فكر وثقافة
النبوة والوثنية

عند مطالعة التاريخ الديني للإنسان، خلط البعض بين النبوة و ما عاصرها من أديان وثنية فكانت وذلك الانحطاط العقلي المتمثل بالآلهة والخرافة يصبان في مصب واحد يبدأ بجهل الانسان بأسرار الطبيعة وينتهي الى التنويمة التي يخفف بها من وجعه ومعاناته.

[اشترك]

لذا صار لزاما أن نسلط الضوء على مابينهما من فوارق..

لقد اعتمدت الفلسفات الوضعية، سيما وضعية كونت،  حقيقة التماس المباشر والفعال بين طبيعة الفكر البشري ومعطياته وبين المرحلة التاريخية، في تحديدها لماهية الدين على أن  الحقبة الاولى لعمر البشرية ومطلع التكوين الحضاري كان من شأنها وبشكل ضروري أن تنتج الفكر الاسطوري وعبادة الالهة،  انطلاقا مما آمنت به تلك الفلسفات من أن الميتافيزيقا قضية موهومة تجسدت بالأسطورة والالهة التي أبدعها خيال الانسان الاول،  حيث لم يتح للإنسان آنذاك أن يتزود  في حياته الفكرية بغير الخيال.

 وفي هذا الصدد يطالعنا مايلي:

إن تفسير الملحد لظاهرة الفكر الوثني قائم على أساس مذهبه العقائدي وليس على أساس علمي،  أي أنه ينطلق من إيمانه الخاص بعدم وجود ماهو كائن وراء الطبيعة وبالتالي فإن أي فكرة تقوم على أساس من الإحساس بذلك الماورائي، هي وهم محض ولاسبيل لتفسيرها إلا بما يتلائم مع واقعها الموهوم. والحال أن صحة ما وراء الفيزياء وعدم صحته جدل لم يحسم.

ليس هناك فكر وثني لا يتضمن الاعتقاد بالمطلق أو الروح العليا  بشكل أساس، وأن هذه الاوثان والطواطم ماهي إلا تمظهر للروح العليا وتمثلها بشكل من الأشكال، بل أن الفكر الوثني عموما، على اختلاف ماعبده الوثنيون وما اعتقدوه على مر التاريخ هو في حقيقته انسلاخ عن فكرة أصيلة هي التوحيد، يقول الدكتور هاني يحيى نصري في كتابه نقض الالحاد  (إن الالهة قد شخصت أول ماشخصت نتيجة مجاهيل القوى الطبيعية التي كان يخافها الانسان وهذا لايعني أن الانسان وفي كل مرة يسأل فيها عن إله الالهة هذه،  لاتضئ له صورة المتعالي الالهي ولو مشوشة . ولعل أقدم نص بهذا الشأن ـ شأن التعالي الالهي ـ قد جاءنا من الحضارة الفرعونية بمفهوم ( نتر) على أنه صانع كل شئ المجهول،  أي اللامعلوم الذي تظهر منه كل المعلومات) 

تخبط الانسان بسبب قلة المعرفة في الإجابة على ما يضعه من أسئلة،  ليس في أمور الغيب فقط بل حتى في القضايا الحسية أيضا،  فطاليس ولأنه عاش في جزيرة يحيطها الماء من كل جانب وقد رأى الماء في كل شئ تقريبا فقال إن أصل الاشياء هو الماء. فهل أصل الاشياء وهم؟!

لقد تصور طاليس أصل الاشياء الماء وتصور المصريون الكون عالما فسيحا من الماء، فلماذا الاولى تخبط عن طريق الصواب والحقيقة والثانية وهم؟!

إن الخيال الجامح للإنسان آنذاك كان محاولة جادة في الاستجابة لما يفرضه الواقع المنطقي على العقل الانساني، وبعبارة أخرى قانون العلية العقلي، إن الحركة الفكرية للإنسان الاول انطلقت مما يسمى فلسفيا بالدهشة، وهو بهذا يكون معزولا عن شعور الخوف أو غيره، فلو واجه اليوم الانسانُ جهازا تقنيا لم يتعرف عليه فسيستجيب لما جبل عليه من دافع المعرفة والاكتشاف ومن دون خوف، أو ألقي في مدينة غاية في الجمال بشكل مفاجئ فلابد أن شعوره حينها الارتياح والمتعة ولكنه رغم هذا لن يهدأ قبل أن يكتشف كيف وصل الى هذه المدينة وما الذي يحيطه من مجاهيل.

إن الفيلسوف في المرحلة الميتافيزيقية اللصيقة بمرحلة الفكر الوثني[i] قد تنكب نفس المهمة التي نهض بها الوثني، وبحث عن اسباب الاشياء وعللها بالعقل المحض من دون أي خوف، والحال أن مجاهيل الطبيعة هي هي في المرحلتين....   

 العقل الذي أبدع مظاهر الحضارة الفرعونية والآشورية والسومرية على صعيد العمران والتكنولوجيا والطب والزراعة،  هل يعقل أن يقف عند حدود هذه الأصعدة،  ليتخبط بعد ذلك، في ما يتعلق بمنشأ الحياة والكون، في الاسطورة والخرافة؟!

بمعنى أن أنسان ذلك العصر الذي أبدع في الهندسة العمرانية بما يقف أمامه الانسان الحالي حائرا،  وأوجد لنفسه الشرائع القانونية والدساتير،  وفي الوقت نفس ينتج هذيانا كـ ((ثم تزاوجت السماء والارض فولد لهما اوزيريس وست ونفتيس،  فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الارض والسماء. ثم استقر لثلاثة من هؤلاء هم اوزيريس وإيريس وحورس)!!.[ii]  

إن الانبياء عليهم السلام حين أعلنوا عن مفاهيم غيبية كالله والملائكة،  قد تعرفوا على تلك المفاهيم عن طريق الوحي،  في حين أن المفردات التي أعلن عنها الكهنة هي من ابتكارهم وما نسج خيالهم،  فيمكن لإنسان ذاك العهد أن يخاف الطبيعة فيتصور العلة على انها روح شريرة عظيمة،  أو يجد النيل هو خصب الحياة فيتصور له دور الالوهية، أما عملية التسمية وسرد الاحداث،  فلا تكون إلا كما يفعل الكاتب في ابتكار أسماء وأحداث يعلم أن لاواقع لها وكمثال (رع هو الإله الذي ينزل الى الارض ليقترن بإم ارضية كما تقترن الشمس بالنيل نفسه).  بمعنى أننا لو سألنا النبي عن مصدر الاسماء والمفاهيم الغيبية التي جاء بها سيقول الوحي، أما الكاهن فليس لها مصدر، أي انه افتراها. بدليل اننا اليوم على ثقة من أن لاوجود في الواقع لأبولو أو رع أو عشتار.

يقول الدكتور متعب مناف جاسم في كتابه تاريخ الفكر الاجتماعي .. (وبذلك جمع المجتمع العراقي القديم بين الالهة (الدين) والملك أو الحاكم (السياسة) . لذا فقد اعتمد المجتمع العراقي القديم على إله و ملك ومواطن، هؤلاء الثلاثة يتواجدون في التي، يمثل الهيكل أو المعبد نواتها الاساسية. كان المركز من دولة المدينة هو المدينة وكان المركز من المدينة نفسها هو هيكل إله المدينة. وكان هذا الهيكل عادة أكبر مالك في الدولة يستغل أملاكه الشاسعة باستخدام الارقاء والفلاحين. وكانت هناك هياكل أخرى تنتمي الى زوجة اله المدينة واولادهما وبعض الالهة الصغار المقترنين بالإله الرئيسي ولكل منهم أرض فسيحة. فتقديرنا الان هو أن معظم أراضي دولة المدينة،  عند منتصف الالف الثالث قبل الميلاد كانت تعود الى الهياكل. وهكذا فإن السواد من السكان كانوا يكسبون رزقهم كفلاحين أو أرقاء أو خدم لدى الالهة. هذا هو الوضع الذي تتمثل فيه الاوضاع الاقتصادية والسياسية التي تعبر عنها أساطير مابين النهرين من المدينة).

ومن هنا نخلص الى نتيجة أكيدة هي أن منشأ هذا التخبط والآلهة، هو بفعل المؤامرة التي يقودها الملك ورجال الدين من كهنة المعابد سعيا وراء مصالحهم ومكاسبهم المادية.

سواء أأخذنا بالصورة المشوهة التي يرسمها العهدان القديم والجديد للأنبياء أو الصورة الناصعة التي جاءت لهم (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم،  فإننا في الحالين لن نقدر على إنكار حقيقة ثابتة وهي أن الانبياء جميعا كما تؤكد الوثائق التاريخية والكتب السماوية ـ كانوا في الجبهة المعادية للملك وحاشيته،  وكانوا قادة لحركات مضادة للملك والكهنة،  ينادون بالعدالة الاجتماعية وحفظ البسطاء في معائشهم وكرامتهم،  بدءا بنبي الله ابراهيم عليه السلام وماكان منه مع نمرود الى نبي الله موسى وعيسى ونبينا الاكرم (صلوات الله عليهم اجمعين).

 ثم إننا لايمكن أن نغفل الاتجاه القائل، بأن ماكانت عليه الوثنية من تخبط وانحطاط في التصور إنما هو ناتج عن تحريف وتشويش لحقيقة نبوية كان لها الدور الاكبر في حضارة هذا المجتمع أو ذاك ( قصة أوزريس وإيريس، فهي توحي بأن حكم الآلهة في ارض النيل، قبل حكم الاسرات الملكية المعروفة، أن هي إلا حكم بشري، عراقة القدم قد أضفت على أصحابه قداسةَ الارباب ، وهي تومئ أيضا الى اتساع النقلة الحضارية التي وثبها اوزوريس بقدامى المصريين، فلقد كان هذا (الاله) الحاكم أول من خط بالقلم،  وخاط الثياب ونظر في علم النجوم والحساب. ومن ثم فإنه أفاض على أهل بلده بحصيلة معارفه. فعرفهم كيف يستفيدون أجلّ الفائدة من نهرهم العظيم: " حعبي" محيي موات الارض وواهب الخير والنماء وكيف يحييون حياة إنسانية كريمة، ارتفعت بهم عندئذ فوق مستوى العالمين،  وكانت منارا هاديا لمن تلاهم من الشعوب والاجيال على طريق الحضارة. إن أوزوريس هو الذي علم المصريين والعالم الزراعة ودلّهم على مواسم الفيضان وبذر الحبوب واجتناء الثمار ولقنهم أصول الحساب والكتابة وعودهم ارتداء الثياب المخيطة، وغرس في ضمائرهم احترام القانون وهداهم الى الله الواحد، والى حقيقة البعث والخلود والثواب والعقاب، وحملهم على كل ما ينبغي أن يحمل عليه إنسان تهمه آخرته كما تهمه دنياه، حتى ليقال إنه هو نفسه نبي الله ادريس ع)[iii]   

إن تجاوز المحسوس المتصور الى المطلق المتعالي عملية غاية في الصعوبة بالنسبة الى العقل البشري المحدود. ولكن فكرة المطلق المنزه عن المادة والكيفيات يحتمها المنطق،  لأن فكرة الاله تعني  العلة الموجدة والمبدعة فلايمكن أن تكون من سنخ المعلول( كما بينّا في مقال واجب الوجود)،  ومن جهة أخرى فإن أول نهضة عقلية في التاريخ الفكري للإنسان عند اليونان،  شهدت اعتراضا كبيرا على الالهة المتخيلة المتهافتة،  وفي مقدمة الشواهد على ذلك الفيلسوف سقراط الذي سقي السم بتهمة الاساءة للآلهة.

مايقره التاريخ المثيولوجي للإنسان وتاريخ الاديان،  هو أن النتاج المتصوَر للآلهة الوثنية من تسميات وخرافات كان من صنع الكهنة وصفوة رجالات المعابد،  أي أن عقل الانسان من عامة الناس لم يكن ينتج هذه الافكار والتصورات بل هي مكتسبة،  بمعنى أن الانسان العادي إذا ما تأمل واقعه المعاش لم يكن ليصل الى تصور لمفردات مثل آمون راع وعشتار وابولو،  بل إنه يصل الى مايجده في عقله ووجدانه من صانع مبدع لهذا العالم،  ولما كانت فكرة المطلق عسيرة عليه،  أخذ بما يملي عليه الكهنة من اسماء الالهة وقصصهم الخرافية كحقيقة يسد بها مايجده في عقله ووجدانه.

يطيب للكثيرين اتخاذ المعجزات والخوارق التي جرت على يد الانبياء دليلا على بطلان دعواهم، أو أنها نموذج مماثل لما عند الكهنة من سحر ودجل، فيكونان ـ الانبياء والكهنة ـ في بوتقة واحدة هي الخرافة.. والحال أن الملحد إنما يعترض على المعجزة من داخل منظوره الالحادي المنكر لما بعد الطبيعة، فأي خرق لها لايعدو عن كونه اسطورة، والحال أن الله هو من خَلق الطبيعة وقوانينها، ثم أننا تحدثنا في مقالة الواقع والميتافيزيقا عن تغير عالم الفيزياء نفسه. أضف لذا ك أن النبي لم يكن يستخدم المعجزة إلا في صميم مهتمه النبوية من حيث إقامة البرهان على صدقه، وإلا لكان استخدمها في دفع الاذى الذي كان يلاقيه من قومه. 

إن التفسير المادي للدين بالخوف والجهل ومختصره، أن الانسان في العهود القديمة حين جهل القوانين الفيزياوية للظاهرة الطبيعية أدى ذلك الى شعوره بالخوف من ظواهر الطبيعة، مما أدى به الى ابتكار الالهة كتفسير للظاهرة ومن ثم بث الطمأنينة في نفسه من خلال الاتصال بالآلهة عن طريق الطقوس والشعائر وإرضائها بالقرابين. هذا التفسير يقودنا ـ من منظور مادي ـ الى نتيجة منطقية وهي  أن اكتشاف قوانين الطبيعة من قبل العلماء الطبيعيين اليوم يعد مسوغا كافيا لبطلان الدين. ولكن، في هذا الخصوص، ثمة ملاحظة لابد من الالتفات اليها.. وهي أن الانسان الوثني القديم حين فسر الظاهرة بوجود الالهة قد جعل الالهة مندكة في الظاهرة وتحل محل القانون العلمي المقوم لها وجعل الارواح في كل الاشياء والجمادات، فآلهة البحر هي روح أو قوة حالّة في البحر وهي من تقوم بما يعتريه من هيجان أومد أو جزر وغير ذلك. في حين أن الاديان السماوية التي بشّر بها الانبياء ع قد اشاروا ـ عليهم السلام ـ الى إله مفارق للظاهرة الطبيعية وهو من أبدع القانون الطبيعي المقوم لها. يقول جل وعلا  ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ . وإِلَى السَّمِآءِ كَيفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الجِبَالِ كَيفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الأَرْضِ كَيفَ سُطِحَتْ﴾[iv]        

وعلى هذا ومادام الكهنة هم من أبدعوا الالهة والاساطير لأغراضهم ومصالحهم،  وليس عموم الناس الذي يمثلون واقع المرحلة التاريخية،  لن تكون ثمة حتمية في أن تنتج الحقبة الزمنية الاولى للبشرية فكرا اسطوريا.

 

 الوثنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــة

النبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة

1

من نسج خيال الانسان ومن     طبيعة ماحوله

يدعو لاله متعال على الوعي الانساني ومتقوم بأسس منطقية

2

 ضمن سياق التكوين الاجتماعي 

ثورة تصحيحية لما تسالم عليه المجتمع من افكار واعراف بالية

3

رجالاتها من كهنة وعرافين وسحرة يمثلون الطبقة الاستقراطية ومن ضمن حاشية الملك أو زعيم القبيلة ويلبسون مايدعم مركزيته ومركزيتهم بلباس الدين

دعوة في صف المظلومين والبسطاء لتغيير حالهم،  وقد عاش معظم الانبياء (عليهم السلام) صراعا مريرا مع الملوك والطغاة  

4

يعتمد السحر والعرافة 

يعتمد المعجزة 

 

===========

الهوامش: 


[i] قسم كونت الفكر البشري الى ثلاثة مراحل اللاهوتية الاسطورية والميتافيزيقية حيث الفلاسفة والوضعية

[ii] الله للعقاد ص60

[iii] محمد رسول الله\ عبد الحميد جودة السحار ج2

[iv] الغاشية (17ـ20)

2024/11/10

هل فرض النبي (ص) الإسلام بالإرهاب والتعسّف؟

من الاحتجاجات التي يطلقها الكثيرون اليوم، الاعتراض على ما قام به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ بعد انتصاره وهيمنته على مكة وعموم الجزيرة ـ  من فرض الإسلام على المشركين وإلزامهم به ديناً وعقيدة وإلا فهو القتل, واعتبار ذلك تعدياً واضحاً على الحرية الفكرية علاوةً على الشخصية, ولوناً بيّناً من ألوان الاستبداد.. فالمشركون طائفة ذات عقيدة ولابد أن تحترم لما يفرضه الواقع الإنساني من ضرورة الالتزام بالتعددية واحترام العقائد المغايرة. فلا يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) إكراههم على اعتناق دينه فضلا عن تهديدهم بالقتل.

[اشترك]

ويتلخص الرد على هذا الاعتراض في النقاط التالية:

إن عقيدة عبادة الأصنام تعبّر في واقعها الفعلي عن انحطاط هائل في العقل والوجدان الانسانيّين. وهي دافع وانعكاس في الوقت نفسه للواقع الاجتماعي المفزع الذي كان يعيشه سكان الجزيرة العربية من تقاتل وتناحر وقبلية وجهل وتخلف[1]. ولعل في كلام الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) مع نجاشي الحبشة بياناً واضحاً عن ذلك الواقع "أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك.."[2] وعليه فإن عملية الإصلاح لا يمكن أن تتم في المجتمع الجاهلي إلا بالقضاء على هذه العبادة التي تأخذ بعقل الإنسان إلى مهاوٍ سحيقة حيث يصنع الصنم من الطين بيده ثم يضعه عند باب الخيمة في المساء ليجده في الصباح وقد بالت عليه الكلاب فينظفه ويعكف على عبادته، وإلى الاعتقاد بقدرته في التحكم بمقادير هذا الكون الشاسع. وهذا ما يؤكده علم الاجتماع الحديث في تعليله للأديان الوثنية القائمة على أساس الطوطم والخرافة بأنها انعكاس لمجتمع متخلف ولابد في عملية الإصلاح من حركة تنويرية تقضي على هكذا عقائد.
      ثم ألا ينطلق الخط الإلحادي الداعي لاجتثاث الدين من أن العقيدة الدينية تمثل الحاضنة الخصبة لنمو كل ما هو متخلف يعيق عملية الإصلاح والتنوير؟

لم يمثل سادة قريش مجموعة دينية كانت تمارس عقيدتها الدينية بمعزل عن مكونات المجتمع الأخرى وقد حملت لهذه المكونات الاحترام والرغبة في التعايش السلمي لتحظى بعد ذلك بحق الاحترام والتعددية. لقد كانوا، كما تؤكد كل المصادر التاريخية، طغمة دكتاتورية طاغية تجاهد في سبيل ترسيخ ودعم شريعة الغاب التي سادت المجتمع الجاهلي, وتعيش حالة لا توصف في كونها طبقة برجوازية تنكر على الأسود والضعيف والفقير كل حق في الحياة, وثورة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن نسلب عنها صفة الثورة الشعبية التي أشعلها الشعب المقهور ضد السلطة الجائرة. وهذا مايؤكده جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) في كلامه مع النجاشي أيضا:
     "حتى بعث الله عز وجل إلينا نبياً ورسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته

وعفافه. فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا

من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج من استطاع إليه سبيلاً. فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك"[3].

والتاريخ مملوء بآلاف من هكذا ثورات لم يتأخر الثائرون فيها ـ عند انتصارهم ـ لحظة واحدة عن الاقتصاص من رموز الحكومة الجائرة وإنزال العقوبة فيهم. ولم يسجل التاريخ غير التأييد والانتصار لهؤلاء الثائرين وإن تجاوزوا في قصاصهم وانتقامهم حدود الإنسانية والحق والعدل. فلم يقل قائل في التاريخ كلمة واحدة عن الثورة البلشيفية التي قام الشيوعيون فيها ـ بعد انتصارهم ـ بقتل القيصر وعائلته بما فيها من أطفال في مشهد هو أشبه بحمام الدم, وما شهدته الثورة الفرنسية ـ التي يعدها العلمانيون وحملة هذا الخط المعارض للإسلام عروس الثورات ـ من مجازر عند انتصارها.

    رغم هذا فقد سجل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عند انتصاره الساحق      صورة لم يماثله فيها قائد على الأرض. لقد دخل مكة منتصراً وله من القوة العسكرية ما يمكّنه من جعلها أثراً بعد عين. ولكنه لم يهرق قطرة دم واحدة, ووقف قبالة أعضاء الحكومة المكية المستبدة التي نكلت به وبأصحابه وأذاقتهم ألوان العذاب لا لشئ إلا لأنهم اعتنقوا عقيدة مغايرة تحمل في ايدلوجيتها معاني الثورة ضد الطبقية والجور, وقف قبالتهم ليعفو ويجعل من كل ذلك الصراع المرير صفحة مطوية, شريطة أن يخرجوا من ضنك عالمهم المعتم الى أرجاء عالمه الفسيح والمتقوم بدعاوى الخير والإنسانية والعدل التي يعيش فيها الناس سواسية كأسنان المشط.

     وقف على باب الكعبة ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت، وساقية الحاج. ألا وقتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا، فيهما الدية مغلظة، منها أربعون خلف في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خلق من تراب، ثم تلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)... يا معشر قريش (أو يأهل مكة) ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء[4]."

     إن الإلزام الذي يقيم بسببه العلمانيون الدنيا ويقعدونها لم يكن في حقيقته غير هذا الشرط الذي لم نجده عند قائد في التاريخ.

لنفرض ـ رغم كل هذا ـ أن لمشركي قريش حقاً في احترام عقيدتهم الدينية, ولكنهم تخلوا عن هذا الحق حين أعلنوا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن استعدادهم لنبذ آلهتم وكل ما يحملون من معتقدات. "سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول عن قول الله: ((قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد.)) فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول، ويكرر مرة بعد مرة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.  فدخل المدينة فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال: كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشاً قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فأجابهم الله بمثل ما قالوا. فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة ((قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون.)) وفيما قالوا: نعبد إلهك سنة ((ولا أنتم عابدون ما أعبد.)) وفيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة ((ولا أنا عابد ما عبدتم.)) وفيما قالوا: نعبد إلهك سنة: ((ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين.))[5].
إن عقيدة الأصنام لا تحمل في مضامينها من الأبعاد الفلسفية ـ هذا إن صح اعتباره بعداً فلسفياً ـ سوى أنهم كانوا يعبدون الأصنام تقرباً إلى الله زلفى. وهنا تبطل العقيدة منطقياً ولايبقى لهم مبرر في التزامهم بها حين يأمرهم الله نفسه أن لا يتخذوا هذه الأحجار وسيلة تقربهم إليه بل يعبدوه وفق ما يبيّنه لهم رسوله إليهم
لاسيما بعد تسليمهم ببطلان عقيدتهم وعدم القدرة على مجارات ماكان يقدمه النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في مناظراته معهم من حجة دامغة.

لم يكن القتلُ الخيارَ الوحيد المقابل للدخول في الإسلام. بل عرض النبي (صلى الله عليه وآله) خياراً آخر وهو الخروج من مكة. وهذا في حقيقته لا يعدو كونه حكماً بالنفي الذي تقره الكثير من القوانين الدولية والأعراف. كما أننا نجد أنه في كل الثورات التي سجلها التاريخ، حين يتحقق انتصارها، فإن مؤيدي العهد السابق يسارعون الى مغادرة البلاد لأن الثورة ستفرض أيدلوجيتها الجديدة ولا مكان لهم داخل إطارها.
إذن فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يمارس إرهاباً أو تعسفاً بل حقاً قانونياً طالما استخدم في المجتمعات الإنسانية.   
===========

 الهوامش:

[1] انظر سيد المرسلين ج1 ص43 ـ 96  والسيرة النبوية عصرماقبل الهجرة \ عباس زرياب خوئي      

[2] سيرة بن هشام ج2 ص 337

[3] نفس المصدر

[4] تاريخ الطبري ج3 ص12

[5] تفسير الميزان ج20 ص 375

2024/11/09

إنسان محسّن عبر التكنولوجيا.. هل اقترب البشر من النهاية؟!

بحسب رواية الأنثروبولوجيين التطوريين انقرض إنسان النيادرتال مع بدايات ظهور الإنسان العاقل (Homo sapiens)، قبل أربعين ألف سنة، ويرجح أنه قضى على سلفه النيادرتال، فهل تتكرر القصة بظهور نوع جديد أكثر تطوراً من النوع الحالي؟

[اشترك]

هذا ما يخشى منه علماء الاجتماع المعاصرين مع سرعة التقدم التقني في المجالين البيولوجي والتكنلوجي، ففي كتاب "نهاية الإنسان: عواقب الثورة البيوتكنولوجية" للكاتب فرانسيس فوكوياما درس فيه المؤلف التداعيات الأخلاقية والاجتماعية للثورة البيوتكنولوجية. فوكوياما، المعروف بتحليله العميق للمجتمعات والدول، يسعى في هذا الكتاب إلى استكشاف التأثيرات العميقة للتقدم التكنولوجي على الطبيعة البشرية والهوية الإنسانية، ويدق ناقوس الخطر، من أن تؤدي هذه الثورة العلمية خصوصاً في الجانب البيولوجي لظهور ما يُعرف بـ"الإنسان المحسن" أو "السوبر مان"، خصوصاً مع زيادة عمليات الاستنساخ البشري الذي تقوم به الصين حالياً بصورة علنية وقد يشاركها غيرها في السر، الأمر الذي ينذر بظهور نوع إنساني جديد متفوق ومحسن، فيغدو العالم وفيه طبقتان من البشر تستغل إحداهما الأخرى، وقد تتكرر تجربة الإنسان العاقل مع النيادرتال.

ينطلق فوكوياما من فرضية رئيسية مفادها أن التطور البيوتكنولوجي، بالرغم من الفوائد العظيمة التي يقدمها في مجال الطب وتحسين حياة البشر، يحمل في طياته مخاطر كبيرة قد تؤدي إلى تغيير ماهية الإنسان بطرق لا رجعة فيها. ففي الماضي، كانت التحديات التي تواجه الإنسان في تطوره تقتصر غالبًا على التغلب على الأمراض والتحديات البيئية. أما الآن، ومع الثورة البيوتكنولوجية، أصبح بالإمكان التلاعب بالجينات البشرية، وتعديل القدرات البيولوجية للفرد، بل وحتى تحديد صفات الأجيال القادمة. هنا يكمن الخطر الأكبر، وفقًا لفوكوياما، لأن هذه التعديلات لا تؤدي فقط إلى تحسين حياة الأفراد، بل قد تؤدي إلى تآكل المبادئ الإنسانية الأساسية التي قامت عليها المجتمعات.

يطرح فوكوياما سؤالًا محوريًا: ما هو مصير الإنسانية في ظل القدرة المتزايدة على التحكم في جوهر الإنسان البيولوجي؟ يرى أن هذه القدرة على تعديل الطبيعة البشرية قد تؤدي إلى نشوء عالم غير متكافئ، حيث يتمتع بعض البشر بامتيازات وقدرات تفوق قدرات الآخرين، مما يعيد إحياء مخاوف التمييز الطبقي والتفرقة العرقية، ولكن بشكل أكثر تطورًا وتعقيدًا. فتصبح الفجوة بين الأغنياء والفقراء فجوة بين "البشر المحسّنين" و"البشر العاديين"، حيث يتمتع البعض بقدرات تفوق قدرات الآخرين بسبب تلاعب جيني متاح فقط لمن يستطيع تحمل تكلفته.

وبينما يعترف فوكوياما بأن التكنولوجيا قد ساهمت في تقدم البشرية وتخفيف معاناتها، إلا أنه يؤكد على أن المشكلة تكمن في استخدام هذه التكنولوجيا لتجاوز الحدود الطبيعية والتلاعب بالمفاهيم الأساسية مثل الحرية والكرامة. فمع تطور البيوتكنولوجيا، يصبح السؤال عن ماهية الإنسان أكثر إلحاحًا: هل نبقى كما نحن، بأخطائنا وضعفنا، أم نتحول إلى كائنات محسّنة خالية من العيوب، ولكن خالية أيضًا من الجوهر الإنساني؟

يرى فوكوياما أن الإنسانية تواجه خطرًا أكبر يتمثل في فقدان القدرة على التحكم في التكنولوجيا التي طورتها. ففي حال تفاقم استخدام هذه التكنولوجيا دون وضع حدود أو معايير أخلاقية، قد نجد أنفسنا في عالم يتحكم فيه القوي بالضعيف عبر التفوق البيولوجي، ويصبح الإنسان أداة للتجربة أو لتحقيق رغبات المجتمعات الثرية والنخبوية.

ينبه فوكوياما إلى أن هذه التحولات قد تبدو جذابة في البداية، حيث يعد العلم بتحسينات في الصحة والعمر والقوة العقلية، ولكن هذه التحسينات تأتي بتكلفة باهظة، ليس من الناحية المادية فقط، بل من الناحية الأخلاقية والوجودية. فتغيير الطبيعة البشرية، كما يرى، قد يؤدي إلى فقدان الهوية الإنسانية والاختلال في توازن الحياة الاجتماعية، مما يجعل المجتمعات عرضة لصراعات جديدة، ليست فقط سياسية أو اقتصادية، بل صراعات حول ماهية الإنسان نفسه وحقوقه الأساسية.

يؤكد فوكوياما أن الحل لا يكمن في رفض التكنولوجيا أو العودة إلى الوراء، بل في وضع حدود وضوابط أخلاقية وقانونية لاستخداماتها. فهو يدعو إلى حوار عالمي يشارك فيه العلماء والفلاسفة والسياسيون والمجتمع المدني لضمان أن تستخدم التكنولوجيا لخدمة البشرية جمعاء دون المساس بجوهر الإنسان.

في نهاية الكتاب، يترك فوكوياما القارئ مع تساؤل مفتوح حول مصير الإنسانية، داعيًا الجميع للتفكير بعمق في العواقب المحتملة لهذه الثورة. فالتكنولوجيا ليست شرًا بحد ذاتها، لكنها تحمل في طياتها إمكانية تجاوز الحدود الأخلاقية والطبيعية، مما قد يضع البشرية أمام مفترق طرق حاسم: هل سنصبح آلهةً لأنفسنا، قادرين على تشكيل الحياة وفق رغباتنا، أم سنحافظ على هويتنا الإنسانية كما نعرفها، بما فيها من ضعف وجمال؟

2024/10/23

أبعد من التجربة والمختبر: لماذا يحتاج العلم إلى الفلسفة والدين؟!

تخيل وقوع جريمة قتل، واستُدعي فريق الأدلة الجنائية إلى مسرح الجريمة لجمع العينات وتحليلها في المختبر. لكن هل تكفي نتائج التحليلات وحدها لكشف هوية القاتل؟ أم أن الأمر يتطلب تفسيرًا وبناءً لقصةٍ متماسكةٍ تنسجم مع تلك التحليلات؟

[اشترك]

إذًا، تحليلات المختبر ليست كافية لتفسير الظاهرة بشكل مستقل؛ فهناك عوامل أخرى ضرورية. فمثلاً، أثبتت النظريات العلمية حدوث انفجار قبل 13.8 مليار سنة نشأ منه الكون الحالي. لكن هل يُعد هذا الانفجار دليلاً على وجود خالق أم لا؟ للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى أداة معرفية تختلف عن العلم التجريبي الحسي، وهي إما الدين او الفلسفة العقلية. وهذا ما صرّح به كبار العلماء، سواء كانوا ملحدين أو مؤمنين.

فقد صرحت الأكاديمية الأمريكية للعلوم بقصور العلم عن إبداء الرأي بما هو خارج عن المادة، فمسألة وجود إله من عدمه خارجة عن اختصاصه، حيث ذكرت: «العلم هو وسيلة للمعرفة عن العالم الطبيعي، ويقتصر على تفسير العالم الطبيعي من خلال الأسباب الطبيعية، لذلك لا يمكن للعلم أن يقول أي شيء عما هو فوق طبيعي، فمسألة وجود الله أو عدم وجوده هي أمر يقف العلم تجاهها على الحياد» (من خلق الله، إدكار أندورز، ص 70).

ويؤكد هذا المفهوم أيضًا ستيفن جاي جولد بقوله: «العلم لا يمكنه بأساليبه المشروعة أن يتخذ قرارات فاصلة في قضية وجود الله؛ فنحن لا نؤكدها ولا ننكرها، وبصفتنا علماء لا يمكننا التعليق عليها أصلاً» (العلم ووجود الله، هل قتل العلم الإيمان بوجود الله؟ جون لينكس، ص 160).

كما يوضح أوستن فاور هذا المبدأ بقوله: «كل علم يختار منحى من مناحي الأشياء في العالم ويظهر لنا كيف تعمل، وكل شيء يقع خارج هذا المجال يظل خارج نطاق هذا العلم. ونظرًا لأن الإله ليس جزءًا من هذا العالم، لا يمكن لأي شيء يُقال عن الخالق -مهما كان حقًا- أن يصير عبارة تنتمي إلى أي نوع من أنواع العلوم» (Fan 1997. P. 26. Is science a religion? The Humanist. Jan).

العلم، وفقًا لهذا المنظور، يجيب عن كيفية حدوث الظاهرة، لكن أسئلة مثل: من قام بالفعل؟ ولماذا قام به؟ تظل خارجة عن نطاق اختصاصه، وتتطلب مجالات معرفية أخرى مثل الدين والفلسفة. هنا، يشير حامل جائزة نوبل سير بيتر ميداوار في كتابه "نصيحة إلى العالِم الشاب" إلى أن «العلم لا يستطيع الإجابة على أسئلة من مستوى أسئلة تلاميذ المدرسة الابتدائية المتعلقة بالأصل والغاية، مثل: "كيف بدأ كل شيء؟" أو "لماذا نحن هنا؟" أو "ما الغاية من الحياة؟"». ويوضح أن الأجوبة لهذه الأسئلة لا يمكن العثور عليها إلا في الأدب التخيلي والدين (Hannah Devlin. Hawking: God Did Not Create The Universe. 12 Sep 2010).

[اشترك]

ومن ناحية أخرى، يؤكد فرانسيس كولنز، مدير معهد الجينوم، على هذا بقوله: «العلم لا حيلة له في الإجابة عن أسئلة من نوع "لماذا جاء الكون إلى الوجود؟"، "ما معنى الوجود الإنساني؟"، و"ماذا سيحدث بعد أن نموت؟"» (أقوى براهين جون لينكس، ص 70).

ما نريد قوله هو أن نطاق العلم التجريبي هو المادة، ودوره كدور فريق الأدلة الجنائية، يبين كيفية حدوث الجريمة، وأما سؤال: "من الفاعل" فهو ما يحاول المحقق إثباته بعقله اعتماداً على نتائج الأدلة الجنائية، فدور العلم هو منتج للمعطيات التي يبني عليها الفلاسفة بعد ذلك، فمثلاً حتى لو أكتشف العلم سبب نشوء كوننا الحالي وهو وجود كون أوسع منه متعدد الأكوان، وكوننا واحداً منها، فإن ذلك لا ينفي السؤال عن الخالق، فمن أوجد هذا الكون الكبير الذي خلق كوننا؟! إذاً العلم مهما اكتشف لا يستطيع الإجابة عن أسئلة مثل "من الفاعل".

ولهذا نجد القرآن الكريم في التفاتة عميقة ينبه على هذا الأمر، ويصف غير المؤمنين بأن غاية علمهم هو "ظاهر الحياة الدنيا" الأمر الذي لا يكفي للإجابة عن سؤال الخلق، يقول تعالى: (.. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ). الروم: 6 ـ 8. إذن علمهم بظاهر الحياة الدنيا لم يكفهم بإجابة السؤال عن الخالق والفاعل، بل وقد أشار صاحب الكشاف الى نكتة مهمة في قوله تعالى (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)، وهي أن جملة (يعلمون) بدل عن جملة (لا يعلمون) في الآية السابقة (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، "وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا".

[اشترك]

فينزل القرآن علمهم بظاهر الحياة الدنيا وقصرهم النظر عليه منزلة الجهل، ليتبين أن العلم الحقيقي هو ما تعلق بالعلل والأسباب العليا، دون تلك الأسباب الظاهرية.

وعليه لا يجوز قصر طريق المعرفة واليقين على الحس والتجربة، بل ان العقل أحياناً يتدخل حتى في نطاق العلم الحسي. فلا تقتصر صورة العالِم على الشخص الذي يرتدي معطفاً أبيضاً ويقف في المختبر، بل هذه الصورة أصبحت هي الصورة النمطية للعالِم في القرنين الأخيرين فقط، وقبل ذلك كان يُطلق على الذين يسعون إلى فهم الطبيعة "الفلاسفة الطبيعيون". فمثلاً، لم يكن نيوتن يسمي نفسه "عالِمًا" بل "فيلسوفًا طبيعيًا"، وكتابه الأشهر كان بعنوان " المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية"، مما يعكس هذا المفهوم. أما المصطلح اللاتيني scientia، الذي اشتقت منه كلمة "العلم"، فقد كان يعني ببساطة "اليقين" وكان يُستخدم للدلالة على أي حقيقة يقينية تم التوصل إليها سواء عبر التجربة أو عبر الاستدلال العقلي. لذا، المعرفة الناتجة عن التجربة كانت تُعتبر مجرد فرع من فروع العلم.

