من يحاسبنا يوم القيامة؟!

الشيخ جعفر السبحاني
زيارات:11517
مشاركة
A+ A A-

من الأسماء التي أطلقها اللّه سبحانه على يوم القيامة «يوم الحساب».( [1])، أي اليوم الذي يوقف فيه اللّه سبحانه عباده ليحاسبهم على ما اقترفوه من أعمال في الحياة الدنيا، وهذا الأمر بدرجة من الوضوح والتسليم به ممّا جعل الإمام علياً (عليه السلام) يعتبر التفريق بين الحياة الدنيا و الآخرة قائماً على هذا الأساس، حيث اعتبر الأُولى دار العمل والثانية دار الحساب، فقال (عليه السلام) :«واليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل».( [2])

كما وردت في هذا المجال روايات كثيرة بالإضافة إلى الآيات، وقد جاءت في تلك الآيات والروايات سلسلة من العناوين الجديرة بالبحث والدراسة، لما فيها من المعاني والمفاهيم الشامخة، ولاشتمالها على البحوث المهمة التي يمكن أن تكون مفتاحاً لحلّ الكثير من الإشكالات والشبهات التي قد تثار في هذا المجال. ومن هذه التساؤلات التي تثار هنا:

1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال؟

2. من المحاسب؟

وسنتناول هذين التساؤلين واحداً تلو الآخر:

1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال؟

إنّ حقيقة الحساب هي: الاطّلاع والوقوف على بعض المجهولات من خلال الاستعانة بالمعلومات المسبقة، وبعبارة أُخرى: انّ حقيقة الحساب ليس إلاّ حلّ المجهولات عن طريق المعلومات.

وعلى هذا الأساس تظهر هذه الحالة على حياة الإنسان بصورة جلية باعتبار كونها أمراً واقعياً لا ينفك عن حياته، لأنّ الإنسان دائماً يعيش حالة من القلق على مستقبله ومصيره ويحاول معرفة ثمار ونتائج سعيه وجهده ومقتنياته المادية والمعنوية، ولذلك يسلك طريق الحساب والمحاسبة.

ومن هنا نعلم أنّ واقعية المحاسبة والحساب الرائجة والمتداولة بين أفراد النوع الإنساني تحمل في طياتها نوعاً من الجهل وتخفي في أعماقها نوعاً من عدم المعرفة، وبما أنّ اللّه سبحانه وتعالى منزّه عن كلّ جهل، وانّ السرّ والعلن والخفاء والظهور بالنسبة إليه على حدّ سواء، فما هي الحاجة إذاً للحساب والمحاسبة ياترى، إذ بإمكانه سبحانه أن يعمل بعلمه المطلق ويثيب المحسن ويعاقب المسيء على أساس من الحكمة والعدل الذي يعيّنه هو سبحانه، وحينئذ تكون عملية إقامة محكمة للعدل والحساب والسؤال لغواً لا طائل وراءه، وبالنتيجة فإنّ هذا العمل لا يلائم الحكمة الإلهية ولا يتطابق معها؟ والجواب عن هذه الشبهة هو: ليس الهدف من إقامة الحساب والمحاكمة يوم القيامة ( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ )( [3]) هو انّ اللّه سبحانه يطّلع على أعمال عباده الحسنة منها والسيّئة واستحقاق الثواب أو العقاب، من خلال طرحه سبحانه سلسلة من الأسئلة على عباده، لأنّ اللّه سبحانه ـ و كما جاء في متن السؤال ـ يعلم بكلّ شيء، ولذلك فهو غني عن إقامة المحكمة لتحقيق ذلك الغرض، بل أنّ المقصود حقيقة من وراء إقامة محكمة الحساب شيء آخر، وهو: إراءة عدله وجوده وحكمته سبحانه عند المحاسبة، وليتّضح ذلك للجميع بنحو لا يرتاب فيه أحد حتى أُولئك الذين كانوا في شكّ من ذلك في الحياة الدنيا يتّضح لهم عدله ورحمته سبحانه بنحو لم يبق لهم مجال للاعتذار أو الاعتراض.

