من القرآن الكريم.. هذه هي مراحل «خلق الإنسان»

الشيخ جعفر السبحاني
زيارات:5347
مشاركة
A+ A A-

هل الإنسان خلق دفعة واحدة أو أنّ عملية خلق الإنسان مرّت بمراحل؟ وعلى الفرض الثاني ماهي تلك المراحل وكيف تمّت؟

انّ من أُولى البحوث التي تطرح حول الإنسان هي مسألة مراحل خلقه وكيف خلق؟ ومن أيّ شيء خلق؟

ولقد أجاب القرآن الكريم ـ الذي يعتبر أصحّ مصادر الفكر الإسلامي ـ عن تلك الأسئلة وأوضح المسألة بصورة مفصّلة، وانّ المتتبّع لآيات الذكر الحكيم التي تعرّضت للبحث في هذه القضية يدرك جلياً انّ عملية خلق الإنسان قد مرّت بثلاث مراحل، وهي:

المرحلة الأُولى: التراب المتحوّل

1. التراب، 2. الطين، 3. الطين اللازب، 4. صلصال من حمأ مسنون 5. سلالة من طين 6. صلصال كالفخار.

إنّ مجموع هذه الحالات الست المختلفة ترجع في حقيقتها إلى شيء واحد، وإنّ المادة الأساسية في كلّ هذه الحالات هي مادة واحدة، ومن أجل التعرف على متون الآيات التي تتعلّق بهذه الأُمور الستة نكتفي بذكر آية واحدة لكلّ عنوان منها:

1. التراب:

(إنّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُراب ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .([1])

2. الطين:

(الَّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طين) .( [2])

انظر في هذا المجال الآية 2 من سورة الأنعام، والآية 12 من سورة الأعراف، والآية 61 من سورة الإسراء، والآيتين 71و 76 من سورة ص.

3. طين لازب:

(...إنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طين لازِب). ( [3])

4. صلصال من حمأ مسنون:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ صَلْصال مِنْ حَمَإ مَسْنُون). ( [4])

وانظر أيضاً الآيتين 28 و33 من نفس السورة.

5. سلالة من طين:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ سُلالَة مِنْ طين). ( [5])

6.  صلصال كالفخار:

(خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصال كَالفَخّارِ). ( [6])

وفي نفس المضمون الآيات 26، 28و 33 من سورة الحجر، انّ هذه الآيات تشير إلى المادة الأُولى التي خلق منها آدم (عليه السلام) وذريته من بني الإنسان، ومن المسلّم انّ هذه الأُمور الستة ترتبط وبصورة مباشرة بالحالات المادّية لخلق الإنسان الأوّل المتمثّل في أبي البشر آدم (عليه السلام) وانّ القرآن الكريم ينسبها ـ وبنحو ما ـ إلى جميع البشر حيث يقول تعالى:

(خَلَقْناكُمْ مِنْ تُراب) أو (خَلَقْناهُمْ مِنْ طين لازِب).

ولا ريب انّ المادة الأُولى لخلق الإنسان قد مرّت بتغيّرات كيفية تمثّلت بالحالات الستة التي أشارت إليها الآيات السابقة ولم يحدث أبداً أي تغيير جوهري أو انقلاب نوعي في تلك المادة.

ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم ليس من كتب العلوم الطبيعية لكي يبحث في هذه الأُمور بصورة مفصّلة، ولكنّه ولأسباب وأهداف تربوية أشار إلى تلك التحوّلات الستة التي وقعت على المادة الأُولى لخلق الإنسان مذكّراً الإنسان بحقيقة مكوّناته لكيلا يغتر من جهة ولكي يرعوي المتكبّر ويعرف أنّه كيف قد تداركته الرحمة الإلهية ونقلته من حضيض التراب إلى أوج السمو والرفعة.

المرحلة الثانية: مرحلة التصوير

اعتبر القرآن الكريم مرحلة تصوير آدم هي المرحلة الثانية من مراحل خلق الإنسان حيث قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوّرناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْليسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدينَ). ([7])

ولكن لابدّ من بيان المراد من التصوير الذي تتحدّث عنه الآية والذي جاء ذكره بعد الخلق لنعرف ما هي حقيقته؟

إنّ توضيح هذا الأمر يتوقّف على بيان المراد والمقصود من الخلق الوارد في الآية، لأنّ لفظ «الخلق» يطلق تارة ويراد منه الإيجاد، وتارة أُخرى يراد منه التقدير، كما تقول العرب: «خلق الخياط الثوب»، وهذا المعنى الثاني وإن كان صحيحاً في محلّه إلاّ أنّه بالنسبة إلى هذه الآية غير صحيح، لأنّ المراد منه هو الإيجاد والخلق، والشاهد على ذلك انّه قد جاء بعد جملة (خَلَقْناكُمْ) جملة  (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ)، ومن المعلوم أنّ التصوير يناسب الخلق من المادة الأُولى ولا يناسب معنى القياس والتقدير العلمي الذي قد يصدق حتّى مع عدم وجود المادة.

وحينئذ لابدّ من معرفة المراد من التصوير ما هو؟

إنّ مفهوم التصوير هو نفس مفهوم التسوية الذي ورد في آية أُخرى حيث قال تعالى: (وَ إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصال مِنْ حمإ مَسْنُون * فَإذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ). ([8])

المرحلة الثالثة: مرحلة نفخ الروح

المرحلة الثالثة من المراحل التي مرّت بها عملية خلق الإنسان هي عملية نفخ الروح أو النفس في البدن، وفي الحقيقة انّ هذه المرحلة هي أهمّ المراحل، لأنّ من خلال هذه المرحلة امتاز الإنسان عن غيره وجعلت له أفضلية على غيره، لأنّ هذه المرحلة جعلت منه موجوداً مركباً من عدّة أبعاد، فمن جهة هو موجود متعقّل مفكّر يمتلك فكراً وعقلاً يوصله إلى مصاف الملائكة، ومن جهة أُخرى جهّز بمجموعة من الغرائز والميول النفسية التي إن لم تخضع للسيطرة والموازنة والرقابة العقلية فانّها تجمح به لتلقيه في قعر الذلّ والسقوط والانحدار.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المرحلة بقوله سبحانه: (فإذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ).

وبهذا المضمون وردت الآية 72 من سورة ص.

والنكتة الجديرة بالذكر هنا والتي تنفع لرفع التوهّم الذي قد يحصل من خلال ظاهر الآية، وهي: إنّ من الثابت قطعاً أنّ اللّه سبحانه ليس بجسم ولا روح لكي ينفخ في الإنسان منها، وإنّما عبّر عنها بهذا الأُسلوب وأضافها إليه لغرض بيان عظمة الروح الإنسانية كما أضاف سبحانه الكعبة المشرّفة إليه، وقال جلّ شأنه: ( ...أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ للطَّائِفينَ... )( [9]) .( [10])


[1] . آل عمران: 59.

[2] . السجدة: 7.

[3] . الصافات: 11.

[4] . الحجر: 26.

[5] . المؤمنون: 12.

[6] . الرحمن: 14.

[7] . الأعراف: 11.

[8] . الحجر:28ـ 29.

[9] . البقرة: 125.

[10] . منشور جاويد:11/18ـ 24 و ج4/199ـ 203.

مواضيع مختارة