فكر وثقافة
’الفكر المادي’ يُفقر الشعوب ويسّحقها!

تتحدث الثقافة المعاصرة عن الإنسان الطبيعي ذو البعد الواحد وهو البعد المادي، والإنسان ضمن هذا الوصف مكتفي بذاته حيث يشكل من نفسه المرجع والمعيار لكل شيء، وبالتالي ليس أمامه أي حدود أو قيود تاريخية أو اجتماعية أو أخلاقية أو ثقافية فهو يعيش في الزمان الطبيعي ولا يعيش في الزمان الإنساني الذي تحكمه القيم والأخلاقيات.

[اشترك]

فكل شيء يتم تفسيره بحسب المادة حتى أحاسيسه ومشاعره ورغباته ليست إلا نتاج الطبيعة المتأصلة فيه، والعقل ضمن هذا التصور فاقد للسلطة وخاضع بشكل دائم لميولات النفس ورغباتها، وحينها لا يحق للعقل الارتقاء بالإنسان معنوياً وروحياً من خلال البحث عن المعنى والمقدس؛ لأن كل ذلك يمنع الإنسان من الذوبان التام في جانبه الطبيعي والمادي، وحتى لو تم الحديث عن القيم الأخلاقية فلا يتعدى الحديث الدوافع الطبيعية القائمة على الأنانية والحرص على البقاء والمنفعة، ولذا يتم التوافق على بعض النظم والقوانين التي تحفظ البقاء المادي للإنسان، وهكذا فالإنسان في هذه الثقافة هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة، بخلاف النظرة الدينية التي تجعل الإنسان جزءاً يتجزأ من الطبيعة، فلو استحال على الإنسان مفارقة الطبيعة من خلال بعده الروحي والمعنوي، فحينا سيكون متبدلاً ومتحولاً مثل الطبيعة والمادة، وبذلك تنعدم الثوابت وتتلاشى المشتركات الإنسانية على المستوى المعرفي والأخلاقي، ولذلك نجد العلوم الإنسانية الغربية تتعامل مع الإنسان بوصفه وظائف بيولوجية ومادية، فهو مجرد نظام طبيعي كغيره يخضع للحتمية المادية..

وعليه لم تنتج لنا الثقافة الحديثة إلا نوعين من البشر، الأول: هو الإنسان الاقتصادي وهو إنسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والنفعية والسعي لتراكم الثروة والربح، أو إنسان ماركس المحكوم بعلاقات الإنتاج وهو إنسان منفصل تماماً عن القيمة ولا تحركه إلا الدوافع الاقتصادية، والثاني: هو الإنسان الجسماني الشهواني وهو إنسان فرويد الذي تحركه دوافعه الشهوانية حيث تتلخص حياته في البحث عن اللذة الغرائزية، فهو إنسان استهلاكي يعيش البذخ والترف، وهو أيضاً إنسان متجرد عن القيم والأخلاق، وما يؤسف له أن الإنسان المعاصر هو خليط بين الإنسانيين اقتصادي مادي وشهواني غرائزي، وتم في المقابل استبعاد الروح وما تحمله من قيم واخلاق.

ونحن هنا لا نتنكر على ما أنجزته الحداثة من أمور مفيدة مثل التقدم العلمي والتكنلوجي والاقتصادي، مضافاً لبعض الشعارات مثل الحريات والتسامح والحقوق.. وقد عبرنا عنها بالشعارات لأن هناك تناقض واضح بين مضامين تلك الكلمات وبين الواقع الذي نعيشه، فمثلاً ثقافة التسامح نجدها في التوسع والاستعمار ومحاربة الأفكار المغايرة، وثقافة التقدم والتطور نجدها تقوم على استغلال الشعوب وإفقارها، وهكذا تتم التنمية والتطور لأي مجتمع على حساب تجهيل وتخلف مجتمع أخر، وبالتالي قيم الحداثة لا تكون مفيدة إلا في ظل فلسفة أخلاقية تعترف بالجانب الروحي في الإنسان، ومن هنا نحن لا نرفض الكثير من الأفكار التي تنادي بها الحداثة ولكن نرفض أن تكون أفكاراً مادية تهمل الجانب الروحي والأخلاقي في الإنسان، فمثلاً الحرية التي تجعل المرأة سلعة تباع وتشترى، أو الحرية التي تحطم إنسانية الإنسان لا يمكن قبولها، لكونها قائمة فقط على جانب الجسد دون الروح.

وعليه فإن حقيقة الإنسان ضمن الإيمان بالله ترتكز على علاقة المخلوق بالخالق، أي أن الإنسان أوجده الله من عدم وخلقه على الهيئة التي هو عليها، قبضة من طين، ونفخة من روح، فانتمى إلى الأرض من جهة الطينة، وانتمى إلى السماء من جهة تلك النفخة، وبالتالي بإمكان الإنسان العيش على الأرض وهو يتطلع إلى الله، وبهذا لا يحكم الإنسان ميول أو اتجاه واحد، وإنما ينجذب إلى الأرض كما يندفع الى الأعلى ليتسامى على المادة.

وبذلك يعترف المؤمن بالمادة فيندفع في رحاب الحياة اندفاع المؤمن بضرورة تسخير المادة من أجل الإنسان، فلا يفوته شيء من خيرات الدنيا وبهارج الحياة، وفي الوقت نفسه يمتاز عن بقية الكائنات بمقدرته على التكامل المعنوي والروحي من خلال اتصاله بالله تعالى.

2022/03/13

ابتعدوا عن المستهزئين: كيف نتعامل مع النقد الساخر لـ ’الدين’؟!

ينشر موقع الأئمة الاثني عشر مقالاً جديداً لسماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني حول النقد الساخر للمسائل الدينية وطرق موجهتها، أدناه نص المقال كما ورد:

 

النقد الساخر: قيمته، وتأثيره، وكيفية التعامل معه

 

السؤال:

يجد الشاب انتشار السخرية في المسائل الدينية والأخلاقية والابتعاد عن الطرح الموضوعي وخاصةً في الواقع الافتراضي، ما هي التوصية حول هذه الظاهرة وما هي طرق المواجهة والعلاج؟

[اشترك]

 

الجواب:

إنّ من البديهي بحسب المنطق الذي فُطر عليه الإنسان أن الاحتجاج السليم يبتني على حجج وشواهد موضوعية تثبت أو تنفي هذه الفكرة أو تلك، وليس الازدراء والسخرية ونحوها من الأساليب الهزلية سبيلاً للاستيثاق من صواب هذه الفكرة أو تلك، فالأفكار المعروضة تقيم من خلال أفكار أخرى تكون أقرب تناولاً وأشد وضوحاً لينتهي الباحث من تلك الأفكار الأخرى إلى إثبات الأفكار المعروضة أو تفنيدها، وهذا هو السبيل المنطقي للإقناع والاقتناع.

وأما أسلوب السخرية والاستهزاء فهو ـــ كما نجده عند تحليل بنيته وتأمل مضمونه ـــ لا يركز على فكرة موضوعية واضحة تبطل الفكرة التي يسخر منها، وإنما يسعى إلى أن تهون تلك الفكرة في مشاعر المخاطب بأساليب خطابية وأدبية بحتة، كأن يسعى شخص إلى إسقاط شخصية آخر ولكنه لا يتناول أفكاره وسيرته وخصاله بالنقد، بل يسبّه ويسخر منه ويرسمه بشكل مضحك.

وقد شاع في الوسائل الحديثة في العصر الحاضر اتّباع هذا الأسلوب في شأن القضايا الأخلاقية والدينية حتى باتت تستعمله جل وسائل الإعلام وأصبح من الأساليب الشائعة لتغيير الثقافات والأخلاقيات العامة وذلك لعدة خصائص فيه:

أوّلاً: أنه أسلوب سهل لا عناء فيه، إذ يكفي فيه أن يتقن المرء كيفية الانتقاص والتوهين والاستخفاف وهو أمر ميسر لمن تعود عليه، ولا يحتاج إلى عناء البرهان والاستدلال والبحث والتفحص والنقد الموضوعي.

ثانياً: أنه سريع التأثير في المخاطب، لأنه ينفذ فيه من مداخل العاطفة والإحساس ولا يحتاج إلى تأمل وتريث وتفكير، إلا إذا كان المخاطب موزوناً في داخله غير منساقٍ للّعب بعواطفه.

ثالثاً: أنه أسلوب ناعم يمزج الجد بالهزل والفكر بالمرح والعلم باللعب، فلا يأخذ المخاطب أهبته لاتخاذ الرأي وتحديد الموقف، بل يتأثر به من حيث لا يحتسب من دون مقاومة وتأكد، فهو يمرر مواقف جادة من خلال أساليب لاهية ينزلق إليه الشخص انزلاقاً ويُستدرج إليه استدراجاً.

رابعاً: أن المخاطب كثيراً ما يتعرض فيه إلى الإحراج للاقتناع، لأنه يجد نفسه في موضع السخرية والاستهزاء والانتقاص والتحقير إذا ما تبنى الفكرة التي تمّ الاستهزاء بها والسخرية منها، فيدفعه ذلك إلى رفع اليد عنها وقايةً لنفسه وحفظاً لاحترامه أمام المتكلم والآخرين.

خامساً: أنه لا دفاع نافع في مقابل السخرية والاستهزاء بالفكرة، إذ ليس مبنى السخرية نقد الفكرة بفكرة حتى تكون الفكرة المعروضة قابلة للنقاش، بل هو نحو توهين واستخفاف فحسب وهو أمر لا مردّ له، كما قال الشاعر في شأن بعض الدعاوي الكاذبة على الشخص التي توجب الشعور بالتقزز من تناول الطعام معه:

(قد قيل ذلك إن صدقاً وإن كذباً

فما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا).

سادساً: أن السخرية والاستهزاء ينفع في إزالة القناعات التي يصعب قلعها لكونها فطرية أو موثوقةً أو راسخةً في نفس الطرف رسوخاً كبيراً، وهي أمور يستحيل إزالة القناعة بها بالأساليب الجادة لاشتمال الفطرة عليها وتواتر حججها ولكن يمكن للسخرية أن تزلزلها وتقتلعها وتوجب انهيارها إذا لم يملك المخاطب وعياً في التعامل معها ولم يأخذ حذره تجاهها.

فالسخرية لن تسقط الفكرة أو الشخص من خلال النقد الفكري، بل من خلال التوهين والاستخفاف، حتى يخجل صاحب الفكرة من تبنيها مهما كانت فطريةً وراشدةً ورصينةً ومتجذرةً في نفسه، وحتى يسقط حرمة الشخص المنظور مهما كان محترماً وموزوناً ومتيناً وموصوفاً بالسلوك القويم والسوابق الحسنة.

هذه خصائص أسلوب السخرية التي تغري أصحابها باستخدامها في نقد الأفكار ومناقشتها بدلاً عن النقد الفكري الحقيقي المبني على التأمل والملاحظة.

والواقع أن هذا الأسلوب هو أسلوب مؤثر بالفعل في نفوس العديد من الناس لتغيير قناعاتهم، إلا أن تأثيره محصور على الذين لا يملكون فكراً ثاقباً ووعياً كافياً، فيستجيبون في موضع المنطق للعاطفة، وفي محل التفكير للإحساس وفي مقام التثبت والتروي للتسرع والاندفاع فيكون هذا الأسلوب عندهم بديلاً عن البرهان والحجة والمنطق الجاد.

وتفصيل ذلك: أن هذا الموضوع ينتمي إلى بحث عام حول مناهج إثبات الأفكار وتفنيدها([1])، وهي تنقسم إلى أقسام ثلاثة:

الأوّل: المنهج الموضوعي، ومن صفات هذا المنهج:

1 ـــ أنه يستند إلى العلائق الموضوعية بين الأشياء وإلى الشواهد الاستقرائية وما تمثلها من قرائن ومؤشرات متراكمة على الواقع.

2 ـــ أن هذا المنهج يخاطب العقل ويحفز الوعي وينير التفكير ويبتعد عن استغلال المشاعر والعواطف والأحاسيس في مقام الإقناع.

3 ـــ أن الباحث ينطلق في هذا المنهج من المبادئ الأوّلية الواضحة للمخاطب ـــ والتي تعتبر رأس المال الفكري الموثوق للإنسان على وجه عام ـــ ليستنتج منها ما يتفرع عليها تفرعاً موضوعياً ويصل إلى نتيجة جديدة.

4 ـــ يتخذ صاحب هذا المنهج نوعاً في أسلوب الخطاب لغةً وقورةً وجادةً ومتينةً وواثقةً ومنصفةً ويبتعد عن لغة التهريج والاستخفاف والهزل والمغالطة.

5 ـــ أن هذا المنهج لا يجري على (أن الغاية الصائبة تبرر الوسيلة الخاطئة)، بل ترعى أن تكون الوسيلة صائبة كما هي الغاية.

الثاني: المنهج الجدلي، ومن صفات هذا المنهج:

1 ـــ أنه منهج غير موضوعي ولكن يتظاهر فيه بالموضوعية والتفكير الجاد ورعاية التسلسل المنطقي للأفكار.

2 ـــ أن الشخص يتعامل في هذا المنهج مع الفكر الآخر كخصم يسعى فيه إلى مصارعته والغلبة عليه بأيّة وسيلة متاحة حتى وإن لم تكن صائبة وسليمة.

3 ــ أن هذا المنهج يتوسع في استخدام وسائل الخصومة والغلبة ليشمل الوسائل التي لا يقرّ هو بها ولا يسلكها بنفسه في الوصول إلى الواقع، لكنه يستبيح استخدامها لضرب الخصم.

4 ـــ أن الباحث في هذا المنهج يستبيح لنفسه أن ينتفع بالوسائل التي يمكن تطبيقها على وجه تفنّد فكرته وادعاءه أيضاً، إلا أنه يتغافل عن ذلك ما دام أن المخاطب لم يلتفت إلى ذلك في مشهد الصراع، أو يكابر إذا نبّه عليه، ولذلك لا يُتوقع في هذا المنهج إنصاف الخصم بتاتاً ولا الاحتجاج بوسيلة تكون مقنعة له في دخيلة نفسه، بل قد يستخدم وسيلة يمكن أن ينتفع بها ضد فكرته أيضاً، فالمهم عند صاحبه أن يبدو هو الأقوى والغالب في مشهد الصراع.

5 ـــ إن صاحب هذا المنهج يتشبث بالأفكار السطحية التي لا تثبت عند التدقيق، ويراهن في الإقناع بها على أن المخاطبين والحضور في مشهد الصراع لا يبصرون الملاحظات الدقيقة ولا يتوقفون ملياً عند الأفكار المعروضة، بل تشغلهم الميول المسبقة أو مظاهر الصخب والغلبة.

الثالث: المنهج الخطابي والأدبي، ومن خصائص هذا المنهج:

1 ـــ أنه منهج غير فكري ينتفع بأدوات مؤثرة في مشاعر الناس وأحاسيسهم وعواطفهم ويهيّجها في اتجاه معيّن، ليوحي لهم بصواب فكرةٍ ما أو خطأ فكرة أخرى.

2 ـــ أن هذا المنهج يستخدم أدوات فكرية سطحية للغاية من قبيل الاستبعادات الأولية غير الناضجة، أو ادعاء ملاءمات ومناسبات غير ثابتة لا ترقى إلى درجة وثيقة أو اعتبار حالة مفردة دليلاً على فكرة عامة أو غير ذلك.

3 ـــ أنه يستعان في هذا المنهج كثيراً بالأدوات الأدبية التي تثير الإحساس وتهيّج العواطف مثل أنواع التخيلات والتشبيهات لأجل التأثير في نفوس الآخرين وإقناعهم بالفكرة.

ومن أبرز المؤثرات الخطابية:

1 ـــ أسلوب السخرية والاستهزاء بالأفكار حتى تبدو واهنة وضعيفة، وهذه الحالة تجاه الأفكار أشبه بتسقيط شخصيات الرجال المحترمين من خلال السخرية والاستهزاء والتعابير الواهنة والكاريكاتورية.

2 ـــ أسلوب السب والشتم والإهانة والاتهام والصور الملفقة لصاحب الفكرة حتى يسقط عن عين عامة الناس، فلا ينظر الناس إلى فكرته في نفسها، بل تبدو لهم الفكرة واهنة بتوهين صاحبها.

3 ـــ ربط الفكرة المعروضة بشخصية بعض من يعرضها ويظهر نفسه واجهة وممثّلاً لها، فإذا كانت تلك الشخصية غير وقورة وخفيفة استهين بالفكرة لأجل ذلك حتى كأن ذلك دليل على بطلان الفكرة في حد نفسها، حتى لو كانت الفكرة لذاتها عقيدة معروفة لها أدلتها وحججها، وذلك خطأ فاحش من المنظور الموضوعي، لأن صواب الأفكار والعقائد أو خطئها ليس مرهوناً بالرجال. وعكس ذلك الثقة بفكرة معينة رغم مؤشرات وهنها لمجرد تبني من يكبر في عين المجتمع لها، وذلك أيضاً أمر خاطئ، وفي مثل ذلك قال الإمام علي (عليه السلام): ((لا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق)).

فهذه هي أصول المناهج التي تتبع في مقام الإقناع والاقتناع.

ومن البديهي في ضوء ما تقدم أن على كلٍّ من الباحث عن الحقيقة والمبلّغ لها في أي موضوع أن ينهج المنهج الموضوعي الذي يعتمد على أدوات معقولة ومنطقية، ويبتعد عن الأساليب الجدلية البحتة أو الخطابية والأدبية، وذلك لعدة أسباب:

1 ـــ أن الأساليب الموضوعية هي أساليب موثوقة وأمينة، لأنها تعتمد على مؤشرات حقيقية لصيقة بالواقع، بينما الأساليب الجدلية والخطابية ليست طرقاً موثوقة وأمينة للوصول إلى الحقيقة، ومن الممكن تسخيرها ضد أي فكرة مهما كانت صائبة وواضحة.

ونحن نجد من خلال الاطلاع والممارسة استغلال الأساليب غير الموضوعية تجاه حقائق ثابتة حتى في العلوم الطبيعية ونتائجها التي هي موضع ثقة جمهور أهل العلم فيها، كما نجد استغلالها لضرب القيم الفطرية الإنسانية وتهوينها والاستخفاف بها.

2 ـــ أن الغرض المفترض للبحث ـــ في مقام الإقناع أو الاقتناع ـــ هو الهداية والاهتداء، وهذا يلائم اتخاذ الأدوات الموضوعية، لأن هذه الأدوات هي إيقاظ للوعي وإراءة للطريق وإرشاد إلى السبيل وإرساء للمنهج الملائم للتفكير في المخاطب، بينما سلوك الأدوات غير الموضوعية في مقام البحث نحو تسطيح للوعي وتضليل للرأي وتشتيت للفكر وتخبط في المنهج.

3 ــ أن سلوك الباحث للمنهج الموضوعي في مقام إرشاد الآخر احترام للآخر وتقدير له وأداء للأمانة، لأنه يقوم تجاهه مقام المشير الناصح، وإنما يتوقع المستشير ممن يشير عليه أن يرشده إلى علامات الطريق وملامح الواقع، وأما سلوكه للمنهج الجدلي والخطابي فهو استهانة بالآخر وخيانة للأمانة وغش في مقام المشورة واستدراج له بالمكر والخديعة، حيث يريد التأثير على المخاطب من حيث لا يحتسب ولا يشعر.

وقد يعتذر بعض من يستخدم الأدوات الجدلية والخطابية لإثبات مدعياتٍ حقةٍ وصائبةٍ بالحاجة إليها، لأن الرأي الصائب ليس مقنعاً للمخاطب بمؤشراته الموضوعية، أو لأن المخاطب لا يقتنع بالأسلوب الموضوعي، وهذا خطأ، لعدة أسباب:

1 ـــ أن المدعى الصائب لا يفقد شواهده الموضوعية التي يمكن تفهيمها لمن طلب الحقيقة.

2 ـــ إن استخدام الأدوات غير الموضوعية يزيّف وعي المخاطب، ويؤدي إلى زيف منهج الإقناع بشكل عام، بمعنى أن ساحة الإقناع تكون أشبه بساحة المصارعات أو الممارسات المضللة مثل الشعوذة والسحر ويؤدي إلى تنزل مستوى التفكير والإقناع العام وابتعاده من الرشد، ويغلب على الناس حينئذٍ الشبهات الواهنة والتشبثات الضعيفة بدل الحجج الموثوقة والأدلة المتينة.

وعلى الإجمال فإن الأدوات غير الموضوعية تميّع روح التفكير في الإنسان وتوجب تنزل مستوى وعي الإنسان وعقلانيته ومنطقه وتوهن أسس الاقتناع عنده.

3 ـــ إن من اقتنع بأسلوب غير موضوعي كان عرضة لأن يرفع اليد عن قناعته بمثله، ويضيّع بوصلة الحق وراية الصدق.

4 ـــ إن الغاية حتى لو كانت صائبة لن تبرر استخدام الأدوات الوضيعة والواهنة، ومن ضاق به الحق فإن الباطل عليه أضيق.

5 ـــ إن الأساليب غير الموضوعية تنتهك جملةً من القيم الفطرية العامة وتشتمل على جملة من الخطايا مثل الاعتداء غير المبرر على الغير، وهتك الحرمات والأعراض، والاتهام بغير حق، والقول بغير علم وتثبت، والكذب في القول بما يندرج فيه من وجوه التلبيس والتدليس والتظاهر والازدواجية، حيث كثيراً ما يستخدم الشخص أداة لا يعتقد بها ومعلومة لم يتأكد منها.

ومن الخطأ ما يفرض أحياناً من أنه يباح للإنسان في مقام المرح والضحك ما لا يباح في غيره فيتسامح فيه المرء بما لا يتسامح به في غير هذا المقام ويرتكب جملة من السلوكيات والأفعال غير اللائقة والذميمة.

إذاً على الباحث أن يستبعد الأساليب الزائفة والوضيعة سواء كانت من قبيل المؤثرات الجدلية التي تتظاهر بالفكر الموضوعي وتهدف إلى الخصومة والغلبة وتمنع الطرف الآخر مما يستبيحه لنفسه، أو كانت من قبيل المؤثرات الخطابية والأدبية التي تعتمد في الإقناع أصالةً على أمور غير موضوعية وتتلاعب بمشاعر المخاطبين وعواطفهم وأحاسيسهم وتعوّل على تهييجها.

لأجل ذلك نجد أن القرآن الكريم رغم أنه كان يفند عقائد وأعرافاً خرافية للغاية مثل ألوهية الأصنام التي صنعوها بأنفسهم وحرمة أشياء من الطيبات من خلال أوهام سخيفة جداً وممارسة وجوه من الظلم تقشعر منها القلوب مثل وأد البنات بحجة عدم الرزق ونحو ذلك، إلا إنه كان يحافظ على رقي الخطاب ويؤكد على الاستناد إلى ما يوجب تبصر الإنسان من البرهان والحجة والبيّنة ويفنّد هذه العقائد والأعراف بلغة المطالبة بالحجة، أو إقامة الحجة الموضوعية على خلافها، وتنهى عن الاعتماد على التقليد الأعمى والبناء على الظنون والتخرصات أو الميول والأهواء والأماني بالتفكير والتعقل والتدبر والتفهم والتفقه والوعي، كما نجد ذلك في مئات من الآيات القرآنية التي استخدمت هذه المفاهيم وأخواتها، ومن ذلك:

1 ـــ (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)([2]).

2 ـــ (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([3]).

3 ـــ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)([4]).

4 ـــ (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([5]).

5 ـــ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)([6]).

6 ـــ (مَا جَعَلَ اللَّـهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)([7]).

وعلى العكس من ذلك لوحظ دائماً أنه قد كان من أساليب المكذبين للرسالة السخرية من المؤمنين وممارساتهم، كما وصف ذلك في آيات عديدة من القرآن الكريم، ومنها:

1 ـــ  (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)([8]).

2 ـــ ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّـهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )([9]).

3 ـــ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)([10]).

4 ـــ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)([11]).

5 ـــ (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)([12]).

لكن بالرغم من ذلك لم يقابل القرآن الكريم منهج السخرية والاستهزاء من عقائد المؤمنين وممارساتهم بمثله، بل قابلها بالنقد المنطقي والاحتجاج المعقول، كما أنه لم يوصِ المؤمنين أبداً بأن يتخذوا من أسلوب السخرية والاستهزاء من عقائد المشركين وسائر الخاطئين سبيلاً إلى التأثير عليهم أو على عامة الناس المتحيرين الذين ينشدون الحقيقة ولو على سبيل المقابلة بالمثل لممارستهم السخرية تجاه عقائد المسلمين وممارساتهم بالرغم من أن عقائدهم وممارساتهم لم تكن معقولة أبداً بل كانت أولى بالسخرية والاستهزاء، بل نهى القرآن الكريم عن سب آلهتهم ـــ وهي أصنام لا تعقل ـــ لا من جهة توقيرها، بل لأنها تؤدي إلى مزيد من الخطوات الذميمة التي لا تبتني على علم وبصيرة، قال سبحانه: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)([13]).

ومن الأساليب النافعة في التوقي من التأثير غير المقصود في الأساليب الساخرة مقاطعتها وتجنب الاطلاع عليها ومواجهتها بالإعراض.

ولذلك نهى القرآن الكريم المؤمنين عن أن يجلسوا في مجالس الاستهزاء التي تريد أن توهن روح الإيمان فيهم بمجرد الضحك والسخرية على عقائدهم من قوم يعتقدون أنفسهم بأشياء خرافية حقاً من قبيل ألوهية الأصنام وحرمة الطيبات ووأد البنات، قال سبحانه: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)([14]).

ولذلك كله كان من المؤكد بحسب المنطق الفطري الذي جُهّز به الإنسان وتعاليم الدين أن على المرء أن يتحرى في اعتقاده ومسيرته الأدلة الموضوعية والموثوقة ويعوّل عليها، فمن ضل عن الحقيقة بطرق غير موضوعية ـــ مثل هوانها في شأنه بالسخرية بها والاستهزاء منها، أو بالاطلاع على شبهات غير جادة لم يصبر على متابعتها وكشف خللها بما ينبغي في شأن الموضوع الذي تتناوله في أهميته وخطورته ـــ فإنه لا يكون معذوراً فيما ضل عنه بل يكون آثماً، كما هو الحال فيما لو اعتدى على إنسان متهم من دون ثبوت التهمة بدليل موضوعي بل اقتناعاً بها على أساس السخرية منه والإشاعة عليه وإثارة الشبهة حوله، فلا عذر لمقصرٍ ولا حجة لمتسرعٍ ولا وثوق بساخرٍ ولا اعتماد على مستهزئ، ومن عوّل على السخرية والاستهزاء فهانت الحقيقة في نفسه بذلك فقد جعل على نفسه سبيلاً.

وإن الإنسان المؤمن لهو طالب للحقيقة بأدواتها وهو باحث عنها، وجاد في طلبها، يتحرى فيها الكلام المعقول والحجة الموثوقة، كما قال سبحانه: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ وَأُولَـئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)([15]).

كما أنه يستعمل الأدوات الموضوعية والموثوقة والملائمة في مقام إرشاد الآخرين، كما قال سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)([16]).

 

22/ رجب/ 1443

الهوامش:


([1]) وقد تطرقت لهذا الموضوع في كتاب القواعد الفطرية العامة للمعرفة الإنسانية والدينية (من سلسلة منهج التثبت في الدين) القاعدة: 12، ص: 357 وما بعد.

([2]) المؤمنون: 117.

([3]) البقرة: 111.

([4]) النجم: 27ـــ 28.

([5]) الأحقاف: 4.

([6]) الأنعام: 148.

([7]) المائدة: 103ـــ 104.

([8]) البقرة: 212.

([9]) التوبة: 79.

([10]) الأنبياء: 41.

([11]) الصافات: 12ــ 14.

([12]) المائدة: 58.

([13]) الأنعام: 108.

([14]) النساء: 140.

([15]) الزمر: 17ـــ 18.

([16]) النحل: 125.

2022/03/06

’إنكار العذاب’.. هل يحمي الملحد يوم القيامة من الحساب؟!

إن الأمر بالنسبة للمؤمن محسوم ولا وجود لشبهة تدعو للشك والارتياب في وقوع العذاب على الملحد.

[اشترك]

فالقرآن بجميع آياته يؤكد على أن جهنم هي المصير المحتوم للكافر، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) 

أما بالنسبة للملحد فلا نتوقع أن يسأل إن كان الله سيعذبه أم لا؟ إذ كيف يسأل عن الله الذي يعذبه وهو كافر به؟ وعليه لم نفهم مصدر الشبهة التي قادت السائل لهذا السؤال.

 ولو احتملنا أن الدافع للسؤال هو إنكار الملحد وعدم اعترافه بالعقوبة التي تنتظره، فإن مجرد الإنكار لا يجعله في مأمن من العقوبة، فالحقيقة لا تصبح باطلاً بمجرد إنكارها، قال تعالى: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ)، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)، وقال تعالى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)، وقال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)

وفي المحصلة أن أوجب واجبات الإنسان هو الإيمان بالله الذي خلقه واوجده من عدم، والذي يستكبر عن عبادة الله فمصيره حتماً جهنم خالد فيها قال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا).

2022/03/03

قصص الأنبياء ليست أساطير!