ومن هنا يمكن القول: إنّ مسألة «الحساب» في العالم الآخر ليست بمنزلة الامتحان والابتلاء والاختبار في الحياة الدنيا والتي تجري بين العباد لكسب المعرفة والتعرّف على جوهر الأفراد وحقائقهم، أو معرفة أُمور أُخرى، بل أنّ الامتحان الإلهي له علله وأهدافه الخاصة التي منها إقامة الحجة على العباد.( [4])

2. مَن المحاسب؟

دلّت الأُصول التوحيدية على أنّ جميع العلل والأسباب تنتهي إلى خالق واحد ومدبّر فرد، هو مبدأ جميع الموجودات، وهو مسبب الأسباب كلّها.

وهنا يقع الكلام  في البحث التالي: من المعلوم أنّ اللّه سبحانه وتعالى قد أقام النظام الدنيوي على أساس قانون العلّية والمعلولية، وانّه  منح بعض مخلوقاته صفة المدّبرية فقال سبحانه: ( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً )( [5]) ، فهل ياترى أنّ عالم الآخرة يقوم على أساس قانون العلّية والمعلولية أيضاً بنحو يمنح اللّه سبحانه بعض مخلوقاته صفة المحاسب ويوكل إليهم محاسبة العباد؟ أو أنّه سبحانه هو الذي يتكفّل بهذا الأمر الخطير والحسّاس؟

إنّ ظاهر، بل صريح بعض الآيات، انّ اللّه سبحانه هو الذي يتكفّل بعملية المحاسبة وهو المحاسب يوم القيامة، قال سبحانه:

( ...فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ) .( [6])

وقال أيضاً:

( إِنَّ  إِلَيْنا إِيابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) .( [7])

وفي آية أُخرى:

( إنْ حِسابُهُمْ إِلاّعَلى رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) .( [8])

ويقول عزّ من قائل:

( ...وَكَفى بِاللّهِ حَسيباً ) .( [9])

هذه الآيات صريحة في أنّ المحاسب هو اللّه سبحانه، ولكنّ هناك طائفة أُخرى من الآيات الكريمة تشير إلى أنّ المحاسب في ذلك العالم هو الإنسان نفسه حيث هو يقوم بمحاسبة نفسه بنفسه من خلال قراءة كتابه بنفسه وحينئذ لا حاجة إلى محاسب آخر، يقول سبحانه: ( وَكُلَّ إِنْسان أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَة كِتاباً يَلْقيهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَومَ عَلَيْكَ حَسيباً ) .( [10])

ولكن الإمعان في الأمر  يظهر لنا أنّ هذه الآيات لا تنافي  الآيات الآنفة الذكر، وذلك لأنّ مفاد هذه الآية انّه تتجلّى في العالم الآخر أمام الإنسان أعماله وأفعاله التي اقترفها بصورة كتاب يبرز ويظهر أمام نظر الإنسان، بنحو يرى الإنسان واقع أفعاله التي قام بها في الحياة الدنيا بصورة لا يبقى فيها مجال لأيّ إنكار أو تخلّص أو تنصّل عن المسؤولية، ولذلك يصل الأمر بالإنسان إلى درجة يشهد هو على نفسه وعلى أعماله.

وبعبارة أُخرى: أنّ الآيات السابقة تشير إلى حقيقة جلية وهي أنّها تنفي وجود أيّ محاسب في ذلك العالم إلاّ اللّه سبحانه وتعالى وحده، وأمّا هذه الآية  فإنّها تشير إلى كيفية المحاسبة التي يقوم بها اللّه سبحانه وتعالى، وانّها تكون بالنحو الذي تعرض أعمال العباد وأفعالهم أمام كلّ واحد منهم بحيث يطّلع كلّ إنسان على ما بدر منه وما صدر من أفعال، وليحكم هو بنفسه على نفسه.

