إنّ فكرة المنبر بما تحمله من جنبة دينية قد اقترنت ببداية الدعوة الإسلامية، على يد الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه واله)، الذي كان يقف أثناء حديثه مع الناس، ممّا حدا ببعض المؤمنين من الذين شعروا بتعبه (صلى الله عليه واله) أن يجعلوا له جذعاً من النخل؛ كي يتكئ عليه أثناء حديثه وخطابه بينهم، ثمّ بدأت القضية تتطوّر ـ بعد ذلك ـ إلى أن بُنيت له أعواد وبدأ يجلس على تلك الأعواد ويخطب بالمسلمين في المناسبات الدينية التي يغتنمها (صلى الله عليه واله) لتعليمهم وهدايتهم [1].
[اشترك]
ولهذا نجد أنّ المنبر الديني قد اكتسب ـ نتيجة هذه البداية التأسيسية ـ شيئاً من القدسية والاحترام، وقد بقيت هذه القدسية مستمرة إلى يومنا هذا، وذلك أنّ عموم المسلمين يكنّون الاحترام والتقدير للمنابر الدينية بشكل عام، على الرغم من سعي بعض أعداء الله ـ في المدّة التي أعقبت رحيل النبي(صلى الله عليه واله) ـ إلى سرقة هذه القدسية؛ إذ كانت هنالك محاولات لنقل منبر الرسول الأكرم(صلى الله عليه واله) إلى الشام[2]؛ هادفين من وراء ذلك إلى إضفاء الشرعية على حكمهم الزائف، وإلباس ما يتلونه في محافلهم لباس المشروعية والمصلحة الدينية، خصوصاً ما يتعلّق بسبّ ولعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، إلّا أنّ الإعجاز الإلهي ـ وكما هو مسجّل في التاريخ ـ حال دون تحقيق هذا الأمر[3]، وبقيَ المنبر محافظاً على الهالة القدسية التي اكتسبها ببركة اعتلاء النبي(صلى الله عليه واله)، واتخاذه له في خطبه المختلفة أثناء تواجده بين المسلمين.
بل نلاحظ أنّ هذا المنبر قد نال جملة من الآثار الشرعية التي استمرت بعد وفاة النبي(صلى الله عليه واله)؛ حتى أنّ المعتمر والزائر للمسجد النبوي بعد أدائه مراسم زيارة قبر رسول الله(صلى الله عليه واله)، يأتي بمجموعة من الآداب الدالة على بقاء مكانة المنبر وقيمته في نفوس المسلمين[4].
ثمّ ازداد الاعتناء والاهتمام بموضوع المنبر، وبقيَ مستمراً حتى زمان حدوث واقعة الطف الأليمة، فأخذ المنبر بعد هذه الواقعة صفة أُخرى وعُنون بعنوان إضافي وهو: (المنبر الحسيني)، وقد شَيّد المنبر الحسيني بنحو الأصالة الإمام الصادق(عليه السلام)، الذي كان يرعى ويهتم بالمنبر الحسيني سواء كان على صعيد المضمون، أم المنهج، أم الأُسلوب، فقد كان(عليه السلام) يذكر تفاصيل متعدّدة في كيفية إحياء ذكرى عاشوراء، وما جرى على الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وصحبه من مآسٍ ومحن، فهو من ناحية المضمون كان يوصي الشيعة بأن تتمحور مجالسهم حول إحياء أمر أهل البيت(عليهم السلام)، الذي لا ينفك عن كلّ ما شأنه تقوية الدين الإسلامي، وإرساء دعائمه، وتقوية شوكته؛ إذ روي عنه(عليه السلام) مخاطباً الفضيل بن يسار:( تجلسون وتحدّثون؟ قلت: نعم. قال: تلك المجالس أُحبُّها فأحيوا أمرنا رحم الله مَن أحيا أمرنا...)[5]، وروي عنه أيضاً(عليه السلام) أنّه قال: (تلاقوا وتحادثوا العلم، فإنّ بالحديث تُجلى القلوب الرائنة، وبالحديث إحياء أمرنا فرحم الله مَن أحيا أمرنا)[6]. وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تضمّنت الحثّ على إحياء أمرهم(عليهم السلام).
أمّا فيما يتعلّق بالمنهج الذي يتمّ السير عليه في مثل هذه المجالس، والمحور الرئيس الذي تدور حوله جميع الأحاديث التي تُطرح فيها، هو عبارة عن ذكر أهل البيت(عليهم السلام)، خصوصاً ذكر ما جرى على أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وصحبه في واقعة الطفّ ومسيرة السبي، وهنا يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في تكملة خطابه مع الفضيل بن يسار في الرواية المتقدّمة:( يا فُضيل، مَن ذكرنا، أو ذُكرنا عنده، فخرج من عينيه مثل جناح الذُّباب غفر الله له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر)[7]، وقال(عليه السلام) في حديث آخر:( ومَن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنّة)[8].
هذا، ولم يكتفِ الإمام الصادق(عليه السلام) بهذا الحدّ، فقد وردت عنه روايات حول طبيعة الأُسلوب الذي يتمّ فيه تأدية مثل هكذا مجالس، ومن ذلك ما ورد عنه حول ضرورة إنشاد الشعر رثاءً للحسين(عليه السلام)؛ إذ قال:( مَن أنشد في الحسين بيت شعر فبكى وأبكى عشرةً، فله ولهم الجنّة...)[9]. كما يصل الأمر إلى تدخّله (عليه السلام) في أُسلوب إنشاد الشعر الرثائي؛ إذ يطلب من بعض المنشدين أن يكون الأُسلوب في إلقاء شعره رقيقاً ومشجياً، من ذلك ما ورد عنه(عليه السلام) مخاطباً أبا هارون المكفوف:(يا أبا هارون، أنشدني في الحسين(عليه السلام). قال فأنشدته فبكى، فقال أنشدني كما تُنشدون ـ يعني بالرّقة ـ. قال فأنشدته:
امْرُرْ على جدث الحسين
فقل لأعظمه الزكيّة
قَالَ فَبَكَى. ثُمّ قال: زدني. قال: فأنشدته القصيدة الأُخرى، قال: فبكى وسمعت البكاء من خلف السِّترِ، قال: فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى عشراً، كُتبت له الجنّة...)[10].
