ما هي هويتي؟ الانتماء للحضارة المادية أم الحضارة الدينية؟

آية الله السيد منير الخباز
زيارات:749
مشاركة
A+ A A-
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]

 

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول هذا موضوع «ما هي هويتي؟»، كل إنسان منا يطرح هذا السؤال، ما هي هويتي؟ هل هويتي الانتماء للحضارة المادية أم هويتي الانتماء للحضارة الإسلامية؟

ومن أجل أن نشبع هذا الموضوع نتكلم في محاور ثلاثة:

تعريف الهوية وأقسامها.
بيان الفوارق بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية.
بيان الهوية المثلى التي يفتخر بها الإنسان.

المحور الأول: في تعريف الهوية وأقسامها.

تعريف الهوية:

الهوية مصطلح يتردد في علم الاجتماع السياسي، وفي علم التاريخ، وفي علم النفس، وإن اختلفت التعريفات لاختلاف الزوايا المنظور إليها في التعريف، وهنا نذكر أربع تعريفات للهوية:

التعريف الأول: التعريف الفلسفي

في موسوعة ستانفورد، تعرف الهوية في الجانب الفلسفي بأنها ما يكون به الشيء شيئاً، كون الكائن الحي إنسان هي هويته، هويته أنه إنسان، كون هذا المائع ماء هي هويته، إذن هوية هذا المائع أنه ماء. ما يكون به الشيء شيئاً فهو هويته.

وبعبارة أخرى العنصر الثابت وراء العنصر المتغير، كل مخلوق له عنصر ثابت وعنصر متغير، هويته هي العنصر الثابت في حقيقته، مثلاً الإنسان يمر بعدة متغيرات من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، من جهل إلى علم، قد تتغير آراؤه، قد تتغير مناهجه. الإنسان معرض للتغير لكن هناك عنصر ثابت في شخصيته وراء المتغيرات كلها، ذلك العنصر الثابت يعبر عنه بكلمة «أنا»، الإنسان منذ طفولته يقول «أنا»، في شبابه يقول «أنا»، هناك عنصر ثابت يسمى «أنا» هو هوية هذا الإنسان، مهما تغيرت صورته وأفكاره ومواقفه فهو أنا، الأنا هي هويته.

التعريف الثاني: التعريف الاجتماعي.

في علم الاجتماع المعاصر تعرف الهوية بأنها نمط الصفات التي تظهر على سلوك الإنسان في الظروف المختلفة، إذا أردت أن تجرب إنسان عاشره في الظروف المختلفة، لا تستطيع أن تحكم على إنسان من ظرف واحد، حتى تحكم على إنسان جربه في ظروف مختلفة، نمط الصفات التي تظهر في الظروف المختلفة هو هوية الإنسان.

تجد إنسان كريم مهما اختلفت الظروف إذن هويته الكرم، تجد إنسان مزاجي عصبي في ظروف مختلفة إذن هذه هي هويته، تجد إنساناً وديعاً مسالماً مهما اختلفت الظروف فهي هويته، الهوية هي نمط الصفات التي تظهر على الإنسان مهما تغيرت الظروف.

التعريف الثالث: التعريف الاجتماعي.

ينقل الدكتور يوسف نصر عن معجم لا لاند الفرنسي بأنه يعرّف الهوية بالانتقال من الهوية الفردية إلى الهوية الاجتماعية، كل إنسان عنده هويتان هوية فردية وهوية اجتماعية، الهوية الفردية هي التي يكتسبها الإنسان من الأسرة، يتحدد مزاجه، وسماته الوراثية، وتجاربه التاريخية مع الأسرة، هذا الإنسان يعيش منذ أن يخرج من بطن أمه إلى أن تبدأ مرحلة المراهقة، إلى أن يصل إلى عمر اثني عشر سنة، في هذه السنوات تتحدد هويته الفردية، ما هو مزاجه، ما هي السمات الوراثية التي انعكست عليه، ما هي التجارب في مرحلة الطفولة التي أثرت في شخصيته، المجموع من المزاج والسمات الوراثية والتجارب من عالم الطفولة يحدد هويته الفردية، وبعد أن يبلغ اثني عشر سنة يبدأ بالاختلاط بالمجتمع فيحدد مواقفه وأراءه، يعين أصدقاءه، عندها ينتقل من الهوية الفردية إلى الهوية الاجتماعية، أسلوب تكيفه مع المحيط الجديد محيط المراهقة، محيط الأصدقاء، محيط التحرر من الأسرة، أسلوب التكيف مع هذا المحيط الجديد هو هويته الاجتماعية.