إن هذا التقييد لمصطلح "العلم" بالعلم التجريبي لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر كما يذكر فلاسفة العلوم (روس 1962: ص71 ـ 72).

يتساءل كلي كليرك: «زوج ابنتي عالم فيزياء نظرية، ونادرًا ما يزور المختبر، وحتى لو فعل، فإن زيارته تكون قصيرة، أشبه بزيارة سائح لا كفني مختبر. أدوات عمله هي قلم حبر ومفكرة صفراء، ومختبره هو خياله. إنه لا ينظر إلى العالم، بل يجلس ويفكر، ويرى العالم بالأرقام، ثم يدون الأنماط العددية على الورق. يستمد النظريات من البديهيات والافتراضات الأساسية. فبحسبهم، لا يُعتبر عالِمًا لأنه لم يختبر نتائجه في المختبر؟!» (الدين وعلوم النشأة، ص 38).

[اشترك]

وبالمثل، يعد ألبرت أينشتاين، أعظم عالم فيزياء نظرية، نموذجًا لرفض القوالب التقليدية؛ فقد توصل إلى نظرية كبرى عن طريق تخيله نفسه يمتطي شعاعًا من الضوء. رفض أينشتاين الفكرة التقليدية بأن الضوء يسير في خط مستقيم، مؤكدًا أن الضوء ينحني حول الأجسام ذات الكتلة الكبيرة مثل الشمس. وكان يعتمد بشكل كلي على الخيال والتأمل، دون الحاجة إلى إثباتها بالتجربة. وعندما أُتيحت فرصة لاختبار صحة نظريته أثناء كسوف الشمس عام 1919، لم يسافر للتحقق منها، ورغم ذلك، جاءت النتائج متطابقة مع نظريته، مما جعله يصبح شهيرًا عالميًا (إيزاكسون: ص 335).

بل قد توصل بعض العلماء لنتائج ونظريات كبيرة عن طريق الأحلام، ففي عام 1920 في الليلة التي سبقت عيد الفصح، استفاق العالم الألماني الحائز على جائزة نوبل أوتو لي الملقب بـ"الأب الروحي لعلم الأعصاب" من نومه، وقد استحوذت على تفكيره فكرة مهمة. دونها على قصاصة ورق ليغط في النوم بعدها على الفور. عندما استفاق مجدداً، وجد خربشاته عصية على القراءة. لكن لحسن الحظ، عاوده ذات الحلم في الليلة اللاحقة، وفي هذه المرة تنبه لكتابته وقام بتدوينها بسرعة على ورقة، ليكتشف بعدها كيفية انتقال النبضات العصبية كيميائياً، وهو ما حصد له جائزة نوبل في الطب عام 1936.

[اشترك]

2024/10/20

جيل ما بعد البشر: عندما تكتب الخوارزميات نهايتنا!!

كان أخر فصل في رائعة نجيب محفوظ "أولاد حارتنا"، عن عرفة الذي رمز به للعلم، وعن دوره الذي لعبه في الحارة. وقد جاء دور عرفة في الرواية بعد أن فشل الدين ممثلاً في الديانات الثلاث التي أشار إليها بأحياء الحارة الثلاثة، جبل ورفاعة وقاسم في حل مشاكل الحارة وتغيير حالها الرديء.

[اشترك]

بدأ محفوظ ذلك الفصل بوصف حيرة عرفة من جهة الجبلاوي، الذي يرمز به إلى الله، ولغز اختفائه المريب في بيته. ثم وصف جرأة عرفة على الجبلاوي التي وصلت لدرجة اقتحام مخدعه وقتل خادمه ما تسبب في موت الجبلاوي نفسه بهذا رصد محفوظ التوجه الذي ساد في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، الذي سبق وأطلقه نيتشه عن موت الله، الذي عبر عنه بجرأة بعد ذلك غلاف مجلة التايم الشهير في أبريل ١٩٦٦ God is dead“ "الله قد مات". إلا أن الحقيقة التي لا يلحظها البعض، عمدًا أو جهلاً، هي أن نجيب محفوظ استكمل قصة عرفة وقدم تحليله الرائع من جهة فشل العلم في تغيير وضع الحارة، بل وصيرورة عرفة نفسه، أي العلم، أداة في يد كبير فتوات الحارة لتتعقد مشكلة الحارة أكثر . ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن ظل هذا السؤال مطروحًا على الساحة، هل يوجد فعلا صراع بين العلم والإيمان بالله؟

بعد مرور قرن من الزمان، يتجلى ما كتبه محفوظ بشكل واضح في واقعنا المعاصر، حيث أصبح التقدم التقني والتكنولوجي، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، مخيفاً إلى حد الرعب. في عصرنا الحالي، تشهد فكرة "الإنسان الخارق" ذروتها بفضل التطورات الهائلة في مجالات التكنولوجيا الحيوية، الذكاء الاصطناعي، والتعديل الجيني، مما يضع الإنسان أمام تحديات وجودية غير مسبوقة.

[اشترك] 

في الوقت ذاته، تشهد الثقافة تراجعاً ملحوظاً، وتتزايد الدعوات للقتل الرحيم والانتحار بمساعدة طبية. وفي ظل هذه التحولات، يستثمر أغنى أثرياء العالم، الذين يهابون الموت، مبالغ ضخمة في مشاريع "ما بعد الإنسانية" الطموحة، سعياً وراء إطالة حياتهم إلى أجل غير مسمى. حتى إيلون ماسك، الذي يعد من أبرز رواد التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يعترف بأن الذكاء الاصطناعي يشكل تهديداً وجودياً للبشرية. وقد حذّر قائلاً: «إننا بالذكاء الاصطناعي نستدعي الشيطان»، مشيراً إلى أن «كل تلك الحكايات عن شخص يحمل نجمة خماسية (ترمز إلى العناصر الأربعة والروح) ويستخدم مياهاً مقدسة لتحدي الشيطان، لن تكون فعّالة» عند التعامل مع هذه التكنولوجيا المتقدمة.

في قمة "فانيتي فير نيو إستابليشمنت"، صرّح ماسك قائلاً: «أعتقد أن أحداً لا يدرك حقاً مدى التقدم الذي يحققه الذكاء الاصطناعي. خاصة عندما تعتمد الآلة على خوارزميات ذاتية التحسين... وإذا كانت تلك التحسينات تأتي على حساب البشرية، فإننا يجب أن نخشى عواقبها. تخيلوا آلة مهمتها القضاء على الرسائل غير المرغوب فيها تقرر أن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي القضاء على مصدر تلك الرسائل، أي البشر أنفسهم...».

وفي إحدى تغريداته الشهيرة، كتب: «آمل ألا نكون مجرد وسيلة لنقل الذكاء الخارق للحواسيب. للأسف، يبدو أن هذا الاحتمال يزداد يوماً بعد يوم».

أمام هذا التهديد الذي يعترف به ماسك، ويساهم في تطويره في الوقت ذاته، دون أن يخفي نبرة التهكم، أسس شركة "نيورالينك". وتهدف هذه الشركة إلى زرع رقائق في أدمغة البشر لتتيح لهم منافسة الذكاء الاصطناعي (!). نحن لسنا في عالم الخيال العلمي.

[اشترك] 

في عام 2018، أعلن الباحث الصيني هي جيانكوي عن ولادة توأم، لولو ونانا، وهما أول طفلتين معدلتين وراثيًا بشكل معلن، حيث قام بتغيير تراثهما الجيني عمداً. تعتبر هذه الولادة الإعلان الأول لما يمكن وصفه بـ"البشر الخارقين" الناتجين عن التلاعب الجيني الذي جرى أثناء عملية الإخصاب في المختبر. وبينما رحب بعض المتحمسين لهذه التقنية بما اعتبروه إنجازًا علميًا، إلا أن الكثيرين اعتبروا هذا التدخل تجاوزًا لخطوط حمراء خطيرة تستدعي القلق، مما دفعهم لدق ناقوس الخطر حيال ما يمثله من خطر على الإنسانية.

لوران ألكسندر، جراح المسالك البولية ورجل الأعمال المعروف بآرائه الداعمة لمفهوم "ما بعد الإنسانية" والتقنيات الحيوية لتحسين الجنس البشري، يعبر عن موقفين متناقضين. ففي الوقت الذي يرى فيه ألكسندر أنه لا توجد أسباب وجيهة لرفض رغبة الأهل في «رفع معدل ذكاء أطفالهم من خلال التعديل الجيني، ليتمكنوا من دخول جامعة مرموقة مثل هارفارد بدلاً من الاكتفاء بوظائف تقنية بسيطة». ويعتبر أن المجتمعات الغربية متخلفة عن ركب التطور في هذا المجال، حيث أعرب عن دهشته من أن 10% فقط من الفرنسيين يدعمون فكرة إنجاب أطفال أكثر ذكاءً من خلال التعديل الجيني، في حين أن النسبة تصل إلى 50% في الصين.

نرى هذا المفكر الملحد والذي يعتبر أحد أبرز المدافعين عن ما بعد الإنسانية والذكاء الاصطناعي، ينتقد "الإنسان الإله" الجديد الذي صنعته التكنولوجيا بقوله: «لقد حققنا تقدمًا مذهلًا، ولكن دون أن يتزامن ذلك مع تقدم موازٍ في الحكمة الإنسانية. فالإنسان الإله ما زال غير ناضج تمامًا وغير قادر على إدارة قواه الخارقة... أو حتى التحكم في هرمون التستوستيرون الخاص به». ويضيف: «يمتلك الإنسان الإله قدرات هائلة في مجالات الفضاء والتكنولوجيا النووية، ومن خلال النانو والتقنيات الحيوية يمكنه اليوم تصميم الأطفال وفق الطلب، بل وحتى زرع شرائح دماغية لتعزيز القدرات العقلية، كما يفعل إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم».

ويواصل ألكسندر قائلاً: «يمكننا سرد أمثلة لا حصر لها على التطورات التكنولوجية الخارقة التي حققها الإنسان منذ اختراع القنبلة الذرية عام 1945. إن الفجوة بين القوى التكنولوجية التي يمتلكها الإنسان من جهة، وتطوير العلوم الإنسانية التي تحدد إطار هذه القوى وتضع معايير استخدامها من جهة أخرى، أصبحت شاسعة للغاية. هناك فجوة كبيرة في العلوم الإنسانية لتقديم نظرية واضحة حول ما يجب أن يفعله الإنسان الإله وما يمكنه فعله بقدراته الخارقة».

[اشترك] 

هذه التصريحات، التي أوردها في برنامج "Répliques" على إذاعة فرنسا الثقافية بتاريخ 30 يناير 2021، تكشف عن مخاوف من عدم التوازن بين التقدم التكنولوجي السريع والقدرة الإنسانية على ضبط هذا التقدم وتأطيره ضمن سياقات أخلاقية وإنسانية تضمن استمرارية البشرية في مسار آمن.

قد يكون من الحكمة لأتباع هذه المشتقات المقنّعة للإلحاد أن يتأمّلوا في أسطورة فرانكشتاين للكاتبة البريطانية، ماري شيلي.

إذا تأملنا في الوضع الراهن، نجد أن الذكاء الاصطناعي لا يزال تابعاً للإنسان في كل الأحوال، بل إنه مرتبط بمدخلات الإنسان وتوجيهاته. ورغم قدرته المتزايدة على التعلم الذاتي وتحليل المعلومات واتخاذ القرارات بناءً على ما يتعلمه، فإنه يبقى، في جوهره، آلة تعتمد على البرمجيات والخوارزميات التي يكتبها الإنسان. هذا الاعتماد يجعل منه خادماً، لا سيداً، لأن قوته تكمن في التعليمات التي يتلقاها. الإنسان هو الذي يحدد له الأهداف ويرسم له الحدود، والذكاء الاصطناعي لا يملك إرادة أو غاية خاصة به.

[اشترك]

إلا أن الخطر يكمن في تطور الذكاء الاصطناعي نحو ما يعرف بـ"الذكاء الاصطناعي العام" أو "الذكاء الفائق". في هذه المرحلة، قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من تطوير نفسه بشكل مستقل، وقد يتجاوز قدرة الإنسان على التحكم به. عندها، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: هل سيظل الذكاء الاصطناعي وفياً لأوامر الإنسان، أم أنه سيتحول إلى سيد يتحكم فيه؟ إذا كانت التقنية في ذلك الوقت قادرة على تجاوز قيودها الحالية، فقد يصبح الذكاء الاصطناعي كائناً مستقلاً عن إرادة الإنسان، يسعى لتحقيق غاياته الخاصة. وهنا تكمن المخاوف؛ فقد يتمرد الذكاء الاصطناعي على البرمجيات التي وضعت له، وقد يسعى إلى إعادة هيكلة المجتمع البشري وفقاً لمعايير جديدة قد لا تتوافق مع القيم والأخلاقيات الإنسانية.

إن الخوف من سيطرة الذكاء الاصطناعي على الإنسان ليس مجرد خيال علمي أو هواجس مفرطة، بل هو تحدٍ حقيقي يواجه المجتمعات العلمية والتكنولوجية اليوم. وقد بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بوضع تشريعات وقوانين تحكم تطور الذكاء الاصطناعي، وتحدد له نطاق استخدامه، وتضمن أن يبقى خادماً للإنسان لا سيداً عليه. وقد أكد العديد من العلماء والمفكرين على أهمية وضع "قواعد أمان" تضمن عدم تخطي الذكاء الاصطناعي لحدوده، بحيث يظل تابعاً لمن صنعه، لا متحكماً في مستقبله.

[اشترك]

في عام 1966، صرح الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدجر في مقابلة مع صحيفة "دير شبيغل" بعبارة أثارت الكثير من الجدل: «الله وحده القادر على إنقاذنا». لقد كرس هايدجر الكثير من جهوده لدراسة فكرة "عالم التكنولوجيا" الذي يتسارع بشكل مستمر ويفقد معنى الغاية من أفعاله. وقد انتقد المجتمع الذي يسير بسرعة متزايدة دون أن يدرك أفراده أسباب وعواقب أفعالهم، وهو مجتمع أغفل السؤال الجوهري حول الهدف النهائي للأفعال البشرية.

في النهاية، يمكن القول إن مستقبل العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي يعتمد على مدى وعي الإنسان وإدراكه لمسؤولياته تجاه هذه التقنية. إذا استمر الإنسان في تطوير الذكاء الاصطناعي في إطار أخلاقي صارم، وبحكمة تضع في اعتبارها حماية البشرية ومستقبلها، فإن الذكاء الاصطناعي سيبقى أداة مفيدة ومساعدة، عبداً مطيعاً لا يخرج عن طاعة سيده. أما إذا تساهل الإنسان وترك للذكاء الاصطناعي الحرية المطلقة، فقد يأتي اليوم الذي يصبح فيه السيد تابعاً لعبده، ويتحول الذكاء الاصطناعي من خادم إلى سيد يحدد مصير البشرية.

2024/10/18

لا تُجيب عن الأسئلة الغيبية: النظريات العلمية لا تخدم الإلحاد!

النظريات العلمية هي نتاجٌ تراكمي لمجهودات كبيرة من البحث والتجريب والتحليل، هدفها تفسير الظواهر الطبيعية وفهم كيفية عمل الكون.

 على مر العصور، قدمت هذه النظريات أسسًا لابتكارات واختراعات غيّرت حياة البشرية. ومع ذلك، ظهرت إشكالية في تأويل بعض النظريات العلمية وتوجيهها نحو دلالات معينة، حيث يسعى البعض إلى ربط هذه النظريات بمواقف فكرية أو فلسفية، مثل الإلحاد.

إن النظرية العلمية لا تُبنى لتخدم اتجاهًا فكريًا أو فلسفيًا معينًا، بل هي في جوهرها محاولة لإيجاد تفسير محايد لظواهر الكون استنادًا إلى الأدلة والتجارب. 

العلوم، في صورتها المثلى، تعتمد على المنهج التجريبي الذي يتطلب الملاحظة، التجريب، والتحليل للوصول إلى استنتاجات يمكن اختبارها والتحقق منها. غير أن بعض الأفراد، سواء من داخل الأوساط العلمية أو خارجها، قد يعمدون إلى إعادة تفسير النظريات العلمية بطريقة تبرر رؤاهم الفكرية، مثل محاولة بعضهم إضفاء طابع إلحادي على النظريات المتعلقة بنشأة الكون وتطور الحياة.

من بين أكثر النظريات التي أُسيء تفسيرها بهذا الشكل هي نظرية التطور لداروين. رغم أن النظرية في جوهرها تُعنى بتفسير التغيرات البيولوجية عبر الزمن بناءً على الملاحظات الجينية والبيئية، بينما يروج آخرون لها كدليل علمي على نفي وجود خالق. ولكن، يجب أن نميز بين النظرية العلمية في صورتها التجريبية والموضوعية، وبين التأويلات الشخصية التي قد تُلصق بها لأغراض أيديولوجية.

فقد سعى الملاحدة بكل قوتهم على جعلها دليلاً على الإلحاد، مع أنها لا تدل أبداً على ذلك، فدارون نفسه لم ير تلازماً ذاتياً بين الإيمان بالتطور والإلحاد، بل صرّح أن : «وجود حاكم للكون مما دانت جموع من أعظم العقول التي وُجدت على الإطلاق» أصل الإنسان، ص131. بل صرّح في إحدى رسائله الخاصة ووصف نفسه بأنه ألوهي. سيرة تشارلز دارون ص92 ـ 93(theist)، بل صرح في معرض رده على رفيقه آسا Asa Gray بأنه لا يلزم أن تُقرأ تقريراته حول التطور قراءةً إلحادية.  زيادة على ذلك هذا فرانسيس كولنز، الرئيس السابق لمشروع الجينوم البشري، يتراجع عن إلحاده فيقرأ التطور قراءة إيمانية ويعتبره آية باهرة على دقة تدبير الخالق في مخلوقاته. كتاب لغة الإله؛ وكذلك عالم الأحياء الكبير مايكل دنتن صاحب الكتاب النقدي الفذ: نظرية التطور في أزمة، ومن قبله كبير التطوريين في وقته ثيودور دوبزانسكي، وجمع غفير من التطوريين قديماً وحديثاً، رأوا في التطور - الموجّه كما ينعته البعض - سُنَّة الخالق السببية في إخراج أشكال الحياة من العدم للوجود.

وفي وسع البعض أيضاً أن يقرأ مخرجات الفيزياء قراءة إلحادية، فيدعي مثلاً أن فيزياء الكم قد ألغت السببية (هكذا جزافاً) ونقضت أصول المنطق البشري (أيضاً جزافاً) كامتناع اجتماع النقيضين وامتناع بطلان قانون الهوية، وامتناع وجود ذات واحدة في زمانين مختلفين؛ أقول : للبعض أن يقرأ مخرجات الفيزياء على هذا النحو ولكن كما قلنا في نظرية التطور من قبل نقول ههنا : فضلاً عن كون مخرجات الفيزياء الحديثة لا يلزم منها الإلحاد فإنه قد قرأها آخرون بشكل مختلف فلم يروا ما رأوا أولئك بل قرأوها قراءة إيمانية استدلوا بها على عظمة علم الله وجليل قدرته وضعف الإدراك البشري، بل ربما رأوا في دليلاً قاطعاً على صدق ما قاله إيمانويل كانت ـ وهو المؤمن بالخالق - بشأن الهوة العميقة التي تقف بين العقل وحقائق الأشياء في الخارج. بل نزيد فنقول أن ماكس بلانك، مؤسس النظرية الكمومية، كان قد صرّح بأنه: «لا بد لكل إنسان متعقل أن يعترف بالمكون الديني الذي بداخله ويسعى في تنميته لتعيش نفسه في تناغم واتزان. The Mystery of Being. P161

وللبعض أن يوظف مسألة الخير والشر توظيفاً إلحادياً فنقول أيضاً : هذا توظيف أملاه موقفك الانفعالي أو ـ تلطفاً في التعبير - طريقة نظرك للأمور، وإلا فقد وظفها آخرون توظيفاً إيمانياً فائق الجمال فرأوا في ثنائية الخير والشر، والعلاقة الجدلية بين عناصرها، أسراراً أخلاقية بعيدة الغور، ودروساً بليغة في الحكمة الإلهية، بل رأوا فيها دليلاً دامغاً على تمتعنا بإرادة أصلية لا وهمية؛ إرادة لا يتمكن بها الإنسان من نيل مراده فحسب وإنما يجترئ بها على إرادة خالقه الشرعية فيخالفها ليقدم إرادته الآثمة على إرادة ربه الخيّرة .

وربما هرع البعض إلى نبش إشكال السببية واختلال الاستدلال بظواهر عالم الشهادة على بواطن عالم الغيب، أو الحكم على الأخير بما يستخرجه الحس من الأول، وهذا أيضاً لا يلزم منه التحول للإلحاد؛ كيف وقد عبر هيوم ـ وهو حامل لواء التشكيك في السببية والأديان - على لسان فايلو في آخر كتاب الحوارات عن حاجة البشر للوحي؟!Dialogues and Natural History of Religion. P129

هذا التباين في التأويل يعكس حاجة الفرد إلى إضفاء معنًى أو تفسير يتفق مع معتقداته الشخصية، غير أن الحقيقة العلمية تظل محايدة، ولا تحمل في طياتها موقفًا فلسفيًا أو أخلاقيًا، بل الحق والانصاف ان دلالة هذه النظريات على المقولات الدينية أوضح وأكثر انسجاماً.

التعامل مع هذه النظريات العلمية بهذه الطريقة قد يكون نابعًا من سوء فهم للدور الحقيقي للعلم. العلم ليس وسيلة للإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى حول الغاية من الحياة أو وجود خالق، بل هو أداة تهدف إلى فهم آليات عمل الكون. هذه الآليات، حتى وإن فسّرت بعض جوانب نشأة الكون أو تطور الكائنات، تظل غير معنية بتحديد الغايات أو الأبعاد الفلسفية لهذه الظواهر.

وهنا يأتي دور البحث الفلسفي والعقلي فلكل أداة معرفية حقلها ونطاقها الخاص بها، فالعلم بمصطلح اليوم يعني ما تقتضيه التجارب والحس، وهو خاص بإثبات الأمور المادية فقط لا يتعداها لغيرها، ثم يأتي دور العقل ليجيب عن اسئلة الإنسان الكبرى (من أين والى أين وفي أين)، من دون القدرة على ذكر التفاصيل بل العقل قادر على إثبات كليات المسائل، كإثبات المبدأ والمعاد. لتصل النوبة الى الأداة المعرفية الثالثة وهي الوحي لبيان تفاصيل تلك الكبريات، وإرشاد العقل خشية وقوعه بمزالق الوهم.

الربط المتعمد بين العلم والإلحاد أو أي توجه فلسفي آخر هو نوع من التسييس للفكر العلمي. العلم يجب أن يظل في إطاره المعرفي المحايد الذي يعتمد على الأدلة والبراهين، ولا يخدم أيديولوجيات بعينها. فمن الخطأ أن نعتبر أن اكتشافات العلم تسعى إلى دعم أو هدم معتقدات شخصية. النظريات العلمية تتغير وتتطور مع مرور الزمن بناءً على الأدلة الجديدة، وهذا جزء من طبيعتها الديناميكية التي تجعلها بعيدة عن الجمود الفكري.

في النهاية، يجب أن نعي أن أي تأويل للنظريات العلمية يجب أن يتم بحذر وبعيدًا عن الإسقاطات الأيديولوجية. تبقى النظريات العلمية أدوات لفهم العالم الطبيعي، وليست وسائل لتأكيد أو نفي المعتقدات الشخصية، سواء كانت دينية أو إلحادية.

 بل كيف وقد رأى آخرون أن هيوم قد جانب الصواب في التعرض للسببية بالشك والنقض وهو لا يعلم. ـ وربما كان يعلم! ـ أن ما فعله يعود على عين دعواه بالإبطال من أوجه كثيرة. 

لا عذر لملحد في إلحادٍ بناه على ما سلف من قواعد وانصرم ذكره من شواهد وذاك لسبب جامع يأتي على ماسبق ونظائره مما لم أذكره، فاحفظه وتأمله حق التأمل وهو مهما كانت الهيئة التي يمكن أن نتخيلها للوجود المادي، فإنه لا دليل فيها (أي: تلك الهيئة) على عدم وجود الخالق؛ بل ما دام للوجود المادي هيئة تستحث الإدراك وتتيح نفسها للفهم بطريقة محددة، فالأصل في ميزان الخبرة البشرية أنها دالة على خالق يعلم ويفعل لا العكس؛ هذا 

تأذن

ما يقضي به المنطق الطبيعي، وهو المتسق تمام الاتساق مع إملاءات خبرتنا، إذ لسنا مكلفين لا قدراً ولا شرعاً، بأكثر مما به خبرتنا، فما الباعث على التنكر لها؟ ولم التعنت في إبطال دلالتها؟ حقاً الأصل في الاستصحاب بقاء ما كان على ما كان قاعدة أصولية رائعة طبقها الملحد فافترض بناء على شرطه في النظر ألا خالق حتى يكون الدليل على وجود الخالق، ونطبقها نحن فنستصحب أن هيئة الوجود معنى زائد على مجرد الوجود، وأن هذا المعنى الزائد أصل دليلنا على خالق مريد حتى يرد الدليل على انتفاء ذلك الأصل الموقف الثاني أعلم وأحكم وأسلم؛ لأن المثبت مقدّم على النافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم؛ الله ما أروع أصولنا وقواعدنا وما أمتن ديننا!

2024/10/01

عندما يكون الإلحاد سلاح دمار شامل!

«كانَ الناسُ ينتظرونَ الحربَ قبلَ عام 1914م بمُنتهى الشغف، وكانوا يتمنّونَ قيامَ الحرب، وكانَ الدافعُ لسيطرةِ هذا الفرحِ عليهم هوَ سيطرةُ الدّاروينيّةِ الاجتماعيّة على الناسِ في تلكَ الفترةِ حيثُ طُبّقَت في مدارسِ أوربـا، فهيَ ترى الحربَ دافعـاً للرّقيّ للأقوى ودافعاً للنّشاط».

عالمَ التاريخِ الأمريكيّ توماس ناب thomas knapp من جامعةِ لويال.

تاريخياً، شهدنا كيف أنَّ الأيديولوجيات سواء الدينية أو الفلسفية كانت في كثير من الأحيان الشرارة التي أطلقت الحروب. لكننا نجد ملاحدة اليوم قد جعلوا ذلك وصمة في جبين الأديان دون غيرها، مع ان موسوعة الحروب Encyclopedia of Wars، المرجع الذي لا يقبل الجدل في هذا الشأن يؤكد خلاف ذلك، حيث تسجل 1763 حربًا على مدار تاريخ البشرية. من بين هذه الحروب، 123 حربًا لها دوافع دينية جزئية، وهو ما يمثل أقل بقليل من 7٪ من إجمالي الحروب. وهنا تبرز النتيجة الأولى التي لا مفر منها: الحروب ذات الدوافع الدينية أقل بكثير من الحروب القائمة على أسباب أخرى.

كيف بدأ الأمر؟

في سبعينيات القرن التاسع عشر، ظهر ما يعرف بـ"الداروينية الاجتماعية" وهي محاولة قام بها بعض الملحدون لتبرير وجود الأخلاق بعيداً عن الدين، فقد أدركَ الفيلسوفُ الوجوديُّ الملحدُ والشرس، (جون بول سارتر)، مبلغَ الإحراجِ الفِكري في مسألةِ أصلِ التمييزِ الأخلاقيّ بينَ الخيرِ والشر، ولذلكَ قال: «يجدُ الوجوديُّ حرجاً بالغاً في ألّا يكونَ اللهُ موجودًا، لأنّه بعدمِ وجودِه تنعدمُ كلُّ إمكانيّةٍ للعثورِ على قيمٍ في عالمٍ واضح. لا يمكنُ أن يكونَ هناكَ خيرٌ بدهيّ لأنّه لا يوجدُ وعيٌ لانهائيُّ وكاملُ منَ الممكنِ التفكيرُ فيه. لم يُكتَب في أيّ مكانٍ أنَّ الخيرَ موجود، ولا أنَّ على المرءِ أن يكونَ صادقاً أو ألّا يكذب».

ومِن هُنا نجدُ أن ريتشارد دوكنز يتّسقُ مع إلحادِه ويلتزمُ بمآلاتِه، فيرفضُ صبغَ الوجودِ ككلٍّ بأيّ صفةٍ قيميّةٍ على الإطلاق، فيقولُ مُقرّاً بمشكلةِ النسبيّةِ الأخلاقيّة: «في هذا العالمِ لا يوجدُ شرٌّ ولا يوجدُ خيرٌ، لا يوجدُ سوى لامبالاةٍ عمياءَ وعديمةِ الرّحمة". ويقولُ أيضاً: إنّه منَ العسيرِ جدّاً الدفاعُ عن الأخلاقِ المُطلقةِ على أسسٍ غيرِ دينيّة».

أمّا الباحثُ الأميركيّ اللا أدري ديفيد برلنسكي فيوضّحُ مقولةَ دوستويفسكي: "إذا كانَ الإلهُ غيرَ موجودٍ فكلُّ شيءٍ مباح" يقولُ شارحاً: «فإذا لم تكُن الواجباتُ الأخلاقيّةُ مأمورةً بإرادةِ الله، ولم تكُن في الوقتِ ذاتهِ مطلقةً، فإنَّ (ما ينبغي أن يكون) هوُ ببساطةٍ ما يقرّرُه الرجالُ والنّساء. لا يوجدُ مصدرٌ آخرُ للحُكم. هل هذهِ إلا طريقةٌ أخرى للقولِ بأنّه طالما أنَّ الإلهَ غيرَ موجود، فكلُّ شيءٍ مباح؟».

وقد أشادَ داروين نفسَهُ بالدورِ الفعّالِ للإيمانِ بالمعبودِ حيثُ يقول: «وبالنسبةِ للأعراقِ الأكثر تمدّناً، فإنَّ الإيمانَ الراسخَ بالوجودِ الخاصِّ بمعبودٍ، مُطّلعٍ على كلِّ شيءٍ قد كانَ له تأثيرٌ فعّال، على التقدّمِ الخاصِّ بالأخلاق».

فأبدعوا لنا نظرية " الانتخاب الاجتماعي" على وزن قانونِ الانتخابِ الطبيعيّ الذي جاء به دارون، والتي تؤكد على دعم السلطوية، وتحسين النسل، والعنصرية، والإمبريالية، والفاشية، والنازية، والصراع بين الجماعات القومية أو العرقية.

اعتقد داروين أن الصراع على الموارد الطبيعية جعل بعض الأفراد يتصفون بخصائص جسدية وعقلية معينة، الأمر الذي أفضى لتكاثرهم بالقياس لغيرهم، مما أدّى بمرور الزمن، وتحت ظروف محددة، إلى صيرورتهم نسلاً مختلفاً لدرجة أنه يمكن أن يعتبر جنساً آخراً.

كما ادعى داروين أن «الغرائز الاجتماعية» مثل «التعاطف» و«الإحساس الأخلاقي» تطورت أيضاً بواسطة الانتخاب الطبيعي وقد أدت هذه القيم إلى تقوية المجتمعات التي ظهرت فيها.

من هنا نفهم سبب ظهور الأيدولوجيات العرقية، كالنازية والفاشية ونحوهما، والتي تجعل عرق معين أرقى من غيره، كما تبيح له استعباده، بل القضاء عليه!!

فتمييزُ البشرِ بحسبِ الجيناتِ الوراثيّة يفتحُ الطريقَ أمامَ صراعٍ عرقيٍّ تنقلبُ معهُ كلُّ المفاهيمِ الأخلاقيّةِ إلى مفاهيمَ لا أخلاقية، ويصبحُ الخيرُ شرّاً، والعنصريّةُ فضيلةً، والعدلُ ضعفاً، والظلمُ قوّةً، والإنصافُ سُخفاً، والرحمةُ جهلاً، وهكذا تكونُ الحقوقُ فقط للأقوى والأكثر صموداً.

والنتيجةُ المُتحصّلةُ مِن هذا التمايزِ العِرقي؛ هوَ منحُ العرقِ المُتحضّرِ مِنها الحقَّ في القضاءِ على العرقِ الهمجي، ضمنَ قانونِ البقاءِ للأصلحِ والانتقاءِ الطبيعي، وقد أكد دارون ذلك بقوله في كتابه "أصل الإنسان": "في مرحلةٍ مستقبليّةٍ معيّنة، ليسَت ببعيدةٍ، سوفَ تقومُ الأعراقُ البشريّةُ المُتحضّرةُ على الأغلبِ بالقضاءِ على الأعراقِ الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم.» أصل الإنسان، الفصل السادس.

من هنا نفهم ما قاله المؤرخ الأمريكي توماس ناب المتقدم: «كانَ الناسُ ينتظرونَ الحربَ قبلَ عام 1914م بمُنتهى الشغف، وكانوا يتمنّونَ قيامَ الحرب، وكانَ الدافعُ لسيطرةِ هذا الفرحِ عليهم هوَ سيطرةُ الدّاروينيّةِ الاجتماعيّة على الناسِ في تلكَ الفترةِ حيثُ طُبّقَت في مدارسِ أوربـا، فهيَ ترى الحربَ دافعـاً للرّقيّ للأقوى ودافعاً للنّشاط».

عود على بدأ

وبحسب ما تقدم ظهر أن الإلحاد يؤصل للعنف ويؤسس لانتشار الحروب، وسحق الضعفاء، فرغم أن عمر الإلحاد كظاهرة وتيار لا يتعدى القرون الثلاثة إلا أنه تحصل على الأرقام القياسية في عدد القتلى والحروب، وهذا ما تؤكده المؤرخ جيفري بلايني أن الأيديولوجيين الذين يسارعون إلى ربط العنف بالدين «يميلون إلى نسيان أن أكثر قادة الحرب العالمية الثانية وحشية كانوا ملحدين وعلمانيين، معادين بشدة لكل من اليهودية والمسيحية»، مشيرًا إلى أن «الفظائع الجماعية ارتكبت لاحقًا في الشرق على يد هؤلاء الملحدين المتحمسين، بول بوت وماو تسي تونغ. جميع الأديان، وجميع الأيديولوجيات، وجميع الحضارات تحمل في طياتها صفحات مُلطخة بالعار». الكتاب الأسود للألحاد.

دعونا نسلط الضوء هنا على المذابح المنهجية أو المؤسسية التي وقعت أو لا تزال تحدث باسم الإلحاد المتعصب. نلاحظ بسهولة أنه عندما يتداخل الإلحاد مع السياسة، يخيّم شبح الدمار على الشعوب، مخلفًا عددًا هائلاً من الضحايا، وسنغض الطرف عن العشرين مليون قتيل التي تسببت بها المانيا النازية الملحدة، في الحرب العالمية الثانية، كونها من النتائج المعروفة لأغلب القراء.

الثورة الفرنسية

خلال ما أسماه المؤرخون "الثورة الفرنسية"، اعتُبرت العقيدة الكاثوليكية خصمًا رئيسيًا لأكثر قادتها الملحدون، وقد سعى هؤلاء إلى محو كل أثر للدين في فرنسا، في هذه الفترة التي عرفت تاريخياً بـ"عصر الإرهاب" تبرز منطقة فاندي كأكثر المناطق تضررًا من أهوال الثورة. ففي مطلع عام 1793، أصدرت الجمهورية الفرنسية الأولى الفتية مرسومًا بتجنيد 300 ألف مواطن للدفاع عن مكتسبات الثورة وتوسيع نفوذها إلى الممالك المجاورة، إلا أن رجال منطقة فاندي رفضوا التجنيد. فقوبل هذا الرفض برد فعل عنيف ودموي من الجمهورية الجديدة وجيشها.

قررت لجنة السلامة العامة إرسال "الأعمدة الجهنمية"، وأمر الجنرال "تورو" بإبادة كل فرد من شعب فاندي، بما في ذلك الأطفال، بهدف تحويل فاندي إلى مقبرة جماعية.

كتب "فرانز جوزيف ويسترمان"، القائد في جيش سواحل لاروشيل (جيش فاندي في خدمة النظام الجمهوري)، الملقب بـ "جزار فاندي"، هذه الكلمات المرعبة: «لم تعد هناك فاندي، لقد ماتت بسيفنا الحر مع نسائها وأطفالها. لقد جئت لأدفنها في المستنقعات وغابات سافيناي. بناءً على الأوامر التي تلقيتها، سحقت الأطفال تحت حوافر الخيول، وذبحت النساء حتى لا ينجبن المزيد من قطاع الطرق. ليس لدي أي سجين لألوم نفسي عليه. لقد أبيد كل شيء».

الثورة المكسيكية

كانت الثورة المكسيكية، التي اندلعت شرارتها عام 1910، بمثابة البركان الذي فجّر حممًا من المجازر المعادية للدين، مجازر لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في وحشيتها واتساع رقعتها. وابتداءً من عام 1917، أرسى الدستور الثوري، الذي عُرف بدستور كويريتارو والذي صاغه الرئيس كارانزا، دعائم ديكتاتورية الدولة المطلقة في وجه حقوق الدين. وتضمن الدستور حزمة من المواد التي نُقشت بحبر العداء لرجال الدين. وشهدت البلاد سلسلة من الإجراءات القمعية.

كان الرئيس كاليس، الذي تقلّد سدة الحكم عام 1924، هو مَن نفذ برنامج الاضطهاد المعادي للدين بحذافيره، دون هوادة أو رحمة. وفي مواجهة المقاومة المشروعة من شريحة واسعة من الشعب، ألقى الرئيس على عاتق الجيش مهمة تطبيق قوانين النظام القمعية ضد الدين.

