فكر وثقافة
عقيدة ’الرجعة’ .. حقيقة إسلامية أم بدعة شيعية؟!

الرجعة في مدلولها العقائدي، تعني رجعة بعض الأموات إلى الدنيا قبل يوم الحساب، وهي بالتالي تحمل مضموناً استثنائياً غريباً، مخالفاً لطبيعة الواقع الإنساني، الذي اعتاد على نمط تكونفيه علاقة الإنسان بالدنيا علاقة محدودة برابط الحياة، لا يمكن لها أن تستأنف من جديد بعد الموت.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

فهذه الغرابة الفكرية التي تحملها عقيدة الرجعة، تجعلها موضوعاً لجدلٍ خاص يتجاوز المألوف ويصور البعيد بصورة القريب، فتصبح بذلك استفزازاً فكرياً، يثير فضول الباحث على مستوى الفرد، وتحدياً للمعرفة الإنسانية على مستوى الأُمّة الإسلامية، التي ورثت وعياً تاريخياً لخارطة عقائدية استبعدت فيها الرجعة.

وبكلا الجهتين، يكتسب بحث الرجعة تميزه، فالفكرة المستبعدة إذا وجدت لنفسها واقعاً ضمن تصور المعرفة الإسلامية، يكون من الضروري حينئذ إجراء مراجعة شاملة للعقلية التاريخية للأُمّة، لا لكي يتم تجاوزها، وإنما للمساهمة في صياغتها من جديد.

فمن أكبر العقد المعرفية، التي تكون حائلاً أمام صيرورة المعرفة واستمرارها، أن يكون الأمر الغريب مستبعُداً، لا لشيء إلا لكونه غريباً، والمجهول أمرُه مرفوضاً، من غير أن تكون هناك محاولات لمعرفته، فالناس في العادة أعداء ما جهلوا كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فإذا بدأت المعرفة الإنسانية من هذه الحقيقة القائلة، أن ما نعلمه هو نقطة في بحر ما نجهله، لانفتحت أمامها أبواب العلم، وسعى الإنسان لامتلاك كل ما هو جديد، فالعقلية المتحجرة ليس فقط لا تمضي بالإنسان قدماً وإنما تجره دائماً إلى الخلف، ومن هنا نجد أن القرآن أشار لهذه المعضلة، باعتبارها عاملاً لتكذيب الحقائق بقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)([1]).

وحتى لا يكون الواحد منا مصداقاً للذين كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، يجب علينا دراسة عقيدة الرجعة بعقلية منفتحة، ترتكز على الدليل والبرهان، وتستبعد التعميمات القاطعة، التي تتجاهل الحقائق الواضحة.

عقيدة الرجعة من مختصات الفكر الشيعي، التي تميزوا بها عن جميع الفرق والمذاهب، مما جعلها عرضة للهجوم والاستهجان من قبل المخالفين، والمتصفح لكتب العقائد والنحل يجد سيلاً من الاستخفاف والاستهزاء بهذه العقيدة، وقد عدّ بعض علماء الجرح والتعديل مجرد القول بالرجعة كافياً للطعن في رواية القائل، وقد ساعد الأمويون والعباسيون، الأعداء التقليديون للشيعة، على نشر هذه التهم وترويجها، مما أخرجها من إطار البحث إلى إطار التهكم، وهو أول انحراف للمسار الطبيعي لدراسة الرجعة.

فقد روي عن أبي حنيفة النعمان، أنه قال يوما لمؤمن الطاق على سبيل الاستهزاء: أقرضني دينارين وإني رادُّهما إليك بعد مماتي إذا أرجعني الله إلى دار الدنيا، فرد عليه مؤمن الطاق على سبيل التهكم والسخرية: وما أدراني أن يرجعك الله خنزيراً أو قرداً بدلاً من إنسان.

ولمناقشة هذه الفكرة، وهي رجوع بعض الموتى للحياة الدنيا قبل الآخرة، لا بد أن نناقشها على مستوى الإمكان أولاً؛ لأن الطبيعة المنهجية للجدل العلمي، قائمة على ما يمكن أن يكون قابلاً للتحقق؛ ولذا فإن إثبات أي حقيقة أو نفيها يقتضي أن تكون في ذاتها قابلة للتحقق، أما إذا كانت بذاتها ممتنعة، فلا يمكن حينئذ أن تكون مداراً للحوار أو الجدل؛ لأن إثبات شيء لشيء فرع تحققه، ومن هنا كان الإمكان العقلي لأي (فرض)، شرطاً لإمكانه العملي، ونقصد بالإمكان العقلي، أن لا يجد العقل محالاً في تحقق الفرض، فهناك بون شاسع يفصل بين الإمكان العقلي والتحقق العملي؛ فكثير من القضايا يمكن أن تكون ممكنة عقلاً ولكنها لم تتحقق على أرض الواقع، فمثلاً: هناك إمكان عقلي بصعود الإنسان إلى كوكب المريخ - لأن العقل لا يراء في هذا الفعل محالاً عقلياً -، وبرغم ذلك لم يتحقق هذا الأمر عملياً، أما في حال حكم العقل باستحالة حدوث أمر ما فحينها لا يمكن أن نبحث عن تحققه على أرض الواقع.

وبناءً على ذلك لا بد من اختبار عقيدة الرجعة على المستوى الإمكان العقلي أولاً قبل الحديث عن أي إمكان عملي وتحقق خارجي، ولمعرفة ذلك لا بد أن نطرح على العقل سؤالاً يتضمن المحتوى الداخلي لهذه العقيدة.

فهل من الممكن عقلاً أن يرجع الإنسان إلى الحياة في هذه الدنيا قبل يوم القيامة بعد أن يموت ويقبر؟

وقبل أن نجيب، لا بد أن نعرف متى يحكم العقل باستحالة تحقق شيء ما؟

إن العقل لا يحكم باستحالة تحقق الشيء، إلا إذا كان في تحققه اجتماعاً للنقيضين، فيحكم مثلاً باستحالة اجتماع النور والظلمة، الموت والحياة، الوجود والعدم، الخير والشر ... في موضع وزمن ولحاظ واحد؛ لأنه يفضي إلى اجتماع المتناقضين وهو محال.

وبناءً على ذلك لا يرى العقل أي محال في رجعة الإنسان إلى دار الدنيا بعد مماته، فرجوع الميت إلى الدنيا لا يحمل أي نوع من أنواع التناقض، ولو كان عبر عشرين واسطة، لأنه هو نفسه العقل الذي صدّق بوجود الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً، وبخروجه حياً من قبره يوم القيامة، فلو كانت رجعته في الدنيا قبل الآخرة محالاً عقلاً، لكان رجوعه يوم القيامة محالاً أيضاً، فالعقل هنا هو نفسه هناك، لا فارق بين الأمرين.

وإذا ثبت الإمكان النظري للرجعة، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلا حكم العادة والأُلفة، وهو الأمر الذي لا يُعوَّل عليه عند الاستدلال والبرهنة، فقد يرفض الإنسان كثيراً من الحقائق لكونها غير مألوفة لديه، ولكن هذا الرفض لا يعني أبداً عدم وجود هذه الأشياء، فهناك فارق بين حكم العقل، الذي يرى الأشياء كما هي، وبين حكم النفس، التي ترى الحقائق من خلال البعد الشخصي والتجربة الذاتية.

والكلام عن الإمكان العقلي المجرد لا يناقش ويرد من باب الإمكان العملي والتحقق الخارجي، بعكس الكلام عن أمكانية الوقوع فعلاً وخارجاً لأن له أدواته المعرفية الخاصة القائمة على أثبات ما هو متحقق بالفعل في الواقع الخارجي.

مع أن الإمكان النظري هنا كافٍ، إذا كانت له حكمة موجبة لتحققه، حتى وإن لم يحدث على المستوى الفعلي، وذلك كالإيمان بيوم القيامة مع عدم تحقق إمكان فعلي له، وعقيدة الرجعة لها حِكمة تقتضي حدوثها، وهنا لا بد أن يتحول الكلام للحِكمة، طالما كان هناك إمكان عقلي لتحققها.

إن الخلفية الأولى للاعتقاد بالرجعة، ترتكز على أن هناك وعداً إلهياً، يكتمل به تصور الإنسان المؤمن للغيب، فهناك حِكمة أساسية لخلق الإنسان، تنتظم حولها مجموعة من الحِكم، بدونها لا يخلق الإنسان تصوراً معرفيّاً متكاملاً لفلسفة الدين والحياة.

ومن هنا، فإن كل حقيقة موجبة للاعتقاد والإيمان، لا بد أن تنسجم بل تتكامل مع ذلك التصور المعرفي، وبالتالي فإن السياق الذي نطرح فيه الرجعة، يرتكز على حِكمة مستبطنة في ذلك الاعتقاد، وإلا أصبح القول بها فضولاً في الكلام واعتباطاً في الفكر، ولنكتشف تلك الحكمة لا بد أن نسأل لماذا الرجعة؟، وما هي العلة الموجبة لها؟

وقبل أن نفصل في تلك الحكمة، لابد أن نشير إلى بعض الآيات التي أثبتت الرجعة على المستوى العملي، حتى تحقق نوعاً من الأُلفة مع نفسية الإنسان المسلم.

 1- قصة عزير الذي مرت على وفاته عشرات السنيين، ثم عاد للحياة من جديد، لهي دليل واضح على تحقق الرجعة عملاً.

قال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ)([2]).

 2- رجوع السبعين رجلاً من أصحاب موسى (ع):

قال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يامُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)([3]). 

- آلاف من الناس أحياهم الله من بعد مماتهم:

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)([4]).

قال ابن جرير الطبري عند تفسيره لهذه الآية في تفسيره جامع البيان: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس فيها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله: موتوا!، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية: (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ))[5]

وقال في موضع آخر في تاريخه:

حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدّي: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف)، إلى قوله (ثم أحياهم)، قال: كانت قرية يقال لها داوردان (قيل واسط)، وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها، فنزلوا ناحية منها، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم! فوقع في قابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفاً، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو وادٍ أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه: أن موتوا! فماتوا، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم، مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم، ويلوي شدقيه وأصابعه، فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ - قال: وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم، - فقال: نعم، فقيل له: ناد فنادى: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي!، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً! فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها، ثم قيل له: ناد! فنادي: يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي، فقاموا)[6].

وهذه الرواية تحكي بشكل مفصل، حدوث الرجعة لمجموعة كبيرة من الناس، أماتهم الله ثم أحياهم بعد أن أصبحوا عظاماً نخرة تذروها الرياح، فأحياهم الله وأسكنهم الدور من جديد، كما في بعض روايات أهل البيت عليهم السلام، كما في تفسير العياشي عن حمران بن أعين عن أبى جعفر عليه السلام قال : قلت له حدثنى عن قول الله: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم)، قلت: أحياهم حتى نظر الناس إليهم ثم أماتهم من يومهم، أو ردهم إلى الدنيا حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء؟، قال: بل ردهم الله حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء، ولبثوا بذلك ما شاء الله ثم ماتوا بآجالهم)[7].