وبعد الإمام الصادق(عليه السلام) نجد أنّ الإمام الرضا(عليه السلام) سار على المنوال نفسه أيضاً، محاولاً منح المنبر الحسيني هالة وقداسة إضافية، وذلك من خلال تأكيداته المستمرة على قضية البكاء على الحسين(عليه السلام) وعياله وصحبه، فقد رُوي عنه(عليه السلام):(مَن تذكّر مصابنا فبكى وأبكى، لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيا فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)[11]، ورُوي عنه(عليه السلام) أيضاً:(فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البُكاء عليه يحطّ الذّنوب العظام...)[12].
الحفاظ على مكانة المنبر الحسيني في عصر الغيبة
مع ملاحظة الدور الذي قام به أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وخصوصاً الإمام الصادق والرضا(عليهما السلام) في مجال تشييد صرح المنبر الحسيني، ومنحه المكانة والقدسية اللائقة به، التي بقيت في وجدان الشيعة إلى يومنا هذا، فإنّنا نجد في المقام ـ أيضاً ـ بأنّ أصحاب القرار الديني وعلى رأسهم المؤسسة الدينية والمرجعية قد بذلت العناية الفائقة جداً في مجال حفظ المنبر الحسيني وتطويره، سواء على مستوى القول أم الفعل، فنرى في سيرة علمائنا ـ مثلاً ـ أنّه عندما يأتي الخطيب الحسيني ويتلو المصيبة في المجالس التي يقيمونها في مكاتبهم أو بيوتهم، فإنّه حينما يريد أن يغادر نرى بأنّ المرجع يقوم من مكانه ويشيّعه بنفسه إلى آخر نقطة من داره؛ إشارة إلى أهمية المنبر الحسيني الذي أصبح لوناً من ألوان نشر العلوم الدينية، سواء على صعيد العقائد، أم الفقه، أم التفسير، أم الأخلاق، أم غير ذلك.
ثمّ إنّه وبفعل الجهود الحثيثة التي قام بها أهل البيت(عليهم السلام)، ومراجعنا العظام وحوزاتنا العلمية فقد أصبح للمنبر الحسيني حضوراً منقطع النظير في المواسم والمناسبات الدينية لدى الشيعة الإمامية، حتى أنّه عُدّ من أهمّ الشعائر الدينية، وحظي ـ تقريباً ـ بالمكانة نفسها، والآثار التي تحظى بها قُبة الإمام الحسين(عليه السلام). ومن هنا؛ فلا مجال للتوقّف في شرعية المنبر الحسيني، وأنّه من المناشئ المهمّة لإحياء الدين الإسلامي الناصع والحقيقي المستند إلى القرآن الكريم، والأحاديث الصادرة عن العترة الطاهرة.
الرؤى المتباينة حول المنبر الحسيني
شهد العالم الإسلامي بشكل عامّ ـ والشيعي خاصّة ـ نوعاً من الجدل حول مصير المنبر الحسيني، والحالة التي يجب أن يكون عليها في عصرنا الراهن، وفي ضوء هذا الجدل الواسع تمظهرت التكتلات في الرؤى الآتية:
الرؤية الأُولى: تهميش المنبر الحسيني وجعله من الفلكلور الشعبي
يسعى بعضٌ إلى تغليف المنبر الحسيني بطابع الفلكلور الشعبي، ويعدّه من الأُمور التاريخية المحكومة بتعدّد الثقافات المجتمعية وتغيّرها؛ ساعياً من وراء ذلك إلى بيان أنّ هذه المفردة كانت حاضرة في ظرفي زمان ومكان معيّنين، ومع تبدّل هذين العنصرين، فمن المفترض أن يتغيّر الموقف تجاهها، وبعبارة أُخرى: يرى هؤلاء أنّ مفردة المنبر الحسيني داخلة في السياق التاريخي، الذي من المفترض أن يكون حاكماً ومؤثّراً على جميع القضايا المتولّدة فيه، والخاضعة لظروفه ومتطلّباته. هذا، وقد كان هدف القائلين بهذه الرؤية ـ ومن خلال الأدلّة التي أقاموها في المقام ـ هو التأكيد على ضرورة حبس المنبر الحسيني وحصرهِ في زاوية تاريخية معينة، وعدم التعويل عليه أو السماح له بأن يكون فاعلاً في واقعنا المعاصر، ولعلّنا نسمع من هنا وهناك بعضاً من هذه النداءات.
ومن الأدلّة التي استندوا إليها في المقام هو قولهم: إنّ المنبر الحسيني كان مهمّاً عندما لم يكن عند الشيعة مصادر إعلام تُبرز مظلومية أهل البيت(عليهم السلام) وما جرى عليهم في واقعة الطف، وأنّ اهتمامهم(عليهم السلام) بالمنبر الحسيني وما صدر عنهم من نصوص مبرزة لذلك، يكون ـ بنظر أصحاب هذه الرؤية ـ من باب الإرشاد لا التأسيس لقضية مهمّة وحيوية تصبّ في خدمة الرسالة الإسلامية. وبناءً على هذا الدليل؛ ومع ملاحظة المساحة الواسعة التي يمتلكها الإعلام المرئي وغير المرئي في العصر الحالي، والقدرة الكبيرة والتقنية العالية والإمكانيات الممتازة التي يحظى بها، فإنّ بعضاً ذهب إلى الرؤية التي بيّناها آنفاً، فبيّن بأنّ الإعلام المعاصر له تأثير سريع، وله قدرة على الخطاب الشمولي، ممّا يؤهّله لأن يكون بديلاً عن المنبر الحسيني. أضف إلى ذلك ـ والكلام لا زال لأصحاب هذه الرؤية ـ أنّ الشخص الذي يرتقي المنبر الحسيني ليس بمستوى الطموح، لأنّه ينطلق من منطلقات تقليدية كلاسيكية ولا يعيش لغة الخطاب العصري والحداثوي.