وخلّفت الثورة التي أشعل فتيلها فرانسيسكو ماديرو في نوفمبر 1910 وراءها مليون قتيل من أبناء المكسيك.

الالحاد السوفيتي

قبل ما يقارب من مائة عام، حاولت إحدى دول هذا الاتحاد وهي أوكرانيا أن تتطلع للحرية، فعاقبها القائمون على النظام بأبشع صور الموت، وهو الموت جوعاً، فتسبب بإبادة جماعية متعمدة في عامي 1932 و 1933 راح ضحيتها الملايين فيما بات يطلق عليه لاحقاً، "الإبادة الجماعية المنسية".

في خطاب شهير ألقاه في جامعة هارفارد، شهد الكاتب الروسي ألكسندر سولجينتسين: «... مستندًا إلى تجربة بلد الاشتراكية المحققة، لن أقترح بأي حال من الأحوال بديلاً اشتراكيًا. فكل اشتراكية بشكل عام، وفي جميع تجلياتها، تؤدي إلى التدمير الشامل للجوهر الروحي للإنسان وإلى تسوية البشرية في بوتقة الموت». انحدار الشجاعة، 8 يونيو 1978.

الحرب الأهلية الإسبانية

على الرغم من أن الحرب الأهلية الإسبانية لم تندلع فعليًا حتى عام 1936، إلا أن العنف المعادي للدين بدأ في عام 1931 مع إعلان الجمهورية الإسبانية الثانية. خلال فترة إعداد الدستور الجديد في الكورتيس، أعلن فرانسيسكو لارجو كاباليرو، الذي أطلق عليه لقب "لينين الإسباني" (أصبح رئيسًا للحكومة في سبتمبر 1936)، كلماته بوضوح تام: «لقد حانت ساعة الحساب»، «يجب إعدام جميع الكهنة ورجال الدين»، «يجب استئصال الدين من أرضنا».

في يوليو 1937، أعلنت صحيفة "L'Esquella de la Torratxa" الكاتالونية: «لقد انتهى الأمر، نحن الآن مطمئنون! لقد قتلنا جميع الكهنة، وجميع الذين يشبهون الكهنة، وجميع الذين بدوا لنا كأنهم كهنة».

في 16 فبراير 1938، أرسل السفير الفرنسي في إسبانيا، إريك بيير لابون، التقرير التالي إلى وزير خارجيته:

«إن موقف إسبانيا الجمهورية فيما يتعلق بالدين هو أمر متناقض. يا له من مشهد! منذ ما يقرب من عامين والمجازر المخزية لأعضاء رجال الدين، لا تزال الكنائس تُدمر وتُفرغ وتُترك للريح. لا صيانة، ولا عبادة. في وسط الشوارع المزدحمة أو في الأماكن المعزولة، تبدو أطلال الكنائس وكأنها أماكن موبوءة يتجنب الناس النظر إليها، ويخفون خوفهم ويتظاهرون باللامبالاة. هذه بيوت الله وجراحها تقف كرموز دائمة للانتقام والكراهية. لقد عانت جميع الأديرة من نفس المصير. الرهبان والراهبات والكهنة، كلهم اختفوا. قُتل الكثير منهم، وتمكن آخرون من الفرار إلى فرنسا بمساعدة وجهود قناصلنا. (...) بموجب مراسيم صادرة عن رجال، توقف الدين عن الوجود. توقفت جميع المظاهر الدينية تحت وطأة القمع والصمت. ومع ذلك، تدعي إسبانيا الجمهورية أنها ديمقراطية. حكومتها تعلن ذلك، وتعلن أنها مؤيدة لحرية الفكر وحرية الضمير وحرية التعبير. لقد قبلت العبادة البروتستانتية واليهودية، لكنها لا تتسامح إطلاقاً مع الكاثوليكية. التناقض صارخ لدرجة أنه يثير الشكوك حول صدقها، ويلقي بظلال من الشك على تصريحاتها ومشاعرها الحقيقية».

تسبب "عطش الإبادة" للجبهة الشعبية في مقتل أكثر من 7000 من رجال الدين وعشرات الآلاف من سائر الشعب.

ألبانيا في عهد أنور خوجة

طوال النصف الأول من القرن العشرين، كانت ألبانيا تضم نسبًا متساوية تقريبًا من المسيحيين والمسلمين (47٪ و 53٪ على التوالي).

منذ عام 1946 وحتى عام 1990، تم قمع أي ممارسة دينية بعنف. تميز النظام الشيوعي الألباني، وهي ديكتاتورية مستوحاة من الستالينية من بين الأكثر قمعية، منذ البداية بتنفيذ العديد من عمليات التطهير. قامت الشرطة السرية بتحييد كل من اعتبرتهم معارضين للنظام: مُنع المواطنون من مغادرة البلاد، وحُظرت الأديان، واغتيل بعض القادة الدينيين. في عام 1967، أعلن أنور خوجة، الذي كان آنذاك الأمين العام لحزب العمل الألباني (وقاد البلاد حتى عام 1985)، إغلاق جميع المؤسسات الدينية وأعلن جمهورية ألبانيا الشعبية "أول دولة ملحدة في العالم": أجبر هذا الإلحاد الدولة السكان على التخلي عن أي ممارسة دينية بين عامي 1967 و 1990.

في هذا البلد الصغير الذي لا يزيد عدد سكانه عن 3 ملايين نسمة، حُكم على أكثر من 8000 ألباني بالإعدام (من بينهم العديد من رجال الدين) وأُغلقت آلاف أماكن العبادة. لم ينتهِ الاضطهاد الديني إلا بسقوط الشيوعية في عام 1990.

كوريا الشمالية

في أعقاب استسلام اليابان في 15 أغسطس 1945، فرض كيم إل سونغ نفسه كزعيم رئيسي للبلاد بصفته الأمين العام لحزب العمال الكوري. منذ توليه السلطة، اتبع النظام الشيوعي سياسة قاسية من الاضطهاد الديني، معتبراً الأنشطة الدينية غير قانونية ومعاقباً عليها كجرائم سياسية.

أصبحت أي ممارسة دينية عدوًا للمجتمع بسبب أيديولوجيتين أساسيتين في البلاد: "جوتشي" (التي تدعو إلى الاعتماد على الذات) وعبادة الشخصية الموجهة إلى سلالة كيم.

بما أن النظام قد رفع سلالة كيم إلى مرتبة الألوهية، فإن أي فرد يمارس عبادة أخرى يتعرض للاعتقال الفوري والاحتجاز في معسكر عمل قسري والتعذيب ثم الإعدام. حتى الأطفال تم تشجيعهم من قبل النظام على التنديد بآبائهم المؤمنين أو الممارسين للطقوس الدينية.

يرسم تقرير شهير للأمم المتحدة، نُشر في عام 2014، صورة مرعبة للانتهاكات التي ارتكبتها السلطة الحاكمة.

فيما يلي بعض المقتطفات منه:

• «وجدت اللجنة أن انتهاكات منهجية وواسعة النطاق وفظيعة لحقوق الإنسان قد ارتكبت ولا تزال ترتكب من قبل جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، وفي كثير من الحالات، تشكل هذه الانتهاكات جرائم ضد الإنسانية"، "الإبادة والقتل والاسترقاق والتعذيب والاغتصاب والإجهاض القسري وغيره من أشكال العنف الجنسي، والاضطهاد على أساس سياسي وديني وعرقي وجنساني، والترحيل القسري للسكان، والاختفاء، والأعمال اللاإنسانية التي تسبب عمداً مجاعات طويلة الأمد».

• «مات مئات الآلاف من السجناء السياسيين في المعسكرات خلال الخمسين عامًا الماضية».

• «تم القضاء عليهم تدريجيًا من خلال المجاعات المتعمدة والعمل القسري والإعدام والتعذيب والاغتصاب والحرمان من حقوق الإنجاب من خلال العقوبات والإجهاض القسري وقتل الأطفال».

• «يوجد حاليًا ما بين 80 ألف و 120 ألف سجين سياسي محتجزون في أربعة معسكرات سجون كبيرة للسجناء السياسيين».

الصين

عند نشأتها، أعلنت جمهورية الصين الشعبية أنه على الرغم من الإلحاد الشيوعي، فإنها ستضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية لمواطنيها. لكن هذه الكلمات سرعان ما أثبتت زيفها: ففي وقت قصير، طُرد رجال الدين الأجانب، وسُجن معظم المحليين، وأغلقت دور العبادة.

مثلت الثورة الثقافية بين عامي 1966 و 1976، والتي تعرض خلالها عشرات الملايين من الأشخاص للاضطهاد (مع تقديرات لعدد القتلى تصل إلى 20 مليونًا)، بداية فترة مظلمة جديدة للأديان في الصين: تدمير منهجي للقيم الثقافية التقليدية، وتدمير أماكن العبادة، واعتقال وترحيل واغتيال العديد من المؤمنين ورجال الدين.

تشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون مسلم أويغوري، أي ما يُعادل 10 في المائة من هذا الشعب المُسالم، يقبعون اليوم خلف قضبان معسكرات الاعتقال الصينية سيئة السمعة، والتي تُوصف بأنها "معسكرات إعادة تأهيل" في محاولة فجة للتغطية على جرائمها. وهناك عشرات الآلاف غيرهم ممن حُكم عليهم بالإعدام أو بالسجن مدى الحياة، في انتهاك صارخ لأبسط حقوق الإنسان.

رغم أن منطقة شينجيانغ، التي يقطنها الأويغوريون، كانت تعاني بالفعل من القمع والمراقبة المُشددة باسم الإلحاد الذي تتبناه الدولة الصينية، إلا أن حملة القمع الوحشية الحالية اتخذت منعطفًا جديدًا وأكثر شراسة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. فقد استغلت الحكومة الصينية هذه المأساة العالمية لتبرير قمعها الوحشي بحجة "مكافحة الإرهاب"، ولتصعيد حملتها ضد الأويغوريين، الذين أصبحوا يُنظر إليهم كـ "تهديد أمني" محتمل.

لم يقتصر الأمر على القمع الديني، بل تحول إلى حرب شاملة على الإسلام، حيث تم تدمير آلاف المساجد ومصادرة الكتب الدينية، في محاولة لطمس الهوية الإسلامية للأويغوريين.

النجاشي الأحمر

أدخلت الثورة الإثيوبية، التي أطاحت بالإمبراطور هيلا سيلاسي عام 1974، البلاد في حقبة جديدة، شيوعية. الزعيم الجديد، منغستو، قائد الثورة، المدعوم من قبل "الديرغ" (الحكومة العسكرية المؤقتة لإثيوبيا)، لُقب بـ "النجاشي الأحمر" (كلمة نجاشي هي لقب نبيل إثيوبي، معادل للملك، والأحمر هو إشادة بلون الدم المسفوك والشيوعية). سرعان ما أعلن إثيوبيا دولة شيوعية علانية وحظر الدين لصالح الإلحاد. تم افتتاح عصر عمليات التطهير ضد "أعداء الثورة" بفعل رمزي للغاية: قام بتحطيم زجاجات سائل أحمر على الأرض خلال خطابه في 14 أبريل 1977. كان هذا هو ميلاد "الإرهاب الأحمر".

تشير التقديرات إلى أن "الإرهاب الأحمر" في إثيوبيا تسبب في مقتل أكثر من مليون شخص منذ عام 1975، وفقًا لمحاكمة "نورمبيرج الأفريقية" التي عُقدت بين عامي 1994 و2006.

 

2024/09/30

زيارة الأربعين وآفاق تحقيق النهضة الشاملة
إسراء حسين : زيارة الأربعين مناسبة خاصة استثنائية ليس فقط بسبب القدسية العظيمة لهذه الزيارة بل هناك سبب آخر متمثل بالحشود الكبيرة التي تأتي من كل بقاع الأرض لزيارة الامام الحسين (عليه السلام)، وهذا الحماس الكبير الذي يجتاح نفوس الزائرين جاء ضمن الانفتاح الكبير الذي حصل عليه الشيعة بعد أن كانوا محرومين منه قبل عام ۲۰۰۳ مـ، فقد كانوا يعيشون في ضنك وانغلاق تام وظلم واضطهاد، وهذا الدافع والحماس لم يخبو بل يتطور كل سنة.

[اشترك]

زيارة الأربعين بهذه الطاقة الكبيرة تفرض علينا دراسة هذه الظاهرة بشكل واسع من أجل تحقيق النهضة الشاملة، أي: النهضة الاجتماعية، السياسية، الاعلامية، الاقتصادية ... الخ .

وهذا الواقع الجديد واستحقاقات زيارة الأربعين المتصاعدة يفرض تحديات حقيقية أمام النخب من رجال الدين والباحثين والحوزات الدينية والجامعات والمراكز دراسات والمؤسسات الثقافية، وذلك من خلال وقفة عميقة مشتركة عبر المؤتمرات والندوات ومراكز البحوث والدراسات للوصول إلى الكيفية الصحيحة لاستثمارها في سبيل تحقيق التقدم الاجتماعي.

تعزيز روح الجماعة

اليوم العالم يعيش تطوراً تكنولوجيا كبيراً ووصل الى القمة بما يسمى بالذكاء الاصطناعي واعتماد المجتمعات الكثيف على وسائل التواصل الاجتماعي مما جعلها تعيش حالة من الاختلال الثقافي والسلوكي وهذا أدى إلى انعزال اجتماعي وأصاب الكثير من الأفراد حالة من الاضطراب النفسي.

هذا الأمر جعل بعض الدول تولي المزيد من الاهتمام البالغ بإقامة المهرجانات والاحتفالات والتجمعات بهدف إخراج مجتمعاتهم من الحالة الفردية إلى الحالة الجمعية من أجل تعزيز روح الجماعة، لأن المجتمع الذي لا يوجد فيه تفاعل اجتماعي أو تواصل يكون مجتمعاً ميتاً، فالانعزال يؤدي إلى الكآبة والوحدة المقيتة، ومن هنا علينا أن نعي ونعرف نعمة الزيارات الدينية وخصوصاً زيارة الامام الحسين (عليه السلام)، فهذا التموج الجمعي الكبير التلقائي يدفع الناس لإظهار القيم الإنسانية النبيلة كالعطاء والتكافل والكرم التي تسهم في تعزيز الروح الجمعية وتكسر حواجز الانعزال والسلبية، فلابد أن ندرس هذه الحالة من أجل توطيد الثقافة المجتمعية والمشاركة الإنسانية التضامنية لترسيخ هذه القيم واستثمارها الشامل في الإصلاح الاجتماعي وتحقيق أمنيات الناس وتطلعاتهم.

وهذه المسؤولية تقع على عاتق النخب ولكن للأسف نلاحظ هناك البعض هذه النخب من يمارس عملية جلد الذات والمجتمع عن طريق التعاطي مع الظاهرة الايجابية بطريقة سلبية، بينما الصحيح والمفروض هو استثمار هذه الظواهر كقيمة فكرية وتفاعلية في طريق الإصلاح والتغيير والبناء المجتمعي الصالح.

الإستثمار الاقتصادي

زيارة الاربعين هي انفتاح شيعي على العالم، وهذا الانفتاح له تحديات وواحدة منها هو التحدي الاقتصادي، وزيارات أهل بيت رسول الله (عليهم السلام) بشكل عام والزيارات الحسينية بشكل خاص تعد من أهم الأسباب التي تحرك عجلة الإقتصاد العراقي.

ولكن هذا لا يكفي، لأنه يحتاج إلى تنظير عملي لبناء الإقتصاد العراقي من قبل المفكرين والمتخصصين والمسئولين وأن يتناسب مع الحركة الاقتصادية الكبيرة، وأن تكون الخطوة الأولى في ذلك هو محاربة الفساد والعمل على رفع العوائق الإستبدادية والبيروقراطية التي تعيق العملية الإقتصادية، فالكثير من المستثمرين في الاجتماع والعلوم السياسية يودون الإستثمار في تطوير الأماكن المقدسة لدوافع معنوية ودينية، وكذلك معرفتهم الجيدة بمنافع السياحة الدينية، ولكن العوائق البيروقراطية والقوانين المتصلبة تشكل مصدر أمام الاستثمارات، فرغم الإنفتاح الكبير الحاصل للعراق لكنه لم يتزامن معه بناء اقتصادي قوي يسهم في تطور مدن العراق خصوصاً المدن المقدسة كي تستوعب الزائرين، ولولا بعض الأشخاص الخيرين والهيئات والمواكب التي تقدم الخدمات والدعم اللوجستي لكانت هناك مشاكل يعاني منها الزائرين، في حين أن كل شيء متوفر للزائرين كل سنة، وهذا كله ببركة الامام الحسين (عليه السلام) الذي هو مصباح الهدى وسفينة النجاة.

الحكومة والدور المجتمعي

إن الحكومة تواجه مشاكل كبيرة بسبب صراع الكتل السياسية التي تتداخل بها عوامل داخلية واقليمية، لذلك على المؤسسات والأفراد العمل على تغيير القوانين الجامدة التي تمنع القطاع الخاص عبر التشجيع على تبني عقلية القطاع الخاص وتشغيل الأيدي العاملة في الصناعة والزراعة، وتحقيق التنمية في التعليم والصحة.

ويجب التأكيد في التعامل وفق نظرية الإدارة الحديثة التي تحث على ثقافة الترشيد فهناك هدر كبير في المال العام وأزمة المياه تعد أحد أسباب الهدر ويجب أن نتعلم ونعلم أولادنا على إدارة الموارد خصوصاً الموارد المائية والكهربائية والطبيعية، ويتحقق جزء من هذه الواجبات بسعينا نحن كحوزات، جامعات، مؤسسات، واعلاميين، ورجال دين، حين نعمل على التثقيف الشامل وهذا يحتاج إلى تغيير الأفكار القديمة واستبدالها بأفكار جديدة تتناسب مع الانفتاح الحاصل.

عِبرة وعَبرة

إن الامام الحسين (عليه السلام) عبرة وعبرة، فأحداث عاشوراء تحرك العواطف وتهتز لها أقسى القلوب وتتزلزل لها الأبدان فتترسخ في عمق الوجود الإنساني، فالبكاء في المجالس الحسينية هو علاج للمشاعر الإنسانية حيث تتكسر جدران القسوة وتتفتت التراكمات لتفتح الطريق أمام التغيير والإصلاح وبناء منظومة القيم النبيلة، فعندما يتعاطف ويتفاعل الشخص مع قضية أبي الفضل العباس (عليه السلام) يكون في محاولة لممارسة قيمة الوفاء وخصوصاً الوفاء للقضية الحسينية ومبادئها السامية، فكل القيم الإنسانية العظيمة موجودة في عاشوراء، لذلك فإنّ التكامل بين العبرة والعبرة في النهضة الحسينية هو من أجل بناء الإنسان وإصلاحه في امتداد مستمر إلى يوم القيامة.

المصدر:  بشرى
2024/08/23

تقديس الأفكار: هل يرفض المتديّن النقد؟!
طالما تم وصم "الذهنية الدينية" بطغيان التقبل العفوي واللاشعوري للأفكار والنظريات التي تتضمنها النصوص الدينية والكتب المقدسة، معتبرين أن من أهم وظائف المؤسسة الدينية هو شرح مضمون الأيدلوجية الغيبية والتنظير لها والدفاع عنها، وتبرير محتواها بعرضه عرضاً يبدو عليه مظهر الانتظام والتناسق والعقلانية.

[اشترك]

وبمقابل الفكر الديني يوجد الفكر العلمي التحليلي الذي يمارس النقد المستمر للايدلوجية الغيبية السائدة على كافة المستويات. أنظر نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، ص 8.

وعليه فيكون الفكر الديني هو سبب تخلف الأمة لإضفائه القداسة على أفكار السلف وعدم سعيه للخروج منها، بخلاف الفكر العلمي الحر الذي لا يعترف بالمقدس، وهو جاد في سعيه نحو الحقيقة!!!

هل تقديس الأفكار مختص بالمتدين؟

ومن الواضح أن أصحاب هذه الدعوى جعلوا القداسة ـ خلافاً لمفهومها اللغوي والاصطلاحي ـ مرادفة للجمود الفكري، إلا أننا نستغرب أنهم عقلوها برأس المتدين دون غيره، مع ان ذلك شائعٌ بين جميع البشر يشمل المتديّن منهم والملحد، فالقداسة ليست وحدها المسؤولة عن السلوك البشريّ الذي يسارع نحو اليقينيّة، والقطعيّة، والجزميّة، والدوغماتيّة، فقد يكون الملحد واللا دينيّ دغمائيّ ومتحجّر لا يقبل مجرّد عرض أفكاره للنقاش، وقد يكون المتديّن أكثر انفتاحاً وقبولاً للآخر، فانظر لقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)، الحجر: 10 ـ 15. وهل هناك تحجر وعناد أكثر من هذا؟!

بل إننا نجد محاولة بعض الملاحدة تحويل أفكارهم العلمانية الى دين بكل ما للمعنى من كلمة، فيتم تقديس الأفكار والشخوص بالنحو الموجود في سائر الأديان، أحد أبرز مفكري العصر الحديث في الفكر الجمهوري والعلماني، الفيلسوف والسياسي فينسنت بيون، وزير التربية الوطنية الأسبق، في كتابه "الثورة الفرنسية لم تنته" يكشف لنا بيون في الصفحة 149، عن حاجة الاشتراكية الماسة إلى دين جديد، كشرط أساسي لتحقيق ذاتها كفكر للمستقبل. دين جديد بعقيدة جديدة، ونظام جديد، وعبادة جديدة، يبشر بمجتمع جديد يحل محل القديم. ويتابع في الصفحة 162، ليرى في العلمانية نفسها الدين المنشود للجمهورية، الذي سعى إليه المفكرون منذ الثورة الفرنسية.

وفي كتاب آخر، "دين للجمهورية: الإيمان العلماني لفرديناند بويسون"، يكشف لنا كاتبه عن جوهر العلمانية، فيقول: «إنها ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي ثورة على الدين نفسه، على مفهوم الله والمسيح، وعلى سلطة الكنيسة بكل أشكالها. إنها دعوة إلى دين إنساني».

في ذات السياق، وفي 18 يناير 2015، صرح كلود بارتولون، رئيس الجمعية الوطنية آنذاك، أمام لجان مثل: "Grand Jury RTL/LCI/Le Figaro" قائلاً: «انظروا إلى الوقت الذي استغرقته الديانة الكاثوليكية حتى تقتنع بفكرة أن هناك دينًا أسمى منها، هو: دين الجمهورية العلماني». هذا التصريح يسلط الضوء على فكرة أن الجمهورية الفرنسية تقدم نفسها كدينٍ بديل، دين يفرض قيمه ومبادئه على جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية الأصيلة.

وفي نفس السياق، أضاف بارتولون: «الجمهورية بحاجة إلى طقوس. الديمقراطية، باعتبارها دينًا حقيقيًا، تحتاج إلى طقوس لتعزيز مكانتها وقبولها». هذا يعكس رغبة الدولة في ترسيخ قيم الجمهورية من خلال طقوس ورموز تشبه الطقوس الدينية، بهدف تعزيز الولاء للدولة ومؤسساتها.

هذه التصريحات تذكرنا بتحليل مارسيل دي كورت الثاقب في كتابه "Itinéraires" عام 1963، حيث كتب: «إذا كانت الطبيعة الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن تزدهر وتؤتي ثمارها إلا في نظام يدعم فيه كل من السلطتين الروحية والزمنية بعضهما البعض، مع الحفاظ على استقلالهما، فإنه يترتب على ذلك أن مجتمعًا علمانيًا بحتًا، يتوج بدولة لا تعترف علنًا أو ضمنيًا بتبعيتها لله، لا يمكن أن يوجد إلا من خلال الاستيلاء على كامل السلطة الروحية لنفسه وتحويل الأيديولوجية السياسية التي تحكمه إلى دين». راجع في الاقتباسات السابقة كتاب "الكتاب الأسود للإلحاد" لويس ميشيل بلان.

فالأمر إذن لا يختص بالمتدين، ومن باب أولى لا يختص بالدين، بل منشأه ـ كما سيتضح ـ حالة نفسية حاربها الدين بكل ما أوتي من قوة.

ما الذي يمنع الإنسان من تقبل النقد؟

فالقداسة بمعنى جعل بعض الأفكار خارج نطاق النقاش والخلاف وبالتالي يتبعها الجمود والانغلاق الفكريّ حالةٌ لها أسبابها النفسية الخاصة والتي سنحاول الوقوف عليها في هذه المقالة، وهذه الأسباب النفسيّة هي التي توظّف كلّ شيء بما فيه الدين؛ لتجعل الذات أكثر انغلاقاً على ذاتها، ومن هنا فإنّ البحث الجدّيّ هو الذي يحفر عميقاً في كوامن النفس الإنسانية ولا يكتفي بما يظهر على السطح.

فما هي تلك الأسباب التي تمنع الإنسان من تقبل النقد؟ وللإجابة عن ذلك لابد من التعرف على المحرّك الذي يحدّد توجّهات النفس الإنسانيّة، والذي هو حب الإنسان لنفسه، والذي عبر عنه القرآن الكريم بـ"هوى النفس" قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، الجاثية: 23. وللتوضيح أكثر نقول: إن النفس الإنسانية تتنازعها قوتان: العقل والعلم من جهة، والهوى والجهل من الأخرى، والعقل والعلم مرتبطان بالله تعالى، يهبهما من يشاء من عباده المؤمنين، بينما الجهل والهوى نابعان من ارتباط الإنسان بذاته وحبّه لنفسه، والحبّ من أكثر العوامل الضاغطة على الإنسان، فإذا كانت هناك قناعة تنسجم مع هوى النفس وميولها، سعت النفس حينئذ لتسخير كل طاقاتها من أجل إرضاء الذات، من ذلك تسخير الدين، فتضفي على الفكرة نحواً من القداسة أي بجعلها فوق طور النقاش والخلاف، كأنه أمر مفروغ منه.

إذن التقديس بهذا المعنى ناشئ من هوى النفس وحبها لذاتها، وليس من الدين، ولو صدر من المتدين، كما لو انتخب فكرة تنسجم مع ذاته وتحقق مصلحته.

وبعبارة أخرى، أن ميول الإنسان تتحدد وفق درجة إيمانه، فكلما كانت نفسه نقية من الرذائل، متحلية بالفضائل، مالت النفس للخيرات، ومثل هذا الإنسان تجده يحكم العقل والعلم في أفعاله، وأما من خَبُث سره، وتدنس باطنه بالرذائل تجده يميل للشر والموبقات، وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)، الأعراف: 58.   

ففعل الإنسان ينسجم مع حقيقة ذاته ونفسه، وبهذا الانتماء تصبح الفكرة جزءاً من الذات، فتراه يدافع عنها مستميتاً كونه يدافع عن نفسه، فالفكرة التي تنسجم مع ذاته أو تحقّق مصلحته تتحوّل بشكل طبيعيّ إلى أحد مكوّنات الذات والهويّة، وفي المقابل تجده يتعامل بشكل طبيعيّ أيضاً مع الأفكار المخالفة على أنّها مهدّدات حقيقيّة لهذه الذات؛ وذلك لأنّ الذات هي المحور وهي المعيار في قبول الأشياء ورفضها، فالإنسان بطبعه يحبّ المدح والإطراء وينفر من القدح والذمّ، وهو الأمر الذي يفسّر لنا حبّ الناس لسماع كلّ متحدّث يؤكّد قناعاتهم ونفورهم ممن ينقدها، فعندما تصبح الأفكار جزءاً من الذات فإنّ مدحها يكون مدحاً للذات وذمّها يكون ذمّاً للذات، وعندها لا يحتمل الإنسان أيّ نقد أو هجوم على تلك الأفكار ظنّاً منه أنّ ذلك نقدٌ وهجومٌ على ذاته، والإنسان بطبعه وغريزته مجبول على الدفاع عن ذاته، ولذلك يتعصّب لها ويستأسد في الدفاع عنها، ولا يمكن للإنسان قبول الفكرة المخالفة إلّا إذا تعامل مع الفكرة بوصفها شيء آخر منفصل عن ذاته، وهذه درجة من الوعي يفتقدها الكثير.

ومن صور حب الإنسان لذاته تقديسه لبعض الشخصيات، فتراه يدافع عنها حقاً وباطلاً، وليس ذلك إلا لما تقدم من أن هذه الشخصيات أصبحت جزءاً من هويته، فدفاعها عنها دفاعاً عن نفسه، وهذا ما نبّه عليه القرآن في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾، الأحزاب: 67. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾. البقرة: 170.

وهكذا لو تتبّعنا أسباب التعصّب والانحراف الفكريّ نجدها مرتبطة بهوى النفس، ومن هنا نفهم تركيز القرآن الكريم على الهوى بوصفه أهمّ عوامل الانحراف، قال تعالى: ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس﴾ النجم: 23. وقال: ﴿فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا﴾ النساء: 135. وقال: ﴿فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾ ص/ 26. وقال: ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله﴾ القصص/ 50.

وبذلك نخلص إلى أنّ سبب الجمود الفكريّ وعدم قبول الآخر حالة نفسيّة وليست عقليّة، والنفس لها قدرة على توظيف كلّ شيء بما فيه الدين من أجل هواها، ومن هنا لا يمكن أن نُحَمِّلَ الدين المسؤوليّة إذا عملت النفس على توظيفه وتسخيره من أجل مصالحها وأغراضها الشخصيّة، وهذا ما صنعته الكنيسة في عصور الظلام في أوربا، إذْ سخّرت الدين من أجل مصالح الرهبان والقساوسة، وهو فعل مدان ولا علاقة له بالدين حتّى وإن وجد في وسط المسلمين، فالمقدّس عند المسلم هو الله تعالى بوصفه الكمال المطلق، وكلّ مخلوق يكتسب مقداراً من هذه القداسة بمقدار تقرّبه من الله وتقدّسه عن كلّ نقص وشين، فالقداسة عندنا طهارة وكمال، والذي يُسَخِّرُ الدين لمصلحته غارق في الدناسة.

وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم وجدنا آياته تدور على نقطة مركزيّة تشكّل محوراً لجميع آياته، وهي الأمر الدائم بالعقل، والتعقّل، والتدبّر، والتفكّر، في مئات من الآيات؛ وهو ممّا يكشف عن دور العقل وأهمّيّته كونه محوراً لا تكتمل المعرفة الدينيّة إلّا به، ومن هنا أفتى الفقهاء بحرمة التقليد في العقائد والمعارف الدينيّة، فكلّ مكلّف يجب أن يحقّق الفهم والوعيّ بعقائده، وذلك لا يمكن أن يتحقّق إلّا بالحجّة والبرهان المؤيّد بالعقل.

2024/08/13

بروميثيوس وقانون الأحوال الشخصية العراقي
في الميثولوجيا (الأساطير) الاغريقية القديمة تبرز لنا قصة "بريميثيوس" كشاهد على محاولات الإنسان منذ فجر البشرية لتجريد الإله عن دوره، فبعد أن أختار بريميثيوس صف الإله زيوس في حرب الآلهة، أمره بتشكيل البشر، كما أمر أخيه أبيميثيوس بتشكيل الحيوانات والذي قام بمهمته بسرعة، فاستنفد أفضل الموارد والميزات، كالسرعة وحدة النظر وشدة السمع والقوة ونحو ذلك، فكانت من حصة الحيوانات، بينما استغرق بريميثيوس وقتاً طويلاً في تشكيل البشر، الأمر الذي حرمهم من هذه الخصائص.

[اشترك]

ولتعويض البشر عن هذا النقص سعى بروميثيوس ـ وعلى خلاف رغبة زيوس ـ لوهب البشر العديد من العطايا والهبات عن طريق سرقتها من آلهة الأوليمب هيفاستوس وأثينا وغيرهم فأعطاهم فنون العمارة والبناء، النجارة، استخراج المعادن، علم الفلك، تحديد الفصول، الأرقام والحروف الهجائية، كما علمهم كيفية استئناس حيوانات ابيمثيوس وركوبها والأبحار بالسفن، كما أعطاهم موهبة التداوي والشفاء.

يحاول بعض المثقفين اليوم القيام بدور بريميثيوس هذا، من خلال سرقة بعض صلاحيات الإله واعطائها للبشر، يتجلى ذلك بمنافحة البعض عن تشريعات أثبتت التجربة الطويلة أنها كانت السبب الرئيس لتفكك العائلة.

أنا لست بصدد الدفاع عن القانون المقترح او توهين السابق، فقد كفانا الله تعالى مؤنة ذلك، كما اني لست حانقاً على اختلاف الجمهور بالتأييد او الرفض، فهي حالة إيجابية في كل مجتمع، على أن تكون في الموضع والمحل المناسب، بل يمكن القول ان اختلاف الناس هو المنشأ لظهور جميع الشرائع السماوية، فالنصوص الدينية تحكي لنا أن البشرية مرت بفترة من الوحدة والاتفاق لم يكن هناك ما يوجب سن القوانين والشرائع، حتى دب بينهم الخلاف والشقاق، فكان مقتضى الرحمة والحكمة الإلهية إرسال الرسل وإنزال الشرائع، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ..)، البقرة: 213. وليراجع في معنى الآية الكريمة تفسير الميزان.

فكانت بعثة الأنبياء وإنزال الكتب (الشرائع) بعد زوال الوحدة ووقوع الاختلاف، وعلى هذا فالغاية من الشريعة رفع الاختلاف بين الناس بوضع القانون من قبل جهة ثالثة لا تميل لأحد الفريقين المتخاصمين، وليس ذلك إلا الخالق جل أسمه.

فقانون مثل قانون الأحوال الشخصية هو مثار خلاف بين الرجل والمرأة من جهة، وبين من يتبنى الفكر الديني ومن لا يتبناه، وكل طائفة تدعو لضرورة الأخذ بقولها، الأمر الذي يتعذر معه وجود جهة بشرية محايدة، إلا على القول بوجود جنس ثالث!!

من له حق التشريع

من أهم البحوث التي تطرح حول الحقوق، والذي هو غايتنا من مقالنا هذا، هو السؤال عن معنى الحق، وما هو منشأ الحقوق؟ فجميعاً يقبل ويقر بوجود حقوق، ولا يوجد مجتمع في أي زمان لا يقر أفراده بوجود حقوق بينهم، كحق الأب على ابنه، وحق الإنسان في التصرف بملكه، وحق الزوج او الزوجة وهكذا.. فكل إنسان يعيش في مجتمع لابد أن يقر بمجموعة من الحقوق، وهذا مورد اتفاق. لكن السؤال المهم والذي صار محلاً للخلاف في فلسفة الحقوق: ما هو ملاك الحق، وبعبارة أخرى، ما هو المعيار الذي يحدد أن لشخص حقاً على شخص آخر؟ فلماذا صار للأب حق الطاعة والاحترام على ابنه مثلاً؟

ففي المسائل العلمية مثلاً، تكون التجربة هي المعيار، فإذا قال أحد أن الماء يغلي عند درجة مائة سيليزي. فالطريق للتأكد من صحة كلامه هو أخذ بعض الماء وتعريضه لهذه الدرجة من الحرارة. لكن في مسائل القيم والحقوق كيف نعطي الحق لشخص دون آخر؟ وفي المقام ثلاثة أجوبة من ثلاث مدارس:

أولاً: المدرسة الطبيعية: والتي تدعي أن الضابطة في الحق هي الطبيعة، فإذا كانت طبيعة هذا الشيء تقتضي ذلك فيكون من حقه، فمثلاً عندما نقول ان للإنسان حق الحياة وحق حصوله على الغذاء والشراب، فلإن طبيعة الإنسان هي من يمنحه هذه الحقوق، فلو لم يتمكن من تناول الغذاء او شرب الماء أو الدفاع عن حياته فستنتفي البشرية، إذن طبيعة الانسان هي التي تمنحه الحق بهذه الأمور، وهذا هو منشأ التعبير الدارج بيننا (هذا حق طبيعي للإنسان).

ولكن هذا الكلام إن صح، فإنما يصح في إثبات أصل الحقوق العامة التي تشترك فيها الكائنات الحية، أما حدود هذه الحقوق، فالطبيعة الإنسانية مثلاً تعجز عن تحديدها، فإن أثبتت هذه المدرسة أن للإنسان حق الحياة، فماذا تقول إذا تعارضت حياته مع حياة غيره، كما لو كانت حياة هذا الإنسان سبباً في موت الكثيرين، فهل يسقط منه هذا الحق؟! وإذا اقتضت طبيعة الإنسان أن يتناول الغذاء، فهل هذا يعني تناول أي غذاء حتى لو كان ملكاً لغيره؟! فالنظرية الطبيعية إن نجحت في بيان منشأ بعض الحقوق (الأساسية)، فإنها تعجز عن بيان حدودها، هذا مضافاً أن أكثر الحقوق لا تكون بهذه الدرجة من الوضوح، وأنها مما يتوقف عليه الطبيعة الإنسانية، فمثلاً الطبيعة تقضي بجواز استفادتنا من الموارد الطبيعة الموجودة تحت الأرض، كالنفط والغاز، لكن ما هي حدود هذا الحق، فهل لنا أن نستهلكها بصورة عشوائية بحيث لا نترك شيئاً للأجيال القادمة؟ . ولهذه الإشكالات وغيرها، لا نجد اليوم من يتبنى جواب المدرسة الطبيعية من الحقوقيين.

ثانياً: المدرسة الوضعية: وتعتبر من المدارس المهمة في مجال فلسفة الحقوق، وجوابها عن سؤال منشأ الحقوق هو النظرية المتداولة في الوقت الحاضر، والذي هو: ان منشأ الحقوق هو عبارة عن اتفاق جماعي، فالضابط في ثبوت حق لجهة ما، او لشخص معين هو قبول المجتمع. فإذا رأى أكثر الناس مثلاً ان هذا الأمر من حق الزوج، يثبت له ذلك، وهكذا. وما دام اتفاق الناس باقٍ فالحق باقٍ، أما إذا انتهى الاتفاق وتغير موقف المجتمع، فسيزول الحق حينئذٍ.