فلا يبقَ بعد ذلك غرابة في عملية الإحياء، إن كانت هناك حكمة، وأكتفي هنا بما مضى من إشارة، لأنه ليس من مهمتي أن أستدل على هذه العقيدة، وإنما أردت فقط بيان مدى انسجامها مع الحِكمة العامة للإسلام.

أما ما يثبت حدوثها في هذه الأُمّة فأكتفي بقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)([8])، الحشر في هذه الآية ليس المقصود منه حشر يوم القيامة، لأنه حشر مخصوص لبعض الطوائف من كل أُمّة، والآية هنا نص صريح في ذلك، لا تحتاج إلى إعمال جهد ونظر، فكيف يكون المقصود حشر يوم القيامة والآية صريحة في قولها: (من كل أُمّة فوجاً)، وهذا بخلاف حشر يوم القيامة الذي يقول فيه تعالى: (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) ([9]).

أما الحِكمة من الرجعة، فتُفهم ضمن الاعتراض القائل: كيف تكون هناك دولة للإمام المهدي تتحقق فيها العدالة لكل الأرض، ثم تكون خاصة بمن يشهدها في عصر ظهورها دون غيرهم من الصالحين والطالحين الذين مضوا؟

فإذا كان الله قد وعد عباده الصالحين بأن يرثوا هذه الدنيا بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)، وإذا كانت الأرض كل الأرض فحتماً الصالحون جميعهم لا بد أن يشاركوا في وراثة هذه الارض.

ومن المعلوم أنه لم يكن للصالحين وراثة في كل الأرض، منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا، مما يعني أن هذا اليوم هو يوم موعود لم يتحقق بعد، قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ)([10])، وهذا الوعد هو لذلك اليوم الموعود الذي يكون فيه الصالحون مستخلفين في الأرض.

فكما أن الأرض هي كل الأرض، فكذلك الصالحون كل الصالحين موعودون بهذه الخلافة الربانية، ومن المعلوم أن الصالحين كانوا هم المستضعفين، ولم يحكم الدنيا إلا المتجبرون، ولذا وعدهم الله بالنصر بعد الاستضعاف، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ)([11]).

وبما أن هذه الوراثة وهذا الاستخلاف للصالحين في كل الأرض لم يتحقق فيما مضى، وبما أن ذلك اليوم يوم ضروري لا بد منه حتى يتحقق وعد الله، فلا بد أن يأتي هذا اليوم.

فكيف يا ترى يتحقق وعد الله للصالحين، وهم قد ما توا وانقضى عمرهم؟ والله يتحدث عن صالحين بعينهم: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).

فقول الشيعة بالرجعة، يحقق للصالحين الذين استضعفوا في الأرض استخلافاً في هذه الدنيا قبل الآخرة، الأمر الذي يقودنا إلى القول إن عقيدة الرجعة فهم متقدم للإسلام، فإن كانت هذه العقيدة تضمن ذلك الأمر الذي فيه حكومة الصالحين، فما العيب في هذا الاعتقاد حتى يكون محلاً للسخرية والاستهزاء؟، وليس فيها ما يخالف ضرورات العقل والدين، بل العكس إذ بها يكتمل وعينا بالدين، ونتحسس قدرة الله وعظمته وعدله.

وهذه الوراثة ليست ضمن فترة محدودة، وإنما يطول عهدها إلى درجة تصبح معها خلافة الظالمين والمفسدين الذين حكموا كأنها لم تكن، حتى يقول القائل أكان في الأرض ظلم؟!

قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ)([12]).

إن الله تعالى قد وعد رسله و المؤمنين الخلص بكمال النصرة، فكما ينصرهم في الآخرة لابد أن ينصرهم في الدنيا، وإن هذا النصر من جنس واحد، لا يفرق بين النصرين إلا طبيعة الدنيا والآخرة، فالآخرة لا متناهية في الزمن، والدنيا قائمة ما دامت السماوات والأرض، فبما أن النصر في الآخرة لا متناه في طول الزمن، يدوم ما دامت الآخرة، فعليه إن النصر في الدنيا سيكون لا متناهياً بحسب عمرها...ستدوم النصرة و الحاكمية ما دامت السماوات والأرض، فالنصرة التي وعد الله بها الصالحين في الدنيا، ممتدة امتداداً زمنياً إلى ما شاء الله من السنين.

فلابد أن يحكم الحق أضعافاً مضاعفة على زمن حكومة الباطل، حتى إذا سأل سائل: من حكم الأرض ومن ورثها؟، قيل له: الصالحون غير آبهين بمدة حكم أهل الباطل، نظراً إلى أن حكمهم نقطة في بحر حكم الصالحين، فـ (للباطل جولة وللحق دولة).

وهناك روايات كثيرة عن أهل البيت تؤكد على الرجعة، كما تؤكد على طول حكومة الصالحين، صرفنا النظر عن ذكرها، ولمن أراد التفصيل عليه الرجوع إلى الكتب المختصة، ويكفينا هنا هذه الإشارة، التي تجعل الرجعة ضمن النسق العام للمعرفة القرآنية، كما تجعلها مكملة للفهم الشمولي للحِكمة الإلهية.

الهوامش:


[1] - سورة يونس/39.

[2] -سورة البقرة/259.

[3] - سورة البقرة/55-56.

[4] - سورة البقرة/243.

[5] - جامع البيان عن تأويل آي القرآن – محمد بن جرير الطبري ج2 ص 793

[6] - تاريخ الطبري – محمد بن جرير الطبري ج1 ص 323

[7] - تفسير العياشي – محمد بن مسعود العياشي ج1 ص 130

[8] - سورة النمل/83.

[9] - سورة الكهف/47.

[10] - سورة النور/55.

[11] - سورة القصص/ 5-6.

[12] - سورة غافر/51.

2021/01/30

من أموالك ’الكفن’ ومن أولادك ’الحفرة’: منكر ونكير يرحبان بك في عالم الموت!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

لقد ذهب طائفةٌ من المفسّرين إلى أنّ قوله تعالى في الآية (27) من سورة إبراهيم: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) إلى حمل الآية القرآنيّة وخصوصاً في قوله تعالى: (وفي الآخرة) على سؤال منكر ونكير في القبر.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

إذْ أورد الشيخ الطبرسيّ (رحمه الله) عدّة آراء في هذا المقام التي أشهرها قوله: "وقال أكثر المفسّرين: إنّ المراد بقوله تعالى: (في الآخرة) في القبر، والآية وردت في سؤال القبر، وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، وهو المرويُّ عن أئمّتنا عليه السلام.

وروى محمّد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب الكافي بإسناده عن سويد بن غفلة، عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا وأوّل يوم من الآخرة، مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إنّي كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك؟  فيقول: خذ منّي كفنك. فيلتفت إلى ولده، فيقول: والله إنّي كنت لكم لمحبّاً، وعليكم لمحاميا، فماذا لي عندكم؟  فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك، نواريك فيها. قال: فيلتفت إلى عمله، فيقول: والله إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنْ كنت عليّ لثقيلا، فماذا لي عندك؟  فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم نشرك حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك. قال: فإنْ كان لله وليّا، أتاه أطيب الناس ريحا، وأحسنهم منظرا وأحسنهم رياشا، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت فيقول: أنا عملك الصالح، أرتحل من الدنيا إلى الجنّة، وإنّه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يعجّله، فإذا أدخل قبره، أتاه ملكا القبر يجرّان أشعارهما، ويخدّان الأرض بأنيابهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربّك؟  وما دينك؟  ومن نبيّك؟  فيقول: الله ربّي، وديني الإسلام، ونبيّي محمّد صلى الله عليه وآله، فيقولان: ثبّتك الله فيما تحبّ وترضى، وهو قوله سبحانه: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، ثُمَّ يفسحان له في قبره مدَّ بصره. ثُمَّ يفتحان له بابا إلى الجنّة، ثُمَّ يقولان له نم قرير العين نوم الشابّ الناعم، فإنّ الله تعالى يقول: (أصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرّا وأحسن مقيلا) ".

(ينظر مجمع البيان للطبرسيّ عند تفسير هذه الآية من سورة إبراهيم عليه السلام).


المصدر: مركز الرصد العقائدي

2021/01/26

’رحيل الروح’ .. هل للنوم علاقة بالموت؟

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

من الأدلة الظاهرة عند كل إنسان على أن الله المهيمن على الوجود هو سنة الموت والحياة، فالإنسان لا يملك لنفسه حياة ولا يمكنه الهروب من الموت، فمهما امتلك الإنسان من قدرات لا يمكنه الخروج عن حكومة الله وقبضته، فكيف بعد ذلك يكفر الإنسان بمن في يده حياة الإنسان وموته، قال تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

فإذا كانت بداية الإنسان في الدنيا تبدأ بالحياة وتنتهي بالموت فإن ذلك يعني أن هناك مسيرة مرسومة للإنسان من أجل غايات محددة، وغفلة الإنسان عن هذه الغايات تعني غفلته عن الموت وبالتالي غفلته عن حياته حتى وإن كان يعيش فيها، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) فالإنسان الذي تغره الحياة إلى درجة تصرفه عن إدراك الموت كمصير محتوم يخسر الدنيا والاخرة، حيث يلهو بالدنيا حتى يصدمه الموت ويخرجه عن كل ما في الحياة من زخارف، قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وهذا بخلاف الإنسان الذي يعيش في الدنيا وعينه على ما عند الله من النعيم في الاخرة، فالموت عنده حاضراً ويستعد له بالعمل الصالح ليكون مصيره جنات تجري من تحتها الأنهار خالداً فيها قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ). وعليه فإن فلسفة الموت والحياة هي ابتلاء الإنسان لمعرفة من هو أحسن عملاً قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

ومن نعم الله على الإنسان بأن جعل له المذكرات والمنبهات حتى لا يغفل عن المصير الذي ينتظره، ولأن الموت هو خير واعظ للإنسان لم يكتف الله بأن يجعل هذه الحقيقة فقط منظورة للإنسان من خلال ما يراه من موت الاخرين وإنما جعله يعيش تلك التجربة وبشكل يومي، وذلك من خلال النوم الذي يعد صورة مصغرة للموت، فكما ينام الإنسان ويفقد الإحساس والشعور بالحياة كذلك يموت ولا يعود له الشعور بالحية مرة أخرى، كما ورد في الحديث المعروف (كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون)، فقوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) وهنا إشارة إلى حقيقة الموت الذي فيه انقطاع تام عن الحياة، وقوله تعالى: (والتي لم تمت في منامها) فيها إشارة إلى علاقة النوم بالموت، ثم فصل تعالى في القول في الأنفس المتوفاة في وقت النوم فقال: (فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) أي فيحفظ النفس التي قضى عليها الموت كما يحفظ النفس التي توفاها حين موتها ولا يردها إلى بدنها، ويرسل النفس الأخرى التي لم يقض عليها الموت إلى بدنها إلى أجل مسمى.

