إن الحديثَ العلميَّ عن المعجزة لابدَّ أن يتركَّز على عدة نقاط أساسيَة هي:
1 ـ ما هي المعجزة وما هو تعريفها؟
2 ـ هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟
3 ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير عادية فقط؟
4 ـ كيف تدل المعجزة على صدق ادعاء النبوة؟
5 ـ كيف وبماذا نميز المعجزة عن الخوارق الاُخرى؟
إنَّ الاجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة وبيان مدى بطلان الاتجاه المذكور نعني : تفسير المعاجز بالتفسير المادي الطبيعي.
على أننا ـ نظراً لضيق المجال ـ سنختصر الجواب على هذه الأسئلة وعلى من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام والعقيدة.
1 ـ ما هي المعجزةُ وما هو تعريفها؟
لقد عرَّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو : انّ المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة مقرونٌ بالدَعوى والتحدّي مع عدم المعارضة ومطابقة الدعوى .
ويعني الشرطُ الأولُ ( اي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة ) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلة حتماً فلا يمكن صدورها من دون علة وهذا الكون مشحون بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو العلميّة ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلة بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية ولا يمكن تفسيرها وتبريرها بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث والمقصود من خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه في الظواهر الاُخرى وعِللها مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود واخراج الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف وتحويل العصا إلى أفعي من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل بل بمسح من يد أو بعبارة من لسان أو بضرب من عصا!!
من هنا نكتشفُ أَن كل ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه الصورة لم يقع أي شيء على خلاف العادة والمألوف ليدل على مزية في الانبياء.
فان مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفها علماء ومتخصصو ذلك العلم يمكن أن يقوم بإيجاد أمثالها جميعُ الناس فلا يكون حينئذ معجزة.
ولا يعني هذا ـ وكما اسلفنا ـ أَنَّ المعجزة لا تنتهي إلى أية علة اصلا بل هي تستند إلى علة غير متعارفة وغير عادية ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على السؤال الثالث.
ويُقصَد من الشرط الثاني ( أي كون الاعجاز مقروناً بالدعوى ) أن يَدّعي صاحبُ المعجزة النبوة والسفارة من جانب اللّه تعالى ويأتي بالمعجزة دليلا على صحة دعواه هذه إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ الكرامة كما كان لمريم بنت عمران الّتي كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فاذا سألها من أين لها ذلك؟
قالت : هو من عند اللّه .
ويعني الشرطُ الثالثُ أن يكون الاعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان بمثله وعجز الناس عن هذه المعارضة وعدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقاً إذ في هذه الصورة يتضح أَنَّ النبي يعتمد على قوة الهية غير متناهية قوة خارجة عن حوزة البشر العادي.
واما الشرط الرابع فيعني أن الامر الخارق للعادة إنّما يكون عملا إعجازياً ويستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ إذا وافق الامرُ الواقعُ ما يدعي أنه قادر على الأتيان به.
فلو قال : سأجعلُ هذا البئر الجاف الفارغ من الماء يفيض بالماء بإشارة اعجازية ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقاً وأما إذا قال : سأجعل هذا الماء القليل الموجود في البئر يفيضُ ماء بالإعجاز ولكن جفَّ ذلك البئرُ على عكس ما قال لم يكن ذلك إعجازاً بل كان تكذيباً لمدعيها.
هذا هو خلاصة ما يمكن أن يُقال حول تعريف المعجزة والاعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.
2 ـ هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟
وبهذا يتضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال : إن قانون العليّة ( اي : ارتباط كل معلول حادث بعلة ) ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبلَه العلمُ والفلسفة ولذلك فأننا نلاحظ : كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة مهما كانت ـ بحَثَ عن علّتها فوراً فاذا رأى حية ـ مثلا ـ عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذه العلل ولا تمرُّ بمثل هذه المقدمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة مثل انقلاب العصا إلى ثعبان أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.
أليس هذا هدمٌ أو تخصيصٌ لذلك القانون العقليّ المسَلَّم العام؟
فان الجواب على هذا السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلاّ الَّذين يحصرُون العلل والعلاقات بين الاشياء في العلل والعلاقات المادية الطبيعية.