من وجهة نظر دينية إسلامية يجب الاعتقاد بجميع الأنبياء الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم، كما يجب التصديق بكل قصصهم على النحو الذي تم تفصيله في القرآن، وكل ذلك يعد جزء أصيلا من عقيدة المسلم بحيث لا يمكن أن يستقيم إسلامه من دون ذلك، وبذلك يعد القرآن الكريم بالنسبة للمسلم مصدراً موثوقاً لا يمكن التشكيك فيه.

[اشترك]

ومن ناحية أخرى هناك بحوث تاريخية تعتمد على الآثار والحفريات للكشف عن تاريخ الإنسانية وحضاراتها القديمة، ويعد ذلك جهداً مطلوباً وعملاً مقدراً وله الكثير من المكاسب العلمية والمعرفية، إلا أن تلك البحوث والدراسات وإن كانت تعتمد على الآثار والنقوش القديمة إلا أنها أيضاً تعتمد وبشكل كبير على الرؤية التحليلية التي يقدمها الباحث لتلك الآثار، وبالتالي الرؤية الخاصة بالباحث هي التي تتحكم في كيفية جمع القرائن وكيفية توظيفها لخدمة نتائجه النهائية، ومن هنا كانت الاختلافات بين العلماء المختصين بالتاريخ القديم والحضارات الغابرة حالة طبيعية ومتوقعة؛ وذلك لوجود مساحة اجتهادية لكل باحث تاريخي، فالآثار والنقوش القديمة تمثل مواد أولية وموضوعات بحثية، والمؤرخ هو الذي يبني من هذه المواد الأولية رؤيته التاريخية، ومع ذلك تظل الرؤية التاريخية التي يقدمها الباحث محترمة طالما توفرت فيها الموضوعية العلمية وكانت منضبطة بالمناهج العلمية، وتقييم هذا الأمر يتم في الإطار العلمي والتخصصي وبحسب الشروط الاكاديمية، ولا يتم تقييمها من خلال مقارنتها بما جاء في القرآن الكريم من حقائق يثق الإنسان المسلم بتمام صدقيتها، فالتاريخ القديم والحفريات لا تؤسس لرؤية ثقافية أو دينية بديلة، فمهما بلغت من الدقة تظل احتمالية لا يمكن القطع بنتائجها. 

وما قام به الباحث خزعل الماجدي هي مقارنة بين القصص التوراتية وبين النقوش المسمارية السومرية، حيث حاول البرهنة من خلال التشابه بينهما على أنها من أصول سومرية، وأن الأنبياء في قصص التوراة ليس إلا ملوك سومريين، ونحن لسنا من المختصين في دراسة التاريخ القديم ولا يمكننا تقديم رؤية نقدية لاستنتاجات خزعل الماجدي، كون الأمر يحتاج إلى دراسة المعطيات التي ارتكز عليها ومن ثم ملاحظة المنهجية التي اعتمدها في دراسة تلك المعطيات واخيراً محاكمة النتائج التي توصل لها، ومن المؤكد أن باب النقد مفتوح ومكفول أمام كل الباحثين المختصين ومن المؤكد أيضاً وجود من يخالفه في ما توصل إليه، وبالتالي القضية احتمالية واجتهادية لا يمكن ترتيب الأثر العقائدي والديني عليها، وكل ما يمكن أن نجزم به هو أن الأنبياء الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم هم في الحقيقة والواقع كما جاء ذكرهم في القرآن.   

2022/03/02

لماذا لا ينجح ’المفكّرون’ على مواقع التواصل الاجتماعي؟!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

تتوهَّجُ بعضُ الشخصياتِ في عالَم التواصل الاجتماعي ثمَّ تنطفي، كما يلمعُ السرابُ بين رمالِ الصحراءِ ثم يخبو.

[اشترك]

ثقافتُنا - في الأعمِّ الأغلب - ثقافةٌ سمعيَّةٌ - صوريَّة، مُستمدَّةٌ مما نرى ونسمع، فنكون منفعلين وغير فاعلين ولو على مستوى نقد الفكرة، أو التأمّل فيها وذلك أضعف الإيمان.

فيكون الإعجابُ إعجابَ أذن، لا إعجاب عقل.

والإبهار إبهار صورة لا إبهار بصيرة.

فيكون الانبهار بالمنظِّر لا بالنَّظرية، حين الاندهاش، ويكون النَّقدُ للقائل لا للقول حين الامتعاض

ذلك أنَّ التوجّه يكون للباقة الكلام، وحركات المتكلِّم، وحدَّة صوته، وتوزيع نظراته فتُلبس الفكرة الميتة ثوب الحياة، وقد يكون العكس فيخلع على الفكرة الحيَّة ثوب الممات.

والعين تألف الشيءَ حيناً من الدهر ثم تستهجنه، وتريد غيره صورة.

والأذن تعتادَ الصوتَ حيناً من الدَّهر ثمَّ تستبشعه، وتريد سواه صوتا.

فمن عادة الحواس الألفة، ثم الشبع، ثم الاستيحاش والتبديل.

وها أنذا استحضر ستةً من العلماء والمفكرين والكُتَّاب، من العراق اثنين، ومن مصر اثنين، ومن إيران اثنين، وتخيَّل لو كانوا أحياءً يُرزقون، وقد عاصروا عالم التواصل هذا كما نعاصره اليوم.

تصوَّر أن السيد محمد باقر الصدر - قُدِّس سره - وعلي الوردي من العراق

وسيد قطب وسلامة موسى من مصر

والشيخ المطهَّري وشريعتي من إيران أرادوا جميعاً النزول إلى الشارع ليطرحوا أفكارهم في مواقع التواصل الاجتماعي.

أظنُّ أنَّ السيد الصدر والشيخ المطهري لن ينجحا؛ لأنَّ علمهما ثقيل، وهما حتى لو أرادا تبسيط ما عندهما من علم فلا بُدَّ أن يكون المستمع لهما على قدرٍ معتدٍ به من الثقافة؛ لأنهما من أصحاب العيار الثقيل فكراً، والفكرُ ليس ثرثرة، بل هو علمٌ له لغته الخاصة، والتبسيط يقف عند حدودٍ معينةٍ لا يتعدَّاها، وإلَّا صارت لغته لغواً، فالقصور في القابل لا في الفاعل.

اما العليان الوردي وشريعتي - قياساً على ما كتبا - فهما سينجحانِ ولكن في مستوىً معيَّنٍ؛ لأنَّهما يمتازان بالفكر المُقنَّع وما هما بمفكرين، بل هما أصحاب خواطر، فيحسبان كلَّ قدحةٍ في الدماغ فكرة، وكلَّ خاطرٍ في الرأي نظرية، وما جاء عفو الخاطر لا يحتاج إلى تكدير الخواطر.

ويُخيَّل إلي أنَّ الشخصية المصرية مهذارةٌ بطبعها، ولا أقول متكلِّمة، وهي خيرُ من ينطبق عليها أسمع جعجعةً ولا أرى طحينا، غزارةٌ في الكلامِ وشِحَّةٌ في الأفكار لذا كانت على مداها الثقافي الطويل تنتجُ أدباءَ ولا تنتج مفكرين، وللسبب ذاته كان آخر مفكريها أمنحتب (اخناتون) إن صحَّ أنَّه قال بالتوحيد واهتدى إليه.

وعليه سينجح سيد قطب إلى درجةٍ كبيرةٍ مستغلاً الدين، وأكبرُ منه نجاحاً سلامة موسى، فهو ثرثارٌ ويدعو إلى تقليد الغرب، وهذه نقطة ضعف المثقف المصري، يحسب أنَّه فوق العرب وزناً، وما له من وزن؛ لأنَّه يكاد يرتمي في حضن مثاله الأعلى الأوربي وذاك لا يُريده، فمثله ومثل العربي والغربي كقول القائل:

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونة لا نريدها.

2022/02/28

قيمة السؤال.. عندما يكون أداة لـ ’الهدم’ و ’التدليس’!

عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "العلم خزائن ومفاتحه السؤال، فاسألوا يرحمكم الله فإنه يؤجر [فيه] أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمحب لهم". بحار الأنوار: 10/368

[اشترك]

لا يمكن لأيّ علمٍ أن يتقدم ما لم تكن هناك أسئلة حائرة تطلب الجواب طلباً حثيثاً، لذا من الخطأ التعامل مع الأسئلة والإشكالات على أنّها حالة سلبية بل هي إيجابية ضمن شروط ومحددات معيّنة، وفي صفحات التاريخ تجارب كثيرة تشهد على صحة هذه الدعوى منها مثلاً انتعاش الفلسفة في ضوء إشكالات وأسئلة الفخر الرازي التي يبدو أنّها كانت تستهدف هدم البنية الفلسفية القائمة آنذاك غير أنّ النتيجة جاءت مقلوبة تماماً حيث حفّزت تلك الأسئلة عقول الفلاسفة ليضعوا بين أيدينا نتاجا فلسفيا أكثر تطوراً ورصانة.

وأيضاً الإنسان الذي يستنكف السؤال لا ينفكّ غارقاً في بئر الجهل المركب شاء ذلك أم أبى.

ولكن مشكلة السؤال نفسه أنّه كما يمكن أن يكون أداة للتقدّم يمكنه أن يصبح معولاً للهدم في حالات كثيرة منها مثلاً:

1- كثرة الأسئلة المبنية على مقدمات خاطئة يمكنها صناعة أجواء تأخذ تلك المقدمات على أنّها مفروغ منها، لذا أحيانا قبل الإجابة على السؤال ينبغي مناقشة أصل المقدمات التي نتج عنها فربما يكون سؤالا مغلوطاً في نفسه.

2- التدليس في السؤال هو الآخر يصنع ضبابية عند المتلقي يكون مردودها السلبي يفوق المردود الإيجابي، مثلاً قبل أيام رأيت مقالاً لأحدهم يسأل فيه أصدقاءه عن الدليل الذي يستند إليه السيّد السيستاني (حفظه الله) في فتواه بتجويز سرقة أموال الدولة وتخميسها؟ وأنا أعلم أنه في الواقع لا يسأل عن الدليل وإنما كلّ هدفه تمرير هذه الكذبة وتحويلها الى مسلَّمة بديهية ثمّ يسأل عن دليلها ليُشغل القارىء بالبحث عن الدليل بدلاً من مواجهته بتكذيب أصل وجود مثل هذه الفتوى.

2022/02/27

تقديس الماضي: ما علاقة التاريخ بـ ’حاضر’ و ’مستقبل’ الإنسان؟!

كل إنسان يعيش اللحظات التي تمتد فيها حياته، وليس بإمكانه العيش خارج الظرف الذي وجد فيه، إلا أن الإيمان بالحاضر وحده لا يعني عدم الإيمان بالتاريخ، فكل يوم يمر على عمر البشرية ليس يوماً مبتوراً أو وجد من الفراغ، وإنما هو امتداد طبيعي لسلسة الأيام التي سبقته.

[اشترك]

ومن هنا لا يمكن فهم حاضر البشرية بعيداً عن فهم تاريخها وماضيها، فالتعبير الأقرب هو أن الحاضر ابن التاريخ بينما المستقبل هو ابن الحاضر، أي هناك علاقة وترابط وثيق بين اليوم الذي تريد العيش فيه وحده، وبين التاريخ الذي ساهم في صناعة هذا اليوم، فما تطمح أن تكون عليه غداً له علاقة بما أنت عليه اليوم، ولا فرق بين التاريخ البعيد والقريب فكل له تأثيره بقدر، فثقافة المجتمعات ونظامها الفكري هو الذي يحدد للإنسان خياراته اليومية، وفي المقابل سنن التاريخ وتراكم الخبرات هي التي تحدد ثقافة المجتمعات ونظامها الفكري، وبذلك ليس بإمكان الفرد أن يختار الكفر بالتاريخ للعيش منعزلاً في حاضره، لأن الحاضر نفسه لا يمكنه التخلي عن ماضيه، وعليه هناك رابط حيوي بين التجربة على مستوى الواقع والتجربة التي مضت، بحيث يكون الواقع الحاضر هو رهينة الرؤية التاريخية، فتكامل المسيرة واستمراريتها على المستوى الراهن، وليد علاقة جدلية بين الحاضر ونظرته إلى الماضي، فللتاريخ حيوية فاعلة بما يحتويه من تراكم في الخبرة البشرية.

والتاريخ ليس فقط مجرد أحداث وقعت في الماضي، وإنما هناك سنن التاريخ التي تحكم حركة الإنسانية عبر الزمان، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فالآية تدعوا للتدبر والتفكر في الحوادث التاريخية من اجل الوقوف على السنن والنواميس المتحكمة في تلك الأحداث.

ومع ذلك نحن لا ندعو لتقديس التاريخ أو الإيمان بكل ما جاء فيه، ولكنا نؤمن بتأثيره علينا ولا يمكن التخلي عنه بمجرد قرار نتخذه، وإنما يجب التعامل معه بوصفه مازال حاضراً بيننا، فخياراتنا اليوم كمسلمين لها علاقة وثيقة بتاريخنا الإسلامي، ومعادلة الحق والباطل هي ذاتها المعادلة التي تحكم الماضي والحاضر، فكما أن مسيرة أهل الحق متصلة كذلك مسيرة أهل الباطل، وحتى يحدد الإنسان موقعه لا بد أن يدرس التاريخ جيداً ويمحص أحداثه حتى يكون مساره اليوم متصل بمسار الحق.

وفي المحصلة لا يمكنك كمسلم أن تكفر بالتاريخ بشكل مطلق، لأن الكفر المطلق هو كفر بالأنبياء والرسل والأئمة، وبالتالي الكفر بمسيرة أهل الحق، وفي نفس الوقت لا يمكن الإيمان به بشكل مطلق، لأن ذلك جهل وخلط بين الحق والباطل، وإنما يجب الإيمان بما هو حق والكفر بما هو باطل.

2022/02/24

بها نعرف ’الحق’.. ثلاثة طرق للحصول على ’البصيرة’

المؤمن بأمس الحاجة إلى البصيرة في مسيرة حياته، فلو امتلك الإنسان البصيرة فلن تختلط عليه الأوراق، ولن تلتبس عليه الأمور، ولن يضلّ عن طريق الحق.

[اشترك]

والبصيرة: نورٌ يدرك به الإنسانُ الواقعَ، ويفرز بين الحق والباطل.

والبصيرة تأتي من عدة أمور أهمها أمران:

أولاً: التفقه في الدين: بتشعباتها الثلاثة: فقهاً وعقيدة وسلوكاً، حيث رويَ عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: تفقهوا في دين الله فإن الفقه مفتاح البصيرة. (تحف العقول لابن شعبة، ص410).

فمن لم يتفقه في دين الله فلن يشم رائحة البصيرة، الإمام يعبّر عن التفقه في الدين بالمفتاح، فالبيت لا يمكن دخوله بلا مفتاح، وكذلك لا يمكن أن يمتلك الإنسان البصيرة بلا تفقهٍ في الدين.

ثانياً: التقوى والخوف من الله: قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَكُم فُرقانًا وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ) [الأنفال: ٢٩]

فالإنسان المتقي يزوده الله بنور وبصيرة بحيث يميز ويفرق بين الحق والباطل، وكلما ازداد تقوىً ومعرفةً إشتدّت بصيرته.

ثالثاً: الدعاء والتضرع إلى الله بأن يزوده بالبصيرة.

اللهم واجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني، واليقين في قلبي ...

اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتّباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه ...

أسألك اللهم الهدى من الضلالة، والبصيرة من العماية، والرشد من الغواية ...

أسألك باسمك العظيم، رضاك عند السخطة، والفرجة عند الكربة، والنور عند الظلمة، والبصيرة عند تشبّه الفتنة ...

هب لي نورا أمشي به في الناس، وأهتدي به في الظلمات، وأستضئ به من الشك والشبهات ...

اللهم أعطني بصيرة في دينك ، وفهما في حكمك ، وفقها في علمك ...

وما شابه هذه الأدعية.

2022/02/15

الاختلاط بين ’الجنسين’.. السيد محمد باقر السيستاني يؤشّر 3 أسباب للانحراف

ينشر موقع الأئمة الاثني عشر مقالاً جديداً لسماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني حول الاختلاط والتواصل بين الجنسين الذي كثُر في الآونة الأخيرة، فيما ذكر ثلاثة أسباب للانحراف.

[اشترك]

فيما يلي النص الكامل للمقال:

 

الاختلاط والتواصل بين الجنسين وأهمية رعاية الحدود في ذلك:

إنّ من أهمّ المسائل في الحياة الاجتماعية للإنسان هي رعاية الرجل والمرأة للحدود في مقام التعامل فيما بينهما سواء كان هذا التعامل من خلال اللقاء ــــ المعبّر عنه بالاختلاط ــــ أو من خلال أدوات التواصل.

وهذه الأهمية تقتضي تبصّر الإنسان فيها تبصّراً كافياً واتخاذه السلوك الملائم، حتى لا يقع من حيث لا يحتسب في المسارات الخاطئة والنهايات غير الحميدة.

وقد كان للإنسان منذ فجر التاريخ ــــ بوحي من فطرته وتجاربه في الحياة ــــ اهتمامٌ برعاية ذلك، وقد أسس له في كل مجتمع أعراف تصون المجتمع والأسرة عن الوقوع في المحاذير الناتجة عن الوجوه الخاطئة من الاختلاط التي تؤدي إلى الانزلاق في أمور ذميمة وضارة.

الحاجة المؤكدة في هذا العصر إلى الاهتمام بالموضوع:

وتتأكد الحاجة في هذا العصر إلى مزيد من الاهتمام فيه ـــ من جهة كثرة سبل الإثارة وتيسّر أسباب الانحراف ـــ لأسباب ثلاثة:

الأوّل: إتاحة العالم الافتراضي اطّلاع الإنسان على المشاهد غير اللائقة التي قلما كان الإنسان من قبل يشهدها في العالم الحي، فتؤدي هذه المشاهد إلى إثارة كبيرة للإنسان وتوجب وسوسته في تقليدها واحتذائها، وتشوب نقاءه الفطري وصفاءه النفسي بشوائب خطيرة ومؤذية لا يمكن إزالتها وإزالة آثارها عن النفس بسهولة بل مطلقاً في العديد من الحالات ولاسيما إذا اطلع عليها في مرحلة الطفولة أو المراهقة.

الثاني: تيسّر وسائل التواصل الاجتماعي التي تسهّل التواصل الخاطئ بين الرجل والمرأة بعيداً عن أجواء الأسرة والمجتمع العام التي كانت من قبل عيناً عاصمة للإنسان عن الانزلاق إلى الخطأ والخطيئة.

الثالث: حدوث مراكز يقع فيها الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه منظّم، بمعنى أن الرجل المعيّن والمرأة المعينة يلتقيان ولو في ضمن اجتماع أوسع بشكل متكرر ومنظم وفي مكان خاص وليس عام على حد السوق والشارع، كما في الدوائر والمحلات والمستشفيات والمدارس المختلطة والجامعات ونحوها.

والاختلاط على هذا الوجه يتيح تكرر النظر والملاحظة والتعامل والتواصل والعرض والإراءة، وذلك كله يؤدي إلى تركيز النظر والتهيؤ المسبق للإغراء والعرض والمواعدة وإيجاد ذرائع التواصل ونحو ذلك مما يؤدي إلى إشغال فكر أحد الجنسين بالآخر، واقتداء بعض بالآخر من جهة تقارب العمر والاشتراك في سلك واحد ومحدودية البيئة، بينما كان الاختلاط من قبل يقع نوعاً في الأماكن العامة مثل السوق والشارع ونحوهما مما يحدث اتفاقاً ولا يكوّن جواً مهيأً للعرض والإغراء والتواصلات الخاصة.

وقد لوحظ أن كثيراً من الفتيان والفتيات قبل الاختلاط في دراسة الجامعة يتصفون بالنقاء والوقار والاحتشام في القول والمظهر والملبس والسلوك، ولكن كثيراً منهم بعد فترة من الاختلاط يفقد هذه الصفات إلى حد كبير، ويتجه إلى التواصل والعرض والإغراء والاستدراج والاستمالة، ويتنافسون فيما بينهم على الظهور بالمظهر الأكثر جاذبية وإغراءً حتى ربما نشأت أعراف تعتبر الاحتشام تخلفاً، والوقار انقباضاً، والحذر وسوسةً وفقداناً للثقة بالنفس، وتجنب المفاكهة مع الجنس الآخر كآبةً وعزلة عن الآخرين.

ولذلك كانت هناك حاجة ملحّة في هذا العصر إلى معالجة هذا الجانب من خلال تقوية النوازع الفطرية إلى العفاف ورعاية الحدود الدينية والشرعية والتمسك بالأعراف الراشدة والحميدة السائغة بالأسلوب الملائم.

كما أنّ هناك حاجة إلى استحداث أعراف أخرى اجتماعية وأسرية ملائمة للتعامل مع الأدوات الحديثة تحدد الانتفاع بها بحدود ملائمة تقي نوعاً من المحاذير والمفاسد المتوقعة، وهي أعراف يسعى إلى البناء عليها في الأُسر والعوائل المحافظة والملتزمة.

ووجه الحاجة إلى إيجاد أعراف محدّدة لما يليق وما لا يليق في هذا الشأن أنّ الأعراف أدوات مؤثرة في حماية القيم والمصالح النوعية من جهة أنها تكوّن بيئة اجتماعية موافقة لها، وهذا يسهل على الإنسان عملية التربية.

ما أودع في فطرة الإنسان من المشاعر الملائمة لتحديد الاستجابة للآخر:

ولا شك أن ثنائية الرجل والمرأة في الخلق لهي ثنائية رائعة للغاية أريد بها ــــ في ما يهدي إليه التأمل في الخلق وتؤكده قواعد علم الأحياء التي تبين خصائص الكائنات الحية وأسرارها ـــ ضمان بقاء النوع الإنساني وإعداد الإنسان لحياة سعيدة بتكامل الرجل والمرأة.

وقد زُوّد الإنسان من كلا الجنسين في فطرته بصفات متنوعة فيما يتعلق بالتعامل مع الجنس الآخر تجعل له شخصية معتدلة مستقيمة متى كانت فاعلة في نفسه جميعاً كما أريد لها.

فهناك صفة تحثّ الإنسان على التواصل والتفاعل مع الجنس الآخر، وهي مشاعر الانجذاب بين الجنسين، وهذه المشاعر زُرعت في الإنسان لأجل بقاء النوع الإنساني وتكامل الجنسين بعضهما ببعض من خلال تكوين الأسرة.

ولكن هذه المشاعر ليست محددة في حد نفسها بالغايات الحميدة والمآلات الحكيمة، وإنما هي غريزة عمياء تسوق الإنسان إلى إرضائها على سائر الغرائز التي تسوق الإنسان إلى إرضائها بأية وسيلة كانت مثل غزيرة الطعام التي تتحرك عند الجوع وتطلب الاستجابة له من غير تفريق بين أن يكون الطعام حلالاً أو حراماً، وغريزة الجاه التي توجب طلب الإنسان للمكانة على أي وجه كان، ولذلك يجب تحديد هذه المشاعر بحدود راشدة وحكيمة وتذليلها لتكون الاستجابة لها في الإطار المعقول والحكيم.

وهناك صفات أخرى قد زُوّد بها الإنسان في خلقه لتساعده على رعاية حدود ملائمة للانجذاب إلى الجنس الآخر وتجنبه الأضرار المتوقعة من الاسترسال لتتكامل شخصية الإنسان وقوامه بما يحتاج إليه من جاذبية أحد الجنسين للآخر من جهة، وصيانة الإنسان عن الاسترسال في الانجذاب والانفتاح على الآخر من جهة أخرى، وهي صفات ثلاث:

1 ـــ صفة الحياء في الإنسان عن الظهور بمظهر الإغراء للطرف الآخر سواء من خلال القول أو الفعل أو المظهر، وتلك صفة فطرية مشهودة على الإنسان.

وقد كان نصيب المرأة من هذه الصفة بحسب طبيعة تكوينها أزيد من الرجل، لأنها الأكثر جاذبيةً وإغراءً للرجل بالمقارنة مع العكس، لأن صيانتها لنفسها أكثر أهمية، لأنها مصنع الإنسان ومستودعه، وفي داخلها يتكون النسل الجديد وينمو، فصيانتها وحفظها سلامةٌ ونقاءٌ وحفاظٌ على النسل.

2 ـــ صفة الغيرة على الآخر من الوقوع في ما لا ينبغي أن يقع فيه، ولا سيما بالنسبة إلى من يكون تحت رعاية الإنسان، وخاصةً طرف العلاقة معه ـــ من زوجة أو زوج ـــ، وهي صفة فطرية مشهودة بوضوح عند تأمل مشاعر الإنسان تجاه من يرعاه.

وقد كان نصيب الرجل من هذه الصفة بحسب طبيعة تكوينه أزيد من المرأة، لما زوّد به من اهتمام بالمرأة وقوامية بشأنها.

3 ـــ الشعور برقي التعالي عن التصرفات الخاطئة والأخرى الممهدة لها والموجبة للانزلاق إليها، مثل الحرية في العلائق، وبضِعَّة تلك التصرفات والسلوكيات غير المنضبطة، وتلك حالة يجدها الناس بفطرتهم حتى في المجتمعات التي تسعى أن تروج الحرية الشخصية في هذا الشأن، فلا يزال الناس يشمئزون من التصرفات المريبة والعلاقات الخاطئة وينظرون إلى صاحبها بالضِعَّة والانحدار والسقوط وينظرون إلى الضابط لنفسه الراعي للوقار بنظرة الرُقي والاحترام والتقدير والإكبار.

فتلك صفات نفسية زرعت في باطن الإنسان لتهديه إلى السلوك الصحيح وتساعده على اتخاذ هَدْيٍ ملائم، وهي صفة مشهودة في عامة المجتمعات الإنسانية حتى في المجتمعات التي لا تقر بهذه الصفات نظرياً إقراراً مناسباً وتروج للحرية الشخصية في مستوى يضعف الحياء ويمانع الغيرة وينفي التعالي.

ويندرج تجهيز الإنسان نفسياً ـــ من جهةٍ ـــ بصفة الجاذبية بين الجنسين، وبهذه الصفات وبالصفات المحددة للاستجابة لها من جهةٍ أخرى، كما أشرنا في قاعدة بديهية في علم الأحياء ـــ في شأن التكوين البدني والخصائص السلوكية للإنسان ـــ، وهي أن كل خصوصية في الكائنات الحية هي حالة هادفة في تكوينه، بحيث تضمن له ملاءمة خاصة مع مصالح هذا الكائن وتسهّل له حفظه وبقاءه وصيانته عن الأضرار.

وتجري هذه القاعدة الإحيائية في كل الكائنات الحية، وكلما كان الكائن الحي أكثر تطوراً كان نصيبه من تطبيقات هذه القاعدة أوفر وأكثر، فهناك ملايين من تطبيقات هذه القاعدة في شأن الإنسان في كل خصوصية من خصوصيات بدنه من رأسه إلى أخمص قدمه، حيث إن لكلٍ منها دخلاً منظوراً في صلاحه على وجه رائع للغاية حتى أن مظهر الإنسان أيضاً صيغ على وجه جميل من خلال مناسبة موضع الأعضاء الظاهرية وتناسقها ووحدة بعضها كالأنف وتعدد أخرى كالعين واليد والرجل، كما أن الخصائص التي امتاز فيها الجنسان جاءت ملائمة لتكامل الجنسين بشكل مذهل كما يوضح ذلك في علوم الطب وخاصةً في علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء.

والحال في الخصائص النفسية للإنسان كذلك، فهي تركيبة ملائمة للهدي الضامن لمصلحة الإنسان بشكل نوعي، فكانت الجاذبية القائمة بين الجنسين ضرورية لتكوين الأسرة وبقاء النسل، كما كانت صفة الحياء والغيرة والتعالي صفات ضرورية لتحد الدوافع الغريزية في الإنسان وتساعده على رعاية قانون ملائم لمصلحته النوعية.

ولا ريب أن استقامة حياة الإنسان تتوقف على كلا الركنين، فلو أن مشاعر الانجذاب بين الجنسين اختفت تماماً أصيب الإنسان بالخمول والخمود وكان عرضة لعوارض ناشئة عن الشعور بالفقدان كالإفراط في ممارسات أو جوانب أخرى من الحياة، كما تضطرب الحياة الأسرية في حال طروّ هذه الحالة فيها، كما أنها لو انحرفت عن وجهتها حدث أنحاء من الشذوذ والاضطراب النفسي، كما أن مشاعر الحياء والغيرة والتعالي إذا اختفت تفردت مشاعر الانجذاب لتجعل من الإنسان غريزة عارية عن اللياقات الإنسانية الحميدة.

ومن الخطأ الفاحش تهوين صفة الحياء والغيرة والتعالي كما تجري عليه بعض الثقافات المعاصرة، على أساس اعتبار الحياء ضعفاً، والغيرة أنانية، والتعالي ترفعاً واهماً، كلّا، فهذه صفات نبيلة وراقية تهذّب السلوكيات الغريزية للإنسان وتساعده على تقنين الاستجابة لتلك المشاعر بقوانين ملائمة، حتى تكون له شخصية مستقيمة ومعتدلة موافقة مع الصلاح النوعي للإنسان، وهي أساس القدرة على ضبط النفس عن كثير من الأخطاء والخطايا والاتصاف بالعفاف المحمود والسلوك الحميد.