يقول السيد الطباطبائي في الميزان: "أن النفس موجود مغاير للبدن بحيث تفارقه وتستقل عنه وتبقى بحيالها. وثانيا: أن الموت والنوم كلاهما توف وإن افترقا في أن الموت توف لا إرسال بعده والنوم توف ربما كان بعده إرسال"".

ويستنتج صاحب الأمثل من هذه الآية عدة نقاط وهي:

1 - إن الإنسان عبارة عن روح وجسد، والروح هي جوهر غير مادي، يرتبط بالجسد فيبعث فيه النور والحياة.

2 - عند الموت يقطع الله العلاقة بين الروح والجسد، ويذهب بالروح إلى عالم الأرواح، وعند النوم يخرج البارئ عز وجل الروح والجسد، ولكن ليس بتلك الحالة التي تقطع فيها العلاقات بصورة كاملة. ووفقا لهذا فإن الروح لها ثلاث حالات بالنسبة للجسد، وهي: ارتباط كامل (حالة الحياة واليقظة) وارتباط ناقص (حالة النوم) وقطع الارتباط بصورة كاملة (حالة الموت).

3 - النوم هو أحد الصور الضعيفة (للموت)، و (الموت) هو نموذج كامل (للنوم).

4 - النوم هو أحد دلائل استقلال وأصالة الروح، خاصة عندما يرافق بالرؤيا الصادقة التي توضح المعنى أكثر.

5 - إن العلاقة التي تربط بين الروح والجسد تضعف أثناء النوم، وأحيانا تقطع تماما مما يؤدي إلى عدم يقظة النائم إلى الأبد، أي موته.

6 - إن الإنسان عندما ينام في كل ليلة يشعر وكأنه وصل إلى أعتاب الموت، وهذا الشعور بحد ذاته درسا يمكن الاعتبار منه، وهو كاف لإيقاظ الإنسان من غفلته.

7 - كل هذه الأمور تجري بقدرة البارئ عز وجل، وإن كان قد ورد في بعض الآيات ما يشير إلى أن ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح، فهذا لا يعني سوى أنه ينفذ أوامر البارئ عز وجل.

للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام: https://t.me/The12ImamsWe

2021/01/19

الجدل القديم: هل يتعارض العقل مع الدين؟! (فيديو)

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

قال سماحة آية الله السيد منير الخباز إن الدين هو النص الثابت الواضح الدلالة لا ما يفهمه الفقيه من النصوص القرآنية أو المعصومية.

جاء ذلك في كلمة مسجّلة له حصل عليها «موقع الأئمة الاثني عشر» تعود لعام 2016 ونشرتها قناته الرسمية على يوتيوب.

ورأى سماحته أنه "من الخطأ قياس الدين ببعض ما يفهمه الفقيه فهو ليس واقع الدين الذي يُعترض عليه بسبب بعض الأحكام والفتوى".

وأكد الخباز وهو تلميذ المرجع الأعلى سماحة السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، أنه ينبغي أن نفرق بين العقل الشخصي والعقل الجمعي الذي نقصد به ما يتفق عليه العقلاء وهو ما نحتج به على الآخرين ومنها ما اتفق عليه من أن الخيانة شيء قبيح والأمانة شيء جميل هذا هو العقل.

وتساءل سماحته بعد بيان هذه المقدمات بالقول: "هل يتعارض النص الديني (الثابت) مع العقل؟".

الجواب وتفاصيل أخرى يسلط الضوء عليها الفيديو أدناه لسماحة آية الله السيد منير الخباز:

للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام: https://t.me/The12ImamsWeb


المصدر: شبكة المنير

تحرير: حسين درويش

2021/01/18

آية الله الخباز: العدالة لا تتحقق بـ ’البرلمانات وقوانينها’.. الحل بيد الأنبياء (فيديو)

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

قال آية الله السيد منير الخباز، دامت بركاته، إن تطبيق العدالة لا يمكن أن يتحقق من خلال القوانين التي تشرعها البرلمانات.

جاء ذلك في تسجيل فيدوي اطلع عليه «موقع الأئمة الاثني عشر» يعود لعام 2017.

وأكد آية الله الخباز، وهو تلميذ المرجع الأعلى، أنه "لن يخبرنا أحد بالغيب غير الأنبياء والرسل فلا تدرك عقولنا ما وراء المادة لإثباته او نفيه، ومنها الأسئلة المعروفة من أين اتيت؟ وإلى أين اذهب؟ وسائر الأسئلة المصيرية التي تحمل مضاميناً غيبية لن يجيب عنها غير الأنبياء".

وقال، بحسب الفيديو، إننا "نحتاج إلى الأنبياء لأنهم يطبقون العدالة من خلال الكتاب والميزان، فتطبيق العدالة لا يمكن أن يتحقق بالقوانين التي تشرعها البرلمانات".

وأضاف" "إنما يتوقف -تطبيق العدالة- على نظام متكامل يجمع عناصر أربعة وهي الحاجز عن الرذيلة والقانون الحقوقي، واللائحة الجزائية، والتعويض الأخروي. فبدون هذه العناصر الأربعة لا تتحقق العدالة".

تفاصيل أكثر في الفيديو أدناه:

للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام: https://t.me/The12ImamsWeb

2021/01/12

الطرق إليه بعدد أنفاس الخلائق.. لماذا نعبد الله بدين واحد؟! (فيديو)

تطرح فكرة تعدد الأديان انطلاقاً من نصوص معارضة لصريح القرآن الكريم أو عبر كلمات لم يثبت صدورها عن المعصوم، ومنها ما قيل من أن "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق".وهو حديث مروي من طرق العامة وأكثر من استشهد به المتصوفة، وفقاً لإجابة منشورة على مركز الأبحاث العقائدية.

 وانطلاقاً من هذا النص الباهت، يقول البعض إننا لسنا ملزمين بدين معين وشريعة محددة.

وهذا الكلام مرفوض باعتبار أنه كلام عادي ليس بآية من آيات القرآن الكريم ولا رواية وردت عن النبي أو أحد المعصومين (ع)، بل أنه يتعارض مع الآية التي تقول: إن الدين عند الله الإسلام وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الرفض لا يلغي التعايش مع أتباع الأديان الأخرى.

المزيد من التفاصيل في الفيديو أدناه مع فضيلة الشيخ فوزي آل سيف [دامت بركاته]:

2021/01/10

لكل مجتهد نصيب: لماذا تقدّم الغرب وتعثّر العرب؟!
يسأل البعض، ما لنا نرى دول الغرب تشهد تقدماً علميا وثقافيا وسياسيا وفي كل المجالات. في التكنولوجيا والعلم.. بل وربما حتى في الإنسانية.

فهل رجعوا إلى الله؟! أم أنهم رجعوا إلى أنفسهم؟!
 وهل تتعارض هذه الفكرة مع الآية الكريمة التي تقول: "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"؟

لقد بدأت النهضة الأوربية في وقت مبكر جداً وقد تعود إلى بدايات القرن الثاني عشر تقريباً، وتسارعت النهضة بشكل كبير في الفترة الممتدة ما بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر، وقد ساهمت عوامل متعددة وعلى مدى فترات ممتدة من الزمن على أيجاد ما يسمى بالحضارة الغربية، وعليه لا يمكن حصر هذه العوامل في جانب واحد وهو الإيمان وعدمه، وإنما يجب النظر إلى المشهد بشكله المتكامل، فالتطور العلمي، والانتعاش التجاري والصناعي، والتحول الكبير على مستوى الإنسان الأوربي، والتبدلات التي حدثت على مستوى الثقافية المجتمعية، تعد جميعها من العوامل المهمة في خلق النهضة الأوربية، وبالتالي فإن اختزال التحولات الكبرى التي حدثت في أوربا في العلمانية وابعاد الدين عن الساحة السياسية فيه حالة من السطحية والتبسيط، ويبدو أن التحولات المهمة ذات التأثير المباشر في أي نهضة حضارية تعود بشكل أساس إلى التحولات التي تحدث على مستوى الإنسان، فتحريك العجلة السياسية والاقتصادية وتحقيق التنمية في كل المجالات لا يتحقق إلا من خلال الإنسان المقتدر حضارياً، وفي ظني أن مشكلة عالمنا الإسلامي والعربي ليست في غياب الخطط والبرامج ولا في شح الإمكانات المادية وإنما في الإنسان المتخلف حضارياً، فمجرد تحول الأنظمة السياسية إلى أنظمة علمانية لا يعد حلاً حقيقياً لمشكلاتنا الحضارية، ومن هنا يجب أن تتضافر الجهود في بذل الجهد من أجل الارتقاء بالإنسان علمياً وفكرياً وثقافياً وتربوياً وقبل كل ذلك لابد من إعادة الثقة للإنسان المسلم في نفسه وفي دينه، وما تنادي به العلمانية هي مجرد معالجات سطحية لا تلامس مشكلة الإنسان الشرقي؛ بل قد تكون سبباً في توهينه وإشعاره بالدونية أمام الإنسان الغربي، فالإسلام كهوية ثقافية وقيمية يمثل ضرورة لأي تحول حضاري في المنطقة، والثغرات الملحوظة في الحضارة الغربية تعد نتاجاً طبيعياً للاستبعاد الممنهج للسلطة الروحية والأخلاقية، فبدل أن يعمل المثقف العربي والإسلامي على ضعضعة الثقة بالإسلام  من خلال تضخيم المنجز الغربي يجب أن يكرس جهده في انتاج حضارة محلية أساسها القيم الإسلامية.

وفي المحصلة أن الحياة قائمة على الأسباب والمسببات ومسؤولية الإنسان هو العمل بما يقتضي اعمار الدنيا، ولا يمكن أن يستغني الإنسان بالإيمان عن العمل وبذل الجهد، وكما يقال لكل مجتهد نصيب، وقد أحدث الانسان الغربي تحولاً مادياً ملحوظاً وذلك لكونه اخذ بالأسباب الموجبة للنهضة، وهذا ما تؤكده الآية التي جاءت في معرض السؤال قال تعالى: (أنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فقد دلت الآية على أن التغيير امر مرهون بإرادة الإنسان ولا ينوب الله عنه في مواجه صعوبات الحياة، بالتالي الآية لا تشير لوجود تناقض بين الرجوع إلى الله وتغيير الإنسان لنفسه، بل الحركة المتزنة للحياة الإنسانية لا تكون إلا بإيجاد توازن بين الغيب والشهود وبين الحياة الدنيا والاخرة، حيث يعمل لدنياه كأنه يعيش ابداً يعمل لآخرته كانه يموت غداً.

2021/01/05

لا موالاة لـ ’الحكّام’: لماذا يصر الشيعة على الارتباط بـ ’المرجعية’؟!

تنويه: يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

مرجعية الفقهاء ..