التعريف الرابع: التعريف الديني.

كيف يعرّف القرآن الكريم الهوية؟ ما هي الهوية الحقيقية الطبيعية بنظر القرآن الكريم؟ يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8» قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا «9» وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «10»﴾ [الشمس: 7 - 10] هناك فرق بين الروح والنفس، الروح هي التي قال عنها تبارك وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]

الروح هي النفخة الإلهية التي تمد الجسم بالحياة، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]

الروح هي نفخة الحياة التي تمد المادة بالحركة والنشاط، النطفة المنوية بمجرد أن تعلق بجدار الرحم تتصل بالروح، الروح خارج البدن تمد هذه المادة المنوية بالحركة فتبدأ المادة المنوية تتحرك نتيجة اتصالها بالروح، كما يتصل المصباح الكهربائي بالطاقة فينتشر الضوء، أيضاً المادة المنوية تتصل بالروح والروح تمدها بالنشاط والحركة، تبدأ المادة المنوية بالتحرك ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14»﴾ [المؤمنون: 12 - 14] نتيجة الاتصال بالروح تتحرك العلقة فتتكون النفس، النفس نتيجة حركة المادة، النفس نتيجة الحياة التي بثتها الروح في المادة، إذن النفس نتيجة، والروح مبدأ ومصدر.

هذه النفس التي تكونت لها أربعة أقسام وذكرناها في الليلة السابقة، أولها النفس الملهمة ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8»﴾[الشمس: 7 - 8] هذه النفس الملهمة هي هوية الإنسان، ميزة الإنسان على غيره أنه صاحب نفس ملهمة، أنتم تعلمون أن البشر غير الإنسان، البشر سبقوا الإنسان، الإنسان بشر وزيادة. قبل أن يولد الإنسان على الأرض كان هناك بشر، هذا البشر يعبر عنه ب إنسان نياندرتال «Neanderthal» وهو البشر الذي عاش على الأرض قبل الإنسان، صورته صورة الإنسان، جسمه جسم الإنسان، حركته حركة الإنسان ولكنه ما كان يمتلك هذه النفس الملهمة، ما كان يمتلك العقل القادر على التفكير والإبداع والتحليل، ما كان يمتلك القدرة العقلية التي يمتلكها الإنسان، أول إنسان هو آدم، ولكنه ليس أول البشر، آدم هو أول بشر يمتلك القدرة العقلية ويمتلك القدرة على اختراع اللغة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30]

﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة: 31] آدم مخلوق آخر عنده القدرة على التعلم، قدرة على التفكير، قدرة على النطق.

إذن آدم هو أول إنسان، والهوية الحقيقية للإنسان هي النفس الملهمة التي تميز بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، وأثرها القدرة على التفكير قال تبارك وتعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ «18»﴾ [الزمر: 17 - 18]

أقسام الهوية:

هناك هوية فردية، وهناك هوية اجتماعية.

الهوية الفردية: سبق أن حددناها في التعريفات الأربعة.