وكنتيجة لما تقدّم؛ فقد بدأت حركة مسعورة في هذا الاتّجاه، وهي وإن تعدّدت فيها الألسن واختلفت فيها الأزياء بحسب الظاهر، إلّا أنّها من حيث النتيجة تصبّ في مصبٍّ واحدٍ، وهو تعطيل المنبر، أو تهميشه، أو التهريج بعدم النفع والجدوائية منه، وعليه لا بدّ من البحث بشكل جادّ عن إيجاد البدائل المتّصفة بالعصرنة والحداثة، وجعل الأُمة تتّجه إلى ثقافات أُخرى بدل أن تنخرط في ثقافة المنبر وثقافة المدرسة المنبرية، ومن الكلمات التي تدسُّ السمّ في العسل ـ في المقام ـ ما يرد إلى المؤسسة الدينية من تساؤلات تتمحور حول المقارنة بين الإنسان الذي يجلس في بيته ويستمع إلى بعض الطروحات العلمية والدينية التي تبثّها الفضائيات، وبين الذهاب إلى منبر ضعيف لا يرقى إلى مستوى المحتوى الذي يتمّ طرحه عبر وسائل الإعلام هذه، وهنا وإن كان المدلول المطابقي للسؤال وأمثلته هو أيّ النوعين المذكورين أفضل؟ إلّا أنّ هذا المدلول ليس مقصوداً، وإنّما المقصود ـ في المقام ـ هو المدلول الالتزامي، والذي هو: لماذا الجمود والإصرار على منهج تقليدي يدخل في ضمن الفلكلور والقضايا التاريخية؟ منهج أقلّ نفعاً في مقابل اللغة الحداثوية والخطاب المعاصر.
طبعاً، هذه الفكرة لا تختصّ بهذا المجال فقط، فقد لاحظتُ أنّ هذه الفكرة بدأت تصل حتى إلى اللباس الديني؛ بذريعة أنّ الحوار مع الوسط الثقافي والجامعي لا يتأتّى إلّا من خلال الزهد بهذا اللباس وتضعيفه، وأمثال هذه العبائر. هذا، وأنّ الجامع لكلّ هذه الدعاوى الفارغة هو أنّ الأساليب القديمة صارت حديثاً من الماضي، وفاقدة للتأثير، ولكلّ ما ينبغي أن يُقدَّم في مجال العمل الإعلامي.
طبعاً، إنّ هذه الرؤية الأُولى قد أساءت إلى المنبر الحسيني، وسعت من خلال الشبهات والتساؤلات التي يطرحها أصحابها إلى تهميش دور هذه الوسيلة الإعلامية، التي سعى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) إلى تثبيتها في الثقافة الشيعية؛ وذلك من خلال ربطها بالنهضة الخالدة للإمام الحسين(عليه السلام).
الرؤية الثانية: الإبقاء على الحالة التقليدية
توجد في مقابل الرؤية المتقدّمة رؤية أُخرى تختلف عنها تماماً، رؤية تقليدية بحتة تسعى إلى المحافظة على المنبر، الذي أُنشئ في العصور المتقدّمة، وعدم السماح لأيّ أحد أن يغيّر في شكله أو محتواه، وذلك من خلال الوقوف أمام أدنى تغيير أو تبدّل يمكن أن يطرأ عليه، فالكيفية المنبرية التي تمّ تداولها في الأزمنة الماضية، والتي تتألّف من الشعر الرثائي (القريض) في البداية، ثُمّ موضوع البحث المتكوّن من السرد التاريخي وصولاً إلى ذكر المصيبة (شعراً ونثراً) وختاماً بالدعاء، هذه الكيفية يجب المحافظة عليها من وجهة نظر أصحاب هذه الرؤية، وإذا كان ولا بدّ من وجود تغيير فليتجه إلى غير هذا الأمر، فإنّ قضية المنبر الحسيني لا تتقبل التغيير، بل أكثر من هذا بدأ بعضنا يعيش شعوراً في داخله، وهو أنّ أدنى محاولة تسعى لإصلاح المنبر الحسيني لا بدّ أن تُتّهم بسوء القصد وبتبييت النوايا غير الطيّبة، والسعي إلى سرقة المضمون المنبري؛ وعليه فقد صارت لغة التطوير في أذهان هؤلاء لغة قبيحة وليست باللغة الحسنة.
طبعاً، إنّ هذه الرؤية في الوقت نفسه الذي تمنع فيه فكرة تطوير المنبر الحسيني، فهي بطريقة أو بأُخرى لا تسمح بتوجيه أيّ نقدٍ إليه، مع اعترافهم المسبق بأنّ النقد حالة صحية وليست حالة سلبية، فيما إذا كان الناقد يتحرّك بإيجابية وبمقاصد صحيحة، ويسعى إلى إيجاد البدائل المناسبة؛ خصوصاً ونحن نعيش اليوم ظاهرة النمو الكمّي الكبير للمنبر الحسيني، هذه الظاهرة التي لم تكن موجودة في السابق، فقد كانت قضية المنبر تقتصر على المساجد والحسينيات، بينما نجد أنفسنا في هذه الأزمنة قد انتقلنا نقلة جوهرية في هذا المجال، فقد بدأ المنبر ينفذ إلى بيوتنا طيلة أيّام السنة، فما من مناسبة نعيشها إلّا وكان المنبر حاضراً فيها.
هذا، وقد يكون ترتّب الثواب على المنبر وصيرورته جزءاً مهمّاً داخلاً في كيانه هو أحد المنطلقات التي انطلق منها أصحاب هذه الرؤية الثانية، فإنّنا نجد أحياناً أنّ فكرة الجزاء الأُخروي قد طغت على الواجهة في مجال العمل المنبري؛ ممّا دعا إلى اختزال أو حذف بعض الفوائد الأُخرى المهمّة للمنبر، أو إغفال ذلك وعدم النظر إليها بنظرة دقيقة.
نعم، إنّ ترتّب الثواب على ذكر أهل البيت(عليهم السلام) في بيوتنا ومساجدنا وحسينيّاتنا هو أمر في غاية الأهمية، لكن شريطة المحافظة على البُعد التنويري والحالة الجوهرية التي من المفترض ترتّبها على ذلك، وكنظير لما تقدّم ما نجده في تلاوة القرآن، فإنّنا نجد أنّ بعض الناس قد يقرأ القرآن؛ لأجل نيل الثواب من دون جعله جهازاً معرفياً يُستفاد منه في ترويض الذات وتطويرها، وكذلك في تطوير الأُسرة وتطوير المجتمع.