الامتداد الرسالي في عصر الغيبة

إذا نظرنا للتشيع بوصفه واقعاً ملموساً، أو كحركة اجتماعية، نجده ظاهرة إنسانية لها خصوصياتها الحضارية، فهو أولاً أحد مكونين لبنية الواقع الإسلامي، وثانياً يمتاز على المكون الآخر بكونه إطاراً اجتماعياً متفاعلاً ومنضبطاً ضمن إطار قيادة دينية، فإذا جاز لنا التفريق بين الإسلام كمبدأ، وبين الإنسان المسلم كنموذج لذلك المبدأ، يجوز لنا القول: إن النموذج الشيعي أكثر انضباطاً بقيم الإسلام من المكون الآخر.

وللتدليل على ذلك يجب أن نفرق بين نوعين من طرق التقييم والدراسة، طريقة تستهدف البعد الحضاري والامتداد التاريخي للطائفة، وطريقة أخرى تستهدف المكون العقائدي والفكري، والفرق في أن الأولى تقترب من الواقع، والثانية تقترب من العقل وآليات الوعي والفهم، والأمر الذي نقصده هو الكشف عن البعد الخارجي للكيان الشيعي.

والتشيع ضمن البعد التاريخي يمثل تيار الرفض والمعارضة لكل أشكال الهيمنة، بعكس المكون الآخر الذي مازال يمثل تيار الموالاة لكل الأنظمة السياسية التي حكمت، صحيح أن التشيع قد ضحى بالكثير في سبيل هذا المبدأ، ومازال يعاني من عداوات وثارات توارثت مع الأيام، ولكنه ربح دينه وعقيدته، ولم يعترف بأية سلطة حتى وإن كانت من كبار الصحابة، طالما لم تكن بسلطان من الله، وحافظ بذلك على مكوناته الدينية والثقافية بشكل مستقل عن أي نظام سياسي، ولم يضطر يوماً للتنازل عن أي مبدأ مجاراة لأية هيمنة سياسية، وقد ساعده في ذلك وضوح فكرته، وترابط أتباعه في نظام دقيق يتصل بقمة الهرم الشيعي، وهم الفقهاء والمراجع.

والتشيع في عمق معناه هو الولاية والإمامة، وبالتالي لا يستقيم إلا ضمن حالة اجتماعية تنتظم في شكل هرمي وصولاً للقيادة، الأمر الذي يؤكد على أن الكفر بالطاغوت، لا يتحقق إلا ضمن الانخراط في صف أولياء الله.

فالتوحيد ليس مجرد حالة نظرية أو إيمان قلبي يرتبط بقضية غيبية، وإنما هو تجلٍّ عملي في واقع الحياة؛ لأنه هو الاستثناء الوحيد الذي ينبثق من ضمير الرفض (لا إله .. إلا الله)، ولا يتحقق ذلك الرفض إلا ضمن واقع بديل يمثل ولاية الله، فإذا كان الرفض ينطلق من صميم الواقع المزيف والكفر به، فإن التوحيد يتجلى في الواقع الذي يمثل الحق والتسليم له: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها)([1])، صحيح أن الكفر بالطاغوت مقدَّمٌ على الإيمان بالله، ولكن الإيمان بأولياء الله والتسليم لهم، هو الذي يحقق الكفر العملي بالطاغوت، فيصبح التوحيد بذلك واقعاً عملياً، وتجسيداً خارجياً لحقيقة الولاء، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)([2])، وليس حالة نظرية تحقق الإيمان بالله كقضية غيبية ثم تدين بالولاء للطواغيت كحالة عملية، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)([3])، فإذا كان الدين دعوة للتوحيد، فحينئذ يكون التشيع هو التطبيق العملي لذلك التوحيد.

والإسلام بوصفه منظومة من القيم يقع على رأسها التوحيد، لا يعدو كونه إطاراً نظرياً ما لم يجد طريقه إلى الواقع، الأمر الذي لا يمكن تصوره بدون قيادة تمثل الضامن لهذا التطبيق؛ لأن الرسالة إنما تتحقق بما لها من امتداد في الواقع، ولا يمكن أن نتصور مجتمعاً إسلامياً يمثل امتداداً للرسالة، من غير أن يكون على رأسه فقيه، وهذا ما عليه الشيعة بخلاف المذاهب الأخرى، فمذاهب أهل السنة لم تفرز نظاماً مرجعياً واضحاً يكون الدينُ فيه شرطاً للطاعة والولاء، واستبدلوا ذلك النظام المرجعي بالسمع والطاعة لكل من حكم، ونصوصهم في ذلك متضافرة، وسوف نشير لبعضها في اخر المقال.

سرّ التمسك بالمرجعية الدينية

ومن هنا نفهم مدى الحرص الشيعي على دور المرجعية الدينية، فبعد غيبة الإمام الحجة (عج)، ارتبط الشيعة بالفقهاء كضمان لاستمرار المسيرة الرسالية، وسيادة الفقيه عند الشيعة إنما هي تابعة لسيادة الدين، فلا يتقدم لهذا المنصب إلا أكثرهم علماً وورعاً وزهداً، فقد جاء في وصية الإمام الحجة لشيعته في عصر الغيبة: (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه)[4]، فالضابط للمرجعية هو الفقه والورع، ولتحقيق هذا الشرط اهتم الشيعة بالمؤسسة العلمية التي تسمى بالحوزة، وقد توارث الشيعة هذه المؤسسة العملاقة منذ زمن الأئمة عليهم السلام وإلى اليوم، وقد تكفلت ضمن ضوابط دقيقة، تخريج عشرات المجتهدين، الذين نالوا درجات عالية من الفقه والعلم.

والمهم في الأمر، أن المؤسسة الحوزوية لا تفرض مرجعاً محدداً على المقلِّد، وإنما المكلَّف هو الذي يختار لنفسه من بين المجتهدين مرجعاً له، فهي بالتالي انتخاب جماهيري شعبي لا تتدخل فيه الدعاية والترغيب، فالإنسان المسلم ضمن الدائرة الشيعية إما أن يكون مجتهداً قادراً على استنباط الأحكام الشرعية أو مقلداً للفقيه الجامع لشرائط الاجتهاد، ويبقى باب الحوزة مفتوحاً أمام الجميع، لمن يرى في نفسه أهلية التعلم والاجتهاد.

باب الحوزة مفتوح للجميع ولا تفرض على المقلد مرجعاً محدداً

والمرجعية الدينية ضمن التصور الموجود هي مصدر فخر الشيعة وعزتهم؛ لأنهم دون غيرهم من المذاهب استطاعوا أن يوجدوا لأنفسهم نظاماً على رأسه العلماء: (فكيف ما كنتم يولى عليكم)، فالمجتمع الذي يدفع لصدارته الفقهاء والعلماء، هو خير نموذج للمجتمع الذي أراده الإسلام، ولا أتصور أن هناك منصفاً لا يرى أن النظام المرجعي عند الشيعة، هو الخيار الأمثل لأي مجتمع إسلامي، ولا بديل عن ذلك على المستوى النظري - طالما أن المجتمع يتصف بكونه مسلماً -، ولا على المستوى العملي؛ فواقع الحال دالٌّ على أن الدين أصبح مطية في يد السلطان.

فالمجتمع الشيعي مستقل بكيانه غير مرتهن لغيره، ولقد كان ذلك مصدراً لعداء الأنظمة الحاكمة والمذاهب التي تحتمي بها، رغم أن الشيعة أكثر انضباطاً بحقوق المواطنة والعيش المشترك، وأكثرهم تعقلاً في التعامل مع المخالف، إلا أن استبداد الأنظمة لا يقبل أن يكون هناك ولاء لغيره، وقد خسر الشيعة الكثير بسبب الانتماء المرجعي، فهُمِّشوا، وحوصروا، واستُضعفوا، وسُجنوا، وهُجِّروا،... ورغم ذلك، ظلت المرجعية هي العلم الذي يرفرف على رؤوس الشيعة.

وكشاهد على تصدي المرجعية لشؤون الأُمّة، ودليل على مدى تأثير الزعامة الدينية على نفوس الشيعة، نُذكِّر هنا بدور المرجعية في إسقاط آخر امبراطوريتين إيرانيتين عرفتهما بلاد فارس، هما الامبراطورية القاجارية في نهاية القرن التاسع عشر، والامبراطورية الشاهنشاهية البهلوية في نهايات القرن العشرين.

ففي السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر اضطر ناصر الدين شاه القاجاري، الى التراجع عن قانون منح امتياز التنباك (التبغ) للإنجليز، وذلك بسبب الضغط الكبير الذي شكلته فتوى المجدد الشيرازي بتحريم التبغ، (التي عرفت بثورة التنباك)، وقد وصل تأثير هذه الفتوى إلى داخل أسوار القصر القاجاري، حيث قامت زوجة السلطان نفسها بتحطيم كل أدوات التدخين في القصر، وكان ردُّها حاسماً، عندما استنكر زوجها هذا الفعل، بقولها: (إن الذي حلّلني عليك حرّم استعمال التنباك اليوم).

الشيء نفسه حصل في ثورة الإمام الخميني، على امبراطورية محمد رضا بهلوي في نهاية السبعينات، عندما اصطدم الشاه بفتاوى العلماء الذين حرموا إعانة الحاكم الظالم على شعبه، الأمر الذي جعل الحرس الامبراطوري الخاص وهم «الخالدون»، يتخلون عن حماية النظام وإعانته، ولم ينفرط عقد نظام محمد رضا بهلوي، إلا بعد أن انفرط عقد حرسه «الخالدون»، وقرروا الالتحاق بالشعب عملاً بفتوى العلماء.

شواهد من واقعنا

ومن أهم الشواهد التي تدلل على حضور المرجعية الفقهية في المجتمع الإسلامي الشيعي، وما زالت تداعياتها حاضرة في الساحة، هي الفتوى التي أصدرها المرجع الكبير السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) في العراق، بوجوب الجهاد الكفائي ضد تنظيم داعش الإرهابي، بعد أن كاد يجتاح العراق كله في ظل ضعف الحكومة العراقية وتآمر دولي واقليمي، فهب الشعب العراقي بكل مكوناته حتى عجزت الجهات الرسمية من استيعاب الملايين الذين استجابوا لهذه الفتوى، وتكون على إثرها مجموعات عسكرية ضخمة عملت على طرد داعش من المدن العراقية وإلحاق هزيمة نكراء به. 

وعليه فإن الواقع الشيعي شاهد على مدى العلاقة التي تربط القاعدة بقمة الهرم، ولا شيء هناك يحقق ذلك الرابط سوى الدين والالتزام بالأحكام، ولولا ذلك الحرص على الدين، لما دفع الشيعة أخماس أرباحهم سنوياً للمرجعية الدينية، الأمر الذي جعل المؤسسة الدينية مستقلة، وغنية عن مد اليد لطلب العون من أي نظام سياسي موجود، بخلاف المؤسسة الدينية للمذاهب السنية، التي أصبحت جزءاً من إدارات الدولة، مما جعلها دوماً رهينة لسياسة النظام الحاكم، فالدولة هي التي تعيِّن المفتي، ووزير الأوقاف، وإدارة الذكاة، وتتدخل حتى في شؤون التعليم في الجامعات الإسلامية، ولم نر في كل التاريخ، أن المؤسسة الدينية السنية تمردت على حكومة من الحكومات التي حكمت.

