عند مطالعة التاريخ الديني للإنسان، خلط البعض بين النبوة و ما عاصرها من أديان وثنية فكانت وذلك الانحطاط العقلي المتمثل بالآلهة والخرافة يصبان في مصب واحد يبدأ بجهل الانسان بأسرار الطبيعة وينتهي الى التنويمة التي يخفف بها من وجعه ومعاناته.
[اشترك]
لذا صار لزاما أن نسلط الضوء على مابينهما من فوارق..
لقد اعتمدت الفلسفات الوضعية، سيما وضعية كونت، حقيقة التماس المباشر والفعال بين طبيعة الفكر البشري ومعطياته وبين المرحلة التاريخية، في تحديدها لماهية الدين على أن الحقبة الاولى لعمر البشرية ومطلع التكوين الحضاري كان من شأنها وبشكل ضروري أن تنتج الفكر الاسطوري وعبادة الالهة، انطلاقا مما آمنت به تلك الفلسفات من أن الميتافيزيقا قضية موهومة تجسدت بالأسطورة والالهة التي أبدعها خيال الانسان الاول، حيث لم يتح للإنسان آنذاك أن يتزود في حياته الفكرية بغير الخيال.
وفي هذا الصدد يطالعنا مايلي:
إن تفسير الملحد لظاهرة الفكر الوثني قائم على أساس مذهبه العقائدي وليس على أساس علمي، أي أنه ينطلق من إيمانه الخاص بعدم وجود ماهو كائن وراء الطبيعة وبالتالي فإن أي فكرة تقوم على أساس من الإحساس بذلك الماورائي، هي وهم محض ولاسبيل لتفسيرها إلا بما يتلائم مع واقعها الموهوم. والحال أن صحة ما وراء الفيزياء وعدم صحته جدل لم يحسم.
ليس هناك فكر وثني لا يتضمن الاعتقاد بالمطلق أو الروح العليا بشكل أساس، وأن هذه الاوثان والطواطم ماهي إلا تمظهر للروح العليا وتمثلها بشكل من الأشكال، بل أن الفكر الوثني عموما، على اختلاف ماعبده الوثنيون وما اعتقدوه على مر التاريخ هو في حقيقته انسلاخ عن فكرة أصيلة هي التوحيد، يقول الدكتور هاني يحيى نصري في كتابه نقض الالحاد (إن الالهة قد شخصت أول ماشخصت نتيجة مجاهيل القوى الطبيعية التي كان يخافها الانسان وهذا لايعني أن الانسان وفي كل مرة يسأل فيها عن إله الالهة هذه، لاتضئ له صورة المتعالي الالهي ولو مشوشة . ولعل أقدم نص بهذا الشأن ـ شأن التعالي الالهي ـ قد جاءنا من الحضارة الفرعونية بمفهوم ( نتر) على أنه صانع كل شئ المجهول، أي اللامعلوم الذي تظهر منه كل المعلومات)
تخبط الانسان بسبب قلة المعرفة في الإجابة على ما يضعه من أسئلة، ليس في أمور الغيب فقط بل حتى في القضايا الحسية أيضا، فطاليس ولأنه عاش في جزيرة يحيطها الماء من كل جانب وقد رأى الماء في كل شئ تقريبا فقال إن أصل الاشياء هو الماء. فهل أصل الاشياء وهم؟!
لقد تصور طاليس أصل الاشياء الماء وتصور المصريون الكون عالما فسيحا من الماء، فلماذا الاولى تخبط عن طريق الصواب والحقيقة والثانية وهم؟!
إن الخيال الجامح للإنسان آنذاك كان محاولة جادة في الاستجابة لما يفرضه الواقع المنطقي على العقل الانساني، وبعبارة أخرى قانون العلية العقلي، إن الحركة الفكرية للإنسان الاول انطلقت مما يسمى فلسفيا بالدهشة، وهو بهذا يكون معزولا عن شعور الخوف أو غيره، فلو واجه اليوم الانسانُ جهازا تقنيا لم يتعرف عليه فسيستجيب لما جبل عليه من دافع المعرفة والاكتشاف ومن دون خوف، أو ألقي في مدينة غاية في الجمال بشكل مفاجئ فلابد أن شعوره حينها الارتياح والمتعة ولكنه رغم هذا لن يهدأ قبل أن يكتشف كيف وصل الى هذه المدينة وما الذي يحيطه من مجاهيل.
