تاريخ
الكنز المفقود: أين خطب النبي؟!

خطب النبي كنز مفقود على أثر المنع عن تدوين السنة النبوية، بتقريب أولي يمكن القول إن هناك ما لا يقل عن ألف خطبة ألقاها النبي صلى الله عليه وآله في أصحابه، في فترة المدينة.

[اشترك]

وذلك أن النبي بقي هناك حوالي عشر سنوات، وكل سنة فيها 50 أسبوعا، وفي كل جمعة هناك خطبتان، فإذا أضفنا إليها خطب العيد، فهناك أربعون خطبة، وهناك خطب صلوات الآيات، وهناك الخطب المربوطة ببعض الأحداث، كتوديعه لسرية أو استقباله أخرى، أو خطاباته في الجيش المقاتل (خطبته في ثنيات الوداع حين خروج الجيش لتبوك)، يكون العدد أكبر من هذا.

عندما تتساءل أين هذه الخطب؟ لا تجد حتى عشرة بالمائة منها! إلى درجة أن الحسن البصري يقول: طلبت خطبة النبي في الجمعة فأعيتني، فلزمت رجلا من أصحابه فسألته عن ذلك.

الغريب أن زعماء الدول والأديان تسجل أقوالهم حتى لو كانت لا معنى لها، بينما خطاب النبي يحتاج أحد التابعين أن يطلبه ويعييه ذلك!

وهناك إشارة في القرآن الكريم إلى أن بعض المسلمين كانوا يتركون النبي وقت الخطبة: (وتركوك قائما) فهذه خطبة النبي في حجة الوداع تحدث فيها عن حذف الربا وإلغائه وأن أول ربا موضوع هو ربا العباس عمه! وأوصى بالنساء فإنهن عوان عندكم، وذكر حقوق الرجال عليهن وحقوقهن على الرجال، وذكر فيها حرمة دم وعرض ومال المسلم على المسلم ( كحرمة شهر ذي الحجة وبلد مكة...).

وخطبته في غدير خم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ بلى: من كنت مولاه، فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه...

خطبته في منى: ما جاءكم عني يوافق كلام الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله.

خطب بنا رسول الله: حتى أسمع العواتق في بيوتهن، وقال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع عورته فضحه ولو في قعر بيته.

خطب رسول الله في عرفات فقال: لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا ظاهر حتى يملك اثنا عشر، كلهم من قريش.

وخطب رسول الله: فذكر الربا وعظم حرمته، ثم قال: وأربى الربا عرض الرجل المسلم ومن الخطب المهمة: خطبته في آخر جمعة من شهر شعبان حول شهر رمضان: بأن الشهر من حيث المجموع أفضل ومن حيث التفاصيل أيضا (وساعاته أفضل الساعات)، وكيفية هذه الضيافة: أنفاسكم فيه تسبيح، ودعاؤكم فيه مستجاب.

(يا أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم) وأشار الى ما يعني إفطار الصائم: أيها الناس من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه فقيل يا رسول الله وليس كلنا يقدر على ذلك فقال صلى الله عليه وآله: اتقوا النار ولو بشق تمرة اتقوا النار ولو بشربة من ماء.

وأشار الى أن حسن الخلق طريق للجنة: من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازا على الصراط يوم تزل فيه الأقدام ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه ومن كف فيه شره كف الله فيه غضبه

فهذه دعوة لمراجعة خطب النبي صلى الله عليه وآله والتمعن فيها والتعرف على كنوزها فنحن بحاجة ماسة الى مراجعة ديننا من خلال ارشادات نبينا الأكرم، نبي إسلامنا.

2021/10/05

الغلبة للمنحرفين وللسلطة: ما الذي حققه النبي (ص) من أهداف الإسلام؟!

في جهود النبي (صلى الله عليه وآله) لصالح الإسلام الحق

من الظاهر أن رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) لا تختص بالدعوة والتبليغ بالإسلام بكيانه العام الجامع بين الفرق المختلفة، والتي يكفًر بعضها بعضا أو يحكم بضلاله، والذي انتهى إلى ما هو عليه اليوم من وضع مأساوي.

[اشترك]

بل تختص رسالته بالإسلام الحق، والفرقة الناجية المنحصرة بخط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وبالإسلام المذكور تنحصر السعادة في الدنيا، والفوز بالثواب والأمن من العقاب في الآخرة.

وعليه لا يكون المعيار في مدى نجاحه (صلى الله عليه وآله) في قيام المجتمع الإسلامي بكيانه العام بل نجاحه في قيام الإسلام الحق.

ومن هنا قد يأتي التساؤل عن دور النبي (صلى الله عليه وآله) في إظهار الحقيقة، وفي الحفاظ على جوهر الإسلام القويم، وعما صنعه على الأرض في سبيل ذلك.

توهم فشل النبي (صلى الله عليه وآله) في مشروعه

بل قد يتوهم بعض الناس فشله (صلى الله عليه وآله) -ولو نسبيا- في ذلك، حيث لم يتفاعل عامة المسلمين معه في عصره، ولم يستطع إصلاحهم، بحيث ينهضون بحمل الدعوة بواقعها وصفائها.

فكانت الغلبة للمنحرفين والمنافقين، مما أدى إلى انحراف مسار السلطة في الإسلام من بعده (صلى الله عليه وآله)، لعجزه عن إقناع المسلمين، بحيث يتأثرون بحديثه وسريته ويتفاعلون معه تشريعاً وسلوكا، ويتمسكون بتعاليم الإسلام، ويتأدبون بآدابه.

توهم ضعف إدارة النبي (صلى الله عليه وآله)

كما قد يصل الأمر إلى توهم ضعف إدارته (صلى الله عليه وآله)، وفقده السيطرة على المسلمين، بتغاضيه عن مواقف المنافقين، واهتمامه بكثرة المسلمين كيف كانوا، وعدم أخذه بالحزم والاحتياط في الأمور، حتى تسنى للمنافقين ما أرادوا، وانهار مشروعه بواقعه المشرف، حتى كاد يقضى عليه من بعده، لولا جهود أهل بيته (عليهم السلام) وخاصة أصحابه (رضوان الله تعالى عليهم).

وغاية ما استطاعوا -بسبب الانحراف الذي حصل- أن أقاموا لدعوة الحق أمة مغلوبة على أمرها، والكثرة الكاثرة من المسلمين على خالفها، قد رضوا بالإسلام المحرّف الخاضع للسلطة، والجاري على ما تريد في السلوك والتشريع، والتي انتهت أخيراً بالتخلي رسميا عن تبني الإسلام كنظام حاكم.

بل أغرق كثير منهم في الإرهاب والوحشية، بنحو يعكس صورة سيئة عن الإسلام القويم ونبيه العظيم (صلى الله عليه وآله) -تشريعاً وسلوكا- يستغلها أعداؤها، كما نراه هذه الأيام.

بل سبق أن حصل ذلك في فترات متعاقبة من تاريخ الإسلام الطويل، كما في بعض فرق الخوارج، وثورة صاحب الزنج، وفرقة القرامطة، وغيرها، على ما أشرنا إليه آنفا.

التشنيع على الشيعة في دعوى انحراف السلطة

وربما يتغاضى بعض المتعصبين عن أدلة الإمامة المحكمة، وعن الواقع التاريخي المؤسف لكثير من الصحابة، وعن حال المسلمين المزري نتيجة انحراف السلطة في الإسلام، ثم يغرق في التشنيع على الطائفة المحقة التي تتبنى خط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وتدعي انحراف مسار السلطة في الإسلام، وخفاء الإسلام الحق على جمهور المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وخروجهم عن كثير من تعاليمه (صلى الله عليه وآله).

وذلك بدعوى: أن ذلك طعن في شخصه (صلى الله عليه وآله) الكريم وتوهين له، حيث لم يستطع بعد جهوده المكثفة في تلك المدة الطويلة أن يصلح جماعة معتدا بها من أتباعه، تصلح لحمل دعوته القويمة بصفائها ونقائها، والمحافظة عليها، وتبليغها الأجيال اللاحقة.

بل لم يثبت على الحق في ذلك الوقت إلا قلة قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع، ولا تستطيع الوقوف أمام الكثرة الكاثرة التي خفيت عليها تعاليم الإسلام القويم بحقيقتها الصافية، وانحرفت عنها.

رد الدعاوى المذكورة

والحديث في التعقيب على ذلك ودفع هذه الشبهات، وإيضاح موقف النبي (صلى الله عليه وآله) ومدى جهوده ونجاحه في مشروعه، يحتاج إلى جهد قد لا ننهض به، ولا نؤدي حقه المناسب في هذه العجالة.

غير أننا نحاول أن نؤدي ما يتيسر لنا بيانه هنا من ذلك بعد الاتكال على الله تعالى، وطلب العون والتسديد منه جل شأنه، وذلك ببيان أمور:

الوظيفة الأهم للنبي (صلى الله عليه وآله)

الأول: أن الأوهام المذكورة ناشئة عن عدم تحديد الأولويات في وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) الشرعية، حيث سبق في مقدمة هذا البحث بتفصيل أن أول وظائفه وأهمها -كما هو حال سائر الأنبياء (عليهم السلام)- ليس هو إصلاح الناس واهتدائهم، بحيث يتقبلون تعاليم الدين، ويتمسكون بها ويحافظون عليها، ولا يخرجون عنها، بل هو تبليغ الناس بما عليهم وإيضاح معالم دينهم، وبيان أحكام الله تعالى وما فرضه عليهم عقيدة وعمال، وإقامة الحجة عليهم في جميع ذلك، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقد سبق أن من المعلوم -من الكتاب المجيد والسنة والشريفة- قلة المهتدين والمؤمنين.

ومع ذلك كله بقي النبي (صلى الله عليه وآله) مصمما على المضي في أداء وظيفته وتبليغ رسالته مهام كلفه ذلك من ثمن، ومهام كانت النتائج على أرض الواقع، نتيجة تقصير الناس أنفسهم، والسلبيات الكثيرة في المجتمع الإسلامي الذي كان يعمل معه (صلى الله عليه وآله)، من دون تقصير منه (صلى الله عليه وآله) في التبليغ وأداء الوظيفة.

حتـى إنـه (صلى الله عليه وآله) قـال ـ كما في حديـث العربـاض بـن سـارية ـ:

«قـد تركتكـم على البيضـاء ليلهـا كنهارهـا، لا يزيـغ بعـدي عنهـا إلا هالـك...» (1).

مشيراً إلى وضـوح الإسلام الـحق نتيجـة جهـوده (صلى الله عليه وآله) في التبليـغ، بحيـث لا تحجبه الشـبهات، والفتـن التـي هـي كقطـع الليـل المظلم، ومحاولات التعتيـم والتضليـل مهما كانـت.

وقال الله عزوجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (2).

فإنه صريح في أن ما حصل من خلاف في اليوم الأول من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وما حصل بعد ذلك ويحصل، كله بعد البينة ووضوح الحجة، حيث يكون أحد الطرفين بمنزلة الكافر الذي يسود وجهه يوم القيامة، ولا يعذر في موقفه، وإن انتحل الإسلام، وانتسب له.

كما تضمنته كثير من الآيات الشريفة في حق الأمم السابقة. قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد) (3).

ما يقتضيه كون الإسلام خاتم الأديان

الثاني: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمتاز عن بقية الأنبياء (عليهم السلام) بأن دينه خاتم الأديان وشريعته خاتمة الشرائع، فلابد من أن يكون التبليغ بها بواقعها المشرف بحيث يصل إلى الناس كلهم مهما امتد بهم الزمن وتعاقبت الأجيال، بحيث يؤمن عليها من الضياع، لوضوح حجتها وإن تغاضى فيها من تغاضى، أو كابر في إنكارها من أنكر.

وقد حصل ذلك منه (صلى الله عليه وآله) فعلاً بوجه لافت للنظر، كما يتضح بأدنى نظرة موضوعية في أدلة مذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) وحججه.

ويتجلى ذلك حين نرى المستبصرين -مهما امتد بهم الزمن وتعاقبت الأجيال- يفاجأون بوضوح الحقيقة، وقوة أدلتها، بل قد يشعرون بالغبن والغباء لغفلتهم عنها قبل استبصارهم.

كما أنهم يدركون إجرام علماء السوء وغيرهم ممن كان يحاول التعتيم عليها، وإغفال عامة المسلمين عنها، وتشويه واقعها، بحيث ينصرفون عن التعرف عليها وعن النظر في أدلتها.

ولذا يتميز شيعة أهل البيت (أعزهم الله تعالى) عن غيرهم بالانفتاح والدعوة للنظر في الأدلة والبحث عن الحقيقة بموضوعية وإنصاف، بعيدا عن التعصب.

بينما يجِّد الآخرون في الانغلاق، والنهي عن الفحص، والتحذير من التعرف على الشيعة والاطلاع على واقع دعوتهم، فضلا عن النظر في أدلتهم وثقافتهم، كل ذلك لثقة الشيعة بأنفسهم وقوة أدلتهم، بخلاف الآخرين.

ولم يحصل ذلك إلا بسبب جهود النبي (صلى الله عليه وآله) المكثفة في التبليغ، وبعد نظره للمستقبل، وإحكام تخطيطه له، ولو بتسديد الله عز وجل له في ذلك.


الهوامش:

(1) مسند أحمد ج:٤ ص: ١٢٦ حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللفظ له. تفســر القرطبي ج:٧ ص:١٣٨. ســنن ابن ماجة ج:١ ص:١٥ باب اتباع ســنة الخلفاء الراشــدين المهديين. المستدرك على الصحيحين ج:١ ص: ١٧٥ كتاب العلم. المجازات النبوية، ص:٤٤٢. وغيرها من المصادر.

(2) سورة آل عمران الآية: ١٠٥-١٠٧.

(3) سورة البقرة الآية: ٢٥٣.

* المصدر: خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله)، المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، ص149-155.

2021/10/05

السقيفة أولاً: لماذا أخّروا دفن النبي؟!

الأمر المسلم به أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يدفن إلا بعد ثلاث أيام، ومن الواضح عند الجميع أن السبب في ذلك هو انشغال الصحابة بأمر خلافته، حيث كان اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة يوم الاثنين وهو ذاته اليوم الذي انتقل فيه الرسول إلى الرفيق الأعلى، ولم يلتفتوا لموضوع الدفن إلا بعد أخذ البيعة لأبي بكر من عامة المسلمين يوم الثلاثاء وبالتالي لم يدفن الرسول إلا مساء يوم الأربعاء.

[اشترك]

ومع وضوح الحيثيات التاريخية والملابسات التي رافقت دفن الرسول الأكرم (صل الله عليه وآله) إلا أن هناك محاولات لتبرير هذا الفعل غير اللائق من قبل مدرسة الخلفاء، حيث كان كل ما يشغلهم هو إيجاد الاعذار لفعل الصحابة، يقول الدكتور محمود محمد: (ومن تتبع السيرة نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم، قد انشغلوا عن تجهيز الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودفنه بمسألة مهمة، ألا وهي تنصيب خليفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ورد عنهم أنهم (كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة).. ثم يقول: ونحن إذ نذكر هذه المسألة لا نريد بها انتقاد الصحابة الكرام البتة، معاذ الله، بل لنظهر أهمية القضية التي دفعتهم للتصرف على هذا النحو) وهذا غير مقبول وبخاصة أنه لا يتفق مع النسق الفكري لأهل السنة، فإذا كان موضوع تعين خليفة بعد رسول الله (ص) بهذا المقدار من الأهمية حيث يجعل الصحابة يتنافسون في خلافته في سقيفة بني ساعدة حتى ذهلوا عن واجبهم اتجاه دفن رسول الله (ص) فلماذا لم يلتفت رسول الله لهذا الأمر ويقوم بتعيين من يكون خليفته من بعده؟ وعليه فإن النظرة الموضوعية والتحليل التاريخي بشكل محايد يقود حتماً إلى أن ما قام به بعض الصحابة هو مخالفة واضحة لأمر الرسول بتنصيب الإمام علي (عليه السلام)، وبالتالي فإن السقيفة لم تكن إلا عنواناً للانقلاب على خط الإمامة وارتداد على أهل البيت (عليهم السلام)، حيث بدأت بوادر الانقلاب عندما سارع الأنصار للاجتماع في السقيفة - وهي مظلة مصنوعة من جريد النخيل يستظل بها الزراع والرعاة خارج المنطقة السكنية للمدينة المنورة - الأمر الذي يدعونا للتساؤل عن اختيار هذا المنطقة النائية والبعيدة عن أعين الناس في حين إنَّ المسجد النبوي يعد المكان المناسب لمثل هذه الاجتماعات، كما أنَّ السقيفة مهما اتسعت لا تتسع لأعداد كبيرة؛ لأنها غير معدة لمثل هذا الحدث الجلل، مما يعني أنَّ وقوعها كان معد له سلفاً وقد تم اختيار الحضور بعناية ولم يترك الأمر للصدفة ولم يفتح الباب لجميع الأنصار، الأمر الذي يؤكد أنَّ الزعامة السياسية بعد رسول الله كانت تمثل هاجسا عند زعماء الأنصار مما جعل كبراؤهم يبادرون لهذا الاجتماع ورسول الله مسجى لم يدفن بعد، واختيار هذا الزمان وهو يوم وفاة رسول الله الذي يمثل الحدث العظيم الذي من المفترض أن يهز كيان المجتمع، يؤكد وجود نية مبيّتة تعمل على اغتنام الفرصة وأبعاد المهاجرين عن المنافسة.

وإذا اكتمل للأنصار ما خططوا له، لتغير مسار الرسالة وكان المسلمون اليوم يمجدون سعد بن عبادة ومن بعده الحباب بن المنذر وبشير بن سعد وغيرهم من الأنصار بوصفهم خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر الذي يؤكد أنَّ ما عليه المسلمين اليوم من اعتقاد في الخلفاء ليس أكثر من نتاج لفشل محاولة الأنصار الانقلابية من أجل زعامة المسلمين.

ولكن لم تسيّر الرياح بما يشتهي الأنصار فسرعان ما اكتشف أبو بكر وعمر أمرهم وأخبروا معهم أبو عبيدة بن الجراح. وكيف اكتشف هؤلاء أمرهم دون غيرهم لا نعلم؟ ومن المفترض أنَّ هؤلاء آخر من يسمع بهذا الاجتماع بحسب ما نقل التاريخ من قربهم من رسول الله وشديد التصاقهم به، فكيف جاز لهم مفارقته وهو قد فارق الدنيا لتوه، وقد انقلب الوضع في المدينة رأساً على عقب بين باكٍ ومفجوعٍ ومصدومٍ، وقد اجتمع الناس حول داره الشريف، فكل الظروف تحكم بنجاح اجتماع الأنصار واستحالة كشفه حتى من الرعاة والزراع خارج المدينة ناهيك بإن يكشف أمرهم أبو بكر وعمر، الأمر الذي يقودنا الى وضع عشرات الأسئلة التي لها علاقة بمطامع البعض بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد كان الجميع يتوقع وفاة رسول الله وكانوا يتطلعون جميعاً لخلافته، ولو لم يحس الأنصار بطمع المهاجرين في الخلافة لما بادروا للاجتماع للوقوف ضد مطامع المهاجرين، وما نقله لنا التاريخ هو اجتماع الأنصار ولم ينقل لنا اجتماع تمهيدي للمهاجرين ومع ذلك لا يستبعد أن يكون بعض المهاجرين قد عزموا أمرهم باستلام السلطة بعد رسول الله، الأمر الذي جعل الأنصار يبادرون للاجتماع في السقيفة، ومن الواضح أنَّ الأنصار لم يكونوا بعيدين عن مراقبة المهاجرين ولذلك ما أن سمعوا باجتماعهم حتى سارعوا لإفشاله، وإذا ربطنا بين هذا النزاع الذي حدث في السقيفة وبين حرص رسول الله على إنفاذ جيش أسامة وتأكيده على ذلك، ومن ثم مخالفة أمره الصريح في إحضار كتفاً ودواة ليكتب لهم ما يمنعهم من الاختلاف، نتحصل على نتيجة مفادها إنَّ إنفاذ جيش أسامة وكتابة الوصية كلها كانت من أجل تحديد من يتولى الخلافة بعد رسول الله لقطع هذا النزاع، وقد علم بعض الصحابة بذلك ولذا عملوا بشتى السبل لمنع رسول الله من ذلك، ولذا ما إن مات رسول الله وقبل دفنه، وقع هذا النزاع حول السلطة مما تسبب في تأخير دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2021/10/04

الأبعاد الاجتماعية للأطياف الداخلة في تاريخ الدعوة الإسلامية

لقد واجه النبي الأكرم (ص) طوال فترة الدعوة، ابتداء من نزول الوحي عليه في جبل حراء الى انتشار الدعوة في أرجاء الجزيرة العربية في نهاية عمره الشريف، أطيافا اجتماعية كانت لها سماتها المؤثرة على مسار الدعوة وهي:

[اشترك]

أهل مكة: وهؤلاء ـ بالسواد الاعظم ـ قد أبدوا الممانعة بالغة الأثر حيال دعوة النبي (ص) وحشدوا الغالي والنفيس في سبيل القضاء على الدعوة الإسلامية، كما هو ثابت في التاريخ، وقد كانت تلك الممانعة لأسباب عدة أهمها:

ـ طبيعة مكة الصحراوية بتأثير ذلك على نفسية ابنائها حيث تجعل لهم روح شرسة صلبة لا تعنى بالأبعاد الروحية والخطاب المثالي في الحياة.

ـ شيوع التجارة كمهنة أساس لأبناء مكة، وما يعني ذلك من تغلغل لروح النفعية في نفوسهم، وحساب الأمور حساب الربح والخسارة المادية، ولاشك أن القيم التي تبناها الإسلام كانت ذات مسار بعيد عن هكذا حسابات.    

ـ تولي الأمويين ـ سادة قريش والطبقة الأولى فيها ـ قيادة الجبهة المعادية للإسلام، انطلاقا من روح العداء للبيت الهاشمي والمنافسة له، حيث أن الأمويين طالما كانوا على سعي دائم للّحاق بالمجد الهاشمي والتفوق عليهم، وظهور الاسلام بما فيه من نبوة خاتمة تقمصها رجل من بني هاشم، سيعد فضلا عالمياً لا يدرك يحسب لبني هاشم، بمعنى أن روح القبلية الجاهلية المتغلغلة لدى الأمويين قد دفعتهم لقيادة الحرب على الإسلام ودعوته.

أهل الطائف: مما يحدثنا عنه التاريخ أن النبي الاكرم (ص) قد ذهب الى الطائف لنشر الإسلام فيها بعد يأسه من استجابة أهل مكة، غير أنه قوبل فيها بصد وامتناع كبيرين، وذلك بسبب أن العديد من سادة قريش كانوا يملكون بساتين وأراضٍ في الطائف وكان الأهالي يعملون لديهم، وحتى السادة فيها لم يكونوا على استعداد لمواجهة قريش والإسلام وقتها دعوة ضعيفة لا يمكن التعويل على مستقبلها.

أهل المدينة: وهؤلاء استجابوا لدعوة النبي (ص) لأسباب هي:

ـ كانوا على تماس مع اليهود وقد سمعوا منهم أخبار التبشير بنبي سيظهر وعرفوا منهم علاماته، فلما التقوا النبي محمد (ص) وجدوا تلك العلامات متواجدة فيه (ص).

ـ أهالي المدينة كانوا يمتهنون الزراعة، وهذه المهنة بدورها تغرس بدورها البساطة والطيبة في النفس، لذا كانوا على استعداد لتقبل دعوة الإسلام التي تتبنى المناحي الروحية والقيم المثالية.

ـ العداء الطاحن الذي طالما استمر بين الاوس والخزرج والذي وصل الى حالة صار يبحث بسببها الطرفان عن وسيلة للخلاص، وهذا ما تثمل بمجيء النبي الأكرم (ص) اليهم حيث يجمعهم تحت لواءه قوة موحدة.

الأعراب سكان البادية: وهم السواد الأعظم من سكان الجزيرة، وهؤلاء بطبيعتهم البدوية التي لا تنظر إلا الى القوة كمعيار للإتّباع، لهذا كان تعاملهم مع الدعوة الإسلامية أن طووا عنها كشحا اثناء مسيرها ككتلة ضعيفة إزاء قريش وقوتها، وآمنوا وأذعنوا الى النبي (ص) بعد انتصاره الساحق على قريش وبسط نفوذه في الجزيرة، ثم تراهم انقلبوا وارتدوا بعد وفاة النبي (ص) حيث أن الوفاة كانت مؤشر ضعف بالنسبة اليهم، وحين تغير التوجه الإسلامي الى تكوين قوى محاربة للفتوحات، بما في الفتوحات من غنم ومكسب، تحشدوا صفوفا متراصة في جيوش الدولة الإسلامية باسم الجهاد الاسلامي.    

2021/10/04

من تراث المرجع الراحل: جهود النبي (ص) قبل الهجرة في 10 سنين فقط

كانت المحصلة لجهوده (صلى الله عليه وآله) قبل الهجرة في مدة تقرب من عشر سنين هي:

[اشترك]

أولاً: مواجهة مجتمع قريش في مكة بإعلان دعوته الشريفة بشجاعة وإصرار، مع ما سبق من جهات مناقضتها لمفاهيمهم وثقافتهم السائدة منذ مدة طويلة، وللواقع المنظور في موازين القوى المادية.

وثانياً: إرباك المجتمع المكي وانشقاقه على نفسه، نتيجة تقبل جماعة كبيرة لدعوته واعتناقهم الإسلام، وهم منبثون فيهم على اختلاف بطونهم.

وثالثا: خروج الإسلام إلى الحبشة بهجرة من هاجر من المسلمين إليها واقتناع ملكها به في الجملة، بحيث خابت قريش في محاولتها استرجاع المسلمين، وهو مؤشر على قوة الإسلام، كما سبق.

ورابعاً: تهيئة المسلمين للثبات والصبر على الأذى في سبيل دينهم وعقيدتهم، من دون أن يتعجّلوا بردود فعل مضادة، قد تشوه صورتهم وتضخم من قبل المشركين، بحيث تغفل الناس عن ظلامتهم وعن عدوان المشركين عليهم.

وروي أن جماعة من المسلمين ممن لقوا الأذى من قريش استأذنوا النبي (صلى الله عليه وآله) في قتالهم، فأبى عليهم، وبه نزل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (1).

قال الشيخ الطبرسي (قدس سره): «قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص. كانوا يلقون من المشركين أذى شديدا وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، فيشكون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتال هؤلاء، فإنهم قد آذونا، فلما أمروا بالقتال وبالمسير إلى بدر شق على بعضهم، فنزلت هذه الآية» (2).

وخامسا: إقناع الأنصار بدعوته (صلى الله عليه وآله) الشريفة، ثم تبنيهم لها بعد أن

أيس (صلى الله عليه وآله) من إقناع قريش ـ كجماعة موحدة متماسكة لها هيبتها ـ بها.

تبني الأنصار الدعوة مع شعورهم بفداحة الثمن.

كل ذلك مع شعور الأنصار بفداحة الثمن الذي يتعرضون لدفعه، حتى قال لهم العباس بن نضلة الأنصاري عند بيعة العقبة الثانية:

«يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبةً وأشرافكم قتال أسلمتموه، فمن الآن. فهو والله خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة» قالوا: «فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله؟»  قال: «الجنة».

وذكر اليعقوبي أن بيعة الأنصار تمت على أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم، وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر، وأن ينصروه على القريب والبعيد، وشرط (صلى الله عليه وآله) لهم الوفاء بذلك والجنة» (3).

وذكر الشيخ الطبرسي (قدس سره) أنها تمت على أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم، قالوا: فما لنا بذلك؟ قال: الجنة، تملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم، وتكونون ملوكا (4).


الهوامش:

(1) سورة النساء الآية: ٧٧.

(2) مجمع البيان في تفســر القرآن ج:3 ص:134 في تفسري الآية الشريفة، واللفظ له. مرآة العقول في رشح أخبار آل الرســول ج:26 ص:456. التفسير الكبري للطبراني ج:2 ص:263. السرية الحلبية ج:2 ص:341. تفسري الثعلبي ج:3 ص:341. وغريها من المصادر.

(3) الكامــل في التاريخ ج:2 ص:99-100 ذكر بيعة العقبة الثانية، واللفظ له. أســد الغابة ج:3

ص:108-109 في ترجمة العباس بن عبادة بن نضلة. تاريخ الطربي ج:2 ص:93. المنتظم في تاريــخ الأمم والملوك ج:3 ص:37 ذكر الحوادث التي كانت في ســنة ثالث عرشة من النبوة:

ذكــر العقبة الثانية. دلائل النبوة ج:2 ص:450 باب ذكر العقبة الثانية. وباختصار في الإصابة

في معرفة الصحابة ج:3 ص:511 في ترجمة العباس بن عبادة بن نضلة.

(4) تاريخ اليعقوبي ج:٢ ص:٣٨ عند الكلام في قدوم الأنصار مكة.

(5) إعلام الورى بأعلام الهدى ج:١ ص:١٤٢ في الفصل الســابع في ذكر عرض رســول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه على قبائل العرب...

المصدر: خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله)، المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، ص52-55.

2021/09/29

تشويه وتسقيط.. كيف تعامل الحسن (ع) مع ’المكارثيّة الأمويّة’؟!
ما المقصود من المكارثية؟ المكارثية هي نسبة لشخص يحمل هذا الاسم كان محامياً وقاضياً وأصبح مع الأيام عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي.

[اشترك]

 وتميز هذا الشخص بهجومه المتواصل على الروس، وبتخويف الناس منهم بحيث جعل قضية الصراع الروسي الأمريكي شأنا عاماً وخلق حالة خوف ورعب بل هيستيريا من التدخل الروسي والاختراق للوسط الأمريكي، ومع الأيام تحول أسلوبه في التعامل مع هذه القضية إلى نظرية سياسية في التعامل مع الخصوم تقوم على ثلاثة أمور أساسية:

1- القيام بعملية ممنهجة لتشويه الخصوم.

2- عزل اجتماعي للخصوم بتخويفهم وترهيبهم وتخويف المجتمع منهم.

3ـ عمليات الإقصاء بل وتصفية الخصوم بكل أنواع التصفية.

معالم المكارثية الأموية:

هذه النظرية السياسية وإن كانت حديثة من جهة الاصطلاح والتنظير إلا أنه بالنظر إلى التاريخ نجد أنها طبقت في كثير من العصور، ولعل أجلی مصداق للمكارثية هي السياسة الأموية، حيث قام معاوية في مواجهة الإمام الحسن بالتالي:

 1- استئجار عدد كبير من رواة الحديث الذين تفرغوا لوضع الأحاديث لتشويه البيت العلوي.

 2- القيام بعزل شيعة البيت العلوي في المجتمع الإسلامي والضغط عليهم بحيث تحولوا إلى فئة منبوذة مكروهة في المجتمع.

 3- القيام بعملية تصفية ممنهجة لشيعة اهل البيت وإبادة جماعية لهم.

المواجهة الحسنية:

ما هي السياسة التي اتبعها الإمام الحسن عليه السلام في مواجهة هذه الحرب الباردة؟

الخطوة الأولى: هي عدم الانجرار، فرغم حملات التشويه الواسعة للإمام الحسن عليه السلام لم يواجه الإمام الطرف الآخر بالمثل وإنما آثر السكوت لكون الدفاع عن النفس في بعض المرات يكون سببا في دخول الإنسان في دائرة الشبهة.

الخطوة الثانية: تعزيز اللحمة بين أطياف المسلمين والمنع من التقسيم والتفرقة وهذه أهم دافع للصلح.

الخطوة الثالثة: هي السعي لتأسيس رأي عام جديد في مواجهة الإعلام الأموي، فانبرى الإمام الحسن له.

2021/09/15

كفّ العادية وأسكن الطاغية.. هكذا أعزّ الإمام الحسن المؤمنين!

كتب ابراهيم جواد:

في ذكرى شهادة الإمام الحسن عليه السلام، يمكن أن نقول: إنه من المؤسف أن تمضي هذه العصور، ونحن لا زلنا نركز في سيرة الإمام الحسن عليه السلام على بيان مبررات سلوكه السياسي، أو دفع الشبهات التي ألصقت به كيداً من بني أميّة وأتباعهم، وبذلك بقينا بعيدين عن تناول سيرته كشخصية إلهية؛ ذات أبعاد معرفية وروحية عميقة، تمثل دروساّ للإنسان المؤمن، ومنهاجاً له في حياته.

[اشترك]

ومع هذا الحال المؤسف؛ أحب التنويه إلى بعض النقاط فيما يتعلق بسياسته، على أمل أن تكون مقدمة للجواز إلى فهم أسرار سيرته (عليه السلام:

إن منهج التحليل التاريخيّ الذي يستند إلى ملازمات باطلة لا يمكنه أن يقرأ التاريخ بعين منصفة ورؤية علمية، ومن أمثلة ذلك: من يبني على دلالة المهادنة على الضعف وحب الراحة، ودلالة الحرب على الشجاعة والبطولة دائماً، والصحيح أن كلا المسلكين تتضح دلالتهما عند ظهور السياق الذي يولدان فيه، فربما كانت المهادنة دليلاً على الحكمة، وربما كانت الحرب دليلاً على التهور والحماقة. وفي عالم السياسة وتدبير شؤون المجتمع البشري لا يلتزمون بتلك الدلالات دوماً، بل يقدّرون كل فعل بحسب سياقه وأسبابه وآثاره.

ومن الواضح أنه لا يُلتزم في عالم السياسة بوحدة السلوك السياسي دائماً، وإنما الالتزام منحصرٌ بتحقيق الأهداف والمبادئ العليا، ولذلك نرى الدول تحارب أحياناً، وتفاوض، وتهادن، ثم تقاتل، .. إلخ، وهكذا. وهذا التعدد في السلوك ليس تناقضاً في سيرة الدول، وإنما لأن هذه السلوكيات المختلفة هي عبارة عن أساليب وطرق إلى تحقيق الأهداف والمبادئ الأساسية التي تؤمن بها، فهي مجرد تفاصيل تتعلق بحقيقة الظروف الراهنة في الوقت.

إذا اتضح لنا هذا، فنقول: مقتضى الإنصاف أن نعتقد أنّ ما فعله الإمام الحسن عليه السلام لا يقلّ أهميةً عن فعل أيّ إمام آخر، فهذه السياسة الإلهية تركيبة متجانسة، لا يمكن التفكيك بينها، أو الاستغناء ببعضها عن الآخر؛ لأنها كلها تندرج تحت إطار جامع وهو العنوان العريض الذي يمثل جملة الأهداف والمبادئ في سيرة الأئمة عليهم السلام وهو (حفظ الإسلام)، وذلك بإحياء القرآن وتعاليمه، ونشر سنة النبي صلى الله عليه وآله، وما سوى ذلك تفاصيل خارجية تتعلق بحقيقة الظروف الراهنة آنذاك وما تتطلبه...

 فإن المهادنة في عهد الإمام الحسن عليه السلام أو الثورة في عهد الإمام الحسين عليه السلام عملان لمقصد واحد وهو تحقيق ذلك العنوان الأهم. وهُمَا وإن اختلفا شكلاً، لكنهما متحدان مضموناً ومقصداً، فهما سلوكان تم العمل وفقاً لهما بما ينسجم مع ظروف الواقع ومتطلبات تحقيق العنوان الأعلى (حفظ الإسلام)، فالمحورية والموضوعية لذلك العنوان، وأما الطريق إلى ذلك فهو مبني على ما يتطلبه تحقيق ذلك العنوان من سلوك معيّن.