وهذه الإشارة كافية الدلالة، على أن فكرة المرجعية منبثقة من صميم الإسلام، وأنها الطريق الذي يحقق سيادة الدين، وبذلك نكون قد أكدنا على مدى انسجامها مع فلسفة الإسلام الكبرى، وهي التكامل على المستوى الفردي والاجتماعي.

وفي ختام هذا العنوان، أسرد بعض الأحاديث والآراء التي زخرت بها مصادر السنة، في ضرورة السمع والطاعة للحاكم حتى وإن كان ظالماً، الأمر الذي يشكل مفارقة كبيرة بين المذهب الذي يأمر اتباعه بمولاة السلطة السياسية الحاكمة، وبين المذهب الذي ينخرط افراده ضمن نظام اجتماعي يكون على رأسه الفقهاء والعلماء. وهذه النصوص هي التي تطرب لها آذان كل الطغاة، الذين أمرنا الله بمقاطعتهم والكفر بهم، فكل من يرفض المرجعية الدينية للفقيه، لا طريق أمامه إلا الوقوع في أحضان الطاغوت. 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْركَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ([5]).

وعَنْ وائل بن حجر - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ؟ ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ؟ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ([6]).

وعن حذيفة - رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لايَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلايَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ الله إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟، قَالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ؛ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ([7]).

وعن عَوْف بْنَ مَالِكٍ الأشْجَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالُوا: قُلْنَا يَا رَسُولَ الله، أَفَلا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟، قَالَ: لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، أَلا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئاً مِنْ مَعْصِيَةِ الله، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ الله، وَلا يَنْزِعَنَّ يَداً مِنْ طَاعَةٍ([8]).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً فَلْيَصْبِر، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً([9]).

وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، لا نَسْأَلُكَ عَنْ طَاعَةِ مَنِ اتَّقَى، وَلَكِنْ مَنْ فَعَلَ وَفَعَلَ، فَذَكَرَ الشَّرَّ، فَقَالَ: اتَّقُوا الله، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وصحّحه العلامة الألباني ([10]).

وغيرها من الأحاديث التي لا تجد في بابها نصاً يعارضها، وعلى ذلك كان إجماعهم، يقول الإمام أحمد: ومَن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقرّوا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شقَّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية ([11]).

وَقَالَ أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا عَلَى السمع والطاعة لأئمة المسلمين... من بَرٍّ وفاجر، لا يلزم الخروج عليهم بالسيف، جار أو عدل ([12]).

وَقَال الآجري: (من أُمِّر عليك من عربي أو غيره، أسود أو أبيض، أو أعجمي، فأَطِعه فيما ليس لله عَزَّ وَجَلَّ فيه معصية، وإن ظلمك حقّاً لك، وإن ضربكَ ظلماً، وانتهكَ عِرضَكَ وأخذ مالك، فلا يَحملك ذَلِكَ عَلَى أن يَخرُج عليه سيفُك حتّى تقاتله، ولا تَخرُج مع خارجيٍّ حتّى تقاتله، ولا تُحرِّض غيرك عَلَى الخروج عليه، ولكن اصبر عليه) ([13]).

وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنة: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل- فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.

وقال الحافظ: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لِما فِي ذَلِكَ من حقن الدماء وتسكين الدهماء ([14]).

وقال العلاّمة ابن عثيمين: الإمام هو وليُّ الأمر الأعلى فِي الدولة، ولا يُشترط أن يكون إماماً عاماً للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة .. من عهد أمير المؤمنين عُثْمَان بن عَفَّان... وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لِمن تأمّر على ناحيتهم، وإن لَم تكن له الخلافة العامة..([15]).

ويقول الإمام أبو عثمان الصابوني (ت 499 هـ): ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم بَرّاً كان أو فاجراً، ويرون الدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف ([16]).

ولقد ذكر هذا الإجماع جمع من العلماء، منهم النووي حيث قال: (وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين)([17]).

ونقله ابن حجر عن ابن بطال فقال: (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء..، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح ...([18]).

ونحن هنا لا نقول إلا ما قاله تعالى: ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35))([19])، وما قاله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)([20]).)[21]

الهوامش:


[1] - سورة البقرة/256.

[2] - سورة المائدة/56.

[3] - سورة النساء/60.

[4] - الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 263

[5] - صحيح مسلم/ حديث رقم 1836.

[6] - المصدر السابق/ حديث رقم 1846.

[7] - صحيح مسلم/ حديث رقم 1847.

[8] - المصدر السابق/ حديث رقم 1856.

[9] - البخاري/ حديث رقم 7053، ومسلم/ حديث رقم 1851.

[10] - ابن أبي عاصم في السنة/ حديث رقم 1069.

[11] - أصول السنة/ حديث رقم 27.

[12] - رسالة إلى أهل الثغر ص296.

[13] - الشريعة ص40.

 

[14] - الفتح 13/7.

[15] - الشرح الممتع 8/12.

[16] - عقيدة أصحاب الحديث ص 106 .

[17] - شرح صحيح مسلم 12/ 229.

[18] - فتح الباري 13/ 7.

[19] - سورة يونس/35.

[20] - سورة النساء/60.

[21] - الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات – محمد بن صالح العثيمين ج1 ص 284- 285- 286 - 287

2020/12/27

لـ’حكام الجور’.. سكرة الموت بانتظاركم: ألم يشبه ’لسعات الأفاعي’!

كتب الشيخ محمد الصنقور: وجاءت سكرة الموت (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ / وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ / وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ / لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(1)

صدق الله مولانا العليُّ العظيم

 

معنى السكرة:

المراد من السكرة هو حالة الذهول التي تُشبه حالة الثمِل المخمور الذي بلغ السكر منه مبلغاً فَقَدَ معه عقله وصوابه ورُشده، وهي تعبيرٌ عن حالةٍ من الانهيار في القوى التي تنتاب الإنسان عند الإحتضار وقُرب الأجل، فتراه لا يَشعر بِمَن حوله، يُبصرهم ولكن يشقُّ عليه أنْ يتحدث إليهم، يَسمعهم ولكن يشقُّ عليه أنْ يردَّ عليهم، يُعتقلُ لسانه، وتجدُ أعضاء بدنه في حالةِ خمولٍ لا تقوى أنْ تبطش، بل لا تقوى أنْ تتحرك بِملء إرادته، وينتابه الارتعاش بل ينتابه الاضطراب الشديد، وذلك لأنَّ قواه قد بدأت في انحدارٍ وزوال. هكذا تُعبِّر الآيةُ عن حالة الإنسان عند اقتراب أجله، فهي سَكرةٌ وذهولٌ وغثيانٌ وشعورٌ بالْولوج في عالمٍ هو غيرُ العالم الذي ألِفه وأنِسَ به، حيث يُبصر أموراً لم يكن مُبصراً لها، وكان في غفلةٍ عنها، فبصره حديد ولكن ليس إلى مَن حوله، وإنَّما إلى العالم الآخر الذي هو مُقبلٌ عليه، وهو ما يُعبَّر عنه بهْولِ المطَّلع، إذ يرى أموراً مهولةً لا يراها مَن هو جالس حوله، أمورٌ تَبعث على الخوف والرعب وحينها قد لا يُبصر مَن حوله وما حوله كما كان يُبصره قبل أنْ تنتابه هذه الحالة، حينئذٍ تجتمع عليه همومٌ وهموم، همٌّ لأنَّه لا يدري إلى ما سيكون مصيره، و همٌّ لأنَّه مُشرفٌ على مفارقة أمورٍ كان قد ألَفها وأنِس بها، و همٌّ لأنَّه سينفصلُ عن أعزِّ ما عنده: من أموالٍ، ومسكنٍ، وأولادٍ وأطفال وجاه، فكلُّ شيءٍ حوله سينفصل عنه.

سكرةٌ يصاحبها شعور بالألمِ الشديد، ألَمِ المرض، وألَمِ الموت، حتى وَرَدَ -أو قيل- إنَّه كأنَّما تُقطَّع أوردتُه وريداً بعد وريد، كما وَرَدَ في بعض الطرق أنَّ رسول الله (ص) قد قال: "إنَّ الميت أو المشرف على الموت يَستشعر ألمَ ثلاث مئة ضربةٍ بالسيف على جسده" ويقول أمير المؤمنين (ع): "فغيرُ موصوفٍ ما نَزَلَ بهم"(2) لا حظوا أنَّ عليُّ بن أبي طالب الذي أجاد أنْ يصف كلَّ شيءٍ حوله فوصف الآفاق، ووصف السماوات، والملكوت الأعلى، يقول: "غيرُ موصوفٍ ما نَزَلَ بهم"! نعم، يَصعب وصف ما نزل بهم، ويُضيف (ع) "غيرُ موصوفٍ ما نَزَلَ بهم، اجتمعت عليهم سكرةُ الموت وحسرةُ الفَوْت، ففترت لها أطرافهم وتغيَّرت لها ألوانُهم ثم ازداد الموتُ منهم وُلوجا، فحيِل بين أَحدِهم وبين منطقه، وإنَّه لبين أهله ينظر بِبصره ويسمع بأذنه على صحة عقله وبقاءِ لُبِّه، فيمَ أفنى عمره وفيم أذهب دهره، ويتذكرُ أموالاً جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مُصرَّحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبَعاتُ جمعها وأشرف على فراقها، تبقى لمَن وراءه فيكون المَهنأُ لغيره والعِبئ على ظهره"(3).

مناشئ سكرة الموت:

يقول العلماء: إنَّ سكراتِ الموت تَنشأ من أمورٍ، نذكر أربعةً منها:

المنشأ الأول: آلام الجسد

شدة الألم والمرض وانعقاد اللسان والشعور بانحلال القِوى، وقد قلنا: إنَّ الألم الذي يستشعره يكافئ ثلاثمائة ضربة بالسيف على جسده، ووَرَدَ أنَّها -أي نزعُ الروح- كلسع الأفاعي بالنسبة للكافر، ففي روايةٍ وردت عن الإمام الصادق (ع)، رواها الشيخ الصدوق: أنَّه قيل للصادق (ع): صف لنا الموت، فقال: "للمؤمن كأطيب ريحٍ، يَشمُّه فينعس لطيبه، وينقطع التعبُ والألم كلُّه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد. قيل: فإنَّ قوماً يقولون إنَّه أشدُّ من نشر المناشير، وقرض المقاريض، ورضخٍ بالأحجار، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق"(4).

يُسأل الإمام الصادق (ع): هل الأمر كذلك؟ فيقول (ع): "هو كذلك، هو على بعض الكافرين والفاجرين، ألا ترون منهم مَن يُعاين تلك الشدائد، فذاكم الذي هو أشدُّ من هذا، إلَّا من عذاب الآخرة فهو أشدُّ من عذاب الدنيا"(5) وللحديث تتمة نشير إليه فيما بعد.