الرؤية الثالثة (المختارة): ضرورة التطوير والمواكبة
ممّا لا شكّ فيه أنّ التقليدية والثبات في العبادات والمناسك من الأُمور المهمّة والمطلوبة، لكن ليس بمعنى الجمود، ففرق بين الحفاظ على الروح التقليدية للعبادة والنُّسك، وبين أن ندعو إلى الجمودية في المقام، فما من نُسك إلّا وفي داخله مجال للتكامل، فلو أخذنا تلاوة القرآن كمثال لما نقول، لوجدنا أنّ المراحل التي مرّت بها انطلقت من التلاوة الفردية وغير المتضمّنة لشرح المفردات، ثمّ تطوّرت شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى التلاوة في المحافل الجماعية التي تبث في الفضائيات والمصحوبة بشرح وتبيين المفردات التي يصعب فهمها على بعض المشاهدين.
وبما أنّ المنبر يُعدّ أحد المناسك والشعائر الدينية المهمّة، فهو خاضع لهذه القاعدة أيضاً؛ لذا ينبغي أن نفتّش عن هذا البُعد التكاملي، سواء كان التكامل على الصعيد الروحي والنفسي، أم كان على الصعيد الفكري والعلمي، فلا بدّ من البحث عن هذا التكامل. ومن هنا؛ فنحن ندعو إلى ضرورة القيام بعملية تكاملية تطويرية للمنبر، شريطة ألّا يكون بنحو البديل الفاقد لنسخة الأصل، وإنّما هو عبارة عن امتداد لنسخة الأصل، مع فارق أنّه صار نسخة مضاعفة وأكثر تطوّراً.
وبناءً على هذا؛ فإنّ الدعوى القائلة: بأنّ سائر الوسائل الإعلامية لها من التأثير ما ليس للمنبر من التأثير، فيها من المسامحة التي لا تخفى؛ وذلك لأمرين، هما:
أوّلاً: إنّ واحدة من مقاصد الدين الإسلامي الرئيسة، هي أنّه يدعو إلى مجموعة شعائر يمكن أن نُسمّيها بشعائر العقل الجمعي، أو الشعائر التي توجد وتحثّ الفرد من خلال اللاشعور الداخلي إلى حالة حبّ الانضمام إلى الجماعة والابتعاد عن العزلة، ومن هذه الشعائر نجد أنّ فريضة الحجّ ـ مثلاً ـ تدعو بشكل واضح إلى هذا البُعد الحيوي في حياة الإنسان، والدليل على ذلك ما نستكشفه من الأمر الجماعي المتعلّق بهذه الفريضة، والوارد في قوله تعالى:(وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً....) [13]. ومن تلك الشعائر التي لها الدور نفسه شعيرة المنبر، الذي يُعدّ من المناشئ المهمّة لإيجاد ظاهرة العقل الجمعي، وعليه فإنّ استبدال هذه الوسيلة الجماهيرية بالجلوس والاستماع إلى الأُمور العلمية، أو حتى الدينية التي تُبثّ عبر سائر الوسائل الإعلامية، سوف يحرم الإنسان من التماهي مع الجماهير، ويؤدّي إلى إبعاده عن الهدف الذي أراده المشرّع، المتمثّل بوجود حالة اللُحمة الجماعية بين المؤمنين؛ وعليه فإذا لم نحافظ على المنبر الحسيني فإنّنا لا نتمكّن من تحقيق هذه الحالة المهمّة في حياة الإنسان.
ثانياً: نحن نرى أنّ هناك أُموراً معنوية (قدسية) قد لا يتفهّمها العقل المادّي ولا يتقبّلها، ومن ذلك ما نعتقده بشأن المنبر الحسيني الذي دلّت الآثار على أنّه محفوف بجملة من المعنويات والكمالات، وذلك من قبيل ما ورد في الأخبار من أنّ المجالس الحسينية منظورة من قِبل الإمام الحسين(عليه السلام)، فقد رُوي عن الإمام الصادق(عليه السلام):(إنّ الحسين بن علي(عليهما السلام) عند ربِّه (عزّ وجلّ) ينظر إلى موضع معسكره، ومَن حلّه من الشُّهداء معه، وينظر إلى زُوّاره... وإنّه ليرى مَن يبكيه فيستغفر له ويسأل آباءه(عليهم السلام) أن يستغفروا له...)[14]. وورد أيضاً أنّ هذه المجالس والمنابر الحسينية هي مشهد لملائكة الله المقرّبين، ومن ذلك ما رواه زيد الشحّام بقوله:( كُنّا عند أبي عبد الله(عليه السلام)، ونحن جماعةٌ من الكوفيين، فدخل جعفر بن عفّان على أبي عبد الله(عليه السلام) فقرّبه وأدناه، ثُمّ قال: يا جعفر. قال: لبّيك جعلني الله فداك. قال: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين(عليه السلام) وتُجيد؟ فقال له: نعم، جعلني الله فداك. فقال: قُلْ. فأنشده [فبكى](عليه السلام) ومَن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته، ثُمّ قال: يا جعفر، والله، لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون هاهنا يسمعون قولك في الحسين(عليه السلام)، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر...)[15].
ومع ملاحظة هذه الآثار التي قد لا يصل إلى إدراكها العقل المادي، وإنّما يتمّ التعرّف عليها من خلال المعين الصافي والمنبع الزلال، المتمثّل بأهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام)، هل يبقى مجال للقول: بأنّ الجلوس في البيت والاستماع بتركيز إلى ما يُذكر من أُمور علمية أو دينية عبر الوسائل الإعلامية الأُخرى أكثر فائدة، وأهمّ بكثير من الجلوس تحت المنبر مع ما يلازمه من ضجيج ربّما يحرم المستمع من الوصول إلى المعلومة الأكمل؟ نعم، ما يحكم به العقل المادي هو ضرورة البقاء في البيت وتحصيل المعلومة مع التركيز والتمعّن، وأنّ ذلك ـ بحسب مقتضياته ـ أهمّ بكثير من تحصيل المعلومة من دون تركيز. لكن عندما نمرّ بالموروث الديني، ونراه يذكر بأنّ هناك أبعاداً معنوية لا يمكن تحصيلها إلّا بواسطة الحضور إلى المأتم الحسيني، فإنّ دعوى الاستبدال تكون ـ حينئذٍ ـ غير صحيحة وغير موفّقة.