وبناءً على ذلك: فإن تقسيم التشيع إلى حسنيّ وحسيني من أكثر الأمور إجحافاً بحق الإمام المجتبى عليه السلام، فغالباً ما يأخذ توصيف "التشيع الحسني" في كلام بعض المثقفين جانبَ الضعف والاستسلام والمهادنة الخاضعة الذليلة. وإذا كان مجرد السكوت - لظروف قاسية - يعد مسلكاً حسنياً ضعيفاً، فأصحاب هذا التحليل ملزمون بتقسيم حياة أمير المؤمنين عليه السلام إلى حقبة حسنية وحقبة حسينية، باعتبار أنّه لم يقاتل الثلاثة وقاتل معاوية، في حين أن منهج أمير المؤمنين عليه السلام واحد، ومسلكه واحد، وشخصيته واحدة، بل يلزمهم القبول بذلك في شأن النبي صلى الله عليه وآله، في حين أن الواقع خلافه. والصحيح أن هذا التفاوت منشؤه اختلاف الظروف الخارجية، لا اختلاف الشخصية أو تناقضها. وإذا التزموا بذلك في حق أمير المؤمنين عليه السلام فإنهم ينقضون عمدة أدلتهم في ذلك التحليل التاريخي الفاسد.

وفي هذا السياق؛ ينبغي لنا أن نطالع بعض الوثائق التاريخية المهمة التي تكشف عن حقيقة المشهد السياسي في عهد الإمام الحسن عليه السلام، ومن جملة هذه النصوص القيّمة دعاؤه في القنوت، فقد روى السيد ابن طاوس (رحمه الله) في كتابه «مهج الدعوات» قنوتات متعددة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ومن ضمنها قنوتاً عن الإمام أبي محمد الحسن بن علي المجتبى صلوات الله عليه، ويدور هذا القنوت الشريف حول أمرين، أولهما التمجيد والثناء على الحق تبارك وتعالى بعبارات توحيديّة عظيمة، وعبودية محضة، فينبغي للعبد أن يستفيد من هذا النهج المبارك في مناجاة الحق سبحانه وتعالى، وأن لا يغفل عن ذلك. وأما ثانيهما - وهو القسم الأكبر - فهو بيان لحقيقة المشهد السياسي بلسان الإمام الذي طالما تعرض للتشويه نبزاً وتهمةً، ففيه إيضاح لمظلوميته وتقاعس الأمة الإسلامية عن نصرته وقعودهم عن مواجهة الاستكبار الأمويّ، وفي هذا المقطع يبرز الإمام جملة من النقاط المهمة، ومنها:

•  بيان آثار التخاذل عن نصرة الحق ونتائجه على الأمة الإسلامية، فقد وصف ذلك بقوله مخاطباً الحق تبارك وتعالى: (تَشْهَدُ الِانْفِعَالَ، وَتَعْلَمُ الِاخْتِلَالَ، وَتَرَى تَخَاذُلَ أَهْلِ الْخَبَالِ، وَجُنُوحَهُمْ إِلَى مَا جَنَحُوا إِلَيْهِ مِنْ عَاجِلٍ فَانٍ وَحُطَامٍ عُقْبَاهُ حَمِيمٌ آنٍ)، فهو يذمّ التخاذل والركون للدنيا والقعود عن مواجهة الباطل، ويشير إلى ثمرة ذلك التكاسل وما خلفه من ضعف واختلال وفساد، وبذلك بيّن حقيقة أنّ ما آلت إليه الأمور لم يكن إلا لضعف بصيرة الأمة وتساهلها في مواجهة شيطنة معاوية.

•  سعي الإمام إلى بذل كل ما يملك من جهد ليدفع ضلال المضلين وفتن بني أمية عن الإسلام والمسلمين، وفي ذلك قال: (اللَّهُمَّ فَقَدْ تَعْلَمُ أَنِّي مَا ذَخَرْتُ جُهْدِي وَلَا مَنَعْتُ وُجْدِي حَتَّى انْفَلَّ حَدِّي وَبقِيتُ وَحْدِي).

ولا تخفى هاهنا الإشارة إلى أن تحول المسار السياسي لم يكن خياراً محبذاً للإمام، وإنما كان نتيجة الخذلان، فإن بقاء الإمام وحيداً مخذولاً من الأمة، ومستضعفاً من الطواغيت كان من عوامل التحول من القتال إلى المهادنة.

•  بيان الوجه في عقد "الهدنة" السياسية مع معاوية بن أبي سفيان، حيث أراد به كفّ عدوانه وحقن دماء من بقي من أهل الإيمان والولاية ترجيحاً لمصلحة الإسلام في تلك الظروف الحرجة، كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام حينما قال: (فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَوْتِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى، وَشَرِبْتُ عَلَى اَلشَّجَا، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ اَلْكَظْمِ وَعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ اَلْعَلْقَم).

وإلى هذا أشار في قنوته تأسياً بأمير المؤمنين عليه السلام، فقال في قنوته: (فَاتَّبَعْتُ طَرِيقَ مَنْ تَقَدَّمَنِي فِي كَفِّ الْعَادِيَةِ، وَتَسْكِينِ الطَّاغِيَةِ عَنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْمُشَايَعَةِ)، فكما كفّ أمير المؤمنين عليه السلام عن قتال طواغيت السقيفة ترجيحاً لمصلحة أهل الحق، ودفعاً لضرر أعظم، تجرّع الإمام الحسن عليه السلام من ذلك الكأس المرّ المليء بالعلقم، ومع ذلك ناله من الأذى والتهمة ما ناله، وكأنه هو السبب في تقصير الأمة عن إجابة نداء إمامها وولي أمرها.

•  دعاء الإمام على الظالمين في خاتمة القنوت؛ فيه جلاء للأبصار التي أصابتها غشاوة، وبيانٌ أنه لم "يصالح" ولم يتنازل عن حقه، ولا رضي بالطاغية، وإنما هو القهر والغصب والأذى الذي ما انفك عن سيرة أهل البيت عليهم السلام مذ ارتحل خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله.

فليُراجع القنوت بتمامه للاطلاع على كافة مضامينه بدقة. وكم هو جدير أن يُطالَع هذا القنوت ولو مرة في العمر، لنقف على معالم المشهد السياسي الذي ظُلم فيه ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعرض للتشويه بسببه، فإنه كان منبراً إلهياً لبيان جهاد الإمام وسعيه، وتعرضه للخذلان والاستضعاف، وموقفه من القاعدين والظالمين على حد سواء.

2021/09/15

قاتل صناديد العرب: كيف حارب أمير المؤمنين (ع) الجن؟!

إن قضية محاربة أمير المؤمنين (ع) الجن قد بينها شيخنا المفيد (أعلى الله تعالى مقامه) في كتابه الإرشاد، فذهب إلى صحة الحادثة، وذكر أن العامة والخاصة قد رووا هذه الحادثة ولم ينكروها، وأشار إلى أن الذي كان ينكر الحادثة هم المعتزلة بسبب ميلهم إلى مذهب البراهمة.

[اشترك]

وإليك نص ذلك طبقاً لما ورد في كتاب الإرشاد، (ج ١/ ص ٣٥٩)، إذ قال المفيد: ومن ذلك (ما تظاهر به الخبر من بعث رسول الله صلى الله عليه وآله له إلى وادي الجن، وقد أخبره جبرئيل عليه السلام بأن طوائف منهم قد اجتمعوا لكيده، فأغنى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وكفى الله المؤمنين به كيدهم، ودفعهم عن المسلمين بقوته التي بان بها من جماعتهم.

 فروى محمد بن أبي السري التميمي، عن أحمد بن الفرج، عن الحسن بن موسى النهدي، عن أبيه، عن وبرة بن الحارث، عن إبن عباس رحمة الله عليه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وآله إلى بني المصطلق جنب عن الطريق، وأدركه الليل فنزل بقرب وادٍ وعر، فلما كان في آخر الليل هبط عليه جبرئيل عليه السلام يخبره أن طائفةً من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه عند سلوكهم إياه، فدعا أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب عليه السلام وقال له: "اذهب إلى هذا الوادي، فسيعرض لك من أعداء الله الجن من يريدك، فادفعه بالقوة التي أعطاك الله عز وجل، وتحصن منه بأسماء الله التي خصك بعلمها" وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس، وقال لهم: "كونوا معه وامتثلوا أمره" .

فتوجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى الوادي، فلما قارب شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير، ولا يحدثوا شيئاً حتى يأذن لهم.

 ثم تقدم فوقف على شفير الوادي، وتعوذ بالله من أعدائه، وسمى الله عز وجل وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يقربوا منه فقربوا، فكان بينهم وبينه فرجة مسافتها غلوة، ثم رام الهبوط إلى الوادي فاعترضته ريح عاصف كاد أن يقع القوم على وجوههم لشدتها، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول ما لحقهم. فصاح أمير المؤمنين: " أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وصي رسول الله وابن عمه، اثبتوا إن شئتم" فظهر للقوم أشخاص على صورة الزط تخيل في أيديهم شعل النار، قد اطمأنوا بجنبات الوادي، فتوغل أمير المؤمنين عليه السلام بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً.

فما لبثت الأشخاص حتى صارت كالدخان الأسود، وكبر أمير المؤمنين عليه السلام ثم صعد من حيث انهبط، فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه. فقال له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: ما لقيت يا أبا الحسن؟ فلقد كدنا أن نهلك خوفاً وإشفاقنا عليك أكثر مما لحقنا. فقال لهم عليه السلام: "إنه لما تراءى لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله عز وجل فتضاءلوا، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم، ولو بقوا على هيئاتهم لأتيت على آخرهم، وقد كفى الله كيدهم وكفى المسلمين شرهم، وسيسبقني بقيتهم إلى النبي عليه وآله السلام فيؤمنون به".

وانصرف أمير المؤمنين بمن تبعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخبره الخبر، فسري عنه ودعا له بخير، وقال له: "قد سبقك -يا علي- إلي من أخافه الله، فأسلم وقبلت إسلامه" ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين.

قال المفيد (قدس): وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة، ولم يتناكروا شيئاً منه. والمعتزلة لميلها إلى مذهب البراهمة تدفعه، ولبعدها عن معرفة الأخبار تنكره، وهي سالكة في ذلك طريق الزنادقة فيما طعنت به في القرآن، وما تضمنه من أخبار الجن وإيمانهم بالله ورسوله عليه وآله السلام، وما قص الله تعالى من نبأهم في القرآن في سورة الجن وقولهم: (إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنا به " إلى آخر ما تضمنه الخبر عنهم في هذه السورة. وإذا بطل اعتراض الزنادقة في ذلك بتجويز العقول وجود الجن، وإمكان تكليفهم وثبوت ذلك مع إعجاز القرآن والأعجوبة الباهرة فيه، كان مثل ذلك ظهور بطلان طعون المعتزلة في الخبر الذي رويناه، لعدم استحالة مضمونه في العقول. وفي مجيئه من طريقين مختلفين وبرواية فريقين في دلالته متباينين برهان صحته، وليس في إنكار من عدل عن الإنصاف في النظر -من المعتزلة والمجبرة- قدح فيما ذكرناه من وجوب العمل عليه. 

هذا وقد روى هذه الحادثة أيضاً قطب الدين الراوندي، في كتابه (الخرائج والجرائح) (ج1/ص ٢٠٧). والحر العاملي في كتابه (إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات) (ج3/ص511).

ويؤيد شهرة هذه الحادثة أنها ذكرت ضمن الأمور التي حصلت في يوم النيروز المعروف، إذ روى السيد نعمة الله الجزائري في كتابه (الأنوار النعمانية) (ج2/ص74)، خبراً عن المعلى بن خنيس عن الصادق عليه السلام قال إن يوم النيروز وهو اليوم الذي أخذ فيه النبي صلى الله عليه وآله العهد فيه بغدير خم فأقروا فيه بالولاية، فطوبى لمن ثبت عليها والويل لمن نكثها، وهو اليوم الذي وجه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام إلى وادي الجن فأخذ عليهم العهود والمواثيق، وهو اليوم الذي يظهر فيه قائمنا أهل البيت وولاة الأمر ويظفر بالدجال فيصلبه على كناسة الكوفة ... إلى آخر الخبر.

2021/09/13

الإمام زين العابدين.. جهاد في كلمات الدعاء!

كتب مهدي بيشوائي:

لم يكن باستطاعة الإمام السجاد أن يقدم ويوضح مفاهيمه الخاصة علانية وبصراحة، لأنه كان يعيش في جو من الرعب والإرهاب، لذلك استخدم اسلوب الوعظ والإرشاد، وعرف الناس من خلال الموعظة على الفكر الإسلامي الصحيح ذلك الفكر الذي تعرض إثر الإعلام المضلل الذي مارسه الطغاة على مر التاريخ للنسيان والتحريف، نهض من جديد وقدمه الإمام إلى الناس کا کان و بكل ما يتمتع به من أصالة، وكان لا يبين لهم التعاليم الإسلامية في حدود استطاعته.

[اشترك]

وتوضح دراسة تلك المواعظ والتعاليم أن الإمام كان يلقي عليهم وضمن تقديمه النصح والموعظة ما كان يريده أن يرسخ في أذهانهم ويبقى بطريقة عقلانية وذكية جدا، وهذا من أفضل أنماط انتقال الفكر الإسلامي الصحيح في تلك الظروف، لأن هذه التعاليم لا تثير حفيظة الجهاز الحاكم على الرغم من أن لها آثار ونتائج سیاسية ضد ذلك الجهاز، وقد وضح وبين الإمام -ضمنيّاً- حقيقة الإمامة -أي نظام الحكم الإسلامي وقيادة المجتمع بقيادة الإمام المعصوم وبت الوعي بين الناس- وعرفهم حقيقة ما يجري في المجتمع الإسلامي لتلك الفترة -أي تسلط الحكام الطغاة وقادة الكفر والفسق والنفاق- وكان يفهمهم بأن الحكومة التي هي مثل حكومة عبد الملك ليست هي الحكومة التي يريدها.

إن أهمية هذا الأمر هي من ناحية أنه طالما لم تنتبه الأمة إلى هذه الحقيقة وتخرج من حالة الجمود والتخدير التي أصابتها على مر الأيام، فانه لن يكون هناك أمل و إمكانية في تغيير الأوضاع وتشكيل الحكم الإسلامي المراد، ومثال هذا النوع من التعاليم والمواعظ التي كان يقدمها الإمام السجاد، وهي خير شاهد على تلك الحقيقة المذكورة هو كلامه التفصيلي الذي كان يلقيه كل يوم جمعة في مسجد النبي على أصحابه والآخرین کا صرح بذلك المحدثون.

ونحن هنا نورد بعضا من ذلك الكلام على سبيل المثال.

«أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنكم إليه راجعون، فتجد كل نفس ما عملت من خير محضرة، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا... ألا و إن أول ما يسألانك - منكر ونكير- عن ربك الذي كنت تعبده وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي تدين به، و عن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه».

2021/09/04

الائمة المعصومون (ع) وآليات المواجهة -2-

لقراءة الحلقة الأولى اضغط هنا

قد عكفت حكومات الخلافة المنحرفة بدءا من حكومة السقيفة على تمييع وإخفاء الحقيقة المتعلقة بشأن المعصومين عليهم السلام وتمييزهم اللامحدود عن المستوى الانساني، أي بما حباهم الله من صفات ومميزات استثنائية كالعلم والحكمة والشجاعة وغيرها.

[اشترك]

وسعت تلك الحكومات في جهود استثنائية على إظهارهم مظهر الاناس العاديين ولكنهم كانوا في هذا كما قال جل وعلا (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32التوبة) فلم تفلح تلك الجهود وبقي نور الائمة المعصومين ع وهاجا وذلك عن طريقين:  

أـ ما كان عليه المعصومين عليهم السلام من مكانة إلهية سامية تفرض نفسها على الواقع، رغم كل المحاولات المبذولة في التعتيم عليها.. فهذا الامام السجاد عليه السلام الذي عانى من الأمويين التضييق والتشديد بعد الطف، حتى أنه لم يكن قادرا على التصريح بدروسه الفقهية والعلمية والاخلاقية ـ وقد كان ذلك ممكنا أيام معاوية نفسه بالنسبة الى الامامين الحسن والحسين عليهما السلام، حيث كانا عليهما يجلسان للدرس والارشاد في مسجد النبي الاكرم صلى الله عليه وآله ـ فاضطر الامام السجاد الى استخدام اسلوب الدعاء لتمرير تلك الدروس. رغم هذا نجد له عليه السلام تلك المهابة الالهية التي فرضت نفسها على الناس كما عبرت عن ذلك حادثة الحج المعروفة حين عجز هشام بن عبد الملك الامير الاموي المحاط بالحرس والسلطان عن اختراق الحجيج حول الكعبة، ولما جاء الامام السجاد عليه السلام انفرج له الناس سماطين هيبة واحتراما حتى وصل الى الحجر الاسود، كما دفعت تلك المهابة الالهية التي تحلى بها الامام عليه السلام بالشاعر الفرزدق الى تحدي الامير الاموي عالما بما سيلحق به من اذى وقرا على مسمع الجميع قصيدته التي تتغنى بمكانة الامام السجاد ع ومنزلته العالية.

كما أثبت المعصومون عليهم السلام أفضليتهم في كل مجال، بدءا بالبطولة الخارقة التي ابداها الامام علي عليه السلام في معارك الاسلام الى الشجاعة الاسطورية التي سطرها الامام الحسين عليه السلام في الطف الى التفوق الفكري والعلمي الذي نجده واضحا في تراثهم عليهم ومناظراتهم مع ارباب الجهات المناوئة.. وكشاهد على هذا ما سجله الامام الجواد عليه السلام من مقدرة علمية وفقهية كما في مناظرته المشهورة مع يحيى بن اكثم، فأثبت الامام الجواد عليه السلام بشكل جلي أن الامامة هي منصب الهي لا دخل للإنسان فيه.   حتى لنجد الحكام الامويين والعباسيين وقد عجزوا عن تلافي ذلك الخطر البالغ على سلطانهم القائم على الافتراء والادعاءات المزيفة، قد عمدوا الى معالجة الامر.. إما عن طريق دعم جهات فكرية وفقهية في مواجهة خط الائمة عليهم السلام كما هو حال العباسيين في دعم المدارس الفقهية والمذاهب الكلامية الخارجة عن خط الامامة، بما تحوي تلك المدارس والمذاهب من اسماء وشخصيات تثني لهم الخلافة العباسية الوسادة وتسيدهم على الموقف الفقهي والفكري.. ولما يخفق كل هذا عمدوا الى الارهاب والعنف ضد اتباع اهل البيت عليهم السلام.. فما تعني تلك الصفحات السوداء التي سجلها التاريخ في القتل والبطش بحق اتباع اهل البيت عليهم السلام.. بدءا برموز الارهاب الذي اطلق الامويون لهم العنان يقتلون ويذبحون كزياد وابنه عبيد الله والحجاج وبسر بن ارطأة.. ولعل في وصية الخزانة ـ حين اعطى المنصور لولده المهدي مفاتيح خزانة لا يفتحها الابعد موته، وحين هلك المنصور وقام المهدي بفتحها وجدها مملوءة بجماجم العلويين ـ لعل في هذه الحادثة إشارة وافية على ماكان عليه بنو العباس من تجاوز لما وصل اليه الامويون في هذا المضمار.

يتبع...     

        

2021/08/17

الائمة المعصومون (ع) وآليات المواجهة -1-

كان اعتزال ائمة أهل البيت عليهم السلام مسألة الحكم والوصول الى السلطة أمرا جليا ومؤكدا للجميع بما فيهم حكام الخلافة المنحرفة من أمويين وعباسيين، وقد بينّوا عليهم السلام موقفهم في القعود عن الحكم، قولا وفعلا، في مواقف لا تحصى.

[اشترك]

 منها إحراق الامام الصادق عليه السلام لرسالة أبي سلمة الخلال وقد أرسلها إليه يعلن فيه البيعة له، وقوله عليه السلام لابي مسلم الخراساني وقد عرض عليه البيعة ايضا (لست من رجالي ولا الزمان زماني)، خاصة أن هذين الرجلين كانا يمتلكان القوة التي مكنّت العباسيين من ارتقاء الحكم.

وكما فعل الامام الرضا عليه السلام من رفض لمنصب الخلافة وقد عرضه عليه قائلا له "إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك تجعل لي ما ليس لك".

إن هذا الموقف الواضح والأكيد يضعنا أمام تساؤل عما كان يدفع الخلفاء الأمويين والعباسيين على السواء لنصب جهودهم الجبارة في محاربة الأئمة المعصومين عليهم السلام والتضييق عليهم، حتى أنهم ـ الخلفاء الأمويين والعباسيين ـ لم يكونوا يوجهوا ضد الجهات المناوئة لهم بشكل فعلي من الاهتمام ومظاهر المحاربة ما كان يوجهوه الى المعصومين عليهم السلام.

ما الذي يدفع الخليفة العباسي هارون الرشيد الى ما فعله بالإمام الكاظم عليه السلام الذي خاطب فيه عيسى بن جعفر ـ صاحب سجن الرشيد في البصرة ـ الرشيد في رسالة قال له فيها "يا أمير المؤمنين كتبتَ إليَّ في هذا الرجل وقد اختبرته طول مقامه بمن حسبته عيناً عليه لينظروا جبلته وأمره وطويّته ممّن له المعرفة والدراية فلم يكن منه سوء قط ولم يذكر أمير المؤمنين إلّا بخير ولم يكن له تطلّع إلى ولاية ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، فان رأى أمير المؤمنين من أن يعفيني من أمره أو ينفذ من يتسلّمه منّي وإلا أطلقت سراحه"؟!!

وقد تجاوز العداء الموجه للائمة المعصومين على الخصوص، حدود الجانب السياسي الى الجوانب العلمية والفكرية والفقهية التي انتعشت انشطتها في صدر الخلافة العباسية، فنرى الخليفة يولي ويدعم القائمين على تلك الأنشطة حتى إذا وصل الأمر إلى الإمام الباقر او الصادق عليهما السلام حوربوا ومنعت أطاريحهم.

ما الذي يهم الخليفة الحاكم من أمر فقهي في الصلاة أو الطهارة أو غيرهما حتى إذا ما قال فيه الإمام المعصوم عليه السلام قولا ووجه بالتضييق والمحاربة وإذا قال غيره فلا غبار عليه، والحال أنه راي ربما اتفق مع بعض اراء غيره؟!!

للجواب تطالعنا عوامل عدة، يمكن توضيحها بـ:

1ـ  الحقيقة الراسخة التي لم يجد الخلفاء المنحرفون بدا من الاعتراف بها، ألا وهي أن المعصومين عليهم السلام هم أصحاب الحق الشرعي في خلافة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله، فكانوا بذلك الشوكة التي تدمي خاصرة الخلافة المنحرفة.

إن كل الذين خرجوا على خلفاء بني أمية والعباس وحاربوهم بشكل فعلي، لم يكونوا ليثيروا قلق الخلفاء بالشكل الذي يثيره المعصومون عليهم السلام لأنهم ـ الخارجون ـ  في حقيقتهم  ليسوا سوى طلاب سلطة لا يختلفون بشيء عن الخلفاء المنحرفين، وهذا ما يجعل مقاومتهم أقل كلفة على الخلافة من المعصومين عليهم السلام أصحاب الحق الشرعي، وهذا الحق ليتجاوز في خطره شكله الذاتي الى انعكاس واضح على ما هو عليه المعصومون عليهم السلام وسواهم من طلاب السلطة، فالإمام الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن الزبير  ـ مثلا ـ وقد كانا على السواء في حث الخليفة الاموي يزيد بن معاوية لعامله على المدينة الوليد بن عقبة في أخذ الخلافة منهما، نجد الاختلافات التالية:

أـ أقام الزبير في الحجاز دولة مضادة لدولة الامويين في الشام قرابة العقد من الزمن، فكانت صورة اخرى منها، حيث قوّم الزبير دولته بنفس ما قوم به الامويون دولتهم من تدليس ومداهنة ونفاق وخداع.. لم يهتم الزبير ـ في سبيل غايته ـ إن بقيت للإسلام باقية أم لا.. فالتاريخ يحدثنا كيف أنه بات جذلا مسرورا حين أحرق يزيد للكعبة لما تلك الفعلة من دور إعلامي كبير في فضح الخلافة الاموية.

 ب- فجّر الامام الحسين عليه السلام ثورة تجسدت فيها القيم الانسانية بأروع صورة وقد رسمت معالمها دماء مقدسة أهرقتها نماذج لم يكن لها أشباه على مر التاريخ، وقد كان همّ الامام الحسين عليه السلام الحفاظ على الاسلام، حتى لنجده يغادر مكة في يوم الثامن من محرم وقد علم ان الامويين عازمون على قتله في الكعبة كي لا تمس قدسية بيت الله.

ج ـ قضي على دولة الزبير فكانت خبر من اخبار التاريخ لا تختلف بشيء عن خبر القضاء على دولة الامويين انفسهم.

د ـ قضي على ثورة الامام الحسين عليه السلام فكانت سفرا خالدا على صفحات التاريخ ونموذجا فريدا في تخليد القيم الانسانية السامية التي تهز عرش الطغاة في كل زمان ومكان.

يتبع...

2021/08/07

قطعة من الجنة: كربلاء.. تأريخ النشوء وأصل التسمية والتوزيع السكاني -1-

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

 محافظة كربلاء المقدسة هي إحدى محافظات البلاد التي تتسم بصغر حجمها السكاني نسبياً طوال المدة الممتدة من (1977 – 2007)م، بدليل أن حجمها السكاني لم تصل نسبته المئوية إلى(4%) من حجم سكان العراق، مما جعل مكانتها السكانية ضمن المراتب الأخيرة، بالرغم من أن حجمها السكاني قد تضاعف خلال مدة العشرين سنة الأولى.

[اشترك]

 إن للعوامل الجغرافية (الطبيعية والبشرية) أثراً واضحاً في توزيع سكان المحافظة وتباينه، وتتفاوت درجة تأثير تلك العوامل في رسم صورة التوزيع الجغرافي لسكان المحافظة، حيث ظهر عاملان بارزان في هذا الجانب، أحدهما طبيعي (الموارد المائية)، والآخر بشري (وجود العتبات المقدسة).

 ونتيجة لسيادة ظروف المناخ الجاف، جاء توزيع السكان متفقاً تماماً مع توزيع الموارد المائية السطحية والجوفية، ماعدا المركز - مدينة كربلاء المقدسة - التي تأثر توزيع السكان فيها بالعامل الديني والتاريخي والتي تمثل مركز (التجمع السكاني).

 وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن العوامل الطبيعية قد رسمت صورة هذا التوزيع، وجاءت العوامل البشرية - وعلى وجه التحديد العاملين الديني والتاريخي - لتكمل هذه الصورة من خلال رسم إطارها العام.

تميزت المحافظة بانخفاض الكثافة السكانية فيها، والتي بلغت في تعداد(1997م، 27 نسمة / كلم2)، ثم ارتفعت في تقديرات (2007م إلى 33 نسمة /كلم2)، مما جعلها تأتي بالمرتبة الأخيرة في توزيع الكثافة السكانية؛ وذلك لاتساع مساحة الهضبة.

 كما إن الكثافة السكانية لكربلاء المقدسة كانت أقل من ذلك بكثير قبل الاستقطاع من مساحتها؛ ولو نظرنا إلى كثافة السكان في محافظة كربلاء المقدسة في إحصاء سنة (1977) م لوجدناه خمسة أشخاص لكل كم2؛ لأن المحافظة كانت على مساحتها السابقة قبل الاستقطاع لصالح محافظة الأنبار، وكانت الكثافة السكانية في الأخيرة مساوية لكربلاء المقدسة.

ولم تتوزع الكثافة السكانية تلك بصورة متساوية بين وحداتها الإدارية؛ وذلك لتباين توزيع العوامل الجغرافية الطبيعية والبشرية بين جهات المحافظة التي تقع فيها تلك الوحدات، لذلك كان أعلى مستوى لها -خلال مدة هذه الدراسة-  في مركز قضاء الهندية الذي يقع في منطقة السهل الرسوبي، وأدنى مستوى لها في مركز قضاء عين التمر الذي يقع في منطقة الهضبة.

أما توزيع السكان ما بين الحضر والريف في المحافظة، فقد دلت نتائج تعداد (1997)م على سيادة الطبيعة الحضرية لسكان المحافظة؛ إذ بلغت نسبتهم (66 %)من مجمل سكان المحافظة، ويتركز(4,62%)منهم في مدينتي كربلاء والحر (4,11%) في مدينة الهندية (طويريج)، والباقي يتوزعون على بقية وحداتها الإدارية بنسب متقاربة.

سكان كربلاء في الآخرة

من لطائف الأمور، إن كربلاء تنفرد عن باقي بقاع الأرض، بأنها سترفع إلى الجنة، وستكون مسكناً لأفضل الناس، وهي بذلك ستتميز عن غيرها من البقاع، كما شاهدنا من الحديث السابق، وما سنشاهده في الحديث التالي:

فقد قال مولانا الإمام عليُّ بن الحسين عليهما السلام: اتّخذ الله أرض كربلاء حَرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وإنّه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيّرها رفعتْ كما هي بتربتها نورانيّة صافية، فجعلت في أفضل رَوضة مِن رياض الجنَّة، وأفضل مسكنٍ في الجنَّة، لا يسكنها إلاّ النّبيّون والمرسلون -أو قال: أولوا العزم مِن الرُّسل- وأنّها لتزهر بين رياض الجنّة كما يزهر الكوكب الدُّرّيّ بين الكواكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنَّة جميعاً، وهي تنادي: أنا أرضُ الله المقدَّسة الطيِّبة المبارَكة الّتي تضمّنت سَيّد الشّهداء وسَيّد شباب أهل الجنّة(2).

كربلاء.. الأكثر زواراً في العالم

لا نعدو الحقيقة إن قلنا، إن كربلاء تنفرد عن سائر المدن والبقاع في العالم، بأنها الأكثر استقبالاً للزوار سنوياً، ومعظمهم يقصدونها لمكانتها الدينية والعبادية.

فهي المدينة الأولى في العالم التي تستقبل أكثر مجموعة من الزوار (3) خلال مدة زمنية محددة لا تتعدى الأسبوعين، وذلك في زيارة الأربعين.


المصادر:

 (1) بتلخيص وتصرف من بحث: تحليل التباين المكاني لتوزيع سكان محافظة كربلاء/ سعد عبد الرزاق محسن الخرسان.

(3) إحصائيات وتقديرات الزيارة الأربعينية للسنوات التي تلت سقوط اللانظام الصدامي الديكتاتوري في(9/4/2003م)، والتي أعلنتها جهات رسمية في الحكومة المحلية لمحافظة كربلاء المقدسة، تضاف إليها دراسة علمية قام بها المؤلف عندما كان محرراً لموقع العتبة العباسية المقدسة (شبكة الكفيل العالمية) على الإنترنت (www.alkafeel.net) ونشرت الدراسة في الموقع المذكور يوم(20 صفر 1430هـ الموافق 16/2/2009م)، تحت عنوان (تقديرات علمية بأعداد زائري الأربعين ترفعها إلى أكثر من 14 مليون بحلول غروب 16/2/2009م)، وتمت الدراسة بالتعاون مع الخبير العالمي -العراقي- الدكتور المهندس إحسان الشهرستاني مدير المركز العالمي للأبحاث الفنية (الذي يتخذ من العاصمة البريطانية لندن مقراً لفرعه الرئيسي، والذي قام بكوادره العراقية بأعمال تحديث التصميم الأساس لمدينة كربلاء المقدسة وناحية الحر للعام بين2007م و2030م).

 وهذه الدراسة تقترب من الواقع بشكل كبير، لما تحتويه من معلومات وإحصاءات تمت من خلال كاميرات تعمل لـ(24)ساعة في ساحة منطقة بين الحرمين، وتم حساب عدد الزائرين بتقسيم الساحة إلى مربعات وهمية، وحساب عددهم في مربع ما من الساحة، ثم ضرب العدد في عدد المربعات المماثلة له في الكثافة، وتكرار العملية لبقية المربعات المختلفة في الكثافة، بضرب عدد الزائرين لكل منها في عدد المربعات المماثلة لكلٍ منها في الكثافة، وجمع النواتج الخارجة من عمليات الضرب تلك والخاصة بيوم واحد، ثم ضرب الناتج الخارج لهذا اليوم في عدد الأيام المماثلة التي تتكرر فيها -بشكل تقديري تقريبي- نفس أعداد الزائرين، وهكذا يتم حساب عدد الزائرين في أيام الذروة بشكل تقريبي، وتقدير ما سواها نسبة لهذه الأيام، وجمع الناتج، والخروج بإحصائية تقترب من الواقع بنسبة لا تقل عن(90%)منه، بحسب من اطلع عليها.

2021/08/04

هل كان للأئمة (ع) أي دور سياسي في زمن الخلفاء؟!

لكي نفهمَ الدّورَ السّياسيَّ الذي قامَ بهِ الإمامُ علي (عليهِ السّلام) في عهدِ الخُلفاءِ، لا بدَّ أن نقفَ على المشهدِ السّياسيّ في مُجملِه مِن أجلِ التّعرّفِ على المساحاتِ المُمكنةِ لأيّ عملٍ سياسيٍّ معارضٍ، وفهمُ ذلكَ يتمُّ بملاحظةِ ثلاثِ أبعادٍ، البُعدُ الأوّلُ: ما هوَ المسارُ السّياسيُّ الذي كانَ يجبُ أن تسيرَ عليه الدّولةُ الإسلاميّة؟ والبعدُ الثّاني: ما هوَ المسارُ السّياسيّ الذي حدثَ بالفعل؟ والبعدُ الثّالث: ما هيَ الحدودُ الدّينيّةُ والشّرعيّةُ التي تُحدّدُ الخياراتِ السياسيّةَ للإمامِ عليّ (عليهِ السّلام)؟

[اشترك]

 ويمكنُ أن نُجملَ الكلامَ في هذهِ الأبعادِ الثّلاثةِ لأنَّ التّفصيلَ فيها يبعدُنا عنِ السّؤال.