ملاحظات وجدانية راشدة بشأن الاختلاط والتواصل بين الجنسين

وقد لاحظ الإنسان الراشد والحكيم من خلال تجارب واضحة وبديهية في الحياة أموراً ـــ مؤكدة للغاية ـــ ينبغي أخذها بنظر الاعتبار في نظام التواصل والاختلاط بين الجنسين:

1 ـــ أنّ مشاعر الانجذاب بين الزوجين لهي من أقوى المشاعر الإنسانية الغريزية، وليس من شك في أن زرع هذه المشاعر بهذه القوة إنما كان لحكمة منظورة بذلك، وليست تلك الحكمة هي أن يجعل من الإنسان كائناً غريزياً تطغى الغريزة العارية والمستفحلة على حياته، بدليل أنّ هذا الطغيان يؤدي إلى مفاسد يدركها العقل الذي متع به الإنسان والنزوع إلى الحكمة التي زود بها، بل الحكمة في قوة هذه المشاعر هي أن تساعد الجنسين على تحمل أحدهما للآخر في ظل ما تتعرض له الحياة المشتركة من عوارض تنشأ من اختلاف الطباع والأذواق والتربية، وليتحملا ما يترتب على هذه الحياة من وظائف ومسؤوليات وأولاد يحتاجون إلى رعاية وتربية، فتكون قوة هذه المشاعر مانعاً من انفلات عقد الارتباط وتأميناً على استمرار العلاقة الزوجية وضماناً لتحمل المشاق والصبر عليها وداعماً لصوت العقل والحكمة في الإبقاء عليها.

إلا أن هذه الغاية الحكيمة إنما تترتب على قوة هذه المشاعر إذا حصرت قوة هذه المشاعر في طريق مستقيم ينتهي إلى الزواج وتكوين الأسرة والاهتمام بها والعناية بحياطتها وصيانتها والحفاظ عليها، فتكون هذه القوة تأميناً لهذه المسيرة ومذللاً لعقباتها وصعوباتها ومسهلاً للصبر عليها، وفي غير هذه الحالة إذ تنفلت هذه المشاعر فإن قوتها تولد عناءً وشقاءً وضياعاً وتشتتاً وانحرافاً للإنسان وسبباً لإيذاء الآخرين واستغلالهم على وجه خاطئ وذميم.

2 ـــ أنّ هذه المشاعر الغريزية كثيراً ما لا تكشف نفسها للإنسان عند دفعها إياه إلى غاياتها، وهي الوصول إلى الآخر لإشباع الغريزة الخاصة، وذلك تجنباً عن معارضة صفة الحياء والرغبة في التعالي والحذر من رد الفعل الاجتماعي  من الاستجابة لها،  بل تسلك طرقاً غير مباشرة وملتوية قد لا تظهر حتى للإنسان نفسه في حينه، ولذلك يتلقاها المرء تلقياً ساذجاً وبحسن نية، وربما يضفي عليها عناوين مثل الحب الذاتي للترتيب والجمال والتأنق، والاتصاف بالذوق والطبع اللطيف والرغبة في الإحسان إلى الآخر ونحو ذلك من المعاني الإنسانية الجميلة ، ولكنها تنبعث ـــ وفق السنن النفسية البديهية ـــ عن توجهات غريزية  كامنة في العقل الباطن غايتها الحقيقية الانتهاء إلى إرضاء الغريزة من خلال المعاشرة، فهي في حقيقتها أشبه بالفخ الذي يوقع بالغافل فيه،  لكي ينزلق صاحبها في مزيد من الاقتراب لتحقيق غايتها ـــ وهي العلاقة غير الشرعية ـــ على حين غفلة من الإنسان من غير تخطيط واع لهذه الغاية ولا التزام بلوازمها ونتائجها وآثارها.

3 ـــ أن الاستجابة لهذه المشاعر قد تبدو خطوات بسيطة ذات آثار محدودة، ولكن نظرة عميقة وشاملة إلى الحياة الاجتماعية وحوادثها تنبّه إلى أن تلك الخطوات البسيطة في بدايتها هي السبب في حوادث وظواهر كارثية من قبيل تفكك الأسرة وتشرد أفرادها وضياع الأطفال وسقط الأجنة، بل ترك الأطفال حديثي الولادة أحياناً في الطرق والممرات.

وتشتمل الحياة الاجتماعية بشكل واضح ومشهود على عبر وأمثال تبين للإنسان كيف أن عدم الحذر من الاقتراب والتواصل تؤدي إلى نتائج كارثية على الشخص وعلى أعزته كالأولاد لم يكن يفكر فيها بتاتاً، وأنه وقع فيها على حين غفلة وانزلق إليها من حيث لا يُقدّر ذلك، ولكلٍ منّا فيما شاهدناه وسمعناه أمثلة عديدة لهذه الحالة، كما أنّ المحاكم القضائية تستقبل في كل يوم العديد من القضايا التي نشأت عن أسباب هي في أوائلها خطوات من هذا القبيل.

لقد وجد الإنسان بفطرته وفي ضمن تجربته في الحياة أنّ من الضروري للإنسان ـــ من أي من الجنسين ـــ أن يكون بجنب المتعة التي يجدها في الاقتراب والتواصل مع الجنس الآخر حَذِراً في ذلك حَذَراً يلائم خطورة المزالق المشهودة في هذا الطريق، وذلك من خلال تقنين الاختلاط والتواصل، وذلك بتأصيل أعراف في شأن الرجل والمرأة تحدد هذا الاقتراب والتواصل بغطاء من الالتزام بالحدود، والوقار والمتانة، وهو يتأكد بطبيعة الحال في ظل توفر وسائل التواصل التي تتيح ذلك بشكل أسهل.

 

تأصيل مشروعية العلاقة بين الجنسين بالحدود الملائمة:

وقد ابتنى على هذا الأساس الفطري والوجداني وما يتصل به من سنن نفسية وما يترتب عليه من مصالح حياتية فردية وأسرية واجتماعية تأصيل مشروعية العلاقة بين المرأة والرجل وجواز الإغراء بينهما بحدود الزواج وهو تأصيل عابر للمجتمعات الإنسانية عموماً، وذلك استثناءً من قاعدة حرية الإنسان في ممارساته الشخصية، فلم يعد من حق الإنسان أن يقيم علاقة أو يسعى إليها إلا من خلال عقد وثيق والتزام ثنائي بين الطرفين يكون واضحاً وتتحدد فيه غاية إقامة العلاقة بشكل صريح حتى يحسب الإنسان مقتضيات هذه العلاقة وآثارها في شأنه بما عليه من التزامات ولوازمها الاجتماعية الخطيرة، وذلك تحرزاً عن أي أسلوب آخر للعلاقة ينزلق فيها اثنان إلى العلاقة من غير سابق عقد وميثاق استجابةً لرغبة عارمة أو استدراجاً من قبل الطرف الآخر.

 

وصايا الدين في قواعد التواصل بين الجنسين:

وجاء الدين الكريم مؤكداً على هذا التأصيل المهم في حياة الإنسان محدداً إياه، من خلال التأكيد على وصايا مهمة في هذا السياق.

الوصية الأولى: إيجاب الستر الملائم على الجنسين من حيث أن الإنسان غير المستور بطبيعته يكون مغرياً للآخر ومثيراً له، فأوجب على الرجل الستر اللائق به، وكان نصيب المرأة من الستر اللائق أزيد بالنظر إلى كون المرأة بخصائصها أكثر إغراءً للرجل ـــ بطبيعة خلقة الجنسين ـــ من الرجل للمرأة، وتلك حقيقة واضحة في الحياة، فكان على المرأة ستر ما عدا الوجه والكفين في مشهد الرجل الأجنبي.

وليس الستر الواجب شرعاً بطبيعة الحال ستراً لبشرة الجلد فقط، بل ستراً لمفاتن البدن المغرية للآخر، كما لزم في الستر أن لا يكون بدوره زينة لصاحبه، إذ يكون ذلك بنفسه سبيلاً للإغراء الذي افترض الستر مانعاً من دونه.

الوصية الثانية: تجنب الحركات والأفعال والأقوال المثيرة التي من شأنها كسر حدود الوقار والمتانة بين الجنسين مثل ترقيق القول والتغنج فيه والمفاكهة في الحديث والتصرف على وجه ينبه على ما أخفى من الزينة، ولذلك جاء في القرآن الكريم نهي المرأة عن الخضوع في القول وضربها لأرجلها بما يفصح عن ارتدائها للخلخال، لأن في ذلك إيعازات خاطئة إلى من بمحضرها من الرجال.

الوصية الثالثة: غض النظر عن الجنس الآخر، فلا ضير في نظرة عابرة ومسترسلة وغير ممتلئة حيث تقتضيه طبيعة الحاجات الإنسانية النوعية، ولكن لا تصح النظرة المركزة والممتدة على الآخر، فإن هذا الوقوف على الآخر مدعاة للانجذاب إليه ويوسوس الإنسان إلى مزيد من الاقتراب، ولذلك قال سبحانه: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...﴾([1])

فهذه وصايا ثلاث مهمة تعتبر مبادئ فطرية بديهية لنقاء العلاقة بين الإنسان.

 

المضاعفات السلبية للاختلاط غير المنضبط:

ولا شك في أن الاختلاط والتواصل غير المنضبط بين الجنسين هي من أهم المزالق التي تؤدي إلى الاقتراب الخاطئ بينهما والانتهاء إلى غايات ضارة وذميمة وغير شرعية.

وجل المحاذير ـــ التي نشهدها في تضرر الفتيان والفتيات ضرراً يحول دون تحقيق الحياة الأسرية أو يوجب التشويش على هذه الحياة وانهدامها ـــ ناشئة في أسبابها الأوّلية عن وجوه مسترسلة أو خاطئة من الاختلاط والتواصل بين الجنسين.

فالاختلاط من جهةٍ يحيي في الإنسان حب الظهور أمام الآخر بمظهر الإغراء والجاذبية ويتخذ ذلك منحىً صعودياً ساعياً تجربة مختلف المظاهر والأدوات والحركات والمرغبات المثيرة، كما أنه من جهة أخرى يوقف الآخر على هذا المظهر ويتيح له الاطلاع عليه من خلال النظرة بعد النظرة والتي سوف تتخذ أيضاً منحىً صعودياً بتكوين هاجس داخلي متكرر ثم دائم يحث الإنسان على مزيد من النظر والتركيز لينمو هذا الهاجس الداخلي حتى يكون شاغلاً للإنسان ويؤدي إلى السعي إلى مزيد من الاقتراب والاطلاع والعرض متخذاً الأدوات غير المباشرة التي تتخفى وراء غايات أخرى إنسانية أو علمية أو طبيعية لتنتهي إلى تحقيق فرصة للاختلاء مع الآخر ليتحرر من اطلاع الآخرين ورقابتهم ويحقق ما كان يصبو إليه من ممارسات خاطئة.

وكذلك الحال في التواصل الصوتي والكتبي، فهو يبدأ بالمتعة التي يجدها المرء عند التواصل مع الجنس الآخر وإذا توقف عندها ولم يَعْبرها رجا فيها أن تكون باباً للعلاقة وسعى وأمل إلى أن يبدو بمزيد من الجاذبية للآخر لكي يحقق استجابة مناسبة من الآخر فتتولد لديه الرغبة من الانتقال من المشهد العام إلى الخاص إرضاء منه للنوازع الغريزية.

 

تأصيلات في شأن الاختلاط والتواصل

وهناك عدة تأصيلات ضرورية في شأن الاختلاط وما بحكمه من وجوه الاتصال والتواصل:

(ضرورة الوعي بشأن مضار الاختلاط ومحاذيره)

الأوّل: أنّه ينبغي للمرء تأصيل الاهتمام باكتساب الوعي والتبصر بشأن مضار الاختلاط ومحاذيره المحتملة والمتوقعة، والارتقاء عن التفكير الضيق والمحدود إلى الأفق العام من خلال الاطلاع على السنن النفسية والاجتماعية والاعتبار بالحوادث المختلفة والانتباه إلى ما تعبر عنه من السنن العامة والظواهر التي تتولد عنها.

(ضرورة التقنينات الراشدة بشأن الاختلاط في المستويات التشريعية والإدارية والعرفية والشخصية)

الثاني: أنّه لا غنى للإنسان والمجتمع الإنساني في شأن الاختلاط ـــ أصله وحدوده ـــ من تقنينات راشدة وحكيمة وملائمة فالتقنين هو الحد الذي يضمن المصالح العامة والخاصة ويقي المرء من الإفراط والتفريط.

وقد جاء التقنين الملائم في الدين من خلال تشريعاته الحكيمة والراشدة التي تلائم الفطرة وتنظر إلى الآفاق البعيدة والمزالق المتوقعة.

وتبقى مستويات أخرى ضرورية في شأن ذلك:

1.أنّ على المتصدين لأمور الناس في الدولة في المستوى التشريعي الاهتمام بصيانة المجتمع عن الوقوع في مهاوي الخطيئة والخطأ وفق ما يتاح لهم بحسب الظروف، من غير أن يجعلوا من الاهتمام بهذه الجهات غاية سياسية يتاجرون بها، أو يتساهلوا فيها تقرباً لشريحة من الناس، ومن جملة ذلك حجب المواقع والقنوات الإباحية والرقابة الملائمة على سائر الأمور الفاضحة في وسائل الإعلام أو وسائل التواصل أو في الملأ العام.

2.أنّ على المسؤولين التنفيذيين في مختلف مراتبهم ابتداء من الدرجات العليا إلى مدراء المدارس والمدرسين فيها العناية برعاية مبدأ العفاف وصيانة الاختلاط عن المحاذير وفق صلاحياتهم التنفيذية والإدارية.

3.أنّ على المجتمع العام الاهتمام بالأعراف الواقية عن الخطأ والخطيئة مما يتضمن الرقابة المناسبة والحذر اللائق بهذا الشأن من خلال الأدوات الاجتماعية العامة، فإنّ الأعراف الاجتماعية تسهل رعاية المقاصد الصحيحة ويكون عذراً للفرد تجاه الإحراجات الشخصية.

4.أنّ على الشخص نفسه تقنين سلوكه في الاختلاط وقواعده والتزامه على نفسه بمبادئ يثبت عليها ولا ينصرف عنها حتى تصونه تلك المبادئ عن الوقوع في المحاذير المتوقعة ويصل من خلالها إلى شاطئ الأمان في حياة أسرية نقية وسعيدة ومطمئنة بعيدة عن قلق السوابق الخاطئة والوساوس المؤذية والثبات على الالتزام بين المغريات، وهذا وإن كان صعباً بعض الشيء إلا أنّه أحمد عاقبة، وقلّ شيءٌ مثمرٌ إلا وهو نتيجة الصبر والثبات كما قال سبحانه: [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]([2]).

وليعلم الفتيان والفتيات أنّ الذي يليق بالإنسان في مقتبل عمره هو أن يهتم بتكوين حياة أسرية مبنية على العفاف والأخلاق والالتزام من دون خوض تجارب مختلفة وممارسة تعلقات عابرة تزيل النقاء النفسي وتكون دائماً مصدراً لهواجس مقلقة ومؤذية تحول دون استقرار الحياة الزوجية كما تدل عليه تجارب الحياة.

(التعامل الحذر من المرء مع نفسه)

الثالث: ينبغي للإنسان تأصيل الحذر تجاه نفسه بمعنى أن لا يثق بها تمام الثقة وذلك بأن يبني أنّه سوف يقاوم مشاهد الإغراء في أي بيئة ومهما كانت الظروف، سواء كان ذلك اعتماداً على أصله ونسبه أو تربيته أو نحو ذلك. فالانزلاق إلى الخطأ والخطيئة أمر مشهود في حالات من هذا القبيل وفق حوادث الحياة، والطبيعة الإنسانية في جميع الناس في أصلها طبيعة واحدة في ما تختزنه من دوافع وتحتمله من خطوات ويمكن أن تؤدي إليه من نتائج، وربّ رغبات كامنة لم تفصح عن نفسها حتى للإنسان نفسه من جهة عدم وجود فرصة مواتية فتكون كامنة في مرحلة اللاوعي، حتى إذا أمنت المحاذير ووجدت البيئة المناسبة تحفزت على حين غُرّة وغفلة من صاحبها فانساق وفقها وخضع لها فكانت نكسة قاتمة تظلل على نفسه وحياته أبداً.

ولأجل ذلك نهى الله سبحانه عن تزكية المرء لنفسه، وحذّر منها ونبّه على أنّ هناك وراء ما يعلمه المرء عن نفسه أبعادٌ لا يحيط بها إلا الله سبحانه، قال سبحانه: [فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى]([3])، ولذلك كان الصالحون على وجل من أنفسهم وهم يكرهون الثناء عليهم في وجوههم، وقد قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبة المتقين رغم ما وصفه بهم من صفات جليلة: (إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَه فَيَقُولُ، أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ)([4]).

إذن من المهم أن يحذر الإنسان من نفسه بعض الحذر ولا يحسن الظن بنفسه في جميع الأحوال وليجعل من نفسه رقيباً عليها يرصد هواجسها وشواغلها وينتبه إلى تغير سلوكها، ويحذر من تدحرجها إلى الاستجابة لجاذبيات الآخر ويُشعره بالخطر تجاه ذلك.

فإن وجد من نفسه استجابة لجاذبية الآخر مثلاً فإنّ ذلك منبّه لا بدّ أن يشعره بالخطر ولزوم المراجعة والمحاسبة.

وليعلم الإنسان أنّه بنفسه سوف يختلف تفسيره لحركاته وسلوكياته كلما كَبُر عمراً وزاد خُبراً وإحاطة بالنفس الإنسانية ومراهقتها وكوامنها من خلال اتساع الخبرة والوعي والتجربة، وقد يتمنى لو تجنب العديد منها في حينه، لما يجده من وجوه الملاحظة والخطأ عليها أو ما سببته له من تبعاتها وآثارها، وذلك أمر معروف، ومن حكمة المرء أن تكون أحواله متناسقة وأن يكون أوّل أموره ـــ ما تيسر ـــ كآخرها.

(عدم الاسترسال المطلق مع الآخرين والإبقاء على الحذر بعض الشيء تجاه أيّ كان)

الرابع: ينبغي للإنسان تأصيل التعامل الحذر مع الآخرين بأن لا يسترسل في الثقة بهم كل الاسترسال ويغلق أبواب الحذر كل الإغلاق مهما كانت هناك عوامل تدعو إلى استبعاد الخطأ والخطيئة من المحتد الكريم والأصل العتيد والسابقة الحسنة والتربية الجيدة والبيئة السليمة والسيرة المعهودة والظواهر المحمودة والمحبة الشديدة للآخر.

بل عليه أن يُبقي لحدوث الخطأ أو الخطيئة احتمالاً وللحذر باباً يقيه من المفاجئات ويصونه عن المحاذير، فالاسترسال المطلق غفلة وليس وثوقاً وسذاجة وليس طيباً وصفاء، وشتان ما بين السذاجة والطيب: فالسذاجة خلل في الإدراك وضبابية في الرؤية، والطيب سلامة في النفس ونقاء في القلب، وربّ طيّب حذر في سلوكه، وآخر ساذج من غير طيب ولا صفاء، وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لا تثق بأخيك كل الثقة فإن صرعة الاسترسال لن تستقال)([5]).

وليس بقاء حيّز من الحذر والاحتمال سوء ظن بالآخر، فإنّ محض الاحتمال غير الظن والترجيح، على أنّه قد جاء عن الإمام علي (عليه السلام): (إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلَاحُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِه، ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْه حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ، وإِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِه، فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ)([6]).

(الحذر من الاختلاط من غير حاجة موجبة له ثُمّ الحذر عند الاختلاط من الاسترسال فيه)

الخامس: أنّه ينبغي تأصيلَ المرءِ لنفسه ولمن يتولى شأنه الحذر من الاختلاط من غير حاجة موجبة له([7]) ثم مراعاة الحذر عند ممارسته، فهذان أصلان مهمان وقاعدتان أساسيتان من قواعد الحياة.

وليس هناك من شك في أنّ الحاجات الإنسانية ـــ وفق طبيعة الحياة ـــ تقتضي بعض الاختلاط في الأماكن العامة كالأسواق والشوارع ووسائل النقل العامة وأماكن الزيارة وغيرها، وكذلك ما تفرضه المراجعة إلى الأطباء عند غياب الطبيب المماثل الوافي بالحاجة، وكذلك المراجعة إلى الدوائر المختلفة والمسؤولين عن الخدمات العامة الحكومية والدينية والإنسانية، كما أنّ الواقع الجاري تضمّن ترتيب كثير من الأمور على وجه مختلط وإن كان ذلك غير ضروري في العديد من الحالات مثل الجامعات وغيرها.

لكن لا ينبغي أن يكون توقف الإيفاء بالحاجات على الاختلاط باعثاً على الاسترسال في الاختلاط واعتبار الاجتماعات المختلطة على حد الاجتماعات غير المختلطة، ولا المبالغة في توقف الحياة المعاصرة على الاختلاط، واعتبار الاختلاط بين الجنسين حالة طبيعية وضرورية دون حدود وقيود، بل لا بدّ من رعاية الموازنة ونوع الاختلاط ومراعاة الحذر على وجه مناسب في جميع الأحوال.

ومن البديهي أنّ لقاء الجنسين يرافق بطبيعته نوعاً الشعور بضرب من المتعة والانجذاب إلى الآخر وما يتفق من التعاطف بين اثنين من جنس مختلف من الثناء والشكر والإعجاب وإظهار الود والمحبة يختلف عمّا يتفق بين اثنين من جنس واحد فهو ينطوي على بُعد غريزي وفق سنن الحياة وإن كان ذلك في البداية في مرحلة من الوعي الخفي أو اللاوعي، وهذا الشعور بالمتعة يستوجب أن يقترن بضرب من الحذر موازٍ لذلك.

وينبغي أن تبدأ رعاية الحذر عن الاختلاط ومراعاة آدابه منذ بداية التميّز عند الطفل، ويزداد أهمية في سنيّ المراهقة وما بعدها حتى الزواج، ويكون مهماً أيضاً بعد الزواج في سنيّ العنفوان والنشاط لدى الجنسين.

والوجه في التأكيد على الحذر في ذلك: هو أنّ أي محذور وقع فيه المرء فإنّه سوف يكون له تأثير نفسي وأسري واجتماعي ممتد وباق عليه وربما أدى وقوع المرء في مزلق مرة واحدة إلى وقوعه في مثله لمرات أخرى لانفتاح باب في النفس لا يسهل عليه إغلاقه، فليس من هاب شيئاً كمن وقع فيه، ومن وقع في شيء وسوست إليه النفس في إعادته كلما ورده هاجس وذلك مما يؤدي إلى وقوع المرء في عناء وشقاء وافتقاده للسعادة التي يبحث عنها ويسعى إليها.

وقد علم عند العقلاء كافة أنّ المحذور المحتمل كلما كان أكبر وأخطر وأشمل وأدوم كان الحذر اللائق عند احتماله أشد وأقوى حتى أنّه يكفي أحياناً الاحتمالات الضعيفة كواحد في المائة أو في الألف إذا كان المحتمل فيها أمراً خطيراً، وتلك بديهة فطرية زوّد بها الوجدان الإنساني كقاعدة للحياة.

(أدب التعامل بين الجنسين وهو الوقار والاحتشام)

السادس: أنّ على الجنسين تأصيلَ التزامِ الوقار والمتانة في السلوك والقول والنظر والمظهر وتجنب الاسترسال والخفة عند التعامل أو التواصل أو الاختلاط مع الآخر، فإنّ الوقار هو المصدّ الأساس للنفس وللآخر عن الاتجاه الخاطئ والانزلاق النفسي والسلوكي إلى الخطأ، كما أنّ الخفة هي مدخل كل خطأ وخطيئة.

ومن مظاهر الوقار هو تجنب المرء الاقتراب والخلوة والخصوصية، وكذلك عدم تقبل مثلها من الآخر، وتعامله مع أية خطوة من هذا القبيل بمزيد من الحذر أو الابتعاد بما ينبه الطرف الآخر على عدم تقبل تلك الخطوة.

(الاهتمام بكسب مهارات الاختلاط السليم)

السابع: أنّه ينبغي للإنسان تأصيل الاهتمام بكسب مهارات الاختلاط السليم عند الابتلاء به، وهي على نوعين:

1.مهارات تتعلق بفن ضبط النفس والتحكم بها عند الاختلاط.

ومن هذا النوع استشعار تقوى الله سبحانه والالتفات إلى كون المرء في محضره وموضع رقابته كما قال سبحانه: [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ]([8])، وكذلك تقوية العزيمة وإشعار النفس بمؤهلاتها العلمية والإنسانية بدلاً عن التركيز على مؤهلاتها وجاذبياتها الإغرائية والغريزية، والتأمل هنيئة ـــ قبل خطو أية خطوة ـــ في عواقبها وغاياتها وآثارها الاجتماعية وتأثيرها على شخصية الإنسان، ومضاعفاتها المستقبلية على حياته، وكذلك إشغال الإنسان فكره بأمور أخرى مثل المواضيع الدراسية بدلاً عمّا يمليه الاختلاط إلى غير ذلك من المهارات التي تمثل قوة شخصية الإنسان ورقيها.

2.مهارات التعامل مع الآخر الذي يسعى إلى الاقتراب إلى الإنسان واستدراجه، مثل الجرأة في مواجهة الإحراج، والتجنب عن تسليم قياد النفس إلى الآخر، والصمت عند السؤال، وغض النظر عند المخاطبة، وقلة التفاعل عند إظهار الآخر للاهتمام الخاص، وإبداء الأذى والتعجب من مظاهر هذا الاهتمام.

(الانتباه إلى أهمية العفاف)

الثامن: ينبغي انتباه المرء إلى الأهمية الكبرى لأصل العفاف في الحياة والدين، فالعفاف قيمة فطرية ودينية وأسرية واجتماعية راقية ومبدأ أساسي ومهم للغاية، فهو يحقق للإنسان ومن يتكفله وسائر من حوله الطمأنينة والسكينة والنقاء والسلامة والطهارة والاستقرار والسعادة، ويبعد عنه الهواجس القلقة والعوارض النفسية، كما أنّ اختلال العفاف يؤدي إلى تكوين علاقات غير شرعية لا محالة وفق السنن النفسية؛ وذلك يوجب أضرار فردية واجتماعية كبيرة وخطيرة للغاية من قبيل زوال الاستقرار والتفاهم في جو الأسرة بما يلغي فائدتها ـــ وهي الاطمئنان والتكامل ـــ ويؤدي إلى انهدامها. ومما يؤدي إليه اختلال العفاف زيادة العنوسة وقلة فرص الزواج لمن لم يعف وإسقاط الأجنة وتفرق الأطفال وافتقادهم لأحد الأبوين أو كليهما في أثر النزاع والافتراق مما يوجب اضطراباً في شخصية الطفل ومعاناته، ويؤدي إلى إلقاء كلّ الإنسان على غير من يفترض تكفله إياه، كما في رجوع الفتيات والأولاد بعد الزواج إلى بيوت آبائهم مع أطفالهم إلى غير ذلك من المفاسد.

ولذلك ينبغي اهتمام الأفراد والمجتمع بهذا المبدأ اهتماماً بالغاً وترجيحه عند التزاحم على موضوعات أخرى مثل الفرص الدراسية والأنس الاجتماعي والاستجابة للرغبات ونحوها.

وينبغي للمجتمعات الإسلامية والشرقية المحافظة والمعنية بهذا المبدأ الحذر من اتباع أعراف سائدة في مجتمعات أخرى مبنية على التساهل واللامبالاة؛ لأنّ تلك المجتمعات ليست مهتمة بالعفاف ومبادئه مثل الحياء والعزة والتعالي ولا مكترثة بآثاره السلبية مثل العلائق غير الشرعية وضياع الأطفال وسقوط الأجنة وتفكك الأسرة، وإنّما تكمن أولويتها في تحصيل الدخل المادي للفرد وتأمين ممارسة الرغبات الشخصية والغريزية باسم الحرية وتلك حقيقة واضحة.

فليست حال تلك المجتمعات بالتي تحتذى في هذه الناحية ولا ينبغي الخلط في تقييم المجتمعات بين الجوانب المختلفة فيها والتقليد غير المتبصر لما يجري فيها، فقد يكون هناك نقاط قوة في مجتمع ما مثل الاهتمام بالعلم واحترام التخصص وتقدير المواطنة المتكافئة بين الناس بينما تكون هناك نقاط سلبية في ما يتعلق بجوانب فطرية وإنسانية مثل هيمنة النزعات المادية والغريزية، فيكون المجتمع المفترض في مثل ذلك موضع الاعتبار دون الاقتداء.

(توفير مراكز غير مختلطة وتقنين آداب الاختلاط)

التاسع: ينبغي اهتمام أهل البر والمقدرة من أفراد وجهات ـــ وفي مقدمتها الدولة كما إنّ من جملتها إدارات العتبات المقدسة ـــ بتأصيل مبدأ مهم في جملة نشاطاتهم وهو صيانة المجتمع عن وجوه الاختلاط غير الضروري كل بحسب مقدرته ونفوذه وإمكاناته منها على سبيل المثال:

1.استخدام المعلمين والمدرسين من نفس الجنس.