وكما أن للفرد هوية للمجتمع أيضاً هوية، ما هي هوية المجتمع؟

يقول الدكتور ماركسون في علم النفس المعرفي: الهوية الاجتماعية هي السمات المشتركة التي توحد أبناء المجتمع. العراقيون لهم أعراف خاصة توحدهم، اللبنانيون لهم أعراف خاصة توحدهم، كل بلد وكل مجتمع له أعراف وتقاليد ومراسم خاصة في الفرح والحزن. هذه المراسم وهذه الأعراف هي سمات مشتركة يعبر عنها بالهوية الاجتماعية، توحد الناس على عرف معين وعلى مراسيم معينة.

الهوية الاجتماعية لها منطلقات أربعة:

المنطلق الأول: الأرض، التربة، مسقط رأسك منطلق لهويتك، مولدك منطلق لهويتك، وهذا ما يعبَّر عنه بالهوية الوطنية، الهوية الوطنية هي التربة التي ولدت عليها وعشت، الإنسان بطبعه يحن إلى التربة التي عاش فيها طفولته، الرسول محمد 

 بعد أن هاجر إلى المدينة جاء جمع من أهل مكة يزورون المدينة، فسألهم الرسول الأعظم: كيف تركتم مكة؟ قالوا: تركناها وقد نبت الإثمد في جنباتها. فذرفت عينا رسول الله 

 وقال: لو لا أن أهلها أخرجوني منها لما خرجت منها.

الإنسان يحن إلى التربة التي تحدد هويته الوطنية

وأول أرض مس جلدي ترابها.

 

بلاد  بها  نيطت علي تمائمي

المنطلق الثاني: اللغة، وتسمى الهوية القومية، اللغة العربية تجمع أعراق ومجتمعات إذن اللغة العربية هوية، اللغة الإنجليزية أعراق ومجتمعات إذن الهوية هي اللغة الإنجليزية، اللغة هوية بمعنى الهوية القومية، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]

المنطلق الثالث: التراث، ويعبر عنه بالهوية الحضارية، العراقيون يفتخرون بتراث بابل، والمصريون يفتخرون بتراث الفراعنة. التراث نوع من الهوية الاجتماعية يعبر عنه بالهوية الحضارية.

المنطلق الرابع: الدين، الدين يجمع الملايين التي تختلف في الأعراق والألوان واللغات، الدين المسيحي، الدين الإسلامي، الدين اليهودي. هذا الدين هو هوية لهذه المجتمعات التي يجمعها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102] ثابتون على هويتكم الدينية ألا وهو هوية الإسلام.

المحور الثاني: في بيان الفوارق بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية.

هل يحتاج الإنسان إلى هوية؟

نعم هناك حاجة ضرورية للهوية، لا نقصد بالهوية الرسمية بل نقصد الهوية الحقيقية، هناك حاجات ثلاث وقد أشرنا إليها في الليالي الماضية:

الحاجة الأولى: حاجته للتعبير عن الذات، حاجة الإنسان إلى الهوية هي حاجته إلى الانتماء الاجتماعي، حاجة الإنسان إلى الهوية هي حاجته للتقدير الاجتماعي، الطفل الذي يعيش في الأسرة يحتاج أن تعطيه الأسرة ثلاث حاجات في السبع السنوات الأولى، اترك الطفل يعبر عن نفسه ويطلق أفكاره ومشاعره، يتكلم، يتحدث، اعط الطفل فرصة أن يتكلم ويعبر عن ذاته لأن هذا التعبير في الذات يساهم في تكوين شخصيته وثقته بنفسه وتحقيق ذاته وتطوير ملكاته، الطفل يحتاج أن يعبر عن ذاته فإذا لم يعط هذه الفرصة تحول إلى شخصية انطوائية انعزالية.

