهرةَ الإمامةِ المبكِّرة لم تكنْ مغمزاً في العقيدةِ الإمامية، بل كانت برهاناً يُضافُ إلى البراهين الدامغةِ على حقانيةِ المذهبِ الإمامي، فقد وجد كلُّ من عاصرَ الإمامَ الجواد (ع) ما نشأ عنه الإذعانُ بتميِّزه وتفوِّقه وأنَّه كان -بحق- امتداداً لرسول الله (ص) في سجاياه وعلمِه واتصالِه بالغيب وما كان يظهرُ على يديه من الكرامات التي لا يتفق صدورها إلا ممن اجتباه الله لدينه، ولهذا أذعن الشيعةُ بإمامته، رغم انَّ أبناء الرسول (ص) كانوا كثيرين لكنَّهم لم يقبلوا بإمامة أحدٍ منهم من شيوخ البيت النبوي ممَّن كان قد عاصره، وذلك مؤشِّرٌ واضحٌ على أنَّ الأمرَ لم يكن خاضعاً للعاطفةِ والمحاباة وإنَّما كان خاضعاً للنصِّ والبرهان.
*الشيخ محمد الصنقور
الهوامش: 1- سورة مريم / 12 2- سورة مريم / 29-33. 3- سورة مريم / 12. 4- سورة مريم / 30. 5- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 322. 6- سورة الكوثر.