الجواب:
هذا الكلام مجرد ادعاء يفتقر إلى أبسط الأسس المنطقية في الاحتجاج والمخاصمة، فالحروب رافقت التاريخ الإنساني منذ بداياته الأولى، والذي يختصر دواعي الحروب وأسبابها في الدين لا يكون متعدياً على الدين فحسب وإنما متعدي أيضاً على أبجديات التفكير المنطقي والمقاربة الموضوعية للأشياء، فالنظار للكتب المهتمة بالحروب البشرية يجد أنها ترصد الحروب في التاريخ البشري ابتداءً من الحضارة السومرية والمصرية اللتان يعود تاريخهما إلى 3000 عام قبل الميلاد إلى يومنها هذا، فالتاريخ البشري ضمن هذه الزاوية لا يعدو كونه سلسلة من الحروب التي لا تنتهي، مما يحتم على الباحث الموضوعي رصد خيارات غير متناهية لأسباب هذه الحروب، وهو الأمر الذي توقف عنده علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلماء النفس والسياسية والتاريخ، وكل فريق يرصد من زاوية تخصصه واهتمامه مجموعة من الأسباب، فالحروب ليست ظاهرة استثنائية يمكن إهمالها وتجاوزها، وإنما هي من أكثر الظواهر حضوراً وتأثيراً في الاجتماع الإنساني وبخاصة في العصور الحديثة، ففي الفترة ما بين عامي 1740 و1897، شهدت أوروبا وحدها قرابة 230 حربا وثورة على أراضيها، وقد حصدت هذه الحروب أرواح ملايين من البشر، فالحروب التي نشبت بين عامي 1740 و1897 تسببت في قتل 30 مليون شخص، وتسببت الحربة العالمية الأولى في قتل ما بين 5 ملايين إلى 13 مليون شخص، أما الحرب العالمية الثانية فتجاوزت كل هذه الأرقام لتحصد أرواح 50 مليون شخص، ومازال العالم يتوقع نشوب حرب عالمية ثالثة يمكن أن تكون مدمرة للكرة الأرضية، فهل من المنطق اغفال مطامع الدول الكبرى وتنافسها المحموم في السيطرة على موارد العالم وتعليق الأمر على الاديان؟
ولا ندري لماذا أهمل دوكنز نظرية التطور في تفسير ظاهرة الحروب بين البشر، فبحسب هذه النظرية البشر مخلوق من جينات أنانية تستوجب استنساخها وتكرراها بحسب قانون الارتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح، ولذا من الطبيعي أن يحاول البشر الحصول على الموارد التي تساعده على البقاء والقتال من أجلها، فبمجرد أن يشكِّل الآخرون تهديدا لبقائهم، فإنهم لا يترددون لحظة في إعلان الحرب عليهم.
ولماذا أهمل دوكنز تفسيرات البيولوجيا والتي ترى الرجال مهيؤون بيولوجيّا لخوض الحروب لأنهم يتمتعون بكميات كبيرة من هرمون التستوستيرون المرتبط بسلوكيات عدوانية، ويعانون من انخفاض هرمون السيروتونين (المسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية)، وقد وجدت تجارب بحثية بالفعل أن حقن الحيوانات السيروتونين يجعلها أقل عدوانية.
وغير ذلك من أسباب الحروب التي تحدث عنها العلماء بحسب تخصصاتهم العلمية، ولم نجد من بينهم من يجعل الدين هو السبب المباشر للحرب، صحيح يمكن استقلال الدين في الحروب كما يتم استقلال القبيلة أو الهوية الوطنية؛ بل استقلال الإلحاد أيضاً بحجة القضاء على الأديان، فهناك فرق بين أسباب الحروب وبين الشعارات التي يمكن توظيفها في هذه الحروب، فالشعار لا يعدو كونه خطاباً دعائياً لتوليد المزيد من الحماسة والاندفاع، ولا يخفى قدرة البشر الفائقة في توظيف كل شيء في التجاه الذي يريده، فبحسب مصالحه يمكن أن يوظف الدين في السلام ويمكن أن يوظف ذات الدين في الحرب والقتال.
فالقول بأن الدين هو أصل الشرور والحروب والكراهية ليس إلا دعاية كاذبة تحركها إيدلوجيا حاقدة على الدين، والعجيب أن الإلحاد كيف جاز له أن يحكم بقبح الحروب والقتال والكراهية وهو الذي يرفض أي مبدأ أخلاقي ولا يعترف بحقيقة موضوعية للشرور؟ وقد صرح ريتشارد دوكنز نفسه بذلك حينما قال: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة". ويقول أيضاً: "إنّه من العسير جدًا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية".
فمن يرفض الأديان لا يحق له أن يتهم الأديان بالشرور والكراهية؛ لأنه لا يمتلك أي بديل أخلاقي طالما كانت الطبيعة والمادة هي القيمة الوحيدة المتحكمة في حياة الإنسان، ولذلك نجد البعض صرح بتحميل الإلحاد الدارويني مسؤولية ما وقع من دمار في الحرب العالمية، والسبب في ذلك هو الفلسفة العنصرية التي أسسها تشارلز داروين في كتابه أصل الإنسان، والذي حاول فيه البرهنة على وجود تمايز حقيقي بين البشر، والنتيجة المتحصلة من هذا التمايز العرقي؛ هو منح العرق المتحضر الحق في القضاء على العرق الهمجي، ضمن قانون البقاء للأصلح والانتقاء الطبيعي، يقول داروين: "في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة، سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم". ولهذا النمط من التفكير نجد عالم التاريخ الأمريكي توماس ناب من جامعة لويال يقول: "كان الناس ينتظرون الحرب قبل عام 1914م بمنتهى الشغف، وكانوا يتمنون قيام الحرب، وكان الدافع لسيطرة هذا الفرح عليهم هو سيطرة الداروينية الاجتماعية على الناس في تلك الفترة حيث طُبقت في مدارس أوربـا، فهي ترى الحرب دافعـا للرقي للأقوى ودافع للنشاط" (كهنة الإلحاد الجديد، ص 159)
وفي المحصلة أن السلوكيات المتطرفة والعدائية تعبر عن شخصية الإنسان المتطرفة، والدين غير مسؤول عن السلوك الذي لم يأمر به، حتى لو تحول هذا السلوك لفعل جماعي تحت مظلة الدين، وبالتالي إن جاز الدفاع عن الدين بوصفه قيم سامية وأخلاق نبيلة، لا يجوز الدفاع عن السلوك اللاأخلاقي مهما تستر بستار الدين، فالإسلام يؤسس لاجتماع إنساني يقوم على التعارف والتعاون والتكامل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، ويقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، بل الإسلام ارتقي بالإنسان إلى مستوى حرم عليه السخرية والعنصرية والتنابز بالألقاب ناهيك عن القتل والاعتداء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وغير ذلك من التعليمات، أما شرعية القتال في الإسلام فقد جعلها محصورة ضمن حدود واضحة ومنضبطة وقد اشرنا لها في اجابات سابقة.