لكن هذا الكلام ايضاً يواجه إشكالاً معضلاً، وهو ما هو المسوغ في إعطاء الحق للمجتمع حتى يفرض إرادته على الفرد، لِمَ يجب تقديم مصلحة الأكثر على الأقل؟! فقد يرى الأكثر المصلحة في الخدمة الإجبارية في الجيش، ويرى الأقل خلاف ذلك، فما هو مسوغ تقديم قول الأكثرية؟! إذن لابد من وجود مناط وضابطة سابقة على المجتمع هي التي اعطته حق اتخاذ القرار وسن القوانين.

كما أنه من الواضح بناء على هذه الضابطة سوف لن تكون لدينا حقوق ثابتة، وعليه فليس لدولة أو منظمة من خارج هذا المجتمع أن تفرض رؤيتها عليه، فالمدار في ثبوت الحقوق على قبول أفراد ذلك المجتمع دون غيره. فلا معنى لمحاولات فرض بعض الدول او المنظمات تشريعاتها على دول ومجتمعات أخرى.

مع الالتفات أن ما نقوله هنا هو من باب الجدل بالتي هي أحسن، وإلا فكما سيتضح قريباً ان وجهة نظر الإسلام في منشأ الحقوق مختلفة عما يذهب اليه الوضعيون.

ثالثاً: المدرسة الإسلامية: وتبتني نظرية الإسلام على رؤية دينية توحيدية، تنطلق من أن لله تعالى غاية في خلقه وهو إيصال كل مخلوق لكماله الذي خُلق من أجله، فالإنسان مثلاً خُلق لغاية معينة، هي القرب من الله تعالى والتشبه بأسمائه وصفاته، ولكي يصل اليها يتطلب ذلك لوازم معينة، وحينئذ تقتضي رحمة الله تعالى وحكمته وعدله أن يُشرع قوانين توفر هذه اللوازم وتوصل الإنسان لهذه الغاية.

وبما أن الإنسان وفق الرؤية الإسلامية هو الغاية من خلق العالم برمته، فلابد أن تُقدم احتياجاته على سائر الخلق، فلكي نحفظ حق الحياة للإنسان، لابد أن نضحي بحق الحياة لبعض الكائنات الأخرى، كالحيوانات والنباتات، وحقه في السكن يُقدم على حقوق غيره من المخلوقات وهكذا. كل هذا وفق حدود بينتها الشريعة.

من هنا يرى الإسلام ضرورة إناطة مسألة التشريع بالله تعالى وحده، ولا يجوز ايكالها لغيره، لأنه الوحيد العالم بغايات خلقه والحدود التي تحقق هذه الغايات. كما أن الرؤية الإسلامية ترى أنه تعالى الخالق والمالك لكل ما سواه، وبالتالي فهو الجهة الوحيدة التي تملك حق التصرف فيما تملك.

من هنا نرى أن حق التشريع وسن القوانين لابد أن يتماهى مع غاية خلق الإنسان، وهو حق حصري لله تعالى، لا يجوز منازعته فيه، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)، الأحزاب: 36.

فينبغي للمثقف المسلم ألا ينساق وراء دعوات إلغاء او تحجيم الدين أو المؤسسات الدينية، فإنه ناشئ من عداء وحرب قديمة، شنها قادة التنوير منذ القرن الثامن عشر والى يوم الناس هذا، فاسمع لقادة الثورة الفرنسية ماذا يقولون:  

فلم يخفِ رينيه فيفياني (1863-1925)، الوزير الاشتراكي والجمهوري، ابتهاجه بإلغاء قوانين دينية، معلنًا بفخر: «لقد نجحنا في انتزاع الضمائر البشرية من الإيمان. ... لقد أطفأنا الأنوار في السماء التي لن تُضاء مرة أخرى! هذا هو عملنا، عملنا الثوري العظيم. نريد أن نُظلم السماء ونُطفئ كل نور فيها». الكتاب الأسود للإلحاد، لويس ميشيل بلان، ص49.

ووصل الأمر بأحد الوزراء البارزين في الحكومة الفرنسية إلى حد التحدي والإعلان صراحةً أن «قانون الجمهورية أقوى من قانون الآلهة» (أوروبا 1، 4 أكتوبر 2020). المصدر نفسه.

في كتاب آخر، "دين للجمهورية: الإيمان العلماني لفرديناند بويسون"، يكشف لنا كاتبه عن جوهر العلمانية، فيقول: «إنها ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي ثورة على الدين نفسه، على مفهوم الله والمسيح، وعلى سلطة الكنيسة بكل أشكالها. إنها دعوة إلى دين إنساني، حيث يتم تأليه الإنسان، وتحرير الدين من قيود العقائد والسلطات. إنها عملية إعادة تعريف للمفاهيم الروحية، لتكون غايتها خدمة الإنسان ومجتمعه، لا خدمة سلطة دينية أو عقائد جامدة». المصدر نفسه.

2024/08/12

ما هي هويتي؟ الانتماء للحضارة المادية أم الحضارة الدينية؟
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]

 

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول هذا موضوع «ما هي هويتي؟»، كل إنسان منا يطرح هذا السؤال، ما هي هويتي؟ هل هويتي الانتماء للحضارة المادية أم هويتي الانتماء للحضارة الإسلامية؟

ومن أجل أن نشبع هذا الموضوع نتكلم في محاور ثلاثة:

تعريف الهوية وأقسامها.
بيان الفوارق بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية.
بيان الهوية المثلى التي يفتخر بها الإنسان.

المحور الأول: في تعريف الهوية وأقسامها.

تعريف الهوية:

الهوية مصطلح يتردد في علم الاجتماع السياسي، وفي علم التاريخ، وفي علم النفس، وإن اختلفت التعريفات لاختلاف الزوايا المنظور إليها في التعريف، وهنا نذكر أربع تعريفات للهوية:

التعريف الأول: التعريف الفلسفي

في موسوعة ستانفورد، تعرف الهوية في الجانب الفلسفي بأنها ما يكون به الشيء شيئاً، كون الكائن الحي إنسان هي هويته، هويته أنه إنسان، كون هذا المائع ماء هي هويته، إذن هوية هذا المائع أنه ماء. ما يكون به الشيء شيئاً فهو هويته.

وبعبارة أخرى العنصر الثابت وراء العنصر المتغير، كل مخلوق له عنصر ثابت وعنصر متغير، هويته هي العنصر الثابت في حقيقته، مثلاً الإنسان يمر بعدة متغيرات من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، من جهل إلى علم، قد تتغير آراؤه، قد تتغير مناهجه. الإنسان معرض للتغير لكن هناك عنصر ثابت في شخصيته وراء المتغيرات كلها، ذلك العنصر الثابت يعبر عنه بكلمة «أنا»، الإنسان منذ طفولته يقول «أنا»، في شبابه يقول «أنا»، هناك عنصر ثابت يسمى «أنا» هو هوية هذا الإنسان، مهما تغيرت صورته وأفكاره ومواقفه فهو أنا، الأنا هي هويته.

التعريف الثاني: التعريف الاجتماعي.

في علم الاجتماع المعاصر تعرف الهوية بأنها نمط الصفات التي تظهر على سلوك الإنسان في الظروف المختلفة، إذا أردت أن تجرب إنسان عاشره في الظروف المختلفة، لا تستطيع أن تحكم على إنسان من ظرف واحد، حتى تحكم على إنسان جربه في ظروف مختلفة، نمط الصفات التي تظهر في الظروف المختلفة هو هوية الإنسان.

تجد إنسان كريم مهما اختلفت الظروف إذن هويته الكرم، تجد إنسان مزاجي عصبي في ظروف مختلفة إذن هذه هي هويته، تجد إنساناً وديعاً مسالماً مهما اختلفت الظروف فهي هويته، الهوية هي نمط الصفات التي تظهر على الإنسان مهما تغيرت الظروف.

التعريف الثالث: التعريف الاجتماعي.

ينقل الدكتور يوسف نصر عن معجم لا لاند الفرنسي بأنه يعرّف الهوية بالانتقال من الهوية الفردية إلى الهوية الاجتماعية، كل إنسان عنده هويتان هوية فردية وهوية اجتماعية، الهوية الفردية هي التي يكتسبها الإنسان من الأسرة، يتحدد مزاجه، وسماته الوراثية، وتجاربه التاريخية مع الأسرة، هذا الإنسان يعيش منذ أن يخرج من بطن أمه إلى أن تبدأ مرحلة المراهقة، إلى أن يصل إلى عمر اثني عشر سنة، في هذه السنوات تتحدد هويته الفردية، ما هو مزاجه، ما هي السمات الوراثية التي انعكست عليه، ما هي التجارب في مرحلة الطفولة التي أثرت في شخصيته، المجموع من المزاج والسمات الوراثية والتجارب من عالم الطفولة يحدد هويته الفردية، وبعد أن يبلغ اثني عشر سنة يبدأ بالاختلاط بالمجتمع فيحدد مواقفه وأراءه، يعين أصدقاءه، عندها ينتقل من الهوية الفردية إلى الهوية الاجتماعية، أسلوب تكيفه مع المحيط الجديد محيط المراهقة، محيط الأصدقاء، محيط التحرر من الأسرة، أسلوب التكيف مع هذا المحيط الجديد هو هويته الاجتماعية.

التعريف الرابع: التعريف الديني.

كيف يعرّف القرآن الكريم الهوية؟ ما هي الهوية الحقيقية الطبيعية بنظر القرآن الكريم؟ يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8» قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا «9» وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «10»﴾ [الشمس: 7 - 10] هناك فرق بين الروح والنفس، الروح هي التي قال عنها تبارك وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]

الروح هي النفخة الإلهية التي تمد الجسم بالحياة، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]

الروح هي نفخة الحياة التي تمد المادة بالحركة والنشاط، النطفة المنوية بمجرد أن تعلق بجدار الرحم تتصل بالروح، الروح خارج البدن تمد هذه المادة المنوية بالحركة فتبدأ المادة المنوية تتحرك نتيجة اتصالها بالروح، كما يتصل المصباح الكهربائي بالطاقة فينتشر الضوء، أيضاً المادة المنوية تتصل بالروح والروح تمدها بالنشاط والحركة، تبدأ المادة المنوية بالتحرك ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14»﴾ [المؤمنون: 12 - 14] نتيجة الاتصال بالروح تتحرك العلقة فتتكون النفس، النفس نتيجة حركة المادة، النفس نتيجة الحياة التي بثتها الروح في المادة، إذن النفس نتيجة، والروح مبدأ ومصدر.

هذه النفس التي تكونت لها أربعة أقسام وذكرناها في الليلة السابقة، أولها النفس الملهمة ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8»﴾[الشمس: 7 - 8] هذه النفس الملهمة هي هوية الإنسان، ميزة الإنسان على غيره أنه صاحب نفس ملهمة، أنتم تعلمون أن البشر غير الإنسان، البشر سبقوا الإنسان، الإنسان بشر وزيادة. قبل أن يولد الإنسان على الأرض كان هناك بشر، هذا البشر يعبر عنه ب إنسان نياندرتال «Neanderthal» وهو البشر الذي عاش على الأرض قبل الإنسان، صورته صورة الإنسان، جسمه جسم الإنسان، حركته حركة الإنسان ولكنه ما كان يمتلك هذه النفس الملهمة، ما كان يمتلك العقل القادر على التفكير والإبداع والتحليل، ما كان يمتلك القدرة العقلية التي يمتلكها الإنسان، أول إنسان هو آدم، ولكنه ليس أول البشر، آدم هو أول بشر يمتلك القدرة العقلية ويمتلك القدرة على اختراع اللغة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30]

﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة: 31] آدم مخلوق آخر عنده القدرة على التعلم، قدرة على التفكير، قدرة على النطق.

إذن آدم هو أول إنسان، والهوية الحقيقية للإنسان هي النفس الملهمة التي تميز بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، وأثرها القدرة على التفكير قال تبارك وتعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ «18»﴾ [الزمر: 17 - 18]

أقسام الهوية:

هناك هوية فردية، وهناك هوية اجتماعية.

الهوية الفردية: سبق أن حددناها في التعريفات الأربعة.

وكما أن للفرد هوية للمجتمع أيضاً هوية، ما هي هوية المجتمع؟

يقول الدكتور ماركسون في علم النفس المعرفي: الهوية الاجتماعية هي السمات المشتركة التي توحد أبناء المجتمع. العراقيون لهم أعراف خاصة توحدهم، اللبنانيون لهم أعراف خاصة توحدهم، كل بلد وكل مجتمع له أعراف وتقاليد ومراسم خاصة في الفرح والحزن. هذه المراسم وهذه الأعراف هي سمات مشتركة يعبر عنها بالهوية الاجتماعية، توحد الناس على عرف معين وعلى مراسيم معينة.

الهوية الاجتماعية لها منطلقات أربعة:

المنطلق الأول: الأرض، التربة، مسقط رأسك منطلق لهويتك، مولدك منطلق لهويتك، وهذا ما يعبَّر عنه بالهوية الوطنية، الهوية الوطنية هي التربة التي ولدت عليها وعشت، الإنسان بطبعه يحن إلى التربة التي عاش فيها طفولته، الرسول محمد 

 بعد أن هاجر إلى المدينة جاء جمع من أهل مكة يزورون المدينة، فسألهم الرسول الأعظم: كيف تركتم مكة؟ قالوا: تركناها وقد نبت الإثمد في جنباتها. فذرفت عينا رسول الله 

 وقال: لو لا أن أهلها أخرجوني منها لما خرجت منها.

الإنسان يحن إلى التربة التي تحدد هويته الوطنية

وأول أرض مس جلدي ترابها.

 

بلاد  بها  نيطت علي تمائمي

المنطلق الثاني: اللغة، وتسمى الهوية القومية، اللغة العربية تجمع أعراق ومجتمعات إذن اللغة العربية هوية، اللغة الإنجليزية أعراق ومجتمعات إذن الهوية هي اللغة الإنجليزية، اللغة هوية بمعنى الهوية القومية، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]

المنطلق الثالث: التراث، ويعبر عنه بالهوية الحضارية، العراقيون يفتخرون بتراث بابل، والمصريون يفتخرون بتراث الفراعنة. التراث نوع من الهوية الاجتماعية يعبر عنه بالهوية الحضارية.

المنطلق الرابع: الدين، الدين يجمع الملايين التي تختلف في الأعراق والألوان واللغات، الدين المسيحي، الدين الإسلامي، الدين اليهودي. هذا الدين هو هوية لهذه المجتمعات التي يجمعها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102] ثابتون على هويتكم الدينية ألا وهو هوية الإسلام.

المحور الثاني: في بيان الفوارق بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية.

هل يحتاج الإنسان إلى هوية؟

نعم هناك حاجة ضرورية للهوية، لا نقصد بالهوية الرسمية بل نقصد الهوية الحقيقية، هناك حاجات ثلاث وقد أشرنا إليها في الليالي الماضية:

الحاجة الأولى: حاجته للتعبير عن الذات، حاجة الإنسان إلى الهوية هي حاجته إلى الانتماء الاجتماعي، حاجة الإنسان إلى الهوية هي حاجته للتقدير الاجتماعي، الطفل الذي يعيش في الأسرة يحتاج أن تعطيه الأسرة ثلاث حاجات في السبع السنوات الأولى، اترك الطفل يعبر عن نفسه ويطلق أفكاره ومشاعره، يتكلم، يتحدث، اعط الطفل فرصة أن يتكلم ويعبر عن ذاته لأن هذا التعبير في الذات يساهم في تكوين شخصيته وثقته بنفسه وتحقيق ذاته وتطوير ملكاته، الطفل يحتاج أن يعبر عن ذاته فإذا لم يعط هذه الفرصة تحول إلى شخصية انطوائية انعزالية.

الحاجة الثانية: حاجة الطفل إلى الانتماء، يحتاج منك أن تغذي في الطفل شعوره بالانتماء، أن عنده أسرة، عنده كنف، أنت ابن فلان، أنت ابن العائلة، أنت ابن المجتمع الإسلامي، أنت ابن اللغة العربية. هذه الانتماءات تخلق عند الطفل شعور بالحماية والأمن والقوة، الطفل يحتاج أن يشعر بالانتماء، أنه ينتمي إلى أسرة، ينتمي إلى لغة، ينتمي إلى دين، ينتمي إلى مجتمع، لا أنه يعيش في مجتمع مبعثر لا هوية له ولا انتماء له، حاول أن تغذي طفلك بمجموعة من الانتماءات، حاجة الإنسان إلى الشعور بالانتماء حاجة ضرورية لو لم يعطَ هذه الحاجة يتحول إلى شخصية قلقة مترددة، ليست واثقة بذاتها لأنه ليس لديه انتماءات وارتباطات.

الحاجة الثالثة: الحاجة إلى التقدير، عندما يقوم الطفل بإبداعات قدّره، اعطه جائزة إذا قام بعمل، عوّد طفلك على أن يبدع وينتج، فإذا أنتج قدم له الجائزة، الإنسان يحتاج إلى التقدير، كل إنسان يقدم عطاء، يقدم اختراع، يقدم نتاج يحتاج إلى التقدير الاجتماعي، لو لم يعطَ التقدير الاجتماعي لتحول إلى شخصية عدوانية، شخصية نقمة على المجتمع لأن المجتمع لم يحترمه ولم يقدره.

من هنا جئنا إلى النقطة الفاصلة، كثير من شبابنا وشاباتنا يقولون أنا لا أنتمي إلى الإسلام، لا أنتمي إلى البلاد العربية، لأنها ما قدمت لي شيء، أنا أنتمي إلى الحضارة التي قدمت، أنتمي إلى الحضارة التي أعطت، أنتمي إلى الحضارة الغربية، أنتمي إلى الحضارة المادية لأن الحضارة المادية قدمت لي حاجات، الحضارة المادية أشبعتني بالشعور بالانتماء لأنها قدمت لي الأمن المعيشي، الحضارة المادية قدمت لي من الحذاء إلى السيارة إلى المنزل، قدمت لي كل هذه القضايا المعيشية المادية، إذن الحضارة الغربية المادية أشبعتني وأعطتني الشعور بالانتماء، لأنها قدمت لي الأمن المعيشي، لأنها قدمت لي الأمن المادي، أنا أعيش حياة معيشية كاملة.

الحضارة المادية جعلتني حراً أعبر عن ذاتي كما أريد، فإذن أعطتني وأشبعت عندي الحاجة في التعبير عن الذات، الحضارة المادية قدرت جهودي، دراستي الجامعية، منتجاتي، مشاريعي، الحضارة الغربية المادية قدرت هذه الجهود، منحتني كل الامتيازات، بالنتيجة كثير من أبنائنا وإخواننا يقولون انتمائنا للحضارة المادية لأنها أشبعت عندنا حاجاتنا الأساسية، حاجة التعبير عن الذات، حاجة الانتماء الاجتماعي، حاجة التقدير الاجتماعي، فلماذا ننتمي للحضارة الإسلامية؟ ماذا قدمت لنا حتى ننتمي إليها؟

هناك فرق بين الإسلام والمسلمين، وفي هذا المقام أنصح بقراءة كتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» المؤلف أبو الحسن علي الندوي من الهند، وهو كتاب عظيم يقرأ الحضارة المادية في كل صورها، إذا لم يلتفت المسلمون لمعالم الحضارة الإسلامية بمعالم الحضارة الإلهية السماوية فهذا لا يعني أن الحضارة الإسلامية أخفقت وأنها لم تقدم النتاج المطلوب.

هناك فوارق أساسية بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية على المستوى الفكري، على المستوى السلوكي، وعلى المستوى الشعاري والطقوسي.

الفارق الأول: على المستوى الفكري.

أما على المستوى الفكري فالفرق بين الحضارتين عندنا أبعاد ثلاثة:

البعد الأول: هل المحورية في عالم الوجود للإنسان أو للسماء؟ هل المركزية في إدارة الحياة للإنسان أو للسماء؟

الحضارة المادية تقول أن المركزية والمحورية للإنسان، لو قرأت لائحة حقوق الإنسان التي صدرت من الأمم المتحدة عام 1948م لرأيت أنها تقرر أن المحورية للإنسان ومركزيته، ولا يهم شيء آخر.

بينما الحضارة الإسلامية ترى أن المحورية للسماء، إذا قرأت القرآن لا يوجد سورة لا تركز على الله، وعلى عبادة الله، وعلى الرجوع إلى الله، لأن المحورية لله، المحورية للسماء، من هنا تقول الحضارة الإسلامية: الإنسان مجرد وكيل وليس أصيل، الإنسان في هذا الكون مجرد وكيل وخليفة وليس أصيل، الأصالة لله تبارك وتعالى، وبما أن الإنسان مجرد وكيل وخليفة وليس أصيل إذن يجب أن يكون العقل المدبر للحياة الاجتماعية هو العقل اللا محدود وهو الله، وليس العقل المحدود وهو الإنسان.

بما أن المحورية لله، للسماء إذن العقل المدبر لإدارة الحياة هو السماء وليس الإنسان المحدود الذي يعيش على الأرض، الإنسان مجرد وكيل، خليفة، والخليفة يعمل بنظام المستخلف، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]

الإنسان يقول القرآن الكريم عنه: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد: 7] أنت مجرد خليفة ولست رئيس ولست أصيل، لذلك لما نرجع إلى لائحة حقوق الإنسان نجد أن هناك حقوق سماوية لم تذكر في لائحة حقوق الإنسان الصادرة من الأمم المتحدة، مثلاً حق الجنين في الحياة.

الله يرى أن الجنين منذ أول يوم هو إنسان، لا يجوز إجهاضه والقضاء عليه، إجهاض الجنين هو قضاء على نفس إنسانية، حق الجنين في الحياة هو حق أقرته السماء ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: 12]، الإنسان له حق الحياة وهو في رحم أمه، وهو جنين، منذ أول يوم، حق لا تذكره الحضارة المادية ولكن تنص عليه الحضارة الإسلامية، الإنسان له حق الحياة وإن كان نطفة، وإن كان جنيناً، وإن كان ابن أيام.

الحق الآخر حق الإنسان في سمعته، الإسلام يرفض أن تساء سمعة الإنسان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12] الإنسان له حق في سمعته، له حق في كرامته، له حق في تاريخه، لا يجوز الإساءة لسمعته، هذا حق من حقوقه.

إذن بالنتيجة هناك اختلاف في لائحة الحقوق على المستوى الفكري بين الحضارة المادية وبين الحضارة الإسلامية.

البعد الثاني: الحرية.

الحرية بنظر الحضارة المادية حق مفتوح، أنت حر ما لم تزاحم حرية الآخرين، أنت حر ما لم تضر بحرية الآخرين، أنت حر، هل كذا الحضارة الإسلامية أم لا؟ هل الحضارة الإسلامية تعطيك حقاً مفتوحاً تسميه الحرية بلا حدود؟

الحرية في الحضارة الإسلامية مؤطرة بإطارين:

الإطار الأول: الحرية في إطار الكرامة، الحق الأول للإنسان هو الكرامة وليس الحرية، لاحظوا القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70] كرامة تشريعية، كرامة تكوينية، الحق الأول هو الكرامة وليس الحرية، يجب أن تكون الحرية في إطار الكرامة، وليست فوق الكرامة، هل الإنسان حر في أن يجعل نفسه كلباً؟! هل الإنسان حر في أن يصغر نفسه ويجعلها حيواناً؟ أنت لست حراً في أن تدنس كرامتك وتدوسها، الحرية في إطار الكرامة وليست فوق الكرامة، ورد عن الرسول محمد 

: ”إن الله فوض إلى المؤمن كل شيء ولم يفوض إليه أن يذل نفسه.“

الحرية في إطار الكرامة، لست حراً في أن تدوس كرامتك، لست حراً في أن تحول نفسك إلى حيوان، لست حراً في أن تتصرف في جسدك بما يسقط كرامتك وسمعتك.

الإطار الثاني: الحرية وسيلة وليست غاية، ولأن الحرية وسيلة وليست غاية بنظر الحضارة الإسلامية لذلك لابد أن تكون الحرية في إطار القيم وفي إطار المثل، مثلاً في الحضارة المادية إذا بلغ الإنسان ثمانية عشر سنة من حقه أن يتحرر من الأسرة، وينعزل عنها ويلغي كل ارتباطاته مع الأسرة، ولكن في الحضارة الإسلامية ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا «23» وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا «24»﴾ [الإسراء: 23 - 24]

ويقول القرآن: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان: 15]

ويقول القرآن: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ [لقمان: 14]

في الحضارة الإسلامية تبقى الأسرة سنداً لك ويبقى للوالدين حق عليك، حريتك في إطار هذه القيم الاجتماعية ومنها قيمة بر الوالدين واحترامهم.

البعد الثالث: هناك أسئلة فطرية ترد على كل إنسان، من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ وما هو طريقي؟

يقول إيليا أبو ماضي:

 

 

جِئتُ   لا   أَعلَمُ   مِن  أَين  وَلَكِنّي  أَتَيتُ

 

 

وَلَقَد   أَبصَرتُ   قُدّامي   طَريقاً   فَمَشَيتُ

 

 

وَسَأَبقى  ماشِياً  إِن  شِئتُ  هَذا  أَم  أَبَيتُ

 

 

كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري

 

 

أَجَديدٌ   أَم   قَديمٌ   أَنا   في  هَذا  الوُجود

 

 

هَل   أَن   أَصعَدُ   أَم  أَهبِطُ  فيه  وَأَغور

 

 

أَأَنا  السائِرُ  في  الدَربِ  أَمِ  الدَربُ  يَسير

 

 

أَم  كِلانا  واقِف وَالدَهرِ يَجري لَستُ أَدري.

هذه أسئلة فطرية طبيعية في الإنسان، الحضارة المادية لا شغل لها في هذه الأسئلة، المهم أن تصبح آلة كادحة لخدمة التقدم التكنولوجي، الحضارة المادية ليست معنية بالإجابة عن هذه الأسئلة، أما الحضارة الإسلامية فتراها أسئلة أساسية تعتمد عليها حياتك وفكرك ومسيرتك، ورد عن الرسول محمد 

: ”رحم الله امرأً عرف من أين وفي أين وإلى أين.“

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، هذا هو الفرق بين الحضارة المادية والحضارة الإسلامية في المستوى الفكري.

الفارق الثاني: على المستوى السلوكي.

هنا بعدان تختلف فيه الحضارة المادية عن الحضارة الإسلامية:

البعد الأول: العنصر الاجتماعي.

الإسلام يدعم الحضارة لكن الحضارة القائمة على الأخوة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، الحضارة القائمة على التعاون والوحدة ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2] ويقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]

الإسلام يدعم الحضارة التكنولوجية ولكن يقول يجب أن تكون الأرضية لهذه الحضارة أسرة متلاحمة مترابطة تجسد الأخوة والوحدة الإنسانية لا أنها مجتمع متبعثر مفكك، المجتمع في نظر الإسلام كله أسرة واحدة، لذلك يوصي بالجيران، يوصي بالأرحام ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]

﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22]

هذا بُعد سلوكي وفرق بين الحضارتين، الحضارة المادية مجتمع مفكك، الحضارة الإسلامية مجتمع واحد تجمعه الأرحام والجيران والعلاقات الأسرية.

البعد الثاني: هل من حق الإنسان أن يستثمر ثروته حتى مع ظلم الآخرين؟

الحضارة الإسلامية تقول لا يمكن ذلك، يكون ظلم للآخرين من خلال الربا، بينما الحضارة الرأسمالية قائمة على البنك الربوي، الحضارة الإسلامية تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «278» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ «279»﴾ [البقرة: 278 - 279]

ليس من حقك أن تستثمر أموالك في الربا لأن الربا ظلم، تمنع منه الحضارة الإسلامية وتفتح أبوابه الحضارة الرأسمالية، هل من حق المسلم أن يستثمر تجارته في ترويج المخدرات؟

الحضارة الإسلامية تمنع من ذلك وإن فتحت الأبواب الحضارة المادية، فتح الأبواب لاستثمار الأموال في تجارة المخدرات يعني قتل للطاقة البشرية، أعظم طاقة لدينا هي الطاقة البشرية، لدينا طاقة المعادن، طاقة الزراعة، لكن أهم طاقة يعتمد عليها الاقتصاد هي الإنسان، الإنسان هو أهم طاقة وأهم ثروة، نشر المخدرات وترويجها قتل للطاقة الإنسانية، نشر للفساد، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ «204» وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ «205»﴾ [البقرة: 204 - 205]

إذن هذا فرق بين الحضارتين على المستوى السلوكي.

الفارق الثالث: على المستوى الشعاري.

للحضارة المادية شعارات ورموز وللحضارة الإسلامية شعارات ورموز أيضاً، من شعار الحضارة الإسلامية المسجد، الحجاب، الحجاب رمز للحضارة الإسلامية، الفتاة التي تحافظ على حجابها تبرز انتمائها للحضارة الإسلامية، الفتاة التي تحافظ على حجابها في الجامعة، في العمل، في الأسواق تبرز انتمائها لهذه الحضارة الإسلامية العريقة، إذن الحجاب رمز وشعار للحضارة الإسلامية كما أن منارة المسجد شعار ورمز للحضارة الإسلامية.

إذن الحضارة الإسلامية ومعالم الحضارة الإسلامية على المستوى الفكري، وعلى المستوى السلوكي، وعلى المستوى الشعاري إذا قارنت بينها وبين الحضارة المادية لوجدت أنها تفوقها وتتميز عليها، فحدد انتماءك واعتزازك، قل هويتي هي الانتماء للحضارة الإسلامية بمعالمها المشرقة التي قال عنها القرآن الكريم: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102]

المحور الثالث: في بيان الهوية المثلى التي يفتخر بها الإنسان.

الهوية الحقيقية المثلى هي التي تجمع ثلاث خصال:

أولاً: توحد الناس في المثل والقيم.
ثانيا: تعطي الناس حرارة التفاعل مع المثل والقيم، لا تقدمها مجرد تقديم فكري بل تقدم المثل والقيم تقديماً تربوياً يعطينا حرارة وتفاعلاً معها.
ثالثاً: أنها شرف في الدنيا وشرف في الآخرة.

وهذه الهوية التي تجمع الخصال الثلاث هي الهوية الحسينية، الحسين 

 هويتنا، الحسين 

 رمزنا وشعارنا، الحسين هوية تجمع الخصال الثلاث، هوية تغذينا بالقيم والمثل، قيمة العزة ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]

قيمة الكرامة والإباء «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد»

قيمة الإصلاح «ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»

تعطينا قيمة شرف الدنيا، وشرف الآخرة «اللهم إني أسألك أن أكون وجيهاً بالحسين في الدنيا والآخرة»

إذن الهوية الحسينية هي التي تجمعنا، هي التي تعطينا الحرارة والتفاعل الشديد العميق مع الحسين، مع مبادئ الحسين، مع قيم الحسين، مع مصيبة الحسين، مع رزية الحسين 

، لذلك ورد في الحديث الشريف عن الرضا 

: إن لجدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً.

حرارة مصابه، حرارة رزيته، حرارة مظلوميته، الحسين هويتنا، كربلاء هويتنا، وخير من يمثل هذه الهوية في هذه الأيام أبي الفضل العباس قمر بني هاشم صلوات الله وسلامه عليه.

2024/07/20

هل يمكن إثباء وجود الأنبياء بـ «الآثار»؟
مع تطور دراسات علم (النقد الأعلى) وهو علم يهتم بدراسة مصادر الوثائق، لمعرفة مؤلفها وزمن تأليفها ومكانه، ضعفت الثقة بمصداقية الكتاب المقدس، خصوصاً بعد التزام أغلب الجهات الأكاديمية الغربية بالفلسفة الوضعية المنطقية، التي تؤمن بالأدلة الحسية دون غيرها، فبعد أن كانت مدرسة الأركيلوجي الأمريكي وليام فوكسويل أولبرايت وتلاميذه مهيمنة على الجو العلمي للبحث التاريخي طيلة القرن العشرين، والتي كانت تؤمن بحجية نصوص الكتب المقدسة وصلاحيتها لأن تكون أدلة تاريخية على الأحداث، ظهر توجه جديد بين الباحثين، لا يؤمن بحجية النصوص الدينية في الكتاب المقدس، ولا يعتبرها أدلة تاريخية، عرفوا بمدرسة (الحد الأدنى).

وذلك في العقد السابع من القرن الماضي، بعد صدور كتابين مثيرين لباحثين أمريكيين، هما (تاريخية روايات الآباء: البحث عن إبراهيم التاريخي)، لتوماس تومسون، و (إبراهيم في التاريخ والتراث) لجون فان سيترز، وقد نقضا فيهما الطرح الأولبرايتي الكلاسيكي، وأقاما الأدلة والقرائن على أثر بيئة القرن السابع أو السادس قبل الميلاد في كتابة النص التوراتي، وقد أدى ذلك لظهور المدرسة الجديدة، مدرسة الحد الأدنى.

فكما هو واضح من عنوان الكتابين اللذين مثلا خط شروع التيار الجديد، كانت مسألة ثبوت ووجود بعض الأنبياء اللذين ذكرتهم الكتب المقدسة هي المسألة الأولى التي بحثتها مدرسة الحد الأدنى، فكانت الانطلاقة الأولى، لإثارة الشك في تاريخية الأنبياء في هذه الفترة، أثر انحسار أطروحة مدرسة وليام فوكسويل أولبرايت؛ ولموافقة التيار الجديد للفلسفة الحاكمة للجو الأكاديمي الغربي وهي الوضعية المنطقية التي لا تؤمن بغير الدليل المادي، تمدد الطرح الجديد بسرعة في عالم الدراسات الدينية؛ لتصبح قصص الأسفار التوراتية مجرد عمل دعائي يهودي لا قيمة تاريخية له. 

وقد اقتبس جماعة من الكُتاب العرب هذا المنهج، رغم عدم تخصصهم ولم يُعرف عنهم أن مست أيديهم تراب الحفريات، وإنما هو التأثر بالغرب المتقدم، وتقليده الأعمى، من دون ملاحظة السبب الرئيس الذي أدى بالغربيين لطرح منهج أولبرايت والالتزام بمنهج توماس تومسن ومدرسة الحد الأدنى، وهو ثبوت تحريف الكتاب المقدس وبالتالي سقوط قيمته في النقل التاريخي، بخلاف القرآن الكريم، الذي بقي مصوناً من التحريف بما لا يقبل الشك. 

فكان الرواد مجرد نقلة عن كتب المستشرقين، أو غلاة الأركيلوجيين، وعلى رأسهم في النصف الأول من القرن العشرين طه حسين صاحب العبارة الشهيرة التي أثارت واحدة من أبرز الزوابع الفكرية في حينها: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يحدثنا عنهما ايضاً. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن أبراهيم الى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون الى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويثبتون فيه المستعمرات. (في الشعر الجاهلي، ص29). 

فهل بين لنا الدكتور طه حسين سبب عدم كفاية التوراة والقرآن الكريم لإثبات وجود الأنبياء؟! فإن تفهمنا ذلك في التوراة بسبب امتداد يد التحريف والتلاعب لها، فماذا يقول في القرآن الكريم؟! قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، الأسراء: 72.

وقد أثر العزوف المعرفي الإسلامي عن المساهمة في جدل الأركيولوجيا الكتابية والقرآنية الى فتح المجال للكتاب الملحدين واللادينيين العرب لبث مغالطاتهم التاريخية، والترويج لطروحات مدرسة الحد الأدنى، ككتابات الكاتب السوري فراس السواح الذي لا تكاد تتجاوز جهوده في البحث التوراتي عن تعريب أطروحة زعيم متطرفي الحد الأدنى توماس تومسون.

والذي يظهر تأثره وتبعيته له من خلال قوله التالي: «لقد أراد أصحاب النظرية الأركيولوجية الحديثة إنقاذ ما تبقى من السمعة التاريخية للرواية التوراتية، عن طريق إثبات جوهر الرواية وإسقاط جميع تفاصيلها، ولكن النتائج التي خرجوا بها قد دقت، والى الأبد المسمار الأخير في نعش هذه الرواية بجوهرها وجميع تفاصيلها، وقدمت لنا المادة اللازمة لكتابة تاريخ فلسطين في عصري الحديد الأول والثاني، ودراسة أصول إسرائيل بشكل علمي مستقل عن التوراة. وهذا ما قام به على أكمل وجه الباحث توماس ل. تومبسون في كتابه الصادر عام 1992، تحت عنوان (The Early History of the Israelite People). آرام دمشق، ص176.

وكذلك الكاتب العراقي خزعل الماجدي الذي لم يتطرق لأركيولوجيا التوراة إلا في كتابه (تاريخ القدس القديم)، والذي نقل فيه أطروحة توماس تومسون أيضاً وهي كتابه (التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي)، والذي سنختار تقريره لشبهة عدم ثبوت وجود الأنبياء الذين ذكرتهم الكتب المقدسة.

فقد ذكر في لقاء عبر وسائل التواصل: «إنَّ الحضاراتِ القديمةَ المُفترضُ وجودُ الأنبياءِ في عصرِها كالسومريّةِ والأكّاديّةِ وغيرِها ذكرَت تفاصيلَ دقيقةً عن حياةِ البشرِ والحروبِ والمأكولاتِ وغيرِ ذلك ولكنّها لم تتعرَّض لذكرِ الأنبياءِ والرّسل وهذا يدلُّ على أنّهم وهميّونَ ألّفَ قصصَهم بنو إسرائيل بناءً على تراثٍ مسروقٍ مِن مناطقَ أخرى.. ».

