ودّع الهمّ والغمّ: هل يمنحنا الدين وصفة لـ «السعادة»؟

 

لم تفرق معاجم اللغة كثيراً بين الهم والغم والحزن، فقيل إن الهم والغم بمعنى وأحد، وقيل أن الهم هو الحزن، والغم هو الكرب والضرر، وقيل إن الهم يكون من أمر يتوقع حصوله، والغم يكون من أمر تم حصوله بالفعل.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

إلا أن التدقيق في هذه الفروقات لا يقودنا إلى مفاهيم منضبطة لهذه الكلمات، ومن هنا يجب الحديث عنها بوصفها كلمات تدل في الجملة على معنى واحد وهو عدم الراحة النفسية، وفي المقابل فإن كلمات الفرح والسرور والسعادة تدل في الجملة أيضاً على معنى واحد وهو الراحة النفسية، ولطبيعة المقابلة بين الشعورين فإن معرفة أسباب أي واحد منها يقود إلى معرفة أسباب ما يقابلها، أي أن معرفة أسباب الحزن يقود إلى معرفة أسباب الفرح، ومعرفة أسباب السرور يقود إلى معرفة أسباب الهم والغم، وعلى ذلك فإن البحث عن أسباب السعادة هو بحث في الاتجاه المعاكس عن أسباب الشقاوة، وبناءً على ذلك يمكن القول إن الإسلام بكل تعاليمه وأحكامه هو إجابة عن السؤال الذي يبحث عن أسباب السعادة والشقاوة؛ لأن الإسلام في حقيقته هو المشروع الذي يحقق للروح الساعدة وللقلب الاطمئنان وللنفس الرضا، وعلى ذلك يجب التعامل مع جميع أوامره ونواهيه على أنها أسباب مباشرة لإزالة كل ما يعكر صفو الإنسان.

وإذا حاولنا تحليل السعادة من جهة كونها شعور نفسي سنجد أنها غير مرتبطة بالظروف والعوامل المادية التي يعيش فيها الإنسان، فقد تجد الفقير أكثر راحة نفسية من الغني، وتجد المريض أكثر توازناً واطمئناناً من السليم والمعافى، وهكذا لا يمكن ربط الشعور النفسي بالظرف المادي فقط، وإنما يجب البحث عن عامل آخر اكثر تأثيراً وتحكماً في حالة الإنسان النفسية، فمثلاً لا يكون العيش في القصر سبباً للراحة النفسية مالم يكن ذلك مقترناً بأمر آخر، فالإمام الكاظم كان أكثر اطمئناناً وانسجاماً نفسياً وروحياً مع أنه كان يعيش في مطامير السجون، بينما هارون كان أكثر قلقاً واضطراباً مع أنه كان يعيش في القصور، ومن هنا يجب أن لا ننظر للدين بوصفه مشروع سعادة في الآخرة فقط وإنما هو مشروع السعادة في الدنيا أيضاً، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وإذا لم تكن السعادة مرتبطة بالأسباب المادية فقط فإن المعيشة الضنكة لا تعني بالضرورة الحرمان من الوسائل المادية، وبناءً على هذه الآية فإن الابتعاد عن الله هو السبب المباشر لكل ما يصيب النفس من قلق وتوتر، وبمقدار البعد عن الله يكون مقدار الضنك الذي يصيب الإنسان، ومن هنا لا يمكن أن نحكم على المؤمن بأنه معفياً من حالات الهم والغم والحزن، طالما كان الإيمان بين إدبار وإقبال، فالمؤمن لا يصيبه الهم والغم إلا في حالة الغفلة التي يستغلها الشيطان، وقد جزم أمير المؤمن عليه السلام بذلك في قوله: (من قصر في العمل ابتلي بالهم)، وفي المقابل عندما يكون المؤمن قريب من الله تعالى وبعيد عن الشيطان يكون بالضرورة في حالة سكينة واطمئنان، وهذا صريح قوله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسر الذي يجنب الإنسان من الهم بقوله: (يا علي، أمان لامتي من الهم: لا حول ولا قوة إلا بالله لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه)، فالارتباط بالله واستحضاره في القلوب هو السر الذي لا يبقى معه هم وحزن بسبب الدنيا، وبما أن القلب لا يخلو من الغفلة فإن الله جعل الهم والغم كفارة للذنوب التي تصدر منه، وقد فسرت الكثير من الروايات حصول الهم والغم للمؤمن بذلك، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا تزال الغموم والهموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنباً، وقال عليه السلام: لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه ويذكره ربه)، وعن الحارث بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن العبد المؤمن ليهتم في الدنيا حتى يخرج منها ولا ذنب له)، وعليه من كان كثير الهم والغم ودائم الحزن يجب أن يراجع إيمانه وصلته بالله تعالى، وعندها سيكتشف بالضرورة أن هناك خللاً ما.

وقد بينت الروايات طريقة التخلص من الهم والغم الذي يكون بسبب الذنوب وغفلة القلب، حيث أكدت أن معالجة ذلك يكون بالتوبة والاستغفار واستذكار الله تعالى، ومن تلك الروايات قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مَن أكثر الاستغفار جعل الله له مِن كل همّ فرجاً، ومِن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (يا سفيان! إذا حزنك أمر من سلطان أو غيره؛ فأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة)، وعنه عليه السلام قال: (وعجبت لمَن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: ﴿لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

كما أن روايات أهل البيت (عليهم السلام) لم تهمل الأسباب المادية التي تجلب الهم والغم، فالظروف الصحية والبيئية وأنواع الأكل وغير ذلك لها تأثير مباشر على المزاج النفسي للإنسان، ومن تلك الروايات قول امير المؤمنين (عليه السلام): (غسل الثياب يذهب بالهم والحزن، وهو طهور للصلاة)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (الرائحة الطيبة؛ تشد القلب)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن الله تعالى يحب الجمال والتجمل، ويكره البؤس والتباؤس.. فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة؛ أحب أن يرى عليه أثرها، قيل: وكيف ذلك؟ قال: ينظف ثوبه، ويطيّب ريحه، ويحسّن داره، ويكنس أفنيته.. حتى أن السراج قبل مغيب الشمس: ينفي الفقر، ويزيد في الرزق).

وقد نصحت بعض الروايات ببعض الأفعال التي تساعد على تحسين الحالة النفسية مثل الاغتسال بالماء، فإنه يعيد النشاط ويذهب عن الإنسان الكدر والهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من وجد همّا فلا يدري ما هو؛ فليغسل رأسه! وقال: إذا توالت الهموم؛ فعليك بلا حول ولا قوة إلا بالله)، وغير ذلك من الروايات التي تنصح ببعض الاكلات التي تساعد على إزاحة الهم والغم مثل قول الأمام الصادق عليه السلام أن العنب الأسود ليذهب غمَك.