وبالعودة إلى صلب الحديث عن الرؤية المختارة، نقول: إنّ المنبر الحسيني بالدرجة نفسها التي لا يمكن استبداله فيها بوسيلة إعلامية أُخرى، كذلك لا يمكن اختزاله بالبُعد العاطفي واللوعة والبكاء والدمعة، فإنّ هذا البُعد وإن كان مطلوباً بصورة كبيرة جدّاً، لكنّ المنبر غير مقتصر عليه فقط، فالحسين(عليه السلام) بحسب الكلمة المشهورة التي يتناقلها عموم الشيعة هو عِبرة[16]وعَبرة[17]، وعليه فإنّ المنبر الحسيني ينبغي أن يكون مصدراً لتهييج النفوس والعواطف نحو القضية التي ضحّى من أجلها سيّد الشهداء(عليه السلام)، ويكون أيضاً مصدراً للعديد من المعارف (عقائد، فقه، تفسير، تاريخ... ونحو ذلك).
وبناءً على ما تقدّم؛ فإنّنا كما نرفض فكرة تهميش المنبر واستبداله، نرفض أيضاً دعوى الجمودية التي لا محالة ستنتهي إلى حالة سلفية، سوف تُفقدنا جزءاً كبيراً من أمّتنا، وهذا الجزء هو الشريحة التي تتأثر بالحداثة، وتطلب الجديد، وتطمح لأن يكون المنبر مُلبّياً لجميع احتياجاتها ومتطلّباتها.
المنبر الحسيني النموذجي
إنّ المنبر الحسيني الذي يتألّف من ثلاثة أطراف أساسية هي: (الخطيب، المستمع، المادة الخطابية)، يكون نموذجياً في حال محافظته على القداسة التي تأسّس في ضوئها، والتي لا تزول بمرور الأزمنة. وهنا أذكر شاهدين تاريخيين روائيين صحيحي السند:
الأوّل: الخبر الذي يروي لنا حادثة جرت بين الإمام الحسن(عليه السلام) وبين أبي بكر، وهي أنّه(عليه السلام) عندما دخل إلى مسجد رسول الله(صلى الله عليه واله)، ورأى أبا بكر يخطب في المسلمين، وقد ارتقى منبر النبي(صلى الله عليه واله)، قال له:(انزل عن مجلس أبي)[18]. فإنّ اعتراضه(عليه السلام) لم يجابه باعتراض من قِبل المتحدّث أو الحاضرين، فلم يستطع أحد أن يقول للإمام الحسن(عليه السلام) في ذلك الموقف: إنّ قدسية المنبر كانت متقوّمة بوجود رسول الله(صلى الله عليه واله) وبعد رحيله لا يُسمّى منبر رسول الله، بل هو منبر الخليفة الأوّل، وعليه فإنّ ما صدر من الإمام(عليه السلام) كان له دلالة واضحة على ضرورة حمل المنبر النبوي لنفس اسمه السابق حتى بعد رحيله(صلى الله عليه واله). وفي الحقيقة هذا عين ما ندعو إليه بالنسبة إلى المنبر الحسيني، وهو أن يحافظ على قدسيته، وعلى الأطراف الثلاثة التي يتشكّل منها.
وأمّا الشاهد التاريخي الثاني: فهو حادثة مشابهة جرت بين الإمام الحسين(عليه السلام) وبين الخليفة الثاني[19]. وهذا معناه إنّنا بصدد التأصيل لفكرة مارسها أكثر من معصوم، فالمنبر لم يعد في الحقيقة عبارة عن مجرّد هيكلٍ خشبي، فهو بعد ما سُمّي منبراً حسينياً اكتسب شيئاً من القدسية والاحترام، نظير أبواب مراقد المعصومين(عليهم السلام) فإنّها قبل أن توضع في محالّها لم تكن لها هذه القيمة المعنوية الكبيرة، لكنّها بعدما وضعت اكتسبت هذه المكانة والمنزلة في نفوس الشيعة، ثمّ إنّه يُخطئ مَن يرى أنّ هذه القضية اعتبارية، بمعنى أنّنا أعطينا هذه المكانة والمنزلة توافقاً لتلك الأبواب بطريقة توافقية بيننا، وإنّما قدسيتها حقيقية تكوينية تبعاً لقدسية الأجساد الطاهرة للمعصومين(عليهم السلام)، وفرق بين القدسية الاعتبارية وبين القدسية الحقيقية التبعية، فالأخيرة لها آثار حقيقية. والأمر نفسه يجري في قضية المنبر الحسيني، فهو بانتسابه إلى الحسين(عليه السلام) حظي بالقدسية الحقيقية المنبثقة من القدسية التي يمتلكها(عليه السلام)، ممّا جعله منبعاً للآثار المعنوية، وعليه فإنّ دعوى تهميشه واستبداله بناءً على كون القدسية التي يمتلكها قدسية اعتبارية وليست حقيقية، كلّ هذا محلّ نظر وتأمل. والدليل على ذلك هو أنّ أهل البيت(عليهم السلام) عندما أسّسوا هذا السبيل، فإنّما أسّسوه ليكون سبيلاً عامّاً إلى قيام الساعة، فلم يقيّدوه بمدّة معيّنة، ولم يجعلوا حُسنه مؤقّتاً، ومن الروايات الواردة في المقام قول الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام): كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول:(أيّما مؤمنٍ دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي(عليهما السلام) دمعةً حتى تسيل على خدّه، بوّأهُ الله بها في الجنّة غُرفاً يسكنها أحقاباً، وأيّما مُؤمنٍ دمعت عيناه حتى تسيل على خدّه فينا لأذىً مسّنا من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله بها في الجنّة مُبوّأ صدقٍ، وأيّما مُؤمنٍ مسّه أذىً فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خدّه من مضاضة ما أُوذي فينا، صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار)[20]، ومنها أيضاً قول الرضا(عليه السلام):(...إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاءٍ، وأورثتنا [يا أرض كربٍ وبلاءٍ أورثتنا] الكرب [و] البلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون؛ فإنّ البكاء يحطُّ الذنوب العظام...)[21]، فالإطلاق في الروايتين أعلاه وفي غيرهما من الروايات له دلالة واضحة على استمرار الدور الذي يلعبه المنبر في إحياء النهضة الحسينية، واستمرار قدسيته النابعة من ارتباطه بالحسين(عليه السلام) إلى قيام الساعة.
على أنّ هذه القدسية وهذه المكانة المرموقة للمنبر الحسيني، لا تمنع من توظيف الأساليب الحديثة في مجال تطويره، شريطة الحفاظ على هيكليته التي أسّسها أهل البيت(عليهم السلام). فإنّ هذه الأساليب بإمكانها تقديم نموذج أكمل للمنبر الحسيني وأكثر فائدة. وبعبارة أُخرى: إنّ المنبر الحسيني هو المادة التي تتغذّى منها سائر الوسائل الإعلامية الحديثة، لا أنّه في عرضها.