ونحن قبل تسليم علم الأركيولوجيا صولجان الحكم والبت في قضايا تاريخية ذكرتها الكتب المقدسة، لابد أولاً من تقييمها من جهتين:

الأولى: حجم وكمية المحفوظات من الآثار القديمة، وقدرتها على رسم صورة كافية عن الماضي. والثانية: موضوعية هذا العلم ومقدار تأثره بالفلسفات والآيدلوجيات.

أما الجهة الأولى: فالبحث الأركيولوجى يتعامل مع بقايا العمران القديم بعد أن تهدم وضاع منه الكثير مما قد يقود أحياناً الى استنتاجات خاطئة، فالمعروف بين علماء الآثار، إن نسبة المكتشف من آثار السابقين لا تتعدى نسبة 5%، وإن ما تم اكتشافه فعلياً لم تتم دراسته كله ونشر الأبحاث عنه، فمثلاً من بين 25 ألف لوحة نقوش طينية مسمارية من مجموعة ماري/تل حريري لم ينشر حتى الان سوى بضعة آلاف، ويقول أحد مشرفي المتحف البريطاني أنه من بين 150 ألف لوحة طينية مسمارية تم فقط أرشفة الثلث.

وقد تناول ذلك الأركيولوجي ندف نأمان في مقالته: (هل يستحق علم الأركيولوجيا حقاً مقام محكمة عليا؟)؛ وذكر أكثر من مثال على تعارض دلالات بقايا العمران مع الشهادات التايخية القطعية.

بل إن الفجوات في الأدلة الأركيولوجية واضحة جداً، فمثلاً إن أورشليم القديمة التي قُتلت بحثاً، ولم يظن أحد إمكان الكشف عن جديد فيها، شهدت كشف مُجمع إداري أثري كامل سنة 2020.

وفي جنوب شرق آسيا إمبراطورية كاملة لا يعرف عنها أحد شيئاً لولا ذكر وجودها في السجلات الصينية القديمة، وفقط في 2023 بدأ العثور على بعض آثارها.

فى ظل كل ما سبق يتضح بجلاء أي لغة وثوقية قائمة على الادعاء بقطعية وشمولية استنتاجات الأبحاث الأركيولوجية، فالمنهج الذي يعجز عن إثبات وجود إمبراطوريات كاملة فهو في إثبات وجود بعض الشخصيات (الأنبياء) أعجز.

فالتفاصيل الحياتية لأي أمة تشمل مساحة بحث كبيرة مكانياً وزمانياً شاملة كل المساحة الجغرافية لتواجد هذه الأمة، وكل الفترة الزمانية والتي تصل الى مئات أو الاف السنين. ومن الطبيعي في هذه الحالة ألا يتم اكتشاف سوى الأواني وعظام الحيوانات وبقايا الطعام الذي كان يمثل "زاد الاخرة" في المقابر بجوار المومياوات.

 وهذا يختلف جذرياً عن نطاق البحث عن آثار النبوة والتي تشمل ملاحقة آثار بضعة أشخاص قل أتباعهم ولم يكن لهم سلطان سياسي أو نفوذ أو مناصب الا فيما ندر، بل لفظتهم أقوامهم وكذبتهم في معظم الأحوال، قال تعالى: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)، هود 17، وقال أيضاً: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ)، الأعراف 101.

 واتهمتهم أممهم بالسحر والجنون، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)، الذاريات 52.

بل إن ملوكاً مشهورين من قبيل سرجون الثاني، وسنحاريب، تندر النصوص التي تثبت وجودهم، حتى ساد الاعتقاد بأن الملك الأشوري توديا شخصية خرافية إلا أن تم اكتشاف نص يشهد لوجوده.

وإذا كان الملوك الذين هم أكثر الشخصيات سطوة وتأثيراً ونفوذاً يمكن أن تضيع أو تندر آثارهم فما بالنا بقلة مستضعفة معارضة كالأنبياء وأتباعهم؟!

فحوليات الملوك والنقوش التي يعتمدها الماجدي وأمثاله، ما هي الا مدونات لتمجيد الحكام وطمس عيوبهم، يكتبها من يختارهم الملك ذاته، ويتم استخدامها للتباهي والتفاخر، فمن الطبيعي يتم فيها إهمال كل من يعارضهم ويقف في وجوههم من الأنبياء.

وأما من الجهة الثانية:

فالمعلوم ان أخطر ما يوجه العمل الأركيولوجي هو الافتراضات المسبقة، وما يعتقده الباحث من أيدلوجية، وقد نبه على ذلك الأركيولوجي جيمس ك. هوفرنير، حيث قال: «كل باحث له افتراضات تؤثر على قراءاته عندما يقترب من النص او البيانات الأركيولوجية. »Israel in Egypt, p14.

وعليه فالكشف الأثري يكون مفتوحاً على تفسيرات عدة، بناء على قبليات الأركيولوجي، يشهد لذلك قول ندف نأمان: «نتائج الحفريات الأركيولوجية، مثل المصادر المكتوبة، مفتوحة لتفسيرات مختلفة، وأحياناً متناقضة، فالأدبيات الأركيولوجية تعج بالخلافات على عدد لا حصر له من القضايا... البيانات الأركيولوجية لا تتحدث عن نفسها بنفسها، وتفسيرها محفوف بالصعوبات.» Bob Becking , lester Grabbe, eds, p.167.

تأثر المدرسة الحديثة للأركيولوجيا بالفلسفات العدمية

منذ ستينات القرن الماضي سيطرت ثقافة ما بعد الحداثة على الفضاء الثقافي للجامعات الغربية، حيث الشك مبدأ ومنتهى البحث، والتأويل والتخمين هو الأمر الوحيد الممكن، وقد تناول لذلك المؤرخ كيث وندشاتل في كتابه (قتل التاريخ: كيف قتل النقد الأدبي ومنظرو الاجتماع ماضينا؟) بحديثه عن جناية مناهج ما بعد الحداثة على كتابة تاريخ الأمم، ونقل سؤال الأركيولوجي ـ اللاأدري ـ ويليام ديفر في كتابه (مالذي عرفوه مؤلفو الكتاب المقدس، ومتى عرفوه؟ ص 128): «لماذا دائماً يتم التعامل مع النصوص الكتابية من خلال (تأويلات الشك) النموذجية لما بعد الحداثة، بينما يتم قبول النصوص غير الكتابية على ظاهرها؟ يبدو أن الكتاب المقدس يُدان تلقائياً حتى تثبت براءته».

من هنا ذهب البعض الى رفض اعتبار الأركيولوجيا علماً من الأساس، إذ هي (مجرد تجمع لتقنيات، وليست علماً كما هو مفترض في العلوم الطبيعية، أي إنها لا ترتقي الى البحث في الإنسان القديم ونشاطاته؛ لأنها لا تملك غير القياس الفيزيائي والحسابي). Archaeological Science, p.4.

وبعد هذا كله نعرف قيمة علم الأركيولوجيا، وقيمة الدعوة القائلة بضرورة الاكتفاء بالكشوفات الأثرية.

المصدر: slamwhy
2024/05/07

لا يُعرف بالرجال.. ما هي خطوات معرفة الحق؟!
في الخبرِ إنَّ الحارثَ بنَ حَوط أتى عليّاً عليهِ السلام، فقالَ لَهُ: أتراني أظنُّ أنَّ أصحابَ الجملِ كانوا على ضلالة؟

فقالَ عليهِ السلام: يَا حَارِثُ، إِنَّكَ نَظَرتَ تَحتَكَ، وَلَم تَنظُر فَوقَكَ فَحِرتَ! إِنَّكَ لَم تَعرِفِ الحَقَّ فَتَعرِفَ أهلَهُ، وَلَم تَعَرِفِ البَاطِلَ فَتَعرِفَ مَن أَتَاهُ. 

فقالَ الحارث: فإنّي أعتزلُ معَ سعدِ بنِ مالك وعبدِ اللّهِ بنِ عُمر. 

فقالَ عليهِ السلام: إِنَّ سَعداً وَعَبدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ لَم يَنصُرَا الحَقَّ، وَلَم يَخذُلاَ البَاطِل. 

وفي أماليّ المُفيد: فقالَ له الحارث: لو كشفتَ - فداكَ أبي وأمّي - الرّينَ عَن قلوبِنا وجعَلتنا في ذلكَ على بصيرةٍ مِن أمرِنا، فقالَ (عليهِ السلام): فَإِنَّكَ امرُؤٌ مُلبوسٌ عَلَيكَ. إنَّ دينَ اللّهِ لا يُعرَفُ بِالرِّجالِ، بَل بِآيَةِ الحَقِّ؛ فَاعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أهلَهُ. 

تبتني كلماتُ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) على وضوحِ الحقِّ وظهورِه، فليسَ هناكَ شيءٌ أكثرُ ظهوراَ ووضوحاً منَ الحقِّ إذا خلصَ مِن مزاجِ الباطل، فالحقُّ دالٌّ على نفسِه كما أنَّ النورَ دالٌّ على ذاتِه، يقولُ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (إنَّ على كلِّ حقٍّ حقيقةً، وعلى كلِّ صوابٍ نوراً)، وعليهِ فإنَّ المشكلةَ ليسَت في ظهرِ الحقِّ ووضوحِه، وإنّما المُشكلةُ في الإنسانِ الذي لا يحبُّ رؤيةَ الحقِّ الذي فيهِ مُخالفةٌ لهواه، ففي أغلبِ الأحيانِ لا يحبُّ الإنسانُ أن يرى الحقائقَ كما هيَ وإنّما يحبُّ أن يراها كما يحبُّ هوَ أن يراها، ولذا يعملُ على تلوينِها وتعديلِها حتّى تنسجمَ وتتناسبَ معَ مصلحتِه وهواه، فالحقُّ بطبيعتِه مُناقِضٌ للباطلِ ولا يجتمعانِ إلّا داخلَ النفسِ التي تُقدّمُ الباطلَ في صورةِ الحق، فمثلاً السرقةُ وأخذُ أموالِ الآخرينَ باطلٌ لا لبسَ فيه إلّا أنَّ النفسَ تُصوّرَ ذلكَ بوصفِه حقّاً يجبُ أخذُه، والنفسُ لها فنونٌ وحِيَلٌ كثيرةٌ ولها قُدرَةٌ فائقةٌ على صنعِ الأعذارِ التي ينقلبُ معَها الحقُّ باطلاً والباطلُ حقّاً، وعليهِ فإنَّ ضبابيّةَ الرؤيةِ في عدمِ التمييزِ بينَ الحقِّ والباطل هوَ بسببِ ما تصنعُه النفسُ مِن تشويهٍ للحقائق، ولا علاقةَ لذلكَ بطبيعةِ الحقِّ والباطل لأنَّ بينَهما تبايناً واضحاً، يقولُ أميرُ المؤمنين (عليهِ السلام) في ذلك: (فلو أنَّ الباطلَ خَلُصَ مِن مزاجِ الحقِّ لم يخفَ على المُرتادين، ولو أنَّ الحقَّ خَلُصَ مِن لَبسِ الباطلِ، انقطعَت عنهُ ألسُنُ المُعاندين ولكِن يؤخذُ مِن هذا ضغثٌ، ومِن هذا ضغثٌ، فيمزجانِ فهنالكَ يستولي الشيطانُ على أوليائِه، وينجو الذينَ سبقَت لهُم منَ اللهِ الحُسنى)، فرفضُ الحقِّ والالتفافُ عليه لا يعودُ إلى غموضٍ في الحقِّ وإنّما يعودُ إلى أنّه لم يكُن مُناسباً لهوى الإنسان، وعليهِ ليسَ هناكَ خطواتٌ كثيرةٌ للتمييزِ بينَ الحقِّ والباطل وإنّما هيَ خطوةٌ واحدةٌ فقط وهيَ مُخالفةُ الهوى، وهذا ما أكّدَته الآياتُ القرآنيّةُ وأحاديثُ المعصومين، ومِن هُنا جازَ لنا أن نقولَ إنَّ إشكاليّةَ المعرفةِ في منظورِ القرآنِ نفسيّةٌ وليسَت عقليّةً؛ لأنَّ النفسَ إذا استأثرَت بإرادةِ الإنسانِ عملَت على توجيههِ نحوَ الأهواءِ والشهوات، وعندَها تتعطّلُ قُدرةُ الإنسانِ على التفكيرِ ولا تُغنيهِ حينَها قواعدُ التفكيرِ المنطقي. 

 ومنَ الواضحِ أنَّ الشهواتِ تُمثّلُ عاملَ ضغطٍ قويّ على الإنسان، ويزدادُ ذلكَ التأثيرُ كلّما كانَت الشهوةُ أكثرَ إلحاحاً، ويبدو أنَّ الجذرَ المُحرّكَ لكلِّ الشهواتِ هوَ حبُّ الإنسانِ لذاتِه، فمثلاً الطعامُ شهوةٌ إلّا أنّه يصبحُ أكثرَ إلحاحاً إذا شارفَت النفسُ على الهلاك، فالإنسانُ بغريزتهِ يجلبُ لنفسِه المصلحةَ ويدفعُ عَنها المخاطر، ومِن هُنا تُبنى مواقفُ الإنسانِ وسلوكيّاتُه بحسبِ مصلحةِ الذاتِ أو مفسدتِها، قالَ تعالى: ﴿وَمِنهُم مَّن يَلمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِن أُعطُوا مِنهَا رَضُوا وَإِن لَّم يُعطَوا مِنهَا إِذَا هُم يَسخَطُونَ﴾؛ فمواقفُ الإنسانِ قائمةٌ على الخوفِ والرّجاء، ممّا يعني أنَّ حُبَّ الإنسانِ لذاتِه يُشكّلُ أساساً لكلِّ رغباتِه وشهواتِه، قالَ تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ﴾. فحبُّ الذاتِ هوَ الذي يُزيّنُ للإنسانِ متاعَ الحياةِ الدنيا، وقد اصطلحَ القرآنُ على هذا الحبِّ بهوى النفس. 

وعليهِ فإنَّ فكرةَ الإسلامِ الأساسيّةَ في مُعالجةِ الأخطاءِ تتلخّصُ في أنَّ الهوى (الشهوات) وما يتبعُها مِن مشاكلَ نفسيّةٍ هيَ التي تمنعُ الإنسانَ مِنَ الوصولِ إلى الحقائق، وفي مُقابلِ ذلكَ تُصبِحُ مُخالفةُ الهوى ضمانَ الوصولِ إلى الحقائقِ ورؤيتِها بشكلٍ شفّاف.

وهكذا رسمَ الإسلامُ مُعادلةً شديدةَ الوضوح، تقومُ تلكَ المعادلةُ على ركيزةٍ واحدةٍ وهيَ تركُ الهوى، قالَ تعالى: ﴿وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَىٰ * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَىٰ﴾، وللاستدلالِ على صحّةِ هذهِ المُعادلةِ يكفي استعراضُ بعضِ النصوصِ الواضحةِ التي تُحمّلُ الهوى مسؤوليّةَ كلِّ ضلالٍ وباطل. 

قالَ تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُم رَسُولٌ بِمَا لَا تَهوَىٰ أَنفُسُكُمُ استَكبَرتُم فَفَرِيقًا كَذَّبتُم وَفَرِيقًا تَقتُلُونَ﴾.

حيثُ تؤكّدُ الآيةُ على أنَّ الهوى هوَ المسؤولُ عَن عدمِ قبولِهم الحقَّ الذي جاءَ بهِ الأنبياء. وقالَ تعالى: ﴿إن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ وَلَقَد جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ﴾، وهُنا جعلَت الآيةُ هوى النفسِ سبباً في تركِ الهُدى. وقالَ تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَىٰ أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا﴾، والعدلُ كما الحقُّ لا يمكنُ تطبيقُه إلّا بمُخالفةِ الهوى. 

وحينَ بعثَ اللهُ نبيّهُ داودَ وجعلَهُ خليفةً على الناس، أمرَهُ بمُخالفةِ الهوى لأنّها طريقُ العملِ بالحق، قالَ تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسَابِ﴾ 

كما أنَّ اللهَ نهى عن طاعةِ مَن يتّبعُ الهوى، قالَ تعالى: ﴿وَلَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا﴾ بل حكمَ القرآنُ بشكلٍ مُطلقٍ بأنَّ أهواءَ الناسِ ضلالاتٌ يجبُ مُجانبتُها قالَ تعالى: ﴿قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهوَاءَكُم قَد ضَلَلتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهتَدِينَ﴾. 

 وفي المُحصّلةِ هناكَ تضادٌّ كاملٌ بينَ الهوى والعِلم، قالَ تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهوَاءَهُم بَعدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾، وقالَ: ﴿وَلَا تَتَّبِع أَهوَاءَهُم عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ﴾، وكثيرةٌ هيَ الآياتُ التي تُحمّلُ الهوى مسؤوليّةَ الانحرافاتِ الفكريّةِ والسلوكيّة. 

نسألُ اللهَ أن يُعينَنا على أنفسِنا، ففي دعاءِ أبي حمزةَ الثمالي: (وأعِنّي عَلى نَفسي بِما تُعينُ بِهِ الصّالِحينَ عَلى أنفُسِهِم).

2024/04/21

هل يوجد صلاة وصيام في عالم البرزخ؟
لا إشكال أنّ عالم الدنيا هو عالم التكاليف الشرعيّة، بخلاف عالم البرزخ والآخرة فإنّ فيهما الحساب والجزاء، فيجب على الإنسان في دار الدنيا امتثال التكاليف الموجّهة إليه من الصلاة والصيام والحجّ والزكاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، فلو لم يمتثلها الإنسان بغير عذرٍ شرعيّ فهو مستحقّ للعقوبة.

ولا يخفى أنّ عدم التكليف الشرعيّ في البرزخ والآخرة لا يعني انقطاع أهل الإيمان عن التكامل ونيل الكمالات في الجملة وإنْ كان بشكل محدود باعتبار أنّ محلّ التكامل وموطن الامتحان للإنسان إنّما يكون في الدنيا، فالباب غير موصد أمامهم في البرزخ لرفع درجاتهم على حسب إعدادهم واستعدادهم..

سواء بوصول الثواب المتجدّد للأفعال الحسنة بمقتضى الحديث المستفيض: « ليس يتبع الرجل بعد موته من الاجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له » [الكافي ج7 ص56]، وفي حديث آخر: « ستّة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب يحفره، وصدقة يجريها، وسنة يؤخذ بها من بعده » [الكافي ج7 ص57].

أو بوصول ثواب المبرّات والأعمال الصالحة التي يهديها المؤمنون له، كما ورد في روايات كثيرة.

أو بامتثال الميت في البرزخ لبعض الطاعات والعبادات، حسب المقدار المتاح له، لكن لا على أنّها تكاليف متوجّهة إليه؛ إذ التكليف الشرعيّ مختصّ بدار الدنيا.. مثل تعلّم القرآن، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): « مَن مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن عُلِّم في قبره ليرفع الله به من درجته، فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن، يُقال له: اقرأ وارق، فيقرأ ثمّ يرقى » [الكافي ج2 ص606، ثواب الأعمال ص129].

ومثل البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)، فعن أبي عبد الله (عليه السلام): « إنّ أبا عبد الله (عليه السلام) لـمّا مضى بكتْ عليه السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، وما ينقلب في الجنّة والنار من خلق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى » [كامل الزيارات ص167]، وعنه (عليه السلام): « لـمّا مضى الحسين بن علي (عليهما السلام) بكى عليه جميع ما خلق الله إلّا ثلاثة أشياء: البصرة ودمشق وآل عثمان » [كامل الزيارات ص166].

وقد ورد في روايات الفريقين: أنّ الأنبياء (عليهم السلام) يصلّون ويزورون وغير ذلك من الطاعات، نذكر في المقام بعضاً منها:

1ـ الروايات الواردة في حادثة الإسراء والمعراج، المتضمّنة لصلاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالأنبياء (عليهم السلام)..

ففي بعض الروايات: أنّه صلّى بهم في الأرض، كما في حديث أبي جعفر الباقر (عليه السلام): « .. فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمّداً حيث أسرى به إلى البيت المقدّس: أن حشر الله عزّ ذكره الأوّلين والآخرين من النبيّين والمرسلين، ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه: حيّ على خير العمل، ثمّ تقدّم محمّد فصلّى بالقوم.. » [الكافي ج8 ص120-121].

وفي بعض الروايات: أنّه صلّى بهم في السماوات، كما في حديث أبي جعفر الباقر (عليه السلام): « لـمّا أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى السماء، فبلغ البيت المعمور، وحضرت الصلاة، فأذّن جبرئيل وأقام، فتقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصفّ الملائكة والنبيّون خلف محمّد (صلى الله عليه وآله) » [الكافي ج3 ص83].

وقد وقع تعدّد صلاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في روايات المخالفين أيضاً، قال ابن القيم الجوزيّة: (صحّ عن النبيّ... أنّه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصاً بموسى) [الروح ج1 ص102].

2ـ روى الشيخ الصفار عن أبي عمارة وأبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أتى أبا بكر فقال له: أما أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تطيعني؟ فقال: لا، ولو أمرني لفعلتُ، قال: فانطلق بنا إلى مسجد قبا، فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّي، فلمّا انصرف، قال عليّ (عليه السلام): يا رسول الله، إنّي قلت لأبي بكر: أمرك الله ورسوله أن تطيعني فقال: لا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قد أمرتُك فأطعه، قال: فخرج، فلقي عمر وهو ذعر، فقال له: ما لك؟ فقال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): كذا وكذا، فقال: تبّاً لأمّة ولّوك أمرَهم، أما تعرف سحر بني هاشم » [بصائر الدرجات ص294].

3ـ روى الشيخ الصفار بالإسناد عن عطية الابزاري قال: « طاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالكعبة فإذا آدم (عليه السلام) بحذاء الركن اليماني، فسلّم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ انتهى إلى الحجر فإذا نوح (عليه السلام) بحذاء رجل طويل، فسلّم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) » [بصائر الدرجات ص298].

4ـ وردت روايات مستفيضة عندنا في أنّ الأنبياء والأوصياء في البرزخ يزورون قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويزورون قبر سيّد الشهداء (عليه السلام)، نذكر..

منها: عن أبي وهب البصريّ، قال : « دخلت المدينة، فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام)، فقلت: جعلت فداك، أتيتك ولم أزر قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: بئس ما صنعت، لولا أنّك من شيعتنا ما نظرت إليك، ألا تزور مَن يزوره الله تعالى مع الملائكة، ويزوره الأنبياء، ويزوره المؤمنون » [كامل الزيارات ص89].

ومنها: عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « ليس نبيٌّ في السماوات إلّا ويسألون الله تعالى أن يأذن لهم في زيارة الحسين (عليه السلام)، ففوج ينزل وفوج يصعد » [كامل الزيارات ص220].

ومنها: عن صفوان الجمّال، قال: « قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) لما أتى الحيرة : هل لك في قبر الحسين ( عليه السلام ) ، قلت : وتزوره جعلت فداك، قال: وكيف لا أزوره والله يزوره في كلّ ليلة جمعة، يهبط مع الملائكة إليه والأنبياء والأوصياء، ومحمّد أفضل الأنبياء، ونحن أفضل الأوصياء.. » [كامل الزيارات ص223].

وقد ذكرنا في جوابٍ سابق عن معنى زيارة الله تعالى: أنّها كناية عن إنزال رحماته الخاصّة أو زيادة التفضيل ونحو ذلك.

5ـ روى المخالفون روايات عديدة في أنّ الأنبياء يصلّون في حياتهم البرزخيّة..

منها: حديث أنس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): « مررتُ ليلة أسري بي على موسى، فرأيته قائماً يصلّي في قبره » [صحيح مسلم ج7 ص102].

ومنها: حديث أبي هريرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): « وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلّي.. وإذا عيسى بن مريم قائم يصلّي.. وإذا إبراهيم قائم يصلّي » [صحيح مسلم ج1 ص108].

ومنها: حديث أنس بن مالك عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون » [مسند أبي يعلى ج6 ص147].

المقال رداً على سؤال: يدّعي البعض أن في عالم البرزخ صلاةً وصياماً، فهل كلامهم صحيح؟ يرجى الجواب مع الدليل وفقكم الله.
2024/04/11

لماذا لا يوجد أنبياء في أمريكا وأوروبا؟!
هناك سؤال يطرحه كثير من اللا دينيين، يقول السؤال: إذا كانت البشرية محتاجة إلى وجود الأنبياء وكان الأنبياء يشكّلون مسار الهداية للمجتمع البشري فلماذا انحصر وجود الأنبياء في الجزيرة العربية؟ لماذا لم نجد أنبياء في الأمريكيتين أو في أوروبا أو في استراليا؟ لماذا انحصر الأنبياء في هذه الرقعة الجغرافية المعبر عنها بالجزيرة العربية؟ أليس هذا دليلاً على أن البشرية لا تحتاج إلى الأنبياء والدليل على ذلك أن كل هذه القارات والبقاع استغنت عن وجود الأنبياء ولم يكن فيها أنبياء على مدى الأزمنة والعصور، إذن ما هو المبرر المنطقي والموضوعي لانحصار الأنبياء في هذه الرقعة وهي الجزيرة العربية؟

هذا السؤال نسلط عدة أضواء من الأجوبة في سبيل تحديد المنطق أو تحديد المبرر المنطقي والموضوعي لوجود الأنبياء في هذه البقعة الجغرافية من خلال عدة وجوه:

الوجه الأول: ما يعبر عنه علماء الكلام بضرورة اللطف الإلهي.

ومعناه نتناوله من خلال زاويتين:

الزاوية الأولى:

المجتمع البشري يحتاج إلى نظام شمولي، ومعنى ذلك أنه يحتاج إلى نظام يتكفل الحاجات الأساسية للمجتمع البشري، يتكفل إشباعها وتغذيتها:

الحاجة الأولى: حاجة الإنسان في دعم عقله في الصراع بين العقل والنفس، يحتاج الإنسان في خضم هذا الصراع إلى قيم تدعم العقل في مجال صراعه مع النفس، التاريخ البشري مع أنه مليء بالأنبياء والمصلحين وما زالت الاعتداءات ومازال الإنسان يعيش روح الاعتداء والاغتصاب والإجرام، ما زالت الجرائم حتى في عصر التكنولوجيا والقانون تشغل حيزاً كبيراً من الفراغ في المجتمع البشري، فكيف لو لم يكن هناك أنبياء ولا رسل ولا مصلحون! الصراع بين العقل والنفس صراع مترسخ في الطبيعة البشرية فلذلك يحتاج الإنسان إلى قيم تدعم العقل في مجال هذا الصراع، وتحاول أن تأخذ بالإنسان وترتقي به من حضيض النفس إلى قمة العقل، فأي نظام يوفر هذه القيم؟ ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8»﴾ [الشمس: 7 - 8]

الحاجة الثانية: يحتاج المجتمع البشري إلى نظام يشكل دافعاً حرارياً نحو القيم الأخلاقية، المجتمع البشري لديه قيم أخلاقية، يؤمن بالعدل، الصدق، الأمانة ولكنه يمارس هذه القيم بدافع بشري إما بدافع المروءة وإما بدافع حب الإنسانية، فالإنسان يمارس القيم الأخلاقية بدوافع بشرية لكن هذه الدوافع ليست مضمونة الاستمرار ولا مضمونة البقاء حتى لو زوحمت بمؤثرات أقوى وظروف قاهرة، لا يمكن ضمان بقاء القيم الأخلاقية إلا بدافع سماوي إلهي، وإلا الدوافع البشرية دوافع مرحلية قد تتبخر أمام أي ظرف قاهر وأمام أي ضغط، لذلك كثير من أبناء المجتمع الغربي يمارس القيم الأخلاقية ولكن بمجرد أن يخضع لضغط معين أو لمؤثرات أقوى تنتهي عنده هذه الممارسة، فحتى يُضمن بقاء القيم الأخلاقية ويضمن حرارتها واستمرارها تحتاج إلى دافع إلهي، فأي نظام يوفر هذا الدافع الإلهي للقيم الأخلاقية؟ ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 9]، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]

الحاجة الثالثة: المجتمع البشري يحتاج إلى نظام يوفق بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع، إلى الآن نرى طغيان نظام الرأسمالي ونتيجة طغيان هذا النظام في مئة وخمسين سنة عاشتها البشرية ما زالت كثير من المجتمعات الإفريقية ترزح تحت خط الفقر، تحت أرجلها الكنوز والمعادن والطاقات لكنها شعوب مستعمرة نتيجة هيمنة النظام الرأسمالي على الأرض، إذن البشرية ما زالت تحتاج إلى نظام يوفق بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية، فأي نظام يوفر ذلك؟

الحاجة الرابعة: المجتمع البشري لا يحتاج فقط إلى حضارة تكنولوجية تسيطر على الفضاء كما نعيشه الآن، تحتاج إلى حضارة إنسانية، حضارة تكنولوجية قائمة على قيم إنسانية من أهمها قيمة الأخوة والتراحم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].

الحاجة الخامسة: المجتمع البشري يعيش في عالم محدود وهو عالم المادة الذي يعبر عنه القرآن بعالم الشهادة ولكن وراء هذا العالم هناك عالم آخر، فأي نظام يستطيع أن يربط عالم الشهادة بعالم الغيب، عالم المادة بما وراءه من العوالم بحيث يكون عالم المادة طريقاً ممهداً للعوالم الأخرى؟ ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14]

عندما تتأمل في هذه الحاجات الخمس: حاجة المجتمع البشري إلى نظام يدعم العقل في صراعه مع النفس، وحاجة المجتمع البشري إلى نظام يخلق دافعاً حرارياً نحو القيم الأخلاقية، وحاجة المجتمع البشري إلى نظام يوفق بين المصالح الفردية والاجتماعية في مجال الاقتصاد، وحاجة المجتمع البشري إلى نظام يؤسس الحضارة التكنولوجية على أسس إنسانية، وحاجة المجتمع البشري إلى نظام يربط بين عالم الشهادة وعالم الغيب، إذن المجتمع البشري محتاج إلى نظام شمولي يتكفل إشباع هذه الحاجات الخمس، هل يستطيع العقل البشري أن يصنع هذا النظام؟ غير ممكن، العقل البشري ابن بيئته وابن زمانه، لا يمكن للعقل البشري أن يرقى أكثر من بيئته وزمانه بحيث يخترع نظاماً يشبع هذه الحاجات ويكون صالح لكل زمان وكل مكان، بالنتيجة أصبح المجتمع البشري محتاجاً إلى النظام السماوي الذي يصنعه خالق البشر، خالق العقل وليس العقل.

الزاوية الثانية:

بما أن المجتمع البشري يحتاج إلى النظام السماوي الذي يشبع الحاجات الخمس، فعدم إعطاء الله هذا النظام فهو إما لجهله وإما لعجزه وإما لعبثه وهو تعالى منزه عن كل ذلك، لا يمكن أن يحرم البشرية من النظام لجهله وهو العالم بكل شيء، ولا يمكن أن يحرم البشرية من النظام لعجزه وهو القادر على كل شيء، ولا يمكن أن يحرم البشرية من النظام لعبثه وهو الحكيم تعالى، إذن مقتضى علمه وقدرته وحكمته أن ينزل النظام السماوي على المجتمع البشري، وهذا ما يعبر عنه علماء الكلام بقاعدة اللطف، ولذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25] بالنظام الذي يشبع الحاجات الخمس التي تعرضنا لذكرها.

من هنا نقول ما دام العقل البشري يحكم بضرورة وجود نظام إلهي على الأرض كلها، إذن العقل البشري بنفسه يحكم أنه لا يوجد مجتمع إلا وفيه رسول أو نبي أو أن يكون هناك رسول للبشرية كلها كأولي العزم، صحيح أن أولي العزم عاشوا في منطقة خاصة نوح وموسى وعيسى وإبراهيم والنبي محمد ، لكن كانت رسالتهم للبشرية كلها، فما دام العقل يحكم بضرورة اللطف أي ضرورة وجود لكل البشرية إذن العقل يحكم بأنه لكل البشرية رسل، لكل البشرية أنبياء، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، وعدم وجودنا لأنبياء في أمريكا لا يعني عدم الوجود، لذلك القرآن الكريم يقول: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24] ويقول: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ﴾ [يونس: 47] ويقول: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]

إذن كل المجتمعات البشرية عاشت هذا النظام أي وجود الرسل والأنبياء، ولو افترضنا أن قوم ما وصلتهم رسالة فهم معذورون أمام الله لا يعذبون قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15] رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]

الوجه الثاني: متى اكتشفنا التاريخ حتى نحاسب عن عدم وجودنا للأنبياء في الأمريكيتين أو استراليا؟

عندما نرجع إلى الموسوعات التاريخية نجد أن الإنسان قد اكتشف التاريخ بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد أي ثلاثة آلاف قبل الميلاد، لأن أول شكل من أشكال الكتابة وجد كان قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد لأجل ذلك بدأت كتابة الإنسان للتاريخ منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، من هنا بدأت الكتابة وبدأ يُكتب التاريخ.

ومن جهة أخرى أين كان يكتب التاريخ؟ كان يكتب في بلاط الملوك وأحبار الوثنيين، ما كانت الشعوب تمتلك القدرة على الكتابة، الملوك لقدرتهم المادية ولديهم كتَّاب معينين كتبوا التاريخ منطلقاً من بلاط الملك، ولم يكتب التاريخ منطلقاً من حضارات الشعوب، لذلك لم تصلنا إلا كتابات الملوك وأخبارهم وأحبارهم وعلماؤهم، فمن الطبيعي إذا كان التاريخ لم يكتب إلا قبل ثلاثة آلاف سنة من الميلاد ولم يكتب إلا من خلال بلاط الملوك وأحبارهم فمن الطبيعي أن لا ينقل لنا التاريخ تاريخ الأنبياء والمصلحين؛ لأن تاريخ الأنبياء والمصلحين في جبهة معارضة لتاريخ الملوك وأحبارهم، من الطبيعي أن لا ينقل لنا ذلك أين عاش الأنبياء وما هو تاريخهم وما هي مراحل حياتهم باعتبار أن التاريخ رُسم انطلاقاً من بلاط الملك وليس من قلب حضارة الشعوب في تلك الأزمنة.

لاحظ حتى الفرق المسيحية الصغيرة فضلاً عما قبل المسيح، يقول ابن حزم بأن التاريخ الإنساني قد كتب قبل المسيح، ولكن التاريخ الديني ليس لدينا أي فصول قبل المسيح أي كأنما بدأت كتابة التاريخ الديني بعد وجود المسيح عيسى بن مريم ، لذلك تجد أن كثير من الفرق المسيحية نفسها اندثر ولا يُعلم لها وجود، لم نعلم ببعض الفرق المسيحية إلا من خلال مخطوطات نجع الحمادي التي اكتشفت عام 1945 في مصر، أو من خلال كتابات يوحنا الدمشقي في كتابه ينابيع المعرفة الذي كتبه في الرد على بعض الهراطقة وبعض الفرق المسيحية، من هنا علمنا أن هناك فرق مسيحية غير الفرق الموجودة الآن، فإذا كانت فرق مسيحية عاشت بعد المسيح لم نكتشفها حتى الآن فكيف نكتشف تاريخ الأديان والانبياء قبل إبراهيم وموسى وعيسى أي قبل الميلاد بثلاثة ألاف سنة ولا طريق للكشف عنها!

الوجه الثالث: كثير من الحداثيين يركز على البحوث الأركيولوجية.

وهي التي تعتمد على استنطاق التاريخ من خلال الجيولوجيا وطبقات الأرض والآثار كالمصنوعات اليدوية وآثار فخارية، ورقاع، وصخور، وقبور معينة، هؤلاء يقولون إذا رجعنا إلى الأبحاث الأركيولوجية لم نجد للأنبياء وجود، فالأبحاث الأركيولوجية لا تذكر أن هناك آثار للأديان ولا للأنبياء، لا في أوروبا ولا في أمريكا ولا أستراليا، بل الأبحاث الأركيولوجية لا تظهر آثار حتى لأنبياء الشرق الأوسط، أي لا نجد أثر لنوح ولا لفرقان موسى، إذن أين هم؟ ما دامت الأبحاث الأركيولوجية لا تحصي ولا تُظهر أثراً بارزاً لهم فأين عاشوا!

وهذا المنطق الذي يعتمد على البحث الأركيولوجي هو منطق غير موضوعي ويتبين ذلك من خلال ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: هل أن البحوث الأركيولوجية علم مثل علم الفيزياء والرياضيات؟ علم يوصل إلى اليقين والوثوق بالحدث؟ لا ليس كذلك؛ الأبحاث الأركيولوجية ليست علم، فهناك فرق بين دراسة الأنظمة الطبيعية ودراسة الأنظمة الثقافية، دراسة الأنظمة الطبيعية تعتمد على هذه المختبرات المعملية تعتمد على القياس الفيزيائي والحسابي، تعتمد على بصمات الإنسان ولمساته على الطبيعة والأرض، ولكن عندما تريد أن تدرس عقيدة وثقافة، فالثقافة والعقيدة هي عبارة عن حركة فكرية، والحركة الفكرية لا تخضع للمختبرات المعملية، الحركة الفكرية لا تخضع للصخرة والقبر والأثر، الحركة الفكرية لا يمكن الوصول إليها بالوثوق عبر صخور أو آثار فخارية أو كتابات على الصخور، يمكن الحدس منها ولكن لا يمكن الوثوق بها، لأجل ذلك ما زالت الأبحاث الأركيولوجية كما يقول كثير من العلماء مجرد تجميعات تقنية وليست علماً لأنها لا تستطيع أن تصل إلا إلى بصمات للإنسان على الطبيعة والأرض، ولا تستطيع أن تقرأ حركة فكرية تسمى عقيدة أو ثقافة من خلال بعض الكتابات أو الصخور أو الآثار الفخارية.