الحاجة الثانية: حاجة الطفل إلى الانتماء، يحتاج منك أن تغذي في الطفل شعوره بالانتماء، أن عنده أسرة، عنده كنف، أنت ابن فلان، أنت ابن العائلة، أنت ابن المجتمع الإسلامي، أنت ابن اللغة العربية. هذه الانتماءات تخلق عند الطفل شعور بالحماية والأمن والقوة، الطفل يحتاج أن يشعر بالانتماء، أنه ينتمي إلى أسرة، ينتمي إلى لغة، ينتمي إلى دين، ينتمي إلى مجتمع، لا أنه يعيش في مجتمع مبعثر لا هوية له ولا انتماء له، حاول أن تغذي طفلك بمجموعة من الانتماءات، حاجة الإنسان إلى الشعور بالانتماء حاجة ضرورية لو لم يعطَ هذه الحاجة يتحول إلى شخصية قلقة مترددة، ليست واثقة بذاتها لأنه ليس لديه انتماءات وارتباطات.

الحاجة الثالثة: الحاجة إلى التقدير، عندما يقوم الطفل بإبداعات قدّره، اعطه جائزة إذا قام بعمل، عوّد طفلك على أن يبدع وينتج، فإذا أنتج قدم له الجائزة، الإنسان يحتاج إلى التقدير، كل إنسان يقدم عطاء، يقدم اختراع، يقدم نتاج يحتاج إلى التقدير الاجتماعي، لو لم يعطَ التقدير الاجتماعي لتحول إلى شخصية عدوانية، شخصية نقمة على المجتمع لأن المجتمع لم يحترمه ولم يقدره.

من هنا جئنا إلى النقطة الفاصلة، كثير من شبابنا وشاباتنا يقولون أنا لا أنتمي إلى الإسلام، لا أنتمي إلى البلاد العربية، لأنها ما قدمت لي شيء، أنا أنتمي إلى الحضارة التي قدمت، أنتمي إلى الحضارة التي أعطت، أنتمي إلى الحضارة الغربية، أنتمي إلى الحضارة المادية لأن الحضارة المادية قدمت لي حاجات، الحضارة المادية أشبعتني بالشعور بالانتماء لأنها قدمت لي الأمن المعيشي، الحضارة المادية قدمت لي من الحذاء إلى السيارة إلى المنزل، قدمت لي كل هذه القضايا المعيشية المادية، إذن الحضارة الغربية المادية أشبعتني وأعطتني الشعور بالانتماء، لأنها قدمت لي الأمن المعيشي، لأنها قدمت لي الأمن المادي، أنا أعيش حياة معيشية كاملة.

الحضارة المادية جعلتني حراً أعبر عن ذاتي كما أريد، فإذن أعطتني وأشبعت عندي الحاجة في التعبير عن الذات، الحضارة المادية قدرت جهودي، دراستي الجامعية، منتجاتي، مشاريعي، الحضارة الغربية المادية قدرت هذه الجهود، منحتني كل الامتيازات، بالنتيجة كثير من أبنائنا وإخواننا يقولون انتمائنا للحضارة المادية لأنها أشبعت عندنا حاجاتنا الأساسية، حاجة التعبير عن الذات، حاجة الانتماء الاجتماعي، حاجة التقدير الاجتماعي، فلماذا ننتمي للحضارة الإسلامية؟ ماذا قدمت لنا حتى ننتمي إليها؟

هناك فرق بين الإسلام والمسلمين، وفي هذا المقام أنصح بقراءة كتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» المؤلف أبو الحسن علي الندوي من الهند، وهو كتاب عظيم يقرأ الحضارة المادية في كل صورها، إذا لم يلتفت المسلمون لمعالم الحضارة الإسلامية بمعالم الحضارة الإلهية السماوية فهذا لا يعني أن الحضارة الإسلامية أخفقت وأنها لم تقدم النتاج المطلوب.

هناك فوارق أساسية بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية على المستوى الفكري، على المستوى السلوكي، وعلى المستوى الشعاري والطقوسي.

الفارق الأول: على المستوى الفكري.

أما على المستوى الفكري فالفرق بين الحضارتين عندنا أبعاد ثلاثة:

البعد الأول: هل المحورية في عالم الوجود للإنسان أو للسماء؟ هل المركزية في إدارة الحياة للإنسان أو للسماء؟

الحضارة المادية تقول أن المركزية والمحورية للإنسان، لو قرأت لائحة حقوق الإنسان التي صدرت من الأمم المتحدة عام 1948م لرأيت أنها تقرر أن المحورية للإنسان ومركزيته، ولا يهم شيء آخر.