ولكن الحق هو أنَّ أيَّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل :
1 ـ العلةُ العادية الّتي تخضع للتجربة.
2 ـ العلةُ غير العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية.
وهذا يعني أنه لا توجد أية ظاهرةُ في هذا العالم بدون علة.
وتوضيحُ هذا أن اصل وجود الحية ونبوع الماء من الصخرة وتكلم الطفل ـ مثلا ـ أمرٌ ممكنٌ ولا يُعدّ من المحالات لأَنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبداً.
نعم أَنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق والعلة ـ سواء في المعاجز أو غيرها ـ يمكن أن تكون إحدى الامور التالية :
أ ـ العلة الطبيعية العادية وهي ما الفناها وأعتدنا عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.
ب ـ العلة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل وطريقان للتحقق والوجود أحدهما معروف ومعلوم والآخر مجهول غير معلوم والانبياء بحكم اتصالهم بالعلم والقدرة الالهية يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل ـ عن طريق الوحي ـ ويوجدوا الظاهرة.
ج ـ تأثير النفوس والارواح :
فانَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأَنبياء ونفوسهم القوية كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفرادُ العاديُّون وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها.
وهو ما يسمى باليوجا أحياناً وقد كتبت حوله كتب ودراسات .
وقد أشار إلى هذا جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول :
لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوةٌ الهيةٌ تكون بقوتها كأنها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها فكلّما ازدادت النفسُ ـ تجرداً وتشبّها بالمبادئ القصوى ازدادت قوةً وتأثيراً في ما دونها.
وإذا صار مجردُ التصوّر والتوهم سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة وتعلّق جبلّي لها إليه لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير لأجل مزيد قوة شوقية واهتزاز علوي للنفس ومحبة الهية لها فيؤثر نفسُه في إصلاحها وإهلاك ما يضرّها ويفسدها .
د ـ العللُ المجردة عن المادة :
فيمكن ان تكون للظواهر عللٌ مجردة عن المادة كالملائكة بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية أو تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.
والملائكة مظاهرُ القدرة الالهية في الكون وهي الّتي تدبّر اُمور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم : فالمُدَبَّراتِ أَمْراً وهي بالتالي جنود الله في السماوات والأَرض وللّه جُنودُ السَماواتِ .
فلابد من ارجاع الظواهر الطبيعية الواقعة إلى أحد هذه العوامل الاربعة ولا يمكن أبداً حصر العلة في العلة الطبيعية العادية المعروفة كما تصور منكروا الاعجاز بل يمكن أن تكون كلُ واحدة من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر ـ فوراً ـ إلى تصوّر أنها ناشئةٌ من غير علة.
ويجب ارجاع معاجز الأَنبياء إلى إحدى الطرق الاخيرة والقول بأن الانبياء استخدموا ـ في ايقاع الخوارق والمعاجز ـ إما العلل المادية غير المعروفة للعُرف والعلم وأما نفوسهم القوية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.
كما ويمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بامر اللّه ومشيئة.
إذن فلا تتحقق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر ولا يهدم الاعجاز القوانينَ العقلية المسلّمة.
3 ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟
قد يتصور البعض أن المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها ايَّة علل مادية معروفة أو غير معروفة في حين لا يصحّ هذا السلب الكلي إذ ما اكثر الخوارق الّتي تنشأ عن اُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.
فعندما يرقُد مرتاض هندي ليمرَّ عليه تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك اُموراً مادية كثيرة دخلت في هذا الامر الخارق مثل : وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص والمكان الخاص ومثل جسم المرتاض وماكنة الحراثة.
فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت في ظهور هذا العمل الخارق.
وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم (عليه السلام) إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شيء مادي وهكذا الحال في غيره من الموارد.
ولهذا لا يمكن ان نتجاهل تأثير العوامل والامور المادية في ظهور الاُمور غير العادية وننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.
وهذه هي اكثر النظريات اعتدالا في هذا المجال.
وفي مقابل ذلك التفريط أفرط آخرون إذ قالوا : ان جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.
وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها حتّى النوابغ من الناس فضلا عن العاديين لأن العوامل الطبيعية على نوعين : المعروفة وغير المعروفة والناس يستفيدون في حياتهم اليومية ـ في الأغلب ـ من القسم الاول بينما يستخدم الانبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها وادركوها دون غيرهم.
والسبب في وصفنا هذه النظرية بالإفراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لا ثباته بل يمكن ان يقال ان مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي أو انه لإرضاء الماديين والنافين لما يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها وحيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة عن المادة يخالف منطق الماديين ويضادد اتجاههم وتصورهم لهذا عمد أصحاب هذه النظرية ( نظرية إرجاع المعاجز والخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية ) إلى مثل هذا التفسير إقناعاً للماديين وارضاء لهم فقالوا : ان جميع الخوارق والمعاجز ناشئة من علل طبيعية ومادية على الإطلاق غاية ما في الأمر أَنها علل غير معروفة شأنها شان كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.
ونحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الاجمال وبقعة الإمكان لعدم الدليل لا على طبقها ولا على خلافها.
4 ـ كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟
إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً واستثماراً للناس مستغلِّين سذاجة الاغلبية الساحقة من جانب وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والايمان من جانب آخر.
فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟
إن المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحة إدعاء النبوة.
وإِنما تدلُّ المعجزةُ على صدق ادّعاء النبوّة وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّدَ الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة لأن في تزويد الكاذب تغريراً للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ.
وإلى هذا أشار الامامُ جعفر الصادق (عليه السلام) بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لأنبيائه ورسله :
لِيَكُونَ دَليلا عَلى صِدق من أتى به والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلا انبياءه وَرسلَه وحجَجَه ليعرفَ به صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب .
5 ـ بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟
لا شَكَّ في أنَّ السَحَرة والمرتاضين يقومون بأَفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى ان البسطاء ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون بقوى غامضة غيبية لا يتوصلُ اليها البشر.
فكيف يمكن اذن أن نُمَيّز بَينَ المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟
إن التمييز بين هذه وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من الاعمال الخارقة للعادة كأعمال السحرة والمرتاضين ( اصحاب اليوجا ) ونظائرهم.
وهذه الفوارق هي عبارة عن الامور التالية :
1 ـ إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم والتحصيل عند اساتذة تلك العلوم وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.
بينما لا يرتبط الاعجاز بالتعلّم والتلمّذ أبداً والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام.
2 ـ إن أَفعال السَحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها وربما بما هو اقوى منها على عكس الإعجاز فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض وتقابل بمثلها ابداً.
3 ـ المرتاضون والسَحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم ولا يطلبُون معارضة أحد لَهُمْ وإلا لافْتضَحُوا وكبتوا.
بينما يتحدى الانبياء والرسل بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم والاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا واستطاعوا.
فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور : قُل لَئنْ اجْتَمَعت الإنسُ والجنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هذا الْقُرآنِ لا يأتُونَ بِمثْلِه وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيْراً .
وذلك لأنَ أفعال السَحرة الخارقة مما كانت فانها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة ولا تتجاوزها بينما يعتمد الانبياء والرسل العنصر الغيبي والإرادة الآلهية.
4 ـ إن أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة اُمور محدودة ومقتصرةٌ على ما تعلَّموها وتمرنوا عليها بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على اُمور خاصة فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم طبعاً حسب شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز .
فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية والمقترحة ومعاجز المسيح (عليه السلام) المتنوعة خير مثال على هذا الأمر.
5 ـ إن اصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات الهية سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحَرة إلا تحقيق مآرب دنيوية حقيرة ونيل مكاسب مادية رخيصة.
هذا مضافاً إلى أن الأَنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين في نفسيّتهم العالية وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة والمرتاضين.
هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين المعاجز الّتي تدل على نبوة الانبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون والسحرة.
وبعد أن تبيَّن كل هذا اتضح أنَّ الخوارق الالهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الاُمور العادية في أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلا عن الاُمور المادية المعروفة بل ربما تكون مستندة إلى العلل المجرّدة فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية مثل : قصة الفيل الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش أبرهة العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من اشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث .
ولهذا عَدلَ سيد قطب عن رأية الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الاُمور إذ قال :
ان الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره أن ينفُض الإنسان من ذهنه كلَ تصوّر سابق وأن يواجه القرآن بغير مقرَّرات تصوُرية أو عقلية أو شعورية سابقة وأن يبني مقرَّراته كلها حسبما يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَولَه ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته.
نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن ... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود .
فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقاً! فالعلمُ لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي يستخدمها في تجاربه وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلا عن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم ـ عن طريق العلم ذاته ـ أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليس فيه سمةُ الادعاء ولا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم ومدّعو التفكير العلمي ممن يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول .
ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقداً لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي احدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة :
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة اقرب واولى وان الطير تكون هي : الذباب والبعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير.
ثم ينقلُ كلام الاستاذ عبده الّذي ذكرناه بنصه مع قوله : هذا ما يصحّ الاعتماد عليه في تفسير السورة وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلاّ بتأويل ان صحت روايته وممّا تعظم به القدرة ان يُؤخذَ من استعز بالفيل ـ وهو اضخم حيوان من ذوات الاربع جسماً ـ ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر حيث ساقه القدرُ لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر واعجب وأبهر.
ثم يقول : ونحن لا نرى أن هذه الصورة الّتي افترضها الاستاذُ الامامُ ـ صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم ـ أدلَّ على قدرة ولا اولى بتفسير الحادث فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه وتدبيره ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس المعهودة المكشوفة لعلمهم هي الّتي جرت فأهلكت قوماً أراد اللّه اهلاكهم أو أن تكون سنة اللّه قد جَرت بغير المألوف للبشر وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.
ثم يقول : لقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت أمراً كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحفُ منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احدٌ من خارجها ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال ليضربها مثلا لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها.
فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكل مقوماته وبكل اجزائه ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ فذٌ.
وبخاصة ان المألوف في الجدري والحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده فإن الجدري أو الحصبة لا يُسقطُ الجسم عُضواً عضواً وأنملة انملة ولا يشق الصدر عن القلب!!
ثم ان سيد قطب يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي والمدرسة العقلية الّتي كان الاستاذ عبده على رأسها وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت آثارها في تلك المدرسة ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة وإشعاراً بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية.
هذا ويجدر بنا ان ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالا لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث.
قال صاحب المجمع : وكان هذا من اعظم المعجزات القاهرات والآيات الباهرات في ذلك الزمان اظهرهُ اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته وفيه ارهاص لنبوة نبينا (صـلى الله علـيه وآله) لأنه ولد في ذلك العام وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية إذ لا يمكنهم أن يروا في اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجارٌ معدّة مهيَّاة لهلاك أقوام معينين قاصدات إيّاهُمْ دون من سواهم فترميهم بها حتّى تهلِكهم وتدّمرَ عليهم لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم ولا يشك من له مسكة عن عقل ولب ان هذا لا يكون الا من فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب ومذلِّل الصعاب وليس لأحد أن ينكر هذا لأَن نبينا (صـلى الله علـيه وآله) لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به وصدّقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه واعتنائهم بالردِّ عليه وكانوا قريبي عهد بأَصحاب الفيل فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلٌ لأنكَرُوهُ وجحدوه وأنهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك.
وقد اكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله ( اُميّة ) بن ابي الصلت :
إن آيات ربِّنا بَيِّنات
ما يُماريْ فيهِنّ إلا الكَفُورُ
حبَس الفِيْلَ بالمُغمَّس حَتى
ظَلّ يحبو كأنه مَعْقُورُ
وقال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم :
أنتَ الجليل ربَنا لم تُدْنِس
أنت حبَسْت الفيل بالمغمَّس
مِنْ بعد ما همَّ بشيء مَبْلسِ
حبَستَه في هيئة المكركس
وقال ابن قيس الرقيات في قصيدة :
وَاسْتَهلَّتْ عَليْهِمُ الطَيْر با
لجندلِ حَتى كأَنَّه مَرْجُومُ
مقتطف من كتاب سيد المرسلين