ووَرَدَ أيضاً أنَّ أمير المؤمنين (ع) أُصيب بمرض في عينه فكان ألمُه شديداً، فعاده رسول الله (ص) فوجده يئنُّ من شِدَّة الألم، فقال له رسول الله (ص): "أجزعاً أم وجعاً؟ فقال: بل هو وجع. فقال له (ص): إنَّ ملك الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سفَّودٌ من نار -عود من حديد يُشوى عليه اللحم- لنزع روحه، فتصيح جهنم. فجلس عليّ (ع) مذهولاً، فقال: هَوَّنَ ما ذكرته بي ألمي، أعِد علَيَّ حديثك يا رسول الله، ثم قال (ع): يُصيب أمتك؟ قال (ص): نعم، حاكمٌ جائر، وآكلُ مال اليتيم ظلماً، وشاهد زور"(6) هؤلاء يُصيبهم هذا النحو من النزع. إذن هذا أوَّل ما تَنشأ عنه سكرة الموت.

المنشأ الثاني: فراق الأحبة

وهو أنَّ أهله، وأطفاله، وعياله، ومَن كانت عُلقته بهم وثيقة، مجتمعون حوله يبكون على فراقه، فهو يستشعر الألم والحسرة على فراقهم؛ بتوهُّم أنَّه الذي يرعاهم، وأنَّه الذي يذودُ عنهم، وأنَّ رزقُهم إنَّما هو عليه، فيرقُّ لهم. هذا الشعور بأنَّه كفيلهم، وأنَّهم إذا ذهب عنهم سيضيعون، هذا الشعور يبعث في قلبه الحسرة والألم! ولو أنَّه كان يثق بربَّه، ويعلم علماً وجدانياً -قد امتزج بقلبه وخاطره- بأنَّه لم يكن إلَّا وسيلةً لرزقهم وكفالتهم والذود عنهم، وإذا ما مات فإن الله تعالى سوف يُهيِّء لهم من يكفلهم ويحفظهم ويحميهم، لو كان يستشعر ذلك لخفَّ عليه ألم الحسرة، ولكنه لضعف ثقته بربَّه، ولثقته بنفسه يُبتلى بهذا الشعور بالألم والحسرة على أطفاله، فيرى أطفاله يتصارخون فتشتد حسرته لأنَّهم سوف يصبحون أيتاماً بعده، فليس لهم من كافلٍ ولا معين، هذا ما يوجب حسرته وشدة ألمه.

ثم إنَّ منشأً آخر يبعث على الحسرة والألم -خصوصاً عند أبناء الدنيا- وهو الانفصال عن المال الذي جمعه وأغمض في جمعه، -كما يقول أمير المؤمنين (ع)-، فجمعه تارةً من مصرَّحاتها -أي من الحلال البيِّن- ومن مشتبهاتها، فهو قد جمعه وتحفَّظ عليه، وبخل به وعادى الناسَ فيه ومن أجله، جمعه ليكون المَهنأُ لغيره والعِبءُ على ظهره، فهناك يستشعر الألم، ألم المفارقة لهذا المال، أمَّا المُخِفُّون فعلى أيَّ شيءٍ يتحسرون؟

العجيب إنَّ سلمان المحمديّ (قد) عندما كان في النَّزْع بكى، فقيل له: أو مثلك يبكي يا سلمان؟! سلمانُ كان من الأبدال، وكان ممن ينتصر به اللهُ تعالى لدينه، ولم يستبدلْ به ربُّه غيرهَ، يبكي سلمان عند النزع! فيُقال له: أمثلُكَ يبكي يا سلمان؟! قال: كيف لا أبكي، وقد (مضمون الرواية) سمعتُ رسول الله (ص) يقول: إنَّ المؤمن إذا مات ينبغي أنْ لا يكون شيءٌ عالقاً به بعد وفاته، ينبغي أنْ يكون خفيفاً، قيل له: وما عندك يا سلمان؟! كانت عنده جفنة، ومطهرة، وسجّادة، ثلاثة أشياء، وهو يبكي لأنَّه سيموت وعنده أموالٌ يُحاسَب عليها!!

المنشأ الثالث: هول المُطَّلع

وثمة منشأُ آخر لسكرة الموت، وهو هَوْلُ المُطَّلع، وهذا الذي يبكي منه حتى الأخيار، حتَّى الأبرار، حتَّى الأولياء، بل وحتَّى الأنبياء، كلُّ هؤلاء يبكون لهول المطَّلع!!

هَوْل المطَّلع لا يختص به سواد الناس، أولياءُ الله ونُجباؤه يخشون هولَ المطلع أيضاً. أبو محمد الحسن السبط الأكبر (ع) عندما كان في النَّزع بكى، وكان منشأ بكائه -كما أفاد- هو هول المطَّلع، وما معنى هول المطَّلع؟ سنتعرض لذلك إن شاء الله فيما بعد ولكن نشير لمعناه في المقام بنحوٍ موجز، قال تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(7) تشير الآية الكريمة إلى أنَّ الإنسان يطَّلع عند موته على العوالم التي سيُقدم عليها، وهي مَهولة مُرعبة ومُخيفة، حسابٌ وعقابٌ ونُظُمٌ جديدة، فهو قد اعتاد على نُظُم الدُّنيا، على قوانينها، على سُنَنِها، أمَّا الآن فسيُقبِل على سننٍ جديدة، على عوالمَ ونظمٍ مختلفة، فهو يرى الملائكة، قد يرى ملائكة الغضب عابسين في وجهه، وبعضهم يُنذره ويُبشِّره بالعذاب الأليم الشديد، الآن وقد أصبحتَ في أيدينا ماذا ستصنع؟ أمَّا المؤمن فتستقبله ملائكةُ الرحمة، ولكنَّ أمامه طريقٌ طويلٌ، أمامه حسابُ القَبر، أمامه البَرزخ أمامه الصراط، وتطاير الكتب، أمامه الميزان، أمامه المساءلة، كلُّ هذه الأمور تُخيف وتُرعب، لا يدري إلى أيِّ موضعٍ سينتقل؟ هذا هو هولُ المطَّلع.

حُكي أنَّ شخصاً كان يحتضر، فقيل له: يا رجل قل: لا إله إلا الله. قال: سقرٌ، سقر! كلَّما قيل له: قل لا إله إلا الله، قال: سقر! لأنَّه يرى سقر، بصره حديد، لذلك فهو يرى سقر، يُبصر سقر، ويُبصر ملائكةَ العذاب، ولعلَّه يُبصر السَفُّود الذي أخبر عنه رسول الله (ص) وأنَّه سوف يُكوى به بعد قليل، ويغرس في جسده فتصيح جهنَّم، لذلك هو فَزِعٌ، هذا هو هول المطلع.

وحكي عن آخر أنَّه كلَّما قيل له: قل لا إله إلا الله. قال: النار النار، فهو يُبصر النار، ويرى النار، وإنْ كان لا يراها غيرُه، هذا هو هولُ المطَّلع.

لذلك يحتبسُ لسانه ولا يتمكن من الحديث، يُبصر ولا يُجيد أنْ يتحدَّث، وقد يُعتقل لسانهُ عن ذكر الله؛ لأنَّه كان قد فعل السيئات.

ينقل أحدُ العلماء في النَّجف الأشرف، يقول: كان لي تلاميذ وكان بينهم تلميذ متميَّزٌ هو أعلم تلامذتي، يقول: أصاب ذلك التلميذ نزع الموت، فجلستُ عند رأسه، وقلتُ: ياشيخ، قل لا إله إلا الله. وهو لا يتمكَّن أنْ يقول! فيكرَّر عليه، ولكن دون جدوى! يقول: قرأتُ عليه سورة ياسين، فقال لي: لا تقرأ. فامتثلتُ لقوله، فسكتُّ، ثم قُلتُ له: قل لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عليٌّ وليُّ الله وهو لا يجيد أنْ يقول، بل -كما أتذكَّر- قال: لالا! أي لا يريد أنْ يقول!! ثم أسلم الروح.

يقول هذا العالم الجليل: رأيتُه في النوم -ليلة وفاته، ليلة الوحشة-: "فرأيتُه يُسحب إلى النار، رأيتُ هذا التلميذ المتميَّز الذي بذل أكثر عمره في تحصيل علوم آل محمد (ص)، رأيتُه يُسحب إلى النار، فقلتُ له: يا شيخ لماذا تُسحب إلى النار؟ ولماذا منعتني من قراءة سورة ياسين عليك وأنت تحتضر؟، ولماذا أبيت أنْ تقرأ الشهادتين وأنت تحتضر؟ فقال: لأمورٍ ثلاثة: كنتُ نمَّاماً أفتعلُ الفتنَ بين الناس، وكنتُ حسوداً أتمنَّى زوال النعمة عن الغير وقد أعمل في سبيل إزالتها، وهل ثمَّةَ أمرٌ آخر؟ قال: بلى، أصابني مرضٌ فذهبتُ إلى حكيم، فقال لي: دواؤك أنْ تشرب في كلَّ سنةٍ كأساً من النبيذ، هذا هو علاجك، وإنْ لم تفعل فلن تتعافى من مرضك. وكنتُ أعلم أنَّ الله لم يجعل في حرامٍ شفاءً (8)، ورغم ذلك كنتُ حريصاً على الشِّفاء فشربتُه، وهذا ما حبس لساني عن التشهُّد بالشهادتين هذا هو المنشأ الثالث لسكرة الموت.

المنشأ الرابع: الشعور بالحسرة

هناك منشأ رابع وهو الشعور بالحسرة، ولكنَّها ليست الحسرة على الأموال والأولاد، وإنَّما هي الحسرة على أنَّه فرّط في أيامه الخالية، كان بإمكانه أنْ يحصِّل الثواب والطاعة ففرَّط، كان بإمكانه أن يجتنب المعصية ففرَّط، كان بإمكانه أنْ يتوب من المعاصي التي اقترفها فلم يفعل، (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ / وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ / وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ / وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ / إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)(9) فهو يُساق، (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)، (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى / وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(10) هناك يشعر بالحسرة، عندما تبلغ الروح التراق والحلقوم حينها لا تُقبل التوبة، ينتهي أَمدُ التوبة، فيتحسَّر بانتهاء أمد التوبة، فيُصاب بالسكرة والذهول.