منَ الواضحِ أنَّ حقيقةَ الخلافِ في الإمامةِ بينَ السّنّةِ والشّيعةِ يتّسعُ باتّساعِ المسافةِ الفاصلةِ بينَ الإسلامِ كدينٍ ينطلقُ منَ الوحي، وبينَ الإسلامِ كتجربةٍ ساهمَ في تكوينِها الظّرفُ التّاريخيُّ والبُعدُ النّفسيّ والإجتماعي، وعليهِ منَ الصّعبِ العثورُ على قواسمَ مُشتركةٍ تُقرّبُ مفهومَ الإمامةِ بينَ الطّرفينِ، فالمفهومُ الشّيعيُّ للإمامةِ يتأسّسُ على حالةٍ منَ القطيعةِ معَ واقعِ التّجربةِ التّاريخيّةِ، بعكسِ المدارسِ الأخرى التي إستلهمَت وعيَها مِن واقعِ تلكَ التّجربةِ، وهذا التّباينُ يقودُنا للوقوفِ على مُنعطفاتٍ تاريخيّةٍ تكشفُ عَن مدى الأزمةِ في الخطابِ السّياسيّ الإسلاميّ، فمنذُ وفاةِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) وإنتقالِه إلى الرّفيقِ الأعلى، بدأ تباينٌ حادٌّ على مستوى الحُكمِ والإدارةِ، ليشملَ التّباينُ تفاصيلَ العملِ السّياسيّ، في تحديدِ هويّةِ الحاكمِ، وإنتمائِه القبليّ، وهل هوَ محصورٌ في المُهاجرينَ والأنصارِ أم أنَّ الإسلامَ يسمحُ بفتحِ الطّريقِ أمامَ الأقلّيّاتِ حتّى وإن كانَت بعيدةً عَن جزيرةِ العربِ منَ الحبشةِ والفرسِ والرّومِ وغيرِها منَ البلاد؟ وهَل هناكَ معاييرُ بيَّنَها الإسلامُ لتحديدِ شخصيّةِ الحاكمِ، أم أنَّ كلَّ واحدٍ منَ الصّحابةِ يصلحُ أن يكونَ خليفةَ المُسلمين؟ وكيفَ يمكنُ الوصولُ إليه؟ هل عبرَ أهلِ الحلِّ والعقدِ، أم بالشّورى المُطلقةِ، أم الشّرعيّة لمَن غلبَ؟

كلُّ هذهِ الأسئلةِ يكتنفُها الكثيرُ منَ الغموضِ في التّاريخِ السّياسيّ لأهلِ السّنّةِ الذين رجّحوا مشروعَ الشّورى على مشروعِ الإمامةِ، ممّا يعني أنَّ المسارَ السّياسيّ عندَهم لم يكُن يسيرُ وفقاً لخُططٍ أرسَت معالمَها الرّسالةُ، وإنّما كانَت خطواتٍ مُرتجلةً تمليها الظّروفُ التّاريخيّةُ، فإن كانَت الشّورى هيَ الطّريقُ لإختيارِ الحاكمِ وإعتبَرنا السّقيفةَ هيَ أوّلَ تجربةٍ للشّورى، كيفَ يمكنُ أن نفهمَ إختيارَ الخليفةِ الثّاني؟ وإن تجاوزنا المرحلةَ الأولى لندخلَ إلى النّظامِ الملكيّ الذي أسّسَ له بنو أميّةَ وبنو العبّاسِ تتزاحمُ حينَها الأسئلةُ والإشكالاتُ، وهكذا لا يمكنُ أن نضعَ اليدَ على تصوّرٍ واضحٍ ومُنضبطٍ لنظامِ الحُكمِ في الإسلامِ، ومعَ ذلكَ نجدُهم قد أصبغوا حالةً منَ القداسةِ على ما وقعَ وأصبحَ هوَ المرجعَ لأيّ عملٍ سياسيٍّ إسلامي، وفي مقابلِ ذلكَ نجدُ الرّؤيةَ السّياسيّةَ للشّيعةِ تسيرُ عكسَ ما وقعَ تاريخيّاً، وقدّموا تصوّرَهم الذي ينطلقُ مِن فكرةِ الإمامةِ القائمةِ على النّصِّ والتّعيينِ، والبُعدُ العقديّ لهذهِ الفكرةِ هوَ أنَّه لا يمكنُ صناعةُ نظامٍ للحُكمِ ومِن ثمَّ فرضه بوصفِه تعبيراً عَن إرادةِ اللهِ طالما لم يكُن بأمرِ اللهِ وتعيينِه، ومِن هُنا يعتقدُ الشّيعةُ أنَّ إمامةَ أهلِ البيتِ التي أشارَ إليها القرآنُ ونصَّ عليها الرّسولُ هيَ الإمتدادُ الحقيقيّ لحاكميّةِ الإسلامِ، وبالتّالي يمكنُنا القولُ أنَّ الرّؤيةَ السّياسيّةَ عندَ الشّيعةِ كانَت سابقةً لِما حدثَ وأُنجزَ في الواقعِ التّاريخيّ مِن نظامٍ سياسيٍّ، بَل إنطلقَت منَ النّصِّ لفهمِ المسارِ السّياسيّ للرّسالةِ، فضمنَ حدودِ هذهِ الرّؤيةِ إنفتحَت على الواقعِ التّاريخيّ ببصيرةٍ نقديّةٍ حاكمَت كلَّ التّجاربِ التي قد تتصادمُ معَ هذهِ الرّؤيةِ، ومِن أجلِ ذلكَ لم يتساهَل التّشيّعُ معَ سقيفةِ بني ساعدةَ كخيارٍ سياسيٍّ يتحكّمُ في مسيرِ الرّسالةِ، وجاهرَ أئمّةُ الشّيعةِ برفضِهم لتلكَ الخلافةِ، فامتنعَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السّلام) عَن بيعةِ الخليفةِ الأوّلِ أبي بكرٍ نحوَ ستّةِ أشهرٍ بحسبِ روايةِ البُخاريّ ومُسلمٍ، وعندَما جاءَتهُ الفرصةُ الأولى، وعرضَ عليهِ عبدُ الرّحمنِ بنُ عوفٍ الخلافةَ، بشرطِ أن يسيرَ بسيرةِ الشّيخينِ أبي بكرٍ وعُمر، لم يقبَل ولو ظاهريّاً ومجاملةً، وأعلنَ رفضَه المُدوّي بقولِه: كتابُ اللهِ وسنّةُ الرّسولِ نعَم، أمّا سيرةُ الشّيخينِ فلا.

ومِن هُنا يتّضحُ لنا طبيعةُ الدّورِ السّياسيّ للإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام)، بناءً على الخيارِ السّياسيّ للرّسالةِ المُتمثّلِ في الإمامةِ، وما حدثَ بالفعلِ مِن خياراتٍ تُعدُّ إنقلاباً على خيارِ الرّسالةِ، فالإمامةُ كخيارٍ سياسيٍّ تستوجبُ قبولَ الأمّةِ ورضوخَها لها، ولا تفرضُ نفسَها بالقوّةِ أو تسعى إلى الحُكمِ بأيّ وسيلةٍ كانَت، فاللهُ أوجبَ على الأمّةِ طاعةَ الإمامِ ولم يُوجِب على الإمامِ أن يُكرهَ النّاسَ حتّى يتّبعوهُ، وعليهِ لم تكُن الخياراتُ السّياسيّةُ كلّها متاحةً أمامَ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام)، وإنّما دورُه كانَ محكوماً بشرطِ قبولِ النّاسِ وتقديمِهم لهُ، وفي هذهِ الحالةِ ليسَ أمامَ الإمامِ إلّا بيانُ حقّهِ للنّاسِ وإقامةُ الحجّةِ عليهم، وكونهُ صاحبَ الحقِّ لا يعني أن يمارسَ السّياسةَ بكلِّ ما فيها مِن دسائسَ ومؤامراتٍ، فإذا كانَ للسّياسةِ قيمُها الخاصّةُ فإنَّ الإسلامَ لهُ قيمُه أيضاً ولا يجوزُ تقديمُ قيمِ السّياسةِ على قيمِ الدّينِ، ومِن هُنا كانَ دورُه محكوماً بضرورةِ الحفاظِ على الإسلامِ وضمانِ مسيرتِه المُستقبليّةِ، ممّا يوجبُ عليهِ نوعاً منَ العملِ السّياسيّ لا يؤدّي إلى زعزعةِ الإسلامِ في النّفوسِ كما لا يؤدّي إلى تضعيفِ قوّةِ المُسلمينَ في قبالِ مَن يتربّصُ بهم الدّوائرَ، ومِن هذا البُعدِ نتفهّمُ وصيّةَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) التي أمرَ فيها الإمامُ عليٌّ (عليهِ السّلام) بالصّبرِ إذا لم يجِد ناصِراً لمقاومةِ الإنحرافِ الذي حدثَ بعدَ السّقيفةِ، والمقصودُ بالنّاصرِ أن يكونَ هناكَ تيّارٌ مستوعبٌ لحقيقةِ الإمامةِ مؤمنٌ بدورِها في قيادةِ الأمّةِ، وقد وردَت هذه الوصيّةُ في أحاديثَ كثيرةٍ، مِنها أنَّ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بكى في حادثةٍ فقالَ لهُ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام): (ما يبكيكَ يا رسولَ اللهِ، قالَ: ضغائنُ في صدورِ قومٍ لا يبدونَها لكَ حتّى يفقدوني فقالَ: يا رسولَ اللهِ أفلا أضعُ سيفي على عاتقي فأبيدَ خضراءهم؟ قالَ: بل تصبرُ. قالَ: فإن صبرتُ؟ قالَ: تلاقي جهداً. قالَ: أفي سلامةٍ مِن ديني؟ قالَ: نعَم قالَ: فإذاً لا أبالي) ( البحارُ ج34، ص339)

وبذلكَ إنحصرَ المسارُ السّياسيُّ لأميرِ المؤمنينَ بالمُعارضةِ السّلميّةِ للسّلطةِ التي تحكّمَت على الأمرِ في المدينةِ، وقد نقلَ لنا التّاريخُ الكثيرَ منَ المواقفِ التي عبّرَ فيها الإمامُ عليٌّ (عليهِ السّلام) عَن إحتجاجِه ورفضِه، فلم يدَع فرصةً في طولِ فترةِ الخلفاءِ الثّلاثةِ إلّا وأقامَ الحجّةَ على الجميعِ بأنّه أولى بالخلافةِ مِن غيرِه، ومِن بينِ إحتجاجاتِه قوله: (يا مَعاشِرَ المُهاجِرينَ والأنصار ، اللهُ الله ، لا تَنسوا عَهدَ نبيِّكُم إليكُم في أمري ، ولا تُخرجوا سُلطانَ مُحَمَّدٍ من دارِه وقعرِ بيتِه إلى دُورِكم وقَعرِ بيوتِكم ، ولا تدفعوا أهله عَن حَقِّه ومقامِه في النّاس . فَوَ الله مَعاشرَ الجمعِ، إنَّ اللهَ قَضَى وحَكَم ، ونبيُّه أعلم ، وأنتُم تعلمونَ بأنَّا أهلُ البيتِ أحَقُّ بهذا الأمرِ منكُم . أمَا كان القارئُ مِنكُم لكتابِ اللهِ ، الفقيهُ في دينِ الله ، المُضطَلِع بأمرِ الرَّعيَّة ، واللهِ إنّه لَفِينَا لا فيُكم ، فلا تَتبَعوا الهوى فتزدَادُوا منَ الحَقِّ بُعداً ، وتُفسِدوا قَديمَكم بشرٍّ مِن حَديثِكم) ( الإحتجاج ج1 ص89)

وزيادةً في إقامةِ الحجّةِ، كانَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) يأخذُ الزّهراءَ (عليها السّلام) والحسنين (عليهم السّلام)، ويدورُ على بيوتِ الأنصارِ ويذكّرُهم بوصايا النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فيهِ وفي أهلِ بيتِه (عليهم السّلام)، كما عنِ الإمامِ الباقرِ (عليهِ السّلام): أنَّ عليّاً حملَ فاطمةَ صلواتُ اللهِ عليها على حمارٍ، وسارَ بها ليلاً إلى بيوتِ الأنصارِ يسألُهم النّصرةَ، وتسألُهم فاطمةُ الإنتصارَ له، فكانوا يقولونَ يا بنتَ رسولِ اللهِ قد مضَت بيعتُنا لهذا الرّجلِ، لو كانَ إبنُ عمِّك سبقَ إلينا أبا بكرٍ ما عدلناهُ بهِ، فقالَ عليٌّ (عليهِ السّلام): أكنتُ أتركُ رسولَ اللهِ ميتاً في بيتِه لا أجهّزُه وأخرجُ إلى النّاسِ أنازعُهم في سلطانِه؟ وقالت فاطمةُ: ما صنعَ أبو الحسنِ إلّا ما كانَ ينبغي لهُ، وصنعوا هُم ما اللهُ حسيبُهم عليه) (البحارُ ج28 ص252).

وقد شكّلَت هذهِ المُعارضةُ تهديداً حقيقيّاً للسلطةِ السياسيّةِ، الأمرُ الذي إضطرَّ الخلفاءَ لمحاولةِ كسبِ رضاهُ إلّا أنّهم لم يلقوا منهُ تجاوباً، فقد روى الصّدوقُ في الخصالِ عنِ الإمامِ السّجّادِ (عليه السّلام) أنّهُ قالَ: (لمّا كانَ من أمرِ أبي بكرٍ وبيعةِ النّاسِ له وفعلِهم بعليٍّ بنِ أبي طالبَ (عليهِ السّلام) ما كانَ، لم يزَل أبو بكرٍ يُظهرُ له الإنبساطَ ويرى منهُ إنقباضاً) (خصالُ الصّدوقِ، ص549)، وهكذا كانَ الخليفةُ الثّاني خائِفاً مِن تحرّكاتِ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) فلمّا دخلَ عليهِ عبدُ اللهِ بنُ عبّاسٍ قالَ عمرُ: مِن أينَ جئتَ يا عبدَ اللهِ؟ قلتُ: منَ المسجدِ، قالَ: كيفَ خلّفتَ إبنَ عمّك؟ فظننتُه يعني عبدَ اللهِ بنَ جعفرٍ، قلتُ: خلفتُه يلعبُ معَ أترابِه، قالَ: لم أعنِ ذلكَ إنّما عنيتُ عظيمَكم أهلَ البيتِ، قلتُ: خلفتُه يمتحُ بالغربِ على نخيلاتٍ مِن فلانٍ ويقرأ القرآنَ، قالَ: يا عبدَ اللهِ عليكَ دماءُ البدنِ إن كتمتنيها هَل بقيَ في نفسِه شيءٌ مِن أمرِ الخلافةِ؟ قلتُ: نعَم، قالَ: أيزعمُ أنَّ رسولَ اللهِ (ص) نصَّ عليهِ؟ قلتُ: نَعم وأزيدُك سألتُ أبي عمّا يدّعيهِ فقالَ: صدقَ...» (شرحُ النّهجِ لابنِ أبي الحديد ج12 ص21).

وهكذا الحالُ في خلافةِ عثمانَ حيثُ قالَ للإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) (إنّكَ إن تربّصتَ بي فقد تربّصتَ بمَن هوَ خيرٌ منّي ومنكَ، قالَ: ومَن هوَ خيرٌ منّي؟ قالَ: أبو بكرٍ وعُمر! فقالَ: كذبتَ أنا خيرٌ منكَ ومنهُما، عبدتُ اللهَ قبلَكم وعبدتُه بعدَكم) (البحارُ ج38، ص228).

وهكذا كاَن يُظهرُ الإمامُ (عليه السّلام) إحتجاجَه عندَ مُبايعةِ كلِّ خليفةٍ منَ الخلفاءِ، وعندَما أرادَ القومُ مُبايعةَ عثمانٍ خطبَ فيهم قائِلاً: (أيُّها النّاسُ: أنصتوا لِما أقولُ رحمَكُم اللهُ، إنَّ النّاسَ بايعوا أبا بكرٍ وعُمر وأنا واللهِ أولى منهُما بوصيّةِ رسول اللهِ، وأنتُم اليومَ تريدونَ أن تُبايعوا عثمانَ، فإن فعلتُم واللهِ ما تجهلونَ محلّي، ولا جهلَ مَن كانَ قبلكُم ولولا ذلكَ قلتُ ما لا تطيقونَ دفعَه. فقالَ الزّبيرُ: ما تقولُ يا أبا الحسنِ؟ فقالَ عليٌّ (عليهِ السّلام) أنشدُكم باللهِ: هَل فيكُم أحدٌ وحّدَ اللهَ وصلّى معَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) قبلي؟ أم هَل فيكُم أحدٌ أعظمُ عندَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) مكاناً منّي؟ أم هَل فيكُم مَن كانَ يأخذُ ثلاثةَ أسهمٍ: سهمُ القرابةِ، وسهمُ الخاصّةِ، وسهمُ الهجرةِ أحدٌ غيري؟ وهكذا عدّدَ مناقبَه..... قالَ: فعندَ ذلكَ قامَ الزّبيرُ وقالَ: صحّ مقالتُك ولا ننكرُ منهُ شيئاً، ولكنَّ النّاسَ بايعوا الشّيخينِ، ولم يُخالفوا الإجماعَ، فلمّا سمعَ ذلكَ، نزلَ وهوَ يقولُ: (وَما كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً) (الرّوضةُ في فضائلِ أميرِ المؤمنينَ- لشاذانَ إبنِ جبريل القمّي، ص119)

ومعَ ذلكَ نجدُ الإمامَ (عليه السّلام) في الوقتِ الذي كانَ يعارضُ فيه الخلفاءَ بوصفِهم لا يمثّلونَ الإسلامَ، نجدُه يدافعُ عَن دولةِ الإسلامِ وسلطانِ المسلمينَ، فلم يكُن ينظرُ للأمرِ بالنّظرةِ الشّخصيّةِ فيضعُ العراقيلَ أمامَ قدراتِ الدّولةِ وهيبةِ المُسلمينَ؛ لأنّه كانَ يعلمُ أنَّ سقوطَ حكومةِ المسلمينَ وسلطانِهم يعني وقوعَهم فريسةً في قبضةِ الإمبراطوريّةِ الرّومانيّةِ أو الفارسيّةِ اللتين تتحيّنانِ الفُرصَ للإنقضاضِ على الدّولةِ الوليدةِ، كما كانَ يعلمُ بوجودِ تيّارٍ منَ المُنافقينَ والموتورينَ مِن قبائلِ العربِ الذينَ يتصيّدونَ في المياهِ العكرةِ، ولِذا لم يكُن يتردّدُ في تقديمِ المشورةِ والنّصحِ للخلفاءِ سياسيّاً ودينيّاً، ومِن ذلكَ ما رواهُ المُفيدُ في الإرشادِ، (إنَّ الأعاجمَ مِن أهلِ همدانَ وأهلِ الرّيّ وأهلِ أصفهانَ وقومس ونهاوند تكاتبَت، وأرسلَ بعضُهم إلى بعضٍ، وإتّفقوا على مهاجمةِ المُسلمينَ، فلمّا وصلَ الخبرُ إلى عُمر فزعَ فزعاً شديداً، فصعدَ المنبرَ وأخبرَ المُهاجرينَ والأنصارَ، وإستشارَهم في الأمرِ، فقامَ طلحةُ وتكلّمَ ثمَّ عثمانُ، ثمَّ قامَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) فقالَ: الحمدُ للهِ - حتّى تمَّ التّحميد والثناء على اللهِ والصّلاة على رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) - ثمَّ قالَ: أمّا بعد، فإنّك إن أشخصتَ أهلَ الشامِ مِن شامِهم، سارَت الرّومُ إلى ذراريهم، وإن أشخصتَ أهلَ اليمنِ مِن يمنِهم، سارَت الحبشةُ إلى ذراريهم، وإن أشخصتَ مَن بهذينِ الحرمينِ، إنتقضَت العربُ عليكَ مِن أطرافِها وأكنافِها، حتّى يكونُ ما تدعُ وراءَ ظهرِك مِن عيالاتِ العربِ أهمّ إليكَ ممّا بينَ يديكَ. وأمّا ذكرُك كثرةَ العجمِ ورهبتَك مِن جموعِهم، فإنّا لم نكُن نقاتلُ على عهدِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) بالكثرةِ، وإنّما كُنّا نقاتلُ بالنّصرِ، وأمّا ما بلغكَ مِن إجتماعِهم على المسيرِ إلى المُسلمينَ، فإنَّ اللهُ لمسيرِهم أكرهُ منكَ لذلكَ، وهوَ أولى بتغييرِ ما يكرَه، وإنَّ الأعاجمَ إذا نظروا إليكَ قالوا: هذا رجلُ العربِ، فإن قطعتموهُ فقَد قطعتُم العربَ، فكانَ أشدَّ لكلبِهم، وكنتَ قَد ألّبتَهم على نفسِك، وأمدّهم مَن لم يكُن يُمدّهم. ولكنّي أرى أن تقرّ هؤلاءِ في أمصارِهم، وتكتبَ إلى أهلِ البصرةِ فليتفرّقوا على ثلاثِ فرقٍ: فلتقُم فرقةٌ منهُم على ذراريهم حرساً لهم، ولتقم فرقةٌ في أهلِ عهدِهم لئلّا ينتقضوا، ولتسِر فرقةٌ منهُم إلى إخوانِهم مدداً لهم، فقالَ عُمر: أجَلْ هذا الرّأي، وقَد كنتُ أحبُّ أن أتابعَ عليهِ. وجعلَ يُكرّرُ قولَ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) وينسّقُه إعجاباً بهِ وإختياراً له) (الإرشادُ للمُفيد، ج1، ص207).

ويبدو أنَّ هذهِ المواقفَ هيَ التي جعلَت البعضَ يعتقدُ أنَّ العلاقةَ بينَ أميرِ المؤمنينَ والخلفاءِ كانَت جيّدةً، حيثُ لم يفهموا مواقفَ الإمامِ (عليه السّلام) التي تفرّقُ بينَ مُطالبتِه بحقِّه في الخلافةِ وبينَ موقفِه الدّينيّ والأخلاقيّ الذي يحتّمُ عليهِ تقديمَ العونِ والنّصحِ والمشورةِ حفاظاً على بيضةِ الإسلام.

 

2021/06/19

خلاف حول مكان قبر الإمام علي (ع).. ما الذي تقوله المصادر والأدلة؟

الخلاف حول موضع قبر الامام علي عليه السلام نظرة في المصادر والأدلة

بعد أن تكفّل الحسنان (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر وبعض الخواص من أولاد الإمام علي (ع) وأصحابه بدفنه في جنح الليل تم التعتيم على القبر خوفا من أن ينال منه الأمويون والخوارج وظلّ الأمر على هذه الحال لا يصل القبر إلا الأئمة والخواص على غفلة من الناس حتى زال ملك بني أمية فوجد الإمام الصادق (عليه السلام) الفرصة سانحة في ليخبر أصحابه بموضع القبر الشريف فلم يتوانى عن ذلك حتى فشى أمره شيئا فشيئا ولكن بطبيعة الحال سيجد هذا الإعلان من يعارضه من المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ولا يهمنا أمر هذه الفئة المخالفة كثيراً ما دامت أخبار أهل البيت (ع) في هذا السياق متواترة قطعية .

[اشترك]

غير أنّه لا يزال ثمة من يثير بين الفينة والأخرى شكوكا حول موضع قبر أمير المؤمنين (ع) وفي الغالب هي مقالات من هنا وهناك تفتقر لمنهجية البحث العلمي فضلا عن خلوها من المحاكمات العلمية للآراء ناهيك عن قصورها في استقصاء الأدلة، بل يعتمد بعضها المغالطة والتزوير كما سنقف على نموذج منها عمّا قريب ، وإذا كان ليس من الانصاف أن يشغل الإنسان وقته بوضع أجوبة لما كان هذا حاله من المقالات فإنّما أكتب هذه الخلاصة نزولاً عند طلب من لا يُرَدّ له طلب من الأصدقاء وقد جعلتها على قسمين .. تكفّل الأول منهما ببيان موقف أهل البيت عليهم السلام من هذه القضية بينما تكفل الآخر بآراء المخالفين لهم اجمالا مع بعض المناقشات والله ولي التوفيق .

القسم الأول : روايات أهل البيت عليهم السلام في تحديد موضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام

وردت روايات أهل البيت متواترة في تحديد موضع قبر أمير امير المؤمنين (عليه السلام) وأنّه في ظهر الكوفة في موضعه المتعارف في زماننا هذا، وقد كان هذا الموضع المبارك مشهورا يُزار من قبل الشيعة بعد أن دلَّ عليه الإمام الصادق (عليه السلام) ومن تلاه من الأئمة (عليهم السلام) بشكلٍ، ونظرا لكثرة هذه الروايات بما يحقق التواتر بل بما يفوقه أكتفي ههنا بنقل نزر منها :

1-    صحيح صفوان الجمال قال : "  كنت وعامر بن عبد الله بن جذاعة الأزدي عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، فقال له عامر : ان الناس يزعمون أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دفن بالرحبة ، فقال : لا ، قال : فأين دفن ، قال : انه لما مات حمله الحسن ( عليه السلام ) فأتى به ظهر الكوفة قريبا من النجف ، يسرة عن الغري ، يمنة عن الحيرة ، فدفن بين ذكوات بيض ،قال : فلما كان بعد ذهبت إلى الموضع فتوهمت موضعا منه ، ثم أتيته فأخبرته ، فقال لي : أصبت رحمك الله - ثلاث مرات " (كامل الزيارات: ص34؛ الكافي: 1/ 456).

2-    معتبَر اسحاق بن جرير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : " اني لما كنت بالحيرة عند أبي العباس كنت آتي قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليلا وهو بناحية نجف الحيرة إلى جانب غري النعمان ، فاصلي عنده صلاة الليل وانصرف قبل الفجر " (كامل الزيارات: 37 – 38) .

3-    معتبر يزيد بن عمر بن طلحة قال : " قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) وهو بالحيرة : أما تريد ما وعدتك ؟ قلت : بلي – يعني الذهاب إلى قبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه - قال : فركب وركب إسماعيل وركبت معهما حتى إذا جاز الثوية وكان بين الحيرة والنجف عند ذكوات بيض نزل ونزل إسماعيل ونزلت معهما فصلى وصلى إسماعيل وصليت " (كامل الزيارات : 35؛ الكافي 4/ 571) . والرواية معتبرة بناء على توثيق يزيد بن عمر لأنه من مشايخ الثقات أو لوقوعه في اسانيد كامل الزيارات أو لتجميع القرائن الدالة على وثاقته والأمر فيه سهل .

4-    معتبر احمد بن محمد بن أبي نصر قال : " سألت الرضا ( عليه السلام ) فقلت : أين موضع قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال : الغري ، فقلت له : جعلت فداك ان بعض الناس يقولون : دفن في الرحبة ، قال : لا ، ولكن بعض الناس يقول : دفن بالمسجد " (كامل الزيارات : 38) وهو معتبر على القول بوثاقة محمد بن قولويه والد صاحب كامل الزيارات ، ونلاحظ أنّ الامام الرضا عليه السلام قد أبدى رأيه بالإرشاد الى موضع القبر المتعارف في الغري والذي أشاع أمره الإمام الصادق (ع) من قبل نافيا ما يثيره بعض الأمويين وغيرهم ويتوهمه بعض الشيعة  كما سيأتي من أنه في الرحبة او في المسجد وهو ما كانوا يثيرونه أيام الإمام الصادق (ع) أيضا كما مرّ عليك في صحيحة صفوان الجمال الآنفة .. واحفظ هذه الرواية جيدا إذ سنعاود الكلام عنها عمّا قريب لنبيّن كيف أن بعض الكتّاب دلّس فيها للتخليط على الناس .

5-    رواية الحسين الخلال عن جده قال : "  قلت للحسين بن علي ( عليهما السلام ) : أين دفنتم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال : خرجنا به ليلا حتى مررنا على مسجد الأشعث ، حتى خرجنا إلى ظهر ناحية الغري " .

6-    رواية الحسن بن الجهم عن الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث اشتكى فيها للامام (عليه السلام) من يحيى الذي كان يتعرض لزوار قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وفيها وصف دقيق لمكان القبر الشريف وهذا نصها: " ذكرت لأبي الحسن ( عليه السلام ) يحيى بن موسى وتعرضه لمن يأتي قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وانه كان ينزل موضعا كان يقال به الثوية يتنزه إليه ، الا وقبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فوق ذلك قليلا ، وهو الموضع الذي روى صفوان الجمال ان أبا عبد الله وصفه له ، قال له فيما ذكر : إذا انتهيت إلى الغري ظهر الكوفة ، فاجعله خلف ظهرك وتوجه إلى نحو النجف ، وتيامن قليلا ، فإذا انتهيت إلى الذكوات البيض والثنية امامه فذلك قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وانا اتيته كثيرا ، ومن أصحابنا من لا يرى ذلك ويقول : هو في المسجد ، وبعضهم يقول : هو في القصر ، فارد عليهم بان الله لم يكن ليجعل قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في القصر في منازل الظالمين ، ولم يكن يدفن في المسجد وهم يريدون ستره ، فأينا أصوب ، قال : أنت أصوب منهم ، اخذت بقول جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) " (كامل الزيارات 85) ومن هذا تعرف أنه بعد استشهاد الامام الصادق (عليه السلام) ظلت روايات تشخيصه للقبر الطاهر مشهورة وعليها المعوّل بين الأصحاب .

7-    وفي رواية عمرو بن عبد الله الجهني (ابو مطر) قال الإمام علي (ع) للامام الحسن (ع) بعد أن أصابه ابن ملجم : " إذا مت فادفنوني في هذا الظهر في قبر أخوي هود وصالح ( عليهما السلام ) " (تهذيب الأحكام: 6/ 34) فالإمام ع أوصى أن يُدفن في ظهر الكوفة أي في الغري لا في الرحبة ولا المسجد ولا المدينة . وقد روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب هذه الوصية بأكثر من سند وبألفاظ متقاربة فراجع .

8-    وفي رواية جابر الجعفي أنّه سأل الامام الباقر (ع) عن موضع قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له : " دُفن بناحية الغريين، ودُفن قبل طلوع الفجر" (الإرشاد، الشيخ المفيد 1/25).

9-    وفي رواية حسين بن ابي العوجاء الطائي إذ نزل عنده الامام الصادق عليه السلام راجعاً من كربلاء المقدسة فسأله الطائي: " جُعلت فداك، بأبي أنت وأمي هذا القبر الذي اقبلتَ منه قبر الحسين (ع) ؟ قال الامام الصادق (ع) : إي والله يا شيخ حقا ولو أنّه عندنا لحججنا إليه . (الحج لغة يعني القصد)، فقال الطائي (وهو كوفي) : فهذا الذي عندنا في الظَهر (ظهر الكوفة = الغري) أهو قبر أمير المؤمنين؟ قال الإمام (ع): إي والله يا شيخ حقا ولو أنه عندنا لحججنا إليه " . (فضائل أمير المؤمنين ، ابن عقدة الكوفي : 140) .

هذه عشر روايات وغيرها أكثر منها لم أذكرها كلها تدل على أن أمير المؤمنين (ع) قد دفن في مرقده الفعلي في زماننا في ظهر الكوفة وهذا هو الرأي المتسالم عليه بين أهل البيت (عليهم السلام) من دون مخالف منهم يُذكَر، وبه كانوا يعملون إذ زاره في هذا الموضع كل من الأئمة السجاد والباقر والصادق والكاظم عليهم السلام كما في كامل الزيارات وغيره من المصادر المعتبرة وقد وصلنا هذا التشخيص عنهم بالتواتر المفيد للقطع وتلقاه أصحابهم في زمانهم وعملوا به فكانوا يزورون هذا القبر الشريف في موضعه الفعلي الآن ويدل على ذلك نصوص تاريخية وروائية كثيرة أذكر لك نموذجا واحدا منها :

روى ابن قولويه  عن عبد الله بن سنان ، قال : اتاني عمر بن يزيد ، فقال لي : اركب ، فركبت معه ، فمضينا حتى نزلنا منزل حفص الكناسي ، فاستخرجه فركب معنا ، فمضينا حتى اتينا الغري ، فانتهينا إلى قبر ، فقال : أنزلوا هذا القبر قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقلنا له : من أين عرفت هذا ، قال : اتيته مع أبي عبد الله ( عليه السلام ) حيث كان في الحيرة غير مرة ، وخبرني انه قبره " (كامل الزيارات ص82 ، الكافي : 1/ 273) .

وعلى أي حال ثمة روايات كثيرة جدا تدل على المطلوب غير هذه العشرة .. ومجموع هذه الروايات يبلغ حد التواتر بل يفوقه، مما لا يدع مجالاً للشك .

إشكال وجواب :

كتب أحدهم مؤخرا أنّ المنهج الصحيح يقتضي رفع اليد عن هذه الروايات المتواترة وأنّه لا يمكن التمسك بها وذكر لذلك تعليلاً عليلاً عجيبا – وما عشتَ أراك الدهر عجبا – مفاده أن أحمد بن محمد بن أبي نصر وهو من أكابر الفقهاء من أصحاب الامام الرضا (ع) وكذلك الامام الرضا (ع) كانا لا يعلمان موضع قبر أمير المؤمنين (ع) فلو كان الامام الصادق (ع) قد دلّ عليه فعلاً فمن غير المعقول أن يخفى عليهما ذلك ويستدل لاثبات زعمه هذا برواية مروية في  قرب الاسناد مضيفا لها بعض التدليس الموهم لعامّة الناس لذا أقف عليه ههنا بشيء من التفصيل :

أمّا رواية قرب الاسناد التي استدل بها فنصها كما يلي : " عن ابن ابي نصر قال سألتُ الرضا (ع) عن قبر أمير المؤمنين عليه السلام . فقال : " ما سمعت من أشياخك ؟ فقلت له : حدثنا صفوان بن مهران عن جدك ، أنه دفن بنجف الكوفة ، ورواه بعض أصحابنا عن يونس بن ظبيان بمثل هذا . فقال : سمعت من يذكر أنه دفن في مسجدكم بالكوفة  ... " (قرب الاسناد : 367) .

هذا هو النص وأمّا التدليس الذي أضافه هذا الكاتب فهو أنه كتب في هامشها : " كامل الزيارات باسناد صحيح عنده وعندهم " وهذا كذب قراح فالرواية لم ترد بهذا المتن في كامل الزيارات بل وردت بمتن آخر حيث أجاب فيه الإمام الرضا على سؤال أحمد بن أبي نصر بصحة الرأي القائل ان القبر في الغري (ظهر الكوفة) وهذا نصها :

احمد بن محمد بن أبي نصر قال : " سألت الرضا ( عليه السلام ) فقلت : أين موضع قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقال : الغري ، فقلت له : جعلت فداك ان بعض الناس يقولون : دفن في الرحبة ، قال : لا ، ولكن بعض الناس يقول : دفن بالمسجد " .

وهي الرواية الرابعة من الروايات العشر التي نقلتها قبل قليل ، فالإمام الرضا (ع) أجاب على السؤال بأنّ الموضع الصحيح للقبر الشريف هو الغري ولمّا تطرق الراوي لآراء الناس استدرك عليه الامام بذكر بعضها وفي نسخة البحار (97/ 239) بدلا من (سمعت من يذكر) قال (سمعت منه) أي من يونس أي لما ذكر البزنطي عن يونس نقلا مغايرا لما سمعه الامام منه استدرك عليه ولم يكن الامام في صدد بيان رأيه كما سيأتي . .

إذاً المتن المروي بسند معتبر في كامل الزيارات في نفسه دليل على عدم صحة ما يريد هذا الكاتب اثباته لكنه حاول ايهام القارئ بأنّ المتن نفسه متكرر في الكتابين وهذا تدليس .

بعد ذلك دعنا نعود الى المتن الوارد في قرب الاسناد لننظر هل يمكن الاستدلال به على دعوى هذا الكاتب أم لا ؟ في هذا الصدد سأكتفي بذكر أمرين :

الأوّل : لم يصلنا نسخة معتبرة من كتاب قرب الاسناد فما وصل كلها نسخ متأخرة لا يمكن الاعتماد عليها وبالتالي هذه الرواية ضعيفة ، وما قد يسمعه بعض الكتاب من قول بعض الفقهاء باعتبار روايات قرب الاسناد فليس المراد منه اعتبار نسخة الكتاب المتداولة وانما الكلام عن الروايات التي نقلها صاحب الوسائل عنه وذلك من جهة أن صاحب الوسائل يملك طريقا إليه ذكره في الفائدة الخامسة في آخر الوسائل مع انه وقع الكلام حتى في ما نقله أيضا من جهة عدم معلومية كون طريقه الى المصنف او الى نسخة الكتاب ولا ينفعنا غير الثاني .. وعلى أي حال فإن هذه الرواية غير مذكورة في الوسائل وطريقها الوحيد هو نسخ الكتاب المتأخرة المتداولة وهي غير معتبرة .

