فرض الاسلام ليس استبداداً -4-

لا شك أن فيما انتهى اليه لقاء نصارى نجران بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من إفحام للنصارى واللجوء الى المباهلة والتي انتهت بانسحابهم ورفضهم المباهلة دليلاً بيّناً على ذلك.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) "أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد - وحضرت صلواتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا - فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال: دعوهم. فلما فرغوا دنوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبدٌ مخلوقٌ يأكل ويشرب ويحدث. قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال قل لهم ماتقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: نعم. فقال: من أبوه؟ فبهتوا فأنزل (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم...)، وقوله (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم... إلى قوله (فنجعل لعنة الله على الكاذبين)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فباهلوني، فإن كنت صادقاً أنزلت اللعنة عليكم وإن كنت كاذباً أنزلت علي. فقالوا: أنصفت. فتواعدوا للمباهلة.

فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبياً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق، فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم هذا ابن عمه ووصيه وختنه (حبيبه) علي بن أبي طالب وهذه ابنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين، ففرقوا فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجزية وانصرفوا" .

ومن الجدير بالملاحظة أن لعنة الله هنا هي على الطرف الذي يمثله النبي (صلى الله عليه وآله) إذا كان قد ادّعى النبوة كذبا، أوعلى النصارى إذا كانوا قد ادّعوا عدم اقتناعهم بما قدمه لهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من حجج وأدلة، فيكون انسحابهم من المباهلة إقراراً منهم باقتناعهم وتصديقهم له.

ورغم هذا فالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يجبرهم على اعتناق الإسلام بل تركهم ومايريدون من عقيدة.

والجزية التي تصالحوا عليها لم تكن كما يصوّر البعض وكأنها الأتاوة التي يفرضها الأقوياء على الضعفاء استغلالاً وقهراً، وإنما هي ضريبة يدفعها النصراني مقابل حقوق له كمواطن في دولة الإسلام، وبهذا يكون قد تساوى مع المسلم الذي يتنعم بحقوق المواطنة مقابل ضريبة يدفعها تتمثل بالزكاة والخمس وغيرها.

ويتجلى هذا في حادثتين من السيرة الوضاءة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الأولى حين جعل المرأة المسيحية كالمرأة المسلمة فيغضب على سفيان بن عوف عشية انتهاكه لحرمات المسيحيين والمسلمين في العراق فيقول (ولقد بلغني أن الرجل كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجابها.) ثم يقول (فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً).

ثمّ يوقّع بيمينه على وثيقة حماية المسيحيين: "لا يُضاموا، ولا يُظلموا، ولا ينتقص حق من حقوقهم فأموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا". ثم يأمر (عليه السلام) بجعل دية المسيحي كدية المسلم.

والثانية أنه كان (عليه السلام) يتمشى في الكوفة فشاهد رجلاً من أهل الذمة (مسيحياً) يتسول، فما كان منه إلا أن أرسل إلى صاحب بيت المال وهو الصحابي أبو رافع فقال له: كيف تتركون رجلاً في بلاد المسلمين ولا تجعلون له عطاءً من بيت المال؟ فقال له أبو رافع: يا أمير المؤمنين إنه من أهل الذمة مسيحي. عند ذلك ابتدره ونهره وقال له:  أتاخذون من الرجل ما يمكن أخذه من عمل وجهد وهو شاب ورجل، وتتركونه وتنبذونه وراءكم عندما يصبح شيخاً؟ وهذا ليس بخلق الإسلام والله. وأمر له بعطاء من بيت المال وتكريمه.