وفي الحقيقة أنّ الجدليات التي يدّعي بعضٌ وجودها بين المثقّف والخطيب، وبين المؤسّسة الدينية والخطباء، وبين الإعلام والخطابة، وغير ذلك لا واقع لها أساساً، فإنّ ما موجود بين الجهات المذكورة ـ بحسب الواقع ـ هو تمام الانسجام والأُلفة. ومن هنا؛ فإنّنا نعتقد أنّ المنبر الحسيني كان ولا زال وسيبقى واجهة المذهب الشيعي، وليس عندنا بديل عنه أصلاً، فهو المعني بالدرجة الأُولى والأساس عن الخطاب الرسمي في المذهب الشيعي، وسائر المؤسسات إنّما تكون في طول مؤسّسة المنبر الحسيني، هذه المؤسّسة التي وقفت بشكل دائم أمام الضربات الشديدة الموجّهة من قِبل أعداء الله، ومن قِبل السلطات الظالمة التي كانت تسعى إلى حصد رقاب ورؤوس الشيعة، وتسعى أيضاً إلى تجهيلهم والحطّ من مكانتهم المعرفية؛ ومن هنا فقد سعى المنبر الحسيني على طول الخط ـ وحتى يومنا هذا ـ إلى أن يكون هو المصدر الرئيس الذي يتولّى مهمّة الحفاظ على سلامة المعتقدات المذهبية وبقائها، وربط القاعدة الشيعية بمراجعها وبمؤسّساتها الدينية.
المنهج التطويري للمؤسّسة المنبرية
قد يرى بعضٌ ـ في مقام تطوير المنبر الحسيني ـ ضرورة إنشاء مؤسّسة دينيّة ترعى المبلّغين وتُشرف عليهم وعلى تطويرهم، وكذلك تقوم بتوزيعهم على المناطق آخذةً بعين الاعتبار حاجة الناس وقدرة المبلّغ الحسيني على سدّها بما يملكه من مخزون معرفي.
ونحن في مقام التفصيل حول هذا الطرح نقول: إنّ قانون النظم هو أمرٌ في غاية الأهمية، وقد أكّد عليه الحُسن العقلي والحُسن الشرعي، كما أنّه في المقابل يُعدُّ ضرب هذا القانون سبباً لحدوث الخلل في حياة الناس؛ وبناءً على هذه الحقيقة المهمّة فنحن لا نخشى من وجود حالة التنظيم والتطوير في المنبر الحسيني، بل هو أمرٌ نطمح إليه ونسعى إلى تحقيقه من خلال أمرين أساسيين:
الأوّل: تأهيل الطاقات الحسينية وإدخالها في مواقع التأثير، والارتقاء بالواقع الديني للفرد والمجتمع، وهذا أمرٌ يبدو أنّ الآيات الشريفة قد أشارت إليه؛ إذ يقول عزّ من قائل(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[22]، فمع القول بعدم اختصاص الآية بموضوع الفقه تحديداً، وبعد تنقيح المناط والتوسّع في مضمونها، فإنّها سوف تشمل حقولاً معرفية أُخرى مضافاً إلى الفقه، ومن تلك الحقول عالم الخطابة، وعليه فمن الضروري أن ينضوي ثلّة من طلّاب الحوزة العلمية الراغبين في أن يكونوا خطباءً منبريين تحت رعاية عمل موحّد ومنظّم، يسير وفق موروث دقيق صحيح، وضمن اجتهادات فعلية لا انفعالية، ووفق ملاكات ومقاسات علمية. وهذا الأمر بلا أدنى شكّ من أهمّ السبل المؤدّية إلى عملية التطوير في موضوع المنبر الحسيني.
الثاني: إنّ المسؤولية في عملية تطوير المنبر الحسيني لا ترتبط بالخطيب الحسيني، أو المؤسّسة الدينية وحسب، وإنّما هي مسؤولية المجتمع والأُمة أيضاً، وهنا أرى من الضروري أن أذكر مقدّمة أسعى من خلالها إلى تقريب الفكرة للقارئ الكريم.
عندما نمرّ بموضوع الإمامة عندنا ـ نحن الشيعة ـ وتحت عنوان نظرية بسط اليد، فإنّنا نعتقد أنّ مَن يتسنّم هذا المنصب لا بدّ أن تتوفّر فيه صفات معينة من قبيل: العلم اللدني، والعصمة، والأفضلية، أي: إنّه أفضل ما في الكون؛ وهذه الصفات الثلاثة تتعلّق بنظام التنصيب الإلهي ولا دخل للأُمّة في تحقيقها، لكن تبقى قضية بسط اليد للإمام، فهي ليست موكولة إلى الإمام فحسب، بل لا بدّ للأُمّة من بيعته، وعند مراجعتنا لقاموسنا الديني نجد أنّ مصطلح البيعة يمتلك حضوراً بارزاً في منظومتنا المعرفية الدينية؛ وبناءً على هذه المقدّمة الموجزة فإنّ الأُمّة وإن كانت لا تمنح الشرعية للخطيب، فهي ممّا يتم تحصيله من المحافل العلمية ومركز القرار العلمي، إلّا أنّ بسط يد الخطيب الحاذق لا بدّ أن يكون على عاتق الأُمّة، لا أنّ الخطيب يُملي عليها من دون أن يكون لها دور في التشخيص وترجيح مَن يفيدها من الناحية المعرفية والعملية.
ومن هنا جاءت فكرة ضرورة التواصل بين مؤسساتنا الإيمانية كالمساجد، أو الحسينيات، أو نحو ذلك، وبين مؤسساتنا الدينية، ولعلّنا نلاحظ في الحقبة القريبة أنّ هناك تجارب ناجحة قُدِّمت في هذا المضمار، ومن تلك التجارب الناجحة نجد أنّ بعض أصحاب المواكب هم الذين ينتدبون الخطيب الجيد، وهم الذين يراقبونه ويتابعونه، ثمّ ينقلون ـ بعد ذلك ـ صورةً وتقريراً مفصّلاً عن حاله إلى الجهة المسؤولة عنه، وعليه فقد وجدت عملية رقابية إيمانية على الخطيب، تجعل موضوع المنبر الحسيني عملية منضبطة تخضع إلى جهاز رقابي. إلّا أنّ هذه الرقابة ـ سواء كانت من المؤسّسة الدينية أم من الأُمّة ـ لا تعني الوصاية على الخطيب والتضييق عليه، وإنّما هو تحمّل لجزء من المسؤوليات الرامية إلى ترشيد الحالة الصحية، وإبعاد المنبر عن كلّ ما شأنه الإضرار برسالته ودوره في إصلاح المجتمع. وفي حال عدم أداء الأمّة لهذه المسؤولية فإنّها سوف تلام، كما وقع اللوم على الأُمّة التي نصّبت غير الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام)، إماماً وخليفةً للمسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه واله) وإن كان استحقاق الإمامة ثابتاً للإمام بالنص الإلهي، سواء أبايعت الأُمّة أم لم تُبايع.