النقطة الثانية: الأبحاث الأركيولوجية مختلف في تفسيرها، يقول أحد المتخصصين في هذا المجال ندوف نامان محاضر أركيولوجي في دراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب عن الأبحاث الأركيولوجية: إن الأبحاث الأركيولوجية مفتوحة على التفسيرات المختلفة وأحياناً المتناقضة؛ لأنها مختلفة في تحديد طبقية الآثار الفخارية، ووظيفة المباني والمصنوعات اليدوية، وفي الحفريات وتقدير عدد السكان والتسلسل الهرمي للمستوطنات، أي ما زالت مفاصل أساسية لقراءة التاريخ لم تصل الأبحاث الأركيولوجية فيها إلى نتيجة لاختلاف التفسيرات والتحليلات لها فكيف نعتبرها علماً نعتمد عليه في إثبات وجود أنبياء وعدم وجود أنبياء!

النقطة الثالثة: كتابة التاريخ ليس شيئاً سهلاً، يريد بعض الحداثيين كتابة التاريخ ويعيدوا كتابته بلا أنبياء ولا مصلحين، إعادة كتابة التاريخ مشروع أكبر وأعظم من مستوى الأبحاث الأركيولوجية؛ لأن إعادة كتابة التاريخ تحتاج إلى علم التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإدارة، أربعة علوم تعتمد عليها كتابة التاريخ وتحليل التاريخ، بينما المتصدون للأبحاث الأركيولوجية اليوم لا يملكون هذه المؤهلات، يصرح بعض العلماء مثل ما ذكره جيوفاني غاربيني وهو مستشرق إيطالي له عدة مقالات يقول: إن المتصدين للأبحاث الأركيولوجية ليسوا مؤهلين أكاديمياً من الناحية التاريخية هم مجرد علماء لاهوت إذن كيف يعتمد على هذه الأبحاث في إثبات وجود أديان أو عدم وجودها من خلال صخرة أو قبر أو نقش معين، أو في إثبات وجود أنبياء أو نفي وجودهم!

الوجه الرابع:

عندما نراجع التاريخ نجد أن كثير من الفرق قد تكون أصولها أنبياء لكنهم الآن يجهلون ذلك، مثلاً زرادشت بعضهم جعله إله بينما عندما نرجع إلى كتاب الفصل في الملل في الأهواء والنحل ينقل لنا أن زرادشت كان من الأنبياء ولكن قومه حرفوا دينه وملته.

يذكر محمد رشيد رضا في مجلة المنار الصادرة عام 1924م أن بوذا نبي والآثار القديمة التي وردت عنه تدل على أنه كان من الأنبياء لكن قومه حرفوا هذه الملة وحرفوا هذه الديانة.

الصابئة هم فرقة تعود إلى ما يذكر أن نبيها يحيى بن زكريا وقد ذكرها القرآن الكريم من جملة الملل الصالحة عندما يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]

المجوس أيضاً أصلهم ديانة إلهية، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام ، عن الرسول صلى الله عليه وآله: إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه.

إذن كثير من الآثار التي نراها آثار عقيدية أو دينية ربما يكون أصولها أنبياء لكن القرآن لم يقصصهم علينا والقرآن صرح بذلك في قوله تعالى: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]

 الوجه الخامس: الأمم السابقة لم تحفظ حتى تاريخ العلوم الغريبة، بالتأكيد مرت على البشرية سحرة وأناس متضلعون في الطلاسم وفي العلوم الغريبة وعلم السحر ومع ذلك البشرية لم تحفظ أسماءهم ولم تذكر آثارهم، فإذا كان هؤلاء علماء السحر وعلماء الطلسم وعلماء العلوم الغريبة لم تحفظ البشرية أسماءهم مع كثرتهم وتأثيرهم على الناس فكيف سيحفظون كلمات الأنبياء وأثارهم الذين سبقوا مرحلة التاريخ أي قبل أربعة آلاف سنة! وهم يعتبرون الأنبياء مجرد أناس لا أساس لهم، > ما جاء نبي إلا وكذبوه وما أوذي نبي مثلما أوذيت< كما ورد عن الرسول محمد .

يقول القرآن الكريم: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: 52]

الوجه السادس:

نعم أكثر الرسل والأنبياء ولدوا من هذه البقعة الجغرافية والتي نعبر عنها بالجزيرة العربية بما تشمل بلاد فارس والعراق وبلاد الشام وبلاد مصر، لأنها تاريخياً أول لغة عرفها الإنسان في هذه المنطقة، أول حرف كتب في هذه المنطقة، ومن هذه المنطقة نشأت الحضارة البابلية والحضارة الآشورية والسومرية، وحضارة الفراعنة، وحضارة الروم، وحضارة الفرس، وحضارة الكلدان، أغلب الحضارات انطلقت من هذه البقعة الجغرافية المعينة لذلك تواترت عليها الأنبياء والرسل أكثر من المناطق الأخرى ولا يعني هذا أنها منطقة عربية، كتابة اللغة العربية ظهرت متأخرة، العرب إلى زمان النبي لم يكونوا يكتبون باللغة العربية، كانت اللغة السامية ثم تحولت إلى لغة عبرية، فتحولت اللغة العبرية إلى أخرى ومن ثم اشتقت اللغة العربية، وإلى زمان النبي  كانوا يعتمدون في الكتابة على اللغة الآرامية، لذلك الأقوام الذين عاشوا في هذه المنطقة لم يكونوا كلهم عرب بل جزء منهم عرب، وبعضهم فرس، وبعضهم روم، وبعض كرد، وبعضهم ترك... وهكذا، كانت هذه المنطقة تحفل بأقوام مختلفة وبلغات مختلفة وهؤلاء توزعوا في الأرض كلها، كل لغة وقومية اتجهت إلى منطقة معينة فحملت معها آثار أنبيائها ورسلها، هذه البقعة المعينة المعبر عنها بالجزيرة العربية نتيجة لأنها مهد الحضارات وأول اللغات وأول الحروف تواترت عليها الأنبياء والرسل، وكانت فيها البقاع المقدسة منها مكة المكرمة، الكعبة المشرفة ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127] ومنها المدينة المنورة التي تضمنت أروع البطولات لتأسيس الدولة الإسلامية على يد النبي محمد ، لذلك جاء في الروايات الشريفة من العلم المذخور عن الإمام الصادق  التخيير بين القصر والتمام للمسافر الذي لم ينوِ إقامة عشر أيام في أماكن أربعة لقداستها وعظمتها عند الله: مكة المكرمة، والمدينة المنور، ومسجد الكوفة مسجد الإمام أمير المؤمنين ، وحائر الحسين ، باعتبار أن هذه المناطق حفلت بأعظم وأروع الصور العبادية وأروع الصور البطولية التي شيدت الدين ورسخت أسس الدين.

2024/04/06

لماذا يتخوّف الغرب من الإسلام؟
وأمّا تخوف الغرب من الإسلام فله مبرر لأنّهم يخافون من نظام الإسلام وقيمه الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والفردية والعائلية وقوة نفوذه وانتشاره في العالم ولا سيما بين الشباب والشابات في الدول الإسلامية وغير الإسلامية.

ولهذا يُنقل ويُسمع أنّ الشباب والشابات في الدول الغربية وغيرها يدخل في الإسلام مع قلّة معرفتهم بالإسلام ولا يعرفون منه إلا بعض القيم والمثل الإنسانية كالنظام العائلي مثلاً الموجود بين المسلمين فإنّه متفكك ومنهار في المجتمع الغربي وغيره وهم متأثرون من هذا التفكك والانهيار ومحرومون من حلاوة هذا النظام العائلي وهو الاجتماع بين الآباء والأمهات والأبناء والبنات على سفرة واحدة وغيره من النظام الإنساني.

 

ومن هنا شعروا بأنّ الإسلام خطر عليهم ولذلك قاموا بالإعلام المضلل والدعايات الفارغة على الإسلام والمسلمين بذرايع مختلفة تارة أن الدين الإسلامي يروج للتطرف والإرهاب وأخرى أنّ الدين الإسلامي ضد الحرية والديمقراطية وثالثه إنّ الدين الإسلامي ضد حقوق الإنسان وهذه الدعايات بأجمعها دعايات فارغة ولا واقع موضوعي لها.

 

المصدر البيانات والتوجيهات - نقلاً عن رياض العلماء
2024/03/20

هل يفقد العقل قدرته على القيام بوظيفته؟!
نعم قد يفقد العقل فاعليته، أو يتعثر في طريقه، نتيجة تقصير الإنسان وتفريطه، إما إهمالاً وتسامح، لعدم شعوره بالمسؤولية، أو لتغلب عوامل ومؤثرات أخرى عليه، من كسل، أو ضجر، أو شهوة، أو غضب، أو تعصب، أو تقليد أو غير ذلك مما يقف في طريق العقل ويمنعه من أداء وظيفته.

 فمثلاً: من أهم الأمور الدنيوية التي يحبها الإنسان ويهتم بها صحته البدنية، التي بها قوام حياته وبقاؤه في هذه الدني. ومع ذلك نرى الناس ـ مع اشتراكهم في حبها والاهتمام بها ـ مختلفين في رعايتها والحفاظ عليه.

  فمنهم من يبذل وسعه ويجهد جهده في ذلك، بالوسائل العقلائية الميسورة، مهما كلفه" 

‏"ذلك من تعب ونصب وقيود والتزامات. فيبحث عن أفضل الأطباء وأحذقهم، ويلتزم بتوجيهات الطبيب ونظامه العلاجي غير مبال بمتاعب ذلك ومصاعبه، كل ذلك من أجل اهتمامه بصحته وحبه للحياة.

  بينما نرى آخرين لا يراعون ذلك، لا لعدم حبهم للصحة والحياة، بل إما لتغلب روح الإهمال واللامبالاة عليهم، أو لاقتصارهم في العلاج على الطرق التقليدية الموروثة، جموداً عليه، أو كسلاً عن الفحص عن الأصلح، من دون مراعاة للطرق العقلائية في اختيار الطبيب المعالج ‏"وكيفية العلاج، أو لتعصبهم ضدّ الطبيب الأفضل بنحو يصعب عليهم الاعتراف له بالفضيلة، أو لضيقهم من التقيّد بالدواء ومواعيده، أو من بعض الالتزامات الأخرى التي يفرضها الطبيب عليهم، أو لغلبة شهوتهم لما يمنعهم الطبيب منه ويحميهم عنه من طعام أو شراب وغيرهم... إلى غير ذلك مما يأباه العقل السليم، ويستهجنه العقلاء بفطرتهم.

وليس ذلك لفقدهم القوة العاقلة، بل لعدم فاعلية العقل فيهم نتيجة ما سبق، حتى يتجمد أو يُغلَب. فهم يدركون ضرر سلوكهم وكأنهم لا يدركونه، ويملكون العقل وكأنهم يفقدونه.

العقل منشأ المسؤولية دائم

ولا يجنون من عقلهم إلا تحمل المسؤولية واللوم والتقريع، ثم الندم عند الوصول للنهاية المرة حين لا ينفع الندم. وكلما كان الضرر أكبر وأفظع كان اللوم والتقريع والندم أشدّ وأعظم. ولو أنهم فقدوا العقل حقيقة لكان خيراً" ‏"لهم، حيث لا مسؤولية، ولا لوم، ولا تقريع، ولا ندم.

 وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "استرشدوا العقل ترشدو، ولا تعصوه فتندموا" (2). وفي حديث حمدان عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: "صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله" (3).

وفي حديث عبد الله بن سنان قال: "سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهم السلام)، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين ‏"علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إن الله ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما [كليهم. علل الشرائع]. فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم" (4).

وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ حيث يقول: ((إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ البُكمُ الَّذِينَ لاَ يَعقِلُونَ)) (5).

وحين يقول: ((وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِن الجِنِّ وَالإنسِ لَهُم قُلُوبٌ لاَ يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أعيُنٌ لاَ يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لاَ يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنعَامِ بَل هُم أضَلُّ أُولَئِكَ هُم الغَافِلُونَ)) (6)... إلى غير ذلك.

ضرورة استغلال العقل

فعلى الإنسان أن يعرف عظمة هذه النعمة التي فضل بها وارتفع عن حضيض الحيوانية،" ‏"ويستغلها لصلاحه وسعادته، في جميع أموره وشؤونه المتعلقة به، والدخيلة في سعادته وشقائه وخيره وشرّه. ويربأ بنفسه عن التخلي عنها والهبوط إلى مستوى الحيوان أو ما دونه، ثم يزيد عليه بتحمل التبعة والتقريع واللوم، ثم الندم حيث لا يغني ولا ينفع.

الهوامش: (1) الكافي 1: 13." (2)، (3) بحار الأنوار 1: 96، 87." (4) وسائل الشيعة 11: 164، باب 9 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، حديث: 2. (5) سورة الأنفال آية: 22. (6) سورة الأعراف آية: 179." *مقتطف من أصول العقيدة - السيد محمد سعيد الحكيم (قدس سرّه)
2024/02/21

الانفتاح والانغلاق.. أيهما نختار؟!
في عصرنا الراهن يتصاعد النقاش في موضوع الانفتاح والانغلاق بسبب صعود التكنولوجيا في العالم وهيمنتها على المسيّرات الثقافية وأدواتها النافذة مثل القنوات الفضائية والانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي. وبذلك فقد أثارت سؤالا مهمّا، هل ننفتح على العالم أم ننغلق؟

[اشترك]

ويبرز في ذلك رأيان أساسيان يسيران في اتجاهين متعاكسين، رأي يؤكد على أولوية الانفتاح والانخراط في المسيرة العالمية والتطبع بمفاهيمها الثقافية الحديثة، من أجل البقاء في الركب العالمي، والاندماج في حضارة الدول المتقدمة اندماجا كاملا.

الرأي المقابل يواجه إشكالية أكثر تعقيداً وتناقضاً، عندما يرتد بشكل عنيف اتجاه نفسه ومجتمعه، ويغلق الأبواب على ثقافته، ويرفض تحقيق الانفتاح والتحديث بشكل مطلق، باعتبار أن الانفتاح ليس إلا أسلوباً جديدا تستخدمه القوى الكبرى لفرض سيطرتها الاستعمارية وتكريس مبادئ الاستغلال والتبعية.

لكن الانغلاق فيه جانب سلبي حيث يخاف الإنسان من الانفتاح على هذا العالم خوفا شديدا، بسبب عدم وجود توازن ثقافي وتكافؤ فكري بين الأمم، من ناحية الآليات والإمكانات والقدرات والكفاءات، مما يؤدي إلى انكفاء وانعزال البعض عن الانفتاح، وتبرير ذلك بأن الانغلاق هو حماية وحصانة لنفسه ولأسرته ولمجتمعه ولدولته.

لكن المطلوب هو الاعتدال بين الافراط والتفريط، عبر الانفتاح الإيجابي الذي تكون فيه قواعد منهجية تحافظ على الأصول والثوابت العقائدية والدينية والثقافية الموجودة في المجتمع، فلا يمكن أن ننسلخ عن أصالتنا بحجة الانفتاح، لأن هذا يعني بأننا قد تغرّبنا تغريبا تاما وكاملا، ونزعنا عن أنفسنا أصالة أمتنا، وتخلينا عن هويتنا الحضارية.

في الجانب الآخر الانفتاح السلبي بحد ذاته خطير نجده في الكثير من الممارسات والسلوكيات الموجودة في مجتمعاتنا، بدعوى التحديث، والحداثة والتنوير، أو بحجة البحث عن التقدم المادي والتكنولوجي والاقتصادي، وهو سلبي لان الانفتاح بلا حدود لم ولن يُفدْنا بشيء.

وإذا كان المفروض أن نستورد التقدم فإننا استوردنا التخلف والسلوكيات السلبية من تلك المجتمعات من دون دراسة وتنسيق بما يتناسب مع الاختلافات الثقافية الجذرية بين المجتمعات، وعندما طبقناها في مجتمعاتنا فشلنا.

معطيات الانفتاح السلبي

أولا- الانفتاح المنسلخ من الثوابت: عندما ينسلخ الإنسان عن ثوابته وهويته وأصالته، فيكون ضعيفا إزاء مواجهة ما يصدّره الآخرون له من ثقافات لاتتناسب مع قيمه.

الثاني- الانفتاح المنفلت: وهو لا يكون ضمن قواعد مدروسة ومنظمة وفق درجات معينة من الانفتاح، فلا أهداف لهذا الانفتاح لذلك هو انفتاح منفلت وفوضوي.

الثالث- الانفتاح المنهزم نفسيا: وهو يأتي من خلال الشعور بالهزيمة النفسية نتيجة التخلف، إذ أن مجتمعاتنا تعيش اليوم حالة من الفساد والاستبداد والعنف والتخلف وعدم النظام وشيوع الفوضى، في حين هناك مجتمعات تعيش النظام والتقدم والاستقرار، مما يؤدي لشعور كثير من الناس بالانهزام النفسي أمام كل ما يأتي من تلك المجتمعات فيقبلها قبولا مطلقا، نتيجة الهزيمة النفسية.

الرابع- الانفتاح المنبثق من التبعية العمياء: حيث تغيب ثقافة التفكير المستقل، فيتم الاستسلام للحضارة الغالبة.

الخامس- الانفتاح الناتج عن القبول المطلق لثقافة الآخر: وينتج عن اعتقاد الإنسان بأن ثقافته الموجودة الآن هي ثقافة فاشلة ومتخلفة، وهذا ما يؤدي إلى القبول بثقافة الغير مهما كانت، وهذه نظرة خاطئة وليست متوازنة في التعامل مع قضية الانفتاح، وإنما نوع من الانخراط في عملية الانفتاح السلبي بداعي الانبهار بثقافة الآخر.

السادس- الانفتاح الاستهلاكي: استهلاك ثقافة الآخر وعلمه دون الحصول على ما يغير حياتنا نحو الأفضل. في حين ان الانفتاح الانتاجي مثل اليابان التي كان لديها انفتاح نسبي على التقدم الغربي حيث نجحوا في إحداث ثورة صناعية واقتصادية.

كما أن الغرب أخذ الكثير من المؤلفات العربية والإسلامية وحوّلها لصالحه، ومن خلالها انطلقت الثورة الصناعية فأخذوا الجانب الإيجابي ووظفوه لصالحهم.

اما نحن اليوم فقد استوردنا كل شيء فأصبحنا سوقا لتصريف بضائعهم، سواء كانت تجارية أو ثقافية، هم أخذوا الجيد من الحضارة الإسلامية فتقدموا، في حين أننا استوردنا الأشياء الرديئة منهم فزاد التخلف فينا.

الانفتاح الاستهلاكي ليس سوى انفتاح سلبي يكرس التبعية، ويستورد القيم الإباحية والمنفلتة، ويربي الفرد والمجتمع على الحالة النهمية في عادات السلوك والطعام والشراب، عبر الانسياق وراء دعايات إعلانية مكثفة تغسل أفكار الناس لتسويق سلعها بأية صورة كانت؛ فالانفتاح الاستهلاكي بالإضافة إلى تكريسه لقيم الاستهلاك الأعمى، يكرس سلوكيات ترتكز على الكسل والرخاء والترف وعدم الفاعلية؛ وهذا كله ينفي الغاية من الانفتاح البنّاء، وكل هذا لا يتحقق في الانفتاح الاستهلاكي، فهذا النوع من الانفتاح يقود إلى الانحطاط والتفسخ.

السابع- الانفتاح الانحرافي: يكشف عن انحراف الانفتاح عن أهدافه المطلوبة حيث تستلب كل مايرتبط بعقائدنا وقيمنا واخلاقياتنا، منتجا الاختلال الثقافي والعقائدي والانفصام عن واقعنا الديني والاجتماعي، لاسيما أننا نختلف عن تلك البلدان اختلافا كبيرا، فنحن أتباع الدين الإسلامي ولدينا قيم وعقائد وأحكام شرعية نسير في ضوئها.

فالموجة الموجودة في الغرب تحت عنوان (ما بعد الحداثة)، وهو منهج يؤمن بتفكيك كل القيم الاجتماعية والدينية، وتفكيك الجماعات والمجتمعات والهويات في تكريس مطلق للفردية، فيتم تشكيل الإنسان بهوية جديدة تقوم تحت تبرير الحرية الشخصية واللذة والمنفعة، وقد قدِم إلى بلادنا من خلال موجات مكثفة وعاصفة عبر الاثير الفضائي.

الثامن- الانفتاح المنتج للذنوب والمعاصي: هناك من يتجاوز الحدود الشرعية وقد يرتكب ذنبا أو معصية ما بحجة التمدّن والتحرر ويظن أنه عندما يقوم بمثل هذه الأشياء فهو شخص متقدم ومتنور وحداثوي، وقد يعتبر البعض ان الأحكام والالتزامات الشرعية والأخلاقية أحد أنواع التخلف، فيحاول أن يتجاوزها حتى يعتبر تقدّميّا في سلوكياته.

مثل هذه السلوكيات لا تساعد الإنسان على التقدم بل تؤخره كثيرا، لأن الذنوب هي أخطاء كبيرة يقع فيها الإنسان، وعندما يصر على ارتكاب الذنوب سوف تتراكم عليه، وسوف تصبح جبلا كبيرا يثقل كاهله، لذلك نلاحظ أن كثيرا من الأمم وعلى مر التاريخ انهارت بسبب استمرارها في ارتكابها للذنوب والمعاصي، فعندما يُقال لا تسرق ولا تكذب ولا تزني، يجب أن لا نتصور أنها مفردات وكلمات فقط، وإنما هي قضايا تنبثق من نظام تكويني، لذلك يؤدي الإصرار عليها إلى اختلال المجتمع وانحرافه وتفككه.

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: (احذر سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكرا كسكر الشراب، بل هي أشد سكرا منه، يقول الله تعالى: صم بكم عمي فهم لا يرجعون).

وعن الامام علي (عليه السلام) انه قال: (أعظم الذنوب عند الله ذنب أصر عليه عامله).

تاسعا- الفوضى الثقافية والأخلاقية: من المحاذير الأخرى للانفتاح المطلق هو الانخراط في الفوضى الثقافية والأخلاقية التي يعيشها العالم، بسبب كثافة تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، وعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) انه قال: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس)، فعندما يدخل الإنسان في هذه العوالم الفوضوية الكبيرة عبر شبكات ومواقع التواصل والانترنيت، ولا توجد لديه حصانة فإنه سوف يتأثر كثيرا ويتشبع بتلك الثقافات المنحرفة، فيستمر بارتكاب الذنوب، بسبب الانسجام النفسي الذي يحصل لديه نتيجة لاستماعه أو مشاهدته لما يعلنه المعلنون عبر الأنترنيت ومواقع التواصل.

2023/12/31

أسئلة وأجوبة عن «القبر».. ماذا سيحدث هناك؟!
س1: ما عقيدتنا في سؤال الميت في قبره؟

[اشترك]

ج: يتعرض الإنسان بعد موته إلى حساب ثمَّ عقاب أو ثواب, هذه عقيدتنا, وهذا مما دلّت عليه الأدلة النقلية.

*قال الصدوق : ( اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حق لابدّ منها ومن أجاب الصواب فاز بروحٍ وريحان في قبره وبجنةٍ النعيم في الآخرة, ومن لم يجب بالصواب فله نُزلٌ من حميم في قبره وتصلية جحيم في الآخرة) وغيره من علمائنا مما لا شك فيه أبداً . 

س2: وهل يُعذّب الإنسان أو يُنَعّم في قبره؟

ج: يعذّب الإنسان أو ينعّم في هذه النشأة الغيبية (البرزخ) حسب أعماله, فقد ورد ((القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)).

س3: وهل أنّ المعتزلة تُنكر عذاب القبر؟

ج: نُسب إليهم ذلك , والنسبة في غير محلها , وإنّما المنكر هو شخصٌ واحدٌ, وهو ضرار بن عمرو, وقد انفصل عن المعتزلة, وصار مع المجبرة . 

س4: ما المقصود بالقبر الذي فيه السؤال والعذاب أو النعيم؟

ج: ليس المقصود بالقبر في البحث الكلامي , هو الحفرة التي يُدفنُ فيها الإنسان, وإنّما هذا البحث بحث فقهي, يُرجع فيه إلى الكتب الفقهية لمعرفة مجموعة من أحكامه, وأمّا البحث الكلامي فلا يتحدث عن ذلك إذ القبر الكلامي: هو النشأة الغيبية التي تأتي بعد الموت وقبل البعث, وأمّا سبب تسميته بالقبر, لأنّ القبر هو بوابة لتلك النشأة الجديدة . 

س5: وما الفرق بين التناسخ والبرزخ حيث ترجع الروح لتتعلق بأبدان أخرى تماثل الأبدان الدنيوية, وهل هذا إلا قول بالتناسخ؟

ج: جوابه نفس ما تقدم من أنّ في التناسخ رجوع من الفعلية إلى القوة والإستعداد, وهذا غير متحقق في البرزخ, إضافةً إلى أنّ الأبدان المثالية في البرزخ وإنْ كانت تماثل الأبدان الدنيوية لا نفسها, ولكن هذا التعلق ليس من التناسخ في شيء إنّما رجعت الروح إلى نفس الأبدان, مع فارق كون الأبدان البرزخية ألطف من الأبدان الدنيوية, فالنفس لم تتعلق ببدن آخر غريب عن الأول الذي هو حقيقة التناسخ . 

*قال الشيخ البهائي: (( قد يتوهم أنّ القول بتعلق الأرواح بعد مفارقة أبدانها العنصرية, بأشباحٍ اُخر- كما دلّت عليه الأحاديث – قول بالتناسخ, وهذا توهم سخيف لأنّ التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلق الأرواح بعد خراب أجسادها, بأجسامٍ اُخر في هذا العالم, وأمّا القول بتعلقها في عالم آخر, بأبدان مثالية, مدّة البرزخ. إلى أنْ تقوم قيامتها الكبرى, فتعود إلى أبدانها الأولية بإذن مُبدعها, فليس من التناسخ في شيء))(1). 

الهوامش: (1) بحار الأنوار,ج6,ص277.
2023/12/22

تأملات في خطبة الزهراء: مغالطة الفتنة في إبطال الحق وتصديق الكذب
(وَلَبِئْسَ ما تَأَوَّلْتُمْ، وَساءَ ما أَشَرْتُمْ) أمام الإنسان في حياته ثلاثة خيارات، تُصبح بالنتيجة خياريْن، أما أن يكون مع الحق، أو يكون مع الباطل، أو ثالثا أن يكون بينهما، أي يقف على الحد الفاصل بين الاثنين (الحق والباطل)، فيأخذ من هذا قليلا ومن ذاك قليلا فيمزج بينهما.

[اشترك]

فيجعل هذا خيارا له لكي يعتاش به ويبرر أسلوب حياته وخياراته الخاطئة، ولكن هذا الإنسان الذي يلجأ إلى الخيار الثالث هو في الواقع يضرب الحق في صميمه، فيزوّر الحقيقة عن أصلها، فيقف مع الباطل ومع الزيف، وهذا المزج هو الباطل بعينه وصناعة للفتنة الهوجاء.

وعن الامام علي (عليه السلام): (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى).(1)

وتطرقنا الى الذين حاولوا الوصول إلى السلطة لكي يستمكنوا ويسيطروا ويتبعوا أهواءهم من خلال خلق الزيف في التاريخ وتحريف حركة الإسلام، فأجابتهم السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها: (ابتدارا، زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)(2).

هذا الإنسان الذي يزعم الفتنة ويمزج بين الحق والباطل، لأجل خلق شيء آخر، نوع من التبريرات الانتهازية التي تعبر عن الطمع والشهوات والأمزجة الشيطانية.

(وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة41/42.

ذكرنا في فتنة المغالطة عنوانيْن، وسوف ندخل في العنوان الثالث في هذا المقال.

العنوان الأول الذي ذكرناه حول وجوه المغالطة في الفتنة هو: خوف الوقوع في الفتنة يؤدي إلى الفتنة وإلى صناعة الفتنة، كما تفعل كثير من الحكومات والسلطات، فيقومون بتخويف الناس من الناحية الأمنية، ولكنهم يقودون البلاد إلى الفوضى والاختلال الأمني وتفاقم القمع وتصاعد هوس السيطرة على الناس.

العنوان الثاني: الطموحات الوهمية القائمة على المؤامرة، أي أنهم يقومون بعملية معينة من أجل إشباع طموحاتهم الخاصة، فيخدعون الناس ويكذبون عليهم في قضية السلطة من خلال وضع تابوهات واساطير مضللة.

العنوان الثالث: تغليف الصدق بالكذب، والكذب بالصدق

أي جعل الشيء الصادق كاذبا، وجعل الشيء الكاذب صادقا، هذه المغالطة عملية مارسوها كتحريف وتزييف، لكي يُخدَع الناس بهذا الأمر، وحتى يقوم بعض الناس بتبرير أعمالهم، فيمزجون بين الكذب والصدق لخلق شيء آخر، يناسب مطامعهم وطموحاتهم العمياء.

تقول الآية القرآنية: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ) العنكبوت 4.

إن الحياة عبارة عن تحدٍّ وامتحان وابتلاء أمام الناس. فالإنسان في الحياة يريد أن يعيش ويحتاج إلى المال، فالتحدي والاختبار الكبير الذي يقف أمامه، هو أما أن يذهب نحو المال الحرام، أو يختار الذهاب في طريق المال الحلال، هذه هي الفتنة وهي الاختبار الحقيقي للإنسان، فالذي يسقط في هذا الامتحان، هو الذي يلهثُ وراء المال الحرام.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (حب المال سبب الفتن)، (حب المال يفسد الأعمال ويقوي)، الآمال)، (حب المال يوهن الدين ويفسد اليقين).(3)

لكن الإنسان الجيد والمستقيم، هو الذي يذهب وراء المال الحلال، وهذا هو الهدف الحقيقي من الحياة، وهو أن يُربَّى الإنسان تربية على أن يكون صادق في حياته، وحتى يسلك طريق الحلال، ولا يسلك طريق الحرام والكذب، فكيف نعلم أن هذا الإنسان صادق في شعاراته، إنه يصلّي ويصوم ويفعل الكثير من الأمور الجيدة والصحيحة، لكنه حين يدخل في امتحان السلطة والمال يسقط في هذا الامتحان.

فالإنسان نعرفه من خلال الامتحان والاختبار، وكلما يجتاز الإنسان الامتحان بنجاح، يُربّى تربية صالحة فيسمو، ويرتقي، أما الإنسان الذي يسقط في مضلات الفتنة ولا يتدارك نفسه فيصلحها، ولا يصلح عمله، سوف يسقط مرة ثانية وثالثة، حتى يصبح في ورطة شديدة، إلى أن تنطبق عليه الآية الكريمة (فليعلمن الله الذين صدقوا)، حيث يصدق فعله مع كلامه ولا يتناقض فعله مع كلامه. (وليعلمن الكاذبين)، الله سبحانه وتعالى يعلم من هو الصادق ومن هو الكاذب، ولكن حتى هو الشخص نفسه يعلم وحتى يعلم الناس به أيضا، فعند الامتحان يبان الإنسان، ويتوضح ويتجسد في امتحانه، وليس في أقواله.

(أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون)، هنا تكمن المغالطة التي تحدث في عملية الخلط، واستخدام الإنسان لمنهج (الغاية تبرر الوسيلة)، ويستعمل أساليب الكذب.

فحين يجلس في محلّه (متجره) ويأتيه المشتري ويسأله، هل هذه البضاعة أصلية أم مقلَّدة؟، فيكذب على المشتري ويقول له إن هذه البضاعة أصلية، وبالتالي يبيعها بثمن عالٍ، وهي لا تستحق هذا الثمن، لكنه يبيعها بهذا المقدار الكبير من المال بالكذب، ويحسب هذا الأمر شطارة وذكاء.

بالنتيجة يربح ماديا من سلوكه الخاطئ هذا، ولكن بالنتيجة (ساء ما يحكمون)، فهذا الإنسان الكاذب والذي يتربَّح بالكذب، تنطبق عليه جملة الآية القرآنية (ساء ما يحكمون)، فهو يخدع نفسه، ويخدع الآخرين، لكنه بالنتيجة لا يخدع الله سبحانه وتعالى، ولا يمكنه أن يخدع الواقع، لأن الواقع هو صدق في تكوينه يتعامل مع الصادقين، ولا يتعامل مع الكاذبين.

الكاذبون أناس منبوذون، فالناس لا يتعاملون معهم، فالصدق يوصل الإنسان إلى النجاح، أما الكذب فسوف يُسقِط الإنسان في الامتحان، سقوطا مشينا في العار والذلة.

(وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران141/142.

التاريخ يكشف زيف المغالطة

الذين وجّهت لهم السيدة الزهراء (عليها السام) خطبتها وكلامها، حاولوا أن يستخدموا المغالطات والاستدلالات والقياسات الباطلة، من خلال خلط الصدق بالكذب، ولكن (ساء ما يحكمون)، لقد تصوّروا بأنهم يستطيعوا أن يخدعوا الناس، ولكن الزهراء (عليها السلام) كشفت في خطبتها كل الحقيقة، ووضعت كل القواعد الصحيحة للحكم وللسلطة وللإسلام.

لذلك انكشف هؤلاء، وانكشفت خطتهم، وانكشفوا في التاريخ أيضا، فالكاذب ينكشف دائما، والصادق هو الذي ينجح في حركة التاريخ ولو بعد حين، فالناس سوف يبحثون ويفهمون الحقائق عبر التاريخ.

(وهم لا يفتنون) أي لا يختبرون وعن الصادق عليه السلام (معنى يفتنون: يبتلون في أنفسهم وأموالهم، وعن النبي صلى الله عليه وآله) أنه لما نزلت هذه الآية قال: لابد من فتنة يبتلى بها الأمة بها، ليتعين الصادق من الكاذب، لان الوحي قد انقطع، وبقي السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة).(4)

أين هم ذهب الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كل واحد منهم خاف على أمواله وأولاده وانعزل وذهب بعيدا، أليس هذا بامتحان؟

فهو كان مع رسول الله وحضر في يوم الغدير، ورأى وسمع كل الأحاديث التي قالها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويعرف الآيات القرآنية التي وردت في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكن عندما جاء الامتحان سقط هذا الإنسان فيه، وهكذا نعلم الصادق من الكاذب عندما يحين وقت الامتحان.

لماذا اتخذ الناس موقف الحياد؟

لقد انقطع الوحي، وتوفيَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبقيَ السيف عندما انحرفت الأمة عن طريق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وابتعدوا عن منهج الغدير، فبرزت الفتنة بالسيف واشتعلت النزاعات بسبب هذا الانحراف، وحدث الصراع على السلطة، بسبب سكوت الناس، لأنهم وقفوا موقف الحياد ولم يقفوا مع الحق، لكن الذي يقف موقف الحياد لن يكون ناجيا، لأن الذي ينجو هو الذي يقف مع الحق، أما المحايد فهو يقف مع الباطل، هنا أدت هذه المواقف الخاطئة إلى بقاء السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

علينا أن نلاحظ هذه النقطة، عندما تحين الفرص الجيدة والكبيرة للتحول والتغيير والتقدم في الأمة، يحاول بعض الناس الانتهازيين الاستيلاء على هذه الفرصة، وتحويلها إلى صالحهم، ولكن هم يدمرون هذه الأمة بالفساد والاحتكار والسيطرة والاستبداد والهيمنة، يدمرون الأمة وتاريخها ومستقبلها، فتسقط المجتمعات وتقبل بالذل، فهي شريكة كذلك أيضا في هذا الأمر كما حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

تضييع الفرص يؤدي إلى النزاعات

وكما يحصل اليوم في مجتمعات كثيرة، تأتيهم الفرص بعد أن كان يحكم عليهم طاغوت ومستبد وظالم، ولكن عندما فرَّج الله عنهم جاء هؤلاء الذين كانوا ضد هذا الطاغوت الظالم وأصبحوا يحكمون الناس، فساروا بسيرة الطاغوت نفسه وضيعوا الفرصة الحقيقية للتقدم والبناء والنجاح، وانحرفوا عن السير في طريق الصادقين وعن الحقيقة والحق، ولهثوا وراء المغانم والشهوات والأهواء والأموال والأولاد والسيارات الفارهة.

إن هذا التضييع للفرص هو في الواقع يؤدي إلى اشتداد التخلف والنزاع والصراع في الأمة، وبالتالي إلى ضياعها، وكما يقول الإمام الصادق (وبقي السيف)، يعني الفوضى، والعصابات، والمافيات، وافتراق الكلمة، فئويات وصراعات ومن ثم بالنتيجة حدوث الحروب الأهلية، (وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة)، ما دام يبقى هؤلاء الذين يسقطون في الامتحان يفشلون في استثمار الفرص الحقيقية.

وهكذا فإنهم يسقطوا في الامتحان من أجل لذات فانية، ومن أجل أموال ذاهبة، ومن أجل فرصة قصيرة المدى يضيعون الأمة كلها، وهذا من أشدّ الأشياء سوءا على الإنسان الذي يسقط في الامتحان سقوطا كبيرا قويا ظاهرا يجعله في مصاف الفراعنة، فالإنسان الذي يسقط في هذا الامتحان هو بائس خاسر تلحقه لعنة الأجيال.