2.السعي في إنشاء جامعات مختصة غير مختلطة تساعد على ابتعاد الفتيان والفتيات عن أجواء الإغراء والإثارة والعرض.

3.عناية النساء المتعلمات بفروع من العلم والمعرفة لتغطية حاجات بنات جنسهن في التعليم والطب وسائر الاحتياجات العلمية والمعرفية بمستوى عال من الكفاءة والمقدرة حتى لا تحتاج النساء إلى مراجعة الرجال فيها.

هذا وأقل مستوى مقبول من هذا الاهتمام الذي ينبغي أن يبذله هؤلاء الأفراد والجهات هو أن يجد الناس ـــ المعنيين بتجنب الاختلاط في أنفسهم وفي من يتولون شأنه ـــ حاجتهم في التعلم والتعليم والتوظيف والعمل في مراكز كفوءة خالية عن الاختلاط، ولا يضطرون للإيفاء بحاجتهم تلك إلى التعلم والعمل في مراكز مختلطة.

وفوق هذا المستوى أن يغطي عدد هذه المراكز حاجات سائر الناس ممن يعتذر عن الاختلاط بعدم وجود مراكز غير مختلطة، على أن يكون مستوى هذه المراكز مشجعاً للالتحاق بها.

وكذلك يجب على هؤلاء الأفراد وتلك الجهات صيانة مواضع الاختلاط الذي لا مناص عنه من خلال القوانين والتعليمات عن المظاهر المغرية والعروض غير اللائقة لا سيما المدارس والجامعات التي يقضي فيها الأولاد أخطر فترة في تنشئة الإنسان وتربيته، وذلك عن طريق ما تتبعه العديد من الدول المتقدمة في العلم والصناعة والاقتصاد من توحيد نمط الملابس وتحديدها على وجه ملائم لإبعاد أجواء العلم عن المؤثرات الغريبة ووقايتها عن أن تكون معرضاً لإثارة الغرائز ووقوع الخطيئة، مع مرونة ملائمة لأحوال الفقراء.

(رعاية الوالدين للأولاد)

العاشر: ينبغي رعاية الآباء والأمهات لتأصيل تربوي مهم وهو الاهتمام بعفاف أولادهم بتجنيبهم لمواضع الاختلاط ما أمكن من خلال انتقاء المراكز غير المختلطة ورعاية سلوكهم فيها عن التصرفات الخاطئة على وجه ملائم، فإنّ ذلك جزء من الرعاية الواجبة عليهم بحسب قواعد الفطرة الإنسانية والدين.

ومن الخطأ بل الخطيئة عدة أمور نشهد وقوعها من الأولياء:

1.إهمال حال الأولاد، وعدم متابعتها على أساس انشغال الأولياء بشأنهم أو حسن الظن بالأولاد.

2.أن تدعو مشاعر المودة والمحبة والرحمة الأولياء إلى الانسياق لرغبات الأولاد في التحرر من القيود والانسياق وراء الرغبات وتقليد الآخرين في أمور غير لائقة.

3.عدم اهتمام الأولياء بالحدود اللائقة على أساس تقديم بعض المطامح العلمية لهم في شأن الأولاد أو مطامح الأولاد أنفسهم على رعاية القيم اللازمة والسلوكيات الملائمة. وهذا كله مع اتباع الأساليب المعقولة والمقبولة في مقام الحذر والنصح والإرشاد.

4.تخلي الأولياء عن مسؤوليتهم في هذا الجانب وإلقاء مسؤولية الأولاد على عاتقهم قبل أن يكتسبوا النضج الكافي في هذا الشأن بتمييز الخير من الشر، والالتفات إلى عواقب الأمور والاعتبار بالحوادث والانتباه إلى مقومات المستقبل السعيد.

(رعاية مبادئ العفاف في داخل الأسرة والأقارب)

الحادي عشر: إنّ من الضروري في داخل الأسرة تأصيل رعاية مقتضيات العفاف حتى بين المحارم، وكذلك رعايته في الاختلاط بين الأقارب والعوائل، فإنّ انتشار عوامل الإغراء والإثارة وتيسرها في هذا العصر وتراجع الأعراف المانعة وملاحظة الحوادث التي تتفق في المجتمع أمور كافية في تيقظ الإنسان وانتباهه لخطورة الاسترسال في ذلك.

(تأكد مراعاة العفاف في شأن الفتيات)

الثاني عشر: أنّ من المهم للفتيات بشكل خاص تأصيل مراعاة العفاف وتجنب الاختلاط ما أمكن والابتعاد عن أساليب الإغراء في حالات الاختلاط التي لا محيص عنها، فالمرأة هي الأكثر تضرراً بالحوادث المنافية للعفاف ابتداء من التصرفات غير اللائقة وانتهاء بالعلائق غير الشرعية على ما أشير إليه في قوله تعالى في حكمة الحجاب: [ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ]([9])، كما أنّ دورها كمصنع للإنسان ووالدة تحتضن الطفل بين أحشائها ثم حاضنة للطفل ومربية له هو الدور الأهم بالمقارنة مع دور الرجل ولذلك تكون سلامتها ونقاؤها وطهارتها أكثر تأثيراً على سلامة الأطفال الذين هم أمهات الغد ورجال المستقبل.

ومن الملاحظ في كثير من الموارد أنّ المرأة تنزلق ـــ من حيث لا تحتسب ولا تريد ـــ إلى السلوكيات الخاطئة والعلائق الآثمة، بينما لم تكن تنوي بمظاهر الإغراء الانتهاء إلى تلك النهايات، إلا أنّ أساليب الإغراء هي لغة الطبيعة والعرف في جذب الطرف الآخر، فلا ينبغي استخدامها على وجه خاطئ كما أوضحت ذلك في (رسالة المرأة في الحياة).

كما لوحظ أنّ المرأة تتسرع في كثير من الحالات إلى التصديق بما يُبدى لها من العواطف بغية التواصل إلى تكوين الأسرة السعيدة المبنية على المودة والمحبة، ولا تميّز بين العواطف الصادقة والرغبات العابرة، فتبتلى بالخيانة المرة والاستغلال المؤذي ممن لا يستحق الثقة، وتلك صرعة الاسترسال التي لا تستقال، وكم من حالات في الحياة يطلع عليها المرء فتملأ النفس هماً وأسى على الفتاة وغيظاً على مَن باشر ذلك أو فرط في شأنها بما أدى إلى تلك النتائج.

(ضرورة استجابة المراهقين لنصائح الوالدين بالتي هي أحسن)

الثالث عشر: ينبغي للأولاد المميّزين والمراهقين من فتيان وفتيات الاستجابة لأوليائهم من الآباء والأمهات في ما ينصحونهم به من مبادئ العفاف وتجنب الاختلاط وكذلك الحذر في حال وقوعه عن الاقتراب من الآخرين والثقة بهم وإقامة العلاقات العابرة.

فالإنسان لا يستغني بضرورة الحياة من الاسترشاد والنصيحة في هذه المرحلة العمرية عن الآباء والأمهات كما لا يستغني نوعاً عن إيفائهم بسائر حوائجه على ما يجده عياناً، فالنفس الإنسانية في هذه المرحلة في طور التطور والتنامي واكتساب قدرات وخبرات جديدة، ومن البديهي في هذه الحالة أن يعتمد على غيره قبل أن تستقر خبراته في الحياة، وخير من يعول عليه الإنسان من جمع نصحاً وخبرة وتجربة في الحياة، ولا يجد المرء أنصح له من والديه نوعاً، فإنّهما يعتبران أنفسهما مسؤولين عن حياة الأولاد ومستقبلهم بل الأولاد عندهما جزء من كيانهما، فسعادتهما وشقاؤهما بسعادة الأولاد وشقائهم، ولا يكون الآخرون بهذه المثابة.

فعلى الأولاد إعانة أوليائهم على تولي أمورهم بالتي هي أحسن كما هي وظيفتهم بحسب الفطرة والدين والعرف الإنساني، ولا يشاكسونهم في نصحهم لهم، فإنّ الحياة تجارب، ومن سعى إلى أن يجرب بنفسه جميع الأمور كان عرضة للوقوع في محاذير لا نجاة منها متى وقع الإنسان فيها ومخالفة الناصح المجرب تورث الندامة وليعلم الأولاد أنّهم غداً آباء وأمهات، وسوف يكون لهم هواجس تجاه أولادهم مثل ما يجدونه لوالديهم، فإن أسس الأولاد لحسن الاستجابة للوالدين في نصائحهما كان ذلك مستتبعاً ـــ غداً عند تكوينهم للأسرة ـــ لحسن اتباع أولادهم لهم ، فعليهم (أي الأولاد) أن يرتقوا إلى ما يليق بهم، ولا سيما أنّ الله سبحانه كلف الإنسان في سن مبكر، إشعاراً له بالمسؤولية تجاه ما يتفق له، فعلى الأولاد ــــ بمستوى إدراكهم وقدرتهم ــــ مسؤولية ما يتفق لهم.

ولتسعَ فئة من الأولاد ـــ فتيات وفتيان ـــ أن يكونوا مثلاً راقياً لسائر من هو في أعمارهم من زملائهم للعفاف والوقار وسائر الخصال الحميدة الواقية عن الاختلاط الذميم، فإنّ أفضل الناس من اقتدى الناس به في معاني الرشد والحكمة والفضيلة، ولهم أجرهم في هذه الحياة ومن بعدها حيث يكتب لهم ثواب كل من اقتدى بهم، ومن لم تبلغ به الهمة أن يكون كذلك فليهتم أن لا يخل بالنصاب اللازم مراعاته في السلوك لتوقي المحاذير عن نفسه وعمّن يتولى شأنه.

وعلى الأولياء اتخاذ الأساليب التربوية الملائمة ومشورة أهل الخبرة والحكمة في طريقة التأثير على الأولاد وسوقهم إلى السلوك الراشد والحكيم.

وبعد فإنّ كثرة المثيرات والمغريات التي تخدش الطهر والنقاء في الحياة المعاصرة وزيادة الأمراض الأخلاقية ـــ وفق التعبير القرآني في قوله: [فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ]([10]) ـــ تجعل من العفاف من أبرز أمثلة الجهاد في الحياة المعاصرة ولا سيما للفتاة التي طبعت على طلب مزيد من التجمل والظهور بمظهر فائق، فمن واظب على العفاف ومبادئه ووقي ما تتوق إليه النفس من التظاهر بعناصر الإثارة والانسياق وراء مغرياتها فقد جاهد نفسه وضمن لنفسه الفلاح، في هذه الحياة وما بعدها.

وإنّ الإنسان المؤمن حقاً من ذكر وأنثى لهو إنسان راق يعيش النقاء والطهارة والسكينة في داخله ويتصف بالوقار والسكينة والمتانة في قوله وسلوكه ومظهره، ويتعالى عن أي أمر يوحي بالسعي إلى إغراء الآخر واستدراجه، ويسعى إلى تكوين الأسرة والشريك الملائم في الحياة وفق قواعد الطهر والالتزام، ويسعى أن يقتدي في ذلك بسيرة المثل العليا للخلق كخير الخلائق محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار والزهراء (صلوات الله عليهم أجمعين)، ثمّ بمن يليهم كزينب (عليها السلام) الذين ضربوا بسلوكهم مثلاً يُقتدى به عبر الأجيال.

وقد قال سبحانه في واعيته للإنسان في ما نصح به من وجوه الحكمة ـــ بعد أن نهى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخضوع في القول والتبرج بتبرج الجاهلية الأولى وبإقامة الفرائض ـــ: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا]([11]).

وقال الله سبحانه: [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]([12]).

 

3/ رجب/ 1443

الهوامش:


([1]) النور:30.

([2]) سورة الشورى: آية 43.

([3]) سورة النجم: آية 32.

([4]) نهج البلاغة: ص 305.

([5]) الكافي: 2/672.

([6]) نهج البلاغة: 489.

([7]) وقد نهى الله سبحانه الصحابة عن أن يسألوا نساء النبي (صلى الله عليه وآله) متاعاً إلا من وراء حجاب، وجاء عن الزهراء (عليها السلام) (خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال)، وذلك إشارة إلى تأصيل الحذر وكراهة الاختلاط ما أمكن، من غير نفي للحاجة إلى ذلك عند وجود مقتضياتها.

([8]) سورة المجادلة: آية 7.

([9]) سورة الأحزاب: آية 59.

([10]) سورة الأحزاب: آية 32.

([11]) سورة الأحزاب: آية 34 ـــ 36.

([12]) سورة النحل: آية 96 ـــ 97.

2022/02/14

ما الذي قدّمته «الفلسفة» للبشرية؟

من الصعب التحدث عن الفلسفة سلباً أو إيجاباً في إطارها العام؛ لأن ذلك يقتضي ملاحقة كل ما أنتجته المدارس الفلسفية ومن ثم دراستها لمعرفة ما فيها من فوائد ومضار، فقد أسهمت بعض الفلسفات في تطوير الفكر الإنساني وانتقلت به إلى آفاق معرفية لم تكن معهودة، وما زالت الحضارة الحديثة مدينة لبعض الفلاسفة الذين نقلوا البشرية نقلات كبيرة في الجانب المعرفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

[اشترك]

وفي مقابل ذلك هناك فلسفات ابتعدت بالفكر الإنساني عن مساراته الطبيعية، مثل الفلسفات الإلحادية التي اختصرت الإنسان في المادة، أو الفلسفات التي نظرت للحياة والوجود نظرة ريبة وقلق فأفرغت الحياة عن كل قيمها الحيوية، فشرعت بذلك للإحباط والعزلة والانتحار.
وعليه إذا نظرنا للفلسفة بوصفها تحفيز للعقل على البحث والتفكير وإيجاد أجوبة للظواهر الوجودية والحياتية فإن التقييم سوف يكون إيجابيا بلا شك، أما إذا أردنا أن نقيم الفلسفة من حيث المنتوج المعرفي فلابد أن تكون الإجابة متباينة بحسب كل فلسفة وما قدمته من إسهامات إيجابية للحياة الإنسانية.
أما فيما يختص بفائدة الفلسفة بالنسبة للإسلام والمسلمين، فإن الحيادية تقتضي الإجابة بعيداً عن الموقف الشخصي من الفلسفة، ويصعب ذلك في ظل الانقسام الفعلي للأمة بين مؤيد ومعارض للفلسفة، فهناك تيارات في الوسط الإسلامي تجعل من الفلسفة الطريق الحصري للوقوف على حقائق الدين، وفي مقابلها تيارات تعتبرها معول هدم للإسلام، وقد قلنا في إجابة سابقة (حول علاقة الدين بالفلسفة) أن هناك تباين في الآراء حول علاقة الأديان السماوية بالفلسفات البشرية، فبين من يرى أن بينهما توافق وتطابق، وبين من يراهما خطين متوازيين لا يلتقيان أبدأ، ويبدو أن سبب الاشتباك يعود إلى أن الدين والفلسفة يبحثان عن حقيقة واحدة، فالمسائل التي يقع عليها البحث عند الطرفين تكاد تكون مشتركة، وبخاصة في ما له علاقة بالتصور المعرفي في أصل الوجود والكون وغايات الحياة ودور الإنسان فيها، فنظرياً الفلسفة والدين يخدمان مشروعاً واحداً، ومن هنا يمكن ملاحظة التطابق بينهما، أما من جهة النتائج والمقولات المعرفية فهناك نوعاً من التباين بين مقولات الدين ومقولات الفلسفة، الأمر الذي دفع الفلاسفة إلى تأويل النصوص الدينية بما يخدم المقولات الفلسفية، وفي المقابل يرى الفقهاء والمتكلمين أن تأويلات الفلاسفة ليست إلا تجنياً على الدين ومصادرة لمقولاته لصالح المقولات الفلسفية، فما يطرحه الفلاسفة في نظر هؤلاء ليس إلا فلسفة يونانية بلسان عربي ولبوس إسلامي، وظل هذا النزاع مستمراً بدون أن يحسم لصالح أي واحد من الطرفين.

وعليه تصبح الإجابة على هذا السؤال متباينة فمن يعتقد بضرورة الفلسفة بالنسبة للإسلام سوف يعمل على جمع الشواهد التي تثبت ما قدمته الفلسفة من الفوائد، في حين يقوم الطرف الاخر بجمع شواهد مخالفة تثبت مضار الفلسفة على الفكر الإسلامي.

 

2022/02/12

من يتحمل مسؤولية الفقر والبطالة.. الحكّام أم الحوزة العلمية ومراجعها؟!

ما يؤسف له أن الفقر والبطالة من الظواهر المنتشرة في العالم العربي والإسلامي، ومن الصعب وضع اليد على عامل واحد متسبب في هذه الظاهرة، فطبيعة الظواهر الاجتماعية تتشكل بسبب تضافر مجموعة من العوامل بينها حالة من التداخل، بينما نجد السائل يحاول حصرنا بين خيارين لهذه الظاهرة، وهما الحكام أو الحوزة العلمية ومراجعها، مع عدم وجود أي صلة موضوعية بين الخيارين، فما يتعين على الحاكم يختلف تماماً عما يتعين على الحوزة، وعليه ليس هناك تشابه بينهما يؤدي للغموض والحيرة حتى نشتبه في أيهما يكون السبب دون الآخر، مضافاً لعدم وجود أي مانع أن يكون هناك أكثر من سبب فليس من الصحيح أن يجعل السائل سبب الظاهرة منحصر في أحدهما دون الأخر.

[اشترك]

ومن الطبيعي عندما يبحث الإنسان عن أسباب ظاهرة عامة تشمل أكثر من مجتمع أن يبحث عن العوامل المشتركة بين جميع هذه المجتمعات، فليس من الصحيح أن تكون قضية خاصة بمجتمع دون المجتمعات الأخرى هي التي تسببت في ظاهرة عامة تشمل الجميع، ومن الواضح أن الحوزة العلمية ومراجعها أمر مختص بمجتمع دون المجتمعات الأخرى، ومع ذلك نجد السائل يدخلها ضمن الأسباب المحتملة لظاهرة البطالة والفقر المنتشرة في جميع المجتمعات الإسلامية والعربية، فعدم وجود الحوزة ومراجعها في بقية البلدان الإسلامية والعربية التي تعاني من الفقر والعطالة لخير دليل على عدم مسؤوليتها عن هذه الظاهرة، وعليه يجب البحث عن الأسباب الأخرى التي تشكل عوامل مشتركة بين كل هذه الشعوب، وبما أن الحاكم من تلك العوامل المشتركة يمكن تحميله المسؤولية بدون اهمال العوامل الأخرى، ومن هنا نجد الباحثين المهتمين بالتنمية الاقتصادية وضعوا مجموعة من عوامل المسببة ظاهرة الفقر والبطالة، تشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فمن الأسباب السياسية: ويقصد بها جميع ما يرتبط بسياسة الدول مثل:

• انعدام أو ضعف التنمية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.

• تفشي الأزمات السياسية والحروب الاهلية وغيرها من النزاعات التي ينعدم معها استقرار الدولة.

• فساد الحكام وهدر الإمكانات القومية، بسبب الحكم الشمولي وغياب المؤسسات الرقابية.

من الأسباب الاقتصادية:

• اختلال الميزان التجاري بين الصادر والمستورد

• عدم الاهتمام بالصناعات التحويلية واضافة قيمة على المواد الخام المحلية، فتصدير المواد الخام واستيرادها مصنعة بقيمة مضاعفة يكرس الفقر والعطالة في المجتمع.

• عدم دعم الدولة للمشروعات الإنتاجية مثل الزراعية والصناعية يضاعف من عدد البطالة والفقر.

من الأسباب الاجتماعية:

• انتشار الجهل والأمية

• حالة الإحباط واللا مسؤولية التي أصبحت جزء من الثقافة المجتمعية.

• الزيادة المضطردة لعدد السكان بدون أن يرافقها زيادة في مصادر الإنتاج.

2022/02/02

جسد لا يتفسّخ في القبر.. من أهل الجنة أم من أهل النار؟!

من المؤكد أن استقامة الإنسان على الصراط المستقيم عقائدياً وسلوكياً هي الطريق الوحيد لكسب رضا الله والفوز بجنته.

[اشترك]

فالإنسان مسؤول عن كل أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والله وحده هو العالم بحال عباده ولا يمكن تزكية مالم يأتي نص بخصوصه، ولذا عندما نصلي على جنازة المؤمن نحتسبه مؤمناً ولا نزكي على الله أحد، فنقول في حقه: (اللهم إن هذا المسجّى قدامنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك نزل بك وأنت خير منزول به، اللهم إنك قبضت روحه إليك وقد احتاج إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلم به منا، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته واغفر لنا وله، اللهم احشره مع من يتولاه ويحبه وأبعده ممن يتبرأ منه ويبغضه، اللهم ألحقه بنبيك وعرّف بينه وبينه وارحمنا إذا توفيتنا يا إله العالمين، اللهم اكتبه عندك في أعلى عليين واخلف على عقبه في الغابرين واجعله من رفقاء محمد وآله الطاهرين وارحمه وإيانا برحمتك يا أرحم الراحمين)، فما نشهد به هو ظاهر عمله ولا يمكن الجزم بحقيقة أمره، وعليه لم نقف على روايات تؤكد أن بعض العلامات إذا حصلت للميت جزمنا بتزكية الله له.

وقد اشارت الروايات إلى بعض الأعمال التي إذا التزم بها الإنسان حفظ الله جسده في القبر مثل المداومة على غسل الجمعة، إلا أن ذلك قد يحصل للمؤمن الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) وقد يحصل لغيرهم من المخالفين، وعليه فعدم تفسخ الجثمان في القبر ليس كافياً للجزم برضا الله دون النظر إلى عقيدته وتمام سيرته وعمله، فالأصل في كل ميت هو تحلل جثمانه سواء كان مؤمناً او غير ذلك، وعلى هذا لا يمكن الحكم على من تحلل جثمانه بأنه ليس مرضياً عند الله، كما لا يمكن الحكم على من لم يتحلل جثمانه بأنه من أهل الرضوان.

وهكذا الحال بالنسبة لمن يموت وهو في حال الصلاة، فلا يمكن الجزم بأن ذلك دليل على أنه من أهل الجنة، فالإنسان ليس مسؤولاً عن صلاته فحسب وإنما مسؤول عن جميع ما كلف به، ففي الرواية عن الأمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن أول ما يسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله جل جلاله عن الصلوات المفروضات وعن الزكاة المفروضة وعن الصيام المفروض وعن الحج المفروض وعن ولايتنا أهل البيت، فان أقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجه، وإن لم يقر بولايتنا بين يدي الله جل جلاله لم يقبل الله عز وجل منه شيئا من أعماله)، ومما لا شك فيه أن هناك فضيلة لم تختم أعماله بالصلاة إلا أن ذلك يجب أن يكون مرهوناً بسلامة عقيدته وسلامة مسيرته في الحياة، فمثلاً هناك الكثير من القصص المنشورة في مواقع الانترنت لمن توفى وهو في صلاة التراويح، فهل يمكننا الحكم على صلاحهم ونحن نعلم بكونها بدعة؟ وفي مقابل هناك الكثير من العلماء والصالحين والمؤمنين الذين كانت أعمارهم كلها في عبادة الله وطاعته إلا أنهم لم يموتوا في حالة الصلاة، فهل يعد هذا دليلاً على عدم تزكية الله لهم؟

2022/02/01

فقيه ’قرآني’ وآخر ’حوزوي’.. ما مدى واقعية هذا التقسيم؟!

فقيه ’قرآني’  وآخر ’حوزوي’.. ما مدى واقعية هذا التقسيم الذي يروّج له بعض رجال الدين؟!

[اشترك]

في الغالب مثل هذه العبارات تصدر كشعارات للمزايدات السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، ولا يقصد منها تأسيس منهج معرفي يمكن تقييمه بطريقة منهجية، فهي أقرب للمصطلحات الشعبوية منها إلى المصطلحات العلمية، والادعاء بأن هناك فقهاً قرآنياً خالصاً بدون تدخل الروايات والأدلة الاجتهادية - مثل الأصول العملية والقواعد الفقهية - ادعاء لا يمكن البرهنة عليه، فالمعلوم بالضرورة كون القرآن الكريم لم يحتوي على الأحكام العبادية بشكل مفصل، ولذا لا يمكن أن يستغني الفقيه عن الروايات وبقية الأدلة الاجتهادية، وعليه من المستحيل علمياً ومنهجياً تأسيس فقه يشمل جميع الأحكام التكليفية اعتماداً على القرآن فقط، وفي مقابل ذلك لا يمكن اتهام فقهاء الحوزة بإهمال الاستفادة من القرآن في استنباط الأحكام الشرعية، لأن ذلك اتهام لا يمكن البرهنة عليه أيضاً، وإن تصورنا حدوث ذلك فإن البحث العلمي يقتضي بيان الأمثلة والنماذج التي خالف فيها فقهاء الحوزة الآيات القرآنية بدل اطلاق الشعارات ذات الطابع التعميمي.

ولا يمنع ذلك من ضرورة التذكير دائماً بضرورة تكثيف الاهتمام بالقرآن الكريم فمهما تعاظم الاهتمام به تظل الأمة مقصرة بشكل عام في حق القرآن الكريم، ومهما كانت فوائدنا من القرآن كبيرة تظل معارف القرآن لا حدود لها.

2022/01/31

لماذا يكرهون ’الأديان’؟!

الربوبي هو الوجه الآخر للملحد، فكليهما لا يؤمنان بالدين ويحملان مشروعاً مناهضاً لرسالات الله ورسله، فإشكالية الملحد ليست في وجود خالق ما لهذا الكون، وإنما مشكلته في وجود خالق له مشروع للإنسان، فالإله الذي لا تربطه أي صلة أو علاقة بالإنسان وينحصر دوره فقط في الخلق والإيجاد لا يسبب أي أزمة للإلحاد.

[اشترك]

إن الإنسان المتمرد على الأديان هو الإنسان الذي يبحث عن فعل ما يشاء كيف يشاء متى يشاء، ولذلك لا يرغب في وجود أديان لها حق الوصاية على فعله وسلوكه، وبما أن الرسل هم الذين يحملون دين الله للعباد فمن الطبيعي أن يكون الكفر بالله هو الطريق للكفر بهذه الرسالات، وعليه فإن الدافع الجوهري للإلحاد هو الكفر بالأديان ومن ثم يأتي تبرير هذا الكفر بعدم وجود إله، فمثلاً عندما تصادمت الكنيسة في أوربا مع العلماء لم يجد العلماء طريقاً للكفر بالكنيسة إلا بالكفر بإله الكنيسة، ولذا كان مشروعهم منصباً على زعزعة الثقة في الكنيسة من خلال نفي الإله بوصفه المصدر الذي تكتسب منه الكنيسة شرعيتها، ومازالت هذه السياسية هي المعتمدة فكل المشاريع الإلحادية، ولذا لا نجد للملحدين أي نشاط وسط المجتمعات غير المتدينة بدين، وبالتالي نفي وجود إله لا يشكل أي هم حقيقي للملحد وإنما نفي الأديان هو الهاجس الذي يحركهم.

وما يؤسف له أن المشروع الإلحادي مازال متأثراً بالتصادم الذي حصل بين الكنيسة وبين مشروع النهضة الأوربية، ولذا تجد حتى الملحدين العرب يقاربون الأديان بنفس العقلية الأوربية التي قاربت الدين الكنسي في تلك المرحلة التاريخية، مع أن الضرورة العلمية والمنهجية تقضي الفصل بين الدين الكنسي كنموذج للأديان وبين أصل الدين كضرورة لا يمكن التخلي عنها، وعليه فإن تأسيس رؤية سلبية تتسم بالثبات والديمومة اتجاه كل الأديان، ليس إلا موقف نفسي من الدين لا علاقة له بالمبررات العلمية والمنطقية، فاختلاف الظرف واختلاف الدين يحفز العقل الفلسفي للقيام بمقاربات جديدة، ولا يكتفي بمقاربات سابقة لها ظرفها الثقافي والنفسي الخاص، ولذلك ليس من العقل في شيء تعميم مقاربات فلاسفة عصر النهضة في ما يخص الأديان، والنظر إليها كحقيقة جازمة غير قابلة للنقاش، ومن هنا يمكننا أن نشير الى الخطأ الذي وقع فيه بعض المفكرين العرب حينما أسقطوا تلك النتائج على الدين الإسلامي، مع أن الإسلام يختلف في عقائده وتعاليمه مع ما هو موجود عند الكنيسة، وعليه فأصل الإلحاد هو ظاهرة معارضة للسطلة الدينية المتمثلة في الكنيسة إلا أنهم عملوا على تعميمها لتشمل جميع الأديان.