الثاني : مع غمض النظر عن المناقشة السابقة إذا رجعنا الى متن الرواية فليس فيه أي دلالة على عدم معرفة البزنطي بمكان قبر الإمام عليه السلام فضلا عن عدم معرفة الإمام الرضا (ع) وبيان ذلك : أنّ مجرّد مبادرة البزنطي للسؤال لا يعني عدم أخذه بما ورد عن الامام الصادق وإنما قد يسأل لتأكيد المعلومة أو لأغراض أخرى كثيرة وهذا أمر جار حتى في اليقينات فلا مانع من السؤال عنها بعد إن كان اليقين في نفسه على مراتب متعددة (مشكك يتمايز شدّة وضعفاً) ألم يقل النبي ابراهيم (ع) : " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " فخلاصة هذه المناقشة أن الرواية ليس فيها أكثر من السؤال والتعرض للآراء المتعددة ولا يلزم من ذلك بالضرورة عدم المعرفة المسبقة وإنما يقع مثله لزيادة اليقين والاطمئنان أيضا فيكون الاستدلال أعمّ من المدّعى .

هذا ولك أن تناقش في مرتبة لاحقة بأنّ كون الخبر متواترا لا يعني وضوحه عند الجميع كما لا يعني اطلاع الجميع عليه فمن الممكن أن لا يقف بعضهم – مهما علا شأن هذا البعض – على كثرة طرق الخبر وتواتره كما هو معلوم لدى من يملك أدنى دربة في الحديث والدراية هذا فضلا عن أنّ شيئا كثيرا من الأخبار اتضح تواترها بعد مرحلة جمع أصول الحديث وكان الوقوف عليه قبل ذلك لا يناله إلا الأوحدي من الناس بسبب تفرق اصول الحديث وتعسر الوصول اليها جميعا .

وأمّأ بالنسبة الى الإمام الرضا عليه السلام فلا يدل متن الرواية على أكثر من أنّه امتنع عن الجواب واكتفى بذكر بعض الآراء ربما لوقوع السؤال في ظرف لم يكن من المصلحة أن يجيب فيه على مثله فكلّ ما يمكن استفادته من الرواية أنّ الإمام لم يُعلن في هذا المجلس عن رأيه وهذا شيء وعدم المعرفة شيء آخر فمن أين استفاد هذا الكاتب دلالتها على عدم المعرفة ؟!

ولا تغفل عن أنّ هذه المناقشة جاءت من باب التنزّل وإلا فإن رواية قرب الاسناد غير معتبرة والوارد بسند صحيح في كامل الزيارات أنّ الإمام الرضا (ع) أرشد البزنطي الى الغري حيث موضع القبر الذي أرشد إليه الامام الصادق عليه السلام .

القسم الثاني: الموقف من آراء المخالفين لأهل البيت عليهم السلام

بعد ان علمنا تشخيص أهل البيت (ع) لموضع القبر الشريف ووردنا ذلك عنهم بالتواتر فلا يهمنا اطلاقا ما يراه من يخالفهم وإنما عقدت هذا القسم لأشير الى أمر أراه نافعا وهو أنّ كثيرا من المؤرخين يذهب الى ما ذهب إليه أهل البيت (ع) من أنّ قبر أمير المؤمنين (ع) هو هذا القبر المتعارف الذي يزار في ظهر الكوفة منهم على سبيل المثال المؤرخ الكبير محمد بن السائب الكلبي (المتوفى 146هـ) قال لمّا سُئل عن موضع قبر أمير المؤمنين : " أخرج به ليلاً خرج به الحسن والحسين وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر وعدة من أهل بيته فدفن في ظهر الكوفة " (مقتل الامام أمير المؤمنين ، ابن ابي الدنيا : 79) . وظهر الكوفة هو الغري .

 وأمّا الآراء المخالفة لذلك فكثير منها لا تكاد تتتبَّع منبعه حتى تجده صادر من أموي الهوى ! .. نعم الأمويون الذين تمّ إخفاء القبر الشريف مدّة خلافتهم خوفا من أن ينبشوه هم نفسهم بعد إن زالت السلطة من أيديهم وأعلن أهل البيت عن مكان القبر حزّ في نفوسهم رؤية الناس تزوره وتعظّمه فصاروا يضعون الاشاعة تلو الاشاعة عسى أن ينصرف الناس عن هذا القبر الذي أتعبهم صاحبه حياً وشهيدا !. وكنموذج من اشاعاتهم مثلا كان عبد الملك بن عمير يشيع بين الناس أن الامام علي (ع) دفن بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد (البداية والنهاية ، ابن الأثير : 7/ 365) .وعبد الملك هذا كان قاضيا للأمويين في الكوفة بعد عامر الشعبي .

وأما حكاية أن هذا القبر هو قبر المغيرة فليس له غير هذا السند " عن أبي نعيم الحافظ عن أبي بكر الطلحي، عن محمد بن عبد الله الحضرمي " وهذا سند لا يُسمن ولا يغني من جوع فضلا عن عدم صلاحيته لمعارضة أهل البيت (ع) فكل رجال السند ليسوا ثقات عندنا فكلهم من المخالفين لمدرسة أهل البيت (ع) ولم يرد في حقهم توثيق من طرقنا ولو تجاوزنا ذلك فإن الحضرمي (مطين) راوي الخبر عاش في القرن الثالث (توفي سنة 277هـ) فما أدراه بحوادث القرن الأول ولم يخبرنا بسنده ومن ثمّ لو تجاوزنا ذلك فإن الواسطة بين ابي نعيم ومطين ، أعني الطلحي وهو عبد الله بن يحيى بن معاوية شخص مجهول حتى عند علماء الرجال من أهل السنة والجماعة فلا يعرفون عنه شيئا غير اسمه وربما هي شخصية خيالية زيفها بعضهم لوضع الأحاديث على لسانها .

ثمّ أضف لكل ذلك أن غير واحد من العلماء كابن الأثير في غريب الحديث ( 1/ 2319) والحموي في معجم البلدان وغيرهما ذكروا أنّ قبر المغيرة في الثوية  وذكر غيرهم أنّ موضعه غير معلوم ولم يرد أنه في الغري من غير هذا السند الذي حاله كما تراه .

وأختم هذه الخلاصة التي أرجو أن تكون مفيدة بهذا التساؤل الذي أترك جوابه لفطنتك : من أعرَف بموضع قبر الرجل .. أهل بيته وأحفاده وأصحابه الذين دفنوه بأيديهم أم خصومه والمخالفون لمدرسته الذين لم يحضروا دفنه ولا تربطهم به وشيجة ؟

والله تعالى ولي التوفيق .

2021/05/08

أين كان الحسنان (ع) حين ضُرِب الإمام علي (ع)؟
أين كان الإمامُ الحسن والإمامُ الحسين (ع) حين أُصيبَ أمير المؤمنين (ع) في الصلاة، وهل يصحُّ ما يُقال إنَّهما كانا نائمين في منزليهما وما يُقال من أنَّ الإمام الحسن (ع) أراد أن يخرج مع أبيه (ع) فمنعه وأمره أنْ يعود إلى منامه؟!

هذا الكلام لا يصحُّ جزمًا وهو منافٍ لما تقتضيه أخبارُ الفريقين، فالأخبارُ متَّفقة على أنَّ الإمام عليًّا (ع) خرج من بيته للصلاة قُبيل دخول وقت صلاة الصبح بزمنٍ يسير([1]) فكيف يصحُّ أنْ يكون الإمامان الحسنُ والحسين (ع) نائمين؟!! وكيف يصحُّ بناءً على الدعوى الأخرى أنْ يأمرَ الإمام عليٌّ (ع) الحسنَ (ع) أو يأمر الحسنين (ع) بالعودة إلى منامهما؟!!

إنَّ مثل هذه الدعوى والتي قبلها مسيئةٌ لمقام أهل البيت (ع) الذين هم في طليعة مَن وصفهم القرآن بقوله تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وقوله تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) هذا أولًا.

الإمام الحسن (ع) كان حاضراً حين وقوع الحادثة:

وثانيًا: إنَّ الكثير من المؤرِّخين نقلوا عن الإمام الحسن (ع) أنَّه خرج للصلاة بصحبة أبيه (ع) إلى المسجد فكان حاضرًا في المسجد حين وقوع الحادثة بمقتضى هذه النصوص، فمِن ذلك ما أورده أبو الفرج الأصفهاني بسنده عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن الحسن بن علي (ع) قال: خرجتُ أنا وأبي نصلِّي في هذا المسجد، فقال لي: يا بُني إنِّي بتُّ الليلة أُوقظ أهلي لأنَّها ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر لسبع عشرة ليلة خلتْ من شهر رمضان، فملكتني عيناي، فسنح لي رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله ماذا لقيتُ من أُمَّتِك من الأوَد واللدَد؟ فقال لي: ادعُ عليهم. فقلت: "اللهمَّ أبدلني بهم مَن هو خيرٌ لي منهم، وأبدلهم بي من هو شرٌّ لهم مني" وجاء ابن النباح. فآذنه بالصلاة فخرج وخرجتُ خلفه .."([2]).

وفي الطبقات الكبرى لابن سعد قال: قال الحسن بن علي (ع): وأتيته سحرًا فجلستُ إليه فقال: إنِّي بتُّ الليلة أُوقظ أهلي فملكتني عيناي وأنا جالس فسنح لي رسولُ الله فقلتُ: يا رسول الله ما لقيتُ من أمَّتِك من الأوَد واللدد فقال لي: ادعُ الله عليهم فقلت: اللهمَّ أبدلني بهم خيرًا لي منهم، وأبدلهم شرًا لهم منِّي، ودخل بن النبَّاح المؤذِّن على ذلك فقال: الصلاة فأخذتُ بيده فقام يمشي وابنُ النباح بين يديه وأنا خلفَه، فلمَّا خرج من الباب نادى أيُّها الناس الصلاة الصلاة كذلك كان يفعلُ في كلِّ يومٍ يخرجُ ومعه درَّته يُوقظ الناس"([3]).

وأورد ابن عبد البر في الاستيعاب ما يقرب من هذا النص([4]).

وممَّا يدلُّ على حضور الإمام الحسن (ع) حين وقوع الحادثة ما أورده المسعودي (رحمه الله) في مروج الذهب فأفاد أنَّ الناس حين شدَّتْ على ابن ملجم فما لبثوا أنْ أمسكوا به أقبلوا به إلى الإمام الحسن (ع) قال: "وضرب المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وجهه فصرعه، وأقبل به إلى الحسن"([5]) ويؤيده ما أورده العلامة المجلسي (رحمه الله) قال: "فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره.."([6])، وكذلك يُؤيِّده ما أورده ابن شهراشوب في المناقب قال: "وأمر الحسن (ع) أنْ يُصلِّي الغداة بالناس .."([7])  أورده وكذلك يؤيده ما أورده ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح قال :" .. وسقط عليٌّ رحمة الله عليه لما به ، وتسامع الناسُ بذلك وقالوا : قُتل أمير المؤمنين ودنت الصلاة ، فقام الحسنُ بن عليٍّ فتقدَّم فصلَّى بالناس ركعتين خفيفتين . ثم احتمل علي إلى صحن المسجد وأحدق الناسُ به ، فقالوا : مَن فعل هذا بك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا تعجلوا ، فإنَّ الذي فعل بي هذا سيدخل عليكم الساعة من هذا الباب ، وأومأ بيده إلى بعض الأبواب ، قال : فخرج رجلٌ من عبد القيس في ذلك الباب فإذا هو بابن ملجم.." الفتوح - ابن أعثم- ج4/ 279

فصلاة الإمام الحسن (ع) بالناس وإنْ كان خلاف المشهور حيث إنَّ المشهور أنَّ الإمام عليًّا (ع) حين أُصيب في صلاته تأخَّر ودفع في ظهر ابن أخته جعدة بن هبيرة فأتمَّ بالناس الصلاة وكان الحسن (ع) قد اشتغل حينها بأبيه (ع) إلا أنَّ ذلك لا يمنعُ من صلاحيَّة ما أفاده ابنُ شهراشوب وما أورده ابن أعثم الكوفي لتأييد أنَّ الإمام الحسن (ع) كان حاضرًا .

الإمام الحسين (ع) كان في المدائن:

وأمَّا الإمام الحسين (ع) فقد ورد أنَّه أساسًا لم يكن في الكوفة حين وقعت الحادثة وأنَّه كان في المدائن في مهمَّةٍ أناطها به أميرُ المؤمنين (ع) فقد كان (ع) يُعِدُّ العُدَّة لمعاودة الحرب على معاوية، فمِمَّن أفاد ذلك الكليني في الكافي بسندٍ ذكره قال: لمَّا أُصيبَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) نعى الحسنُ إلى الحسين (عليهما السلام) وهو بالمدائن، فلمَّا قرأ الكتاب قال: يا لها من مصيبة ما أعظمَها .."([8]).

وكذلك نقل البلاذري في أنساب الأشراف عن جماعةٍ قالوا: "وكان الحسين بالمدائن قد قدّمه أبوه إليها وهو يُريد المسير إلى الشام، فكتبَ إليه الحسن بما حدث من أمر أبيه مع زجر بن قيس الجعفي، فلمَّا أتاه زحر انصرفَ بالناس إلى الكوفة وقال بعضهم: إن الحسين كان حاضرا قتل أبيه"([9]).

إشكالٌ وجواب:

قد يُقال: إذا كان الإمام الحسين (ع) في المدائن حين أصيب أمير المؤمنين (ع) فمتى عاد منها ليُشارك في تغسيل الإمام (ع) وتشييعه ودفنه والحال أنَّ الإمام استشهد في اليوم الثالث من إصابته؟

والجواب: هو أنَّه لا ريب في مشاركة الإمام الحسين (ع) في تغسيل والده (ع) وتشييعه ودفنه كما نصَّت على ذلك الروايات، ووجوده (ع) في المدائن –لو صحَّ- لا يمنعُ من حضوره، فإنَّ المسافة بين الكوفة والمدائن لم تكن بعيدة، فهي لا تتجاوز نيفًا وستين ميلًا، ويؤيِّده ما أورده عبد الرزاق الصنعاني في المصنَّف عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنتُ مع حذيفة بالمدائن فاستأذنتُ أنْ آتي أهلي بالكوفة فأذن وشرط عليَّ أنْ لا أفطر ولا أُصلِّي ركعتين حتى أرجع إليه"([10]) فحذيفة ابن اليمان (رحمه الله) كان واليًا على المدائن فاستأذنه الراوي في المصير إلى أهله في الكوفة فأذن له حذيفةُ أن يخرج إلى الكوفة شريطة أنْ يعود منها إلى المدائن من يومه، فهو سيخرج من عنده في المدائن إلى الكوفة ويعود إليها من يومه وهو ما يعني أنَّ السفر من المدائن إلى الكوفة ذهابًا وإيابًا لا يستغرق يومًا واحدًا بالخيل، وقال: ابنُ حزم في المحلَّى: "وبينهما نيفٌ وستون ميلًا"([11]).

فالمسافة بين الكوفة والمدائن تُقارب المائة والخمسين كيلو متر، فإذا كان متوسط سرعة الخيل عدوًا دون أقصى السرعة عشرين كيلو متر في الساعة فيحتاج المسافر من الكوفة للمدائن إلى سبع ساعات تقريبًا، فلو خرج رسولُ الإمام الحسن (ع) من الكوفة في أول الصبح كما هو مقتضى طبيعة القضية وأهميتها فإنَّه سيصل إلى المدائن قبل ليلة العشرين، وسوف يتحرَّك الإمام الحسين (ع) فور وصول الخبر إليه، وعليه فلو سار (ع) من المدائن على أبعد التقادير في أوَّل الليل فإنَّه سيصل إلى الكوفة قبل طلوع فجر يوم العشرين من شهر رمضان، وبذلك يُدرك أباه (ع) ووصيته وتجهيزه.

الهوامش: [1]- الإرشاد -المفيد- ج1 / ص16، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص311، مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب- ج3 / ص94، مقاتل الطالبيين -الأصفهاني- ص25، روضة الواعظين- الفتال النيسابوري- ص136، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص649، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج2 / ص738 وغيرهم. [2]- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص25، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد- ج6 / ص121، شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج2 / ص433، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج42 / ص556، 559، أسد الغابة -ابن الأثير- ج4 / ص37، أنساب الأشراف، البلاذري- ج2 / ص495، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص668. [3]- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج3 / ص36، أنساب الأشراف-البلاذري ج 2/ 494، تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر- ج42 / ص559، أسد الغابة -ابن الأثير- ج4 / ص37. [4]- الاستيعاب -ابن عبد البر- ج3 / ص1127. [5]- مروج الذهب -المسعودي- ج2 / ص412. [6]- بحار الأنوار-المجلسي- ج42 / ص283. [7]- مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب- ج3 / ص96. [8]- الكافي -الكليني- ج3 / ص220. [9]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج2 / ص497. [10]- المصنف -الصنعاني- ج2 / ص527. [11]- المحلَّى -ابن حزم- ج5 / ص3.
2021/05/01

قصة الكليم: الوعد الإلهي

 قبل الخوض في أحداث ما بعد الخروج لابدّ لنا من التذكير بقضيّة مهمّة وهي أنّ قصّة موسى عليه السلام في مرحلتها الأولى قد بدأت بوعد واختممت بوفاء بها الوعد العظيم.

[اشترك]

  1. تذكير بالوعد والوعيد:

بدأت قصّة موسى عليه السلام بوعد لبني إسرائيل ووعيد لفرعون فقد قال عزّ من قائل: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)  وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ):

فوعد بن إسرائيل بوراثة الأرض

وتوّعد آل فرعون بالعذاب المبين

وانتهت القصّة بتحقّق الأمرين معا حيث قال جلّ جلاله:

(فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137))

 فكان الخروج بمثابة تحقّق الوعد والوعيد.

ويمكن الانتقال من هذا الوعد إلى إثبات نبوّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بملاحظة زمن النزول، حيث أشرنا إلى أنّ آيات مرحلة ما قبل الخروج نزلت في مكّة عندما كان المسلمون يستضعفون، فكانت تسلية لهم وبشارة بقرب الخلاص من براثن قريش وبالفعل تحقّق هذا الأمر بعد مدّة وجيزة، وهذا ما يعبّر عنه بــ(الإعجاز الإنبائي) وهي الأمور التي أنبأ بها النبي (ص) وتحقّقت بالفعل من أشهرها إخباره بمجريات أحداث الفرس والروم: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)).

فقد أنبأ بأمور ثلاثة:

-انتصار الروم بعد هزيمتهم

-مدّة حصول هذا الانتصار (أقلّ من عشر سنين)

-وجود المسلمين وفرحهم بذلك

والقرآن مليء بهذه الأمور التي من الجدير أن يتوقّف عندها الإنسان

  1. إشكال حول وراثة بني إسرائيل:

هذه الآيات المتقدّمة ولّدت إشكالا عند بعض المفسّرين مفاده:

كيف يتحدّث القرآن من جهة عن وراثة بني إسرائيل لملك فرعون والحال أنّهم خرجوا من مصر؟ قال عزّ وجلّ: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)).

والإشكال الآخر على فرض التسليم بوقوع وراثة بني إسرائيل لهذه الأرض هو نصّ القرآن على تدميرها عقابا لآل فرعون كما في قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).

والجواب على الأوّل يكمن في الجمع بين آيات القرآن، وهذه أفضل طريقة لفهم القرآن وهو الجمع بين آياته وضرب بعضها ببعض:

 

فقد بيّن القرآن أنّ وارث مصر قوما آخرين: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28))، ولا شكّ أنّ هؤلاء ليسوا بني إسرائيل لأنّ القرآن رجع وتحدّث عنهم حيث قال : (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) فالوارثون غير الخارجين من المصر.

أمّا عن بني إسرائيل فقد ورثوا بالفعل أرضا وهي المشار إليها في آية أخرى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَ) وهذه الأرض هي فلسطين بقرينة آيتين:

-الأولى: قول موسى عليه السلام (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) 

-الثانية: هي ما ورد في حقّ إسراء النبي صلى الله عليه وآله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، والمسجد الذي بارك الله حوله هو المسجد الموجود ببيت المقدس.

أمّا الإشكال الآخر فالجواب عليه هو أنّ التدمير كان أمرا جزئيّ لا كليّا بقرينة وراثة قوم آخرين لما تركه فرعون حيث قال عزّ من قائل: ( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) ، ولعلّ التدمير كان للصرح الذي طلب فرعون من هامان بناءه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ) لكونه قد ذكر معنى الارتفاع في الآية: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)فلفظة عرش فيه معنى الارتفاع ومن هنا سمّي العرش عرشا.

وبهذا يتبيّن أنّه لا تعارض في الآيات الكريمة

  1. هل هي وراثة دائمة؟

أهمّ ما نختم به هذا البحث هو حقيقة هذا الوعد الإلهي: فهل هذه الوراثة التي بشّر الله بها بني إسرائيل هل هي مطلقة غير قابلة للتغيير والتبديل أو هي مشروطة فتدور مدار الشروط وجودا وعدما؟

دعوى اليهود اليوم أنّ هذه الوراثة هي مطلقة ولذلك هم يتحدّثون عن إسرائيل الكبرى وعن حقّهم الإلهي في الأرض المقدّسة بنصّ القرآن الكريم: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ)  ، ولكن الحقيقة غير ذلك بل إنّ الوعد الإلهي مشروط ويدلّ على ذلك:

قوله تعالى: (قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، فربط بين الاستخلاف وبين طبيعة العمل أي أنّ استمرار هذا الاستخلاف منوط بطبيعة عملهم فإن أحسنوا استمرّ هذا الاستخلاف وإن أساؤوا انقطع وانتهى.

وآية أخرى أوضح من ذلك (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ)، فربط استمرار النعم الإلهيّة بعدم الطغيان الذي يوجب حصوله –الطغيان- حلول الغضب الإلهي!

والقاعدة العامّة هي قوله تعالى في سورة الإسراء: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ).

 

ومن هنا نفهم أنّ استمرارية هذه الوراثة مرتبطة بعمل بني إسرائيل لأنّ السنة الإلهيّة هي: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، فمن انتفت عنه صفة الصلاح لا يصلح أن يكون وارثا وحقّ عليه أن يستبدله الله يغيره، لأنّه كما توجد عندنا سنّة الاستخلاف هناك سنة الاستبدال  (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) وقوله تعالى: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)  ، فمن مكّنه الله ولم يوف بعهده استبدله الله وجاء بغيره.

لفتة:

نفس هذه القاعدة تجري في أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أنّ خيريّة هذه الأمّة ليست مطلقة بل هي مقيّدة بنصّ القرآن: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)، إذ جعل هذه الخيريّة منوطة بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2021/04/28

قصة الكليم: مقارنة بين مرحلتين

الليلة الأولى: مقارنة بين مرحلتين

كنّا قد وعدناكم في ختام شهر رمضان المنصرم بمواصلة الحديث في قصّة الكليم على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وها نحن نفي بالوعد الذي قطعناه على أنفسنا ونشرع في إكمال هذه السلسلة المباركة.

[اشترك]

وقد بدأ الحديث في السنة الماضية بأحداث ما قبل ميلاد موسى عليه السلام وانتهى بخروج بني إسرائيل من مصر ونجاتهم من طغيان فرعون وجنوده، وهذه السنة سنبدأ من حيث انتهينا في السلسلة السابقة ونحاول أن نطوي حياة موسى بن عمران عليه السلام إلى أن نصل إلى وفاته.

وقبل البداية في عرض الأحداث وتحليلها لابدّ لنا من بيان الفوارق بين المرحلتين:

-مرحلة ما قبل الخروج: عبوديّة بني إسرائيل

-مرحلة ما بعد الخروج: الخلاص والتحرّر

يمكن تلخيص الفوارق بين المرحلتين في التالي:

  1. الفارق الأوّل: نوعيّة العدو

أوّل فارق وأهمّ فارق يتمثّل في نوعية العدوّ الذي يواجهه بني إسرائيل، ففي المرحلة الأولى كان العدو الذي تدور حوله أحداث القصّة هو فرعون وزبانيته أمّا في المرحلة الثانية من قصّة بني إسرائيل فالحديث حول عدوّ مختلف تماما وهي (النفس) والفارق بين العدوّين:

 

-عدوّ خفيّ: إنّ فرعون عدوّ ظاهر لبني إسرائيل يعرفه الجميع ويخشون بطشه، أمّا النفس فهي عدوّ خفي لا يرى بالعين ولا يدرك بالحواسّ بل قد لا يعرف الإنسان بعداتها أصلا رغم أنّها ألدّ الاعداء، فقد ورد في الخبر: أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك (عوالي اللئالي 4/118)

-مواجهة مستمرّة: إنّ المواجهة مع العدوّ الظاهري تكون عادة مرتبطة بفترة زمانيّة محدّدة فلو افترضنا وجود نزال بين شخصين فإنّ له إشارة انطلاق وإشارة انتهاء، بخلاف المواجهة مع العدوّ الباطني (النفس) فإنّ المواجهة مستمرّة منذ ولادته إلى حين موتك لا يخلو آن منها وقد ورد في كتاب الله (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون).

-فداحة الخسائر: أهمّ فارق جوهري بين المواجهتين هو أنّ مواجهة العدوّ الخارجي هي عدم وجود خسارة في هذه المواجهة، فلو خرج الإنسان للجهاد فهو إمّا منتصر أو شهيد وكلاهما مكسب، أمّا المواجهة مع النفس فليست كذلك بل لها نتيجتان إمّا النصر عليها وترويضها أو الخسارة التي وراءها جهنّم وبئس المصير.

وهذه الأمور هي التي جعلت من علاقة الإنسان بنفسه تسمّى جهادا بل جهادا أكبر كما ورد في الخبر الصحيح: أنّ النبي صلى الله عليه وآله بعث بسريّة فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس (الكافي 5/12)

  1. الفارق الثاني: الغاية من الابتلاء

إنّ أحداث المرحلة الأولى كانت بمثابة الابتلاء العام لبني إسرائيل ترتّب عليه تأسيس المجتمع الإسرائيلي الذي من المفترض أن يكون فيما بعد شعب الله المختار الذي ينفّذ إرادة الربّ ويرتقي بالبشريّة إلى أعلى مراتب الرقيّ والكمال، وهذا الأمر معروف اليوم فعندما يتولّى شخص عصاميّ منصبا كبيرا سيكون أقرب إلى الناس من شخص ولد وفي فمه ملعقة ذهب كما يعبّرون، فبنو إسرائيل عاشوا الظلم والقهر والاستعباد والفقر والمسكنة، فمن المفترض أن يصبحوا أكثر الناس حربا لهذه الأمور التي ذاقوا منها الأمرّين، وعليه فالابتلاء كان لأجل إعدادهم لهذه المهمّة الخطيرة.

أمّا أحداث المرحلة الثانية فكانت بمثابة الإشارة إلى مواطن الخلل في الإنسان المؤمن الذي يمثّل اللبنة الأولى للمجتمع وبيان نقاط الضعف فيه، ولذلك تدور الأحداث حول خطورة الجهل والطمع وحب المال والجاه وفقدان قيم التضحية والفداء وغيرها من الأمور التي بها تقوم المجتمعات، بل لا نبالغ إذا قلنا أنّ أحداث المرحلة الثانية من قصّة بني إسرائيل هي بمثابة عمليّة تشريح للنفس الإنسانيّة لكشف مواطن القوّة والضعف فيها أو كما عبّرت روايات العترة الطاهرة: جنود العقل والجهل، فنحن أمام دورة أخلاقيّة متكاملة.

  1. الفارق الثالث: فضاء النزول

ذكرنا في السلسلة الماضية أنّ الآيات القرآنيّة التي نزلت في تغطية أحداث ما قبل الخروج كان فضاء نزولها العهد المكّي عندما كان المسلمون يتعرّضون لاضطهاد كبير من قريش فكان نزول الآيات وذكر قصّة بني إسرائيل بمثابة التسلية والتصبير لهم وغرس الأمل في قلوبهم.

أمّا آيات التي نزلت في تغطية أحداث ما بعد الخروج فقد كان فضاء نزولها العهد المدني عندما استقلّ المسلمون وأصبح لهم كيانهم الخاص، فكانت هذه الآيات بمثابة التحذير لهم:

أوّلا: من نفس بني إسرائيل الذين سيصبحون جيرانا لهم وجزءا من محيطهم الجديد، فلم يكن في مكّة المكرّمة يهود ولذلك كانت الآيات كلّها تتحدّث عن الشرك والمشكرين، أمّا المدينة فقد كان اليهود عنصرا من عناصر هذا المجتمع الجديد وبالتالي لابدّ من معرفتهم حقّ المعرفة لكي يمكن التعامل معهم، وهنا جاء القرآن ليكشف لنا حقيقة الشخصيّة اليهوديّة.

 

ثانيا: التحذير من الوقوع في نفس أخطاء بني إسرائيل مع الله ورسوله، إذ ليس مجرّد الخلاص من قريش كاف للشعور بالطمأنينة والسكينة بل لابدّ من التنبيه إلى عدوّ أخطرمن قريش وهو النفس الأمّارة!

ومن هنا نعلم لماذا اختيرت هذه الصور من رحلة بني إسرائيل دون غيرها من الصور حيث ضرب الله لنا أمثلة لأهمّ أمراض النفس ومكامن الخلل فيها، فسنجد موقفا يتحدّث عن خطورة الجهل وآخر عن حبّ المال والجاه والحقد والحسد والطمع والجشع وغيرها من الأمراض كما سيأتينا تفصيلا...

استطراد:

فقد تسأل نفسك ما فائدة تصفيد الشياطين في هذا الشهر دون غيره من شهور السنة؟ والجواب على ذلك هو أنّ هذا التصفيد يمكّن الإنسان من اكتشاف ذاته ومعرفتها على حقيقتها، فنحن ننسب كلّ شيء للشيطان والحال أنّ نفس الإنسان لا تقلّ شيطنة عن الشيطان، وشهر رمضان فرصة لاكتشاف ذلك ومعرفة خطورتها بل والسعي لترويض هذا الوحش الضاري: وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. (نهج البلاغة 3/71)

 

2021/04/28

سٌمّي بوحي من السماء.. 5 أمور فعلها النبي عند ولادة الإمام الحسين

مراسيم ولادة الإمام الحسين

أجرى النبي (صلّى الله عليه وآله) بنفسه أكثر المراسيم الشرعية لوليده المبارك (الإمام الحسين)، فقام (صلّى الله عليه وآله) بما يلي:

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

أوّلاً: الأذان والإقامة

واحتضن النبي (صلّى الله عليه وآله) وليده العظيم (عليه السّلام)، فأذّن في اُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى 1. وجاء في الخبر: «إنّ ذلك عصمة للمولود من الشيطان الرجيم» 2.

إنّ أوّل صوت اخترق سمع الحسين هو صوت جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، الذي هو أوّل مَن أناب إلى الله ودعا إليه، وأنشودة ذلك الصوت:

«الله أكبر، لا إله إلاّ الله».

لقد غرس النبي (صلّى الله عليه وآله) هذه الكلمات، التي تحمل جوهر الإيمان وواقع الإسلام، في نفس وليده، وغذّاه بها فكانت من عناصره ومقوّماته، وقد هام بها في جميع مراحل حياته، فانطلق إلى ميادين الجهاد مضحّياً بكل شيء في سبيل أن تعلو هذه الكلمات في الأرض، وتسود قوى الخير والسّلام، وتتحطّم معالم الردّة الجاهليّة التي جهدت على إطفاء نور الله.

ثانياً: التسمية

وسمّاه النبي (صلّى الله عليه وآله) حسيناً كما سمّى أخاه حسناً 3. ويقول المؤرّخون: لم تكن العرب في جاهليتها تعرف هذين الاسمين حتّى تسمّي أبناءهما بهما، وإنّما سمّاهما النبي (صلّى الله عليه وآله) بهما بوحي من السماء 4.

وقد صار هذا الاسم الشريف علماً لتلك الذات العظيمة التي فجّرت الوعي والإيمان في الأرض، واستوعب ذكرها جميع لغات العالم، وهام الناس بحبّها حتّى صارت عندهم شعاراً مقدّساً لجميع المثُل العليا، وشعاراً لكل تضحية تقوم على الحقّ والعدل.

ثالثاً: العقيقة

وبعدما انطوت سبعة أيّام من ولادة السّبط أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يعقّ عنه بكبش، ويوزّع لحمه على الفقراء، كما أمر أن تعطى القابلة فخذاً منها ٥، وكان ذلك من جملة ما شرّعه الإسلام في ميادين البِرّ والإحسان إلى الفقراء.

رابعاً: حلق رأسه

وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يحلق رأس وليده، ويتصدّق بزِنَته فضة على الفقراء ٦ ؛ فكان وزنه ـ كما في الحديث ـ درهماً ونصفاً ٧. وطلى رأسه بالخلوق ٨، ونهى عمّا كان يفعله أهل الجاهليّة من إطلاء رأس الوليد بالدم ٩.

خامساً: الختان

وأوعز النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أهل بيته بإجراء الختان على وليده في اليوم السابع من ولادته، وقد حثّ النبي (صلّى الله عليه وآله) على ختان الطفل في هذا الوقت المبكر ؛ لأنه أطيب له وأطهر ١٠ ١١.


الهوامش:

1. كشف الغمة ٢ / ٢١٦، تحفة الأزهار وزلال الأنهار.

2. روى علي (عليه السّلام) أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «مَن ولِد له مولود فليؤذّن في اُذنه اليمنى، وليُقم في اليسرى ؛ فإنّ ذلك عصمة له من الشيطان الرجيم». وقد أمرني بذلك في الحسن والحسين، وأن يقرأ مع الأذان والإقامة فاتحة الكتاب وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص والمعوذتين، جاء ذلك في دعائم الإسلام ١ / ١٧٨.

3. الرياض النضرة.

4. اُسد الغابة ٢ / ١١، وفي تاريخ الخلفاء / ١٨٨، روى عمران بن سليمان قال: الحسن والحسين اسمان من أسماء أهل الجنّة، ما سمعت العرب بهما في الجاهليّة.

٥. مسند الإمام زيد / ٤٦٨، تحفة الأزهار وزلال الأنهار، وجاء في الذرّية الطاهرة عن عائشة: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عقّ عن الحسن والحسين شاتين شاتين، وذبح عنهما يوم السابع، وقال: «اذبحوا على اسمه فقولوا: بسم الله، اللّهمّ لك وإليك، هذه عقيقة فلان». وروى هذه الرواية الحاكم في المستدرك ٤ / ٢٣٧، وطعن بها شمس الدين الذهبي في تلخيص المستدرك ٤ / ٢٣٧ وقال: إنّ راويها سوار وهو ضعيف، وذهب مشهور الفقهاء إلى استحباب ذبح شاة واحدة في العقيقة.

٦. الرياض النضرة، صحيح الترمذي، نور الأبصار.

٧. دعائم الإسلام ٢ / ١٨٥.

٨. الخلوق: طيب مركّب من زعفران وغيره.

٩. البحار ١٠ / ٦٨.

١٠. جواهر الأحكام ـ كتاب النكاح، وجاء فيه: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «طهّروا أولادكم يوم السابع ؛ فإنّه أطيب وأطهر، وأسرع لنبات اللحم، وأنّ الأرض تنجس من بول الأغلف أربعين يوماً».

١١. المصدر: كتاب حياة الامام الحسين عليه السلام.