إن الفيلسوف في المرحلة الميتافيزيقية اللصيقة بمرحلة الفكر الوثني[i] قد تنكب نفس المهمة التي نهض بها الوثني، وبحث عن اسباب الاشياء وعللها بالعقل المحض من دون أي خوف، والحال أن مجاهيل الطبيعة هي هي في المرحلتين....
العقل الذي أبدع مظاهر الحضارة الفرعونية والآشورية والسومرية على صعيد العمران والتكنولوجيا والطب والزراعة، هل يعقل أن يقف عند حدود هذه الأصعدة، ليتخبط بعد ذلك، في ما يتعلق بمنشأ الحياة والكون، في الاسطورة والخرافة؟!
بمعنى أن أنسان ذلك العصر الذي أبدع في الهندسة العمرانية بما يقف أمامه الانسان الحالي حائرا، وأوجد لنفسه الشرائع القانونية والدساتير، وفي الوقت نفس ينتج هذيانا كـ ((ثم تزاوجت السماء والارض فولد لهما اوزيريس وست ونفتيس، فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الارض والسماء. ثم استقر لثلاثة من هؤلاء هم اوزيريس وإيريس وحورس)!!.[ii]
إن الانبياء عليهم السلام حين أعلنوا عن مفاهيم غيبية كالله والملائكة، قد تعرفوا على تلك المفاهيم عن طريق الوحي، في حين أن المفردات التي أعلن عنها الكهنة هي من ابتكارهم وما نسج خيالهم، فيمكن لإنسان ذاك العهد أن يخاف الطبيعة فيتصور العلة على انها روح شريرة عظيمة، أو يجد النيل هو خصب الحياة فيتصور له دور الالوهية، أما عملية التسمية وسرد الاحداث، فلا تكون إلا كما يفعل الكاتب في ابتكار أسماء وأحداث يعلم أن لاواقع لها وكمثال (رع هو الإله الذي ينزل الى الارض ليقترن بإم ارضية كما تقترن الشمس بالنيل نفسه). بمعنى أننا لو سألنا النبي عن مصدر الاسماء والمفاهيم الغيبية التي جاء بها سيقول الوحي، أما الكاهن فليس لها مصدر، أي انه افتراها. بدليل اننا اليوم على ثقة من أن لاوجود في الواقع لأبولو أو رع أو عشتار.
يقول الدكتور متعب مناف جاسم في كتابه تاريخ الفكر الاجتماعي .. (وبذلك جمع المجتمع العراقي القديم بين الالهة (الدين) والملك أو الحاكم (السياسة) . لذا فقد اعتمد المجتمع العراقي القديم على إله و ملك ومواطن، هؤلاء الثلاثة يتواجدون في التي، يمثل الهيكل أو المعبد نواتها الاساسية. كان المركز من دولة المدينة هو المدينة وكان المركز من المدينة نفسها هو هيكل إله المدينة. وكان هذا الهيكل عادة أكبر مالك في الدولة يستغل أملاكه الشاسعة باستخدام الارقاء والفلاحين. وكانت هناك هياكل أخرى تنتمي الى زوجة اله المدينة واولادهما وبعض الالهة الصغار المقترنين بالإله الرئيسي ولكل منهم أرض فسيحة. فتقديرنا الان هو أن معظم أراضي دولة المدينة، عند منتصف الالف الثالث قبل الميلاد كانت تعود الى الهياكل. وهكذا فإن السواد من السكان كانوا يكسبون رزقهم كفلاحين أو أرقاء أو خدم لدى الالهة. هذا هو الوضع الذي تتمثل فيه الاوضاع الاقتصادية والسياسية التي تعبر عنها أساطير مابين النهرين من المدينة).
ومن هنا نخلص الى نتيجة أكيدة هي أن منشأ هذا التخبط والآلهة، هو بفعل المؤامرة التي يقودها الملك ورجال الدين من كهنة المعابد سعيا وراء مصالحهم ومكاسبهم المادية.