وبناءً على ما بيّناه ـ من ضرورة تحمّل الأُمّة لجزء من المسؤولية في قضية إنجاح وتطوير المنبر الحسيني ـ قد يتساءل بعضٌ، بل يعترض على ذلك: بأنّ الأُمّة في هذه الأزمنة مغلوب على أمرها؛ وذلك بسبب كثرة الأفكار المزيّفة في أوساطها، والغث والسمين الذي يُطرح على شبكة الإنترنت، الذي يُشكّل مادة فاعلة يتغذّى منها أفرادها، وهي فاقدة للقدرة على تشخيص المصلحة، وفي ضوء ذلك فلا يمكن أن تكون لها مساهمة فعّالة في موضوع المنبر الحسيني.
وفي مقام الإجابة عن هذا السؤال نقول: إنّ الأُمّة التي نفترضها ـ في المقام ـ هي أُمّة إيمانية، لها القدرة والقابلية على تحمّل مسؤوليّاتها الدينية بكلّ جدارة. وبعبارة أُخرى: إنّ الأُمّة بشكلها العام تمتلك مجموعة مقوّمات فطرية تتمكّن في ضوئها من معرفة سلامة السبيل.
نعم، قد تضعف إرادتها أحياناً، ولكن ضعف الإرادة شيء وعدم معرفة السبيل شيء آخر، فنحن لم نعهد أنّ الأُمّة قد مرّت بظرفٍ يعوزها معرفة السبيل الصحيح، فهي تمتلك العصمة الفطرية والقدرة اللّازمة على تشخيص ذلك، نعم، قد تتلوّث هذه الفطرة في بعض الأحيان، وقد تضعف الإرادة ممّا يجعلها تنحرف عن جادّة الحقّ، قال تعالى:(وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ)[23].
وهذه القدرة على التشخيص قد أهّلت الأُمّة إلى الوقوف في وجه الكثير من الحركات، فعلى سبيل المثال: الحركة الباطنية التي سعت إلى التغلغل في أعماق المجتمع واختراقه، لكنّه بفعل يقظة الأُمّة تمّ تحجيم هذه الاختراقات وجعلها مقطعية ومحدودة. وكمثال آخر في المقام نذكر ظاهرتين قد ألّمتا بالمجتمع الإسلامي، هما ظاهرة الغلو بأهل البيت(عليهم السلام)، وظاهرة تهميش مقامهم(عليهم السلام)، فعندما نمرّ بهاتين الظاهرتين فلربّما نجد بأنّ أحد الأسباب في المقام هو عدم إعطاء القيمة الحقيقية للمعصوم(عليه السلام)؛ وذلك بسبب أنصاف الأفكار، لا بسبب عدم إمكان استيعاب الفكرة، ونظراً لذلك نجد أنّ أهل البيت(عليهم السلام) عندما أقدموا على معالجة هاتين الظاهرتين بيّنوا بأنّ السبب وراء هذه الدعاوى هو الاعتماد على السبيل الناقص لا السبيل التام، فبدأوا بتزريق المفاهيم الصحيحة في نفوس المسلمين وتكميل معلوماته. أمّا إذا كان السبب وراء الظاهرتين المشار إليهما هو حبّ الدنيا، والسعي إلى نيل مقاصدها الزائفة، من قبيل كون الشخص باب الله ووجه الله، وذلك من خلال سعيه الحثيث إلى إعطاء مناصب للأئمّة الأطهار من أجل أن يكون هو سبيل الوصول إلى تلك المناصب. وهنا نجد أنّ الأئمّة(عليهم السلام) في مقام الردّ على هؤلاء استخدموا أساليب أكثر شدّة وغلظة من قبيل اللعن[24]؛ وذلك لأنّ هذه الفئة تُعتبر فئة نادرة وقليلة عرفت الحقّ ولكنّها لم تتبعه.
وبالعودة إلى الإجابة عن السؤال المتقدّم نقول: إنّ الأُمّة بما تحمله من حسّ فطري نراها تسعى إلى أن تكون في دائرة الصواب. نعم، هذه الإرادة تحتاج إلى دفع مستمر من قِبل المؤسسة الدينية التي من المفترض أن تلعب دوراً بارزاً في تقوية الإرادة وسدّ الفراغات؛ حتّى لا تضطر الأُمّة إلى القبول بأيّ أحدٍ كان، نحن نرى أنّ الأُمّة ـ مع إعطائها الخبرة الكافية ـ ستكون قادرة على التعرّف على الحقّ؛ لأنّه ليس بالأمر الخفي، فهو نور ظاهر وبارز.
وبناءً على ما تقدّم؛ فالمؤسسة التي ترعى شؤون المبلّغين، التي يرغب الكثير منّا في وجودها، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار مسؤولية الأُمّة ـ في المقام ـ ولتحقيق هذه المسؤولية لا بدّ من تأسيس مؤسّسات تحت عنوان جمعية المواكب والمساجد، يكون لها ارتباط مستمر بالمؤسسة الحوزوية، ويتمّ من خلال التعاون فيما بينها انتخاب الأشخاص اللائقين بمشروع النهضة الحسينية.