هنا نودُّ أن نشير إلى أمرٍ، وهو أنَّ الآية كأنَّما نظَّرت لسكرة الموت بسكرة يوم القيامة، سكرةُ يوم القيامة رهيبةٌ جداً، الآية المباركة أفادت: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)(11) هنا أيضاً قال تعالى: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) (12)، هناك سكرة، وهنا سكرة. وهوما يُعبِّر عن أن ْسكرة الموت ليست بأقلَّ شدةً من سكرة يوم القيامة، كما أنَّ الناس يوم القيامة كالسُّكارى وما هم بسكارى، كذلك الذين ينتابهم الموت وليس عن أحدٍ منا ببعيد، فنحن وإنْ كنَّا لم نستوعب هذا الأمر لأنَّنا لا ندري كيف هي سكرةُ الموت، وإنَّما نحدس أنَّ سكرة الموت تكون لهذه الأمور ولعلَّ الأمر أشد، وهو كذلك لأنَّ الإمام علي (ع) أفاد بأنَّه: "غير موصوف ما نزل بهم"، نعم هناك بعض الأمور التي أشار إليها الإمام (ع) عرفناها من قول الإمام، وقول أهل البيت (ع)، إلَّا أنَّ العِلْم السَّمعي ليس كالشُّهود والمعاينة.

ما يُهوَّن سكرات الموت

ثم إنَّ روايات أهل البيت (ع) تصدَّت لتبيان ما يُهوِّن سكرات الموت نذكر بعضها ونُرجأُ الباقي لما بعد -إنْ شاء الله-.

1- صلة الرَّحِمْ وبرُّ الوالدين:

أوَّل أمر: نذكره فيما يُخفَّف سكرات الموت، هو صلة الرَّحِمْ والبَّر بالوالدين، فقد أكَّدت الروايات الشريفة على أنَّ صلة الرحم والبَّر بالوالدين مما يُهوِّن سكرات الموت، فمن ذلك ما رواه الشيخ الصدوق (قد) عن الإمام الصادق (ع) قال: "مَن أحبَّ أنْ يُخفِّف اللهُ عنه سكرات الموت فليكنْ لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً، فإذا كان كذلك هوَّن اللهُ عليه سكراتِ الموت، ولم يُصبه في حياته فقرٌ أبداً" (13).

وهناك رواية أخرى -يرويها الشيخ الصدوق (قد) أيضاً- عن الامام علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر (ع)، وينتهي السند إلى الامام عليِّ ابن أبي طالب (ع)، قال: "لمَّا كلَّم الله عزَّ وجل موسى بن عمران .. إلى أنْ قال: قال موسى: إلهي، فما جزاء مَن وصل رَحِمَه؟ قال يا موسى: أُنسئُ له أجله، -أي أُطيل في عمره- وأُهوِّن عليه سكرات الموت، ويناديه خزَنةُ الجنة: هلمَّ إلينا، فادخل من أيِّ أبوابها شئت"(14)، هذا لِمَن وصل رحمه.

وصلة الرحم تختلف باختلاف الحالات والظروف، فلو كان أخوك مثلاً في حاجتك، وكنتَ قادراً على قضاء حاجته، فتلكَّأتَ في قضائها، فأنت ممن قطع الرَّحِم أو لم يصله، فتكون قد فوَّتَّ على نفسك منحةً إلهية، وهي طول الأجل، والتخفيف من سكرات الموت، طبعاً لا تزول سكرات الموت بذلك، وإنَّما تُخفَّف عن المؤمن سكرات الموت بمثل صلة الرحم والبرَّ بالوالدين، وذلك هو معنى قوله: (اُهوَّن عليه سكرات الموت).

وننقل أيضاً روايةً أخرى تُعبِّر عن مدى أهمية البرَّ بالوالدين، وأنَّ عدمه يُشدَّد من سكرات الموت، هذه الرواية وردت عن رسول الله (ص)، رواها أبو عبد الله الصادق (ع)، يقول: "إنَّ رسول الله (ص) حضر شاباً عند وفاته، فقال له: قل لا إله إلا الله. قال: فاعتُقل لسانه مراراً، -يعني كلما قال له رسول الله (ص) قل لا إله إلا الله حار ولم يتمكن من النطق- فقال لامرأةٍ كانت عند رأسه: هل لهذا أُمٌّ؟ قالت: نعم، أنا أمُّه. قال: أساخطةٌ أنتِ عليه؟ قالت: نعم، ما كلمتُه منذ ستِّ حجج -يعني ست سنوات-. قال لها: إرضي عنه. قالت: رضي اللهُ عنه يارسول الله برضاك عنه. فقال له رسول الله (ص): قل لا إله إلا الله. فقالها"(15).

الرواية إلى هنا تُعبِّر عن أنَّ عدم البرَّ بالأُم يُنتج شدَّة النزع، وشدة سكرات الموت. ثم إنَّ الرواية تُشير إلى أمرٍ زائد يؤكِّد ما ذكرناه -قبل قليل- عن معنى هولِ المطَّلع، لاحظوا ماذا قال له رسول الله (ص): قل لا إله إلا الله. فقالها، فقال له النبي (ص): ما ترى الآن؟ أصبح حينها قادراً على الكلام لرضا أمُهَّ عليه، فقال له: أرى رجلاً أسود الوجه، قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة وأخذ بكظمي، بحلقي. -وليني: والمقصود من (وليني) أي استبدَّ به وهيمن عليه، وجثى على صدره، ولعلَّ ذلك هو عمله السَّيء قد تمثَّل أمامه فهو يراه في وجهٍ قبيح، وبثياب وسخة، ورائحة نتنة، كل ذلك تعبير عما ينتظره من العذاب-، فقال له النبي (ص) قل: "يا مَن يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، اقبل مني اليسير، واعفُ عنَّي الكثير، إنَّك أنت الغفور الرحيم) فقالها الشاب، فقال له النبي (ص): انظر ماذا ترى بعد هذا الدعاء؟، قال: أرى رجلًا أبيضَ اللون، حَسَنَ الوجه، طيَّب الريح، حسن الثياب، قد وَليني، وأرى الأسود قد تولَّى عني، فقال له النبي: أَعِد، فأعاد فقال له: ما ترى؟، قال: لستُ أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني، ثم طفى -مات على تلك الحالة-"(16)، هذه الرواية تُعبَّر على أنَّ البرَّ بالوالدين يهوِّن من سكرات الموت.

2- قضاء حوائج المؤمنين:

هناك أمرٌ آخر يُهوِّن من سكرات الموت أشارت إليه الروايات الواردة عن أهل البيت (ع)، هذا الأمر هو إعانة المؤمنين وإكرامهم، فمن كسا أخاه المؤمن أو أطعمه هوَّن اللهُ عليه سكرات الموت، روي عن الصادق (ع) قال: "مَن كسا أخاه كسوةَ شتاءٍ أو صيف، كان حقَّاً على الله أنْ يكسوه من ثياب الجنة، وأنْ يُهوِّن عليه سكرات الموت، وأنْ يُوسَّع في قبره، وأنْ يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى"(17)، ورُوي عن رسول الله (ص): "مَن أطعم أخاه حلاة، أذهب الله عنه مرارة الموت"(18) هذه رواية أخرى أيضاً تُعبِّر عن أنَّ أقلَّ القليل يفعله المؤمن لأخيه ينتج عن ذلك أنْ يهوِّن اللهُ عليه سكرات الموت، ويوسَّع في قبره، ثم يلقى الملائكة يوم القيامة بالبشرى.

3- الولاية لأهل البيت (ع)

ومما يهوِّن سكرات الموت، وهو الأهمُّ مما ذكرنا هو الولاية لأهل البيت (ع)، رُوي عن أمير المؤمنين (ع) قال: "قال لي رسول الله (ص): يا علي، إخوانك يفرحون في ثلاثة مواطن: عند خروج أنفسهم -يعني عند الموت عند النزع- وأنا شاهدهم وأنت، وعند المساءلة في قبورهم، وعند العرض الأكبر وعند الصراط إذا سُئل الخلق عن إيمانهم فلم يجيبوا"(19).

وورد في رواية مشهورة -أقرأها للتيمُّن-، عن الحارث بن همدان -وهو أحد الخُلَّص لأمير المؤمنين (ع)- في حديث طويل نشير إلى موضع الحاجة منه، قال: "أُبشر يا حارث، والذي فَلَقَ الحبَّة وبرءَ النسَمة، وليَّي وعدوي في مواطن شتى، ليعرفنَّي عند الممات، وعند الصراط، وعند الحوض، وعند المقاسمة. قال الحارث: وما المقاسمة يا مولاي؟ قال: مقاسمة النار، أُقاسمها قسمةً صحيحة، أقول: هذا وليَّي فاتركيه، وهذا عدوي فخذيه، ثم أخذ أمير المؤمنين (ع) بيده، فقال: يا حارث أخذتُ بيدك كما أخذ رسول الله (ص) بيدي، فقال لي -وقد شكوت حسد قريش والمنافقين لي-: إنَّه إذا كان يوم القيامة، أخذتُ بحبل الله وبحجزةٍ- يعني عصمةٍ من ذي العرش تعالى، وأخذتَ يا علي بحُجزتي، وأخذ ذريتُك بحجزتك، وأخذ شيعتُكم بحجزتكم، فماذا يصنع الله بنبيَّه وماذا يصنع بوصيَّه؟ خذها إليك يا حارث قصيرةً من طويلة، أنت مع مَن أحببت، ولك ما اكتسبت، يقولها ثلاثا"(20).

الرواية طويلة، وقرأنا بعضها، حيث أشارت في البداية إلى مجيء عليَّ بن أبي طالب إلى المؤمن عند الموت بالبشرى، ثم إنَّه يكون بحجزةِ عليًّ (ع) في يوم القيامة.

وقد صاغ السيد الحمْيري هذه المنقبة في أبيات، والسيد الحمْيري تعَّهد على نفسه أنْ ينظم كلَّ منقبة سمعها لعليًّ (ع) في أبيات، وهذه واحدة من المناقب التي نظمها قال:

 قولُ عليًّ لحارثٍ عجبٌ ** كم ثَمَّ أُعجوبة له حملا

ياحارِ همدان مَن يمتْ يرني ** من مؤمنٍ أو منافقٍ قُبُلا

يعرفني طرفُه وأَعرفُه ** بنعته واسْمِه وما عَمِلا

وأنت عند الصراط تعرفني ** فلا تخفْ عثرةً ولا زللا

أَسقيكَ من باردٍ على ظماءٍ ** تخاله في الحلاوةِ العَسَلا

أقول للنار حين توقف للعرض ** دعيه لا تقربي الرجلا

دعيه لا تقربيه إنَّ له ** حَبْلاً بحبلِ الوصي متَّصلا (21)


الهوامش:

1- سورة ق / 19-22.

2- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص212.

3- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص212.

4- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج1 / ص298.

5- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج1 / ص298.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص228.

7- سورة ق / 22.

8- سورة ق / 22.

9- سورة القيامة / 26-30.

10- سورة القيامة / 30-32.

11- سورة الحج / 2.

12- سورة ق / 19.

13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج71 / ص66.

14- فضائل الأشهر الثلاثة -الشيخ الصدوق- ص88.

15- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج71 / ص75.

16- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج71 / ص75.

17- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 71 / ص380.

18- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 63 / ص288.

19- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج39 / ص07.

20- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص179.

21- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 6 / ص180.