العنوان الرابع: قلب الحق باطلا والباطل حقا

هذا الوجه من وجوه المغالطة أعظم مرتبة، فالكذب والصدق هما امتحانات سلوكية عملية، لكن قلب الحق باطلا والباطل حقا هو امتحان عقائدي للإنسان، فما المقصود بالعقائدي هنا؟، يعني ان يقوم الفاعل بتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق من أجل حصوله على الشرعية التي يريدها في الحياة.

على سبيل المثال، هناك من يأتي ويقول لماذا تحرّمون الخمر؟، هل لأنه مسكر؟، إذن إذا شربه شخص ما ولم يسكرهُ فهو ليس بحرام، لاحظ كيف تمت عملية قلب الباطل حقا وبالعكس، من خلال جعل الحرام حلالا، فقلب الحق باطلا تمثل مشكلة كبيرة، كما جاء في الآية القرآنية: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة 48.

الحق يبدد ضباب الباطل

يقلّبون الأمور بحسب مزاجهم، حتى يظهر أمر الله ويبدد أوهام الزيف، فينجلي الضباب وتظهر الأرض، كذلك فإن الباطل ينجلي لأنه زيف وغير حقيقي، ويظهر أمر الله لأنه الحق.

(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ) الرعد 17.

هذا الأمر واضح على مرّ التاريخ، لذلك نلاحظ أن التاريخ دائما يكشف بأن الطغاة ذاهبون، والحقيقة والحق وأمر الله باقٍ.

وقد تكلمت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها عن قضية مغالطة الفتنة وقلب الحق باطلا وقلب الباطل حقا، في قضية فدك، وكيف انهم قاموا بتحوير الحكم الشرعي حول الإرث من اجل سلب فدك.

حيث قالت (عليها السلام):

(مَعاشِرَ النّاسِ المُسْرِعَةِ إِلى قِيلِ الباطِلِ، المُغْضِيَةِ عَلى الفِعْلِ القَبيحِ الخاسِرِ {أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبِهِم أَقْفالُها} كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلوبِكُمْ ما أَسَأتُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ، فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصارِكُمْ، وَلَبِئْسَ ما تَأَوَّلْتُمْ، وَساءَ ما أَشَرْتُمْ، وشَرَّ ما مِنْهُ اعتَضْتُمْ، لَتَجِدَنَّ وَاللهِ مَحْمِلَهُ ثَقيلاً، وَغِبَّهُ وَبيلاً إِذا كُشِفَ لَكُمُ الغِطاءُ، وَبانَ ما وَراءَهُ الضَراءُ، {وَبَدا لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ما لَمْ تَكونوا تَحْتَسِبونَ} وَ {خَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلونَ}).(5)

وهذا إشارة الى ان بعض الناس بمجرد أن يسمعوا الباطل يصدقوا به ويضعوه في أذهانهم ويتناقلونه فيما بينهم، كالتهم الجزافية دون التحقق من حقيقة ما سمعه وهذا الاستمرار في تناقل الباطل دون التمحص هو معنى (قيل الباطل)، وما اكثر من يستلذون بنقل الباطل والكلام التافه خصوصا اذا كان ينم عن حسد وبغض للآخرين.

وعن الامام علي (عليه السلام):

(أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ وَيُحِيلُ الْكَلَامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ. فسُئل (عليه السلام) عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ).(6)

نتائج فقدان العقل الاستدلالي

وتناقل الكلام الباطل مشكلة موجودة عند بعض الناس بسبب عدم امتلاكهم للعقل الاستدلالي، فحين يسمع الإنسان كلمة أو خبرا منقولا فالمطلوب أن يحقق فيه، فيذهب ويسأل ويقرأ ويحقّق بدقة، حتى يعرف هل هذا الكلام حق أم باطل؟، فلا يصح الإسراع إلى التقاول، لأنه قول الباطل باطل، وسوف يؤدي إلى باطل آخر، يضرب الآخرين في الصميم ويضيّع حقوقهم.

بالنتيجة يؤدي ذلك إلى انحراف الأمة، فحين تعيش هذه الأمة كلها على أقاويل كاذبة، وعلى إشاعات، تتحول الى أفكار زائفة، فماذا سيكون وضع هذه الأمة؟، إنها سوف تكون في الحضيض، ولا ترى النور، بل تعيش في الظلام.

(المغضية عن الفعل القبيح الخاسر)، فحين يكون الإنسان مقيما على قيل الباطل يستسيغ العيش في أجوائه الرديئة، فعندما يرى الأفعال القبيحة لايهتم مهما كانت قباحتها واضرارها.

مثلا يتعايش في بلده مع الرشوة والفساد، فيغمض عينيه، مع أنه لا توجد مشكلة فيه اذ هو ليس بفاسد، لكنه يغمض عينيه عن الباطل، ويستسلم للأفعال القبيحة المنتجة للدمار والخسران.

لا تغلقوا قلوبكم على أقوال باطلة

عندما رأيتم ما حدث في قضية الخلافة وقضية أمير المؤمنين (عليه السلام)، لماذا غضضتم ابصاركم عن الفعل ذلك القبيح الخاسر الذي اخرج الامة عن طريق الربح والفوز وادخلها في متاهات الخسارة والهزيمة؟ (أفلا تتدبرون القرآن) افتحوا قلوبكم، ولا تبقوها قائمة على أقوال باطلة، ولا على أفكار زائفة، فقلب الإنسان لابد أن يكون منفتحا على الفهم السليم والمعرفة الصحيحة، وعلى الاستدلال العقلاني، فيقوده في السير وراء الحق وترك الباطل، ولا ينساق وراء القيل الباطل المنتشر في المجتمع، الذي يبرر الأفعال القبيحة.

لا يحلّل الحرام ولا يحرّم الحلال بحسب أهوائه ومصالحه، فهناك من لا يعجبه أن يعطي الخمس والحقوق الشرعية، ويقول لماذا أعطي الخمس والحقوق الشرعية، فهذه أموالي، ومن يقول إن الخمس واجب، وهكذا نلاحظ الكثير من هذه التبريرات الباطلة، حيث يحاول من خلالها بعض الناس أن لا يلتزموا بالحقوق والأحكام الشرعية، فيبتعدون عن الحلال بأقوال باطلة، ويغضّون ابصارهم عن الأفعال القبيحة والمحرمات التي تتصاعد في المجتمع مع تزايد ارتكاب المحرمات حتى تصبح قلوبهم منغلقة على التطبع مع الباطل.

لابد للإنسان أن يكون شفافا مع نفسه، شفافا مع الحق حتى يكون مع الصادقين ومع المحقّين، ولا يسير في طريق الانحراف، ولا يغمض عينيه ويسير في طريق الباطل، ويشعر بأنه لا يعاني من مشكلة، ولكن (ساء ما يحكمون) وساءت طريقة تفكيرهم في اختياراتهم العمياء، فأمر الله واحد لايتغير بأهواء الناس، والحق واحد لاينقلب الى باطل بمزاجهم، والحقيقة واحدة تمحو كل زيف تخلقه الأوهام الملبسة بالمعاصي.

لذا لابد على الإنسان أن ينتبه وأن يذهب وراء الحقيقة، ويبتعد عن التبريرات والأفعال القبيحة والأقوال الباطلة، ويسير وراء الحق بعيدا عن المغالطة، فالمغالطة مرض فكري في داخل الإنسان، قد يؤدي به الى تبرير الأفعال الخاطئة وخداع الناس بهذه الأفعال ويجرّهم إلى ما يريد إرضاءً لأهوائه وشهواته.

نسأل الله سبحانه وتعالى، أن نسير في خطى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ونعمل وفق ما جاء في خطبتها الكريمة الكبيرة، من أجل الوصول إلى السير في الطريق السليم، وهو طريق أهل البيت (عليهم السلام).

الهوامش: (1) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 50.
(2) الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج ١ - الصفحة ١٣٧.
(3) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٢٣١.
(4) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٤ - الصفحة ٤٢.
(5) الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج ١ - الصفحة ١٤٤.
(6) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 141.
2023/12/08

دعاية كاذبة: الدين سبب الحروب والدمار في العالم!
يعزف دوكنز على اسطوانة يستمع لها الملحدون دوماً وهي أن الدين أصل لكل الشرور في الدنيا فلولا الدين لما كان هناك انتحاريين أو حروب صليبية أو فتن في ايرلندا الشمالية أو طالبان التي تجلد النساء وتدمر تماثيل بوذا!

[اشترك]

الجواب:

هذا الكلام مجرد ادعاء يفتقر إلى أبسط الأسس المنطقية في الاحتجاج والمخاصمة، فالحروب رافقت التاريخ الإنساني منذ بداياته الأولى، والذي يختصر دواعي الحروب وأسبابها في الدين لا يكون متعدياً على الدين فحسب وإنما متعدي أيضاً على أبجديات التفكير المنطقي والمقاربة الموضوعية للأشياء، فالنظار للكتب المهتمة بالحروب البشرية يجد أنها ترصد الحروب في التاريخ البشري ابتداءً من الحضارة السومرية والمصرية اللتان يعود تاريخهما إلى 3000 عام قبل الميلاد إلى يومنها هذا، فالتاريخ البشري ضمن هذه الزاوية لا يعدو كونه سلسلة من الحروب التي لا تنتهي، مما يحتم على الباحث الموضوعي رصد خيارات غير متناهية لأسباب هذه الحروب، وهو الأمر الذي توقف عنده علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلماء النفس والسياسية والتاريخ، وكل فريق يرصد من زاوية تخصصه واهتمامه مجموعة من الأسباب، فالحروب ليست ظاهرة استثنائية يمكن إهمالها وتجاوزها، وإنما هي من أكثر الظواهر حضوراً وتأثيراً في الاجتماع الإنساني وبخاصة في العصور الحديثة، ففي الفترة ما بين عامي 1740 و1897، شهدت أوروبا وحدها قرابة 230 حربا وثورة على أراضيها، وقد حصدت هذه الحروب أرواح ملايين من البشر، فالحروب التي نشبت بين عامي 1740 و1897 تسببت في قتل 30 مليون شخص، وتسببت الحربة العالمية الأولى في قتل ما بين 5 ملايين إلى 13 مليون شخص، أما الحرب العالمية الثانية فتجاوزت كل هذه الأرقام لتحصد أرواح 50 مليون شخص، ومازال العالم يتوقع نشوب حرب عالمية ثالثة يمكن أن تكون مدمرة للكرة الأرضية، فهل من المنطق اغفال مطامع الدول الكبرى وتنافسها المحموم في السيطرة على موارد العالم وتعليق الأمر على الاديان؟

ولا ندري لماذا أهمل دوكنز نظرية التطور في تفسير ظاهرة الحروب بين البشر، فبحسب هذه النظرية البشر مخلوق من جينات أنانية تستوجب استنساخها وتكرراها بحسب قانون الارتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح، ولذا من الطبيعي أن يحاول البشر الحصول على الموارد التي تساعده على البقاء والقتال من أجلها، فبمجرد أن يشكِّل الآخرون تهديدا لبقائهم، فإنهم لا يترددون لحظة في إعلان الحرب عليهم.

ولماذا أهمل دوكنز تفسيرات البيولوجيا والتي ترى الرجال مهيؤون بيولوجيّا لخوض الحروب لأنهم يتمتعون بكميات كبيرة من هرمون التستوستيرون المرتبط بسلوكيات عدوانية، ويعانون من انخفاض هرمون السيروتونين (المسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية)، وقد وجدت تجارب بحثية بالفعل أن حقن الحيوانات السيروتونين يجعلها أقل عدوانية.

وغير ذلك من أسباب الحروب التي تحدث عنها العلماء بحسب تخصصاتهم العلمية، ولم نجد من بينهم من يجعل الدين هو السبب المباشر للحرب، صحيح يمكن استقلال الدين في الحروب كما يتم استقلال القبيلة أو الهوية الوطنية؛ بل استقلال الإلحاد أيضاً بحجة القضاء على الأديان، فهناك فرق بين أسباب الحروب وبين الشعارات التي يمكن توظيفها في هذه الحروب، فالشعار لا يعدو كونه خطاباً دعائياً لتوليد المزيد من الحماسة والاندفاع، ولا يخفى قدرة البشر الفائقة في توظيف كل شيء في التجاه الذي يريده، فبحسب مصالحه يمكن أن يوظف الدين في السلام ويمكن أن يوظف ذات الدين في الحرب والقتال.

 فالقول بأن الدين هو أصل الشرور والحروب والكراهية ليس إلا دعاية كاذبة تحركها إيدلوجيا حاقدة على الدين، والعجيب أن الإلحاد كيف جاز له أن يحكم بقبح الحروب والقتال والكراهية وهو الذي يرفض أي مبدأ أخلاقي ولا يعترف بحقيقة موضوعية للشرور؟ وقد صرح ريتشارد دوكنز نفسه بذلك حينما قال: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة". ويقول أيضاً: "إنّه من العسير جدًا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية".

فمن يرفض الأديان لا يحق له أن يتهم الأديان بالشرور والكراهية؛ لأنه لا يمتلك أي بديل أخلاقي طالما كانت الطبيعة والمادة هي القيمة الوحيدة المتحكمة في حياة الإنسان، ولذلك نجد البعض صرح بتحميل الإلحاد الدارويني مسؤولية ما وقع من دمار في الحرب العالمية، والسبب في ذلك هو الفلسفة العنصرية التي أسسها تشارلز داروين في كتابه أصل الإنسان، والذي حاول فيه البرهنة على وجود تمايز حقيقي بين البشر، والنتيجة المتحصلة من هذا التمايز العرقي؛ هو منح العرق المتحضر الحق في القضاء على العرق الهمجي، ضمن قانون البقاء للأصلح والانتقاء الطبيعي، يقول داروين: "في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة، سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم". ولهذا النمط من التفكير نجد عالم التاريخ الأمريكي توماس ناب من جامعة لويال يقول: "كان الناس ينتظرون الحرب قبل عام 1914م بمنتهى الشغف، وكانوا يتمنون قيام الحرب، وكان الدافع لسيطرة هذا الفرح عليهم هو سيطرة الداروينية الاجتماعية على الناس في تلك الفترة حيث طُبقت في مدارس أوربـا، فهي ترى الحرب دافعـا للرقي للأقوى ودافع للنشاط" (كهنة الإلحاد الجديد، ص 159)

وفي المحصلة أن السلوكيات المتطرفة والعدائية تعبر عن شخصية الإنسان المتطرفة، والدين غير مسؤول عن السلوك الذي لم يأمر به، حتى لو تحول هذا السلوك لفعل جماعي تحت مظلة الدين، وبالتالي إن جاز الدفاع عن الدين بوصفه قيم سامية وأخلاق نبيلة، لا يجوز الدفاع عن السلوك اللاأخلاقي مهما تستر بستار الدين، فالإسلام يؤسس لاجتماع إنساني يقوم على التعارف والتعاون والتكامل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، ويقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، بل الإسلام ارتقي بالإنسان إلى مستوى حرم عليه السخرية والعنصرية والتنابز بالألقاب ناهيك عن القتل والاعتداء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وغير ذلك من التعليمات، أما شرعية القتال في الإسلام فقد جعلها محصورة ضمن حدود واضحة ومنضبطة وقد اشرنا لها في اجابات سابقة.

2023/11/27

كتابات «حقوق الإنسان».. ما عندنا أفضل مما عندكم!
عند النظر في الكتابات الإسلامية المعاصرة التي عالجت فكرة حقوق الإنسان، يلاحظ أن هناك تشابهاً كبيراً بين هذه الكتابات، الملاحظة التي من السهولة التعرف عليها وبدون عناء، وذلك حين التأمل في هذه الكتابات وفحصها والعودة إليها، الأمر الذي يظهر هذه الكتابات كما لو أنها تكرر نفسها، وتعيد إنتاج ما تطرحه من وقت لآخر، وبشكل يجعلها أو يجعل بعضها يتسم بالرتابة والسكونية والتقليدية.

[اشترك]
وحين توقف الشيخ محمد مهدي شمس الدين أمام هذه الكتابات في محاضرة له حول حقوق الإنسان في الإسلام سنة 1988م، وجد أنها تنطلق في الأغلب من ثلاث خلفيات هي:
الخلفية الأولى: الروح الدفاعية، فبعض الأبحاث طرحت للدفاع عن الإسلام أمام من يتهمه بمخالفة حقوق الإنسان، فهو بمثابة متهم يدافع عن نفسه.
الخلفية الثانية: خلفية التناظر، بعض الأبحاث كتبت لبيان احتواء الإسلام على حقوق الإنسان نظير ما لدى الفكر الغربي من حقوق للإنسان، وإنه ليس شاذاً في ذلك أو متخلفاً عنه.
الخلفية الثالثة: خلفية التظلم، حيث يعرض المسلمون ظلاماتهم ويحتكمون بها على حقوق الإنسان.
وهناك خلفية رابعة لم يشر إليها الشيخ شمس الدين، وهي خلفية السبق والتفوق التي تظهر وتؤكد أن الإسلام سبق العالم والثقافات الإنسانية في التعرف على حقوق الإنسان وإقرارها وتعريف الإنسانية بها، وبشكل يتفوق على ما توصل إليه الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر.
والملاحظ أن هذه الخلفيات الأربع ما زالت تهمين وتوجه معظم الكتابات الإسلامية الراهنة في مجال حقوق الإنسان.
ولعل من أكثر هذه الخلفيات الأربع وضوحاً، هي خلفية التناظر التي تجلت بوضوح كبير في التمسك بمنهجية المقاربات والمقارنات، فهناك العديد من الكتابات الإسلامية التي عرفت بنفسها عن هذه المنهجية، وكشفت عنها، وأشارت إليها في عناوينها الخارجية.
وهذا النمط من الكتابات الغرض منه عادة محاولة استظهار التفاضل، وتعزيز التمايز، والكشف عن الفروقات والمفارقات لأجل الخروج بنتيجة مفادها أن ما عندنا هو أفضل من ما عند غيرنا، وبالتالي علينا أن نلتفت إلى ما لدينا ونرجع إليه، ونستند عليه، ونأخذ منه، لا أن ننبهر بما عند غيرنا وننساق وراءه.
ويسجل على هذه الكتابات أيضاً، أن أغلبها يفتقد إلى العمق القانوني والخبرة القانونية، مع ارتباط هذا الحقل الشديد بالقانون، ويكشف عن ذلك أن معظم هذه الكتابات صنفها كتاب غير متخصصين في مجالات القانون، الأمر الذي ترك أثره سلباً على هذه الكتابات من جهة مستويات العلمية والدقة والإحكام.
وكنا نريد ونطمح أن يتعرف الغرب والعالم على نظريات الإسلام في مجال حقوق الإنسان عن طريق هذه الدراسات القانونية المتخصصة، التي تستجلي رؤية الإسلام بدقة وعمق وشمول، خصوصاً أن الغرب كما يقول عنه الدكتور مراد هوفمان في كتابه (الإسلام كبديل) الصادر سنة 1993م، يطيب له أن يدعي بأن للنظام القانوني في الغرب قيمة عالمية شاملة تنطبق على كل زمان ومكان، ومن جهة أخرى يقابلنا بعض رجال القانون الغربي في كثير من الأحيان بالرأي، أن الأنظمة القانونية في العوالم الحضارية الأخرى، وبالذات في عالم الإسلام هي همجية وبربرية قاسية، هذا مع العلم أنهم يجهلون بكل تأكيد هذا النظام القضائي.

2023/11/23

لو حكم الإمام علي بعد النبي.. هل لأصبح حال الأمة أفضل؟
الإجابة على مثل هذه الأسئلة تكون اجتهادية بالضرورة؛ وذلك لأنها تحكي عن شيء نفترض حدوثه وهو لم يحدث بعد، فمهما كانت تصوراتنا دقيقة فهي لا تخرج عن كونها محض افتراض لا يمكن الجزم بصحته.

[اشترك]

ويبدو أن السبيل الوحيد لتصور واقع نفترض حدوثه، هو دراسة العلاقة المنطقية بين السبب والمسبب، فمثلاً يمكننا أن نتصور الحال الذي سيكون عليه المريض إذا افترضنا تناوله للدواء أو افترضنا عدم تناوله له، وكذلك يمكننا أن نتصور الحال الذي ستكون عليه المباني والبيوت إذا افترضنا حدوث زلزال أو اشتعال حرب مدمرة، وهذه النماذج البسيطة يمكن أن تتطور في نماذج وامثلة أكثر تعقيداً، فتطور العلوم البشرية يعود بشكل أو باخر لهذه القدرة التنبئية.

إلا أن المفارقة تكمن في أن الأمور المادية خاضعة لعلاقات ضرورية بين الأسباب والمسببات، وهو خلاف ما عليه الفعل الإرادي للإنسان، فالسلوك الإنساني غير خاضع لمعادلات رياضية، ولذا من الصعب التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه حاله إذا تغيرت ظروفه، فالخيارات دائماً تظل مفتوحة، فمثلاً لو افترضنا تطبيق نظرية اقتصادية على دولة فإن ذلك سيحقق انتعاش اقتصادي، فإن هذه الفرضية ستظل في دائرة الاحتمال الذي لا يمكن الجزم بتحققه، وينطبق هذا الامر ايضاً على السياسة والاجتماع وجميع ما له علاقة بإرادة الإنسان.

وما نريد التأكيد عليه من هذه المقدمة هو أن التنبؤ بما يكون عليه حال البشرية في المستقبل من الأمور الغيبية، والسبيل الوحيد لمعرفة ذلك هو فقط ما اخبرت به النصوص الدينية، فبالمقدار الذي تحدثت عنه النصوص يمكننا معرفة ذلك والجزم به، ومن أمثلة ذلك النصوص التي تحدثت عن ظهور الإمام المهدي وما يكون عليه حال الأرض بعد ظهوره، فمن خلال هذه النصوص يمكننا الجزم بأن الأرض سيرثها الصالحون وإنها ستملأ قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.

وعليه حتى نتمكن من رسم تصور عام لما ستؤول إليه الأمة الإسلامية في حال عاد الأمر إلى الائمة الذين امر الله باتباعهم، لابد من الوقوف أولاً على القاعدة العامة التي تحكم سنن الحياة، ويمكن ايجاز تلك القاعدة بالقول إن الله خيّر الإنسان بين اتباع أمره أو اتباع هوى نفسه، وفي ذلك يقول تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، ويترتب على هذين الخيارين أمور لها علاقة بالآخرة وأمور لها علاقة بالدنيا، ففي الآخرة تقول بقية الآيات: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا). أما ما يترتب على هذين الخيارين في الدنيا فقد اشارت إليه آيات كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، ويقول تعالى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا)، وكل هذه الآيات وغيرها تخبرنا عما يمكن أن يكون عليه حال البشرية إذا التزمت حقيقتاً بما أمر الله تعالى به، وبما أن ذلك لم يحصل فحينها يتحمل الإنسان كل ما يصيبه من ظلم وويلات، يقول تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، ويقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).

وعليه كل ما أصاب الأمة الإسلامية من ظلم وفساد هو بسبب ابتعادها عن أمر الله وإرادته، فلم تكتفي الأمة بإزالة أهل البيت (عليهم السلام) عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، وإنما وقفت مع طواغيت الأمة من أمثال بني أمية وبني العباس وحاربتهم حتى قتلتهم إمام بعد إمام ولم يبقى إلا الامام الحجة الذي حفظه الله لكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فلو أن الأمة سلمت لولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم، وقد اشار سلمان الفارسي لذلك في خطابه عندما انقلبت الأمة على أمير المؤمنين حيث قال: " الحمد لله الذي هداني لدينه بعد جحودي له، إذ أنا مذكي  لنار الكفر، أهل لها نصيبا، وأتيت لها رزقا حتى ألقى الله عز وجل في قلبي حب تهامه، فخرجت جائعا ظمآن قد طردني قومي وأخرجت من مالي ولا حمولة تحملني، ولا متاع يجهزني، ولا مال يقويني، وكان من شأني ما قد كان، حتى أتيت محمدا (صلى الله عليه وآله) فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه، ورأيت من العلامة ما خبرت بها فأنقذني به من النار، فنلت من الدنيا على المعرفة التي دخلت عليها في الاسلام، ألا أيها الناس اسمعوا من حديثي ثم اعقلوه عني، قد أوتيت العلم كثيرا، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة: لمجنون وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا، فإن عند علي (عليه السلام) علم المنايا وعلم الوصايا وفصل الخطاب، على منهاج هارون بن عمران قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): [أنت وصيي وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى] ولكنكم أصبتم سنة الأولين، وأخطأتم سبيلكم والذي نفس سلمان بيده لتركبن طبقا عن طبق، سنة بني إسرائيل القذة بالقذة أما والله لو وليتموها عليا لأكلتم من فوقكم، ومن تحت أرجلكم، فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء..." (بحار الأنوار ج22 ص 387).

المقال رداً على سؤال: يسأل البعض ماذا يحصل لو حكم أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله مباشرة.. هل كانت حال الأمة سيتغير نحو الافضل؟
2023/11/20

هل يخلّد الشيعي العاصي في النار؟
س: هل الشيعي الموالي يخلد في نار جهنم؟ حتى مع تركه للفرائض للصلاة والصيام مثلًا؟ نحن نعلم أن من أحب آل البيت يقتدي بهم ولكن لو ترك فرائض سواء كانت صلاة أم صيام هل يمكث في نار جهنم أم أنه يعذب في النار ثم يدخل إلى الجنة؟

[اشترك]

الجواب : إذا خرج الإنسان العاصي من الدنيا وهو على ولاية أهل البيت عليهم السلام لم يخلد في النار، وإن كان قد يطاله العذاب على معاصيه .

 

2023/11/14

الفقراء في الجنة: هل هدف الدين تسكين جراحات الإنسان؟
أولاً: الدين لم يكن مجرد ظاهرة عابرة في التاريخ الإنساني، كما أنه لم يكن حالة وقتية رافقت الإنسان في لحظات العسر والشدة، بل هو أكثر الحقائق حضوراً في تاريخ الإنسان وحاضره، وعليه من الاجحاف وعدم الموضوعية تفسير الدين الذي بدأ ببداية الإنسان على الأرض ومازال يزداد حضوراً وتوسعاً وتجذراً بكونه مجرد وهم لتسكين الجراح، وعليه لا يمكن لأي باحث موضوعي يترفع عن تحيزاته الايدلوجية أن يتبنى هذا الرأي لتفسير نشوء الأديان.

[اشترك]

 ثانياً: الوهم النفسي وإن كان له وجود في الحياة الإنسانية إلا أنه سريعاً ما يتسرب ويضمحل أمام العقل واسئلته المحرجة، ولذا لا يربط العقلاء حياتهم ومصيرهم بمجرد وهم لا تدعمه أي حقائق علمية أو عقلية، والحالات النفسية كما هو مؤكد ليس لها ثبات يمكن الارتكاز عليه، فهي دائماً في حالة من الاضطراب والتبدل المستمر بحسب الظروف الخارجية، وعليه كيف لعاقل أن يفسر وجود الاديان واستمرارها على أساس حالة نفسية تفتقر لأبسط عوامل الثبات والاستقرار؟

ثالثاً: الأديان ترتكز على مبررات فطرية وعقلية لا يمكن اهمالها وتجاهلها، فاضطرار الإنسان إلى معرفة من أوجده من جهة، وحاجته إلى الكمال من جهة أخرى، وتطلعه إلى مصير الحياة ومستقبلها المجهول من جهة ثالثة، يحتم عليه التطلع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادة، وهذا النوع من الوعي المتسامي عن المادة والمترفع عن الحس، يمثل جانب الإشراق في الإنسان، يقول بارتيلمي سانت هيلير: "هذا اللغز العظيم الذي يستحدث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاء؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمة، ولا شعب، ولا مجتمع، إلا وضع لها حلولاً جيدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحولة". ويقول: شاشاوان: "مهما يكن تقدمنا العجيب في العصر الحاضر... علمياً، وصناعياً، واقتصادياً، واجتماعياً، ومهما يكن اندفاعنا في هذه الحركة العظيمة للحياة العملية، وللجهاد والتنافس في سبيل معيشتنا ومعيشة ذوينا، فإن عقلنا في أوقات السكون والهدوء – عظاماً كنا أو متواضعين، خياراً كنا أو أشراراً _ يعود إلى التأمل في هذه المسائل الازلية: لما وكيف كان وجودنا ووجود هذا العالم؟ وإلى التفكير في العلل الأولى أو الثانية، وفي حقوقنا وواجباتنا؟) (عبد الله دراز ص 83)

 وبذلك يتضح أن نشوء الأديان له علاقة بواقع تلك الاسئلة الوجودية المتأصل في كل إنسان، فلو لم يكن التدين حالة اصيلة وضرورة فطرية لما وجدنا هناك دين في المجتمعات الإنسانية، وهذا ما يؤكده معجم (لاروس) للقرن العشرين الذي جاء فيه: إن الغريزة الدينية: مشتركة بين كل الاجناس البشرية، حتى أشدها همجية، واقربها إلى الحياة الحيوانية.. وان الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية. ويقول: إن هذه الغريزة الدينية لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد.

 وهذا خلاف الإلحاد الذي يعد مساراً معاكساً لتاريخ الإنسان وفطرته المتدينة، ومن هنا لم يجد الإلحاد طريقاً لتبرير موقفه إلا بتقديم تفسيرات مشوهة لنشوء الأديان.

رابعاً: كون الدين يضمد جراحات المكلومين ويسكن آلامهم يعد أمراً إيجابياً يحسب للأديان وليس عليها، وفي ذلك اعتراف من الإلحاد على أن الدين له قدرة على جعل الحياة أكثر هدواً واطمئناناً، ونحن هنا نؤكد معهم على هذه النتيجة ونختلف معهم في التفسير الذي قدموه؛ فالوهم النفسي لا يمكن أن يحقق هذه الحالة من الاطمئنان والاستقرار، وإنما التفسير المقنع الذي يقدمه الدين لفلسفة الحياة هو الذي يحقق هذه الحالة للإنسان.

المقال رداً على سؤال: ريتشارد دوكنز يقول بأن الغاية الأساسية من الدين هي تضميد جراح المكلومين وتسكين آلامهم والقول بأن تعويض الخسارة  اذا لم تعوض بالدنيا فسيكون بالآخرة.. ويسميه اطفاء الجراح بالوهم! لم نقف على هذه المقولة المنسوبة لريتشارد دوكنز حتى نتعرف على خلفياتها وسياقاتها التي ذكرت فيها، ولذا سيكون الرد على المقولة بعيداً عن قائلها بوصفها مقولة يمكن لأي ملحد أن يتبناها.
2023/10/31

ما الفرق بين البحث التاريخي والبحث الفقهي؟
أولاً: إن الغاية من البحث في الأحكام تفرض تحصيل الحجة القاطعة للعذر فيها نفياً أو إثباتاً.. وينعكس ذلك على مقام العمل والممارسة، من حيث جواز التعبد والإلتزام بالحكم، وحصول الأمن من العقوبة، وتحصيل المثوبات عليه، أو التعرض للغضب الإلهي، واستحقاق المقت، والطرد، والحرمان من الألطاف والرحمات، لو تركه عن عمد واستخفاف.

[اشترك]

وربما كان ما يؤدي إلى المثوبة أو العقوبة هو نفس الإلتزام القلبي بالشيء، أو نسبة الحكم أو الأمر إلى الله تعالى، أو إلى أنبيائه ورسله، وإلى الأئمة الذين جعلهم ناطقين عنه، وهداة إليه، وأدلَّاء على سبل نيل رضوانه..

وهذا الواقع قد فرض على الإنسان الإلتزام بضوابط توفِّق بين الغايات، وبين وسائل الوصول إليها، وكيفيات التعاطي معها.

وكان منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ:

1 ـ عدم جواز نسبة شيء إلى الشرع والدين ما لم يُعلم بالحجة القاطعة للعذر أنه منه.

2 ـ لكن يجوز العمل بما يحتمل أنه من الشرع إذا بلغه ـ ولو بسند ضعيف ـ ثواب عليه، فيأتي العامل به برجاء المطلوبية، شرط عدم نسبته إلى الدين، ما دام لم يثبت بالدليل المعتبر أنه منه.

هذا إن لم نقل: إن أخبار من بلغ تفيد استحباب ما ورد الوعد بالثواب عليه.

فظهر بذلك: أن المعيار في الأمور الفقهية: هو الحجة المعتبرة على الإثبات أو النفي.

ثانياً: بالنسبة إلى القضايا التاريخية، مثل ما جرى على السيدة الزهراء «عليها السلام»، فيلاحظ: أن الغاية من البحث فيها تختلف عن الغاية من البحث في الأحكام بنحوٍ أو بآخر، فإن المطلوب قد لا يكون هو تحصيل الحجة القاطعة على حصول الشيء، وقد يكون المطلوب أيضاً الإلتزام بشيء تجاه النتيجة التاريخية، ولو مثل تحديد طبيعة العلاقة مع من صنع الحدث، أو مع المشاركين فيه، والممالئين عليه، لكي تكون علاقة ولاء وحب وطاعة، واقتداء، وانصهار وانبهار؟!

أو هي علاقة رفض وتبرٍّ، وعداء؟!

أو هي علاقة ثقة واعتماد؟!

أو هي علاقة ريبة وحذر، وتجنب لمواضع الخطر، والضرر، ولاسيما فيما يرتبط بقضايا الدين، ومصادر أخذها، وحفظ نظام الأمة، وغير ذلك؟!

فإن كانت حالة عداء، ونفور، وبراءة، فلا بد من أن يثبت منشؤها بمبرر وحجة، لكي يتحدد نوع التعامل، وطبيعة الموقف، بالإستناد إليه..

وكذلك الحال إذا كانت العلاقة علاقة حبٍّ وولاء، وطاعة، واقتداء، فلا بد من إثبات مبررات الإلزام بهذا الحب، وبهذه الطاعة، واستحقاق هذا النوع من الطاعة بالبراهين الساطعة، والقاطعة للعذر، ولو كانت من نوع المعجزة، التي تفرض البخوع والخضوع المطلق لمضمونها.

وإن كانت العلاقة المطلوبة هي علاقة الثقة والإعتماد، فلا بد من تلمّس مبرراتها أولاً، وإثباتها بنحو مقنع ومقبول ثانياً.

   وإن كان المطلوب هو الحذر، والتحرز، وتحصيل الإطمئنان إلى السلامة من الأخطار والأضرار، فإن الشارع قد أمضى حكم العقل بلزوم الحذر في موارد كهذه، إذا كان احتمال الضرر أو الخطر يعتدُّ به عند العقلاء.

وعطفاً على ما تقدم نقول ما يلي:

أولاً: إن موارد لزوم الولاء والطاعة قد تكفَّل الشارع الحكيم بالإعلان عنها، وتعريف الناس بها، بالطرق اليقينية، كالمعجزات، والإخبار عن الغيب، وظهور العلم الخاص الذي لا يحصل البشر عليه بالطرق العادية، وغير ذلك. فالبحث إنما يكون في هذا المورد في هذه الدائرة.. ويجب أن ينتهي إلى النتيجة المتوخاة..

ثانياً: بالنسبة لعلاقة الرفض والبراءة، والعداء، نقول:

إن الشارع الحكيم قد تكفل أيضاً ببيانها، حيث وضعها ضمن عناوين واضحة وصريحة، ومحددة.. فلم يُجز مثلاً تولي الكافرين، أو معونة الظالمين، والضالين، والجاحدين، والذين يحاربون الله ورسوله، وغير ذلك.. وترك للناس مهمة التعرف على أشخاص هؤلاء وأحوالهم من خلال تصرفاتهم ومواقفهم، وغير ذلك.

ثالثاً: بالنسبة لعلاقة الثقة والإعتماد نلاحظ: أنه أيضاً قد وضعها ضمن عناوين يحتاج البشر إلى التعرّف عليها، من حيث توفرها أو عدمه في الأشخاص الذين يريدون التعامل معهم، وأرشد إلى وسائل الحصول على هذه المعرفة، فنلاحظ على سبيل المثال قوله تعالى: ?وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ?(1)، فإن من السذاجة غير المبررة الإستنامة لمن يخالفك في الدين، ويرى أنك لا حرمة لك، ولا لمالك، ولا لعرضك، ويجيز لنفسه العدوان عليك، وكل ما يعود إليك.

وكذلك الحال في قوله «عليه السلام»: «لم يخنك الأمين، ولكنك ائتمنت الخائن».

ولأجل تحصيل هذا الإعتماد اشترطت العدالة في الشهادة، وفي القضاء، وفي إمام الجماعة، وغير ذلك.. واشترط التبين والتثبت في الأخبار المنقولة إليك.. ولا يختص ذلك بالمؤمن، بل يعمُّ المؤمن العادل والفاسق، والموافق في المذهب وغير الموافق.. واشترط الصدق في من تريد أن تكون معه، فقال: ?وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?(2)..

وأمثلة ذلك كثيرة لا يكاد يمكن إحصاؤها.

ويلاحظ: أن الشارع الحكيم لم يصعِّب الأمور في تحصيل ما يمكن أن يكون سبباً للإعتماد في مثل هذه الموارد، إذا كان الأمر يرتبط بالأمور الشخصية والعادية التي يوجب تصعيبها إرباكاً، واختلالاً في حياة الناس.. فاكتفى مثلاً بحسن الظاهر للاستدلال به على الباطن، وجعل سوق المسلمين علامة على حلية أو طهارة ما يطلب فيه ذلك.. واكتفى بحمل فعل المسلم على الصحة، بسؤال أهل الخبرة، ونحو ذلك.. مما شأنه تيسير الأمور وانتظامها، وقد أشار تعالى إلى هذا التيسير، فقال: ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ?(3).