مع أن الربوبي والملحد يشتركان في الغاية والهدف، إلا أن الذي يؤمن بوجود إله يقصر الطريق كثيراً في النقاش، فكل من يؤمن بوجود إله خالق لا بد أن يصفه بالعلم والقدرة والحِكمة والرحمة وكل صفات الكمال والجمال، وإلا كيف يكون إلهاً جاهلاً وعاجزاً ولا يتصف بالحِكمة خالقاً لهذا الكون؟ وعليه فالله الذي دعاء له الأنبياء والرسول ينسجم تماماً مع وصف الخالق لهذا الكون، ومن هنا لا يمتلك الربوبي أي تبرير لفرض إله آخر غير ما وصفته الرسالات السماوية، أما القول بعدم وجود علاقة بينه وبين إله الأديان لا يعدو كونه افتراض ساذج ما لم يكن هناك ما يدعمه، والسبيل الوحيد للتأكد من ذلك هو مقارنة ما يتصف به الله مع ما جاءت به الرسل، فإن كانت تعاليم الرسل تتعارض مع ما يتصف به الله حينها يمكننا القول أن هذه الرسالة لا تكون معبرة عن الله، فمثلاً لو فرضنا من ادعاء الرسالة وكانت رسالته خليط من الجهل والتناقض والظلم وعدم الحِكمة حينها لا يمكن للإنسان الإيمان بهذه الرسالة لأنها بالتأكيد لا تشبه الله الذي يجب الإيمان به، ومن هنا فإن التحدي الذي وضعه الإسلام أمام الجميع وإلى يوم القيامة هو قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).

وفي المحصلة الله الذي جاء وصفه في القرآن والتعاليم التي أمر بها في كتابه الكريم لخير دليل على أنها من الله الواحد الذي خلق كل شيء.

وفي الختام نرى من المناسب للسائل أن يطلع على مقال كتبه ملحد ترك الإلحاد فأصبح ربوبي ثم ترك كل ذلك وآمن بالله الذي بشر به الإسلام، وهو الدكتور خالد سليمان في مقال له بعنوان (لمن يؤمن بوجود إله، ولكن ليس إله الأديان) ويمكن مراجعته على الرابط التالي https://www.sasapost.com/opinion/who-believes-in-the-existence-of-a-god/

2022/01/24

أيهما أفضل.. العلوم ’الدينية’ أم ’الإنسانية’؟

لماذا حصر النبي (ص) العلم بـ "آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل"؟

عديدة هي أبواب العلم والمعرفة، ولكل باب منها حاجة، فمنها ما يساعد على التفكّر في الخلق ومعرفة الخالق، ومنها ما يتزن به سلوك الإنسان وتستقيم به حياته، ومنها ما تتقدم به الحضارة البشرية ويساهم في عمارة الأرض، ومنها ما يوفّر وسائل الراحة والرفاهية وغير ذلك من العلوم.

[اشترك]

ومع أن أكثر أبواب العلوم نافعة إلا أن هناك علوم لا يستغني الإنسان عنها، وهي العلوم الدينية لكونها كاشفة عن فلسفة وجود الإنسان والحكمة من خلقه، فعن طريقها تتكامل رؤية الإنسان ويعرف من أين اتي؟ وما هو مطلوب منه؟ وإلى اين يمضي؟ فالإيمان بالغيب والشهود والعلاقة بينهما يحققان فهماً متكاملاً للحياة والغاية منها، والدين هو الطريق الوحيد الذي يحقق توازن ما بين الغيب والشهود، وما بين الروح والبدن، وما بين المعنى والمادة، ومن المؤسف أن يصرف الإنسان عمره ولا يلتفت إلى الحِكمة من وجوده والغاية من خلقه، أو يصرف عمره في طلب ما لا ثمرة فيه سوى كان لدنياه أو لأخرته، فعَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى‏ (عليه السلام)، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هذَا؟ فَقِيلَ: عَلامَةٌ، فَقَالَ: وَمَا الْعَلّامَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالأَشْعَارِ وَالْعَرَبِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ: ذَاكَ عِلْمٌ لا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَلا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ: إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ).

حيث نبهت الرواية إلى ضرورة الانشغال بما يفيد الإنسان وترك ما لا يفيد، ولذا استقل الرسول (ص) هذه المناسبة ليوجه مثل هذه الظواهر ويصحح البوصلة في ما يجب على الإنسان الاهتمام به، فبيّن أنّ العلم الحقيقي الذي ينبغي اكتسابه هو ما كان فقدانه ضرراً والعلم به نفعاً، وهذا ما نجده في علوم الدين بأصولها وفروعها، وقد عبّرت عنه الرواية بثلاثة أقسام، اختلف العلماء في بيان المراد منها، ولعل المناسب أنّ الآية المحكمة هي العلم بالأصول الاعتقادية، والفريضة العادلة هي العلم بالأحكام الشرعية، والسنة القائمة هي العلم بتهذيب الأخلاق، كما نسب ذلك للسيد الداماد، أمّا غير ذلك من العلوم فهو فضل أي زيادة قد تكون مفيدة وقد لا تكون كذلك، وعليه فبعد تحصيل الواجب العيني من المعارف الذي تقدم بيانه لا مانع من اكتساب غيره من العلوم خصوصاً تلك التي تفيد المجتمع وتتقدم بها الحضارة، وعليه هناك ترخيص في طلب كل العلوم ما عداء المحرمة منها وهناك وجوب في طلب ما لا يقم الدين إلا به، وأهمية العلوم الدينية تكمن في كونها طريق إلى الجنة فعَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلى‏ سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ؛ إِنَ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً، وَلكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ).

والجنة هي ما وعد الله بها أهل طاعته، والطاعة لا تتحصل بدون علم بما أراده الله وأمر به، وعليه فإن المراد بطالب العلم الذي تظلله الملائكة ويستغفر له من في السماء هو طالب العلوم الدينية.

2022/01/18

هوس الشراء: كيف تروّج العولمة لـ ’ثقافة الاستهلاك’؟

علي لفتة العيساوي

يعرّف البعض العولمة باختصار هي نشر ثقافة الاستهلاك، أو هي ظاهرة اقتصادية الهدف منها السيطرة على العالم من خلال عالمية الإنتاج، فيكون العالم وفق مفهوم العولمة ينقسم الى قسمين دول منتجة اقتصاديا وثقافياً وإعلامياً وفكرياً ودول -وهي الأكثر- تكون مستهلكة غير قادرة بالنهوض باقتصادها لعدم امتلاكها رؤوس الأموال الكبيرة، وغير متطورة تكنولوجياً وإعلامياً مما يجعلها تبقى عيالاً على الدول الكبرى أو ما يسمى بالتحكم الناعم في قبال التحكم العسكري.

[اشترك]

ومن الواضح الى أي مجموعة تنتمي للدول الإسلامية، فهي بالطبع تعيش ضمن الدول المستهلكة التي طالما تشكو من عدم قدرتها بالمحافظة على هوية مجتمعاتها الثقافية بفعل تأثير العولمة، فالنزعة الاستهلاكية أصبحت جزء من ثقافة الواقع بعد أن ترسخت فيها ثقافة المتعة واللذة وهي أبرز ملامح الحضارة المعاصرة التي تؤثر في الانسان.

إذ يقوم المجتمع الاستهلاكي على مبدأ ما يملكه الإنسان، وهو ما يحدد قيمته وذاته، فكلما ازدادت نسبة ملكيته يشعر أنه ارتفعت قيمته ومكانته الاجتماعية.

ولا يكف المنتجون والمصنعون عن تطوير منتجاتهم بإضافة بعض التعديلات عليها، وتدور حلقة جديدة من الماكينات الداعية للمنتج المطور والجديد، ولا تكف أيضا المجتمعات الاستهلاكية عن مواكبة التحديث وشراء السلع المطورة علماً بأن المنتج نفسه في صورته القديمة لا يزال يعمل بكفاءة عالية.

فما إن يظهر موديل لأحد ماركات السيارات حتى يسارع البعض إلى شرائه رغم أنه يركب سيارة موديل العام الفائت، وما أن يشتري هاتف خلوي من أحدث الموديلات حتى يظهر تحديث له في موديل جديد فتراه يسارع أيضاً بشرائه؛ بفعل تفنن أساليب الدعاية بمميزاته وخصائصه، وهوما يسري على كافة السلع والخدمات التي لا نكف عن شرائها وربما في أكثر الأوقات ولا نحتاج إليها فعلياً سوى اللهث وراء كل جديد والتباهي في المجتمع بين الاقران.

تقول الباحثة سارة السهيل: لا غرابة أمام عبقرية الرأسمالية المتوحشة أن تستثمر كل مناسبة في حياة الإنسان لتحولها الى سلعة وتجارة موظِّفة قدراتها على الضغط بالميديا والإعلان الجذاب، مثل الأعياد الدينية وأعياد الميلاد وطقوس الزواج والإنجاب ومواسم الربيع، واستحدثت المهرجانات للاحتفال بالطبيعة واستحدثت كمواسم دخول المدراس والإجازات الصيفية وغيرها لشراء المزيد من السلع والحصول على كل خدمات الترفيه والتسلية.

من جانبه الباحث العراقي محمد حياوي يرى أن: الفجوة أو الفارق الاقتصادي المهول بين الدول الغربية المتطورة صناعياً ودول العالم الثالث قد وسّع الفجوة الكبيرة في مستوى الحياة وأنماطها، وفي الوقت الذي بات فيه الناس في الدول الصناعية أسرى لرأس المال تكبلهم الديون والبطاقات الائتمانية، ما زال نظراؤهم في دول العالم الثالث في منأى نسبي عن هذه الهيمنة.

لكن مجتمعات العالم الثالث تحولت بفضل هذا الفارق الكبير إلى أسواق مفتوحة ومستسلمة لطوفان البضائع والسلع الواردة من العالم الصناعي، الأمر الذي نتجت عنه سلوكيات جديدة، حدّت من تطور الصناعات وعطلت حركة الإنتاج في تلك البلدان بسبب انعدام القدرة على المنافسة، ومع ذلك ظلت العادات الخاطئة والتقاليد البالية تلعب دوراً كبيراً في النزعة الاستهلاكية لمواطني تلك البلدان، على الرغم من عدم تطور تجارة الإنترنت ونظم الدفع الآلي فيها، فتحول الاستلاب الذي يعاني منه الأفراد في المجتمعات الغربية إلى حالة من التفاخر اللاواعي في بلداننا.

وإن المفهوم الثقافي للعولمة ارتبط بفكرة التنميط التثقيف لإعادة بناء الانساق الثقافية (على حد تعبير) لجنة اليونسكو لإعداد مؤتمر السياسات الثقافية من أجل التنمية (الذي عقد في مدينة استكهولم عام 1998، فقد رأت اللجنة أن التنميط الثقافي يتم من خلال استغلال الامكانات التي توفرها ثورة المعلومات وشبكة الاتصالات العالمية وهيكلها الاقتصادي والانتاجي المتمثل في نقل المعلومات والسلع وتحريك الأموال).

تروج العولمة للعديد من الظواهر الثقافية والاجتماعية السلبية والمنحرفة التي تعاني منها البيئة الثقافية، من هذه الظواهر المرضية انتشار ثقافة الاستهلاك، فمن خلال الاستهلاك والشره الغريزي الذي يشارك فيه الانسان، يصبح تمجيد ما هو أجنبي والميل الى استهلاكه أحد رموز المكانة الاجتماعية، ونتيجة ذلك تضيع أو تتلاشى المشاعر المرتبطة بالهوية الوطنية ويندفع البشر رغماً عنهم الى الارتباط بما هو أجنبي وخارجي، على حساب ما هو قومي ومحلي.

ومن الواضح جداً أن مفهوم عولمة الثقافة أصبح واسع الانتشار بما يحمله من مخاوف كبيرة لبعض البلدان، فالتنميط الثقافي هو واجهة للبناء الاقتصادي للعولمة، وهذا يعني أن يكون بناء ثقافة المجتمع وفق التطور الاقتصادي والمعلوماتي؛ ولذلك كان البعد الثقافي للعولمة بعداً اقتصادياً، بعد أن حولت العولمة الإعلام من بعده التوجيهي والتوعوي الى إعلام سلعي، وثقافة العولمة تعد الحرب العالمية الثالثة بين الدول المتطورة اقتصادياً وبين الدول الأقل نمواً.

ومن المعلوم أن ثقافة الاستهلاك قد حولت الحاجات الكمالية غير المهمة في حياتنا الى ضروريات، كي يشعر الفرد بالسعادة من امتلاكه حاجات كمالية، وهذا الأمر يتطلب جهداً أكبر وساعات عمل أكثر من رب الاسرة، وهذا كله على حساب الصحة ووقت الأسرة والتواصل مع الاقارب والأرحام والمطالعة وغيرها من الحاجات الضرورية للفرد، فأصبحت هذه النزعة ظاهرة عامة لافتة للنظر بين أبناء المجتمع بعد أن كانت ثقافة الادخار بين الأسر من قبيل المثل في تلك الايام: احفظ القرش الأبيض ينفعك باليوم الأسود.

المصدر: كتاب الفيسبوك الوطن البديل للشباب

2022/01/13

هل يُحاسب ’الفقيه’ كما يُحاسب ’الحاكم السياسي’؟

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

 

بالضرورة هناك تباين في طبيعة العلاقة التي تربط بين عامة الناس بالنظام السياسي الحاكم وبين طبيعة العلاقة التي تربطهم بمراجع التقليد والفقهاء.

[اشترك]

فالحاكم السياسي هو المسؤول المباشر عن تنفيذ وإدارة المجتمعات، أي أنه يمارس سلطة ذات طابع سياسي واجتماعي واقتصادي وأمني، الأمر الذي يجعل النشاط الإنساني متأثراً بشكل كبير بطبيعة السلطة السياسية التي تحكمه، ومن هنا نلاحظ اختلاف نمط الحياة من شعب إلى شعب بسبب اختلاف النظم السياسية التي تحكمه، ولا يقف التأثير عند النمط العام للحياة وإنما يمتد حتى في صياغة شخصية الأفراد والمجتمعات، فمثلاً المجتمعات التي تعيش في ظل أنظمة شمولية وقمعية تختلف في مستواها النفسي والتربوي والعلمي والحضاري عن المجتمعات التي تعيش في ظل أنظمة ديمقراطية تتمتع بالحريات، ومبدأ المحاسبة الشعبية الذي أشار له السائل يمكن تصوره في ظل أنظمة تتمتع بديمقراطية حقيقية، وذلك لكون السلطة اكتسبت شرعيتها من الأساس من عامة الناس، أما الأنظمة الديكتاتورية فإنها تكرث حكم الفرد الذي يصادر حق الاخرين في الاعتراض أو ابداء الرائي.

أما طبيعة العلاقة بين عامة الناس وبين المراجع والفقهاء فهي علاقة دينية، لكونها قائمة على نفس الأساس الذي يربط بين المكلف وبين التكاليف الشرعية التي أوجبها الدين، ولذلك تختص هذه العلاقة برابط روحي وخلاقي قائم على الود والمحبة، بعكس العلاقة مع السلطة السياسية التي لا تتعدى حدود الالتزامات القانونية، وعليه فإن سؤال السائل غير متصور إلا في إطار نظرية ولاية الفقيه، ومن المؤكد أن دور الفقيه ضمن نظرية الولاية هو المحافظة على القيم الدينية والمبادي الدستورية للدولة الإسلامية، وطبيعة العلاقة بينه وبين عامة المؤمنين هي الرقابة المشتركة لهذه القيم والمبادي، فإن حاد عنها عامة الناس جاز للفقيه تذكيرهم بها وارجاعهم إليها، حتى لو اقتضى الأمر اجبارهم بالسلطة القانونية، أما إذا حاد هو عنها جاز للأمة تذكيره عبر مجالسها المختصة، فإن رفض أو حاد عنها بشكل لا يمكن تقويمه حينها وجب عزله واستبداله بغيره.

2022/01/12

تجارة الوهم: هل يتدّخل ’الجن’ و ’السحر’ في أرزاقنا؟!

كلّما اخترع الغرب شيئا جديدا أو قدّموا للبشريّة أمرا نافعا أعيد طرح هذا السؤال بين المسلمين وهو: لماذا تجاوزنا الغرب وتقدّموا سريعا وتردّى حال المسلمين وانحطّوا حتّى أصبحوا مضرب المثل في التخلّف عن ركب الحضارة البشريّة!

[اشترك]

هذا الموضوع شغل كثيرا من المفكّرين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فكتبت فيه كتب كثيرة وقدّمت عدّت نظريّات لتقديم تفسير واضح لهذا الانحطاط الذي يعيشه المسلمون بحيث أنّنا نجد أنفسنا أمام عدّة أسباب حرّرتها هذه الأقلام تكشف حقيقة الحال وسبب تردّي الأوضاع.

من الأسباب المهمّة لهذه الحالة والتي لابدّ أن نعالجها بنفس جدّية الأسباب الأخرى "تجارة الوهم"

عندما يريد الإنسان أن يدبّر أمور حياته اليوميّة فإنّ العقل يحكم بأنّه ينظر إلى أمرين:

الأمر الأوّل: الأسباب الطبيعيّة الخارجيّة

الأمر الثاني: الأسباب الغيبيّة المتمثّلة في التوفيق الإلهي

المشكلة تبدأ عندما ندخل في حياتنا أمورا أخرى نعتقد أنّها تؤثّر تأثيرا مباشرا في حياتنا ونعطيها حيّزا من الاهتمام عند تدبير الأمور بل قد تعطى الجانب الأكبر من الاهتمام بحيث قد يغفل الإنسان عن الأمور المؤثرة فعلا ويهتمّ بهذه الأمور!

فمن هذه الأمور:

- قضيّة السحر وتأثير عالم الجنّ

- قضيّة العين والحسد

- وقضيّة الأحلام والمنامات

 وغيرها من الأمور التي ينظر لها على أنّها عوامل مؤثّرة في الواقع تأثيرا كاملا بحيث أصبحنا نعلّق عليها كلّ فشل وسقوط في حياتنا، فالإنسان عندما يتعثّر له موضوع في حياته إمّا اجتماعي كقضايا الأسرة أو اقتصادي كقضايا المال والأعمال فإنّ العقل والمنطق يقول بأنّه يبحث بكلّ تجرّد أو موضوعيّة في الأسباب التي أوصلته لهذا الفشل لكي يتجاوزها في المستقبل للوصول للنجاح.

لكن عندما يكون الإنسان معتقدا بالأمور التي ذكرناها فإنّها ستعميه عن التقييم الحقيقي لتجربته الفاشلة فيقوم بتعليق الفشل على السحر أو العين، أو قد يجتنب الدخول في تجربة جديدة لرؤية رآها في منامه فتصبح كلّ حياة الإنسان رهينة هذا الوهم الذي يعيشه!

والمشكلة الأعظم عندما تكون هناك فئة تعمّق هذه الأمور في المتخيّل الشعبي بتأكيدها والإصرار عليها بل باستغلال هذا الوهم الزائف في تحقيق أرباح ماديّة ضخمة، ولذلك اليوم نجد متصدّين لهذا الشأن بل نجد فضائيّات خاصّة بهذه الأمور، والأعجب من هذا أنّ لها جمهور ومتابعين يقضون الأوقات الطويلة في متابعتها بل والمشاركة في تمويلها ودعمها!

لو رجعنا إلى العرب قبل الإسلام لوجدنا أنّ لهم عادات شبيهة بهذا، فقد كانوا يستقسمون بالأزلام ويذبحون على النصب ولا يحدثون أيّ أمر إلّا بعد النظر في النجوم، وجاء الإسلام ليحارب كلّ هذه الظواهر وليعلّم الناس كيفيّة التوكّل على الله وتدبير الأمور وأنّ النجاح ليس وليد هذه الأمور بل وليد العمل الدؤوب المستمرّ كما كانت سيرة النبي وآله الأطهار عليهم السلام.

والحلّ للخروج من هذا الأمر هو القيام بحملة توعية للمجتمع للتخلّص من براثن هذا الوهم الزائف ومن كلّ من يروّجه في المجتمع، وفي المقابل تعليم الناس سنن الحياة وسنن التغيير لكي نشكّل واقعا مختلفا.

2022/01/08

ستيفن هوكينغ: الكون يخلق نفسه! ما رأيكم بـ ’نظريات عاجزة مثقلة بالخيال’!

كتب د. عبد الله زيعور

وفق آخر مُعطيات الفيزياء الحديثة، شكّلت حقيقة الانفجار العظيم أو «البيغ بانغ» إجماعاً تسالم أهل الفيزياء والفلك على حقيقة حصوله، وأنَّ للكونِ بداية وهذه البداية تعقبها نهاية، وأنّ القراءة في نتيجة الانفجار العظيم تُطيح بمقولة أزليّة المادّة، وأزليّة الكون، وتنسف أركان الفلسفات التي كانت قائمة على المادّة كأصل، وفي عام 2014م جاء رصد الموجات المتبقية من الانفجار العظيم، ليضع أهل الفيزياء أمام مشهد في منتهى الوضوح: لا سبيل لتجاوز حقيقة البداية للكون أوّلاً.

[اشترك]

وثانياً، لا سبيل لأهل الخبرة من تجاوز معادلة: يقينٌ علميّ بالبداية والخلق وفق «البيغ بانغ»، مقابل نظريّة هوكينغ «الأكــــوان المـــــتعدّدة»، المثقلة بالاحتمال والخيال والافتراض، والتي يقول عنها هوكينغ كلاماً تتنصَّل منه الفيزياء وكلّ المنهجيّة العلميّة مثل: «إنَّ قوى الجاذبيّة هي التي تخلق الكون» أو قوله: «ما دام يُوجد قانون كالجاذبيّة، فالكون يخلق نفسه من لا شيء»، والخلق التلقائيّ هو سبب وجود شيء بدلاً من لا شيء.. وعليه ليس لازماً أن نُقحم إلهاً للكون، ولكن عندما يقول: «كلامي مجرّد فرض لا يمكن اختباره» فهذا يؤكّد اعترافه بعجز نظريّته عن أن تقدّم شرحاً علميّاً لخلق الكون.

والواقع أنّ نظريّة الأكوان المتعدّدة، تُعاني نقطة ضعف قاتلة، وهي افتقارُها إلى التجربة، واستحالة خضوعها لأجهزة القياس، عندما تشرح أموراً عن أكوان مُتعدّدة لا نراها، بل ليس بمقدور أجهزة القياس الأعظم في العالم وفي تاريخ الفيزياء أن تؤكّدها. وإنّما تُقدّم قراءة ذاتيّة شخصيّة في معادلات تحمل عدداً يُغيّر حلًّا خياليّاً من الحلول: 10500 حلًّا، والزعم أنّ كلّ حلّ من هذه الحلول يُعادل كوناً يختصّ به!

لقد كان الادّعاء بنتائج الأكوان المتعدّدة وتحديداً الفلسفيّة منها، والتي تُعبّر عن وجهة نظر خاصّة يجري تسويقها على أساس أنّها الحقيقة العلميّة الوحيدة افتراءً على العلم التجريبيّ، وهو ليس العلم الذي نعرف، وحسبهم أنّ مقاييس الحصول على جائزة نوبل لا تنطبق عليهم، لأنّ ما قُدِّم يُعتبر نظريّة لا سبيل لتأكيدها.

وبالعودة إلى كتاب هوكينغ «التصميم العظيم»، فإنّنا نتلمّس فيه حشواً مقصوداً بكلام عن تاريخ مُستغرب للعلم، ونظريّات فلسفيّة تبحث عن أسواق لتصريفها، وإكثار مُستهجن للرسومات الكرتونيّة، التي ملأت الكتاب الذي يخلو من أيّ مرجع علميّ، أو أيّ معادلة رياضيّة، كما أنّ الزجّ بأساطير مُضحكة للأديان الوثنيّة في أدغال أفريقيا وصحاري أستراليا، مروراً بديانات الهنود الحمر، وأساطير أخرى قديمة، وانتهاءً بقصّة الخلق في الكتاب المقدّس، وقصّة صِدام العلم مع الإنجيل، حيث يُمعن في السخريّة منها، تورية وتصريحاً، ليصل إلى نتيجة: إنَّ الدّين لا أمل منه ولا فائدة منه، وفي ذلك تناسٍ مُتعمّد لموقع العلم في الإسلام، والحثّ على طلبه ووُجوب المُضي في تحصيل أسبابه، وفي ذلك أيضاً سقطة، نزعت عن كتابه الموضوعيّة والدقّة، وشروط الحد الأدنى للبحث العلميّ، شأنه شأن الغرب كلّه، في الافتراء على الإسلام والتحامل عليه، وتغييب رُؤاه الفلسفيّة، التي تُعلي من شأن الإنسان ولأجل الإنسان، والتي تصلح أن تكون نموذجاً يقدَّم للإنسانيّة الحائرة اليوم.

لقد كان هوكينغ واثقاً بقوله: إنّ كلّ ما هو موجود نُفسّره بما يُسمّى: قوانين الطبيعة التي تحوي كلّ القوى وكلّ المبادئ التي تقود العالم المادّيّ. لكن وفي وقفة مُتأنيّة أمام هذه المقولة، نقول؟ ما دامت قوانين الطبيعة هي سبب الوجود، ينبغي إذاً أن تكون موجودة قبل نُشوء الأكوان، وحيث إنّ الفضاء والزمان هما من أبعاد الكون الموجود، فالقوانين الطبيعيّة يجب أن تتموضع خارج الفضاء والزمان وهما من أبعاد الكون الموجود، إنّ قوانين الطبيعة، كمصادر لا نهائيّة للزمن المحدود وللفضاء المحدود، يجب أن تكون أزليّة: نحن إذاً أمام طاقة لا نهائيّة، مجرّدة، غير فيزيائيّة، خارج حُدود الزمان والمكان، وبالكامل أوجدت الكون، وستيفن هوكينغ يُفضّل أن يُعبّر عن الخالق غير المتناهي بقوانين الطبيعة، ولكنّ هذا لا يمنع غالبية الناس من أن يُسمّيها الله تعالى!

نحن هنا لسنا في موقع النيل من العلم ومسار العلم، لأنّنا من دُعاة ترك المسار العلميّ ينطلق ودون أيّ عقبات أو تدخّلات شخصانيّة أو تسويق لدعايات فلسفيّة، ونحن بالأصل من ضحايا هذا الخلط بين الرأي العلميّ والرأي الشخصيّ، لا بل إنّ مشكلتنا مع هوكينغ هي في تجاوزه الحقائق العلميّة وإصداره لآراء شخصيّة بحتة لا شأن للعلم بها، والزعم أنّها من العلم، وقد ذهب بعيداً بقوله: إنّ من يُعارضه فإنّما هو عدوّ للعلم، وفي الموقع نفسه؟ مع القبائل البَدائيّة في أدغال أفريقيا. وهذه دكتاتوريّة فكريّة وقمعٌ للرأي الآخر.

الصدفة وتفسير حركة الكون

في المقابل، فإنّ علماء الفيزياء والفلك، وفي أكثر مدارس الفيزياء الحديثة، باتوا مُقتنعين بأنَّ الكون يعمل بهدي وإيقاع مُنتظم، تُشرف عليه قوّة راشدة وعاقلة، وكأنّ ثمّة دافقاً؟ سرّيّاً يقود حركة المادّة الصمّاء نحو الأرقى، ونحو النظام والتناظر والوعي الدقيق لحركة الوجود.

 وفي الجانب الآخر أكدّت قوانين الرياضيّات وتحديداً قوانين الاحتمالات فيها، استحالة الصُّدفة وعجزها كسبيل لتفسير حركة الكون الرائعة في الإبداع والنظام الدقيق في العوالم المتناهية في الصغر وفي الكبر، فيما يقود الغوص في أعماق المادّة إلى اللا مادّة، وإلى المفهوم والوعي المجرّد الذي يُفيد أنّ المادّة ليست الحقيقة المطلقة، وأنّ العقل هو الأساس والمنطق. ولن نترك المسألة تنتهي عند أقوال جهابذة الفيزياء الثوريّة الحديثة، بل سنعود إلى كلام رائع ذكره أحد عمالقة الفيزياء وهو «إسحق نيوتن» الذي يذهب في قراءة الطبيعة من وجهة العلّة الأولى، ليصل إلى فكرة القوّة الإلهيّة الضابطة للحركة في الوجود، حيث يقول في إحدى رسائله العلميّة عام 1692: «إنَّ حركات الكواكب الراهنة لا يُمكن أن تكون قد انبثقت من أيّ علّة طبيعيّة فحسب، بل كانت مفروضة بقُوّة عاقلة».

إنّ القوانين الكامنة في الذرّة، هي عينُها الحاكمة بين المجرّات الهائلة في الكون، فوحدة القوانين إشارة تغدو معها الصُّدفة خيالاً، وإنّ الفيزياء الحديثة تجد الله تعالى من جديد عبر معانٍ مُتعدّدة منها ما قبل الانفجار العظيم وما بعده، على نحو لا تُسمّيه الفيزياء بأفضل من كلمة «خلق».

2022/01/05

حركات بـ ’خطاب تعبوي’ معارض: هل للإسلام مشروع سياسي؟!

إذا انطلقنا من الواقع وقمنا بتحليل عام للمشهد السياسي في البلدان الإسلامية، لوجدنا أن الإسلام مستبعد بالفعل عن المشهد السياسي فيما يتعلق بأنظمة الإدارة والحكم، وما هو موجود من حضور إسلامي لا يتعدى الهوية المجتمعية، وهو الوصف الذي يقر بالإسلام كإطار عام للانتماء، وكل ما يحتاج اليه تشكيل هذا الإطار هو التأكيد على المبادئ العامة المتمثلة: في الإقرار بالعقائد الإسلامية، والالتزام بالأحكام الشرعية عبادات وبعض المعاملات.