بينما الحضارة الإسلامية ترى أن المحورية للسماء، إذا قرأت القرآن لا يوجد سورة لا تركز على الله، وعلى عبادة الله، وعلى الرجوع إلى الله، لأن المحورية لله، المحورية للسماء، من هنا تقول الحضارة الإسلامية: الإنسان مجرد وكيل وليس أصيل، الإنسان في هذا الكون مجرد وكيل وخليفة وليس أصيل، الأصالة لله تبارك وتعالى، وبما أن الإنسان مجرد وكيل وخليفة وليس أصيل إذن يجب أن يكون العقل المدبر للحياة الاجتماعية هو العقل اللا محدود وهو الله، وليس العقل المحدود وهو الإنسان.

بما أن المحورية لله، للسماء إذن العقل المدبر لإدارة الحياة هو السماء وليس الإنسان المحدود الذي يعيش على الأرض، الإنسان مجرد وكيل، خليفة، والخليفة يعمل بنظام المستخلف، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]

الإنسان يقول القرآن الكريم عنه: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد: 7] أنت مجرد خليفة ولست رئيس ولست أصيل، لذلك لما نرجع إلى لائحة حقوق الإنسان نجد أن هناك حقوق سماوية لم تذكر في لائحة حقوق الإنسان الصادرة من الأمم المتحدة، مثلاً حق الجنين في الحياة.

الله يرى أن الجنين منذ أول يوم هو إنسان، لا يجوز إجهاضه والقضاء عليه، إجهاض الجنين هو قضاء على نفس إنسانية، حق الجنين في الحياة هو حق أقرته السماء ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: 12]، الإنسان له حق الحياة وهو في رحم أمه، وهو جنين، منذ أول يوم، حق لا تذكره الحضارة المادية ولكن تنص عليه الحضارة الإسلامية، الإنسان له حق الحياة وإن كان نطفة، وإن كان جنيناً، وإن كان ابن أيام.

الحق الآخر حق الإنسان في سمعته، الإسلام يرفض أن تساء سمعة الإنسان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12] الإنسان له حق في سمعته، له حق في كرامته، له حق في تاريخه، لا يجوز الإساءة لسمعته، هذا حق من حقوقه.

إذن بالنتيجة هناك اختلاف في لائحة الحقوق على المستوى الفكري بين الحضارة المادية وبين الحضارة الإسلامية.

البعد الثاني: الحرية.

الحرية بنظر الحضارة المادية حق مفتوح، أنت حر ما لم تزاحم حرية الآخرين، أنت حر ما لم تضر بحرية الآخرين، أنت حر، هل كذا الحضارة الإسلامية أم لا؟ هل الحضارة الإسلامية تعطيك حقاً مفتوحاً تسميه الحرية بلا حدود؟

الحرية في الحضارة الإسلامية مؤطرة بإطارين:

الإطار الأول: الحرية في إطار الكرامة، الحق الأول للإنسان هو الكرامة وليس الحرية، لاحظوا القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70] كرامة تشريعية، كرامة تكوينية، الحق الأول هو الكرامة وليس الحرية، يجب أن تكون الحرية في إطار الكرامة، وليست فوق الكرامة، هل الإنسان حر في أن يجعل نفسه كلباً؟! هل الإنسان حر في أن يصغر نفسه ويجعلها حيواناً؟ أنت لست حراً في أن تدنس كرامتك وتدوسها، الحرية في إطار الكرامة وليست فوق الكرامة، ورد عن الرسول محمد 

: ”إن الله فوض إلى المؤمن كل شيء ولم يفوض إليه أن يذل نفسه.“

الحرية في إطار الكرامة، لست حراً في أن تدوس كرامتك، لست حراً في أن تحول نفسك إلى حيوان، لست حراً في أن تتصرف في جسدك بما يسقط كرامتك وسمعتك.