2021/03/17

هل للإمام الحسن (ع) بنت اسمها «شريفة»؟
إنّ مَنْ يزعم أنّ الإمام الحسن عليه السلام ليس لديه أولادٌ فكلامه لا يسمن ولا يغني من جوع فضلاً عن جهله بحقيقة هذا الأمر الذي هو واضح كوضوح الشمس في رائعة النهار، إذ ما من مصنّفٍ من مصنّفي العلماء مِـمّنْ صنّف في التراجم والسّير إلّا ويذكر أنّ للإمام الحسن عليه السلام ولداً اسمه الحسن الملقّب بالحسن المثنّى، وقد ترجم له كلُّ مَنْ مرَّ على ذكره.

[اشترك]

وإليك نماذج من ذلك:  في التاريخ الكبير للبخاريّ، رقم الترجمة (2502)، قال: الْحَسَنُ بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ الَهاشميّ عَنْ أَبِيه الْحَسَن روى عَنْهُ الحسن بْن مُحَمَّد وإبراهيم بْن الْحَسَن، وروى خَالِد عَنْ سهيل بْن أَبِي صالح عَنْ حسن بْن حسن عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله، مرسل. وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازيّ (ج3/ص5)، رقم الترجمة (17) قال: الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه روى عنه الحسن بن محمّد وإبراهيم بن الحسن وسهيل سمعت أبي يقول ذلك.وفي كتاب الثقات لابن حبّان (ج2/ص310)، قال: وجُرِحَ فِي ذَلِك الْيَوْم [أي العاشر من المحرّم الحرام في واقعة كربلاء] الحسن بْن الْحسن بْن عَليّ بْن أبي طَالب جِرَاحَة شَدِيدَة حَتَّى حسبوه قَتِيلاً ثمَّ عَاشَ بعد ذَلِك، وفي تاريخ الإسلام للذهبيّ (ج2/ص1079)، قال: الْحَسَنُ بْنِ الْحَسَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، أَبُو مُحَمَّد الْمَدَنِيُّ. [الوفاة: 91 - 100 هجريّة]: رَوَى عَنْ: أَبِيهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ. وَعَنْهُ: ابنه عبد الله، وابن عمّه الحسن بن محمّد ابن الحنفيّة، وسهيل بن أبي صالح، وإسحاق بن يسار، والوليد بن كثير، وفضيل بن مرزوق، وفي تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانيّ (ج2/ص263)، قال:  الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب والد الذي قبله روى عن أبيه وعبد الله بن جعفر وغيرهما وعنه أولاده إبراهيم وعبد الله والحسن وابن عمّه الحسن بن محمّد بن عليّ وحنان بن سدير الكوفيّ وسعيد بن أبي سعيد مولى المهريّ وعبد الله بن حفص بن عمر بن سعد والوليد بن كثير وغيرهم كان أخا إبراهيم بن محمّد بن طلحة لأمّه وكان وصيّ أبيه وولي صدقة عليّ في عصره ذكره البخاري في الجنائز وروى له النسائيّ حديثاً واحداً في كلمات الفرج.ونكتفي بهذا القدر من كتب التراجم التي بيّنت حقيقة هذه الشخصيّة.

ما ما يخص السيدة شريفة ابنته، فإنّ ما أُشيع في الآونة الأخيرة عن مرقد السيّدة شريفة بنت الحسن (ع) من إشكالات ليس صحيحاً، وذلك لأنّ مَرْقَد السَّيِّدَةِ شَرِيفَةَ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ وَلَيْسَتْ كِذْبَةً، وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ حِرْزُ الدِّينِ (ت 1365 هجريّة) فِي مَرَاقِدِ المَعَارِفِ، وَقَالَ بِأَنَّهُ مَرْقَدٌ عَلَيْهِ بُنْيَةٌ قَدِيمَةٌ وَقُبَّةٌ صَغِيرَةٌ، وَأَنَّ قَبْرَهَا مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ القُرَى وَالأَرْيَافِ بِتِلْكَ المِنْطَقَةِ بِقَبْرِ العَلَوِيَّةِ شَرِيفَةَ بِنْتِ الحَسَنِ. مَرَاقِدُ المَعَارِفِ ج1 ص384.

هَذَا، وقَد عِلْمَ القَاصِي وَالدَّانِي بِصُدُورِ الكَرَامَاتِ الكَثِيرَةِ مِنْهَا، حَتَّى عُرِفَت بِالطَّبِيبَةِ، وَهَذَا يَكْشِفُ عَن وَجَاهَةِ المَدْفُونِ فِي هَذَا القَبْرِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ صُدُورُ الكَرَامَاتِ مِنَ الشَّخْصِيَّاتِ الخُرَافِيَّةِ أَوْ القُبُورِ المَكْذُوبَةِ. وقد ذَكَرَ المُؤَرِّخُونَ وَعُلَمَاءُ الأَنْسَابِ أَسْمَاءَ بَنَاتِ الإِمَامِ الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَالتَّالِي:      1 - أُمُّ الحَسَنِ. 2 - أُمُّ سَلْمَةَ. 3 - أُمُّ عَبْدِ اللهِ. 4 - رُقَيَّةُ. 5 - فَاطِمَةُ. 6 - رَمْلَةُ أُمُّ الحُسَيْنِ (الخَيْر). 7 - فَاطِمَةُ.

هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ المُفِيدُ، وَذَكَرَ شَيْخُ الشَّرَفِ خَمْسَةً بِإِسْقَاطِ فَاطِمَةَ وَرُقَيَّةَ، وَذَكَرَ المُوَضِّحُ النَّسَّابَةُ سِتَّةً بِإِسْقَاطِ إِحْدَى الفَاطِمَتَيْنِ، وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ البُخَارِيُّ أَنَّ لِلإِمَامِ الحَسَنِ سِتَّةَ بَنَاتٍ. عُمْدَةُ الطَّالِبِ لِابْنِ عَنبَةَ ص64، الإِرْشَادُ للمُفِيدِ ج2 ص20.

فإنْ أُشكلّ على ذلك بأنّ الذين ترجموا للإمام الحسن عليه السلام لَمْ يَذْكُرُوا السَّيِّدَةَ شَرِيفَةَ فِي بَنَاتِ الإِمَامِ الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ). فجواب هذا الإشكال: بأنْ نقول هنا عدّة إحتمالات واردة لدفع هذا الإشكال، منها:

 أوّلاً- أنّ عدم ذكر السيّدة شريفة بنت الحسن (ع) من ضمن أسماء بنات الحسن عليهم السلام آنفاً، لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ السَّيِّدَةُ شَرِيفَةُ هِيَ أُمَّ الحَسَنِ، أَو أُمَّ سَلْمَةَ، أَو أُمَّ عَبْدِ اللهِ.

وَثَانِيًا: عَدَمُ ذِكْرِهِم لَهَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهَا، فَقَد رَأَيْنَا أَنَّ بَعْضَهُم ذَكَرَ لِلإِمَامِ الحَسَنِ خَمْسَ بَنَاتٍ، وَبَعْضَهُم ذَكَرَ سِتَّةً، وَبَعْضَهُم سَبْعَةً، فَكُلُّ عَالِمٍ يْذْكُرُ مَا عَرَفَهُ وَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ، فَلَعَلَّ لِلإِمَامِ الحَسَنِ بِنْتاً بِاسْمِ شَرِيفَةَ لَمْ يَصِلْهُمْ خَبَرُهَا.

وثالثاً- يُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ شَرِيفَةُ اسْمًا لِصَاحِبَةِ المَرْقَدِ، وَإِنَّمَا لَقَبًا لَهَا، لكونهَا عَلَوِيَّةً مِن بَنَاتِ الإِمَامِ الحَسَنِ (عَ)، وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُه أهَالِي المِنْطَقَةِ المُحِيطَةِ بِالمَرْقَدِ الشَّرِيفِ، إذ يُلَقِّبُونَهَا بالشِّرِيفَةِ بِكَسْرِ الشِّينَ، وَالَّتِي تَعْنِي العَلَوِيَّةَ، كَمَا يُلَقِّبُونَ السَّادَةَ بِالأَشْرَافِ فِي العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ. وعلى هذا الإحتمال لا يمكن عدّها مِنْ بَنَاتِ الإِمَامِ الحَسَنِ (عَ) الصُّلْبِيِّينَ المباشرين، وَإِنَّمَا مِن ذَرَارِيِهَا وَأَحْفَادِهَا.

ورابعاً- احْتَمَلَ المَرْحُومُ المُحَقِّقُ السَّيِّدُ مُحَمَّد عَلِيّ الحُلْو أَنَّهُ قَبْرٌ لِأَحَدِ أَطْفَالِ الرَّكْبِ الحُسَيْنِيّ، حَيْثُ مَاتَتْ هَذِهِ العَلَوِيَّةُ فِي الأَسْرِ وَفِي مَصَائِبِ التَّضْيِيقِ عَلَى العِيَالِ بَعْدَ أَن عَانَتْ مِنَ القَهْرِ وَالحِرْمَانِ وَالعَطَشِ وَحَرَارَةِ الشَّمْسِ إِذ لا يُظِلُّهُمْ ظِلٌّ، وَلا يَقِيهِم وِطَاءٌ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ القَبْرَ لِأَحَدِ العَلَوِيَّاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ فِي رَكْبِ السَّبَايَا، وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَلَم تُطِق مَصَائِبَ السَّبْيِ وَمِحَنَهُ حَتَّى وَافَاهَا الأَجَلُ حَيْثُ قَبْرُهَا هُنَاكَ، وَلَعَلَّهُم تَلَقَّوْهُ مِن مَصَادِرَ مُهِمَّةٍ خَفِيَت عَلَيْنَا اليَوْمَ. مَرْقَدُ شَرِيفَةَ بِنْتِ الحَسَنِ، (قِرَاءَاتٌ تَحْقِيقِيَّةٌ ص 58). ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. هذَا، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ مُعَامَلَةَ القَوْمِ مَعَ السَّبَايَا كَانَتْ قَاسِيَةً جِدًّا كَمَا يَذْكُرُهُ المُؤَرِّخُونَ.

إِذَن: إشْتِهَارُ هَذَا المَرْقَدِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَدِيمِ الأَيَّامِ، وَقِدَمُ قَبْرِهَا وَالبِنَاءُ الَّذِي عَلَيْهِ، وَصُدُورُ الكَرَامَاتِ مِنْهَا، شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ لِهَذَا القَبْرِ حَقِيقَةً وَوَاقِعِيَّةً وَلَيْسَتْ مِنَ القُبُورِ المُسْتَحْدَثَةِ أَوْ الخُرَافِيَّةِ. وَلَكِن يَبْقَى الغُمُوضُ وَالجَهْلُ بِالهَوِيَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ لِصَاحِبَةِ القَبْرِ، هَل هِيَ مِنَ البَنَاتِ الصُّلْبِيِّينَ لِلإِمَامِ الحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، أَمْ مِن ذَرَارِي الإِمَامِ (عَ)، لَا يُمْكِنُنَا الجَزْمُ بِأَيٍّ مِنَ الاحتمالين، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُنَا نَفْيُ أَحَدِ الاحتمالين بِضِرْسٍ قَاطِعٍ. وَعَلَيْهِ: فَلَا يُمْكِنُنَا القَوْلُ بِأَنَّهُ مَرْقَدٌ مُزَيَّفٌ، فَهَذَا مَا لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنْ عَالِمٍ أَو مُحَقِّقٍ أَوْ بَاحِثٍ مُنْصِفٍ. فَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ المَعْلُومَاتِ عَنْهَا إِلَّا مَا هُوَ المُتَدَاوَلُ وَالمَشْهُورُ بَيْنَ أَهَالِي تِلْكَ المِنْطَقَةِ مِن أَنَّهَا شَرِيفَةُ بِنْتُ الحَسَنِ (عَ).

2021/03/15

من ينازعنا سلطان محمد: نزاع ’’سياسي’’ على خلافة النبي هذه أطرافه!

هذا الموضوع الحساس يقتضي شرحاً مفصّلاً لمجمل الأحداث التاريخية في بُعدها السياسيّ والاجتماعي والاقتصادي، وهذا ما لا يمكننا القيام به في هذا المقام، ولذا سوف نكتفي برسم التصور العامّ من خلال رصد أهمّ المحطات التي أوصلت أبا بكر إلى الخلافة.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

أولاً: من الواضح أنّ المتحكم في الزعامة السياسية بحسب الثقافة العربية في تلك الفترة التاريخية هو القبيلة، والدليلُ على ذلك أنّ النزاع الذي وقع في السقيفة بين المهاجرين والأنصار كان نزاعاً قبلياً بامتياز، حيث ادّعت قريش أنها أولى من الأنصار في خلافة رسول الله، في حين اعتبر الأنصار أنّ الخلافة حقّ لهم بوصفهم أهل الأرض والقبائل التي نصرت الإسلام، ومن هنا جاز لنا القول إنّ السقيفة كانت أكبر حدث سياسي شكّل منعطفاً خطيراً في المسيرة المستقبلية للإسلام، وقد بدأ هذا الأمر عندما قالت قريش من ينازعنا سلطان محمد؟، وأتسع الأمر حتى اجتاح كلّ الجزيرة العربية، واستمرّ حتى قيل: ما سلّ سيفٌ في الإسلام كما سلّ في الإمامة والقيادة، فكلّ الدماء التي سفكت والحروب التي وقعت بين الصحابة كانت بسبب الخلافة والإمارة.

ولم يقف التنازع القبليّ عند حدود قريش وقبائل المدينة وإنما اجتاح التمرّد كلّ قبائل الجزيرة العربية التي رفضت زعامة قريش، ولم تكتفِ هذه القبائل بالاعتراض وإنما قامت بثورات مسلحة امتدت حتى اليمن ولم يسلم منها غير مكة والمدينة والطائف، حتى قال بعضهم: "ارتدت العرب عند وفاة رسول الله (ص) ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة" (البداية والنهاية: ج6 ص312). وفي خبر آخر قال: "كفرت الأرض، وتضرمت ناراً، وارتدت العرب من كلّ قبيلة، خاصتها وعامتها، إلاّ قريشاً، وثقيفاً" (تاريخ الأمم والملوك: ج3 ص242). وبذلك تكون القبائل الأخرى التي خضعت لرسول الله ودانت له بالولاء والطاعة تمرّدت وأعلنت العصيان على سلطة قريش. واللافتُ أنَّ كلّ هذه القبائل المتمرّدة رفعت شعار قبائلها، وقد كان هناك تخوّف عامٌّ عند أصحاب السقيفة من تقبّل القبائل الأخرى بالزعامة الجديدة؟ فاستغل عمر هذا التخوّف لصالح القرشيين فخاطب الأنصار بقوله: "إنَّه والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم، ولكنّ العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلاّ من كانت النبوّة فيهم، وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته" (تاريخ الطبري: ج2، ص455 ـ ص460). يكشفُ هذا الكلام عن عدم وجود معيار منضبط لشخصية الخليفة سوى المعيار القبلي، فطالما رسول الله من قريش فبحكم النظام القبلي لابدّ أن يكون خليفته في سلطانه من قريش أيضاً، ولكن يبقى السؤال هل تقبل بقية القبائل زعامة قريش عليها كما افترض عمر قبولها؟ إنّ الذي حدث هو إنَّ القبائل لم تقبل واعتبرت إنَّ قريشاً نالت بذلك الفضل عليها، فأعلنت التمرّد ورجعت الى أحلافها القديمة، روي في تاريخ دمشق: "فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام عيينة بن حصن في غطفان فقال: ما أعرفُ حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد، وإني لمجدّدُ الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة. ووالله لإن نتبع نبياً من الحليفين أحبّ الينا من أن نتبع نبياً من قريش. وقد مات محمد وبقي طليحة! فطابقوه على ذلك" (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج25، ص156) فاستجابت قبيلة أسد خزيمة كلها لادعاء طليحة بن خويلد النبوة! وتسارعت القبائل للانضمام إليهم، فانضمّ بنو فزارة بقيادة عيينة بن حصن، وقال: إنَّ نبي حلفائهم أسد أحبّ اليه من نبي قريش. وانضمّت بطون من طيء، وخزاعة، وغيرها حتى ضاقت بهم سميراء وبزاخة وهي مناطق قرب حائل، فاتخذوا معسكراً آخر في ذي القَصَّة قرب المدينة، وأرسل طليحة أخاه لقيادته وغزو المدينة.  

وعندما امتنعت هذه القبائل عن دفع الزكاة كانت تهدف إلى عدم الإعتراف بالسلطة الجديدة في المدينة، ومن الواضح أنّ دفع الزكاة يحقق سيادة الدولة على الأطراف والأقاليم، فإرسالُ هذه القبائل زكواتها للحكومة المركزية فيه تبعية واضحة وخضوعاً للسلطة، وبالتالي الإمتناع عن دفعها يعتبر عصياناً وإعلانَ إنفصال، فلو عاشت كلّ قبيلة في مضاربها من دون أن تدفع أموالها لجهة خارج حدود القبيلة حينها لا يعنيها كثيراً من يحكم في المدينة، فطبيعة الحياة والأنظمة في تلك الفترة تختلفُ عن الأنظمة المعاصرة، ومن هنا كان منع الزكاة إعلان تمرّد وانفصال. فإذا كان الإسلام قد وحّد بين جميع المسلمين ولم يعترف بالقبيلة فكيف جاز لقريش أن تطالب بالخلافة ارتكازاً على مفاهيم قبلية، فالذي لا يرى في ذلك مخالفة وخروجاً عن حدود الشرع وضوابط الدين، كيف يرى اعتزاز هذه القبائل بقبائلها خروجاً عن الدين وارتداداً عن الإسلام؟ فالمقياس هو نفس المقياس والحجة هي ذاتها الحجة، فقد بدأت الثورة على قريش عندما قالت قريش: من ينازعنا سلطان محمد ونحن عشيرته، فإن كان هناك إرتداد فهذه هي أول علائم الإرتداد. وهنا لا نبرّر لهذه القبائل قبيح ما صنعوا ولكننا نعمم الإدانة ونساوي في الحكم.

وعندما إقترب جيش طليحة الأسدي من المدينة، رأى عمر إنَّ ما تخوّف منه قد وقع، وخاف من مهاجمتهم المدينة، فأشار على أبي بكر أن يقبل بأول مطالبهم وهو إسقاط الزكاة عنهم، فقال له: "تألَّف الناس وارفق بهم، فإنَّهم بمنزلة الوحش. فقال له: رجوتُ نصرك وجئتني بخذلانك؟ جَبَّارٌ في الجاهلية خَوَّارٌ في الإسلام! ماذا عسيت أن أتألفهم، بشعر مفتعل، أو بسحر مفترى، هيهات هيهات، مضى النبيّ وانقطع الوحي. والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي، وإن منعوني عقالاً" ( كنز العمال: ج6، ص527).

وهنا نفهم عدم خروج أمير المؤمنين بالسيف على من اغتصب خلافته بحسب قول الشيعة؛ للخطر الكبير الذي يحدق بالإسلام فالتحرّك العسكري من داخل المدينة يهيئ الفرصة للقبائل المتربصة، مضافاً لخطر فارس والروم التي تتحين نقاط الضعف لتنقضّ على هذه التجربة الوليدة، فروح المسؤولية والحرص على الإسلام جعل أمير المؤمنين (ع) يبتعد بنفسه عن هذا الصراع، وعليه فإنّ العوامل الاجتماعية والتنازع القبلي كان هو المؤثر في ابتعاد الإمام علي (ع) من هذا الصراع ممّا فتح الطريق أكثر لابي بكر.

ثانياً: مشكلة أمير المؤمنين (ع) لم تكن مع تلك القبائل التي ثارت على أبي بكر وإنما كانت مشكلته الأساسية مع قريش نفسها، حيث لم يكن المفضل عندها لما تحمله في نفسها من ضغائن وثارات لما فعله فيهم في حربه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا فإنَّ من حارب أمير المؤمنين (ع) وتمرّد عليه حتى أيام خلافته في الجمل وصفين هي قريش ليس غيرها، كما حاربت رسول الله في أول الدعوة، فأهمّ المعارك التي قادها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت مع قريش، وبعد أن فُتحت مكة وسلمت قريش، سلمت له بقية القبائل، ولم تُسلم قريش إلاّ بعد جهد وجهاد وكان ذلك بجهاد أمير المؤمنين الذي أذلّ أنوفهم وكسر جبروتهم وجندل أبطالهم فأودعوا في قلوبهم أحقاداً بدريةً وأحديةً فأطبّت على عداوته وأكبّت على منابذته، أو كما قالت فاطمة الزهراء (ع): "كلما حَشَوْا ناراً للحرب أطفأها، ونَجَمَ قرنٌ للضلال، وفَغَرت فاغرة من المشركين، قذف بأخيه - الإمام علي - في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بحده، مكدوداً في ذات الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، وأنتم في بَلَهْنِيَةٍ وادعون آمنون .. حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ظهرت حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفلين، وهدر فنيق المبطلين .." وعليه إنّ قريشاً لم تكن ترغب في خلافة الإمام علي (ع) ولذا أستُبعِد من السقيفة وسارعوا اليها وهو مشغول بتجهيز ودفن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد أن اجتمع عليه الناس من كلّ صوب يبايعونه بالخلافة بعد مقتل عثمان، فلم يستتبّ له وضع وخرجت عليه قريش مرة بقيادة عائشة بنت أبي بكر كما في الجمل، ومرة بزعامة بني أميّة فكانت صفين، ثم لاحقت قريش ذريته وولده وقتلتهم تارة بالسمّ والغدر وتارة بالسيف كما هو حال الحسين (ع) في كربلاء، ومن هنا نفهم خروج أمير المؤمنين إلى الكوفة وتركه مكة والمدينة، كما نفهم وجود الشيعة في العراق واليمن وانتشار التشيع في أوساط الموالي، أمّا قريش فلم تشايعه ولم تعترف بحقه ونابذته ولم يبق له إلاّ القلة القليلة من بني هاشم كابن عباس، ولذا كان يتحسّر ويقول: "واجعفراه! ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا حمزةَ لي اليوم". وقوله: "اللهم أني أستعديك على قريش ومن أَعانهم، فإنَّهم قد قطعوا رحمي، وأَكفئوُا أنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا: ألا إنَّ في الحق أن تأخذَه وفي الحق أن تُمنَعَهُ، فاصبر مغمُوماً، أومُت مُتأسفاً. فنظرتُ فإذا ليس لي رَافِدٌ، ولا ذابُّ ولا مُساعِدٌ، إلاّ أهل بيتي، فضننتُ بهم عن المنيَّةِ، فأَغضيتُ على القذى، وجرعْتُ ريقي على الشَّجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمَرَّ من العلقمِ، وآلم للقلب من وخز الشفار" (نهج البلاغة: ص336 من كلام له رقم : 217).

وقوله:  "اللهم فاجز قريشاً عني الجوازي فقد قطعت رحمي، وتظاهرت عليَّ، ودفعتني عن حقّي، وسلبتني سلطان أبن عمّي، وسلّمت ذلك إلى مَنْ ليس مثلي في قرابتي من الرسول، وسابقتي في الإسلام إلاّ أن يدّعي مدّعٍ ما لا أعرفه، ولا أظنّ الله يعرفه، والحمد لله على كلّ حال" (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص308).

وقوله: في خطبته عند مسيره للبصرة  "إنَّ الله لمّا قبض نبيّه، استأثرتْ علينا قريش بالأمر، ودفعتْنَا عن حقٍ نحن أحقُّ به من الناس كافّة، فرأيت إنَّ الصّبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسَفْكِ دمائهم، والناس حديثُوا عهد بالإسلام، والدين يُمخَضُ مَخْضَ الوطْب، يُفسِدُه أدْنى وَهن، ويعكسه أقل خُلف، فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهاداً، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء، والله وليُّ تمحيص سيئاتهم، والعفو عن هفواتهم... الخ" (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج20 ص298،).

فلو سَلِم الإمام علي (ع) من قريش- ولم يسلم- لما بقي له معارض، ولو تولى الخلافة بعد رسول الله (ص) لخضعت له العرب وما تمرّدت عليه القبائل، لفضله وعلوّ قدره وسابق عهده وقربه من رسول الله وما كان له في غدير خم من الوصية، لكنه لم يسلم من قريش ونافسوه في حقه وأبعدوه عن منصبه، وعندما رأت قبائل العرب نكران قريش حقّ أمير المؤمنين وهي عشيرته وقبيلته طمعوا في الأمر لأنفسهم، وعليه فالذين ناصروا أبو بكر لم يناصروه إلا لكونه أنسب لمصالحهم من الإمام علي (عليه السلام) وأطيب لنفوسهم من أمير المؤمنين.

 ثالثاً: بعد أن شكّل تمرّد القبائل خطراً على السلطة الجديدة في المدينة، كان الخيار الأفضل لصرف تفكير هذه القبائل عن المنافسة السياسية هو أن تتبنى سلطة المدينة سياسة الغزو والفتوحات لأراضٍ جديدة خارجة عن حدود الجزيرة العربية، فإنّ ذلك يمثل من الناحية السياسية خياراً استراتيجياً يعمل على توحيد هذه القبائل على أهداف جديدة، كما يعمل على استغلال الطاقات القتالية للعرب وتوجيهها لتحقيق مكاسب جديدة غير معهودة لديهم، مضافاً الى إنَّ ذلك يوسع سلطانهم ويكسبهم مصادر دخل وثروات جديدة، من هذا المنطلق نرى إنَّ عبد الله بن عامر يقترح على عثمان بن عفان لإطفاء نار الثورة التي قامت ضدّه بقوله: "رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه..." (تاريخ الطبري ج2 ص 643). وجاء في فتوح البلدان للبلاذري: "لما فرغ أَبُو بكر رضي الله عنه من أمر أهل الردّة رأى توجيه الجيوش إِلَى الشام، فكتب إِلَى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس اليه من بَيْنَ محتسب وطامع وأتوا المدينة من كلّ أوب، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال..." (البلاذري فتوح البلدان: ج1 ص 128). وقد روى الطبريّ نصّاً آخر فيه: "إنَّ خالد بن الوليد وقف يخاطب جموع القبائل قبل فتح العراق قائلاً: ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلاّ المعاش لكان الرأيّ أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ونولي الجوع والإقلال من تولاه مما أثاقل عما أنتم فيه" (تاريخ الطبري: ج 2 ص 255). 

الأمر الذي يؤكد أنّ استتباب الأمر للخلفاء يعود الفضل فيه إلى تلك الفتوحات التي أورثت العرب ثروات هائلة وسلطان لم يكونوا يتوقعونه، وعندما عمل عثمان بن عفان على احتكار كلّ تلك المكاسب لبني أمية ثاروا ضدّه وعزلوه وقدموا أمير المؤمنين بحثاً عن العدالة، وعندما أخبرهم أمير المؤمنين بسياسته بقوله: " ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحق القديم لا يبطله شي‏ء، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحقّ فالجور عليه أضيق" وعندما لم يستجب لمطامع من بايعه من أمثال طلحة والزبير إنقلبوا عليه وحاربوه. وعليه فإنّ أبو بكر لم يمارس إقناعاً للجماهير العريضة وإنما الظروف السياسية ورغبة قريش في الزعامة وركونهم للدنيا وتقديمهم لمصالحهم الشخصية وموقفهم من الامام علي (عليه السلام) كلّ ذلك جعل الأحداث تسير في صالح الحكومةِ القرشية التي إمتدّ حكمها في الأمةِ الإسلامية أكثر من تسعة قرون.

2021/03/13

مصير ابراهيم الأشتر بعد مقتل ’’المختار’’ .. مع من قُتل؟

يُعَـدُّ إبراهيم بن مالك الأشترمن أبرز رموز الجهاد المسلّح ضد السلطة الأمويّة، ومن الذين هيّأتهم ثورة الحسين (ع) لمواصلة مسيرة رفض الظلم والظالمين، وقد اتّخذ من موقف الحسين (ع) في كربلاء المثل الأعلى له في رسم مسار حياته التي ترفض الذلّ والخنوع للظالمين وتأبى إلّا السير على منهج الإباء.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

إنّه مفخرة من مفاخر الشيعة، وعلم من أعلام أصحاب أهل البيت (ع)، وسيف من سيوفهم وقد نذر حياته لهم، إنّه ابن (مَن كان لأمير المؤمنين كما كان (عليه السلام) لرسول الله) (1)، وابن من وصفه أمير المؤمنين (ع) بقوله: (أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ) فأتمَّ الابنُ مسيرة أبيه في السير على نهجه وهداه.

كان إبراهيم راسخ الإيمان مطلق الولاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) واستمرّ بولائه الثابت لأهل البيت (ع) فصحب الإمام الحسن (عليه السلام)، وبعد وفاته كان إلى جنب الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد بايع إبراهيم، مسلم بن عقيل لـمّا أرسله الإمام الحسين (ع) إلى الكوفة لأخذ البيعة من أهلها، وعندما أعلن (عليه السلام) ثورته كان عبيد الله بن زياد والي الكوفة قد اعتقل الكثير من الشيعة لمنعهم من الالتحاق به والانضمام إليه، وقيل اعتقل أربعة آلاف وخمسمائة رجل من كبار الشيعة ومن أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين، ومنهم المختار الثقفيّ، وإبراهيم بن مالك الأشتر، وعبد الله بن الحارث، وسليمان بن صرد الخزاعيّ وغيرهم، وقَتَل كثيراً منهم . كان المختار من أقطاب الشيعة، وحارب السلطة الأمويّة منذ مطلعها وسلك طريقاً شاقّاً محفوفاً بالمخاطر والأهوال في حربه لها، وكان من أشدّ المعارضين لسياستها الظالمة وتسلّطها على رقاب المسلمين، كما كان من الدعاة إلى الإمام الحسين (ع) في الكوفة، وقد نزل مسلم بن عقيل (ع) في داره عند قدومه إلى الكوفة، وكان المختار يدعو لمسلم ووقف إلى جانبه ودعا الناس إلى الالتحاق بالحسين (ع) ونصرته، وتعرّض بسبب مواقفه هذه إلى السجون والتعذيب.

بعد موت يزيد واستفحال أمر عبد الله بن الزبير هرب عبيد الله بن زياد والي الأمويين إلى الشام فكانت الكوفة تحت نفوذ ابن الزبير، وكان والياً عليها عبد الله بن مطيع فظهر المختار للناس وأظهر كتاباً قال إنّه من محمّد بن الحنفية يدعوه فيه للثورة على الأمويين والثأر منهم لدم الحسين (عليه السلام)، فالتفّت حوله الشيعة وآزروه وكان إبراهيم من أبرز شخصيّات الشيعة في الكوفة فقيل للمختار: (إنْ أجابنا إلى أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوّة على عدوّنا فإنّه فتى رئيس وابن رجل شريف له عشيرة ذات عزٍّ).

واستجاب إبراهيم للمختار، ومنذ ذلك الوقت اقترن اسم إبراهيم مع المختار في التاريخ، فلا يكاد يُذكر المختار حتّى يلوح ذكر ابن الأشتر الذي كان يده اليمنى وقطب دولته وثقته ومعتمده، وقد برز اسمه بعد أن جسّد أروع صور البطولة في المعارك التي خاضها مع المختار وقتله قتلة الحسين (ع) وخصوصاً معركة الخازر التي قتل بها عبيد الله بن زياد.  

وقد استمد المختار مشروعيّة الثورة على الأمويين لأنهم تجبّروا وطغوا في الأرض وقتلوا سيّد شباب أهل الجنّة وسبط النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وخير أهل الأرض في وقته الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته وأصحابه وسبوا نساءه وعياله وهتكوا حرمة مدينة النبيّ  (صلّى الله عليه وآله) وأبادوا أهلها واستحلّوها قتلاً ونهباً لمدّة ثلاثة أيام وارتكبوا فيها من المجازر ما يندى له الجبين.

كان إبراهيم يمثّل قوّة للمختار ويعطيه زخماً معنويّاً، فهو ابن قائد جيش أمير المؤمنين (ع) ومن وجوه الشيعة وكبرائها، ومن القادة الشجعان والأبطال الأفذاذ، لذا لم يتوان المختار من الذهاب إليه مع أصحابه وطلب الانضمام إليهم للطلب بدم الحسين (ع)، فقبل إبراهيم دعوتهم وانضمَّ إليهم، وبانضمامه أصبح المختار قويَّ الجانبِ مهيب الصولة واتّسع نفوذه حتّى غطّى العراق بأجمعه. أمّا دور عبد الله بن مطيع والي ابن الزبير على الكوفة فهو عندما سمع بخطّة الثورة اتّخذ إجراءات لقمعها فبثّ الجواسيس وأرسل جماعات لمراقبة الأوضاع على أطراف الكوفة وعرف موعد انطلاق الثورة فلما جاء إبراهيم إلى بيت المختار مع جماعة من أصحابه حسب الموعد المتّفق عليه للثورة اعترضه إياس بن مضارب قائد شرطة ابن مطيع لمنعه من الوصول للمختار فقتله إبراهيم لتبدأ شرارة الثورة بالاندلاع فخرج المختار مع إبراهيم وخرج ابن مطيع ومعه صاحبه راشد بن إياس وتجمّع أصحاب الفريقين وأنصارهما وبرز إبراهيم وهو يقول:

اللهم إنّك تعلم إنّا غضبنا لأهل بيت نبيّك (صلّى الله عليه وآله)، ثرنا لهم على هؤلاء القوم.

وجرت معركة قتل فيها راشد مع جماعة من أصحابه ولـمّا رأى ابن مطيع أن لا طاقة له على قتال إبراهيم والمختار هرب من الكوفة إلى ابن الزبير وانضمَّ أنصاره إلى المختار لتقوم دولة المختار في الكوفة. ولكنْ هذه الدولة الفتيّة كان يحيطها الأعداء من الداخل والخارج، فأعداء الخارج كانوا يتربّصون بها وهم الأمويون والزبيريون، أما أعداء الداخل فهم من بقي من قتلة الحسين (ع) وغيرهم من المنافقين والانتهازيين الذي أثاروا الشغب على سياسة المختار الاقتصاديّة التي ساوى فيها بين العرب والموالي، فلم يفرّق المختار بسياسته في العطاء بين العربيّ والأعجميّ اقتداء بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلّا بالتقوى)، واقتداء بنهج أمير المؤمنين (ع) الذي لم يفرّق بينه وبين قنبر في العطاء، فأحدثوا فتنة في الكوفة وعارضوا هذه السياسة، ورغم أنّ المختار عالجها في حينها إلّا أنّ نارها بقيت تحت الرماد حتّى التهبت عليه مع نيران ابن الزبير عند دخوله الكوفة وساعدتها في القضاء على المختار.