[اشترك]

أما المحتوى الذي يمثل العمق الفلسفي لهذه العقائد، ومدى انعكاسها على الواقع الثقافي والسياسي للأمة، فإنَّه الجانب المهمل أو المغيب أو المشوه أحياناً، وكذلك الحالة بالنسبة للأحكام الشرعية؛ التي تحولت الى مجرد طقوس لا تتفاعل مع أهدافها الأساسية وقيمها التشريعية، ومن هنا افتقدت الأمة الإسلامية- في الحالة العامة- كل تصور يمكنه التفاعل مع تطلعات الناس وحاجاته الحياتية، وبكلمة مختصرة: إنَّ المشهد المهيمن على الواقع الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، لا يرتقي إنَّ يكون تعبيراً صادقاً عن نظام الإسلام في الحكم والإدارة.

فمنذ انَّهيار الصورة الكلاسيكية للإسلام السياسي، أو ما يسمى بالخلافة الإسلامية، وبخاصة بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية (1924م) تشكلت كل دويلات العالم الإسلامي على أساس نظم سياسية لا توصف بكونها إسلامية، حيث أصبحت النظم السياسية السائدة هي العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة أو نسبتها فقط للعوامل والأبعاد الخارجية، بعيداً عن حقيقة الوعي الذي تختزنه عقلية الأمة حول الإسلام، فلو كان الإسلام في عمق وعي الأمة يمثل خياراً للعمل السياسي، ومشروعاً للحكم، وبرنامجاً حضارياً متكاملاً، حينها يصح لنا القول: إنَّ الأمة أصبحت تعيش حالة من الردة الحقيقية عن الإسلام؛ لإنها تمسكت بخيارات سياسية بعيدة عن الإسلام.

فلم نجد في نفسية الأمة أي حالة من التناقض بين طبيعتها الإسلامية، وبين تبنيها لتصورات سياسية يسارية أو يمينية، فكل الأفكار السياسية والإنسانية وجدت طريقها إلى العالم الإسلامي، ومع ذلك لم تشعر الأمة بأي تناقض بين تمسكها بالإسلام، وبين هذه التيارات الدخيلة والمستحدثة، بل حتى الأحزاب السياسية ذات الخلفيات الإلحادية وجدت لها طريق وسط الأمة وتفاعلت معها الأجيال المسلمة، كالحزب الشيوعي الذي أصبح خياراً سياسياً وازن في كل الأقطار الإسلامية على الأقل في بعض المحطات السياسية من تاريخ العالم الإسلامي، الأمر الذي يؤكد حالة الانفصام بين الهوية الإسلامية الأصيلة وبين خيارات الأمة السياسية.

ولا أظن إنَّنا نجانب الحقيقة إذا أشرنا لوجود خلل في طبيعة الوعي الذي تختزنه الأمة للإسلام، فحصر الاهتمام بالإسلام ضمن حدود الهوية والإطار فقط، دون الاهتمام الواضح بمحتوى الإسلام الثقافي والحضاري والسياسي يؤكد هذا الخلل، مما يجعل من الضروري إيجاد معالجات معرفية حقيقية تستوعب الإسلام كنص مازال متفاعلاً مع حاجات الإنسان وطموحاته في كل الأوقات، وإذا تحقق هذا الوعي يكون حينها من الطبيعي السؤال عن نظام حكم إسلامي لواقعنا المعاصر، أما بدونه لا يمكن تصور نظام سياسي أو اقتصادي في ظل هذا الفهم المهيمن على الخطاب الإسلامي.

وعليه يمكننا القول إن المشروع السياسي للإسلام مازال غامضاً وغير واضح المعالم، وقد انعكس ذلك في التباينات بين الحركات الإسلامية التي اهتمت بهذا المشروع، كما انعكس في فشل هذه الحركات بإقناع الأمة بالخيار السياسي للإسلام، فنحن أمام وعي سياسي يمثل الأغلبية والطابع العام للعالم الإسلامي، حيث استطاع هذا الوعي أن يستوعب كل الخيارات السياسية، وفي المقابل لم يتمكن من تحقيق التفاعل المطلوب مع الخيار الإسلامي، الأمر الذي يدعونا أما في التشكيك في وعي الأمة بالإسلام، وإما في التشكيك في الخطاب السياسي الذي تقدمه هذه الحركات الإسلامية، ويبدو أن كل الأمرين في حاجة إلى مراجعات نقدية، فوعي الإمة بالإسلام وعي قشري

لا يمكن الوثوق فيه والاعتماد عليه، كما أن خطاب الحركات الإسلامي في معظمه خطاب تعبوي، أهتم بالمعارضة من دون الاهتمام بالجانب العملاني الذي يضع تصورات عملية لإدارة شؤن الدولة وفقاً للسياسية الإسلامية، وما تنادي به الحركات الإسلامية لا يتجاوز حدود الشعار ومجرد الدعوة إلى حكم الله، فالحركات الأكثر واقعية لم تتميز في الشكل السياسي عن الأحزاب الأخرى إلاّ في إطار تبنيها لشعار الإسلام، أما فيما يخص نظام الحكم والهيكلية الإدارية وكيفية الوصول الى السلطة وشرعية الحاكم فهي تمارس السياسة كما يمارسها الآخرون.

ومن الصعب في هذا المقام مناقشة كل هذه القضايا والتفصيل فيها، ولذا سوف نختصر الإجابة في وضع تصورعام للنظام السياسي في الإسلام.

من المؤكد إن الإسلام في حقيقته نظام معرفي وقيمي وتشريعي، الأمر الذي يجعل وظيفة المكلف هو العمل على أنزال هذه المعارف والقيم والتشريعات على واقعه الحياتي، بمعنى أن السلوك الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة محكوم بنظام من المعارف والقيم والتشريعات، وبما أن تفاعل الإنسان مع الواقع الحياتي رهين بالمتغيرات الزمانية والظرفية، حينها تتعاظم وظيفة العقلاء في اختيار كل الوسائل والخيارات التي تمكنهم من تجسيد تلك المبادي الإسلامية، ومن هنا لا يتدخل الإسلام في الأمور الإجرائية وإنما يكتفي بالتدخل في ضبط القيم والمبادي العامة، فمثلاً الإسلام جعل العدالة قيمة محورية إلا أنه لم يتدخل في بيان الوسائل التي تحقق العدالة في كل مسألة من المسائل الحياتية، وإنما جعل تحديد ذلك للإنسان بوصفه كائن عاقل قادر على التمييز بين الخيارات، ولو أردنا أن نطبق مثال العدالة على النظام السياسي، لا يمكن أن نتصور تدخل الإسلام في بيان شكل الحكم الذي يحقق العدالة للجميع، فلا يتحدث عن الانتخابات أو عن توزيع الدوائر الانتخابية، كما لا يقرر بأن الحكم الفدرالي أو الكونفدرالي أكثر عدالة من الحكم المركزي، وإنما تحديد ذلك موكول للإنسان، ومن ذلك نفهم أن الإسلام لا يقدم تصورات إجرائية للعمل السياسي وإنما يقدم منظومة من القيم يجب مراعاتها في كل الخيارات السياسية، وعليه يمكننا القول إن السياسية بمعنى تحديد شكل الحكم وكيفيته والهيكلية الإدارية وغيرها من الأمور لا وجود لها في الإسلام، أما السياسية بمعنى وضع المبادي والقيم الدستورية والحقوقية فهي من صميم الإسلام ومن أهم أولوياته.

وإذا اعتمدنا هذه الوصف يمكننا أن نُعرف الدولة الإسلامية بكونها الدولة التي تعتمد على قيم الإسلام ومبادئه كأصول دستورية لكل تشريعاتها وقوانينها، وتبقى هناك معضلة الحدود التي شرعها الإسلام من قطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه إذا كان محصناً وغيرها، هل تمثل الحد الفاصل بين النظام الإسلامي وغير الإسلامي؟

في تفكير أهل السنة لا يمكن فهم الدولة الإسلامية إلاّ بإقامة الحدود، بوصفها حدود الله التي لا يجوز تخطيها، فمن أراد أن يقيم شرع الله يتعين عليه تنفيزها، وهذا ما يفسر لنا حرص الجماعات الإسلامية على إقامة هذه الحدود في المناطق التي تسيطر عليها، وهناك عشرات مقاطع اليوتيوب التي تكشف عن هوس الإسلاميين في إقامة الحدود بالشكل الذي تنفر منه طباع البشر جميعاً، وكذلك كان الحال مع دولة طالبان، والعجيب إنَّ بعض الدول في المنطقة تصنف كدول إسلامية وهي لا تقيم من الإسلام إلاّ الحدود، الأمر الذي يؤكد محورية هذه الحدود وأهميتها لإقامة نظاماً إسلامياً وفقاً للتفكير السني، والحكومة الإسلامية ضمن هذا التصور تتعارض مع  المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، الأمر الذي يجعل المشروع الإسلامي بين خيارين إما الاعتراف بهذه المواثيق ومن ثم التخلي عن هذه الحدود، وإما الكفر بهذه المواثيق ومن ثم إقامة دولة معزولة عن المحيط الدولي كما هو الحال مع الدولة التي أرادت داعش أن تقيمها، وكلا الخيارين يشكك في مقدرة الفكر السني في إقامة دولة إسلامية.

أما الحدود في الفكر الشيعي فهي لا تشكل عقدة أمام إقامة دولة إسلامية، وذلك لأنّ الدولة الإسلامية في المفهوم الشيعي تتصور في بعدين الأول: هي الدولة الإلهية التي يشرف على إقامتها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مباشرة أو الإمام المعصوم المنتخب والمعين من قبل الله، وهذه الدولة تمثل إرادة الله بلا خلاف طالما ثبت استخلاف الله للنبي وأهل بيته، ومن هنا لا يمكن أن يفكر الإنسان الشيعي أن ينوب عن الإمام لإقامة خلافة الله في الأرض طالما الإمام موجود، وينحصر تكليفه حين إذن بأتباعه والانصياع لأوامره، وإقامة الحدود هو من اختصاص هذه الدولة، فلا يحق لأي إنسان لم يفوضه الله تعالى أن يقطع يد السارق او يرجم الزاني أو غيره من الحدود، حيث لا يقيم الحد إلاّ الإمام المعصوم فمن له حق تطهير المجتمع لابد اتصافه هو أولاً بالطهارة وهذا ما ثبت لأهل البيت) عليهم السلام)، في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

أما التصور الآخر للدولة وهي في فترة غيبة الإمام (عجل الله فرجه) بمعنى إقامة نظام سياسي يحافظ على المجتمع الإسلامي، فإن هذا النظام مهما بلغ من الطهر والعدالة لا يمكن أن يدعي فيه إنسان إنَّه ممثل عن الله أو كاشف عن إرادة الله سبحانه وتعالى، وإنما حال هذا النظام كحال الفرد المسلم، فكما إنَّ الفرد المسلم مكلف بتطبيق الإسلام على سلوكه الشخصي وفي الوقت نفسه لا يدعي الكمال والعصمة ولا يمكنه الجزم برضى الله تعالى عنه، كذلك الحال في شأن المجتمع المسلم فهو مكلف أن ينتظم في إطار اجتماعي يجسد قيم الإسلام وتشريعاته من غير أن يدعي الكمال أو يعتقد بإنَّه شعب الله المختار، وكما يجوز وصف الفرد المسلم المطبق لشرائع الإسلام بكونه مسلم كذلك يجوز وصف النظام الاجتماعي المنضبط بقيم الإسلام وتشريعاته بأنَّه نظام إسلامي، والنظام السياسي الذي يقيمه المجتمع المسلم ليس مؤهل لإقامة الحدود، فالإسلام لا يجيز قطع يد السارق إلاّ في حالة إنَّه وفر له كل ظروف الحياة الكريمة ووفر له كل فرص العيش الهني وهذه المرتبة لا يمكن أن يدعيها أي نظام، وكذلك لا يرجم الزاني او يجلده إلاّ إذا أقام له مجتمعاً طاهراً عفيفاً ووفر له كل فرص الزواج حيث لا يكون له أي مبرر للزنى، وهذا لا يعني التنكر على هذه الحدود أو الكفر بها وإنَّما يعني الاعتراف بها كتشريع لم تتوفر له شروطه الموضوعية لتطبيقه.

وبهذا التفصيل بين الدولة الإلهية التي يقيمها الله تحت اشراف أنبيائه ورسله والأئمة الذين اختارهم لذلك وبين الدولة التي يقيمها المسلمون نظماً لأمرهم والتزاماً بدينهم، نكون قد تجاوزنا كثيراً من العُقد التي تواجه المشروع الإسلامي المعاصر، وفي نفس الوقت قطعنا الطريق امام كل من يريد أن يصادر حريات الآخرين باسم الله طالما النظام المنشود هو خيار بشري وليس إلهي. وتظل دائرة الاجتهاد مفتوحة أمام كل الخيارات التي تقرب الناس لخيرهم الديني والدنيوي بعد أن يتم تسالم الجميع على ثوابت الإسلام، ومن هنا نؤكد على أن هذا النظام لا يصلح إلاّ في دائرة المجتمعات المسلمة التي اختارت الإسلام كنظام للحياة، وبذلك نرفض كل محاولة تستخدم القوة والاكراه لإقامة دولة إسلامية. 

2022/01/03

هل يعالج الدين ’الأمراض النفسية’؟

قبل الوقوف على الدور الإيجابي للدين فيما يصيب النفس من توتر وعدم استقرار، لابد من الوقوف على الأسباب التي تؤدي لمثل هذه المشاكل النفسية، فلو ثبت أن الدين يقدم معالجات حقيقيةً لتلك الأسباب حينها يمكننا الجزم بدور الدين في العلاج النفسي.

[اشترك]

إلا أن البحث عن تلك الأسباب ليس بالأمر السهل لوجود تباين حولها بين المختصين في علم النفس، فهناك مدارس ونظريات متعددة ولكل واحدة منها تشخيصاتها الخاصة للأمراض النفسية، ومن هنا سوف نكتفي بالرؤية النهائية بعيداً عن التفاصيل التي تمثل مورد اهتمام للدارسين لعلم النفس، ويبدو أن المدرسة التحليلية التي بدأت مع فرويد شكلت الأساس لكثير من الدراسات الجدية لتركيبة النفس الإنسانية، ومع أن نظرية فرويد اختصرت الإنسان في جانبه الغريزي إلا أنها أشارت إلى تأثير العقل الباطن في خيارات الإنسان السلوكية، حيث حملت المدرسة التحليلية لفرويد اللا شعور والعقد الكامنة فيه مسؤولية الوضع النفسي، أي ما نراه من سلوك واع هو تعبير عما لا نراه من سلوك لا واع في الباطن، ومع أن هذه المدرسة امتلكت قدرةً تحليليةً مقدرةً إلا أنها لا تعكس رؤيةً فلسفيةً شاملةً لها القدرة على تفسير كامل للإنسان؛ وذلك لكونها غفلت عن الجانب الروحي واختصرت الإنسان في مجموعة من الغرائز البدائية، وبخاصة الغريزة الجنسية التي أرجع إليها فرويد كل الأسباب المؤدية للاضطرابات النفسية، وفي ذلك إهمال متعمد لعوامل البيئة والثقافة وجميع مؤثرات المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، وقد التفت العلماء لهذا القصور فعملوا على تطوير المدرسة التحليلية بحيث تستوعب جميع هذه الأسباب، ولذا اعتبر روادها الجدد أن المشكلة النفسية تعود إلى خليط بين الثقافة واللاشعور، واعتقد آخرون أن المحرك الأساس للأزمات النفسية هو الثقافة والتنشئة الاجتماعية، وهكذا بدأ علم النفس التحليلي يوسع دائرة الأسباب كما يوسع تبعاً لذلك أساليب العلاج، فكان من الطبيعي أن تصبح تقوية الروح والإرادة الإنسانية من العوامل المهمة لعلاج الأمراض النفسية، وبذلك تجذرت مدرسة جديدة قائمة على العلاج بالمعنى، أي تحفيز النفس الإنسانية بمعان إيجابية وبنظرة متفائلة للحياة، الأمر الذي يفتح الباب أمام الدين ليكون في عمق المعالجات النفسية، وذلك لكون الدين له قدرات خاصة في التحفيز الإيجابي وخلق الأمل من خلال رسم معان جديرة بالاهتمام فيما يخص الحياة، وبالتالي أقل البشر عناءً وشقاءً هم الذين يمتلكون معنىً يدفعهم إلى الاستمرار في الحياة، وحقيقة الدين قائمة على توسيع إطار الحياة بحيث لا تتوقف عند حدود المادة وما فيها من عناء، وإنما يجعل من الحياة رؤيةً متكاملةً تستوعب أيضاً القيم السامية والأهداف العالية، وبذلك يتمكن الإنسان من تجاوز كل عقبات المادة وضغوطاتها، كما أن الارتباط بالله بوصفه المهيمن على الوجود والقادر على كل شيء يورث الإنسان ثقةً عاليةً لا تدعه يستسلم للإحباطات، أما من يعتقد أن الحياة نتاج لتقلبات الطبيعة وأن المادة هي المتحكمة في مصير الحياة، لا يجد سبيلاً غير الاستسلام والخضوع للحوادث الطارئة والظروف القاهرة، ولا شك من يخيم عليه هذا التفكير سوف تتحول حياته إلى جحيم، قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا) وهذا بخلاف من ينطلق في الحياة من وحي الإيمان بالله تعالى، حيث يكون متحدياً لكل قيود الحياة ومتجاوزاً لكل ما يقال عنه حتميات، وكلما ازداد الإنسان وعياً بهذه العقيدة، كلما ازداد عزماً، ونشاطاً واستقامة.

فحياة الإنسان مليئة بالعقبات، التي تحيط بواقعه الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، ولا يتجاوزها الإنسان إلا إذا كان مشبعاً بالأمل في الله، معتقداً في قدرته على كل شيء، وبذلك يكون الدين بشكل عام والإسلام بشكل خاص هو الذي يلهم الإنسان آليات التحدي والتغيير للواقع، من خلال بث روح المثابرة والصبر على الأذى والإصرار على بلوغ الغايات، وعليه فالدين مهم جداً لخلق السكينة في النفوس والوعي في العقول والعزيمة في الإرادة، قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ۗ ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وقال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء كذٰلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) 

وفي المحصلة، إن الدين يقضي على أسباب التوتر والاضطراب قبل حدوثها من خلال بناء شخصية واعية للحياة ومتأملة في عون الله وتوفيقه.

2021/12/30

من يُسأل ومن لا يُسأل في القبر؟!

يذكر الشيخ المفيد أن هناك أناساً لا يعذبون في القبر وإنما ينتظرون البعث وهناك أناس ينعمون ويعذبون وهم من محض الإيمان والكفر محضاً. 

فهل هناك من العلماء من يرى هكذا رأي أيضاً أم لا؟ 

[اشترك]

لقد أفاد الشيخ المفيد ذلك في أجوبته على المسائل السروية، وقد نقلها عنه العلامة المجلسي في بحاره حيث قال: وقال الشيخ المفيد رحمه الله في أجوبة المسائل السروية حيث سئل: ما قوله أدام الله تأييده في عذاب القبر وكيفيته؟ ومتى يكون؟ وهل ترد الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين؟

الجواب: 

الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل. 

وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: ليس يعذب في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر محضاً، ولا ينعم كل ماض لسبيله، وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضاً، فأما ما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم، وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصةً، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه، فأما عذاب الكافر في قبره ونعيم المؤمنين فيه فإن الخبر أيضاً قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته ينعمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزق ثم أعاده إليه وحشره إلى الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد، فلا يزال منعماً ببقاء الله عز وجل غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل تعدل طباعه، وتحسن صورته، فلا يهرم مع تعديل الطباع، ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب، والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محل عذاب يعاقب به، ونار يعذب بها حتى الساعة، ثم أنشئ جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه، ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه، وقد قال الله عز وجل اسمه: "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" وقال في قصة الشهداء: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" فدل على أن العذاب والثواب يكونان قبل يوم القيامة وبعدها، والخبر وارد بأنه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا، والروح ههنا عبارة عن الفعال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصح معها العلم والقدرة لأن هذه الحياة عرض لا يبقى ولا يصح الإعادة فيه فهذا ما عول عليه بالنقل وجاء به الخبر على ما بيناه) (بحار الأنوار، ج6، ص 272)  

وقد وافق العلامة المجلسي الشيخ المفيد بقوله: (اعلم أن الذي ظهر من الآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة والبراهين القاطعة هو أن النفس باقية بعد الموت، إما معذبة إن كان ممن محض الكفر، أو منعمةً إن كان ممن محض الإيمان، أو يلهى عنه إن كان من المستضعفين، ويرد إليه الحياة في القبر إما كاملاً أو إلى بعض بدنه كما مر في بعض الأخبار، ويسأل بعضهم عن بعض العقائد وبعض الأعمال، ويثاب ويعاقب بحسب ذلك، وتضغط أجساد بعضهم، وإنما السؤال والضغطة في الأجساد الأصلية، وقد يرتفعان عن بعض المؤمنين كمن لقن كما سيأتي، أو مات في ليلة الجمعة أو يومها أو غير ذلك مما مر وسيأتي في تضاعيف أخبار..)  

ويتضح من ذلك أن ما قاله الشيخ المفيد والعلامة المجلسي مصدره روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فقد عقد محمد بن يعقوب الكليني باباً في الكافي تحت عنوان (المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل) وأورد تحت هذا العنوان مجموعةً من الأحاديث التي تحصر عذاب القبر ونعيمه فيمن محض الكفر أو الإيمان، ومثال لذلك عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً والآخرون يلهون عنهم). وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضاً والكفر محضاً وأما ما سوى ذلك فيلهى عنهم). وعن منصور بن يونس، عن ابن بكير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال، إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضاً والكفر محضاً وأما ما سوى ذلك فيلهى عنه) (الكافي - الشيخ الكليني - ج ٣ - الصفحة ٢٣٥) 

وأورد العلامة الحلي في كتابه (الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، ولا يسأل في الرجعة إلا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، قلت: فسائر الناس؟ قال: يلهى عنه) (ج1، ص 254) 

وفي المحصلة ما قاله الشيخ المفيد ليس وجهة نظر شخصيةً حتى يتم الرد عليه، وإنما تابع في ذلك لروايات أهل البيت (عليهم السلام)، ولم نقف على من خالف هذا الأمر من العلماء.

2021/12/25

أدوات ناعمة وعناوين براقة تهدد المجتمعات الإنسانية.. 8 طرق للمواجهة

بسمه تعالى

السؤال: يجد الشخص المسلم من بعض الجهات توجهاً لفرض ثقافات مغايرة على المجتمع من خلال استخدام جملة من الوسائل كالمال والإعلام، فما هي طرق العلاج والوقاية؟

[اشترك]

الجواب: يجد أي متابع للساحة الثقافية والإعلامية والنشاطات المختلفة أن هناك صراعاً ثقافياً بالفعل بين المجتمعات المعاصرة، حيث تسعى بعض هذه المجتمعات إلى النفوذ في المجتمعات المغايرة له في ثقافتها والتأثير عليها لتفقد خصوصياتها وتتبع ثقافة المجتمع الآخر.

وهذه صورة حديثة من الصراع في المجتمعات البشرية، حيث كانت الصور السائدة من الصراع من قبل هي الصراعات القومية مثلاً، حيث يسعى بعض الأقوام إلى إزاحة كيان أقوام آخرين بالقتل والاستعباد أو جعل كيانها تابعاً لها من خلال الاستعمار على سبيل المثال، وكذلك الصراعات السياسية التي كان يسعى فيها بعض الحكام للتوسع على حساب حكام آخرين، والصراعات الدينية التي يسعى فيها أهل بعض الأديان إلى فرض عقيدتهم على الآخرين من منطلق توسعة النفوذ، والصراعات الاقتصادية التي تسعى فيها بعض المجتمعات إلى السيطرة على خيرات بلاد مجتمعات أخرى من خلال السيطرة على ثروتها وإمكاناتها أو من خلال جعل أهلها مستهلكين فحسب للسلع التي تصدّر إليهم.

فكانت الصورة الأكثر تطوراً من الصراع في المجتمع البشري هو الصراع الثقافي للتأثير على فئة من المجتمع المستهدف وضرب كيانه وتاريخه وحضارته، خاصةً وأن التأثير أصبح أكثر سهولة بعد اختلاط المجتمعات والأقوام وأهل الأديان والثقافات مع بعضها البعض بفعل وسائل الاتصالات والتواصل الحديثة.

على أنّ هذه الصورة رغم وجهها الثقافي لم تكن تخلو في عمقها عن دوافع قومية وسياسية ودينية واقتصادية.

كما أنّ أدوات الصراع المعاصرة قد اختلفت بعض الشيء عن العصور السابقة حيث كانت الأدوات المعروفة من قبل أدوات خشنة كالاحتلال العسكري والاستعمار الصريح، ولكن أصبحت الأدوات المعتمدة اليوم أدوات ناعمة من خلال عناوين برّاقة لا تثير حساسية المجتمع الذي يتم غزوه ولا تجرح كبرياءه ليدعوه إلى المقاومة، وهي إمّا عناوين فكرية مثل نسبية الحقيقة، أو عناوين أخلاقية مثل حقوق الإنسان التي تُتخذ ذريعة للمطالبة بعناوين أخرى كالحرية الشخصية والمساواة بين الناس، وكل ذلك مما تنطبق عليه المقولة المعروفة: (كلمة حق يراد بها باطل)، وهذا هو الخطر الذي يهدد المجتمعات الإنسانية المعاصرة، حيث إن المجتمع الذي يكون أكثر تمسكاً بثقافته وأكثر امتلاكاً لأدوات التأثير سيكون مهيمناً على المجتمع الذي يكون غافلاً عن مجريات هذا الصراع ويتساهل في التمسك بثقافته وأعرافه الرصينة، وبذلك يكون فريسة سهلة لإزاحة كيانه الثقافي من غير حاجة إلى غزو عسكري واستعمار واستعباد لأهله، ولا استعجال في هذا الصراع، فالمهم أن التغيير الثقافي يتم خلال جيل أو أكثر بشكل تدريجي بعد النفوذ في المجتمع الآخر.

وليس هذا التوجس في أصله مغالاة ناشئة عن سوء الظن والبناء على نظرية المؤامرة، ولكنه واقع يجد الباحث شواهده واضحة من خلال المقارنة بين السلوكيات المجتمعة لتلك المجتمعات إزاء القضايا المتماثلة، ومن خلال طبيعة مساعداتها للمجتمعات الأخرى التي تغزوها والمجالات التي تهتم بها، ومن خلال بعض التصريحات لقياداتها، فضلاً عن الاطلاع على الوضع العالمي واتجاهاته ومسارات الصراع والتنافس فيه وملاحظة التقريرات الاستخبارية التي تتسرب بين حين وآخر، وهناك أمثلة لهذا الصراع مشهودة وواضحة لكل متابع.

وليس مقتضى ذلك أن يكون كل فرد يعمل في اتجاه معين منتبهاً وقاصداً إلى العمل في تلك الاتجاهات المشبوهة، فالإنسان في الحرب الثقافية ـــ بل السياسية ـــ قد يقع من حيث لا يحتسب في سياق معين كبير وواسع ومخطط له من غير أن يستحضر بنفسه حقيقة الدور الذي يؤديه والنتائج التي تترتب على دوره، فيكون لبنة في بناء الآخرين من غير أن يستحضر اتجاه البناء وغاياته وآثاره.

لا ينظر الإنسان المؤمن بالدين الطالب للحقيقة في هذه الحياة إلى هذا المشهد من خلال التعصبات القومية والنعرات الجاهلية أو المصالح المؤقتة.

ولكنه ينظر إليه من زاوية تحري الحقيقة والإخلاص لها والانتباه إلى مسارات الحق والباطل في الحياة، وليس اعتناقه للدين كعقيدة وقيم وسلوكيات تقليداً وعصبية، وإنما هو للإيمان بأنه الفكر الصائب والبصيرة النافذة والرؤية الثاقبة للحياة التي أرادها الله سبحانه لهذا الكون وخلق عليها الإنسان، فالإنسان مزود بفطرة خلق عليها واتجاه يسير إليه ليختبر الله سبحانه معرفته واتجاهه وسلوكه، ليؤتيَ سبحانه كل ذي فضل فضله ويجزيَ الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

ولذلك يجد الالتباسات التي تطرأ في هذا الشأن مصداقاً للشبهات التي يختبر الله سبحانه بها خلقه في الحياة في كل زمان بحسبه، فقد كان لهذا الاختبار صورة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) تمثّلت في عقيدة التوحيد ومحاربة الشرك، ثم كان بعد النبي (صلى الله عليه وآله) في الإذعان لاصطفاء أهل البيت (عليهم السلام) وإمامتهم وكونهم الثقل القرين لكتاب الله سبحانه والعاصم من الضلال، ثم كان في خلافة الإمام علي (عليه السلام) واتباعه في مقابل الشبهات المثارة ممن حاربه، ثم كان في زمان الإمام الحسن (عليه السلام) في الخيار الحكيم بين مسار الصلح والحرب بداية وانتهاء، ثم كان في زمان الإمام الحسين (عليه السلام) في الإباء عن البيعة وعدم الرضوخ للظالم، ثم كان في زمان الأئمة (عليهم السلام) بعد الحسين (عليه السلام) في طبيعة السلوك الملائم مع التحديات حينها.