سواء أأخذنا بالصورة المشوهة التي يرسمها العهدان القديم والجديد للأنبياء أو الصورة الناصعة التي جاءت لهم (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم، فإننا في الحالين لن نقدر على إنكار حقيقة ثابتة وهي أن الانبياء جميعا كما تؤكد الوثائق التاريخية والكتب السماوية ـ كانوا في الجبهة المعادية للملك وحاشيته، وكانوا قادة لحركات مضادة للملك والكهنة، ينادون بالعدالة الاجتماعية وحفظ البسطاء في معائشهم وكرامتهم، بدءا بنبي الله ابراهيم عليه السلام وماكان منه مع نمرود الى نبي الله موسى وعيسى ونبينا الاكرم (صلوات الله عليهم اجمعين).
ثم إننا لايمكن أن نغفل الاتجاه القائل، بأن ماكانت عليه الوثنية من تخبط وانحطاط في التصور إنما هو ناتج عن تحريف وتشويش لحقيقة نبوية كان لها الدور الاكبر في حضارة هذا المجتمع أو ذاك ( قصة أوزريس وإيريس، فهي توحي بأن حكم الآلهة في ارض النيل، قبل حكم الاسرات الملكية المعروفة، أن هي إلا حكم بشري، عراقة القدم قد أضفت على أصحابه قداسةَ الارباب ، وهي تومئ أيضا الى اتساع النقلة الحضارية التي وثبها اوزوريس بقدامى المصريين، فلقد كان هذا (الاله) الحاكم أول من خط بالقلم، وخاط الثياب ونظر في علم النجوم والحساب. ومن ثم فإنه أفاض على أهل بلده بحصيلة معارفه. فعرفهم كيف يستفيدون أجلّ الفائدة من نهرهم العظيم: " حعبي" محيي موات الارض وواهب الخير والنماء وكيف يحييون حياة إنسانية كريمة، ارتفعت بهم عندئذ فوق مستوى العالمين، وكانت منارا هاديا لمن تلاهم من الشعوب والاجيال على طريق الحضارة. إن أوزوريس هو الذي علم المصريين والعالم الزراعة ودلّهم على مواسم الفيضان وبذر الحبوب واجتناء الثمار ولقنهم أصول الحساب والكتابة وعودهم ارتداء الثياب المخيطة، وغرس في ضمائرهم احترام القانون وهداهم الى الله الواحد، والى حقيقة البعث والخلود والثواب والعقاب، وحملهم على كل ما ينبغي أن يحمل عليه إنسان تهمه آخرته كما تهمه دنياه، حتى ليقال إنه هو نفسه نبي الله ادريس ع)[iii]
إن تجاوز المحسوس المتصور الى المطلق المتعالي عملية غاية في الصعوبة بالنسبة الى العقل البشري المحدود. ولكن فكرة المطلق المنزه عن المادة والكيفيات يحتمها المنطق، لأن فكرة الاله تعني العلة الموجدة والمبدعة فلايمكن أن تكون من سنخ المعلول( كما بينّا في مقال واجب الوجود)، ومن جهة أخرى فإن أول نهضة عقلية في التاريخ الفكري للإنسان عند اليونان، شهدت اعتراضا كبيرا على الالهة المتخيلة المتهافتة، وفي مقدمة الشواهد على ذلك الفيلسوف سقراط الذي سقي السم بتهمة الاساءة للآلهة.
مايقره التاريخ المثيولوجي للإنسان وتاريخ الاديان، هو أن النتاج المتصوَر للآلهة الوثنية من تسميات وخرافات كان من صنع الكهنة وصفوة رجالات المعابد، أي أن عقل الانسان من عامة الناس لم يكن ينتج هذه الافكار والتصورات بل هي مكتسبة، بمعنى أن الانسان العادي إذا ما تأمل واقعه المعاش لم يكن ليصل الى تصور لمفردات مثل آمون راع وعشتار وابولو، بل إنه يصل الى مايجده في عقله ووجدانه من صانع مبدع لهذا العالم، ولما كانت فكرة المطلق عسيرة عليه، أخذ بما يملي عليه الكهنة من اسماء الالهة وقصصهم الخرافية كحقيقة يسد بها مايجده في عقله ووجدانه.