بدأ المختار ثورة إصلاحه في بادئ الأمر حينما أعلن حربه على المجرمين من قتلة الحسين (ع) والتعجيل بقتلهم، وسار هو ومن معه من الجيش في جهة، وإبراهيم بن مالك الأشتر ومن معه في جهة أخرى ونادى مناديه: (من أغلق بابه فهو آمن إلّا من اشترك في قتل الحسين(ع)، وأطلق العنان لهم لينتقموا من قتلته فتعالى الصياح: يا لثارات الحسين (ع) وقبض في ذلك اليوم على خمسمائة رجل، ولما عُرِضوا على المختار وجد أنّ من اشترك منهم في قتل الحسين (ع) مائتين وثمانية وأربعين رجلا فقتلهم وأطلق سراح من بقي منهم. ومضى رجال المختار للبحث عن قتلة الحسين (ع) وقتلهم فقتلوا الكثير منهم، وكان من جملتهم خولى بن يزيد الأصبحيّ، وعمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وبقي ابن زياد الذي أقسم المختار أنّه سيقطع أنامله. ومن المهمّات التي قام بها إبراهيم في دولة المختار قمعه تمرّد بعض أهل الكوفة على المختار حين اتّهموه بالسحر والكهانة فاستدعى المختار إبراهيم الذي كان قد ولّاه المختار على المدائن فجاء إلى الكوفة وقضى مع المختار على التمرّد بعد عدّة معارك في الكوفة، وكان عبيد الله بن زياد قد هرب بعد موت يزيد إلى الشام وجاء بجيش استحلّ به الموصل وتمركز بها، فأرسل إليه المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف فلم يستطع الصمود أمام جيش يفوق عدد جيشه بأضعاف مضاعفة، ومرض يزيد مرضاً شديداً أدى إلى وفاته، ولما علم أصحابه أن لا طاقة لهم على قتال جيش الشام عادوا إلى الكوفة فأرسل المختار إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف وأمره أن يصحب معه من رجع من جيش يزيد.

بعد مقتل المختار في الكوفة كان إبراهيم والياً على الموصل، إذْ ورد إليه كتابان، الأوّل: من مصعب بن الزبير وهذا نصّه: (إنّا ندعوك إلى بيعة ابن الزبير، فإن أجبت إلى ذلك فأقبل إليَّ، فإنّ لك أرض الجزيرة وأرض المغرب كلّها، ما بقيتَ وبقيَ سلطان آل الزبير، لك بذلك عهد الله وميثاقه وأشدّ ما أخذ الله على النبيين من عهد أو عقد، والسلام).

أمّا الكتاب الثاني: فهو من عبد الملك بن مروان وهذا نصّه: (من عبد الله عبد الملك إلى إبراهيم ابن الأشتر، أمّا بعد، فإنّي أعلم أنّ تركك الدخول في طاعتي ليس إلّا عن معتبة، فلك الفرات وما سقى، فأنجز إليَّ فيمن أطاعك من قومك، والسلام).

قرأ إبراهيم الكتاب الأوّل ولم يقرأ الكتاب الثاني لأنّ نفسه تأبى حتّى أن ينظر في كتاب من الأمويين، لكنّه عرف محتواه الذي لم يختلف مع الكتاب الأوّل.

لقد صار إبراهيم أمام خيارات ثلاثة، فهو إمّا أن يكون مع الأمويين وهذا ما يستحيل عليه، فكيف يكون إلى جانب قوم قتلوا عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ وإمّا أن يكون مع الزبيريين أعداء المختار وقتلته والذين قوّضوا دولته التي قامت على الثأر لدم الحسين (ع) وكان هو أحد أعمدتها بل القطب الأكبر في إقامتها، وإمّا أنْ يهملَ الكتابين ويعتزل الفئتين، وهذا يعني أنّه سيلاحق على كلِّ حال ويقتل من قبل الفريق الذي سيتغلّب على صاحبه، فهو لن يُبْقِيَ على إبراهيم حيّاً ولديه مسوّغ لقتله فهو قائد جيش المختار عدوّ الأمويين والزبيريين!

فكّر إبراهيم في الأمر فوجد اتّباع أحدهما وهو أصلح السيّئين من باب بعض الشرِّ أهون، فرأى أن يقاتل نفس العدوّ ولو مع غير المختار، فبنو أميّة أحقّ بالقتال لأنّهم قتلوا عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يفعل الزبيريون ما فعلوه، ثمَّ كيف يقاتل أهل العراق شيعة أمير المؤمنين (ع) مع أهل الشام شيعة معاوية، فعزم أمره وقال: (لا أؤثر على مصري وعشيرتي أحداً). ثمَّ إنّ هناك أمراً آخر جعل إبراهيم يفضّل مصعب على عبد الملك وهو أنّه قد قتل كثيراً من أهل الشام ولا يأمن منهم الغدر ولـمّا استشار أصحابه واختلفوا في الجوابين قال لهم: (وكيف لي بذلك ؟ وليس قبيلة تسكن الشام إلّا وقد وترتها، ولست بتارك عشيرتي وأهل مصري..). لقد انضمّ إلى مصعب كما انضمّ المختار إلى عبد الله بن الزبير ما دام الهدف واحد والعدوّ واحد وهو محاربة الأمويين فتشابه الموقفان. ثُمَّ إنّه لم يكن كتاب عبد الملك إلى إبراهيم هو الوحيد الذي أُرسِلَ إليه، وإنّما كانت هناك عدّة كتب أُرسلت إلى أشراف العراق وقادته، فقد أرسل مثله لجماعة كثيرة وكلّهم قرأ الكتاب وأخفاه وفي نيّته التعاون مع عبد الملك والغدر بمصعب إلّا إبراهيم، فإنّه أتى من الموصل للقاء مصعب ومعه الكتاب مختوماً وأعطاه لمصعب وقال له: هذا كتاب الفاسق عبد الملك بن مروان! ولـمّا سأله مصعب عن عدم فضّه الكتاب قال له: ما كنت لأفضّه، ولا أقرأه إلّا بعد قراءتك له. فلمّا فتح مصعب الكتاب وقرأه قال: فما يمنعك يا أبا النعمان؟ فقال إبراهيم: لو جعل لي ما بين المشرق إلى المغرب ما أعنت بني أُميّة على ولد صفيّة. فقال مصعب: جزيت خيراً أبا النعمان. وفرح مصعب كثيراً بانضمام إبراهيم إليه وفرح أخوه عبد الله كذلك عندما علم بذلك. ثُمَّ حذّر إبراهيم مصعباً من رجاله وقادة جيشه إنْ كان قد راسلهم عبد الملك لأنّه كان يعلم أنّه سيكاتبهم بلا شكٍّ، فقال لمصعب: لست أشكّ أنّ عبد الملك قد كتب إلى عظماء أصحابك بنحو مـمّا كتب إليَّ، وإنّهم قد مالوا إليه، فأذنْ لي في حبسهم إلى فراغك، فإنْ ظفرت مننت بهم على عشائرهم، وإنْ تكن الأخرى كنت قد أخذت بالحزم، ثُمَّ قال: رحم الله الأحنف إن كان ليحذّرني غدر أهل العراق ويقول: هم كمن تريد كلّ يوم بعلاً، لكن مصعب رفض وخاف من أخيه عبد الله إنْ خسر المعركة أن يشكوه إليه ويحمّله تبعة الخسارة فقال: إذنْ يحتجّوا عليَّ عند عبد الله. وألحَّ عليه إبراهيم في ذلك فقد كان متأكّداً أنّ في جيش مصعب نفوساً قد أضمرت الغدر وهي تخفي كتبها فقال له: أيّها الأمير! لا عبد الله والله لك اليوم، وما هو إلّا الموت، فمت كريماً. فقال مصعب: يا أبا النعمان إنّما هو أنا وأنت فنقدم للموت. قال إبراهيم: إذنْ، والله أفعل. وحدث ما قاله إبراهيم من الغدر وكان السبب في هزيمة مصعب وقتله، إذْ سار عبد الملك لمحاربة مصعب وأعطى قيادة الجيش لأخيه محمّد، أمّا مصعب فوكّل قيادة جيشه لإبراهيم والتقى الجيشان بدير الجاثليق في مسكن، فهزم إبراهيم محمّداً في الجولة الأولى وقتل صاحب لوائه ثمّ مدّه مصعب بأحد الذين أضمروا الغدر وهو عتاب بن ورقاء التميميّ، فساء ذلك إبراهيم لأنّه توجّس فيه الغدر فصاح: قد قلت له لا تمدّني بأمثال هؤلاء ! وحدث ما توقّع إبراهيم، إذِ انهزم عتاب مع أصحابه، وكان قد كاتب عبد الملك واتّفق معه على الفرار واعتزلت ربيعة وكانوا في ميمنة مصعب، وقالوا لمصعب: لا نكون معك ولا عليك فالتفت إبراهيم إلى مصعب وقال له مؤنّباً: كيف رأيت رأيي؟ وبقي إبراهيم يقاتل الأمويين بشجاعة وبسالة رغم قلّة أصحابه وكثرة جيش العدوّ ويصف المسعوديّ شجاعته الفائقة وقد دار حوله الأعداء وهو يقاتلهم يميناً وشمالاً: (واشتبكت عليه الأسنّة فبرى منها عدّة رماح وأسلمه من كان معه فاقتلع من سرجه ودار به الرجال وازدحموا عليه فقتل بعد أن أبلى ونكأ فيهم وحزّ رأسه وأتي عبد الملك بجسد إبراهيم فألقي بين يديه فأخذه مولى الحصين بن نمير فجمع عليه حطبا وأحرقه بالنار). وكان مقتل إبراهيم سنة 71 هـ / 691 م.


ينظر مراجع هذا المقال في:

1 ــ (الأخبار الطوال) لابن قتيبة الدينوريّ: (311).

2-  شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ( ج ١٥ ص ٩٨)،و( ج ١٧ ص ٣).

3 ــ وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقريّ ص 441 / الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 94.

4 ــ اللهوف في قتلى الطفوف للسيّد ابن طاووس ص ١٥٣

5 ــ البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 257

6 ــ الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 4 ص 215

7 ــ ذوب النضار في أخذ الثار لابن نما الحليّ ص 97 .

8 ــ التوابون للدكتور إبراهيم بيضون ص ١٧٤

9 ــ تاريخ الطبريّ ج 6 ص 88

10 ــ العوالم ، الإمام الحسين (ع) للشيخ عبد الله البحرانيّ ص ٧٠٣

11 ــ أنساب الأشراف ج 6 ص 425.

12 ــ بحار الأنوار  ج ٤٥ ص 380

13 ــ مروج الذهب ج 3 ص 106

 

 

2021/03/13

2021/03/10

الإمام الكاظم (ع).. ضحية ’’ملك’’ مولع بالخمر!

مقتبس من كتاب الإمام موسى بن جعفر (ع) ضحية الإرهاب السياسي للدكتور محمد حسين علي الصغير:

ولي هارون الرشيد الملك في ربيع الامام سنة 170 هـ، ومات لليال خلت من جمادي الآخرة سنة 193 هـ، وقد امتدت خلافته ثلاثة وعشرين عاما (1).

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وقد اتسعت رقعة الدولة الاسلامية في عصره اتساعا عريضا، فضربت بأطنابها غربا وشرقا وجنوبا وشمالا، فمن حدود البحر الأبيض المتوسط ومشارف البحر الأحمر حتى افريقيا، ومن مضايق البسفور وبحر قزوين حتى أزبكستان وبخاري وسمرقند، ومن شواطي‌ء الخليج ومضارب الهند والسند حتى تخوم الصين. يضاف الى هذا كله الجزيرة العربية من أقصاها الى أدناها، وهي مساحات واسعة اشتملت على نصف العالم تقريبا، حتى أثر عنه مخاطبا السحابة «حيثما تمطرين ففي ملكي..».

وقد صدق بتعبيره عن سلطانه بأنه ملك، فهو من أعتي الملوك وان تظاهر برقة القلب، وهو من أقسي الجبابرة وان بدا بطيبة البري‌ء، وهو من أترف الحاكمين وان تجلبب برداء الزهد واظهار الورع، وهو من المخططين البارزين لاقامة السلطة بقوة الحرب، وحماية الملك بسفك الدماء.

وقد كان القلقشندي مهذب التعبير في رواية خطابه للسحب: «اذهبي الي حيث شئت بأنني خراجك» (2).

وقد حكي هذا التعبير ما في قلب الرشيد من الاعتداد بالمال والخراج، لا بالاسلام ودولته، فاحتجان الأموال، وتكدس الأرصدة هو الذي يوفر له حياة البذخ والعبث، وهو الذي يحقق له موائد الفسق واللهو والطرب، والسيطرة على المال من المهمات الأساسية في ملكه، يستعين به في شراء الضمائر، والقضاء على المعارضين، والترفيه عن ولاته وبطانته وحواشيه وجواريه، والاغداق على المغنين والمخنثين والقيان.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي:

«وجبي له الخراج من جميع الأقاليم الاسلامية، وصارت عاصمته بغداد عروس الدنيا، ومستودع أضخم بيت للمال في العالم... وانتشر فيها الثراء الفاحش والتضخم النقدي عند التجار والموظفين والندماء والمطربين والمجان، وتناثرت فيها القصور الرائعة التي شيدت على طراز هندسي جميل مزيج من الذوقين العربي والفارسي، وصارت بغداد بما فيها من الحدائق الغناء زينة الشرق، وأعظم عاصمة لأهم امبراطورية شاهدها التأريخ» (3).

ولا تحسبن هذه الامبراطورية جاءت لتطبيق مبادي‌ء الاسلام أو تحكيم شريعة السماء، وانما استغلت استغلالا فظيعا للاستعلاء في الأرض، وافترضت لتلبية رغبات المجون العابث، فالشعب المسلم على قارعة الطريق يتشكي البؤس والحرمان وفقد الحياة الكريمة، وقصور الخلفاء تعج بالقيان والجواري والغلمان، وأنفقت واردات الدولة في تشيد القصور الفارهة، وبددت الميزانية العامة في اغراق أتباع النظام بالأعطيات الضخمة، واتخام وعاظ السلاطين بالهبات الطائلة، وكان لسوق المجان والفسوق نصيب مما قرره السلطان، وكانت الثروات اثرة بين هؤلاء وهؤلاء. وقد قدر الدكتور عبدالجبار الجومرد واردات الدولة بـ «مليارين ومائتين وعشرين مليون دينارا، وتسعمائة وستين ألف دينار» (4).

وهذا القدر العظيم في الميزانية يجعلها أضخم ميزانية في العالم آنذاك بالنسبة للقيمة النقدية المتداولة وقيمة الأسعار، فقد ذكر الدكتور أحمد أمين الأسعار في الأسواق، فذهب أن الكبش يباع بدرهم، والجمل بأربعة دنانير، والتمر ستون رطلا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، وأجرة البناء الأستاذ بخمس حبات، والحبة ثلث الدرهم، والدانق سدس الدرهم (5).

وفي هذا الضوء كان ما أبداه الجهشياري دقيقا حينما اعتبر واردات الدولة عبارة عن: خمسمائة مليون درهم ومائتين وأربعين ألف درهم (6).

وذلك بالدرهم الفضي المتعارف عليه في ذلك العصر.

فأين ترى مصرف هذه الايرادات الضخمة من قبل السلطان؟

انّ هذه الايرادات الكبرى لم تكن لتصرف في وجوه البر والاحسان، ولا لنشر تعاليم الاسلام، ولا لإعمار البلاد، ولا لتلبية احتىاج البائس (صفحه 160) الفقير، ولا في وجوهها المشروعة الا لماما، وانما كانت تبذر في سبيل الرغبات الخاصة، والمسلمون بين جائع وعريان، وشريد وطريد، والعلماء في فقر وفاقة واذلال، وقادة الفكر والمعرفة في بؤس وشقاء، وعامة الناس كالعبيد في ذل واضطهاد، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، الا تلك الطبقة الأرستقراطية من الولاة وأبناء السلاطين وفقهاء البلاط، فإنها في نعيم من العيش الرغيد!! وهذا المال الذي هو مال المسلمين زكاة وخراجا، يتقاسمه المغنون والجواري والغلمان في هبات جزيلة متتابعة، فقد غني دحمان الأشقر الرشيد فطرب لذلك وقال له: تمن علي، فتمني على الرشيد ضيعتين واردهما أربعون ألف دينار فأعطاه اياهما (7).

وأنشده أبو العتاهية أبياتا، غناها للرشيد ابراهيم الموصلي، فأعطي كل واحد منهما مائة ألف درهم، ومائة ثوب (8) وغناه يحيي المكي فأطربه، فقال الرشيد: أعطوه ما في ذلك البيت، فكان فيه ما قيمته خمسون ألف درهم (9) وغناه يحيي المكي أيضا بيت من الشعر، فسكر عليه حتى أمسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم (10).

وغني اسحاق الموصلي للرشيد بأبيات وصف فيها بستانا بظهر الحيرة قيمته أربعة عشر ألف دينارا، فأمر له الرشيد بأربعة عشر ألف دينار، فاشتراها (11).

وغناه ابراهيم الموصلي صوتا من مختاراته، فطرب له الرشيد طربا شديدا، واستعاده عامة ليله... فأمر له بمائتي ألف درهم (12).

وغناه ابراهيم الموصلي بعد أن أطلقه من الحبس بهذا البيت:

تضوع مسكا بطن نعمان

اذ مشت به زينب في نسوة خفرات

فأمر له بثلاثين ألف درهم (13).

وهذا غيض من فيض سقناه على سبيل المثال لتبذير أموال المسلمين على الغناء ومجالسه فحسب، فما بالك في اعداد تلك المجالس وتهيئة مرافقها ومتطلباتها وما يقتضي لها من الأشربة والأنبذة وآلات الطرب والفرش الوثير والوسائد والستائر، وما يتبع ذلك من الانفاق لدي اصطفاف الموائد؟؟

أما الجواري وشراؤها، فقد بلغ حد الاسراف في الأسعار، والمغالاة في استزادة منها، وأسوق اليك هذا النموذج في عدد ما في القصر لنوع خاص من الجواري تشرف عليه زوجته أم ‌جعفر، وقد أقبلت في زهاء ألفي جارية من جواريها!!

وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، وكان قد استقل بجارية عنها في غاية الجمال والكمال!! فأقبلت جواري أم‌ جعفر في قبال جواريه الأخريات، وهن في لحن واحد:

منفصل عني...

وما قلبي عنه منفصل

يا قاطعي اليوم لمن

نويت بعدي أن تصل

فطرب الرشيد، وقام على رجليه حتى استقبل أم‌ جعفر قائلا: لم أر كاليوم قط.

ثم نادى مسرورا الخادم قائلا: يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما الا نثرته، فكان مبلغ ما نثره يومئذ: ستة آلاف ألف درهم (14).

واذا لم يكن هذا عبثا بأموال الدولة فكيف يكون العبث؟

ومع هذا كله، وفوق هذا كله، فان الرشيد يسمي أمير المؤمنين!! فيالله وللمسلمين، فأي أمير هذا الذي يعيش بين خابية وزق، ويحيا بين قينة ومغنية، ويحظى بجارية وجارية، ويشتمل قصره الملكي العامر على آلاف الجواري من مختلف الجنسيات!!

ولك أن تعجب من بخله على طبقات الشعب، ولك أن تعجب من سخائه على المجان والمخنثين ومرتزقة الشعراء، فقد كان يجيز بعض الشعراء في قصائدهم عن كل بيت بألف دينار (15) وأعطي لأعرابي من باهلة أنشده بيتين ذكر فيهما ولديه الأمين والمأمون مائة ألف درهم (16).

وكان أشجع السلمي ثقيلا على الرشيد، فأنشده قصيدتين طرب لهما الرشيد، فقال له:

يا أشجع؛ لقد دخلت الى وأنت أثقل الناس على قلبي، وانك لتخرج وأنت أحب الناس الي.

قال أشجع: ما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟

قال الرشيد: الغنى؟ فأسأل ما بدا لك.

قال: ألف ألف درهم، قال الرشيد: ادفعوا له (17).

هذه الهبات الضخمة لشعراء مغمورين؛ فما بالك في شعراء الطبقة الأولي؟

أما تبذير الرشيد واسرافه في شراء الجواهر والأحجار الكريمة، والقلائد الثمينة فما لا رأت عين ولا سمعت اذن، فكان خاتمه بمائة ألف دينار (18).

وقد اشتري جواهر معدودة بمائتي ألف دينار، فوهبها لدنانير البرمكية (19).

وكان عند الرشيد قضيب زمرد أطول من ذراع، وعلى رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه نظرا لنفاسته، وقد قوم الطائر وحده بمائة ألف دينار (20).

وقد شاركته السيدة زبيدة بملحظ الاسراف في الجواهر وسواها... فأمرت أن يتخذ لوصائفها من الدر المثقوب بالتصليب، ثم اتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر تلبسها في قصرها، واتخذت سبحة من يواقيت رمانية كالبندق، اشترتها بخمسين ألف دينار (21) واشترت غلاما يضرب على العود بثلاثمائة ألف درهم (22) وغناها ابن جامع هي والرشيد بثلاثة أبيات، فأمرت زبيدة أن يدفع لابن جامع المغني عن كل بيت مائة ألف درهم (23).

ووهبت زبيدة لمنصور النمري جوهرة لوصفه مدينة السلام، اغراءا بالرشيد للرجوع اليها، اذ كان يستطيب المقام بالرقة، فأرادت عودته لبغداد، فعمل النمري بيتين استحسنهما الرشيد، فوهبت له جوهرة، ثم دست من يشتريها منه بثلاثمائة ألف درهم (24).

وصنعت لها بساطا من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الأجناس، وصورة كل طائر من الذهب، وأعينها من يواقيت وجواهر، أنفقت عليه نحوا من ألف ألف دينار (25).

يضاف الى هذا العبث بذخ البرامكة المستطير، واسرافهم في العطاء للشعراء والزعماء والأتباع ووعاظ السلاطين، حتى عرف عنهم أنهم من الأجواد، فبذروا واردات الدولة في مآربهم وأغراضهم وشهواتهم وملذاتهم، وما يكسبهم شهرة وصيتا، عدا موائدهم العامرة بأنواع الأشربة والأطعمة، يضاف اليها أندية الخمرة والطرب.

واذا عدنا الى الرشيد رأيناه مولعا بالخمر، ويدعو خواص جواريه اذا أراد أن يشرب، وربما تولي السقاية بنفسه (26).

وقد ذكر السيوطي عن الذهبي أن الرشيد كان صاحب أخبار وحكايات في اللهو واللذات المحظورة والغناء (27).

وللتأريخ والحقيقة المرة، فان الرشيد لم يكن ذا حراجة في دين، ولا أثر من تقوى لديه، وانما هو الرياء المقنع بالدجل السياسي، فقد أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك، قال:

«لما أفضت الخلافة الى الرشيد، وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي. فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك؛ ان أباك قد طاف بي. فشغف بها، فأرسل الى أبي‌ يوسف فسأله: أعندك في هذا شيء؟

فقال: يا أمير المؤمنين؛ أو كلما ادعت أمه شيئا ينبغي أن تصدق؛ لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة».

قال ابن المبارك: «فلم أدر ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟

أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين!!

أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها، قال: اهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك، وصيره في رقبتي» (28).

هذه صورة اجمالية عجلى من صور هارون الرشيد في البذخ والاسراف، وسأثبتك صوره في القتل والارهاب، وصوره في الغدر والفتك، فما يغني عنه دفاع ابن‌ خلدون وعده له من أئمة المسملين، وما يغني مناصرة الدكتور عبدالجبار الجومرد له، فنفي عنه شرب الخمر، ولعب النرد، وما الى ذلك مما هو مستهتر به (29).

بينما لم نجد عصرا بلغ به العبث والتهتك الذروة كعصر الرشيد، وقد ساد به اللهو والمجون فغمر البلاد وأفسد العباد، وعمت المحرمات الشرعية ديار الاسلام وأقاليمه بستار رقيق من الادعاء الديني.

يقول العلامة الدكتور مصطفي جواد (رحمه الله):

«ولو قدر لهارون الرشيد أن يبقي على أريكة الخلافة أكثر مما بقي لانحطت الدولة الاسلامية الى مستوي سحيق أقبح الانحطاط» (30).

ومهما يكن من أمر، فقد بدأ هارون الرشيد خلافته «باخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين الى مدينة الرسول (صلي الله عليه وآله)».

وكان هذا الاجراء دقيقا في نظرته السياسية، فحكم الرشيد ببغداد بحاجة الى الاستقرار السياسي، ولابد أن يصفو الجو من المعارضة، وأن تخلو الساحة من الرافضين لمظالم الحكم، وهذا التفكير لم يكن بعيدا عن ذهنية الرشيد الأمنية، ولابد له من تحقيق ذلك، فبث الرصد والعيون لتتبع أخبار الطالبيين، وتعقب تحركهم النضالي ضد النظام، بما أذكى شرارة البغضاء والضغينة بين الحيين، حتى استطال الظلم الامام موسى بن جعفر (عليه‌ السلام) وهو غير طامح في سلطان، ولا طامع في عرش، ولامتهالك على حكم، وكل ما يهمه هو احياء السنة واطفاء البدعة.

ومع الاعراض الواضح للإمام عن مظاهر الأبهة والملك، الا أن الرشيد قد تحين الفرص وافتعل الحجج لاعتقال الامام مرة بعد مرة، وعرضه على السجون تارة بعد أخرى.

ومما يحز في النفس أن الرشيد قد يستوقف الامام للاستجواب والمساءلة الغليظة الجافة دون مسوغ شرعي أو عرفي، حتى استقر رأيه على القضاء عليه.

وربما قيل ان الرشيد بادي‌ء ذي بدء «أكرم الامام وعظمه» (31) ولكن ذلك ان حصل فهو نوع من الدجل السياسي المفضوح، على أننا لم نجد شاهدا واحدا يؤكد اكرام الامام واعظامه من قبل الرشيد، بلي قد تقهره الحقيقة فيعترف بما للإمام من فضل وعلم وقيادة.

ومن الوضوح بمكان أن الرشيد كان حاقدا على الطالبيين بعامة، وعلى الامام بخاصة، كما تحدثنا بذلك النصوص المتواترة في أكثر من موقع وموضع حتى لا يدري البحث من أن يبدأ.

كان الامام طيلة أيام الرشيد شديد الحذر، وكانت الرقابة الصارمة من حوله تقضي بابتعاده عن أوليائه وأصحابه، حتى أن تلامذته ورواة حديثه حينما يروون احاديثه وأفكاره، قد يتجنبون التصريح باسمه الشريف، فيقول أحدهم: حدثني الرجل، وكتبت الى الرجل، وأجاب الرجل، وقد يذكر بكناه فيقال: قال أبو الحسن، وتحدث أبو ابراهيم، وقد يعبر عنه بما اشتهر من ألقابه عند خاصته، فيقال: سمعت العبد الصالح، وقال السيد، وتحدث (صفحه 167) العالم، وروي الكاظم، وأمثال هذا، ويدل بوضوح على مدى الرصد الذي يعاني منه الامام وشيعته، ولعل ذلك كان بوصية منه (عليه‌ السلام) حفظا لأوليائه من الخطر وتجنبا لمواطن التهم باستعمال الرموز الدالة عليه دون التصريح بالاسم الرفيع درءا لمكائد هؤلاء الطغاة.

وكان الطالبيون قد استتروا عن الرشيد حذر القتل وغياهب السجون، وذلك عقب العنف الثوري الذي صارع الحكم، وكانت رده فعل الرشيد قاسية في اجراءات نفذت فيها الأحكام العرفية بأبشع صورها، وكنموذج عليها ما رواه عبيدالله البزاز النيسابوري، قال: «كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت اليه في بعض الأيام، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت... وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت عليه... أحضرت المائدة، وذهب عني أني صائم وأني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت، فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير هذا شهر رمضان ولست بمريض، ولا بي علة توجب الافطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك... فقال: ما بي علة توجب الافطار، واني لصحيح البدن ثم دمعت عيناه وبكي!!

فقلت له: ما يبكيك أيها الأمير؟

فقال: «أنفذ الي هارون الرشيد... أن خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم!! فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء بي الى بيت بابه مغلق ففتحه، فاذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منها، فاذا فيه عشرون عليهم الشعور والذوائب، شيوخ وكهول وشبان مقيدون. فقال لي: ان أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم من العلوية من ولد علي وفاطمة، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم، ثم رمي أجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر. (صفحه 168) ثم فتح باب بيت آخر، فاذا فيه عشرون نفسا من العلوية من ولد علي وفاطمة مقيدون. فقال لي: ان أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر حتى أتيت على آخرهم. ثم فتح باب البيت الثالث، فاذا به مثلهم عشرون نفسا من ولد علي وفاطمة مقيدون عليهم الشعور والذوائب.

فقال لي: ان أميرالمؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضا، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد فأضرب عنقه، فيرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفسا منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبا لك يا مشوم!! أي عذر لك يوم القيامة اذا قدمت على جدنا رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمة؟؟

فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر الي الخادم مغضبا وزبرني، فأتيت على ذلك الشيخ أيضا فقتلته، ورمي به في تلك البئر.

فاذا كان فعلي هذا، وقد قتلت ستين نفسا من ولد رسول الله (صلي الله عليه وآله) فما ينفعني صومي وصلاتي، وأنا لا أشك أني مخلد في النار» (32).

ان أمثال هذه المظالم الكبرى هي التي استنت للطغاة والجبابرة اللاحقين حتى القرن الحادي والعشرين: أساليب البطش والفتك ومعالم الارهاب الدموي والقتل الجماعي، فاذا كان من يسمي بأمير المؤمنين!! هذا صنعه ووكده، فما بال هؤلاء الطواغيت الصغار، وهم لا يوصفون بأكثر من كونهم حكاما دكتاتوريين ليس غير، على أن بعضهم قد زاد على الرشيد أضعافا مضاعفة بوسيلة وأخرى حماية للحكم الهزيل.

أما تعقب هارون الرشيد للإمام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام) فهو من أبشع مظاهر الأجرام في تأريخ الانسانية نظرا لمكانة الامام الدينية والقيادية واتصاله (صفحه 169) برسول الله (صلي الله عليه وآله) نسبا وسببا، وكونه الرافد الذي لا ينضب لموارد الشريعة الغراء.

لقد عزل الرشيد الامام عن شيعته، ومنعه من ممارسة طقوسه الايجابية، ورصد عليه حياته وأنفاسه، واستطال عليه بالسلطان، وغيبه في ظلمات السجون، والامام صامد صابر، والرشيد يتحين به الفرص، ويسد عليه المنافذ والمسالك، في معاناة رهيبة عبر عنها الامام في رسالة بليغة للرشيد قال فيها:

«انه لن ينقضي عني يوم من البلاء الا انقضي عنك معه يوم من الرخاء، حتى نفضي جميعا الي يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون» (33).

ولم يكن هذا جزعا من الامام، ولكنه احتجاج صارخ عن مدي ظلامته، وتعبير ناطق عما يقاسيه دون جريرة، الا تلك المنزلة العليا التي ينعم بها في نفوس الأبرار، والا فالمعروف عن الامام أنه كان يردد في سجنه العبارة الآتية:

«اللهم انك لتعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم؛ وقد فعلت؛ فلك الحمد» (34).

ان تعرض الامام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام) للأزمات الخانقة، ومظاهر الارهاب السياسي، وحياة السجون المريرة من قبل الرشيد، كفيل وحده أن يخرج الرشيد من منصب الخلافة المدعاة التي لم يمثل منها جزءا ضئيلا من الشرعية على الاطلاق، ولم تكن تصلح له الولاية العامة على المسلمين بحال من الأحوال، لأن ما حكم به عبارة عن أحكام عرفية طائشة صححها له فقهاء البلاط العباسي، وحياة فاجرة داعرة غض عنها الطرف القضاة والمعدلون، وموائد خمور وملاه وسهر ليال أحياها له المغنون المخنثون، وكل أولئك مشاهد حمراء أباحها حكم السيف القاطع والجور المستديم، وكان النظام مفقودا وحياة العيارين والشطار عامرة، وان ضبطوا السيطرة على الرقاب بالقسر والاكراه.

وفوق هذا كله فطالما روع الحكم الآمنين، وطالما سفكت الدماء المحرمة بغير الحق، وكان الاستهتار بالقيم والتجاوز على المبادي‌ء المقدسة أمرا متعارفا حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا!! كيف لا.. وقصور الخلفاء تعج بالفسق ومعاقرة الخمرة، والبغاء العلني والسري يستشري ولا مانع ولا رادع ولا وازع، وقد تقدم فيها سبق نهب الأموال واغتصاب الثروات والتلاعب بمقدرات الأمة، بلي كانت هناك شعارات يتشدق بها الحاكمون مجاراة للناس من جهة، وتثبيتا لدعائم الحكم من جهة أخرى، وهدف ذلك واضح للناقد البصير، وهو يتمثل باضفاء شي‌ء من الشرعية جزافا على ذلك الكيان المدعي، وما عدا هذا الملحظ على ضآلته، فاننا لا نري صيغة حقيقية لادعاء الولاية في الدين لأولئك الذين لا يمثلون الدين لا من قريب ولا من بعيد في نظامهم السياسي القائم على الانحلال الخلقي والتخلي عن القيم الاسلامية على كل الأصعدة.

يقول الأستاذ محمد حسن آل ‌ياسين:

«وكذلك اتضحت بما لا مجال فيه بشك أو تردد أيضا حقيقة أولئك المدعين للولاية الشرعية، فراغا من مواصفات التأهيل، وخلوا مما يجب أن يكونوا عليه من كفايات الاستحقاق. فلم يكن لديهم فقه بالشريعة وأحكامها، ولا علم بمعاني القرآن والحديث، ولا ورع يردعهم عن محارم الله، ولا التزام يصدهم عن متابعة الهوى واطاعة شهوات النفس الأمارة بالسوء» (35).

وهنا تتجلي الفروق المميزة بين هذا الفراغ العقائدي الهائل، وبين تلك القدرات العلمية الرائدة، وظواهر الانابة والخشوع عند الامام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام) بما يحقق ولايته الشرعية دون أولئك المتلاعبين بمثل القرآن، وقيم الاسلام، ورسالة السماء.

ولم يكن الرشيد نفسه ليجهل هذه الحقيقة الصارخة وان تجاهلها، ولم يكن له أن يجحدها وان ألقي بستار كثيف على نصاعتها، فالملك عقيم كما يقول الرشيد، ولا أدل على ذلك من اعترافه واقراره لولده المأمون بالمنزلة العليا للامام، وأنه حجة الله على خلقه، وخليفته الشرعي على عباده!!

فقد حدث المأمون أن الرشيد هو الذي علمه التشيع!! وذلك أن الرشيد جلس لاستقبال الناس، ومنع أن يدخل عليه أحد الا انتسب، فدخل الفضل بن الربيع عليه وقال: على الباب رجل زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي‌ طالب (عليه‌ السلام).

فقال له الرشيد: ائذن له، ولا ينزل الا على بساطي... هذا والأمين والمأمون والمؤتمن والقواد شهود... فاستقبله الرشيد، وقبل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس، وأجلسه معه فيه، وجعل يحدثه، ويقبل بوجهه عليه، ويسأله عن أحواله... «وبعد استقصاء السؤال» قال الامام موجها وناصحا للرشيد:

«ان الله قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء هذه الأمة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا الى العاني، وأنت أولى من يفعل ذلك».

فقال الرشيد: أفعل يا أباالحسن.

ثم قام الامام، فقام الرشيد لقيامه، وقبل عينيه ووجهه، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن، فقال... بين يدي عمكم وسيدكم، خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه، وشيعوه الى منزله، فأقبل أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما ‌السلام) سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة، وقال لي: اذا ملكت هذا الأمر فأحسن الى ولدي، ثم انصرفنا.

يقول المأمون: وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس؛ قلت: يا أمير المؤمنين؛ من هذا الرجل الذي قد عظمته وأجللته؟ وقمت من مجلسك اليه فاستقبلته؟ وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟

قال: هذا امام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟

فقال: أنا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر امام حق، والله يا بني انه لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه وآله) مني، ومن الخلق جميعا، وو الله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فان الملك عقيم» (36).