حكم الروايات في هذه المسألة

لقد حظيت هذه المسألة باهتمام الرسول الأكرم وأهل بيته عليه و(عليهم السلام)   فقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال، فطائفة من هذه الروايات تؤيّد الرأي الأوّل الذي ذهبت إليه الآيات الكريمة، وأنّ اللّه سبحانه هو المحاسب يوم القيامة، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في حقّ عائشة وخصومتها معه: «وأمّا فلانة فأدركها رأي (رائحة) النساء، وضِغْنٌ غلا في صدرها كمِرجَلِ القَيْنِ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ، لم تفعل، ولها بعد حرمتها الأُولى، والحساب على اللّه تعالى».( [11])

ولكن يظهر من بعض الروايات الأُخرى أنّ اللّه سبحانه قد أوكل أمر المحاسبة إلى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) .

روى عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق(عليه السلام) ، أنّه قال:

«إذا كان يوم القيامة وكّلنا اللّه بحساب شيعتنا».( [12])

وقد ورد في تفسير قوله تعالى:  ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) أنّ الإمام الصادق(عليه السلام) قال:

«إذا كان يوم القيامة جعل اللّه حساب شيعتنا إلينا».( [13])

وجاء في الزيارة الجامعة الكبيرة:

«وَإِيابُ الْخَلْقِ إِلَيْكُمْ وَحِسابُهُمْ عَلَيْكُمْ»  .

ومن  الملاحظ أنّ مضمون الزيارة الجامعة أوسع من مدلول الروايتين السابقتين، ولا تنافي بين ذلك وبين حصر الحساب باللّه سبحانه وتعالى، إذ ممّا لا ريب فيه أنّ قيام الأئمّة  بالمحاسبة ينطلق في واقعه من امتثال الأمر الإلهي، وانّ اللّه سبحانه هو الذي أوكل إليهم القيام بهذا الأمر كما أوكل سبحانه إلى بعض مخلوقاته تدبير بعض الأُمور في الحياة الدنيا، وهذا من الأُمور المسلّمة التي نطق بها القرآن الكريم.

وعلى كلّ حال فهناك روايات مستفيضة تؤكّد المنزلة السامية والمقام الشامخ لأهل البيت(عليهم السلام) في يوم القيامة، حيث جاء في بعضها أنّهم(عليهم السلام) أصحاب الأعراف، وأصحاب الشفاعة و.... وعلى هذا الأساس من الممكن أن يوكل سبحانه  إلى الأئمّة أمر محاسبة العباد جميعاً  أو محاسبة بعض عباده خاصة. وبما انّ هذه المسائل من الأُمور الخارجة عن إطار حكم العقل فيها إثباتاً أو نفياً، لذلك لابدّمن الالتجاء إلى الوحي وطلب العون منه هنا، فما يثبت من خلال هذا الطريق بصورة قطعية لابدّ من الإذعان له والخضوع أمامه.( [14])


[1] . انظر: إبراهيم:41، وسورة ص: الآيات 6و 26و 53، وسورة غافر: 27.

[2] . نهج البلاغة: الخطبة 42.

[3] . إبراهيم: 41.

[4] . ومن الطبيعي أنّ للامتحان الإلهي أهدافاً أُخرى تذكر في محلها.

[5] . النازعات: 5.

[6] . الرعد: 40.

[7] . الغاشية:25ـ 26.

[8] . الشعراء: 113.

[9] . النساء:6، الأحزاب: 38.

[10] . الإسراء:13ـ 14.

[11] . نهج البلاغة، الخطبة156، ط صبحي الصالح.

[12] . بحار الأنوار:7/ 264.

[13] . بحار الأنوار:7/ 264.

[14] . منشور جاويد:9/280ـ 285.

مواضيع مختارة