يطيب للكثيرين اتخاذ المعجزات والخوارق التي جرت على يد الانبياء دليلا على بطلان دعواهم، أو أنها نموذج مماثل لما عند الكهنة من سحر ودجل، فيكونان ـ الانبياء والكهنة ـ في بوتقة واحدة هي الخرافة.. والحال أن الملحد إنما يعترض على المعجزة من داخل منظوره الالحادي المنكر لما بعد الطبيعة، فأي خرق لها لايعدو عن كونه اسطورة، والحال أن الله هو من خَلق الطبيعة وقوانينها، ثم أننا تحدثنا في مقالة الواقع والميتافيزيقا عن تغير عالم الفيزياء نفسه. أضف لذا ك أن النبي لم يكن يستخدم المعجزة إلا في صميم مهتمه النبوية من حيث إقامة البرهان على صدقه، وإلا لكان استخدمها في دفع الاذى الذي كان يلاقيه من قومه.
إن التفسير المادي للدين بالخوف والجهل ومختصره، أن الانسان في العهود القديمة حين جهل القوانين الفيزياوية للظاهرة الطبيعية أدى ذلك الى شعوره بالخوف من ظواهر الطبيعة، مما أدى به الى ابتكار الالهة كتفسير للظاهرة ومن ثم بث الطمأنينة في نفسه من خلال الاتصال بالآلهة عن طريق الطقوس والشعائر وإرضائها بالقرابين. هذا التفسير يقودنا ـ من منظور مادي ـ الى نتيجة منطقية وهي أن اكتشاف قوانين الطبيعة من قبل العلماء الطبيعيين اليوم يعد مسوغا كافيا لبطلان الدين. ولكن، في هذا الخصوص، ثمة ملاحظة لابد من الالتفات اليها.. وهي أن الانسان الوثني القديم حين فسر الظاهرة بوجود الالهة قد جعل الالهة مندكة في الظاهرة وتحل محل القانون العلمي المقوم لها وجعل الارواح في كل الاشياء والجمادات، فآلهة البحر هي روح أو قوة حالّة في البحر وهي من تقوم بما يعتريه من هيجان أومد أو جزر وغير ذلك. في حين أن الاديان السماوية التي بشّر بها الانبياء ع قد اشاروا ـ عليهم السلام ـ الى إله مفارق للظاهرة الطبيعية وهو من أبدع القانون الطبيعي المقوم لها. يقول جل وعلا ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ . وإِلَى السَّمِآءِ كَيفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الجِبَالِ كَيفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الأَرْضِ كَيفَ سُطِحَتْ﴾[iv]
وعلى هذا ومادام الكهنة هم من أبدعوا الالهة والاساطير لأغراضهم ومصالحهم، وليس عموم الناس الذي يمثلون واقع المرحلة التاريخية، لن تكون ثمة حتمية في أن تنتج الحقبة الزمنية الاولى للبشرية فكرا اسطوريا.
|
الوثنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــة |
النبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة |
1 |
من نسج خيال الانسان ومن طبيعة ماحوله |
يدعو لاله متعال على الوعي الانساني ومتقوم بأسس منطقية |
2 |
ضمن سياق التكوين الاجتماعي |
ثورة تصحيحية لما تسالم عليه المجتمع من افكار واعراف بالية |
3 |
رجالاتها من كهنة وعرافين وسحرة يمثلون الطبقة الاستقراطية ومن ضمن حاشية الملك أو زعيم القبيلة ويلبسون مايدعم مركزيته ومركزيتهم بلباس الدين |
دعوة في صف المظلومين والبسطاء لتغيير حالهم، وقد عاش معظم الانبياء (عليهم السلام) صراعا مريرا مع الملوك والطغاة |
4 |
يعتمد السحر والعرافة |
يعتمد المعجزة |
===========
الهوامش:
[i] قسم كونت الفكر البشري الى ثلاثة مراحل اللاهوتية الاسطورية والميتافيزيقية حيث الفلاسفة والوضعية
[ii] الله للعقاد ص60
[iii] محمد رسول الله\ عبد الحميد جودة السحار ج2
[iv] الغاشية (17ـ20)