بنظري أن الموضوع المذكور لا يستحق أن يكون مشكلة؛ إذ الحياة الزوجية أكبر وأسمى من ذلك، والذي فهمته من كلامك أنك لا ترين مشكلة في عباءة الرأس، وإنما ترجحين عباءة الكتف عليها، وبما أن زوجك يرى أن الأجدر بك هي عباءة الرأس، فهذا يعني أنكما تتفقان عليها، وتختلفان في عباءة الكتف، وإذا كان الأمر كذلك فمن الجميل جداً أن تحرصي على نقطة الالتقاء وتجتنبي نقطة الاختلاف صوناً لحياتك الزوجية، وحفاظاً على رباطها المقدس، و(ميثاقها الغليظ) كما عبر القرآن الكريم.
وإني حقاً لا زال يملكني العجب مما ذكرتموه من (وجود مشاكل وخلافات ورغبة في الانفصال) بسبب عباءة الكتف، رغم اتفاقكما على عباءة الرأس!!
فقد ذكرتم أن الزوج يرى عباءة الرأس أستر، وأنتم ترون عباءة الكتف مساوية لها في الستر، وحينئذ فلا بدَّ لكما من الرجوع لجهة أعلى تحسم هذا الاختلاف بينكما، وليست هذه الجهة إلا المرجعية الدينية التي تستطيع تحديد الرؤية الشرعية الدقيقة المتعلقة باللباس، وبالرجوع لفتاوى السيد السيستاني (دام ظله) نجده حين سُئل السؤال التالي: (ما حكم لبس عباءة الكتف إذا كانت غير مفصلة لجسم المرأة؟) أجاب مكتبه: (لا مانع منها إذا لم يعد استهجاناً ومثيراً للشهوة نوعاً، وعلى أي حال سماحة السيد (حفظه الله) يحبّذ للمرأة المؤمنة لبس عباءة الرأس)، وجاء في جواب آخر: (لا مانع منه، لكن سماحة السيد يحبّذ للمرأة المؤمنة لبس العباءة التي فوق الرأس).
ومنشأ هذا التحبيذ منه (دام ظله) هو: أنَّ عباءة الرأس هي لباس نساء أهل البيت (عليهم السلام)، ويشهد لذلك ما رواه الشيخ عباس القمي (طاب ثراه) في كتابه (منتهى الآمال ج 1 ص 597) بقوله: (يقول عمرو بن منذر الهمداني: رأيتُ أم كلثوم فتخيلت الزهراء “عليها السلام” بعباءتها السوداء على رأسها، والغطاء يستر وجهها).
وعلى ذلك، فالمفروض أن تكون الفتوى هي القول الفصل بينكم وبين زوجكم؛ إذ أنها صريحة في عدم التساوي بين العباءتين، وأن عباءة الرأس هي الراجحة.
إن المشكلة التي أشرتم إليها – وهي عدم السيطرة على العباءة عند الذهاب بطفلتكم للحضانة – إنما هي مشكلة جزئية خاصة مرتبطة بطريقة استفادتكم من عباءة الرأس أو بكيفية تفصيلها، وليست مرتبطة بعباءة الرأس نفسها، ويدل على ذلك: أنَّ النساء الأخريات اللاتي يرتدين عباءة الرأس يتمكن من حمل أولادهن، والتنقل بهن، ولا يقعن في نفس المشكلة التي تشتكين منها، مما يعني أنَّ المشكلة المشار إليها مرتبطة بطريقة الاستفادة من عباءة الرأس، لا بالعباءة نفسها، وبالتالي فإنَّ هذا السبب لا يصلح للترجيح.
أعتقد أن أقوى الأسباب هو ضغط المحيط على مَن يعيش فيه ضغطاً شديداً تصعب مقاومته.