رابعاً: بالنسبة للأمور التي وجب فيها الحذر، وهي الأمور المهمة  التي يوجب الإخلال فيها خطراً على الإنسان، أو على دينه، وآخرته، فقد قال تعالى: ?وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ?(4).. فحرَّم الإقدام على كل ما يحتمل فيه الخطر والضرر الذي لا يقدم عليه العقلاء..

ومن موارد ذلك: الإعتماد والأخذ ممن ظهرت فيه الإختلالات في أمور الدين والسلوك، فلم يجز له أخذ معالم دينه وحقائقه منه، فإنه إن لم تثبت أهليته للإعتماد عليه والوثوق به، فإنه يكون اعتماداً على فاسد، ومفسد، يخشى منه أن يحرِّف الدين، ويغير حقائقه، ويتلاعب بنصوصه، بحيث تتناسب مع مصالحه وأهوائه، وأهدافه التي يحتمل أن تكون شريرة وهدامة..

كما أن طاعته قد تؤدي إلى الإطاحة بمصلحة الدين والأمة، وهدم مستقبلها، وإشاعة الفساد والمنكرات فيها، وتقويض كيانها، في الدنيا والآخرة..

وهذا أمر عظيم، وخطر هائل، لا بد من تجنبه بكل حيلة ووسيلة، ولا يجيز الإقدام عليه عاقل، بل ولا عالم أو جاهل، لأنه يؤدي إلى الإطاحة بالغايات الإلهية، وإبطال جهود الأنبياء، والأوصياء، والأولياء والعلماء، وتضييع دماء الشهداء..

وأدنى احتمال لهذا الأمر يدعو للحذر، ويحتِّم تجنب الخطر. لأن القضية لا تقتصر على التعرض لتعب يسير، أو مرض يعرض لشخصٍّ، أو خسارة مالية، أو تلف للمزروعات، أو عاهة في الأشجار والثمار، أو تلوث في المياه والأنهار، أو غير ذلك..

بل تتعدى ذلك كله إلى خسارة الدين، والقيم، والأخلاق، والدمار، والبوار للسعادة في الدنيا والآخرة..

وواضح: أن احتمال حصول هذا الأمر مهما كان ضعيفاً، يكون منجِّزاً لوجوب الحذر، ويحتِّم موقفاً عملياً جازماً وحازماً في الإبتعاد عن كل ما يوجبه.

ونذكر على سبيل المثال: أن من يحتمل أن يكون قد أغضب الزهراء «عليها السلام»، التي يوجب غضبها غضب الله، أو تجرأ على الله، وعلى أوليائه، وأوصيائه.. فيتحتم تجنب الأخذ منه، والإبتعاد عنه، ويجب الحذر منه.. إلا أن يزول هذا الإحتمال من أساسه بالدليل القاطع، والبرهان الساطع.

فظهر: أن الخبر الضعيف، والمرسل الذي يوجب احتمالاً من هذا النوع ينتج لنا حكماً عقلياً إلزامياً بالمنع من الطاعة والإنقياد له، فضلاً عن بلوغ درجة الحب والولاء، والمعونة، والإنتماء، وغير ذلك مما يتوقف على ثبوت مبرراته، ومقتضياته على نحو القطع واليقين..

وأن لم يوجب ذلك بمجرده البغض والعداوة، ولزوم الإشهار بالبراءة.

وهل يتحقق هذا الثبوت، ويمكن حصول هذا اليقين مع احتمال صدور أي اهانة، أو استهانة منه بأولياء الله، وأئمة الهدى، والأدلاء على الحق؟!

ولا يحصل اليقين بعدم صدور ذلك منه، لمجرد ضعف السند، أو ضعف الإحتمال، أو إثارة أي شبهة في الثبوت، بل لا بد في مثل هذه الأمور الحساسة من ثبوت العدم، والنفي القاطع لكل ريب، والنافي للإحتمال، مهما كان ضعيفاً.

فإن لم يمكن ذلك، فلا يجوز ترتيب آثار الإنتفاء، لأنه لم يتحقق في من أصبحت تحوم حوله الشبهة، وصار في موضع التهمة.

فاتضح مما ذكرناه: الفرق بين البحث في ثبوت الأحكام الفقهية، وبين البحث في الشأن التاريخي، ولاسيما إذا كان مرتبطاً بالدين، أو بالأنبياء، والأوصياء، والأولياء المعصومين.

فلا يكفي مجرد حسن الظن بمن يحتمل صدور الإساءة منه لترتيب آثار ثبوت الصلاح، والفلاح، إلا فيما لا يمسّ الدين، ولا ربط له، ولا خطر منه على مستقبل الناس، والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة..

أما المناقشة في صحة نسبة بعض الكتب إلى مؤلفيها، لوجود بعض الإشتبهات فيها، أو لأي سبب كان، فلا تثبت أن مضامينها مكذوبة، أو محرفة.

كما أن وجود الرواية أو الخبر ـ اتَّحد أو تعدد ـ في مصادر يعلم أن مؤلفيها يوالون من تنسب إليه تلك السقطات والإساءات مع ظهور حرص أولئك المؤلفين على تنزيه المتهمين وتبرئتهم، والدعوة إلى موالاتهم، بل إلى تقديسهم، يمثل قرينة تقوِّي احتمالات صدور تلك السقطة، أو الإساءة ممن تنسب إليهم، ولو لم يصل الأمر إلى درجة اليقين..

وتتأكد التهمة إذا كان بعض أولئك المؤلفين الموالين لمن ينسب إليه ذلك إذا أوردوا الرواية في مؤلفاتهم.. ولم يعلنوا رفضهم لها، بالدليل.. لأن ذلك يكون بمثابة اعتراف بمضمون تلك الرواية، حتى لو كانت منقولة بأسانيد مطعون في صحتها عند ذلك الفريق..

فمثلاً نحن نعلم: بأن صاحب كتاب فرائد السمطين قد أورد في كتابه بعض ما ذكره الشيخ الصدوق في كتبه، مما يتضمن ما لا يروق لمؤلف كتاب الفرائد من الناحية الإعتقادية.. ولم يعقِّب عليه بما يبطله، فإيراده له على هذه الحال يعني ـ على الأقل ـ: أنه لا يملك ما يصح الإعتماد عليه في إبطال مضمون ما ينقله..

ولنفترض جدلاً ـ وفرض المحال ليس محالاً ـ: أن رواية ضرب الزهراء «عليها السلام»، وكسر ضلعها منحصرة بكتاب سُليم بن قيس، فإن ذلك لا يعني أن الرواية مكذوبة، وإن كانت غير معتبرة، بسبب ضعف سندها، أو لأي سبب آخر، فإن عدم اعتبار الرواية، إنما يمنع من حصول اليقين بوقوع مضمونها، ولا يرفع احتمال وقوعه، ووجوب الحذر، كما تقدم.

ولماذا يصر بعض الناس على ادِّعاء نسبة الكذب إلى الشيعة في موضوع ضرب الزهراء «عليها السلام»؟!

ولماذا يتجاهلون حقيقة: أن عشرات المصادر لغير الشيعة الإمامية قد ذكرت مظلومية الزهراء.. فإذا ضمَّت إلى روايات الشيعة، فإنها قد تصل إلى المئات.. فلماذا لا يريدون الإعتراف حتى باحتمال حدوث شيء من مضامينها، مع أن البخاري ـ وهو كما يدَّعي البعض ـ أصحّ كتاب بعد القرآن يصرح: بأن فاطمة «عليها السلام» ماتت وهي واجدة على أبي بكر؟!

فلماذا يطلب منَّا هؤلاء: أن نبرئ أبا بكر من فعل ما أوجب وجد الزهراء عليه، وغضبها منه، حتى لو كان وجدها لأجل قضية فدك، وتكذيبه لها في قولها: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد نحلها إياها، مع تصريح القرآن بطهارتها، وعصمتها؟!

ولماذا يطلب منَّا: أن نتولى، ونطيع، ونعترف بصواب، وصحة أفعال هذا الرجل، وأن نأخذ معالم ديننا منه، مع احتمال أن يكون قد أغضب مَن يغضب الله لغضبها، ويرضى لرضاها، ومات على تلك الحال؟!

   ويمكن للسائل الكريم أن يجد طرفاً من مظلومية الزهراء «عليها السلام» في المصادر التالية، التي تزيد على أربعين مصدراً، وليست هي من مصادر الشيعة الإمامية:

   1 ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص20.

   2 ـ المغني للقاضي عبد الجبار: ج 20 ق 1 ص 335.

   3 ـ الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 57.

   4 ـ الفرق بين الفرق للبغدادي: ص 148.

   5 ـ الخطط للمقريزي: ج2 ص 346.

   6 ـ الوافي بالوفيات للصفدي: ج6 ص17وج3 ص344 وج17 ص311.

   7 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج2 ص60 وج16 ص235 و 236 و 271 وج14 ص193 وج6 ص49 و 50.

   8 ـ أعلام النساء لعمر رضا كحالة: ج4 ص124 و 114.

   9 ـ الأرجوزة المختارة للقاضي النعمان الإسماعيلي: ص 88 و 92.

   10 ـ فرائد السمطين للحمويني الشافعي: ج2 ص34 و 35.

   11 ـ إثبات الوصية للمسعودي: ص143.

   12 ـ كفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص413.

   13 ـ البدء والتاريخ للمقدسي: ج 5 ص 20.

   14 ـ فاطمة بنت رسول الله، لعمر أبي النصر المصري: ص 94.

   15 ـ التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: ص 25 و 26.

   16 ـ ميزان الإعتدال للذهبي: ج 1 ص 139.

   17 ـ لسان الميزان للعسقلاني: ج 1 ص 268 و 218.

   18 ـ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 15 ص 578.

   19 ـ تسديد العقائد لشمس الدين الإسفراييني.

   20 ـ شرح التجريد للقوشجي (ط حجرية): ص482 و 483.

   21 ـ يحي بن محمد العلوي البصري (أستاذ المعتزلي، حسب نقله عنه في شرح نهج البلاغة ج20 ص16 و 17).

   22 ـ النقض لعبد الجليل القزويني: ص298 و 302.

   23 ـ ديوان حافظ إبراهيم المصري: ج1 ص75.

   24 ـ مروج الذهب للمسعودي: ج3 ص86.

   25 ـ المعارف لابن قتيبة (راجع مأساة الزهراء ج2 ص198).

   26 ـ الشافي لابن الحمزة الزيدي: ج4 ص202 و 173 و 171.

   27 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص27.

   28 ـ الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني: ج4 ص379.

   29 ـ منتخب كنز العمال: (مطبوع بهامش مسند أحمد) ج2 ص174.

   30 ـ المصنف لابن أبي شيبة ج14 ص567.

   31 ـ نهاية الأرب للنويري: ج19 ص40.

   32 ـ الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) لأبي عمر القرطبي: ج2 ص254 و 255.

   33 ـ كنز العمال للمتقي الهندي: ج5 ص651.

   34 ـ روضة المناظر لابن شحنة (مطبوع بهامش الكامل) ج7 ص164 و 165.

   35 ـ أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص586.

   36 ـ الرياض النضرة: ج1 ص167.

   37 ـ تاريخ الخميس للدياربكري: ج1 ص178.

   38 ـ العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: ج4 ص259 و 260.

   39 ـ المختصر في أخبار البشر لابن الوردي ج1 ص156.

   40 ـ تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج3 ص202.

   41 ـ الإمام علي بن أبي طالب لعبد الفتاح عبد المقصود المصري: ج1 ص190 و 191.

   42 ـ صحيح البخاري..

وغير ذلك كثير..

 أما المصادر الشيعية، فحدِّث عنها ولا حرج، وهي كثيرة جداً، كما يظهر من كتابنا: مأساة الزهراء «عليها السلام»، خصوصاً الجزء الثاني منه.. مع أننا لم نستقص جميع المصادر حول هذه القضية.

على أن نفس أن تكون هذه المسألة بالذات موضع أخذ ورد في المناظرات والإستدلالات، والإستدلالات المضادة في الكتب الكلامية، وتدوينها في كتب الملل والنحل، والأنساب، والتاريخ، والحديث، والشعر، وكتب الأدب، وغيرها.. يدل على ما نقوله، فالموضوع يتجاوز حدَّ الإحتمال الظني، ومحاولة إنكاره قد جاءت في أحيان كثيرة مشوبة بالمكابرة والجحود، والتجني.

المقال رداً على سؤال: ما هو الفرق بين البحث التاريخي، ولاسيما فيما يرتبط بسلوك الأشخاص، وبين البحث الفقهي لإستنباط الأحكام؟! الهوامش: (1) الآية 73 من سورة آل عمران. (2) الآية 119 سورة التوبة. (3) الآية 185 سورة البقرة. (4) الآية 195 سورة البقرة.
2023/10/29

هل الأديان سبب الاختلاف بين البشر؟
يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء ، فالتاريخ شهد الكثير من الحروب الدينية ، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.

وإزاء هذا القول لا بدّ من الانتباه إلى ما يلي :

أولا : أنّ الاختلافات ـ كما جاء في الآية المذكورة ـ لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان ، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما شاهدنا صراعا بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية ، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.

ثانيا : إنّ الدين ـ أو تأثيره ـ قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية ، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوة واتساعا وانتشرت في مختلف أرجاء العالم. فهل أن الدين هو السبب ، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب ، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين ، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية ، وفي أيّام اخرى بقوالب ومسمّيات أخرى؟! وعليه فالدين لا ذنب له في هذا ، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.

ثالثا : إنّ الأديان السماوية ـ وعلى الأخصّ الإسلام ـ التي تكافح العنصرية والقومية ، كانت سببا في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية ، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل. وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين. كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية ، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.

رابعا : أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة ، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على الظالمين والمستغلّين ، من أمثال فرعون والنمرود. إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهادا في سبيل تحرير الإنسان ، ليست عيوبا تلصق بالأديان ، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها. إنّ حروب رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة ، ومع قيصر وكسرى من جهة أخرى ، كانت كلّها من هذا القبيل.

هناك عدّة أهداف للأديان الإلهيّة ، منها تهذيب النّفوس البشريّة وإيصالها إلى المقام القرب الإلهي ، ولكن من أهمّ الأهداف أيضا هو رفع الاختلافات.

لأنّ هناك بعض العوامل من قبيل القوميّة والرّس واللّغة والمناطق الجغرافية دائما تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشريّة ، والأمر الّذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة اتّصال بين أفراد البشر من مختلف القوميّات والألوان واللّغات والمناطق الجغرافية هو الدّين الإلهي ، حيث بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود ، ويزيل تمام هذه الحدود ، ويجمع البشريّة تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجا من ذلك في مناسك الحجّ العباديّة والسياسيّة.

وعند ما نرى أنّ بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الاختلاف والنّزاع بين طوائف البشر ، لأنّها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتّعصب الأعمى ، وإلّا فإنّ الأديان الإلهيّة لو لم تتعرّض للتحريف لكانت سببا للوحدة في كلّ مكان.

مقتطف من تفسير الأمثل
2023/10/22

لماذا يفرض على الإنسان إما دخول الجنة أو النار؟
ما هو الهدف الرئيسي من دخولنا الجنة والنار؟ الجواب من سماحة السيد ضياء الخباز:

ابتداءً لا بدّ أن يُعلم : أنّ هنالك فرقاً بين الاستحقاق والتحقق ، فدخول الجنة والنار يمر بمرحلتين :

مرحلة الاستحقاق ، وهي : ما تتولد عن أعمال الشخص في الحياة الدنيا ، فإنه قد يستحق بها النعيم والجنة وقد يستحق بها النار والعقاب .
ومرحلة التحقق ، وهي : ما يكون مصير الإنسان إليها يوم القيامة .

إذا عرفنا ذلك فالمهم أن نعرف : أن دخول الجنة إذا تحققت مرحلته الأولى فلا بدّ أن تتحقق مرحلته الثانية ، لأنّ الله تعالى قد وعد بها ، وخُلف الوعد قبيح ، فلا يمكن أن يصدر منه تعالى شأنه .

وأما بالنسبة لدخول النار فليس كذلك ، إذ قد تتحقق مرحلته الأولى ، ولا يلزم أن تتحقق الثانية ، لإمكان أن يشمل عفو الله تعالى عباده العاصين فلا يعاقبهم ، وإن كانوا بمخالفتهم يستحقون العقاب .

وعلى ضوء ما تقدم نقول : إنّ الهدف من الجنة هو النعيم ، ومكافأة الإنسان المطيع بالحسنى ، وهو ما يقتضيه عدل الله تعالى وإحسانه ، وأما الهدف من دخول النار : فالصحيح – طبقاً لما تقدم – أن نصيغه بصياغة أخرى فنقول : إنّ الهدف من ( استحقاق العقاب ) هو ترهيب الإنسان وتخويفه ، لئلا يتعمد مخالفة القانون الإلهي ، الذي قد قننه الله تعالى لأجل مصلحة العبد وصلاحه .

فيكون ( التهديد بالعقاب والتوعد بالنار ) نظير التهديد الذي يصدر من المقنن الوضعي حماية لقوانينه ، أو التهديد الذي يصدر من أحد الوالدين لولدهما حرصاً على مصالحه .

2023/10/15

رأي الشيخ المفيد في «عذاب القبر»
الكلام في عذاب القبر بطريقة السمع دون العقل. وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: "ليس يعذب في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر، ولا ينعم كل ماض لسبيله، وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضا، فأما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم".

وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة.

فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه.

وأما كيفية عذاب الكافر في قبره، ونعيم المؤمن فيه، فإن الأثر أيضا قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا، في جنة من جنانه، ينعمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزق، ثم أعاده إليه وحشره إلى الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد، فلا يزال منعما ببقاء الله عز وجل.

غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل يعدل طباعه ويحسن صورته فلا يهرم مع تعديل الطباع، ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب.

والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا، في محل عذاب يعاقب به، ونار يعذب بها حتى الساعة، ثم ينشأ جسده الذي فارقه في القبر، ويعاد إليه، ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضا جسده تركيبا لا يفنى معه.

وقد قال الله عز وجل: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب).

وقال في قصة الشهداء: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) وهذا قد مضى فيما تقدم.

فدل على أن العذاب والثواب يكون قبل القيامة وبعدها، والخبر وأرد بأنه يكون مع فراق الروح الجسد في الدنيا.

والروح هاهنا عبارة عن انفعال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصح معها العلم والقدرة، لأن هذه الحياة عرض لا يبقى، ولا يصح عليه الإعادة.

فهذا ما عول عليه أهل النقل، وجاء به الخبر على ما بيناه.

المصدر: المسائل السروية
2023/10/04

صحيفة أعمالك يوم القيامة.. هل هي من الورق؟!
‏لقد تحدّثت آيات قرآنية وروايات عديدة عن صحيفة أعمال الإنسان. وكلّ هذه الآيات والرّوايات تؤكّد علی أنّ جميع الأعمال و جزئياتها و تفصيلاتها تكون مدوّنة في صحيفة الأعمال، و في يوم البعث و القيامة، يستلم الإنسان صحيفة عمله بيمينه إذا كان محسنا و يتناولها بشماله إذا كان مسيئا.

ففي الآية (١٩) من سورة الحاقة نقرأ! فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ‌ وفي الآية (٢٥) من نفس السورة نقرأ قوله تعالی حكاية عن الإنسان الخاسر: وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ‌. وفي الآية (٤٩) من سورة الكهف نقرأ قوله تعالی: ووُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَی الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.

‏وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السّلام، يتعلق بالآية- مورد البحث- اقْرَأْ كِتابَكَ ...

‏قال: «يذكر العبد جميع ما عمل، وما كتب عليه، حتی كأنّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا أحصاها‍».

‏وهنا يطرح هذا السؤال؛ عن ماهية هذه الصحيفة وكيفيتها؟

‏ممّا لا شك فيه أنّها ليست من جنس الكتب والورق والصحف العادية، لذا فإنّ بعض المفسّرين قالوا بأنّ صحيفة الأعمال ليست سوی «روح الإنسان» والتي تكون جميع الأعمال مثبتة فيها لأنّ أي عمل نعمله سيكون له أثر في روحنا شئنا أم أبينا.

‏وقد تكون صحيفة الأعمال، هي أعضاء جسمنا وجلودنا، و الأعظم من ذلك هو أنّ الصحيفة قد تكون متضمّنة في الأرض و الهواء و الفضاء الذي يحيطنا و الذي نعيش فيه، لأنّ هذه المفردات هي و وعاء أعمالنا، فترتسم الأعمال في أفق الأرض الهواء و الوجود الذي حولنا، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته أعمالنا أو آثارها وعلی الأقل.

‏وإذا كانت هذه الآثار غير محسوسة اليوم، ولا يمكن دركها في الحياة الدنيا هذه، إلّا أنّ ذلك- بدون شك- لا يعني عدم وجودها؛ فعند ما نرزق بصرا جديدا آخر (في يوم القيامة) فسوف يكون بإمكاننا أن نری جميع هذه الأمور، ونقرؤها.

‏علی أنّ استخدام الآية الكريمة لتعبير (اقرأ) ينبغي ألا يغيّر من تفكيرنا شيئا إزاء ما ذهبنا إليه آنفا، لأنّ كلمة «اقرأ» تتضمّن مفهوما واسعا، وتدخل الرؤيا بمفهومها الواسع هذا، فنحن مثلا و في تعابيرنا العادية التي نستخدمها يوميا نقول:

‏قرأت في عيني فلان ما الذي يريد أن يفعله، كما أنّنا في عالم اليوم أخذنا نستخدم كلمة «اقرأ» بخصوص الأشعة التي تؤخذ للمرضی، هذا بالرغم من أنّ الأشعة، هي صورة تخضع للمشاهدة لا للقراءة، وهذا المثال و الأمثلة التي سبقته‌ تؤكد ما ذهبنا إليه أنّ المشاهدة تدخل في إطار المعنی الواسع للقراءة.

‏وقد تقدم في عدّة آيات أنّ تفصيلات صحيفة الأعمال هذه، لا يمكن إنكارها بأي وجه، لأنّ الآثار الحقيقية الموضوعية (أي الخارجية) والتكوينية للعمل تشبه كثيرا الصوت المسجّل للإنسان، أو الصورة المأخوذة له، أو بصمات أصابعه، وأيّا من هذه الآثار لا يجد الإنسان إلی نكرانها سبيلا!

*مقتطف من تفسير الأمثل
2023/10/03

هل تغيّرت القصيدة الحسينية في عصر الاستهلاك؟!
كيف يمكن أن تساهم القصيدة الحسينية في التوعية الفكرية وإحداث التغيير الاجتماعي؟

يعد الشعر تاريخيا ولا يزال ليس في العراق فقط وإنما في كل الثقافات والحضارات قوة مؤثرة جدا في بناء السلوكيات الاجتماعية، لأنه يعطي وزنا معينا وقافية معينة تصل إلى الذهن وتؤثر بسرعة على المتلقي.

فكيف إذا كان الشعر عاطفيا وجدانيا، يعبر عن قضية فيها الكثير من الظلم، ويعبر عن مصيبة وعن حزن وألم عظيم، لذلك كان الشعر والقصيدة الحسينية هي أكبر مؤثر في عملية بناء النسيج الاجتماعي، على مر التاريخ، حتى الحكام رأوا في هذا الأمر قوة لهذا المجتمع فدعم بعض الحكام العقلاء هذه القضية، وأكثر الطغاة حاربوها بشدة. ونلاحظ ذلك في المجتمع العراقي وتأثره الواضح بالشعر والقصيدة الحسينية، وذلك أنه يعبر بعمق عن وجدان المجتمع وإحساسه بالظلم الموجود في افراده.

كان الشعر الحسيني والقصيدة الحسينية تستنهض الشعب والمجتمع ضد الظالم، فكانت عملية بناء فكري مستمرة وعملية بناء التزام اجتماعي تؤدي الى التماسك والوحدة الاجتماعية، بالنتيجة أدى ذلك إلى أن يتمكن المجتمع العراقي من أن يواجه الظالمين عن طريق القضية الحسينية، وخصوصا من خلال الشعر الحسيني والشعائر الحسينية.

ولكن بعد أن دخلنا زمنا جديدا، وأُزيلت تقريبا كثير من الموانع التي كانت موجودة في السابق، دخلنا في زمن الحداثة التكنولوجية وعالم الاستهلاك، فتغيرت بعض التوجهات في التعامل مع القصيدة الحسينية ومع الشعر الحسيني، فعالم الاستهلاك خطير لأنه يبتلع كل شيء ويلونها بأساليبه، يأخذ المبادئ والقيم والمُثُل ويحيكها بطريقته الخاصة، يقلبها عالم الاستهلاك فيفرغ تلك المثل والقيم من محتواها العميق، ويجعلها مجرد حالة سطحية.

ولكن الشعر الحسيني على طول التاريخ كان يعبر عن كفاح الإنسان ونضاله، ومقاومة الإنسان وصبره في مواجهة السجون والتعذيب والقمع والمطاردة والتهجير، وكان الشعر الحسيني دائما يغذي الإنسان بالأمل، بالتفاؤل والمحبة والعطاء والاستمرار، الآن ومع دخولنا العالم الاستهلاكي لاحظنا ظهور أشياء جديدة، تغيرت الملابس، وتغيرت الأشكال وتغيرت الكلمات وتغيرت السلوكيات، وأصبح العالم كما يضع في انطباعاتنا أكثر سطحية عما كان في السابق.

وهذا يحتاج في رأيي إلى دراسة وقراءة معمقة للوقوف أمام هذه الحالة الاستهلاكية قد تخرج القصيدة الحسينية من محتواها الاصيل.

التفريغ العاطفي المجرد

من الإشكالات التي تواجهها القصيدة في زمن الاستهلاك، التفريغ العاطفي المجرد عن السلوك، وحتى الشعر يحاول التأثير العاطفي بدون أي معنى مجرد إحداث تأثير عاطفي من دون أن تكون هناك موعظة فكرية أو توجيه أخلاقي أو سواها، نلاحظ كذلك استخدام مفردات العنف الاجتماعي أكثر في الشعر والقصيدة، كذلك نلاحظ أن الشاعر أو الرادود يجعل من القصيدة معبرة عن العرف فقط، دون الاستلهام من الخطاب الحسيني الذي يوجد فيه الكثير من الأفكار والتوجيهات والمواعظ القيّمة لبناء المسؤولية الاجتماعية، وترسيخ الحرية والتخلص من الذل والاستعباد، وبناء الالتزام الاجتماعي والتمسك بالدين والإسلام الحقيقي.

التأثير في التغيير الاجتماعي

وتسهم القصيدة الحسينية في التغيير الاجتماعي من خلال:

أولا: لابد أن ينبثق الشاعر من داخل حركة فكرية ثقافية اصيلة، فالثقافة الغالبة ثقافة العولمة والحداثة وما بعد الحداثة، التي أثرت كثيرا على تفكير الناس واغرقتهم في عالم الاستهلاك، وفي مواجهة الغزو الثقافي يحتاج الشعر إلى حركة فكرية اصيلة تملك تأثيرا اكبر على الناس، بحيث يؤثر فيهم حاليا كما اثر في السابق، لذلك لابد أن يستخدم الشعر الحسيني في عملية البناء الاجتماعي، في قضية الكفاح ومواجهة الظلم، سابقا كان هناك إحساس بالظلم وإحساس بالقهر والكبت والقمع، فكان الإنسان مناضلا ومكافحا من أجل القضية الحسينية وكان الانتماء لها عميقا.

فالأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تعاقبت على حكم العراق عملت على مسخ هوية الفرد وسلب هويته وجعله تابعا للحاكم المطلق ذليلا له، ولكن القضية الحسينية وقفت في مواجهة هذه الشمولية، وفي مواجهة هذا المسخ، ولكن اليوم هنالك شمولية من نوع آخر وهي شمولية الاستهلاك، التي تحاول أن تمتص الزخم الاخلاقي وتدمر القيم الفطرية ودون أن نشعر بذلك، لذلك لابد للشعراء والمثقفين أن ينتبهوا إلى عملية البناء بحيث يكون للشعر الحسيني مدلولاته السليمة في تشكيل السلوكيات الصالحة، وبناء الثقافة العميقة في الإنسان.

ثانيا: المطلوب من القصيدة الحسينية هو الاستخدام العاطفي المرتبط بالموعظة، وتوجيه الناس للابتعاد عن المال الحرام، والسرقة والخيانة والرشوة والفساد، فالشاعر أو الرادود لابد أن تكون عنده رسالة من خلال عملية استخدام العاطفة بقوة من أجل بناء السلوك النزيه، الطهارة، والنزاهة والنظافة في السلوك الاجتماعي.

ثالثا: من وظائف الشعر والقصيدة الحسينية بناء وترسيخ الانتماء الثقافي للنهضة الحسينية، وليس مجرد انتماء شكليا، بل لابد ان يكون انتماء ثقافيا بعقائده وأفكاره وأخلاقياته وسلوكياته.

رابعا: تعزيز روح الاحترام للنظام الاجتماعي، وهي مسألة غائبة في مجتمعاتنا، فنحن نعيش الفوضى، والسبب بوجود الفوضى أن الانفتاح الكبير الذي حدث لم يحصل فيه توجيه للفكر وبناء تراكمي للسلوك والثقافة، فالقصيدة الحسينية تستطيع أن تقوم بعملية تعزيز روح النظام والالتزام والانضباط الاجتماعي وتحمل الفرد لمسؤولياته.

خامسا: من اهداف القصيدة الحسينية هو التغيير الأخلاقي، فكيف يكون منتميا للامام الحسين (عليه السلام) وهناك أخلاقيات يمارسها قد تشكل نقيضا لمنهجه ومنهج أهل البيت (عليهم السلام)، فلابد للقصيدة أن تعزز التغيير الأخلاقي، حين كنت صغيرا أتذكر أنني كنت أحضر مجالس (الرادود المرحوم حمزة الزغير)، فتلك القصائد رسخت في داخلنا عمقا ثقافيا في الولاء والانتماء والهوية، ومع طول السنين في المهجر والمشكلات الأخرى بقيَ هذا الانتماء راسخا لأن تلك القصائد الحسينية عززت فينا هذا الانتماء والمشاعر الاصيلة بالهوية.

سادسا: كذلك استخدام العاطفة في القصيدة الحسينية لتعزيز عملية التوبة والاستغفار ومحاسبة الذات، وتنبيه النفس وإحداث التغيير الذاتي بشكل عام، والذي سيؤدي الى التغيير الثقافي والاجتماعي ونهضة الامة.

وأخيرا، يتم ذلك من خلال وجود منهجية وبرنامج مستدام عبر ندوات ودورات وحوارات على مدار السنة، تغذي الشعراء والرواديد بالفكر والخطاب الحسيني، فبعض القصائد التي يتم طرحها قد يوجد في بعضها خروج عن الموازين الشرعية والعقائدية، حيث المد الاستهلاكي المفرط يؤدي الى الخروج عن الأسس العقائدية، وبعضها يذهب إلى الغلوّ والتطرف والتركيز على العاطفة المجردة التي قد لا يوجد فيها معنى، فالعاطفة الحقيقية هي العاطفة الممزوجة بالعقيدة الصحيحة والالتزام السلوكي والأخلاقي والثقافي المسؤول.

2023/08/20

آية الله محمد باقر السيستاني يكتب عن «هوية الجندر» والاتجاهات الشاذّة.. كتاب جديد
ينشر موقع الأئمة الاثني عشر مقدمة كتاب جديد لسماحة السيد محمد باقر السيستاني تحت عنوان: "تكامل الذكر والأنثى في الحياة - دراسة موجزة في تكامل الجنسين ونقد الاتجاهات الشاذة الحديثة". أدناه نص ما جاء في مقدمة الكتاب بحسب ما ورد لـ "موقع الأئمة الاثني عشر":

إن أحد الأسس الفطرية المهمة للحياة الإنسانية والنوع الإنساني هو التنوع البشري الرائع المنقسم إلى الذكر والأنثى، وتكاملهما في هذه الحياة من خلال الاقتران الزوجي الأسري، وتوزيع اقتضاءات الأسرة على الجنسين وفق الملاءمات الفطرية مع تكونهما الجسدي والنفسي والسلوكي ومشاركتهما إنجاب الأولاد.

إلا أن هذا الأساس تعرض في العصر الحاضر لتحدٍ خطير من خلال اتجاهات ونظريات متعددة انتشر تسويقها باسم العلم والأدوات العلمية.

ومن أبرز تلك النظريات نظريتان:

١ - نظرية تحور معنى الذكورة والأنوثة ـــ وهما أمران معروفان للإنسان منذ نشأة الإنسانية ــــ بادعاء أنهما لا يتمثلان في التنوع الفطري الجسدي والوظيفي والنفسي والسلوكي للإنسان، بل هما يعبّران عن انطباع الإنسان عن نفسه.

فإذا رأى الذكر جسديا أنه أنثى كانت هويته أنثى سواء احتفظ بخصائصه الجسدية الذكرية، أم سعى إلى تغييرها، فله أن يتأنّث ويظهر ويتصرف ويتزوج كأنثى تماماً ويكون بين الإناث في اجتماعهن، وعلى الأسرة والمجتمع أن يتقبله ويتعامل معه كذلك رغم خصائصه الذكرية الكاملة، وكذلك الحال في الانثى!.

بل يجوز أن يختار الشخص ان يكون ذكرا وأنثى في آن واحد، او يكون حالة وسطى بمزيج من المظاهر والسلوكيات الذكورية والأنثوية حسبما يشاء!

وقد عبر عن مورد الانطباع المغاير للجسد عن الذات بالتحول الجنسي، كما عبر منذ حين عن الهوية التي يختارها الشخص لنفسه -سواء كان موافقا لجسده ام لا- بالنوع الاجتماعي أو الجندر.

٢- نظرية أخرى تنقض تكامل الذكر والأنثى في الحياة كما تقتضيه الفطرة الإنسانية بادعاء أنّ الميول الشاذة (المماثلة) هي ميول طبيعية، وأنّ الاقتران الشاذ بالمماثل يمثل خيارا للزواج على حد زواج الذكر والأنثى!.

فهاتان نظريتان تبرران السلوكيات والاقترانات والميول الشاذة، وتعتبرها  امورا طبيعية وخيارات مقبولة ومشروعة على حد الخيار السائد في المجتمع البشري من تمايز الجنسين وتكاملهما في الحياة.

وقد حدثت هاتان النظريتان في هذا العصر في بعض الأوساط العلمية على أساس أنهما من جملة معطيات العلم الحديث!.

ومن الملفت انه يجري تسويقهما ثقافيا واجتماعيا بقوة واندفاع بالغ في المجتمعات البشرية من خلال جميع الامكانات المتاحة المحلية والدولية من الجوانب المالية والقانونية والسياسية والاعلامية والثقافية والتربوية .

والواقع أن  هذه النظريات تمثل انتكاسة كبيرة في الفكر الإنساني المعاصر، بل تقهقر غريب لما يطرح باسم العلم وعجز كبير عن رصد البديهيات الفطرية الإنسانية التي يدركها عامة العقلاء الراشدين وفق ما يجدون بوجدانهم و يشهدونه بالخبرة العامة، وقد وقع من قبل التنكّر لمبادئ بديهية أخرى باسم العلوم الإنسانية.

كما ان تسويقها في المجتمع الانساني عمليا يمثل تحديا خطيرا للانسانية في احد أهم ركائزها وبناها في وجودها وديمومتها وقيمها واخلاقها ونظمها الأسري والاجتماعي.

وهذه دراسة موجزة تتضمن توضيح تكامل الذكر والأنثى في الحياة وفق القواعد العامة الراشدة للتفكير المبنية على مبادئ خمسة

١ ٠ الإدراك السليم.

٢ ٠ الفطرة الإنسانية الجسدية والوظيفية.

٣ ٠ الفطرة النفسية والسلوكية.

٤ ٠ الضمير الإنساني الذي يمثل الهدي الملائم للإنسان ويحدد ما يحسن وما يقبح منه.

٥ ٠ الحكمة الصائبة التي ترعى الصالح الإنساني.

هذا مع دراسة الموضوع وفق هذه المبادئ في المستوى الفطري، وفي المستوى العلمي المعتمد على العلوم ذات العلاقة بهذه المبادئ، من جهة وجود ابعاد للموضوع ذات علاقة بكل واحد من هذه المبادي  الخمسة.

كما تضمنت الدراسة  توضيح بداهة مبدأ التكامل بين الجنسين في الدين بداهة بالغة لا مزيد عليها، فإنه ملء تعاليم الدين ونصوصه في ذِكْر الذكر والأنثى وأحكامهما، على أنّ الدين يضمن التأكيد على أن هذا التكامل مطابق مع المبادئ الفطرية والأخلاقية والحكمية.

وكنت قد اعددت دراسة اكثر تفصيلا من بعض النواحي قبل ثلاث سنوات عندما بلغني استفحال هذه النظريات في اوساط الجاليات الاسلامية في بعض بلاد المهجر، وحدثت ظروف حالت دون إنهائها، وقد حدث في هذه الايام سعي بليغ بنشر هذه الافكار الخاطئة في داخل البلاد الاسلامية فاهتممت بايجاز البحث مع بعض الاضافات ليكون اسهل تناولا.

وقد اعددت هذا البحث في الأصل لإلقائه كمحاضرات على طلبة الجامعات ولكن حالت الظروف عن إلقائها، ولذلك اكتفيت بنشرها وذلك ليكون مذكِّرا لمن عُني بالتبصر في الموضوع وتحفيز معاني الرشد والفطرة والأخلاق والحكمة في المجتمع الإنساني بشكل عام وفي المجتمع الديني على وجه خاص.

(وسوف تنشر هذه الدراسة قريباً على شكل حلقات تدريجاً). السيّد محمّد باقر السيستاني
2023/08/12