الإطار الثاني: الحرية وسيلة وليست غاية، ولأن الحرية وسيلة وليست غاية بنظر الحضارة الإسلامية لذلك لابد أن تكون الحرية في إطار القيم وفي إطار المثل، مثلاً في الحضارة المادية إذا بلغ الإنسان ثمانية عشر سنة من حقه أن يتحرر من الأسرة، وينعزل عنها ويلغي كل ارتباطاته مع الأسرة، ولكن في الحضارة الإسلامية ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا «23» وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا «24»﴾ [الإسراء: 23 - 24]

ويقول القرآن: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان: 15]

ويقول القرآن: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ [لقمان: 14]

في الحضارة الإسلامية تبقى الأسرة سنداً لك ويبقى للوالدين حق عليك، حريتك في إطار هذه القيم الاجتماعية ومنها قيمة بر الوالدين واحترامهم.

البعد الثالث: هناك أسئلة فطرية ترد على كل إنسان، من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ وما هو طريقي؟

يقول إيليا أبو ماضي:

 

 

جِئتُ   لا   أَعلَمُ   مِن  أَين  وَلَكِنّي  أَتَيتُ

 

 

وَلَقَد   أَبصَرتُ   قُدّامي   طَريقاً   فَمَشَيتُ

 

 

وَسَأَبقى  ماشِياً  إِن  شِئتُ  هَذا  أَم  أَبَيتُ

 

 

كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري

 

 

أَجَديدٌ   أَم   قَديمٌ   أَنا   في  هَذا  الوُجود

 

 

هَل   أَن   أَصعَدُ   أَم  أَهبِطُ  فيه  وَأَغور

 

 

أَأَنا  السائِرُ  في  الدَربِ  أَمِ  الدَربُ  يَسير

 

 

أَم  كِلانا  واقِف وَالدَهرِ يَجري لَستُ أَدري.

هذه أسئلة فطرية طبيعية في الإنسان، الحضارة المادية لا شغل لها في هذه الأسئلة، المهم أن تصبح آلة كادحة لخدمة التقدم التكنولوجي، الحضارة المادية ليست معنية بالإجابة عن هذه الأسئلة، أما الحضارة الإسلامية فتراها أسئلة أساسية تعتمد عليها حياتك وفكرك ومسيرتك، ورد عن الرسول محمد 

: ”رحم الله امرأً عرف من أين وفي أين وإلى أين.“

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، هذا هو الفرق بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية في المستوى الفكري.

الفارق الثاني: على المستوى السلوكي.

هنا بعدان تختلف فيه الحضارة المادية عن الحضارة الإسلامية:

البعد الأول: العنصر الاجتماعي.

الإسلام يدعم الحضارة لكن الحضارة القائمة على الأخوة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، الحضارة القائمة على التعاون والوحدة ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2] ويقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]

الإسلام يدعم الحضارة التكنولوجية ولكن يقول يجب أن تكون الأرضية لهذه الحضارة أسرة متلاحمة مترابطة تجسد الأخوة والوحدة الإنسانية لا أنها مجتمع متبعثر مفكك، المجتمع في نظر الإسلام كله أسرة واحدة، لذلك يوصي بالجيران، يوصي بالأرحام ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]

﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22]

هذا بُعد سلوكي وفرق بين الحضارتين، الحضارة المادية مجتمع مفكك، الحضارة الإسلامية مجتمع واحد تجمعه الأرحام والجيران والعلاقات الأسرية.