ولكنّ ذلك لا يعني الانصياع له، والانهزام أمامه، بل ينبغي التنبه لأمور ثلاثة مهمة:
الأمر الأول: أنَّ المحيط متغير متقلب، وبالتالي فحين يطلق الإنسان لنفسه العنان في التفاعل معه، فإنَّ ذلك سيجره إلى التقلّب معه إلى آخر العمر من غير توقف عند حد، وهذا ما يسلب الإنسان هويته ويجعله يسير على غير بصيرة، فالمحيط هو الذي يخطط ويبرمج بسبب انفتاحه على الثقافات والمجتمعات الأخرى، والمتابع له يكون أمامه ضعيفاً مسلوب الإرادة؛ وهذا ما ينبغي أن يحذر منه الإنسان المؤمن، ويكون يقظاً في تعامله مع المتغيرات التي تحيط به.
ومما يجدر التنبّه له هنا: أنَّ المرأة قد تتصور أنها حين تنفتح على عباءة الكتف فإنها ستتمكن من التحكم في انفتاحها، فتختار العباءة الواسعة غير المزينة، وهذا قد يبدو سهلاً لأول وهلة، ولكن لا يخفى أن الضعف عن مقاومة ضغط المحيط مرة يستتبع الضعف عن المقاومة مرات، فغداً حين يهجر المحيط كله عباءة الكتف الواسعة ويبدأ ينتقدها ويعيب من تلبسها، ستضطر المرأة أيضاً إلى تغيير عباءتها تجاوباً مع المحيط، لتتخلص من ضغطه، وهكذا، وما نشهده الآن في مجتمعنا من التغير والتبدل السريع في حجاب المرأة كلما تغيرت الموضة خير شاهد على ما أقول.
الأمر الثاني: كما تفكر المرأة في نفسها ينبغي أن تفكر في مستقبل بناتها، فإن بناتها حين يكبرن ويرينها – وهي القدوة لهن – متمسكة بالعباءة الأصيلة، سيكون ذلك أدعى لتمسكهن بها، سيما إذا ربتهن الأم عليها، وصقلت نفوسهن على التمسك بها، ولكن حين يرين الأم قد تخلت عن العباءة الأصيلة واستبدلتها بالعباءة الدخيلة فإن هذه ستكون هي البذرة الأولى لحجابهن، ومن ثم إذا كبرن وذهبن للمدرسة ووجدن أن عباءتهن الكتف مختلفة عن عباءات الأخريات من حيث السعة والزينة والألوان، سيكون ذلك موجباً لمحاولة تقليد الأخريات، وهو ما يفتح على الأسرة باباً يصعب سده، وعليه فسدُّ هذا الباب من البداية – عند غرس البذرة الأولى للحجاب في نفوس البنات بالعباءة الأصيلة – يكون أدعى لإصرارهن عليها في المستقبل.
الأمر الثالث: هنالك وصية جليلة للإمام الكاظم (عليه السلام) لو اتخذناها شعاراً وجعلناها معياراً في حياتنا، لكانت لنا خير معين في مقاومة الضغوط الاجتماعية وتداعيات العقل الجمعي، وتضمن لنا تجاوز التعب النفسي، وهي قوله عليه السلام: (يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال الناس: في يدك لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: إنّها جوزة، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة)، وما أروعها من وصية لو تأملناها وطبقناها في مختلف مناحي حياتنا.
ويكفي الإنسان للتنفر مما عليه كافة الناس، وعدم الاعتناء به، قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق)، ولا شك أن الأجدر بالمرأة المؤمنة أن تكون على أقل تقدير من القسم الثاني، وذلك حين تستضيء بنور الفتوى، وإرشادات المرجعية، وتتمسك بسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، وحينئذ ما الذي سيضرها لو مال الآخرون مع كل ريح، ونعقوا مع كل ناعق، ولم يستضيئوا بنور العلم، بل ينبغي عليها عندئذ أن تبتهج بما هي عليه – وإن كانت وحيدة – وتشفق على الآخرين مما هم عليه، وإن كانوا كثيرين.