ومع معرفة الرشيد بهذا المقام الأسمى للامام، فان اصبع الاتهام يومئ به للامام، مما يعتبره الرشيد منافسة في سلطان، وهو مما يلفق ويكذب به على الامام، فقد حدث الامام نفسه قائلا: «لما أمر هارون الرشيد بحملي، دخلت عليه فسلمت فلم يرد علي السلام، ورأيته مغضبا، فرمي الي بطومار، فقال: اقرأه.

فاذا فيه كلام، قد علم الله عزوجل براءتي منه، وفيه أن موسى بن جعفر يجبي اليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممن يقول بامامته، يدينون الله بذلك، ويزعمون أنه فرض عليهم، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويزعمون أنه من لم يذهب اليه بالعشر، ولم يصل بامامتهم، ولم يحج باذنهم، ويجاهد بأمرهم، ويحمل الغنيمة اليهم، ويفضل الأئمة على جميع الخلق، ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله ورسوله، فهو كافر حلال ماله ودمه... والكتاب طويل، وأنا قائم أقرأ وهو ساكت، فرفع رأسه وقال:

اكتفيت بما قرأت، فكلم بحجتك بما قرأته.

قلت... والذي بعث محمدا (صلي الله عليه وآله) بالنبوة ما حمل الي أحد درهما ولا دينارا من طريق الخراج، لكنا معاشر آل أبي ‌طالب نقبل الهدية التي أحلها الله عزوجل لنبيه (صلي الله عليه وآله) في قوله:

«لو أهدي لي كراع لقبلت، ولو دعيت الى ذراع لأجبت.»

وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه، وكثرة عدونا، وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب، فضاق بنا الأمر، وحرمت علينا الصدقة، وعوضنا الله عزوجل الخمس، واضطررنا الى قبول الهدية، وكل ذلك مما علمه أمير المؤمنين...» (37).

ولم يكتف الرشيد بهذا، وانما استدعي الامام تارة أخري، وأدخل عليه، فقال له الرشيد:

يا موسى بن جعفر، خليفتين يجبي لهما الخراج؟

قال الامام: أعيذك بالله أن تبوء باثمي واثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله (صلي الله عليه وآله) بما علم ذلك عندك... (38).

ومع براءة الامام مما نسب اليه، فهو يجتمع به، ويتظاهر ببره، ويسأله عن مدي حاجته، ثم يبعث اليه بصرة فيها مائتا دينار، فيعترض عليه المأمون، فيقول له: أسكت لا أم لك، فاني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه (39).

وتارة أخري يعلل الرشيد منعه العطاء للامام بقوله:

«ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم» (40).

ومنع أهل البيت حق الطبيعي من بيت المال أسوة ببقية المسلمين على الأقل كان من الأهداف المركزية للبلاط العباسي، بل كان من أهدافه أيضا منع أوليائهم وأصحابهم ومن يمت اليهم بصلة من أي نوع من العطاء، واذا كان هذا صنيعهم مع شيعتهم، فما بالك بهم؟

وليت الرشيد اكتفي بما صنعه مع الامام من الاستدعاء والاستنطاق الذي لا مبرر له، ولكنه أغري به الفجرة من أولياء بني العباس، وجلاوزة النظام الحاكم.

ذكر السيد المرتضي علم الهدي (ت 436 ه):

«انه حضر بباب الرشيد نفيع الأنصاري، وحضر الامام موسى بن جعفر (عليه‌ السلام) على حمار له، فتلقاه الحاجب بالاكرام، وعجل له بالاذن.

فسأل نفيع عبدالعزيز بن عمرو من هذا الشيخ؟

قال: شيخ آل أبي‌ طالب، شيخ آل محمد، هذا موسى بن جعفر.

قال: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير، أما ان خرج لأسوءنه، قال له عبدالعزيز: لا تفعل فان هؤلاء أهل بيت ما تعرض لهم أحد بالخطاب الا وسموه في الجواب سمة يبقي عارها مدى الدهر.

وخرج الامام، وأخذ نفيع بلجام حماره وقال:

من أنت يا هذا؟

فقال الامام، يا هذا ان كنت تريد النسب؟ أنا ابن محمد حبيب الله، ابن اسماعيل ذبيح الله، ابن ‌ابراهيم خليل الله. وان كنت تريد البلد؟ فهو الذي فرض الله على المسلمين وعليك ـ ان كنت منهم ـ الحج اليه. وان كنت تريد المفاخرة؟ فوالله ما (رضي) مشركو قومي مسلمي قومك أكفاء، حتى قالوا: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش.

وانت كنت تريد الصيت والاسم؟ فنحن الذين أمر الله بالصلاة علينا في الصلوات المفروضة تقول: «اللهم صل على محمد وآل محمد» فنحن آل محمد، خل الحمار، فخلي عنه ويده ترعد، وانصرف مخزيا، فقال له عبدالعزيز: ألم أقل لك؟» (41).

وهكذا كان الامام يتجرع الغيظ من خلفاء الجور، وولاة السوء، وبطانة السلطان، وهو صابر محتسب، وكان أشدهم عليه ـ كما رأيت ـ هارون الرشيد في مجالات شتى، وسترى ما جرى عليه يديه من استشهاد الامام مسموما في موقعه من الكتاب.

*نقلاً عن شبكة النبأ


الهوامش: 

(1) ظ: اليعقوبي/التأريخ 3/139، الطبري 8/230.

(2) القلقشندي/صبح الأعشي 3/270.

(3) باقر شريف القرشي/حياة الامام موسي بن جعفر 2/21.

(4) عبدالجبار الجومرد/هارون الرشيد/2/362.

(5) ظ: باقر شريف القرشي/حياة الامام موسي بن جعفر 2/29 وانظر مصدره.

(6) ظ: الجهشياري/الوزراء والكتاب/288.

(7) ظ: السيوطي/تأريخ الخلفاء/116.

(8) الأصبهاني/الأغاني 4/74.

(9) الأصبهاني/الأغاني 6/187.

(10) المصدر نفسه 6/185.

(11) المصدر نفسه 175 ـ 5/174.

(12) كتاب التاج/41.

(13) الأصبهاني/الأغاني 6/205.

(14) الأصبهاني/الأغاني 10/172.

(15) ظ: المسعودي/مروج الذهب 2/382.

(16) ظ: الطبري/تاريخ الأمم والملوك 3/261.

(17) ظ: طبقات الشعراء/252.

(18) ظ: ابن الأثير/الكامل في التاريخ 6/44.

(19) البيهقي/المحاسن والمساوي/544.

(20) ظ: باقر شريف القرشي/حياة الامام موسي بن جعفر 2/46 وانظر مصدره.

(21) غي لسترانج/بين الخلفاء والخلفاء/54 ـ 55.

(22) مصطفي جواد/سيدات البلاط العباسي/48.

(23) الأصبهاني/الأغاني 6/77.

(24) طبقات الشعراء/246.

(25) الأبشيهي/المستطرف في كل فن مستظرف 1/98.

(26) الأصبهاني/الأغاني 5/126.

(27) السيوطي/تأريخ الخلفاء/189 ـ 190.

(28) السيوطي/تأريخ الخلفاء/193.

(29) ظ: عبدالجبار الجومرد/هارون الرشيد 1/267.

(30) مصطفي جواد/سيدات البلاط العباسي/48.

(31) ابن‌عنبة/عمدة الطالب/185.

(32) الصدوق/عيون أخبار الرضا 1/108، البحار 48/176 ـ 178.

(33) ظ: الخطيب البغدادي/تأريخ بغداد 13/32، ابن‌الأثير/الكامل 5/108، ابن ‌الصباغ/الفصول المهمة/223، المجلسي/البحار 48/148.

(34) الشيخ المفيد/الارشاد/337.

(35) محمد حسن آل ‌ياسين/الامام موسى بن جعفر/54.

(36) ظ: المجلسي/بحار الأنوار 48/129 ـ 131 باختصار.

(37) ظ: المجلسي/بحار الأنوار 48/121 ـ 122 وانظر مصدره.

(38) المصدر نفسه 48/125 وانظر مصدره.

(39) المصدر نفسه 48/131 وانظر مصدره.

(40) ظ: المجلسي/بحار الأنوار: 48/132.

(41) ظ: المرتضي/الأمالي 1/275، ابن شهر آشوب/المناقب 3/431، المجلسي/بحار الأنوار 48/143 ـ 144.

2021/03/09

لماذا سجنوا الكاظم (ع)؟.. سؤال هزّ العرش العباسي!

الخلافة الاموية قامت ـ فيما يتعلق بالواجهة الايدلوجية التي تضفي الشرعية على قيام دولتها ونظامها الحاكم ـ على اساس من فكرة الحق الالهي، فالارادة الالهية مطلقة تفعل ما تشاء ومن مظاهر انبساطها هي ان تقدّر ما تشاء من حكام على الرعية بمعزل عن مسألة الصلاح والفساد.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

أي ان كل من اعتلى سدة الحكم ـ صالحا أم طالحا ـ اعتلاها بمشيئة الله، أي الله من جعله على رقاب الناس، إن صالحا فنعمة من الله وإن طالحا فاختبار وامتحان وفي كلاهما لا يجوز التمرد والثورة عليه لأنها ثورة ورفض لمشيئة الله وارادته.

فكانت ثورة الطف الاداة الفاعلة لتهديم هذه الشرعية من الجذور وإلفات نظر الناس الى بطلانها والى ضرورة الثورة على كل مظاهر الانحراف والفساد. فيما اعتمدت الخلافة العباسية على طرح آخر لنفس الغرض وهو إضفاء الشرعية على جهازها الحاكم وتوليه الخلافة، وهذا الطرح قائم على مسألة القرابة، فالأقرب الى رسول الله ص نسبا هو الاحق بالخلافة ولما كان العباسيون هم الاقرب بما يربطهم بالنبي (ص) من كونهم ابناء عمه، فهم الأحق والخلافة حقهم الشرعي، وهذا ما حطمه الامام الكاظم (ع) في موقف سجله التاريخ حيث وقف هارون الرشيد امام قبر النبي الاكرم (ص) وقال "السلام عليك يابن العم" لغرض إسماع الناس بما بينه وبين النبي من قربى يختص العباسيون بها، وهنا جاء قول الامام الكاظم (ع) ليزلزل ذلك البنيان حيث قال بعد انتهاء الرشيد من قوله وامام الملأ الذي حرص الرشيد على إسماعه. قال "السلام عليك يا أبه". وهناك يكون الامام الكاظم (ع) قد خاطب الرشيد والعباسيين والمجتمع الاسلامي في وقته وعموم الامة الاسلامية على مر اجيالها، بأنه على نفس ما يعتمده العباسيون من تبرير احقيتهم يكون هو الأحق. ولهذا سجنه الرشيد، وقد جرّ الرشيد على نفسه بسجن الامام الكاظم (ع) أيما وبال، لما كان يتمتع به الامام من شهرة ومكانة اجتماعية كبيرة، فواجه الرشيد بهذا تساؤلا ملحا من العامة عن سبب سجنه لرجل لم تبدر منه بادرة في منازعة الرشيد السلطان ولا يشغله غير العبادة وفعل الخير والاحسان ومساعدة الناس.

وهنا كانت ورطة الرشيد، إن لم يرد على تساؤلهم ظهر بمظهر الحاكم الظالم الجائر الذي يسجن شخصا كالكاظم (ع) بدون سبب وهو في الوقت نفسه لايقدر ان يبيّن لهم السبب الحقيقي حيث تتهاوى شرعية خلافته، لهذا عمدّ الى التشديد على الامام وجعله في معاناة لا تحتمل في السجون والطوامير أملا في ان يلتمس الامام العفو من الرشيد فتتهاوى مكانته الاجتماعية الفذة وتضمحل هيبته.

وقد ظل يعرض عليه ذلك، وهنا يأتي دور الامام الكاظم (ع) الريادي حيث رفض وبشكل قاطع ان يطلب صفحا او عفوا من الرشيد ليظل تساؤل العامة عن سبب سجنه زلزالا يهز العرش العباسي. ولما آيس الرشيد من استجابة الامام الكاظم ع لطلب العفو عمد الى سمّه.

2021/03/09

الإمام الكاظم (ع) والسياسة: كشف انحراف السلطة بـ ’’العزلة ومقاطعة الدولة’’

السيرة الذاتية للإمام موسى الكاظم (ع)

الإمام السابع من أئمة أهل البيت (ع) هو الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام) وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) كان يُعرف بالعالم وبالكاظم وبالعبد الصالح ويُكنَّى بأبي الحسن وبأبي إبراهيم.

 

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

مولده ونشأته:

وُلد الإمام الكاظم (ع) في موضع يُسمَّى (الأبواء) يقع بين مكة الشريفة والمدينة المنورة، وكان ذلك في السابع من شهر صفر سنة ثمانٍ وعشرين ومائة، وقيل بعد هذه السنة بسنة، وأمُّه يُقال لها حميدة المُصفَّاة أو البربرية كانت معروفة بالزهد والصلاح.

وقد رُوي عن الإمام الرضا (ع) انَّه كان ممن تكلَّم في المهد، وقد وردت في ذلك رواياتٌ عديدة، منها ما رواه أبو بصير في حديثٍ طويل انَّ الإمام الصادق (ع) حين بُشّر بمولد الكاظم (ع) قام من مجلسه الذي فيه عددٌ من أصحابه وذهب إلى السيدة حميدة ثم عاد إلى المجلس وقال: "إنَّ الله وهب لي غلاماً وهو خير مَن برأَ اللهُ في خلقه"(1) وإنَّه لما سقط من بطنها سقط واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء وقال: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(2). وأفاد (ع) انَّ ذلك من أمارات الإمامة.

نشأ الإمام (ع) في كنف أبيه الإمام الصادق (ع) وكان يرعاه أشدَّ الرعاية ويتولَّى هو بنفسه تنشأته وتعليمه، وكان له موقعٌ متميِّز في قلب أبيه حتى ورد انَّه كان يقول (ع): "وددتُ انْ ليس لي ولد غيره لئلا يُشركه في حبي أحد"(3).

ورُوي انَّه كان يقول لابنه عبد الله -الذي يكبر الإمام الكاظم (ع)- يلومه ويعاتبه ويعظه: "ما منعك ان تكون مثل أخيك، فوالله إنِّي لأعرف النور في وجهه"، فقال عبد الله: لمَ؟ أليس أبي وأبوه واحد وأصلي وأصله واحد؟، فقال له أبو عبد الله (ع): "إنَّه من نفسي وأنت ابني"(4).

وظلَّ الإمام الكاظم (ع) في رعاية أبيه مدةَ عشرين سنَّة، كان يقدِّمه فيها لشيوخ تلامذته وتلامذة أبيه الباقر (ع) كزرارة وأبي بصير والمفضَّل بن عمر وعبد الله بن مسكان ومؤمن الطاق وصفوان الجمال وغيرهم، فكان يُعرِّفهم بمقامه السامي وموقعه عند الله تعالى وانَّه الذي اجتباه الله تعالى واصطفاه للإمامة والريادة للأمَّة من بعده، وانَّه وليُّ الله وحجَّتُه على عباده وانَّ من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى.

الدلائل على إمامته (ع):

مضافاً إلى النصوص العامة كآية التطهير وآية المودة وحديث الثقلين وحديث السفينة والروايات التي نصّت على أسماء الأئمة (ع) واحدٍ بعد الآخر فإنَّ ثمة نصوصاً تفوق حدَّ التواتر رواها الثقاة الأجلاء عن الإمام الصادق (ع) صريحة في تعيُّن الإمامة في الإمام الكاظم (ع).

فمّما ورد في ذلك ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد والطبرسي في إعلام الورى بسندٍ عن الإمام الصادق (ع) انَّه قال لجماعة من خاصته وأصحابه: "استوصوا بموسى خيراً فإنَّه أفضل ولدي ومَن أُخلِّف بعدي وهو القائم مقامي والحجَّةُ لله عزَّوجل على كافة خلقه من بعدي"(5).

ومنه: ما رواه الصدوق بسنده عن المفضَّل بن عمر قال: دخلتُ على سيدي جعفر بن محمد (ع) فقلتُ: يا سيدي لو عهدتّ إلينا في الخلف من بعدك؟، فقال (ع) لي: "يا مفضَّل، الإمام من بعدي إبني موسى"(6).

ومنه: ما رواه المفيد في الإرشاد عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد الله (ع) أبا الحسن يوماً ونحن عنده فقال لنا: "عليكم بهذا بعدي فهو والله صاحبكم بعدي"(7).

ومنه: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنَّ الوصية نزلت من السماء على محمد (ص) كتاباً لم ينزل على محمد (ص) كتاب مختوم إلا الوصية فقال جبرئيل (ع): يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله (ص): أيُّ أهل بيتي يا جبرئيل؟، فقال: نجيب الله منهم وذريته ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم وميراثه لعلي وذريتك من صلبه، وكان عليها خواتيم ففتح عليٌّ الخاتم الأول ومضى حتى فتح الحسن الخاتم الثاني .."، فقال معاذ بن كثير: فقلت: أسأل الله الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة انْ يرزقك من عقبك مثلها قبل الممات، قال (ع): "قد فعل اللهُ ذلك يا معاذ"، قال: فقلتُ: فمَن هو جُعلت فداك؟، قال هذا الراقد فأشار بيده إلى العبد الصالح، وهو راقد(8).

هذا مضافاً إلى ما ثبت نقله بالتواتر الإجمالي مما كان يظهر على يديه من دلائل وكرامات لا يتَّفق صدورها مجتمعةً إلا لمَن اجتباه الله لدينه واصطفاه دون خلقه وجعله قيِّماً على عباده خصوصاً وانَّ ظهورها على يديه كانت تكتنفه دعوى الإمامة والخلافة لرسول الله (ص)، فذلك يُورث القطع بصدق دعواه، إذ لو لم تكن كذلك لاستحال على الله جلَّ وعلا تمكينه وإقداره على إظهار الخوارق من الأمور وإلا كان في ذلك تضليل من الله تعالى للعباد وإغراءٌ لهم بالباطل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وعلى هذا الدليل قامت الرسالات والنبوات وبه تثبت الإمامة أيضاً.

فمِّما أُثر عنه هو ما أكثَر الرواةُ الثقاة نقله من إخباراته بالمغيبَّات وسرعة الإستجابة لدعواته بتفاصيلها ودقائقها.

فمن ذلك ما ورد في قرب الإسناد عن حماد بن عيسى قال: دخلتُ على أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) بالبصرة فقلتُ له: جعلتُ فداك ادعُ الله تعالى انْ يرزقني داراً وزوجةً وولداً وخادماً والحجَّ في كلِّ سنة، قال: فرفع يديه ثم قال (ع): "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وارزق حماد بن عيسى داراً وزوجةً وولداً وخادماً والحجَّ خمسين سنة"، قال حماد: فلمَّا اشترط خمسين سنة علمتُ إنِّي لا أحج أكثر من خمسين سنة، قال حماد: وقد حججتُ ثمانية وأربعين سنة وهذه داري وقد رُزقتُها وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي، وهذا ابني وهذا خادمي، وقد رُزقتُ كلَّ ذلك، فحجَّ بعد هذا العام حجتين تمام الخمسين ثم خرج بعد الخمسين حاجَّاً فزامل أبا العباس النوفلي فلمَّا صار في موضع الإحرام غرق في الوادي فمات قبل انْ يحجَّ زيادةً على الخمسين(9).

ومنه: ما ورد في بصائر الدرجات بسنده عن عليِّ بن المغيرة قال: مرَّ العبد الصالح (ع) بامرأةٍ بمنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون، وقد ماتت بقرةٌ لها، فدنا منها ثم قال (ع): "يا أمة الله هل لك أنْ أُحييها لك"، ثم تنحَّى ناحيةً فصلى ركعتين ثم رفع يديه يمنةً وحرّك شفتيه ثم قام فمرَّ بالبقرة فنخسها أو ضربها برجله فاستوت على الأرض قائمة، فلما نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت صاحت: عيسى بن مريم وربِّ الكعبة(10).

مكارم أخلاقه:

أما عبادته فيكفي منها ما عُرف عنه بأنَّه حليفُ السجدة الطويلة، فقد ذكر مناوئوه ممَّن سجنَه انَّه كان يُصلِّي الفجر فإذا انفتل من صلاته جلس للتعقيب وتلاوة القرآن حتى تُشرق الشمس، فإذا أشرقت سجد سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى تزول الشمس ويحين وقتُ النافلة والفريضة فإذا انتهى من صلاته سجد حتى تُغرب الشمس فيقوم دون انْ يُجدد وضوءه فيُصلِّي المغرب ثم يتنفَّل ويعقِّب ثم يُصلي العشاء ويعقِّب ثم يفطر وبعدها يقوم للصلاة ثم ينام نوماً خفيفاً فما يلبث حتى يقوم لنافلة الليل ويوصلها بصلاة الصبح، وهكذا كان دأبه في السجن كما ذكر ذلك مَن كان في سجنهم كالفضل بن يحيى(11).

وأما زهده فقد ذكر الثقاة من الرواة انَّهم اذا دخلوا داره لم يجدوا سوى خصَفةٍ وسيفٍ معلَّق ومصحف(12). هذا وكانت الأموال والأخماس تُجبى إليه من كلِّ حدبٍ وصوب.

وأما كرمه فقد اشتهرت صُرِّتُه ذات الثلاثمائة دينار حتى كان يُقال صرة موسى بن جعفر يُضرب بها المثل، وكانوا يقولون مَن نال عطاء موسى (ع) استغنى(13)، وكان يخرج في الليل إلى بيوتات المدينة يتفقَّد فقراءها واليتامى والأرامل، فكانت تصلهم منه الدراهم والنفقات وهم لا يعلمون الجهة التي تصلهم(14).

ثم انَّه كان حليماً يجازي على السيئة بالإحسان حتى لُقبِّ بالكاظم(15). شجاعاً لا تمنعه سطوة السلطان من الجأر بالحق حتى انَّ هارون سأله عن رأيه في داره فقال هي دار الفاسقين(16) ثم تلا قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(17).

وحين كان في السجن بعث إليه الرشيد ملتمساً منه انْ يعتذر إليه حتى يُطلقه من الحبس فأجاب رسولَه وكلَّفهبأن يُخبره: انَّه ستعلم اذا جاثيتُك بين يدى الله مَن الظالم المعتدي على صاحبه.

وبعث إليه في مشهدٍ آخر: "انْ يا هارون إنَّه لن ينقضي عنِّي يومٌ من البلاء حتى ينقضيَ عنك يومٌ من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يومٍ ليس فيه إنقضاء، وهناك يخسرُ المبطلون"(18).

ثم إنَّ مكارم اخلاقه ومحاسن خصاله مما لا يسع المقام استقصاؤها وليس من شيءٍ يُغني من ذلك سوى القول بأنَّه كان صفيَّ الله ونجيبه ونُخبته التي إجتباها من خلقه ليكون دليلاً عليه ومعرِّفاً شرائع أحكامه، فلم يكن خلقه ليشط قيد شعرة عن خُلقِ جدِّه رسول الله (ص).

الظروف السياسية المكتنفة لفترة إمامته (ع):

اضطلع الإمام الكاظم (ع) بدور الإمامة بعد عشرين سنة من ولادته، وبعد رحيل والده الإمام الصادق (ع) إلى ربِّه جلَّ وعلا وكان ذلك سنة ثمانية وأربعين ومائة للهجرة النبويَّة، وذلك في أيام ملك أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني ثم بعد قرابة التسع أو العشر سنوات من حين تسنُّمه لمنصب الإمامة تُوفي المنصور العباسي وتولَّى بعده ابنُه المهدي وبقي مدة عشر سنوات وشهراً ثم جاء بعده الهادي العباسي ولم يلبث في الملك سوى سنة واحدة وشهر ثم تولَّى بعده سدةَ الحكم هارون الرشيد وبقي في الملك خمساً وعشرين سنة استُشهد الإمام (ع) في سجنه بعد خمسة عشر سنة من ملكه وكان قد بقي في السجن مدة أربع سنوات حيث بدأ حبسه في العشر الأواخر من شهر شوال سنة تسع وسبعين ومائة واستُشهد في سجن السندي بن شاهك في بغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة للهجرة.

كانت الفترة التي اضطلع فيها الإمام (ع) بدور الإمامة هي أشدُّ الفترات قسوةً على أهل البيت (ع) وشيعتهم إبَّان العصر العباسي حيث انَّ الدولة العباسية قد بلغت في هذه المرحلة أوجَ قوتها حيث كانت تبسط هيمنتها على شرق البلاد الإسلامية وغربها فكان نفوذها يتصل بتخوم أوروبا والكثير من بلاد أفريقيا وقارة آسيا.

ففي هذه المرحلة لم يكن يؤرِّقهم من شيءٍ سوى الشيعة والثورات العلوية التي كانت تخرج عليهم بين فينةٍ وأخرى، وكان المتَّهم الأكبر بتمويلهم وتحريضهم هو الإمام الكاظم (ع) نظراً لكونه أكثر العلويين وجاهةً وأتباعاً، فقد كانت قواعده الشعبية منتشرة في شرق البلاد الإسلامية وغربها خصوصاً في العراق وفي خراسان وهما أهم الحواضر الإسلامية آنذاك وكانت تُجبى إليه الأموال والأخماس من كلِّ مكان، وكان له وكلاء في أكثر الحواضر الإسلامية حتى انَّ العديد من الوشاة كانوا يقولون لهارون الرشيد إنَّ في البلاد الإسلامية خليفتين أحدهما في العراق والآخر في الحجاز وهو الإمام موسى بن جعفر (ع).

وقد سُجن الإمام (ع) في هذه المرحلة مراتٍ عديدة إلا انَّ سجنه لم يكن يطول، وقد بذل هارون جهوداً حثيثة في سبيل إغتيال الإمام (ع) إلا انَّ محاولاته كانت تبوء بالفشل تارةً بشكل إعجازي وأخرى بتمنُّع القادة السياسيين من إنفاذ أوامر الرشيد كما حدث ذلك حين أمر عيسى بن جعفر العباسي واليه على البصرة، وكذلك حينما أمر الفضل بن الربيع وبعده الفضل بن يحيى البرمكي حيث امتنع أشدَّ الإمتناع وهدَّد بإطلاق سراح الإمام (ع) إنْ لم يخرجه من عهدته، وحينما غضب هارون تدخل البرامكة -الذين كان لهم نفوذ واسع في الدولة العباسية آنذاك- لدرء ما كاد يقع من فتنة.

بعد ذلك أُخذ الإمام (ع) إلى سجن السندي بن شاهك أحد وزراء هارون الرشيد وكان رجلاً غشوماً شديد النُصب والعداءلأهل البيت (ع) وفي سجنه تمَّت تصفية الإمام (ع) بالسُم بعد انْ كان قد ضيَّق عليه أشدَّ التضييق، وحبسه في طامورةٍ مظلمة وكبَّله بأغلالٍ تزن تسعة أرطال فكان يصلَّي وينام حين ينام بها.

وكان قبل فترة سجنه كثيراً ما كانت داره تُكبس ويتمُّ تفتيشها وسلب ما كان فيها حتى بلغ الأمر أنَّ أحد قادة الرشيد أشعل النار في دار الإمام (ع) لإفزاعه ثم أصرَّ على تمكين جنوده من سلب العلويات وبعد أنْ أبى الإمام (ع) ذلك قَبِل من الإمام (ع) انْ يقوم بجمع كلِّ ما كان عليهنَّ من حُليٍّ بل ومقانع.

وفي هذه المرحلة امتئلت سجون العباسيين من الشيعة والعلويين وبين الفينة والأخرى يقومون بتصفية العديد منهم حتى انَّ حميد بن قحطبة أحد القادة العسكريين ذكر انَّه قتل من السجناء في ليلةٍ واحدة ستين علوياً بين شابٍ وكهلٍ وشيخ.

الأدوار التي اطَّلع بها الإمام (ع):

امتدَّ زمنُ إمامة الإمام الكاظم (ع) إلى خمسٍ وثلاثين سنة كان يمارس فيه دور التهذيب والتربية للأمُّة على اختلاف مشاربها ومذاهبها، فكان وعظه وإرشاداته وحكمه التي كان يُلقيها في مجلسه وفي المسجد النبوي وفي المحافل التي كان يحضرها وفي موسم الحج تجدُ صدىً واسعاً في الحواضر الإسلامية بعد انْ يتناقلها الركبان والمسافرون ويبثُّها وكلاؤه وتلامذتُه الذين كان لهم حضورٌ واسع في عموم البلاد الإسلامية.

كما انَّه احتضن بعد رحيل أبيه (ع) تلامذته الذين كانوا يربون على الأربعة آلاف رجل فكان (ع) يُملي عليهم التفسير والفقه وأصول المعارف الإسلامية، فكانوا يدوِّنون ما يسمعونه منه في الفقه والعقيدة والسيرة والسنن والآداب والتفسير والحكم والمواعظ.

حتى روى ابن طاووس بسنده انَّ أصحاب الإمام الكاظم (ع) كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة بادروا إلى تسجيل ذلك(19).

ثم إنَّ المرحلة التي اضطلع فيها الإمام (ع) بدور الإمامة تميَّزت بظهور الكثير من المذاهب الفقهية والمذاهب الكلامية.

فثمة مدرسة الرأي التي كان لها حضورٌ واسع في العراق ومدرسة الحديث يقودها مالك بن أنس ومدارس أخرى في الفقه وسطاً بين هاتين المدرستين، وكذلك كان للمذاهب الكلامية رواجٌ واسع كمذهب المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والقدرية وغيرهم.

وقد تصدَّى الإمام (ع) لتحصين قواعده من آثار هذه المذاهب كما تصدَّى هو وتلامذتُه لمناظرة روَّاد هذه المذاهب في مجلسه تارةً وعلى ملأٍ من الناس او العلماء تارةً أخرى، وقد كان بعضهم يعترف له بخطئه، ويُحجم الآخرون عن مقارعة حججه وبيِّاناته.

وفي هذه المرحلة ونظرًا للانفتاح على الترجمة ودخول الكثير من الشعوب تحت نفوذ الدولة الإسلامية انتشرت في الوسط الإسلامي الكثير من الشبهات الإلحادية والأفكار والمناوئة للدين الإسلامي فتصدَّى الإمام (ع) وتلامذته لمعالجة هذه الشبهات وتفنيد ما كان يُعدُّ من المعضلات الفكريَّة والعقائديَّة، وقد وصلت لنا العديد من مناظراته وإجاباته وأحاديثه في ذلك.

هذا ما يتَّصل بدوره الفكري والتوعوي والذي استطاع من خلاله التعريف بالرؤية الصحيحة والناصعة للدين الإسلامي والمذهب الحق.

وأمَّا ما يتصل بدوره السياسي فقد اتَّخذ أسلوب القطيعة مع الدولة ليؤصِّل لما بدأ في تأصيله أئمة أهل البيت (ع) الذين سبقوه حيث أنَّ الدولة الأموية وكذلك العباسية بذلتا جهوداً مضنيةً لغرض إقناع الأُمة بأنَّ الإسلام مُمثَّلٌ فيهم وإنَّ ما يُروِّجون له وما يمارسونه هو الإسلام الحقيقي إلا أنَّ قطيعة أهل البيت (ع) فوَّت عليهم هذا الغرض، وذلك نظرًا لما يُمثله أهل البيت (ع) في وجدان المجتمع الإسلامي، فقطيعتهم للسلطة يعدُّ تعبيرًا صارخًا في وعي المجتمع الإسلامي عن إنحراف هذه السلطة عن الإسلام.

ثم إنَّ الإمام (ع) لم يكن يكتفي بالاعتزال عن السلطة العباسية بل كان يُصرِّح علنًا تارةً وسرًا تارةً أخرى عن انحرافها عن خطِّ رسول الله (ص) وكان كثيرًا ما يُؤكِّد لأصحابه وشيعته على حرمة التعامل معها حتى في بناء مسجد، وقد ورد عنه انَّه كان يقول (ع): "لأنْ أسقط من شاهق فأتقطَّع قطعة قطعة أحبُّ إليَّ من أن أتولَّى لهم عملاً أو أطأ بساط رجلٍ منهم"(20).

هذا مضافاً إلى مقارعته للسلطان في موارد عديدة والجهر له بعدم استحقاقه لهذا المنصب. ثم إنَّ الإمام (ع) كان يحرص على التعريف بالإمامة وموقعها في الاسلام والملكات التي يجب أنْ يتوفَّر عليها الامام والشروط التي وضعها الاسلام ونصَّ عليها الرسول (ص) فيمن له أهليَّة الامامة والريادة للأمة. وكان بذلك يؤصِّل لمفهوم الإمامة الشرعيَّة المستفادة من القرآن الكريم والسنة النبويَّة. وذلك ما ساهم إلى حدٍّ كبير في بلورة مذهب أهل البيت (ع).

 

 

 

ترددتْ السلطة كثيراً وتأنَّت طويلاً حتى قرَّرت سجن الإمام (ع) ثم تصفيته، فكانت كلَّما أودعته السجن أطلقته حتى أُثِر عن هارون القول (أما في موسى حيلة)(21).

ففي الوقت الذي ترى فيه الأثر الخطير لوجود الإمام (ع) على سلطانها نظراً لسعة نفوذه المعنوي ودوره الذي كان آخذاً في التنامي، فلم يكد وضع السلطة يستقر فيما يتَّصل بشئونها الخارجيَّة وكذلك الداخليَّة بعد تصفية الحركات المناوئة لهم من الأمويين والخوارج على يد أبي جعفر المنصور، وقد بذلوا جهوداً من أجل أن يُضفوا الشرعية على سلطانهم على خلفيَّة بطش الأمويين وظلمهم وعلى خلفية دعواهم السعي من أجل الرضا من آل محمد (ص) حتى بدأ الإمام الكاظم (ع) تعريتهم فاستشعروا نقمة الناس عليهم بعد أن كشف الإمام (ع) واقعهم وانَّهم لا يقصرون عمَّن سبقهم ظلماً وعدواناً وبطشاً وترفاً وانحرافاً وتحكُّماً بمقدَّرات الأمة.

فثمة بقيةٌ حرصوا على التدثُّر بها لكي لا يَظهروا في مظهر المناوئة لرسول الله (ص) من خلال البطش الصريح برائد البيت النبوي، فكانوا يُدارونه في أول الأمر إلا انَّه أعيتهم الحيلةُ معه فسجنوه وأطلقوه وكبسوا داره ثم تظاهروا بإكرامه وتكرَّر ذلك منهم مراراً ثم استقرَّ رأيُهم على تصفيته بعد حبسه الأخير، فما عاد لإيهامهم وتضليلهم للأمة من أثرٍ يُذكر، فقد فشلوا فشلاً ذريعاً في تمريره، فما كان عليهم الا انْ يتحفَّظوا على سلطانهم وإنْ ادَّى ذلك إلى الجأر بالمحاربة للرسول الكريم (ص).

ثم وبعد انْ قتلوا الإمام (ع) جمَع هارون وجهاءَ المسلمين من الفقهاء والأعيان وشيوخ الطالبيين فكانوا ثمانين أو ينيفون فأبدَى لهم ندمه على سجن الإمام (ع) واستغفر ممَّا كان منه تجاه الإمام (ع) إلا انَّه تنكَّر لقتله وادَّعى أنَّه مات حتف أنفه.