البعد الثاني: هل من حق الإنسان أن يستثمر ثروته حتى مع ظلم الآخرين؟

الحضارة الإسلامية تقول لا يمكن ذلك، يكون ظلم للآخرين من خلال الربا، بينما الحضارة الرأسمالية قائمة على البنك الربوي، الحضارة الإسلامية تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «278» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ «279»﴾ [البقرة: 278 - 279]

ليس من حقك أن تستثمر أموالك في الربا لأن الربا ظلم، تمنع منه الحضارة الإسلامية وتفتح أبوابه الحضارة الرأسمالية، هل من حق المسلم أن يستثمر تجارته في ترويج المخدرات؟

الحضارة الإسلامية تمنع من ذلك وإن فتحت الأبواب الحضارة المادية، فتح الأبواب لاستثمار الأموال في تجارة المخدرات يعني قتل للطاقة البشرية، أعظم طاقة لدينا هي الطاقة البشرية، لدينا طاقة المعادن، طاقة الزراعة، لكن أهم طاقة يعتمد عليها الاقتصاد هي الإنسان، الإنسان هو أهم طاقة وأهم ثروة، نشر المخدرات وترويجها قتل للطاقة الإنسانية، نشر للفساد، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ «204» وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ «205»﴾ [البقرة: 204 - 205]

إذن هذا فرق بين الحضارتين على المستوى السلوكي.

الفارق الثالث: على المستوى الشعاري.

للحضارة المادية شعارات ورموز وللحضارة الإسلامية شعارات ورموز أيضاً، من شعار الحضارة الإسلامية المسجد، الحجاب، الحجاب رمز للحضارة الإسلامية، الفتاة التي تحافظ على حجابها تبرز انتمائها للحضارة الإسلامية، الفتاة التي تحافظ على حجابها في الجامعة، في العمل، في الأسواق تبرز انتمائها لهذه الحضارة الإسلامية العريقة، إذن الحجاب رمز وشعار للحضارة الإسلامية كما أن منارة المسجد شعار ورمز للحضارة الإسلامية.

إذن الحضارة الإسلامية ومعالم الحضارة الإسلامية على المستوى الفكري، وعلى المستوى السلوكي، وعلى المستوى الشعاري إذا قارنت بينها وبين الحضارة المادية لوجدت أنها تفوقها وتتميز عليها، فحدد انتماءك واعتزازك، قل هويتي هي الانتماء للحضارة الإسلامية بمعالمها المشرقة التي قال عنها القرآن الكريم: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102]

المحور الثالث: في بيان الهوية المثلى التي يفتخر بها الإنسان.

الهوية الحقيقية المثلى هي التي تجمع ثلاث خصال:

أولاً: توحد الناس في المثل والقيم.
ثانيا: تعطي الناس حرارة التفاعل مع المثل والقيم، لا تقدمها مجرد تقديم فكري بل تقدم المثل والقيم تقديماً تربوياً يعطينا حرارة وتفاعلاً معها.
ثالثاً: أنها شرف في الدنيا وشرف في الآخرة.

وهذه الهوية التي تجمع الخصال الثلاث هي الهوية الحسينية، الحسين 

 هويتنا، الحسين 

 رمزنا وشعارنا، الحسين هوية تجمع الخصال الثلاث، هوية تغذينا بالقيم والمثل، قيمة العزة ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]

قيمة الكرامة والإباء «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد»

قيمة الإصلاح «ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»

تعطينا قيمة شرف الدنيا، وشرف الآخرة «اللهم إني أسألك أن أكون وجيهاً بالحسين في الدنيا والآخرة»

إذن الهوية الحسينية هي التي تجمعنا، هي التي تعطينا الحرارة والتفاعل الشديد العميق مع الحسين، مع مبادئ الحسين، مع قيم الحسين، مع مصيبة الحسين، مع رزية الحسين 

، لذلك ورد في الحديث الشريف عن الرضا 

: إن لجدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً.

حرارة مصابه، حرارة رزيته، حرارة مظلوميته، الحسين هويتنا، كربلاء هويتنا، وخير من يمثل هذه الهوية في هذه الأيام أبي الفضل العباس قمر بني هاشم صلوات الله وسلامه عليه.

مواضيع مختارة