وإذا كان الإنسان المؤمن دائماً يستذكر الوقائع التاريخية في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) ويتمنى لو كان معهم فيفوز بالاقتداء بهم فينبغي أن يعلم أن لكل زمان شبهاته وفتنه والاختبار الأصعب في هذه الحياة ليس في السير في المسار الصحيح من بعد تشخيصه فحسب، بل التبصر في تشخيص المسار الحق بين الاتجاهات المختلفة والشبهات المكتنفة للحقيقة التي تحجب الرؤية الثاقبة والنافذة لها، وإذا كان المرء يجد الحقيقة في شأن الحوادث السابقة فإنّ ذلك لن يعني بالضرورة أنّه كان يجدها لو عاش حينها، لأن الفتن إذا أقبلت كانت كقطع الليل المظلم، ثم تكشف بعد فترة ـــ كما في كلامٍ للإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة ـــ ولذلك من المهم أن يتبصّر المؤمن في الشبهات والفتن التي اختبر بها في زمانه؛ مستفيداً ومعتبراً ومتعظاً مما مر بالأقوام السابقة من اختبارات،  وذلك باكتشاف الشبهة والاتجاه الحق في ضوضاء الفتنة التي ابتلي بها من خلال التبصر، ثمّ السلوك الصائب والحازم والثابت على المسار الصحيح.

وأمّا طرق الوقاية والعلاج في المستوى الفردي والاجتماعي فهي ترتكز على عدة أمور:

1 ــ التبصّر في الموضوع، بالانتباه إلى أبعاده وآفاقه والتذكير بها، لأنّ الغفلة عن ذلك تؤدي إلى أن لا يعرف الإنسان موضع خُطاه واتجاه سيره حقيقة، ولا يعرف وظيفته في هذا السياق.

2 ــ الاتصاف بالعلم وبالعناصر الثقافية الرشيدة والتثبت أو التوقف في المواضع المناسبة، فإن التسلح بذلك يعطي المرء القدرة على التمييز بين الحق والباطل وبين الحقيقة والخرافة، ويُجنب المرء الوقوع في مستنقعها والاتصاف بها، كما سيُجنبه من فعل ما يشوّه الحقيقة ـــ ولو من غير عمد ـــ، وربَّ امرئ قاصد للحق ولكن يخرجه بما يشوّهه، مما يثير الشك فيه ويوجب الريبة تجاهه، فيذهب باطله بحقه.

ولذلك كان على المرء الالتزام بالموضوعية في الطرح وتجنب الأقوال المتسرّعة والخطوات الانفعالية، فإن ذلك أسلم له في نفسه وللرسالة التي يريد أداءها من الدعوة إلى الاتجاه الراشد والسليم.

3 ــ الاتصاف بجوامع الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة التي هي جزء من الفطرة الإنسانية وجزء من تعاليم الدين الحنيف، فإنها أساس في العقيدة الراشدة والمنهج الصائب، وهي مع ذلك عامل مساعد على صيانة النفس عن الشبهات وصلوح المرء للدعوة بسلوكه أو بقوله للاتجاه الصائب في الحياة.

4 ــ تحريك روح التصحيح في المجتمع وعدم الوقوف متفرجاً تجاه الأمواج العاتية الوافدة، كما هو مقتضى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصداق الحديث النبوي المعروف: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته).

5 ــ الاهتمام بالعمل الجماعي للتثقيف وفق قواعده وسننه المقبولة، لما يوجبه تراكم الأفكار والإمكانات من مقدرة كبيرة وبيئة ملائمة، وصيانة عن الأخطار، ولذلك قال سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)([1])، وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)([2]).

6 ــ الاعتناء بالأسرة وروابطها، فإن الأُسَر ـــ من المرأة والشباب والأطفال ـــ هم الهدف الأوّل للأمواج الثقافية، فالعناية بتماسكها وصلاحها وسلامتها يكون أساساً متيناً في مقابل هذه الأمواج التي تحاول اختراق هذه الوحدة الاجتماعية الأساسية.

7 ــ اتخاذ الأساليب الصالحة والملائمة في نشر الثقافة الراشدة كالتي يسلكها أصحاب الثقافات الغازية الوافدة لنشر اتجاههم، من الأساليب الإعلامية المؤثرة، مع تجنب ما يستعمله الآخرون أحياناً من الأساليب الوضيعة والذميمة البعيدة عن الاحتراف والموضوعية.

8 ــ خلق بيئة مناسبة للرشد والسلامة تكون بديلاً عن البيئات الفاسدة والموبوءة وتكون أرضية رصينة للثبات والصلاح والسداد وتساعد على الحفاظ على العقائد الراشدة والقيم الفاضلة وتقي من الزلل والخطايا.

وبعد، فإنّ لروح الإخلاص لله سبحانه وللحقيقة والبعد عن الأنانيات الضيقة والمنافع الشخصية أكبر الأثر في صلاح العمل والتوفيق فيه وبركته.

وإنّ الإنسان المؤمن مهما وجد صعوبة وغربة في هذا السبيل، لكنه لا يفقد الثبات والعزيمة على السير الراشد وتثبيت الآخرين عليه، ولا يستوحش من غلبة الشبهة وكثرة المفتتنين، فمنذ القدم كانت القلة من الناس ممن يتبصر التبصر الملائم ويتحرك وفق الاتجاه السليم، بل كان أكثر الناس هم بين قوم يتساهلون في معرفة الحق، وآخرين تتغلب عليهم المطامع والعصبيات والأهواء رغم معرفتهم بالاتجاه السليم.

كما يثق المؤمن في الأحوال كلها بأن للحق دولة كما أن للباطل جولة، ويطمئن بأن مسار الحق والرشد لا بدّ أن يغلب يوماً وأنّ هذه الحياة إنما هي اختبار للإنسان، فالمهم فيه أن يدرك الحقيقة ويسير في اتجاهها، لأنه قد يجد في ذلك عناءً ولكنه لن يشقى، وإنه في الأحوال كلها بعين الله سبحانه، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)([3])، وقال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([4]).

14/ج1/1443هـ


([1]) سورة المائدة: 2.

([2]) سورة التوبة: 71.

([3]) سورة العنكبوت: 69.

([4]) سورة آل عمران: 200.

 

2021/12/23

ولدي يتابع حسابات الملحدين.. ما الحل؟

د. جاسم المطوع:

قال: أنا منزعج من ولدي الذي يبلغ من العمر (15) عاما لأنه يتابع حسابات الملحدين في تويتر وفيسبوك ومواقع أخرى.

[اشترك]

قلت: ما هو سبب انزعاجك؟

قال: أخاف أن يتأثر بهم وهو من يومين أخبرني عن أستاذه في المدرسة أنه طرح مسألة هل الله موجود أم لا؟ وأستاذه هذا كان متحمسا لنظرية دارون في تطور الإنسان ولم يذكر أن الله هو خالق الإنسان.

قلت له: إن أكثر الشباب والفتيات في سن المراهقة يهمهم معرفة إجابات الأسئلة الوجودية وربما ولدك لهذا السبب يتابع حسابات الملحدين، فاحرص أنت أن تتابع الحسابات معه حتى تعرف ما هي المعلومات التي يقرأها فتناقشه بها، قال: ولكني منعته من متابعة الحسابات هذه، قلت: وهل تعتقد أنه امتنع عن متابعتها؟ قال: لا أعرف، قلت: حاول أن تبنى علاقتك مع ولدك على الثقة والأمانة والحوار، لأن في هذا الزمن لو منعت ابنك من شيء لديه ألف طريقة للوصول لهدفه،

قال: وما الحل؟ قلت: لابد من مواجهة الفكر بالفكر وأن تتحاور مع ولدك في الأفكار التي يقرأها أو يسألك عنها، وإذا كنت لا تعرف الإجابة على سؤاله أخبره أن تذهبا لمختص في الفكر الإلحادي ويتحاور ابنك معه حتى يستفيد، قال: نحن لم نمر بمثل هذه المرحلة عندما كنا مراهقين، قلت: لكل زمن تحدياته ولكن المهم أن تكون متفهم وتعالج المشكلة بهدوء وحوار وثقة ولا تعالجها بالضرب أو الصراخ أو بالعنف.

قال: وهل ترى أن أسئلة ولدي الإلحادية في محلها؟ قلت: الطفل يمر بمرحلتين يكثر من أسئلة الإيمان ووجود الله تعالى، المرحلة الأولى من عمر 3 إلي 5 سنوات والمرحلة الثانية في سن المراهقة، فهذا أمر طبيعي ولكن المهم أن لا تهمل الإجابة على أسئلته، فقد يسأل ابنك لزيادة الاطمئنان والإيمان، وليس بالضرورة أنه يسأل لأنه شاك، وهذا ما حصل مع سيدنا إبراهيم عليه السلام حين طلب من الله تعالى أن يري كيف يحي الموتى ليطمئن قلبه (وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

وتذكر ايضا ان الله استجاب لحواريي عيسى عليه السلام حين طلبوا مائدة من السماء لتطمئن قلوبهم (إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ... قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّهِدِينَ) فالسؤال لطلب المزيد من اليقين واطمئنان القلب ليس شكا.

قال إذن الموضوع طبيعي؟ قلت: نعم، ومن واجبات الوالدين أن يتحاورا مع الأبناء ويحصنونهم إيمانيا من خلال تعليمهم الصلاة والصيام والأذكار والدعاء والارتباط بالقرآن والسنة، فاحرص أن لا تسكت ولدك، فأبناؤنا يكبرون ويتعلمون في المدارس ويتصفحون مواقع التواصل الاجتماعي ويستخدمون محركات البحث في الانترنت، وبالتالي ستصل اليهم افكار الالحاد وشبهات الملحدين شئنا ام ابينا، قال: والله إن التربية في هذا الزمن صعبة جدا، قلت: المهم أن تصادق ابنك وأن تحسن تربيته وأن تحسن اختيار أصدقائه واختيار مدرسته ومعرفة المواقع والحسابات التي يتابعها حتى تحافظ على إيمانه وعبادته.

2021/12/22

لماذا لا يدرّس الطب في كلية الزراعة؟!

اسألوا أهل العلم

إن للكون مظاهر شتى لا يجمعها علم واحد، لأنها تفوق الحصر عدا بخاصة في هذا العصر الذي تشعبت فيه العلوم، وما زالت تتسع وتتنوع كلما تكشفت حقيقة من حقائق الكون، وإذا أحاط أرسطو بعلوم زمانه كافة، فيستحيل عليه لو وجد اليوم، وعلى أي عبقري سواه أن يجمع بين علومنا كلها أو جلها.

[اشترك]

لذا اضطر العلماء إلى الاقتصار والاختصاص، وانقسم العلم بينهم، كما انقسم العمل بين التاجر والفلاح والعامل.

وهكذا تقسم الكون إلى مناطق، واكتفت كل طائفة من الباحثين بمنطقة واحدة، كالأفلاك، أو الأشكال الهندسية، أو الانسان أو الحيوان أو النبات، وغير ذلك.

وهذه العلوم، إن كانت متباينة إلا أن اتصالها بكون واحد، واستخدامها جميعا في حياة عملية واحدة جعل بينها ارتباطا قويا؛ بحيث إذا كشف بعض العلوم عن حقيقة جديدة أدى ذلك إلى التبديل أو التعديل في وجهات النظر من العلوم الأخرى، وعلى الرغم من هذا الاتصال الوثيق بين العلوم فإنك إذا سألت أحد العلماء عن مسألة لا تدخل في الفرع الذي تخصص به يجيبك بأن هذا خارج عن دائرة اختصاصه، كما لو سألت عالم النبات -مثلاً- عن أمر يتعلق بالتشريح، بل لو سألته

ما هي المادة المشتركة بين النبات وغيره من المعادن لقال لك لا أعلم، وهو محق لأنه لا يريد الكلام عن جهل.

 

إذن، ما بال بعض الشباب من الذين درسوا الحقوق أو الطب أو الآداب، ولم يدرسوا فلسفة ما وراء الطبيعة، ما بال هؤلاء يقفون موقف المنكر المعاند، ويصدرون أحكاما في أشياء لا يعرفون منها كثيرا ولا قليلا؟! ان مصطفى محمود تخرج من كلية الطب، ولم يدرس اللاهوت ولا الفلسفة. ومع ذلك ألّف كتابا موضوعه «اللّه والانسان»! لا يا أستاذ، إنك لا تصلح ساعتك عند «سمكري» ولا تنظف بدلتك عند «إسكافي»، ولا تتعلم الطب في كلية الزراعة. إذن كيف تكلمت عما وراء الطبيعة، وعلم ما كان قبلها، ويكون بعدها وأنت لا تعلم عنه شيئا؟ وهل ترضى أن نتكلم نحن عن الطب الذي درسته أنت في كلية الطب بالقصر العيني؟!

ومهما يكن، فإن كل فئة من علماء الكون تقتصر على ناحية خاصة لا تتجاوزها، فعالم النبات لا يتعرض للمعادن والحيوان، والطبيب البيطري لا يبحث في جسم الانسان وعلله وأمراضه، وكذلك عالم الفلك وعالم الكيمياء فإنه لا يرى إلا ناحية واحدة من الكون على أن معرفته بها تبقى ناقصة مهما اجتهد وتقدم، فكيف بمعرفة أسرار الوجود وأسبابه، وطبيعته ونظمه؟! ومن هنا تخصص لمعرفة الكائن وراء الطبيعة طائفة من العلماء لا يفكرون بشأن غير شأنه، ولا يهتمون بأمر غير أمره.

إن علماء الطبيعة يدرسون المادة، ويطلبون أسبابها القريبة، ويقفون عند الظواهر، ولا يذهبون إلى الأعماق، أما الفلاسفة، أما علماء ما وراء الطبيعة فيبحثون عن علة العلل، والسبب الغامض البعيد عن المادة والمحرك الأول لها. لقد تجرد هؤلاء، وهم عدد غير قليل من العقول الكبيرة العظيمة، تجردوا إلى البحث عن خالق الكون ومدبره، ووضعوا الأسفار الطوال في البراهين القاطعة على وجوده، ودفعوا عنها كل شبهة، حتى أصبحت كالشمس في رائعة النهار.

فإلى هؤلاء وحدهم يجب أن نرجع في معرفة الفكرة عن اللّه، وأن ندرس أقوالهم، ونحاكمها بتجرد واخلاص. أما أن نجحد ونعاند دون أن نستمع إلى أرباب العقول من ذوي الاختصاص فقد جادلنا بغير علم ولا هدى.

وبالتالي، فإذا بحثنا عن نواحي الطبيعة وحدها وتركنا البحث عما بعدها لظلت فكرة الألوهية دون حل، وتصوراتنا عما يتعلق بها دون امتحان، لأنها لا تعلل بالمادة، ولا تطرح على بساط البحث في المصانع والمختبرات، ولا يسأل عنها رجال السياسة أو علماء الأخلاق والاجتماع.

إذن لا بد من الرجوع إلى علم ما بعد الطبيعة الذي يبحث عن واجب الوجود وامتناعه و

إمكانه، وواجب الوجود هو ما اقتضت ذاته وجوده بالضرورة، وألزم العقل بافتراض وجودها على كل حال وإن عجز العلم عن إثباته بالطرق الموضوعية. وممتنع الوجود على العكس، أي ما اقتضت ذاته امتناع وجوده، وأحال العقل افتراض وجودها، أما الممكن فهو ما خلا من هذا الاقتضاء، ولم يحكم العقل لا بضرورة الوجود، ولا بضرورة العدم فيحتمل أن يكون موجودا، كما يحتمل ألا يكون له وجود.

ومن الخير أن نشير إلى أن الفلاسفة يلتقون هنا مع رجال الدين، لأن كلا من الفريقين يتطلع إلى ما وراء الطبيعة، والفرق بينهما ان الفلاسفة يعتمدون على العقل وحده، ورجال الدين يعتمدون على الوحي والعقل، لأنهم يعتقدون أن العقل إذا استقل في معرفة وجود الخالق وصفاته، وارسال الرسل وما اليه فإنه محتاج إلى معونة خارجية لإدراك كثير من المسائل.

المصدر: كتاب الإسلام والعقل

2021/12/19

هل ’الاعتدال الشيعي’ يعني مجاملة الباطل؟!

الاعتدال هو الحد الوسط الذي يحفظ التوازن بين شيئين، مثل اعتدال كفتي الميزان بحيث لا تكون كفة راجحة على الكفة الأخرى.

[اشترك]

والاعتدال في السلوك الإنساني هو الوسطية التي لا يكون معها إفراط أو تفريط، ولا يعني ذلك أن الاعتدال رؤية ضبابية في ما يخص الحدود الفاصلة بين الحق والباطل؛ لأنه بالأساس لا علاقة له بالفكرة التي يتبناها الإنسان وإنما له علاقة بالنفسية التي تتبنى الفكرة، فالأفكار قد تكون مشتركة بين مجموعة من البشر إلا أن بعضهم متطرف بينما البعض الاخر معتدل، وبالتالي مهما بلغت الفكرة من الحق والوضوح فإنها لا تعطي صاحبها مبرراً في أن يكون معتدياً على حقوق الاخرين، ومن هنا لا يعد الاعتدال موقفاً سلبياً أو نظرة حيادية للحق والباطل؛ وذلك لأن الاعتدال لا يعمل على أحداث توازن بين الحق والباطل، وإنما يعمل على أحداث توازن للنفس التي تتصور أنها صاحبة الحق، ومن يرفض الدعوة للاعتدال إنما يتصورها مجاملة للباطل وتنصل عن الحق، وهذا فكرة خاطئة عن الاعتدال، فقد يكون الاعتدال مطلوب بين أهل الحق في ما بينهم أكثر من كونه مطلوباً بينهم وبين أهل الباطل.

فالتحليل الموضوعي لظاهرة التطرف وعدم الاعتدال يقودنا إلى القول إن النفسية المتطرفة هي التي تصنع الفكرة المتطرفة وليست الفكرة هي التي تصنعه، وعليه لا يمكن أن نتصور أن الأديان السماوية جاءت لكي تصنع مجموعة من المتطرفين، وإنما المتطرفين هم الذين يفهمون الدين على النحو الذي ينسجم مع نفسياتهم.

 أما الأسباب التي تجعل بعض النفسيات متطرفة فيعود بعضها إلى عوامل التربية ومحيط الأسرة، مثل من يعاني في صغره من صدمات نفسية قاسية، أو عاش مرارات في سن مبكرة، أو أن الضغوط الاجتماعية ولدت عنده حالة من الكراهية والعدوانية، أو أن البيئة القاسية جعلت منه إنساناً قاسياً مع الاخرين، أو أن الوضع السياسي القائم على المظالم والاقصاء والتهميش هو الذي كرس العدوانية والانانية بين الجميع، أو قد يعود ذلك إلى مرض نفسي واضطرابات عصبية، أو غير ذلك من العوامل التي تبني شخصية الإنسان بشكل متطرف، وفي النتيجة التطرف مرض يصيب الإنسان لا بوصفه شيعي أو سني، أو حتى مسلم أو غير مسلم، وإنما يصيب الإنسان بوصفه إنسان، ومن هنا يجب أن تشمل الدعوة للاعتدال جميع المجتمعات، فإذا نظرنا للمجتمع الشيعي بعيداً عن علاقته بالمذاهب الأخرى لوجدنا أنه يعيش حالات من التطرف وعدم الاعتدال بين تياراته الدينية والسياسية بل وحتى العشائرية، فلا وجود لمجتمع محصن من ظاهرة التطرف أياً كان هذا التطرف، ومن هنا فإن الاعتدال مطلوب دائماً ولكل المجتمعات البشرية، بل الاعتدال مطلوب حتى على مستوى الفرد، فلابد أن يكون معتدلاً في اكله، وملبسه، ومسكنه، وعمله، وقناعاته وطريقة تفكيره، فكل سلوك يبتعد عن الاعتدال إفراطاً أو تفريطاً يعد سلوكاً منحرفاً يجب تقويمه.

 وعليه فإن الاعتدال كقيمة حضارية تعني استقامة الفرد والمجتمع على نمط سلوكي ليس فيه تفريط في الحقوق أو تعدي على حقوق الأخرين، فهو في الحقيقة يعد نهجاً تربوياً يستهدف تقويم النفس وجعلها أكثر توازناً واستقامة، وقد خص القرآن المؤمن بضرورة الاعتدال وحرم عليه أي نوع من أنواع التعدي، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فالآية تؤكد على عدم التطرف حتى مع من يمارس التطرف عليك، فقوله (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) تعني أن لا يكون تطرف الاخرين مبرر لتطرفكم عليهم، وإنما تجب الاستقامة والقسط والعدل في كل الظروف والاحوال، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)

وفي المحصلة التشيع كفكر وعقيدة وانتماء لأهل البيت (عليهم السلام) ليس فيه تطرف إلا أن الشيعة لا يخلون من وجود نفسيات متطرفة سواء في سلوكها الاجتماعي أو السياسي أو الديني، وعليه من الضروري أن تكون هناك دعوات دائمة ومستمرة للاعتدال؛ لأن في ذلك دعوة للاستقامة سلوكياً واخلاقياً ومعرفياً.

 

2021/12/06

مع تطور الوعي.. هل انتهى زمن الأديان؟!

قال صاحب كتاب «اللّه والانسان» ص 108: «إن الأديان تمر بمرحلة انهيار تشبه المرحلة التي مرت بها ديانة الإغريق، وهناك صفحة ثانية في طريقها لأن تطوى. والسبب هو نفس السبب في الحالين.. هو العلم وتطور الوعي وظهور المعارف الجديدة».

[اشترك]

يفترض هذا القائل أن جميع الديانات حتى الإسلام جهل وخرافة تماما كديانة الإغريق، والنتيجة الحتمية لهذا الافتراض أنه كلما تقدمت العلوم تأخرت الأديان. فالمقدمة بديهية، والنتيجة طبيعية!.

ذكرني هذا القول بمنطق السفسطائيين وأقيستهم الماجنة. رأى سفسطائي شابا، فقال له: هل تحب أن أبرهن لك بالعقل على أنك حمار؟

قال الشاب: تفضل واتحف السمع.

قال السفسطائي للشاب: أنا لست أنت، أليس كذلك؟

الشاب: أجل، أنت غيري؛ وأنا غيرك.

السفسطائي: وأنا لست حمارا.

الشاب: بكل تأكيد، ان الحمار يمشي على أربع، وأنت تمشي على رجلين.

السفسطائي، وقد امتلأ سرورا بهذا الانتصار: اذن أنت حمار.

ولا فرق بين هذا القياس، وبين تشبيه الإسلام - مثلا - بديانة الإغريق. لقد قضى العلم على عقيدة الإغريقيين، لأنهم عبدوا أعضاء التناسل والنبات والحيوان والإنسان، وارتكب بعض آلهتهم، وهو زيوس، أسوأ العيوب وأقبح الجرائم، فقتل أباه وضاجع بنته، وطارد العرائس وغازل البنات.

أما الإسلام فقد حارب الوثنية بشتى ألوانها، وبكل وسيلة، ودعا إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، وحث على العلم، وأثنى على الراسخين به. وذم التقليد وشبّه الجهل بظلمات بعضها فوق بعض، والجاهل بالميت، وبالأعمى الأصم الأبكم: وهل يرفع العدو من شأن عدوه؟! وهل يقضي العلم على دين يقوم على أساس الحق والعدل، ويقول:

«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ»؟! وهل ينكر العلم نبوة من قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. أتيتكم بالشريعة السهلة السمحة» ! وهل يحارب العلم دينا يخرج الناس من العبودية إلى الحرية، ومن الجهل إلى العلم، ومن الفقر إلى الغنى؟! ولو صح قول هذا الكاتب بأن العلم إذا تقدم تأخر الدين لكان العلم عدو نفسه. والحقيقة أن العدو الأول للعلم هو الذي يتكلم عن الدين والعلم بلا دين ولا علم. فلقد تحدث الكاتب عن الأديان، وهو لا يعلم عنها إلا أن ديانة الإغريق قد زالت من الوجود، وإذا زالت هذه من الوجود فلا بد أن تزول جميع الأديان، ومنها الإسلام! ألا يشبه قوله هذا قول السفسطائيين الذين يلغون بالتهريج والتضليل، ويتلهون بالمغالطات والسخافات!

وربما اعتذر معتذر عن الكاتب بأنه لم يتعرض للإسلام، وإنما قال إن الأديان تمر بمرحلة انهيار.

قلت: إن تركه لذكر الإسلام، وعدم استثنائه من الأديان دليل واضح على أنه لا يفرق بين الإسلام وسائر الأديان التي تسير في طريق الزوال والانهيار

لقد أكثر القرآن من الحث على طلب العلم «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً».

وأوجبه الرسول الأعظم على الذكور والإناث: «العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» وأمر بإرسال البعثات العلمية: «اطلبوا العلم ولو بالصين».

وقال الإمام علي بن أبي طالب: «العلم دين يدان به. أعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه».

وهذه دعوة صريحة إلى التعاون الثقافي بين الأمم والشعوب، بل إلى توحيد التربية والتعليم الذي هو أساس التآلف والتكاتف. فرب شعبين أو أخوين تباعدا، لأن أحدهما يتخبط في ظلمات الجهل، والآخر يهتدي بنور العلم، أو لأن كلا منهما جاهل بما عند الآخر، أو يتجه بمعارفه وجهة معاكسة، فإذا تعاهدا على التعاون الثقافي تم بينهما التقارب، وأصبح كل منهما قوة لأخيه.

أمر الإسلام اتباعه ان يجمعوا علوم الناس إلى علومهم ليسيروا في طليعة الأمم، وليزدادوا يقينا بعقيدتهم، ودعا أهل الأديان الأخرى ان يتدبروا كل حكم من أحكامه، وكل آية من آياته «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» ليتأكدوا أنه دين العقل والعدل: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». أجل، لقد رأى العلماء بعد أن تقدمت معارفهم أن في القرآن أسرارا لا تفسر إلا بصدق الإسلام وعظمة المبدع وقد تجاوزت الآيات الواردة في وصف الكون حد الإحصاء نذكر بعضها على سبيل المثال.

فقد جاء في الآية 38 يس: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ». وكان العلم إلى عهد قريب يرى أن الشمس ثابتة، ولما تقدمت العلوم الرياضية وآلات الرصد اكتشف ما نطق به القرآن الكريم منذ أكثر من 13 قرنا من أنها تجري لمستقر وهذا المستقر نجمة تدعى بالنسر الواقع على شكل لولبي.

وجاء في الآية 49 الذاريات: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ». اكتشف العلم الحديث ان الزوجية متأصلة في كل شيء حتى أن الذرة مركبة من الألكترون والبروتون كهربائية سالبية، وأخرى موجبة، وأن جميع ما في الكون من حيوان ونبات وإنسان وجد بصورة زوجية، فمن أوجد هذا الازدواج، هل الصدفة أو قوة عظيمة حكيمة تسيطر على الكون بمن فيه وما فيه؟

وجاء في الآية 14 فاطر: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» تشير الآية الكريمة إلى أن الجاذبية ليست بين الأرض وما عليها فقط، بل بينها وبين ما عداها من الكواكب أيضا، وأن كل كوكب يجذب كل كوكب بقوة متناسبة. ولو أن العلماء درسوا القرآن بإمعان، وتدبروا ما أشار اليه من حقائق، ووضعوا تصاميمهم على أساسها لتكشفت لهم هذه الحقائق بوضوح من خلال دراستهم ومختبراتهم، ولتوفر عليهم الكثير من الوقت والجهد، وللّه در ابن عباس حيث قال: « في القرآن معان سوف يفسرها الزمن » وهذي المعاني هي اسرار الكون التي تكشفت للعلماء يوما بعد يوم.

أين تلقى محمد (ص) هذه الدروس! وعمن أخذ نظرية الجاذبية، والتزاوج، وعلم الفلك، وغير ذلك مما عجز عن إدراكه كبار المخترعين، وعظماء المكتشفين! وهل كان لديه آلات ومختبرات، أو أن كل ذلك وجد صدفة، ونزل الوحي به على قلب العربي الأمي صدفة!

ثم نود أن نوجه إلى مصطفى محمود هذا التساؤل:

لقد حكمت دون تردد بأن الأديان تمر بمرحلة انهيار وبديهة أن الحكم في قضية ما يستدعي العلم بطرفيها، فهل أحطت بجميع أسرار الكون، وتتبعتها واحدا واحدا، ثم استقرأت الأديان والآيات القرآنية والأحاديث النبوية بكاملها، وبعد أن شاهدت وجربت رأيت أن الدين والعلم ضدان لا يجتمعان، وعدوان لا يتفقان! ثم إنك أشدت بفضل العلم وعظمته، لكنك في نفس الوقت شننت الحملات على دين يدعم العلم، ويؤازره العقل، ويحث أتباعه والناس أجمعين على البحث والنظر والتأمل والتفكير، فكيف جمعت بين الضدين! وعلى أي شيء يدل هذا التضارب والتناقض! هل يدل على «العلم وتطور الوعي!». وإذا كان الدين جهلا وخرافة يتأخر كلما تقدم العلم، فبماذا تفسر - يا أستاذ - تقدم العرب بعد الإسلام وتحولهم من جاهلية جهلاء إلى حضارة أدهشت العالم، وقلبته رأسا على عقب، مما جعلتهم يدعون بجدارة آباء العلم الحديث، كما قال نهر رئيس وزراء الهند!