وقد سبَقه إلى ذلك السندي بن شاهك، فقد جمع من فقهاء العراق ما ينيف على الخمسين رجلاً وأدخلهم السجن الذي كان فيه الإمام (ع) وقال لهم: انظروا إليه فليس من أثر سيف أو خدشٍ في جسده، وكان ذلك منه بعد ان دسَّ إليه السم، وكان الإمام (ع) حينها موعوكاً فالتفت إليهم وأخبرّهم انه قد سُقي السم وانَّه ميِّت قريباً فأسُقط في يد السندي بن شاهك وأخذته رعدة كما ذكر المؤرخون واضطرب اضطراباً شديداً(22).

ثم انَّه فعل ذلك بعد انْ استُشهد الإمام (ع) فكان منه انْ كشف أمام الناس عن وجه الإمام (ع) وشيءٍ من جسده وادَّعى لهم انَّه مات حتفأنفه إلا انَّهم أو بعضهم تعرَّف على أنَّه مات مسموماً وذلك لما وجدوه على جسده الطاهر من آثار السم.

وكان آخر تضليلٍ للناس عمِلت عليه السلطة هو ما تصنَّع به الأمير سليمان بن أبي جعفر المنصور العباسي، فقد بعث برجاله إلى جنازة الإمام (ع) وأمرهم أنْ يأخذوها من رجال السندي بن شاهك بعد انْ يضربوهم ويمزِّقوا ثيابهم ثم أبدى للناس غضبه على السندي بن شاهك وأوحى اليهم أنَّ ما فعله لم يكن بأمرٍ من السلطة العباسية ثم أكرم جنازة الإمام وأذن للناس في تشييعها وخرج هو حافياً يمشي خلفها بعد أن شقَّ جيبه وأظهر الجزع على الإمام (ع).

ثم إنَّ الإمام الرضا (ع) حضر بشكلٍ إعجازي من المدينة إلى تجهيز أبيه وتولَّى هو شأن تغسيله، فكان العباسيون يرونه ويتظاهرون بعدم معرفته فكانوا كما أفاد الإمام الرضا (ع) مثلهم مثل أخوة يوسف: ﴿فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾(23).

ثم حُمل الإمام (ع) في تشييعٍ مهيب لم تشهد بغدادُ مثله جلالاً وهيبةً ووقاراً وحضوراً، فكانت الواعية من النساء وهدير الحناجر بالتهليل من الرجال بعد انْ ألقوا عمائمهم وترجَّلوا حفاةً إلى مقبرة قريش حيث المثوى الأخير للجثمان المطَّهر الزكي في محضرٍ من ملائكة الله الصافِّين وأوليائه المكرمين فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الهوامش:

1- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 385.

2- سورة آل عمران / 18.

3- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 75 ص 209.

4- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 310.

5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 20.

6- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص 334.

7- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج 2 ص 219.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 280.

9- قرب الاسناد -الحميري القمي- ص 311.

10- بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص 293.

11- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 99.

12- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 100.

13- "عمدة الطالب: كان موسى الكاظم (ع) .. عظيم الفضل رابط الجأش، واسع العطاء، وكان يضرب المثل بصرار موسى، وكان أهله يقولون عجبا لمن جاءته صرة موسى فشكا القلة ..". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 248.

14- أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج 2 ص 6.

15- عمدة الطالب -ابن عنبة- ص 196.

16- الاختصاص -الشيخ المفيد- ص 262.

17- سورة الأعراف / 146.

18- كشف الغمة -ابن أبي الفتح الإربلي- ج 3 ص 8.

19- المجتنى من دعاء المجتبى -السيد ابن طاووس- ص 27.

20- "لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة أحب إلي من أن أتولى لاحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم". وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 17 ص 194.

21- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 48 ص 224.

22- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 91.

23- سورة يوسف / 58.

2021/03/08

زينب تخطب في مجلس الطاغية.. هل خرج علي من قبره؟! (فيديو)

على وجه الأرض.. ليست هناك امراة شهدت المصائب كزينب بنت علي عليهما السلام.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

يقول سماحة الشيخ حبيب الكاظمي، دامت بركاته: "أحتمل قوياً ان هذا الصبر من ملكاتها ومجاهداتها ولكن لا أستبعد أن الإمام الحسين عليه السلام عندما عانقها للوداع أنه سأل الله عز وجل أن يفرغ عليها صبراً".

في الفيديو أدناه لمحة سريعة عن حياة هذه السيدة الصابرة:

 

 

2021/02/28

هل تزوج النبي ’متعة’ ؟!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

زواج المتعةزواج شرعيّ صرّح به القرآن الكريم، و عمل به صحابةرسول الله صلّى الله عليه وآله، والمسلمون سنوات عديدة حتّى نهىعن ذلك عمر بن الخطّاب وعاقب عليه، فخاف الناس و تركوا هذا الزواج، لا لنسخٍ فيه كما يزعم كثيرٌ من علماء العامّة.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

فقد أخرج أحمد في مسنده وغيره عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله صلّى الله عليه و آله، فلم تنزل آية تمنعها، و لم ينه عنها النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلم حتّى مات.

وأمّا ما يتعلّق بزواج رسول الله صلّى الله عليه و آله بالزواج المنقطع، فليس هناك من روايات أو أحداث صحيحةٌ وصريحة تخبرنا بذلك. نعم توجد روايتان في المقام إحداهما: رواها العيّاشيّ والشيخ المفيد (قدّس) في رسالة المتعة، والأخرى رواها الشيخ الصدوق (ره) في من لا يحصره الفقيه (ج3/ص466)؛ ولكنْ كلا الروايتين لا ينبغي التعلّق بهما في مقام إثبات هذه الواقعة، وذلك لأنّ فيهما إشكالان صريحان من جهة إسنادهما ومن جهة متنهما، فأمّا الرواية الأولى فهي كما يلي: قال المفيد (قدّس): وروى الفضل الشيبانيّ بإسناده إلى الباقر (عليه السلام) أنّ عبد الله بن عطاء المكّيّ سأله عن قوله تعالى: (وإذْ أسرَّ النبيُّ) الآية ؟ فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تزوّج بالحرّة متعةً، فاطّلع عليه بعض نسائه فاتّهمته بالفاحشة، فقال: إنّه لي حلال، إنّه نكاح بأجل فاكتميه.

والإشكال في إسناد هذه الرواية من جهتين: الأولى: أنّ الفضل الشيبانيّ لا يعرف فهو مهملٌ لم يترجمه أحدٌ من الرجاليين، وأغلب الظنِّ أنّه مصحّفٌ عن أبي المفضّل الشيبانيّ، وهو محمّد بن عبدالله بن محمّد ابن المطّلب أبو المفضّل الشيبانيّ الذي كان كثير الرواية ثبتاً في أوّل أمره، لكنّه اختلط وضعّفعه جماعة من أصحابنا الإماميّة كما نقل ذلك النجاشيّ والطوسيّ في ترجمته. والجهة الثانية من الإشكال: هو أنّ هناك إرسالاً في هذه الرواية، لأنّ معنى قوله: روى الفضل الشيبانيّ بإسناده إلى الباقر (ع) يفيد أنّ هناك إرسالاً ما بين الشيبانيّ وبين الباقر (ع)، فتأمّل!

وأمّا الرواية الثاني للصدوق (ره) التي جاء فيها قوله: قال الصادق (ع). .. إلى آخر الحديث، فالإرسال فيها أوضح، لأنّه بين الصدوق والصادق (ع) أكثر من طبقة من الرواة فهي - إذنْ - روايةٌ معضلة، إذْ سقط من إسنادها راويان وأكثر على حسب قواعد علم الحديث والدراية في باب الحديث المعضل. هذا ما يتعلّق بإسناد الروايتين.

وأمّا الإشكال في متنهما: فمن جهة ورود الآية (وإذْ أسرَّ النبيّ) في صلب الروايتين، لبيان أنّ السرَّ في الآية هو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قد تمتّع!! وهذا هو محلُّ الإشكال، لأنّ جمهور الإماميّة ومنهم المفيد نفسه الذي روى هذا الخبر لا يذهبون إلى ذلك، بل يذهبون إلى أنّ السرَّ في هذه الآية هو أمرٌ آخر، وهاك بيان ذلك. جاء في المسائل العكبريّة للشيخ المفيد، ص76: في المسألة الثالثة والعشرون حين سئل عن قول الله تعالى: * (وإذْ أسرَّ النبيّ إلى بعض أزواجه حديثا)، وقال: ما كان ذلك السرّ؟

قال المفيد: والجواب عن ذلك: أنّه قد جاء في حديث الشيعة عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّ السرَّ الذي كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى بعض أزواجه إخباره عائشة أنّ الله أوحى إليه أن يستخلف أمير المؤمنين عليه السلام، وأنّه قد ضاق ذرعاً بذلك، لعلمه بما في قلوب قريش له من البغضاء والحسد والشنآن، وأنّه خائف منهم فتنة عاجلة تضرُّ بالدين، وعاهدها أن تكتم ذلك ولا تبديه وتستره وتخفيه. فنقضت عهد الله سبحانه عليها في ذلك، وأذاعت سرّه إلى حفصة، وأمرتها أن تعلم أباها ليعلمه صاحبه، فيأخذ القوم لأنفسهم ويحتالوا في بعض ما يثبته رسول الله صلّى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل، له أسباب مذكورة. ففعلت ذلك حفصة واتّفق القوم على عقدٍ بينهم إنْ مات رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يورثوا أحداً من أهل بيته ولا يؤتوهم. مقامه، واجتهدوا في تأخّرهم والتقدّم عليهم. فأوحى الله إلى نبيّه صلّى الله عليه وآله بذلك، وأعلمه ما صنع القوم وتعاهدوا عليه، وأنّ الأمر يتمُّ لهم محنة من الله تعالى للخلق بهم. فوقف النبيّ صلّى الله عليه وآله عائشة على ذلك، وعرّفها ما كان منها من إذاعة السرِّ، وطوى عنها الخبر بما علمه من تمام الأمر لهم، لئلّا تتعجّل إلى المسرّة به وتلقيه إلى أبيها، فيتأكّد طمع القوم فيما عزموا عليه، وهو قوله تعالى :(عرف بعضه وأعرض عن بعض)، فالبعض الذي عرّفه ما كان منها من إذاعة سرِّه. والبعض الذي أعرض عنه، ذكر تمام الأمر لهم. وكان في الآية ما يؤذن بشكِّ المرأة في نبوّته صلّى الله عليه وآله بقولها عند إخباره إباها بضيعها: (مَنْ أنبأك هذا؟ قال نبّأني العليم الخبير). والعامّة تقول: إنَّ السرَّ الذي أسرّه النبيّ صلّى الله عليه وآله خلوّه بمارية القبطيّة في يوم عائشة منه، وقد كانت حفصة اطّلعت على ذلك، فاستكتمها رسول الله صلّى الله عليه وآله إياه، فأذاعته، وعلماء الأمّة مجمعون على اختلافهم أنّ هذه الآية نزلت في عائشة وحفصة خاصّة من بين الأزواج. فهذا، الذي قاله في الآية.

وفي كتاب المنتخب من تفسير القرآن والنكت المستخرجة من كتاب التبيان لابن إدريس الحلّيّ، (صفحة 338)، قال: وقوله تعالى «وإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ » معناه: واذكروا حين أسرَّ النبيّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِه حَدِيثاً » فالإسرار إلقاء المعنى إلى نفس المحدّث على وجه الإخفاء عن غيره، يقال: أسرّ إليه كذا وكذا إسراراً، والإسرار نقيض الإعلان. وقيل: إنّه كان أسرّ إلى حفصة أن لا تخبر عائشة بكونه مع مارية في يوم عائشة. وقيل: إنّه حرّمها على نفسه، فأطلعت عليه عائشة فاستكتمها النبيّ صلَّى الله عليه وآله، فأخبرت حفصة بذلك، فانتشر الخبر، فعاتبهما الله على ذلك. وقال الزجّاج والفراء: أسرّ إليها بأنّه سيلي الأمر بعده أبو بكر وعمر وعثمان، فتباشرا بذلك فانتشر الخبر. وروى أصحابنا أنّه أسرّ إلى عائشة بما يكون بعده من قيام من يقوم بالأمر، ودفع عليٍّ عليه السلام عن مقامه، فبشّرت بذلك أباها، فعاتبها الله على ذلك.

وفي كتاب زبدة التفاسير للملّا فتح الله الكاشانيّ في الجزء: (ج7/ص108)، ذكر في تفسير هذه الآية أنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم قسّم الأيّام بين نسائه، فلمّا كان يوم حفصة قالت: يا رسول اللَّه إنّ لي إلى أبي حاجة، فاذَنْ لي أن أزوره. فأذِنَ لها. فلمّا خرجت أرسل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى جاريته مارية القبطيّة، وكان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها. فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول الله صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم ووجهه يقطر عرقا. فقالت حفصة: إنّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أَمَتَكَ بيتي، ثمّ وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقّا؟ فقال صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم: أليس هي جاريتي، قد أحلّ الله ذلك لي ؟! اسكتي، فهي حرام عليّ، ألتمس بذلك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهنّ، وهو عندك أمانة. فلمّا خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشّرك أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد حرّم عليه أمته مارية، وقد أراحنا اللَّه منها. وأخبرت عائشة بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه، فطلَّق حفصة، واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوما، وقعد في مشربة أمّ إبراهيم مارية حتّى نزلت آية التخيير. وعن الزجّاج: أنّ النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خلا في يوم عائشة مع جاريته أمّ إبراهيم مارية القبطيّة، فوقفت حفصة على ذلك. فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: لا تعلمي عائشة بذلك. وحرّم مارية على نفسه. فأعلمت حفصة عائشة الخبر، واستكتمتها إيّاه. فأطلع الله نبيّه على ذلك، وهو قوله: * (وإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِه حَدِيثاً) يعني: حفصة. ولـمّا حرّم مارية القبطيّة أخبر حفصة أنّه يملك من بعده أبو بكر ثمّ عمر تسلية لها. فعرّفها بعض ما أفشت من الخبر، وأعرض عن بعض، وهو أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي، واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوما، وقعد في مشربة أمّ إبراهيم مارية، وأعرض عن بعض، وهو أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي.

فأقول بناءً على هذا الاحتمال في تفسير سرِّ النبيّ صلَّى الله عليه وآله في قصّة ماريّة: فهنا سيظهر إشكالٌ آخر في متن الروايتين، وهو أنّ النبيّ صلَّى الله عليه وآله يستطيع أنْ يطأ مارية القبطيّة ويلامسها من دون الحاجة إلى صيغة عقدٍ سواءٌ أكان العقد دائماً أم منقطعاً، وذلك لأنّ مارية القبطيّة جاريته وأمته التي أهداها له المقوقس ملك الإسكندريّة، فاتّخذها النبيّ صلّى الله عليه وآله خالصة له كما هو معروفٌ، ولا خلاف بين المسلمين بأنّ نكاح الجواري والإماء يكون بملك اليمين ولا يحتاج إلى صيغة العقد.

هذه هي أهمُّ الإشكالات الواردة على هاتين الروايتين، ولذلك أعرضنا عنهما من قبلُ، وإذا قيل: لماذا بعض المصنّفين يورد مثل هذه الروايات في كتبه؟ فالجواب عن ذلك، أنّ ديدن جمهور العلماء في التصنيف إيراد ما يقفون عليه من روايات وتدوينها سواءٌ أكان ذلك على مستوى التفسير أم على مستوى الأحكام كما هو معروفٌ بين أهل العلم، ولكنّهم في مقام الاستدلال لا يستدلّون بكلِّ رواية يدوّنوها في مصنّفاتهم، وإنّما يستدلّون بالرواية التي توفّرت فيها الشروط المعتبرة التي تجعل منها حجّة في مقام الاستدلال. وهذا الأمر هو المعروف عن أهل العلم ومحقّقيهم. وفي نهاية المطاف نصرُّ على ما قلناه في بادئ الأمر: إنّه ليس هناك من روايات أو أحداث صحيحةٌ وصريحة تخبرنا بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قد تمتّع بالحرّة بصيغة العقد المنقطع.

 

2021/02/27

مخاض في ’البيت العتيق’ : مولود يشق جدار الكعبة ووعي قريش في إجازة!

إذا كان عليٌّ (ع) قد وُلد في جوف الكعبة وانشق جدارها لأمِّه فدخلت منه ووضعت في جوفها عليَّاً (ع)؛ فلماذا لم يُحدِثْ ذلك ثورة وعي وصحوة عند قريش وهم يُشاهدون هذه الكرامة؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

لقد ظهرت عند ولادة النبيِّ الكريم (ص) وبعده وحين مبعثه وبعده كرامات هي أبلغ من ولادة الإمام عليٍّ (ع) في جوف الكعبة الشريفة ورغم ذلك فإنَّها لم تُحدِث ثورةَ وعيٍ وصحوة عند قريش، ذلك لأنَّهم قد غرقوا في العصبية والجهل وأعماهم الكبرياء والتغطرس عن رؤية الحقِّ أو الاعتراف به.

وعلى أيِّ حال فقد شاع وذاع أمرُ ولادة عليٍّ (ع) في جوف الكعبة ولم يتنكَّر لهذا الحدث من أحدٍ إلا بعد أنْ نشأت المذاهب العقائدية والتي كان يعزُّ على الكثير منها أنْ تُذاع منقبةٌ لعليٍّ (ع) فجهدوا في إخفاء الكثير منها إمعاناً في إضعاف موقعه الديني ومحاولةً منهم لإبراز مَن كان في تلميعه مصلحةٌ لهم، فقد حذَّر معاوية بن أبي سفيان كلَّ مَن يذكر لعليٍّ (ع) منقبة: و"كتب معاوية نسخةً واحدة إلى عمَّاله بعد عام الجماعة أنْ برئت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلِّ كورة، وعلى كلِّ منبر يلعنون عليًا ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته .."(1) وكتب إلى عمَّاله في وقتٍ آخر "ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقضٍ له في الصحابة مفتعلة فإنَّ هذا أحب إليَّ، وأقرُّ لعيني، وأدحضُ لحجَّة أبي تراب وشيعته .."(2) كما تذكر ذلك النصوص التأريخية، وقد أجاد الفراهيدي حين قال: إنَّ عليَّ بن أبي طالب "كتم أحباؤه فضائله خوفاً وأعداؤه حسداً، وظهر بين الكتمانين ما ملأ الخافقين"(3).

ولا بأس في المقام مِن ذكر بعض ما ورد من أنَّ عليَّاً (ع) وُلد في جوف الكعبة:

فمن ذلك: ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده عن أبي عبدالله الصادق (ع) عن آبائه (ع): قال: "كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى، بإزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت اسد بن هاشم أمُّ أمير المؤمنين(ع)، وكانت حاملةً بأمير المومنين (ع) .. فوقفت بازاء البيت الحرام، وقد أخذها الطلق، فرمتْ بطرفها نحو السماء، ودعت .. لمَّا تكلمت فاطمة بيت أسد ودعتْ .. رأينا البيت قد انفتح من ظهره، ودخلت فاطمةُ فيه، وغابت عن أبصارنا، ثم عادت الفتحة والتزقت باذن الله .. وبقيتْ فاطمة في البيت ثلاثة ايام. قال: وأهل مكة يتحدَّثون بذلك في أفواه السكك، وتتحدَّث المخدرات في خدورهنَّ. قال: فلمَّا كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيتُ من الموضع الذي كانت دخلتْ فيه، فخرجت فاطمةُ وعليٌ (ع) على يديها"(4).

وأورد صاحب البحار عن الفتال النيسابوري في "روضة الواعظين" خبراً مختصراً عن عليِّ بن الحسين (ع) قال: "إنَّ فاطمة بنت اسد رضي الله عنها ضربها الطلق، وهي في الطواف، فدخلت الكعبة، فولدت أمير المؤمنين (ع) فيها"(5) قال: وفي آخر خبر موسى بن جعفر (ع) قال: "فولدتْ عليَّاً في الكعبة، طاهراً مطهراً لم يكن فيه كثافة، ووُلد مختوناً مقطوع السرة، ووجهه يضئ كالشمس، فسمَّاه أبو طالب عليَّاً، وحمله النبيُّ (ص) وأتى به إلى البيت"(6).

هذا نزرٌ يسيرٌ ممَّا ورد في مصادرنا، وأمَّا ما ورد في مصادر العامَّة:

فمن ذلك: ما أفاده الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين قال: فقد تواترت الأخبار أنَّ فاطمة بنت أسد ولدتْ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب في جوف الكعبة"(7).

ومنه: مأفاده ابن الصبَّاغ المالكي في الفصول المهمَّة قال: وُلد عليٌّ (ع) بمكة المشرفة بداخل البيت الحرام .. ولم يُولد في البيت الحرام قبله أحدٌ سواه، وهي فضيلة خصَّه الله تعالى بها إجلالاً له وإعلاء لمرتبته وإظهارا لتكرمته"(8)

ولولا خشية الإطالة لنقلت الكثير من النصوص التي أوردوه في مصنَّفاتهم، إلا أنه يمكنكم للوقوف على المزيد من مصادر العامَّة التى أوردت هذه المنقبة لعليِّ بن أبي طالب (ع) يمكنكم مراجعة كتاب الغدير للعلامة الأميني (رحمه الله)، فقد ذكر ما يفوق الستة عشر مصنَّفاً من مصنَّفات الحفَّاظ والمحدِّثين من أبناء العامة في الجزء السادس، وكذلك يُمكنكم مراجعة كتاب شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي (رحمه الله) فقد أورد الكثير من كلمات محدِّثي العامَّة ومؤرِّخيهم المعبِّرة عن التسيلم بوقوع هذه الفضيلة لعليٍّ (ع)(9).


الهوامش:

1- شرح نهج البلاغة -لإبن أبي الحديد- ج11 / ص44.

2- شرح نهج البلاغة -لإبن أبي الحديد- ج11 / ص45.

3- شرح إحقاق الحق -السيد المرعشي- ج4 / ص2.

4- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص707.

5- روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص81.

6- الفصول المهمة -ابن الصباغ- ص14.

7- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص483.

8- الفصول المهمة في معرفة الأئمة -ابن الصباغ- ج1 / ص171.

9- إحقاق الحق ج17 / ص364.

2021/02/25

اختزال تاريخ الزهراء في ’’البيت والعائلة’’ .. هل هذه كل سيرتها؟! (فيديو)

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

تعتبر ولادة الزهراء عليها السلام حدث عظيم ويحسن الإشارة في ذكرى هذه المناسبة العطرة إلى أهم محطات سيرتها، ولكن نريد اليوم أن نطرح هذا السؤال المهم وهو: كيف نعرض سيرة الزهراء ونروج تاريخها لاسيما في هذا العصر الذي تغير فيه كل شيء ولا يكاد يبقى فيه حجر على حجر؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ينبغي أن نلتفت إلى العرض التجزيئي لسيرتها من خلال تسليط الضوء على جانب من جوانب سيرتها ويغفل عن غيره، ومع التكرار تصبح الشخصية وسيرتها منحصرة في جانب دون آخر.

وهذا الامر في غاية الخطورة لأن حصر سيرة الزهراء في جانب من الجوانب قد يضر بسيرتها وبعملية عرض السيرة على الغير.

النظرة الكاملة لسيرة الزهراء عليها السلام تقدم لنا أماً مثالية وزوجة مثالية وبنتاً مثالية وفي ذات الوقت كان لها دور كبير في الوسط الإسلامي، فهي لم تكن ربة بيت فقط بل كان لها مواقف كبيرة إذ لم تكن بمعزل عما يدور في العالم الإسلامي آنذاك.

تفصيل أكثر مع سماحة الشيخ أحمد سلمان في الفيديو أدناه:

2021/02/03

’أم البنين’.. امرأة تُبهر نساء العالم

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

أم لأربعة شباب تستقبل نبأ مقتلهم مرة واحدة مع شاب آخر، هل تسأل عن أولادها أولاً، أم تغضّ الطرف عنهم وتسأل عن كيفية مقتل ذلك الشاب؟

معروفة علاقة الأم بولدها، وكم هي حميمية، بل و عضوية، حتى أن علماء النفس تنبهوا الى هذه العلاقة وسلطوا عليها الضوء في طريق البحث والتحليل في دوافع سلوك الطفل، لاسيما المولود الذكر، وحتى في الموروث الاجتماعي شاعت مقولة أن نقطة ضعف الرجل المرأة، ونقطة ضعف المرأة الطفل، فاذا تعلقت الأم بولدها وفضلته على أي شيء آخر في حياتها، او استماتت في الدفاع عنه أمام أي مشكلة داخل البيت او خارجه، لن تكون ملامة، فهي انما تعكس الحالة الغريزية بكامل مواصفاتها، حتى وإن صادفت مفترق طرق بين الحق والباطل، فانها –في معظم الاحيان- تندفع بغريزتها للوقوف الى جانب ابنها، إلا اللهم بعض الاستثناءات من النسوة من ذوات الوعي والثقافة تغلّب بهما الحق على الباطل.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ولكن! توقف الزمن لحظة واحدة امام ظاهرة غريبة واستثنائية في المدينة المنورة عام 61للهجرة، وفيما كانت أسرة الامام الحسين، عليه السلام، عائدة من رحلة السبي، وما جرى في كربلاء، يتقدمهم الامام السجاد مع عمته العقيلة زينب، وسائر النساء والاطفال، فخرجت أم البنين، مع سائر الناس لدى سماعهم نعي الامام الحسين وأهل بيته وأصحابه، وكان لأم البنين أربعة أولاد بين شهداء الطف، في مقدمتهم أبي الفضل العباس، وبدلاً من أن تسأل عن أولادها، لاسيما العباس، بادرت الناعي بشكل عفوي بالسؤال: "اخبرني عن الحسين، أ هو حيٌ أم لا"؟! وأي امرأة مؤمنة وموالية لأهل البيت في مكان أم البنين، لابد أن تسأل عن ابنائها، ولو بعد حين، بينما هذه المرأة النموذجية والاستثنائية تناست ذكر العباس وجعفر وعثمان وعبدالله، و ألحّت بالبحث عن مصير الامام الحسين، ولسان حالها أن يعود الإمام الحسين سالماً وإن كلف ذلك استشهاد جميع ابنائها.

 

عوامل عديدة توصل البها الباحثون وكل من قرأ سيرة حياة أم البنين، جعلتها تتخذ هذا الموقف التاريخي الخالد، منها؛ الايمان العميق بالله وبرسالة النبي محمد، و بولاية أمير المؤمنين، والمعرفة اليقينية بمنزلة أهل البيت عند الله، والعامل الآخر؛ حسن التربية والتأديب على حسن التبعّل واحترام الآخرين، الى جانب العامل الوراثي في وجود خصال النُبل، والعزّ، والإباء، والكرامة، مع عوامل اخرى ربما يكتشفها الباحث بين صفحات التاريخ.

كل هذه الصفات والخصال وغيرها لها دورها المؤثر في صياغة شخصية أم البنين لتصل الى هذه المرتبة العظيمة بين نساء المسلمين، بيد أن هناك خصلة واحدة تميزت بها هذه السيدة بين اقرانها في المجتمع العربي، وبين جميع نساء العالم الى يوم القيامة، وهي؛ العطاء بلاء حدود لله، ولأهل البيت، عليهم السلام.

فاطمة بن حزام الكلابية، كانت فتاة من بين العشرات من الفتيات العربيات في الحجاز، وربما كان بينهنّ من يتصفن بالشرف والعفّة والنبل، ومن أصول منيفة، إنما الفارق والمائز في التضحية و نكران الذات، وهو ما لا عهد للفتيات والنساء به، والى اليوم –إلا بعض الاستثناءات- وقد كان تميز أم البنين ليس في التضحية بالمال والجاه في مشاريع البر، وإنما فيما يخصّ كيان وشخصية المرأة كأنثى، فكانت البداية من ليلة الزفاف عندما طلبت من أمير المؤمنين أن يختار لها اسماً مستعاراً بدلاً من اسمها الحقيقي حتى لا تثير شجون الحسنين وزينب وأم كلثوم، وبعد أن رزقت بأول نجم لامع في سماء بني هاشم؛ أبي الفضل العباس، بدأت مرحلة جديدة من نكران الذات، فكانت توصي وتذكّر ابنها العباس بأنه لا يتعامل مع أخوين غير اشقاء، وإنما مع إمامين مفترضي الطاعة، لذا لم يخاطب العباس الامام الحسين، طيلة حياته بغير لفظ "سيدي ومولاي"، وليس "أخي"، حتى لحظة استشهاده الأليمة، فكانت لفظة "أخي" عزيزة على نفس الامام الحسين أن يسمعها من أخيه العباس وهو في الرمق الاخير على مقربة من نهر الفرات.

هذا التفاني في الحب والولاء لأهل البيت، هو الذي زرع بذرة الوفاء والإباء في نفس العباس وإخوته ليكونوا في طليعة أنصار الامام الحسين، ويكون العباس ساعده الأيمن، ويكون الدرع الواقي للعقيلة زينب، ومصدر اطمئنان لجميع النسوة وأهل بيت الامام الحسين يوم عاشوراء.

طيلة فترة حياتها في بيت أمير المؤمنين، والى آخر يوم من حياتها لم تطلب أم البنين شيئاً لنفسها شأن أي امرأة متزوجة او أرملة او صاحبة أولاد، وهي امرأة عادية عندما كانت فتاة صغيرة لم تتوقع مطلقاً أن تكون يوماً زوجة لشخص مثل أمير المؤمنين، عليه السلام، ولكن كانت مدركة لما تحمله من خصال وصفات نبيلة عملت على تنميتها في نفسها، و لم تفرط بها ابداً في فترة طفولتها ومراهقتها وشبابها حتى وقع الاختيار عليها كزوجة لأمير المؤمنين، ثم لتكون ممن تنطبق عليها المعادلة الإلهية؛ "من كان مع الله كان الله معه"، و بمقدار عطاء الانسان لربه يكون العطاء الإلهي له، ولعل أم البنين فهمت هذه المعادلة مبكراً من خلال مواقف وسيرة الامام الحسين في السنين الاخيرة من حياته في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية آنذاك، فكما أنه، عليه السلام، "أعطى ما ملكت يداه إلهه"، فأعطاه الله –تعالى- من الخصائص ما لم يعط لأحد، فان أم البنين

ايضاً أعطت كل شيء لله، فأعطاه الله ما لم يعط لأي امرأة من المسلمين، ما عدا الصديقة الزهراء، فكانت الوجاهة والمنزلة بدرجة أن يتوسل اليها الملايين على مر الأجيال لقضاء الحوائج المستعصية، ويجدون في اسمها الكريم باباً للفرج والخلاص.


نقلاً عن شبكة النبأ

2021/01/27

المضحيّة الوفية: ’أم البنين’ .. هذا ما يميزها عن باقي النساء (فيديو)

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

 

اشترك في قناتنا على تليجرام

 

تجربة أم البنين (ع) من التجارب النادرة في تاريخ العرب والمسلمين حيث قدّمت أبناءها الأربعة دفعة واحدة من أجل ابن امرأة أخرى كانت زوجة زوجها، أو كما يعبرون اليوم بـ "الضرة"!

مثل هذا النموذج، الذي لا يمكن العثور عليه في مجتمعاتنا، قدّمه الدين لنا في شخصية أم البنين (ع).

المزيد من التفاصيل في الفيديو أدناه لسماحة الشيخ فوزي آل سيف دامت بركاته:

2021/01/25

جرائم بحق زوار الحسين (ع) أيسرها ’قطع الأيادي’!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

لعل ما نقل إلينا بشأن قطع أيدي زوار الإمام الحسين عليه السلام بأمر من المتوكل العباسي هو منقول بالمضمون أو بالمعنى، فإنّ أتباع أهل البيت(ع) قد عانوا كثيراً على مرّ العصور، وخاصة في زمن المتوكل العباسي، إذ يشعر الطغاة أنّ سلطانهم في خطر حينما يشاهدون الناس تُقبل إلى زيارة سيد الشهداء الأمام الحسين(ع).

إنّ ما قام به المتوكل العباسي لهو من أشنع ما قام به الطغاة، وذلك أنّه مارس من قضية الإمام الحسين(ع) أمرين شنيعين:

الأول: بالنسبة إلى مرقده، فقد أمر المتوكل بهدمه مرات عدة:

أ-جاء في تاريخ الطبري ( ٩ / ١٨٥ ): «ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي: وفيها (سنة ٢٣٦) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه. فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق "سجن مظلم تحت الأرض"، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حواليه».

ب-وفي النجوم الزاهرة (٢ / ٢٨٣) : «أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل ذلك كله مزارع، فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء مثل دعبل وغيره».

ت-وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي / ٣٧٤ : «فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:

بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ *** قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَاً

فلقد أتاهُ بنو أبيه بمثله *** هذا لعمري قبرُه مهدوماً

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميماً».

ث- وقال ابن الأثير في تاريخه ( ٦ / ١٠٨ ): «في هذه السنة (٢٣٦) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهَدْم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق، فهرب الناس وتركوا زيارته، وخُرب وزُرع»!

ج-وقال في مآثر الإنافة ( ١ / ٢٣٠ ): «بلغ من بغضه لعلي وأهل بيته أنه في سنة ٢٣٦ أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل، ومنع الناس من زيارته»!

ح-وفي أمالي الطوسي ( ٣٢٥ ): « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين، فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فَمُرَّ بها على القبور، فمرَّت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمرَّ عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي، فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على قبره ولا تخطته! قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص)، فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته». أي بولادتي منه.

خ-وفي أمالي الطوسي / ٣٢٦ : « حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مسلمة بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: حدثني إبراهيم الديزج قال: بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين (ع) وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي: أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين، فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف أنه فعل أو لم يفعل. قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب به إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار، ثم أتيته، فقال لي: ما صنعت؟ قلت: قد فعلت ما أمرتَ به، فلم أر شيئاً، ولم أجد شيئاً! فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت وما رأيت، فكتب إلى السلطان: إن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً، وأمرته فمخره بالماء، وكَرَبَهُ بالبقر.

قال أبوعلي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر، فقال لي: أتيت في خاصة غلماني فقط، وإني نبشت فوجدت باريةً جديدة وعليها بدنُ الحسين بن علي و وجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالتها وبدن الحسين على البارية، وأمرتُ بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة: لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه».

الثاني: مارس سياسة الإضطهاد تجاه زوار الإمام الحسين(ع):

أ-جاء في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥: «وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسيئان الرأي فيهم، فحسَّن لهما القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كَرَبَ قبر الحسين (ع)، وعَفَّى آثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له ، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله أو أنهكه عقوبة!.

واضح من النص المتقدم أنّ الزائر الحسيني يتعرض إلى القتل، أو العقوبة بشدةٍ فائقة، فقد تصل إلى قطع عضو منه.

ب-وجاء في أمالي الطوسي / ٣٢٨: «بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (ع)، فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قواده، وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً، ليشعب قبر الحسين (ع)، ويمنع الناس من زيارته والإجتماع إلى قبره (ع)، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به، واجتمعوا عليه وقالوا: لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة، مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها، والإنكفاء إلى المصر! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع)، وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين، ونَبَشَ القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة. وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر ».

الخلاصة:

1-لا يمكن أنْ ننكر الظروف القاسية التي جرت على أتباع أهل البيت(ع)، في سبيل منعهم من زيارة سيد الشهداء الإمام الحسين(ع).

2-ورواية تقطيع الأيدي وإنْ لم نعثر عليها في مصادرنا، ولكن الطغاة فعلوا أكثر من ذلك، حيث قاموا بقتلهم.   

للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام: https://t.me/The12ImamsWe


 

2021/01/21