وهنا بودّي أن أذكر للقارئ الكريم خاطرة بسيطة تتعلّق بمسيرة الأربعين، وهي أنّه عندما صار البناء على أنّ الحوزة العلمية المباركة الميمونة تقترح ثلّة من المؤمنين والمحترمين للعمل كمبلِّغين في المواكب والهيئات الحسينية، تردد بعضٌ بشأن موافقة القائمين على تلك المواكب، واحتمال عدم تفاعلهم مع هذه الفكرة؛ لكن في الحقيقة أنّ الخشية من تطبيق هذا المشروع لم تكن في محلّها؛ فإنّ مَن عاش ستّين سنة أو أكثر في جامعة الحسين(عليه السلام)، سوف تصبح عنده مناعات داخلية رائعة، بغضّ النظر عن سلوكيّاته الفردية؛ لأنّها سلوكيّات لا تصطدم مع الرؤيا الأساسية للنهضة الحسينية، مناعات تجذبه دوماً نحو التشخيص الصحيح للحقّ والإيمان به. ثمّ إنّه وبعد أن بدأنا بهذا المشروع رأينا أكثر شريحة مصرّة على اعتماد موقف وقرار المؤسسة الدينية هي مؤسسة المواكب.
طبعاً، كلامنا الذي نذكره هنا ينطبق على الحالة العامّة، وهذا لا يمنع من وجود حالتين أو ثلاث حالات تسعى إلى عرقلة هذا المشروع، مع عدم امتلاكها لمساحة انتشار واسعة في المجتمع؛ وتبقى هذه الحالات مجرّد فقاعة ليس لها القدرة الكافية على البقاء والاستمرار.
وهنا أنا لا أُريد أن اختزل هذا المشروع المهمّ الرامي إلى تطوير المنبر الحسيني بمسيرة الأربعين وحسب، بل ينبغي تفعيله في مختلف المواسم التبليغية التي يعيشها المذهب الشيعي، التي هي من قبيل: موسم المحرّم، المواسم الثلاثة لشهادة الزهراء(عليها السلام)، موسم شهر رمضان المبارك، وغير ذلك. كما إنّي أؤكد في المقام على أنّ النجاح الذي يتحقّق في المقام ليس نجاحاً لفردٍ معيّن، وإنّما هو نجاح لجميع المؤسّسات المشاركة في هذا المشروع، سواء كانت توجيهية، أم خدمية، أم داعمة دعماً لوجستياً، فكلّ هذه المؤسّسات تقوم بدور مهمّ وحقيقي، وهي التي ستأخذ بأيدينا وتدفع بنا إلى الأمام دائماً.
والحمد لله أولاً وآخراً.
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم.
اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، محمد بن الحسن الطوسي، تصحيح وتعليق: المعلم الثالث ميرداماد الأسترآبادي، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، نشر مؤسسة آل البيت(عليهم السلام)، مطبعة بعثت، قم ـ إيران، 1404هـ.
الأمالي، محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية ـ مؤسسة البعثة، نشر دار الثقافة، قم ـ إيران، ط1، 1414ه.
الأمالي، محمد بن علي الصدوق، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية ـ مؤسسة البعثة، نشر مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، ط1، 1417هـ.
بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، ط2 المصححة، 1403هـ/1983م.
تاريخ الأُمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، تحقيق ومراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ط4، 1403هـ/1983م.
تاريخ المدينة، عمر بن شبة النميري، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، نشر دار الفكر، قم ـ إيران، مطبعة القدس، 1410هـ/1368ش.
الجعفريات (الأشعثيات)، محمد بن محمد ابن الأشعث، نشر مكتبة نينوى الحديثة، ط1، طهران ـ إيران.
الدروس الشرعية في فقه الإمامية، شمس الدين محمد بن مكّي العاملي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، قم ـ إيران، ط2، 1417هـ.
الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، أحمد بن حجر الهيتمي المكي، (ت974هـ)، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة لصاحبها: علي يوسف سليمان - شارع الصنادقية - بميدان الأزهر بمصر، ط2، 1385هـ/1965م.
عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، محمد بن علي الصدوق، تحقيق وتصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، مطابع مؤسسة الأعلمي، 1404هـ/1984م.
الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (ت329هـ)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط4، 1365ش.
كامل الزيارات، محمد بن جعفر بن قولويه، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، نشر مؤسسة نشر الفقاهة، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، 1417هـ.
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي الأتابكي، نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ المؤسسة المصرية العامّة، مطبعة مطابع كستاتسوماس وشركاه.
وسائل الشيعة، محمد بن حسن الحرّ العاملي، تحقيق: مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، نشر مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم ـ إيران، مطبعة مهر، ط2، 1414هـ.
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، نور الدين علي بن عبد الله السمهودي، تحقيق: قاسم السامرائي، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ط1، 1422هـ/2001م.
[1]اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج21، ص47.
[2] اُنظر: بردي الأتابكي، يوسف بن تغري، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ج1، ص138. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص177.
[3] اُنظر: بردي الأتابكي، يوسف بن تغري، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ج1، ص138. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص177.
[4] اُنظر: الشهيد الأول، محمد بن مكي، الدروس الشرعية في فقه الإمامية: ج2، ص20. السمهودي، نور الدين علي بن أحمد، وفاء الوفا: ج2، ص426.
[5] الحرّ العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة: ج12، ص20.
[6] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج1، ص202.
[7] الحرّ العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة: ج12، ص20.
[8] المصدر السابق: ج14، ص507.
[9] ابن قولويه، محمد بن جعفر، كامل الزيارات: ص106.
[10] المصدر السابق: ص104.
[11] الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا(عليه السلام): ج1، ص294.
[12] الحرّ العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة: ج14، ص504 ـ 505.
[14] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص55.
[15] الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ص290.
[16] وهذا يُفهم من الهدف الصريح الذي أطلقه الإمام الحسين(عليه السلام) عند خروجه من المدينة إلى مكّة، والذي أراد للأُمّة أن تعرفه من خلال نهضته المباركة وتسير على وفقه، وهذا الهدف كان عبارة عن قوله(عليه السلام):(...وأنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مُفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي(صلى الله عليه واله)، أُريدُ أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي...). المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329 ـ 330.
[17] قال الإمام أبو عبد الله(عليه السلام): قال الإمام الحسين(عليه السلام): (أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمنٌ إلّا استعبر). ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص108.
[18] ابن حجر الهيتمي المكي، أحمد (ت974هـ)، الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة: ص177.
[19] اُنظر: ابن الأشعث، محمد بن محمد، الجعفريات (الأشعثيات): ج1، ص214. ابن شبّة النميري، عمر بن شبة، تاريخ المدينة: ج3، ص798ـ 799.
[20] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص100.
[21] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص128.
[24] اُنظر: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص 418.