ان الإسلام لن يزول ولن ينهار، لأنه حق «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه». ولأنه واقع «لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم». أما الذي ينهار إلى غير رجعة فهو الذي يقول بغير علم ويعتقد قبل أن يتصور إن صح التعبير.

وبالتالي، فمهما تقدم العلم وتطور الوعي فان الإسلام أرحب وأوسع من أن يضيق به. إن عظمة الإسلام لا تظهر إلا بالعلم ومن هنا لم ينكر هذه العظمة إلا جاهل أو مكابر.

المصدر: كتاب الإسلام والعقل

 

 

2021/12/04

كفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره.. نخب مثقفة لكنّها متكبرة!

من النماذج المتكبرة الخفية: ما يعرف بالنخب الثقافية. فإن قسمًا من هؤلاء يقرأون الكتب، ويتعمقون فيصبحون على مستوى ثقافي متميز، ولا سيما إذا اطلع على الثقافة الأجنبية أو قرأ بلغاتها الأصلية، أو لكتاب مشهورين!

[اشترك]

فعندئذ (يتسامى) بعضهم كالغاز في الهواء، ويرى نفسه شيئا عظيمًا متفردًا بين الناس! ناظرًا إليهم من الأعلى، فيستهزئ بهذا العامي، وبذلك المعمم، وبعامة الناس الذين لا يفهمون رأيه ولا يفقهون، وكلما قرأ بعض هؤلاء كتابًا جديدًا زاد استخفافه بالناس! وزادت قسوة انتقاده له، وانفصاله بالتتبع عنهم وانحيازه بعيدا منهم.

فيراه ينتقد العبادات والمظاهر العبادية للمجتمع أحيانا وتراه يسفه بعض الممارسات الشعائرية للناس كثيرًا وتصدم آراءه في الغالب الحالة العامة! وكلما صنع ذلك زاد انفصالًا عن الناس وزاد الناس تجاهلًا له وهذا يؤذيه أكثر ويجعله متطرفًا بنقده إياهم بنحو أعظم ويتعجب كيف للناس أن يستمعوا في رأيه (لمهرجين) و (جهلة) ويسيروا وراء أقوالهم، بينما يغفلون آراء الجهبذ الفحل المتنور (وهو هو)؟

إن هذه النماذج من المتكبرين الحقيقيين، وإن كانوا لا يبدو عليهم التكبر الفج، كما يفعل أمثال قارون وفرعون.. يحملون نفس الروح ويعتقدون بنفس الاعتقاد، ويتصورون أن العالم يدور حولهم وأنهم لو تكلموا بكذا لغيّروا وبدّلوا، يكتب الواحد منهم كلمات في الفيسبوك أو تويتر فيحصل على تأييدات و(لايكات) فيتصور أن العالم سيتغير بناء على كلماته أو تغريداته. وهكذا يبدي ذلك العالم كلمة في درسه أو الخطيب فكرة في منبره فيتصور أن الدنيا ستقوم ولا تقعد لأجل ذلك، ولا يعلم الجميع أن تفاصيل الأمور اليومية في الدنيا تنسي الناس ما يفعله أكبر زعمائها ورؤسائها بعد يومين من حدوثه فضلا عما يقوله.

إن هؤلاء يذكرون بما قيل من المثل من أن الديك يتصور أن الشمس لا تشرق إلا إذا خرج مناديًا لها بصياحه!

ومثله ذلك الوالي الذي قيل إنه صعد المنبر وخطب خطبة أعجب بها وكأنّ السامعين أيضًا أعجبوا بها فقالوا له: كثر الله في المسلمين أمثالك. فقال لهم: لقد كلفتم الله شططًا! أي لا يمكن لله أن يأتي بأمثال لي.

نذكّر هذا النمط بقول أمير المؤمنين عليه السلام "العَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ وكفى بالمرء جهلا ألّا يعرف قدره ".

المصدر: الأمراض الاخلاقية: نظرة جديدة في عوامل السقوط، ج ١

2021/12/02

أزمة الملحد.. يتذوّق طعم التفاحة بعينه لا بلسانه!

الإلحاد ومشكلة تعطيل أدوات الإدراك

إحدى أهمّ معوّقات المعرفة هي عدم تفعيل أدوات الإدراك إذ يتسبب ذلك في جهالة حتّى أبسط الأشياء وأكثرها وضوحاً.

[اشترك]

فمثلاً لتعرف أنّ الشمس قد أشرقت يجب أن تُخرج رأسك من الغرفة المظلمة لترى نور الشمس، وإذا أردت معرفة طعم فاكهة معيّنة يجب أن تتذوقها أي يجب تفعيل الحاسّة التي تسانخ نوع المعلومة المراد تحصيلها وتتكفل باستشعارها لا أنّ أي حاسة تعرف كلّ شيء.

هذا في المدركات الحسيّة ولكن هناك مدركات عقليّة هي الأخرى لها أدواتها الخاصة فلا يتمكّن الإنسان من العلم بها ما لم يفعّل أدواتها التي من سنخها فمثلاً لتدرك استحالة اجتماع النقيضين يجب أن تتصور (زيد) و (عدم زيد) وبمجرّد تصورهما ستذعن بعدم إمكان اجتماعهما في آن واحد من جهة واحدة، فإدراك مثل هذه المعلومة يحتاج إلى تفعيل الذهن والتوجه للقضية.

ومن أهمّ المدركات العقليّة قانون العليّة البديهي الذي يقضي بأنّ (لكلّ ممكن علة) فلابدّ من علّة وراء إيجاد هذا الكون. لكنّ المُلحد يتحايل على أدواته العقليّة فيركنها جانباً ويذهب للبحث عن الله في تجاربه المختبرية.

مرّة قلتُ لأحدهم بعد نقاش عقيم: حسنا يا صديقي أقول لك كلمة واحدة: كما أنّك لو نظرتَ إلى التفاحة ألف عام لن تدرك طعمها ما لم تتذوقها كذلك لن تجد الله في المختبر ما لم تفعل عقلك! لأنّ كل معلومة تحتاج إلى أدوات من سنخها.

2021/11/25

ما هي ’الثقافة’.. ما الذي تضيفه لنا؟

الثقافة

هي ما يكتسبه الفرد من علوم ومعارف أو هي حالة الفرد من إلمامه بالعلوم والمعارف، وقد يضاف اليها الموسيقى والفنون، وتطلق ايضا بصورة تتجاوز الفرد الى الجماعة، فنقول عن مجموعة العلوم والمعارف والفنون التي يتعاطاها أو ينتجها أبناء المجتمع على الصعيد المحلي أو الأممي، ثقافة وطنية.

[اشترك]

بالإضافة الى الثقافة الشعبية، وتعني السلوكيات والتقاليد التي درج عليها أبناء المجتمع لا من حيث العلوم والمعارف بل ما درجوا عليه في حياتهم اليومية. وقد كانت تطلق بمعنى الاعتناء بالأرض وتهذيبها فانتقلت عن طريق المجاز الى العقل، فصار معناها الاعتناء بالعقل وتزويده بالمعرفة.

وأصلها في العربية صناعة شيء من مادة خام سيما في السلاح، مثل تحويل العود الى سهم فنقول ثقف العود ومنها أطلقت كلمة مثقف للسيف.

ظهر مصطلح الثقافة في اللغة الفرنسية في عصر الأنوار ومن ثم تسلل الى اللغة الانكليزية والألمانية منقولا من أصله اللاتيني الذي يعني رعاية الارض والماشية. 

في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في أوروبا؛ ارتبط مفهوم الثقافة بالتربية لأجل تطوير وتحسين مهارات الإنسان النافعة وخلال القرن التاسع عشر، حظي مفهوم الثقافة بمجال واسع من محاولات التعريف سيما في علم الإنسان (الانثروبولوجيا) وقد انتهت تلك التعريفات الى نهاية واحدة تقريبا تدور في محور المعرفة والمعتقدات والأخلاق والقانون والعادات والإمكانيات الاجتماعية وأية طبائع اكتسبها الفرد من المجتمع. غير أنه في القرن العشرين توسع مفهومه بشكل كبير في الكتابات الأدبية والفكرية. 

وأما في العالم العربي فيعتبر الأديب المصري سلامة هو أول من استخدم هذا المصطلح في عشرينات القرن العشرين للدلالة على النشاط الفكري والإبداعي.

ويمكننا القول عن مفهوم الثقافة في أنه يعني كل ازدياد معرفي يذكر عن الصفر المعرفي لدى الانسان، فمثلا تحديده لطريقة معينة في إشعال النار في فجره الاول يعتبر مؤشرا ثقافيا.

وربما كانت النقطة الأهم في موضوع الثقافة هو دورها الإيجابي في حياة الإنسان، والذي يحدده علماء الاجتماع بـ:

1- تنمية النواحي الفكرية والجمالية والروحية.

2- التعبير عن طريقة معيشة الشعوب أو المجموعات خلال فترة من الفترات.

3 - تطور جميع الأعمال والممارسات الخاصة بالنشاط الفني والفكري.

وهذا يقودنا الى الحديث عن النخبة المثقفة، التي تسعى للاستفادة من الثقافة العامة في عملية التطوير، وما عليه أن يكون لتلك النخبة من حضور إيجابي خلاق.

إن الفلاسفة العدميين مثلاً هم أناس في الخط الأول من الإلمام المعرفي والقدرة على صياغة الفكر في قوالب تحتوي بدورها على ثقافة المجتمع، ولكنها خارجة عن النخبوية الإيجابية التي تحقق منفعة المجتمع. وهذه الإيجابية تتأتى من خلال نقاط منها: 

1ـ الضمير الحي: إن السياسات العالمية التي تسعاها للهيمنة على الشعوب واستغلالها تسرع الى بث ثقافات فاسدة مضرة، فتنهض لمهمة بثها نخب مثقفة ولكنها معدومة الضمير او ما يمكن تسميته بالأقلام المغرضة المأجورة، كتلك التي تقوم ببث الأفكار الداعية للإنحلال الخلقي والرذيلة، سواء في الغرب أو بلداننا الاسلامية.

2ـ الانطلاق من معرفة وعلوم حقيقيين، وليس من تجربة معينة مثل فلاسفة الغرب الذي حاربوا الدين بشكل تام نتيجة معايشتهم لحكم الكنيسة.  

3ـ الحرص على نفع المجتمع. حيث أن الكثير من النخب المثقفة قد مارست دورها برغبة منها في البروز، وهذا ما يؤدي بالمثقف الى جملة من المزالق مثل حرصه على تقديم عطاءه الفكري بمعزل عن قيمة ذلك العطاء الإيجابية.

ومما لا شك فيه في موضوع الثقافة ودورها الاجتماعي، أن وسائل التثقف لها المجال الرحب في الطرق والآليات، فربما بلغ الفرد مستوى عالياً في الإلمام المعرفي والفكري بجهود ذاتية، ولكن هذا النمط لا يعد عملياً في بناء مجتمع متطور راق. لهذا فإن المدارس والمعاهد الدراسية تبقى آلية أكثر جدوى في خلق الكوادر المثقفة.       

2021/11/23

المنزل ’سجن المرأة’.. هل تغيّرت الطبيعة البشرية؟!

أيديولوجية المساواة

كتب إيفا هيرمان:

"الرجل والمرأة واحد؛ وإذا لم يكونا واحدًا يجب جعلهما واحداً..." هذه الفرضية هي واحدة من أكثر الادعاءات المدمرة في وقتنا الحالي، ويمكننا أن نقول إنها أيديولوجية استولت على جميع مجالات المجتمع.

[اشترك]

تعود فكرة أيدولوجية المساواة إلى الستينيات عندما أصبحت الحياة الخاصة أيضًا سياسية.

وتضمن التوسع اللاحق للسياسة بين الجنسين بعض المفاهيم الخاطئة.

هل تحققت الحرية والمساواة والأخوة؟ هل أمكن تطبيق ذلك بكل عواقبه على جميع الرجال والنساء؟

عندما اقترحتْ أخيرًا العلوم الاجتماعية، في الستينيات والسبعينيات، أننا نحن البشر يمكن أن نتغير جذريّا، من خلال التعليم والمحيط الاجتماعي، تلت ذلك مناقشات حامية، وساد إقناع ثوري رنان بأن -تقريبًا- لا شيء محدد من قبل الطبيعة، وبأن كل شيء قابل للتشكيل، حتى الأدوار الجنسية للرجل والمرأة.

وهتف الكثيرون: أيعني ذلك العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة بين الأبيض والأسود والرجل والمرأة؟

كان ذلك هو الأساس الذي قامت عليه الحركة النسائية التي تشكلت آنذاك. والمساواة المعلنة حديثًا قضت على جميع الأطروحات حول طبيعة الأنثى التي وضعها علماء النفس والمحللون تأسيًا بسيغموند فرويد.

لكن أليست الأفكار تتشكل في النهاية من خلال ادعاءات القوة البشرية؟

هل تتوافق حتى مع الحقائق العلمية اليوم؟

هل هي متوافقة مع قوانين الطبيعة؟

الجواب: ليسوا كذلك!

انتهى النقاش حول ما إذا كان يجب جعل النساء والرجال متشابهين من الناحية العلمية. أما النساء اللاتي يربطن مفهومهن بالحياة بالمساواة بين الرجل والمرأة، فيقعن في أخطاء جسيمة.

يعترف العلماء بتأثير الثقافة، لكنهم يعترفون أيضًا بأن الطبيعة البشرية لا يمكن تغييرها أبدًا. ولم تكن حقيقة وضع الأدوار الجنسية المحددة موضع تساؤل جوهري في سبعينيات القرن الماضي فقط موضة علماء الاجتماع أو بسبب الجدل الشديد السائد من قبل الحركة النسائية.

إنها تتناسب تمامًا مع المشهد الاجتماعي السياسي، أدت النهضة الاقتصادية إلى ارتفاع اقتصادي عال، ونتج عن ذلك ندرة القوى العاملة. ولهذا السبب كان يجب نشر المرأة العاملة كنموذج اجتماعي جديد. وكان ينبغي ألا يكون العمل نقصًا بالنسبة إلى النساء، بل شيئًا طبيعيًا.

جاءت الحركة النسائية بأحلامها في تحقيق الذات وزعم طبيعية المساواة بين الرجل والمرأة في ظل هذه الظروف. وقيل -فجأة- إنه ينبغي للمرأة المتحررة ألا تجلس في المنزل دون عمل شيء مفيد فقط تطبخ المهروس للطفل، وأنه يجب عليها الخروج للعمل لإثبات نفسها. وأكثر من ذلك: حُقرت أدوار المرأة مثل الزوجة والأم، واعتُبرت الآن متخلفة ورجعية.

كل ما يمكن أن تستخدمه ربة البيت للدفاع عنها حُكم عليه؛ ففي ألمانيا مثلًا عندما اقترح الاتحاد المسيحي الديمقراطي في السبعينيات، ما يسمى "راتب ربة البيت" لتحسين وضع ربات البيوت، قالت الناشطة النسوية "أليس شفارتسر" في كتابها "الاختلاف البسيط": "مثل هذا الراتب من شأنه أن يعوق بشدة تطلعات النساء إلى الاستقلال الذاتي، بالإضافة إلى ربطهن بواجباتهن النسائية من جديد. عندما تكون النساء أقل استعدادًا للاستقرار في سجنهن المنزلي، فإن هذا السجن سيكون مطليًا بالفضة عند دفع راتب ربة المنزل وسيكون جذابًا مرة أخرى". وبعبارة أخرى، ينبغي للنساء الخروج من حياة ربة المنزل، وينبغي عدم إعطائها طريقًا للعودة.

أصبحت تجربة الدكتور جون ماني دليلًا مؤلمًا على نتائج البحوث العديدة التي نشرها في السنوات الأخيرة علماء البيولوجيا؛ لا تقتصر الاختلافات بين الجنسين فقط على السمات المرئية الخارجية؛ إنها تشمل أيضًا الكثير من الحالات العقلية والنفسية.

 لذلك يوجد اختلاف واضح بين بنية دماغ الذكور وبنية دماغ الإناث، يترتب عليها وجود أنماط ومهارات سلوكية خاصة بكل نوع غير خاضعة لأي نقاش أيديولوجي.

كان الهدف الأكبر للمناصرات لحقوق المرأة هو الهروب من التقسيم الجنسي، لذلك قيل: "اخرجي من دور المرأة وادخلي في دور الرجل".

إنها استراتيجية إشكالية، ويمكن أن يؤدي إنكار الاختلافات بين الجنسين إلى معاناة الأطفال من العنف النفسي.

التعليم المشترك للفتيان والفتيات وهو ما يسمى بالتربية المشتركة يتجاهل الاختلافات بين الجنسين، مما يؤدي إلى تجاهل المواهب الخاصة بالبنين والبنات. في جميع أنحاء العالم، أداء المدارس يكون أفضل بكثير إذا كان التعليم يفصل بين الجنسين، والسبب هو التمكن من مراعاة الاختلافات في الإدراك والسلوك التعليمي والتعامل مع الضغوطات بين الجنسين بشكل أفضل.

المصدر: المرأة الجديدة دراسة لكتاب مبدأ حواء: من أجل أنوثة جديدة

2021/11/20

هذيان الملحد.. تشكيكات بلا أهمية!

حاول ريتشارد دوكينز صاحب كتاب (وهم الإلٰه) وغيره من الملحدين التشكيك في الأدلّة العقليّة على وجود الخالق، وعدّوها فاقدةً للقيمة المعرفيّة من وجهة نظرهم، نرجو من سماحتكم بيان كيفيّة نقد تلك التشكيكات؟

[اشترك]

من أهمّ الأمور الّتي ركّز عليها دوكنز في كتابه (وهم الإلٰه) هو استغلال نظريّة الانتخاب الطبيعيّ (نظريّة التطوّر) الّتي ذهب إليها دارون، وهي عبارة عن وجود سلفٍ مشتركٍ لكلّ الكائنات الحيّة الحيوانيّة، وبسبب تغيّر الظروف تولّدت طفراتٌ جينيّةٌ متمايزةٌ بشكلٍ تدريجيٍّ، بعضها يثمر في تكيّف الكائن الحيّ مع المحيط وبعضها متلفٌ ضارٌّ، وتتكفّل الطبيعة باقتضائها إبقاء التمايزات النافعة ونبذ الضارّة، ثمّ تتوارث الكائنات الحيّة هٰذه الجينات الجديدة الّتي تصبح بدورها مصدرًا لأنواعٍ متعدّدةٍ من الكائنات الحيّة. فقد ذكر دوكنز في كتابه (وهم الإلٰه) كيفيّة استغلاله لهٰذه النظريّة بقوله إنّ حجّة الاحتماليّة تنصّ على أنّ الأشياء المعقّدة لا تأتي بالصدفة، بمعنى أنّها لا تأتي بدون غايةٍ لتصميمها؛ ولذٰلك فليس من المفاجئ أن يتصوّر بأنّ الاحتماليّة هي دليلٌ على التصميم. إنّ الانتخاب الطبيعيّ الداروينيّ يظهر لنا خطأ حجّة الاحتماليّة عند اعتبار عدم الاحتماليّات فيما يتعلّق بالبيولوجيا.

وعلى الرغم من أنّ الداروينيّة لا تتعلّق بشكلٍ مباشرٍ بالأشياء الجامدة كعلم الكون مثلًا، فإنّها ترفع مستوى الوعي خارج نطاق مجالاتها المحصورة بالبيولوجيا. وقال: ومرّةً أخرى التصميم الذكيّ ليس البديل الصحيح للصدفة، إنّ الانتخاب الطبيعيّ ليس حلًّا معقولًا فقط، بل إنّه الحلّ الفعّال الوحيد الّذي تمّ طرحه حتّى الآن بديلًا للصدفة المقترحة منذ الأزل.

فهو يريد استغلال هٰذه النظريّة لإثبات أنّ الكون أيضًا لا يدور مدار خطّين فقط وهما إمّا الصدفة أو التصميم، بل كما أنّ الكائن الحيّ انطلق في مسيرته عبر الانتخاب الطبيعيّ من دون أن يلجأ لسيناريو الصدفة ولا لمنهج التصميم، كذٰلك يمكن أن تكون ولادة الكون بهٰذا النحو ناشئةً عن الانتخاب الكونيّ لا عن الصدفة ولا عن التصميم؛ لذٰلك كلامه محلّ مناقشةٍ في تطبيق نظريّة الانتخاب على الكائنات الحيّة، فضلًا عن تطبيقها على الكون بأسره، وذٰلك من خلال عدّة ملاحظاتٍ:

 الملاحظة الأولى: أنّه تصوّر احتمالًا ثالثًا بين الصدفة والتصميم، وهو الانتخاب الطبيعيّ، بينما هٰذا التصوّر غير منطقيٍّ، والسرّ في ذٰلك أنّ المحال لا يتغيّر من كونه قد حدث دفعةً أو حدث تدريجًا، وعلى نحو التدريج السريع أو على نحو التدريج البطيء، فلا يمكن أن يقال: إذا تحوّلت الخليّة الأولى إلى بعوضةٍ عبر ملايين السنين فهو أمرٌ ممكنٌ، وأمّا إذا تحوّلت دفعةً إلى إنسانٍ أو طيرٍ فهٰذا محال، فإنّ المحال يبقى محالًا سواءٌ حصل دفعةً واحدةً أو حصل بالتدرج البطيء. إنّ الخليّة الأولى إمّا واجدةٌ لجينات هٰذه الكائنات المتعدّدة أو غير واجدةٍ، فإن كانت واجدةً لها فتولّدها منها أمرٌ ممكنٌ دفعةً أو تدريجًا، سريعًا أو بطيئًا، وإن لم تكن واجدةً لجيناتها فلا يمكن تولّدها منها ولو عبر التدرّج البطيء لآلاف السنين، إذن ليس هناك احتمالٌ ثالثٌ وراء الصدفة والتصميم يعبّر عنه بالانتخاب، هٰذه هي الملاحظة الأولى.

الملاحظة الثانية: أنّ الانتخاب إمّا هادفٌ ناشئٌ عن تصميمٍ أو لا، فإن كان الأوّل كان تصميمًا لا انتخابًا، وإن كان الثاني كان صدفةً، إذ إنّ وجود الشيء بنفسه من دون سببٍ خارجٍ عن ذاته محالٌ، سواءٌ كان ذٰلك دفعةً أم تدريجًا.

الملاحظة الثالثة: أنّه كيف استطاعت المادّة العمياء أن تميّز بين أن تفرز التمايزات النافعة أو المميّزات النافعة من المميّزات الضارّة، بحيث تتوارث جيناتها هٰذه المميزات النافعة دون المميزات أو الصفات أو السمات الضارّة.

ورابعًا: أنّ المادّة إمّا واجدةٌ لطاقة التطوّر للأفضل أو لا، فإن كانت واجدةً لطاقة التطوّر للأفضل صحّ التطوّر بلا حاجةٍ للتراكم البطيء كما في تطوّر الجنين في بطن أمّه من نطفةٍ إلى إنسانٍ متكاملٍ، ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ وإن لم تكن واجدةً لطاقة التطوّر فتحوّلها لإنسانٍ متكاملٍ محالٌ، ولا يجدي في ذٰلك التراكم ملايين السنين.

والملاحظة الخامسة: أنّ وجود سلفٍ مشتركٍ للكائنات الحيّة وتطوّرها عن طريق الصراع بين ما يقتضيه طبع الكائن الحيّ وما تقتضيه عوامل الظروف المحيطة، لا يلغي البحث عن الحاجة للمبدإ الأوّل الّذي هو منبع شرارة الحياة، فهو ليس مادّةً ولا طاقةً، وإنّما هو قوّةٌ وعقلٌ وعلمٌ؛ ولذٰلك قال فرانسس كولينز رئيس مشروع الجينوم البشريّ في الولايات المتّحدة: من الّذي يمنع الله عن استعمال آليّة التطوّر في الخلق؟! فالتطوّر آليّةٌ يستعملها الإلٰه تمامًا كما يستعمل آليّة الخلق الخاصّ.

والمناقشة الأخيرة: أنّ الحياة ليست أمرًا مادّيًّا يقع نتيجةً للصراع بين المادّة العمياء وبين العوامل المحيطة بهٰذه المادّة، بل الحياة عقلٌ وشعورٌ وإدراكٌ، ولتعميق هٰذه الجهة نقول إنّ الحياة ظاهرةٌ معلوماتيّةٌ وليست ظاهرةً كيميائيّةً. يقول أستاذ البايولوجيا الأمريكيّ كوفمان المولود عام 1939: إذا أخبرك أيّ إنسانٍ أنّه يعرف كيف نشأت الحياة على كوكب الأرض منذ حوالي ثلاثة مليارات وسبعمائة مليون سنةٍ، فإنّه إمّا جاهلٌ غبيٌّ أو محتالٌ، فلا أحد يعلم من أين جاءت المعلومات اللازمة لنشأة الحياة، ولا أحد يعلم كيف جاءت هٰذه المعلومات الّتي أحدثت هٰذا التنوّع الهائل أثناء الانفجار الأحيائيّ الكامبريّ.

لذٰلك يرد السؤال: كيف استطاعت الطبيعة دون تصميمٍ وتوجيهٍ أن توفّر المعلومات الهائلة المطلوبة لنشأة الحياة والّتي تبلغ ملايين بيتز في أبسط الكائنات الحيّة، فضلًا عن الكائنات المعقّدة كالإنسان.

وممّا يدلّل على ذٰلك أنّه في العشرين من أيّار عام 2010 أعلن عالم البايولوجيا الجزيئيّة الأمريكي الكبير وينتر أنّ فريقه البحثيّ قد حقّق بعد خمسة عشر عامًا من الجهد إنجازًا علميًّا كبيرًا يتلخّص في أنّهم تمكّنوا من تجميع الشفرة الوراثيّة DNA لإحدى الخلايا البكتيريّة من مكوّناتها الأوّليّة، ووضعوا هٰذه الشفرة في جسم خليّةٍ بكتيريّةٍ حيّةٍ من نوعٍ آخر بعد نزع شفرتها الوراثيّة، فإذا بالخليّة تمارس وظائفها الحيويّة كبناء البروتينات تبعًا للشفرة الجديدة، واعتقد أنّهم بذٰلك أصبحوا قادرين على صنع الحياة وقادرين على تخليق الخليّة الحيّة، مع أنّ ما قاموا به مجرّد استبدالٍ لمركّبٍ كيميائيٍّ معيّنٍ وهو c- DNA بمركّبٍ كيميائيٍّ آخر مصنّعٍ هو m- DNA.

فالـ DNA الّذي استبدلوه ليس هو منبع الحياة، إنّه فقط المعلومات المطلوبة لبناء بروتينات الخليّة وانقسامها، أما الخليّة نفسها فقد جاءوا بها بكلّ مكوّناتها؛ لذٰلك بما أنّ الحياة ظاهرةٌ معلوماتيّةٌ فإنّه لا يمكن أن تفرزها المادّة العمياء، وهٰذا ما يؤكّده القرآن الكريم عندما يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾، والتمثيل بالذباب ليس لأنّه المخلوق المعقّد فقط، بل لأنّه يحمل شرارة الحياة. فالإنسان لا يمكنه أن يخلق أو أن يصنع حبّة قمحٍ تدبّ فيها الحياة، فضلًا عن أن يصنع ذبابًا يحمل أسرار الحياة؛ ولذٰلك نرى القرآن الكريم يركّز على مسألة صنع الحياة. ومن أجل ترسيخ هٰذه النقطة نذكر أنّه منذ أن تمّ اكتشاف بنية الـ DNA وطريقة أدائه لوظائفه عام 1953 وما تبعه من تأسيس علم البايولوجيا الجزيئيّة، أدرك العلماء أنّهم يتعاملون مع علمٍ يقوم على أربعة حروفٍ، لا أنّهم يقومون مع مختبرٍ كيميائيٍّ مجرّدٍ. والسؤال المطروح كيف تمّ ترتيب هٰذه الحروف الأربعة؟ بحيث أصبحت مصدرًا لحياة الكائن الحيّ؟ ولذٰلك يضع جورج جونسون في كتابه (هل كان دارون مصيبًا) الداروينيّين أمام مفارقةٍ فيقول: إذا هبطت علينا من الفضاء الخارجيّ أسطوانةٌ مدمجةٌ تحمل المعلومات المسجّلة في شفرة أحد الكائنات الوراثيّة، فإنّ كلّ من يتلقّى ذٰلك يقطع فورًا بنسبة ألفٍ في ألفٍ على وجود ذكاءٍ في الكون خارج كوكب الأرض، فكيف إذا قرأنا هٰذه المعلومات مسجّلةً في الشفرة الوراثيّة للإنسان؟ فهل نقول إنّها وجدت صدفةً أو نتيجة التراكم التدريجيّ البطيء؟ ولذٰلك فإنّ كولنز مدير مشروع الجينوم البشريّ عندما تمّ الانتهاء من قراءة الخريطة الجينيّة، وما تمّ التوصّل إليه من المعلومات ممّا يساوي خمسةً وسبعين فاصلة أربعمئةٍ وخمسين صفحةً من صفحات جرائدنا اليوميّة قال: الآن علّمنا الله اللغة الّتي خلق بها الحياة.

المصدر: الدليل

2021/11/16