2020/12/20

يراها البعض ’ظالمة’.. عدالة ومساواة التشريع تعني التقدير الملائم لكل فرد

هل التشريع الإسلامي يراعي العدالة على وجهٍ يواكب العصر الحاضر بحيث يضمن التساوي بين الناس جميعاً بغض النظر عن البلد والقوم والجنس والدين وغيرها من الانتماءات المتعارفة ويحترم الحرية الشخصية للأفراد؟

إن  التشريع الاسلامي ينطلق من الرشد والعدل والحكمة والفضيلة كمبادئ أساسية في بناء هذا التشريع كما يظهر من ملاحظة كثرة التركيز والتوصية لهذا المفردات وما يقاربها ويندرج فيها كما في قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]

وهي تعوّل في ذلك على اقتضاءات ثابتة وأخرى متغيرة بحسب الظروف والأحوال، كما هناك نقاط وحدود وتفاصيل خاضعة لاجتهادات الفقهاء التي ينبغي الأخذ بنضجها وتطوّرها وتكاملها وفق مبدأ تقليد المجتهد الحي - الذي هو الاتّجاه السائد بين فقهاء الإمامية -، لكن من الضروري الانتباه إلى مقتضيات هذه المبادئ الوجدانية بشكل حقيقي بعيداً عن الرغبات العامة التي قد تنشأ عن الغرائز والانفعالات أو الأجواء الحادثة تأثراً بأعراف مجتمعات أخرى أو الأمواج الثقافية التي تهيمن لفترة ما في أثر عوامل غير مدروسة.

فالحرية الشخصية للأشخاص مثلاً ينبغي أن توازن مع حق المجتمع في سلامة البيئة الأسرية والاجتماعية العامة من الناحية التربوية الملائمة مع عامة الأصناف من الأطفال والمراهقين والرجال والنساء جميعاً، فلا تصحّ المغالاة في الحرية على حساب الاستحقاقات الكامنة للمجتمع.

كما أنّ المساواة العادلة للدولة بين الموظفين في الحقوق لا تعني مثلاً إعطائها راتبا واحدا لجميعهم من غير ملاحظة طبيعة المؤهلات والمواقع والأدوار، بل تعني تقدير كل امرئ بقدره من دون تفاوت يرجع إلى العصبية والقوة والأعراف الخاطئة.

فإذا وجب مثلاً على المرأة سترٌ أشمل من الرجل لم يكن في ذلك إخلالاً بالمساواة العادلة بينهما؛ لأنّ طبيعة تكوين الجنسين تملي مثل هذا الستر على المرأة لكونها الأكثر إغراءً للرجل من الرجل لها، وهو بذلك يعود إلى منفعتها كزوجة تغار من سعي الأخريات في إغراء زوجها وكأمّ تسعى إلى تربية أولادها من فتيان وفتيات على وجه ملائم وكمعلمة تهتم بتلاميذها وهكذا.

وبذلك يظهر أنّ التسوية الملائمة التي تفرضها العدالة بين الناس تختلف عن التسوية بمعنى التعامل المماثل معهم تماماً.

فإذا كان لدى الدولة موظفون منهم أطباء ومهندسين وقضاة وجنود فإنّ التسوية العادلة والملائمة بينهم تقتضي إناطة الدور الملائم لكل منهم به حسب اختصاصه ومؤهلاته وتقدير جهد كل منهم بما يلائم دوره، بعيداً عن الخصائص التي لا دخل لها مثل الانتماءات القومية والمكانية ونحوها.

ولكن التسويّة الأخرى بمعنى التعامل المماثل معهم يعني إناطة أدوار مماثلة بهم من غير أخذ اختلافهم في اختصاصاتهم بنظر الاعتبار، وهذا ما لا تفرضه العدالة.

وعلى الإجمال فإن من الواضح أنّ العدالة إنما تفرض التسوية بمعنى التقدير الملائم لكل واحد، دون التسوية بمعنى التعامل المماثل بينهم من غير ملاحظة الاختلافات بينهم بنظر الاعتبار، بل هذه التسوية قد تكون ظالمة وضارة حتى بالطرف الذي يفترض مغبونا في كثير من الأحوال، وذلك أمر بديهي عند التامل الجاد.

ولذلك من الضروري التدقيق في مقتضيات القيم الوجدانية والتفطن للعناصر الدخيلة فيها دون التوسع والاسترسال في تطبيقها من دون النظر إلى المقتضيات الحكيمة على وجه جامع.

2020/12/17

الخلود في جهنّم: ذنب يقابله ’عذاب مؤبد’!

كتب السيد علي الحسيني: «تأبيد العذاب» في ضوء تجسّم الأعمال

«تأبيد العذاب» فكرة مخيفة جدّاً، فهي تعني: الخلود الدائم في نار جهنم، واستمرار العذاب إلى أبد الآباد دون انقطاع، وحسب النصّ القرآني، فإنّ الذين يُجازَون بذلك، وينتظرهم هذا المصير المرعب؛ هم خمسة أصناف من الناس: (الكفار، المنافقون، المحاط بالخطايا، آكل الربا، قاتل المؤمن عمداً).

والسؤال الذي يثور هاهنا: ألا يبدو ذلك منافياً لاشتراطات العدالة وفق مذهب التحسين والتقبيح العقليين؟! من حيث أنّ الخلود في النار - بوصفه عقوبة غير محدودة - لا يتلاءم مع عمل هؤلاء، فمهما كبرتْ جريرتُهم، وتعاظمتْ خطيئتُهم؛ يبقى عملهم محدوداً بمقتضى محدوديّة حياتهم!.

  أُدركُ جيّداً المعالجات التي قدّمت في هذا الإطار، وأعرفُ الرأي الذي ذهب إلى انقطاع العذاب، وأعاد قراءة الآيات؛ استناداً إلى أنّ الخلود في اللغة قد يأتي بمعنى المكوث طويلاً، ولستُ غافلاً عن الحديث الذي ينيط التخليد بالنيّة: فمن علم الله نيته أنه لو بقي في الدنيا إلى انقضائها كان يعصي الله...؛خلّده على نيته، وربما يؤيّده قوله تعالى: ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام : 28] ...كذا لا أُعدمُ النقض عليه: بأنّ فعل القتل لا يستغرق سوى بضع دقائق أو ثوانٍ بينما يُحكم القاتل بالسجن المؤبد، أو أنّ القاء قنبلة هيروشيما لم يتطلب سوى دقائق، لكن آثارها بقيت حتى اليوم. إلخ.

أدركُ ذلك كلّه تماماً، لكن ليس ذا ولا ذاك داخلاً في مسعى المقال وغرضه؛ إنّما الغرض هنا مقاربة الموضوع في ضوء نظريّة: تجسّم الأعمال، وهو ما يستدعي شرح النظريّة وعرض معطياتها القرآنيّة؛ ليتسنّى- بعد ذلك -عرض مقاربتها للإشكاليّة.

لقد شهدتْ نظرية تجسّم الأعمال حضوراً واسعاً في الفكر الإسلامي: عرفاناً وكلاماً وفلسفة، وموقعها هو وصف العلاقة بين العمل والجزاء، وتحديد طبيعة الارتباط بين الفعل الدنيوي وبين والثواب والعقاب الأُخرويين؛ إذ حيال ذلك انقسم المفكرون المسلمون إلى ثلاثة اتجاهات:

الأول-  يذهب إلى أنّ الصلة بينهما اعتبارية، وينفي الصلة التكوينية بين العمل والجزاء، والرأي عنده أنّ الجزاء أشبه بأجرة الأجير: متغيرة، وتقبل الزيادة والنقصان والإعدام، وأمرها مرهون بوضع الواضع واعتبار المعتبر.

الثاني- يرى أنّ العلاقة التكوينية محكومة برابطة العليّة، فالعمل علّة، والجزاء معلول، وهنا تقع مقولة : الجزاء من جنس/سنخ العمل، ويشترك هذا الرأي مع سابقه في اقرار المغايرة والاثنينيّة والتعدّد بين العمل والجزاء.

الثالث- أمّا تجسّم الأعمال فترى الإتحاد و العينية: عينيّة العمل للجزاء والعكس صحيح، فالفعل في دار التكليف عملة واحدة ذات وجهين: وجهة يبدو عليها ظاهرةً، ونسمي العمل على طبقها: غيبة- أكل مال اليتيم...، و وجهته الأخرى واقعيّة يكون فيها : - ناراً – أكلاً للحم الميت - إداماً لأهل النار...وإذن فالمقصود بنظريّة تجسّم الأعمال هو عدم المغايرة الحقيقيّة بين العمل والجزاء، أي أن العمل هنا(في الدنيا)، عين الجزاء هناك(في الآخرة)، وإن شئت معرفة شيءٍ مما تفسّره هذه النظريّة فانظر للأمثلة التالية:

تقول بعض الأخبار: ترفع الصلاة للسماء بيضاء وتهتف بحفظ صاحبها كما حفظها، وبالعكس فيما لو ضيّعها: ترفع سوداء وتدعو عليه بالضياع،  وتشير الروايات إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله...، وفي الآثار أيضاً: يُدفع للإنسان شبه محجمة دمٍ  وهو لم يسفكه، لكن لوشايته بكلمة للجبار يقال له: هذا سهمك من دم فلان...وورد في الخبر: أنّ الإنسان حين يوضع  في قبره يظهر له شخصٌ فيسأله الميت : من أنت؟ فيقول له : كنتُ عملك فبقيت معك، وجاء في وصف الغيبة : إنّها إدام كلاب أهل النار ، و في كتاب الله أنّها أكلٌ للحم الميت، وأنّ أكل مال اليتيم نار...، وجميع هذه الأمثلة أفعال وكلمات (لا ذوات)، فكيف وصفت باللون والنطق وتحول الكلمة إلى دمّ، وإدام ونار...كما لو كانت ذواتاً وأجساماً ؟! وهنا تبرز نظرية تجسّم الأعمال، كأفضل تفسير لذلك، إنّها تقول: إن للفعل الواحد صورتين: صورته المحسوسة في عالم الشهادة، وأخرى ملكوتيّة غيبيّة.

الشواهد والمعطيات القرآنية:

وفيما يلي عرض الآيات التي تشهد بظاهرها لصالح هذه النظرية، وحسب الإحصائية الأوليّة لآيات الكتاب رأيتها تبلغ الأربعين آية، ولا يحتمل المقال سردها، بيد أنّ المقصود حاصلٌ بتقسيمها إلى ستة أقسام، مع الاكتفاء بالقليل من الشواهد:

القسم الأول : الجزاء نفس العمل:

(إنّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقد تكرر هذا اللفظ أو ما في معناه في كتاب الله أكثر من عشر مرات، وفي معظمها جاء بصيغة الحصر بـأداتيه: " إنّما " أو بالاستثناء بعد الاستفهام: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : 90] أو بعد النفي: (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس : 54]، 

ويلاحظ في الأخيرة التصدير بنفي الظلم، و يفيد ظاهر هذا القسم أنّ الجزاء هو العمل .

القسم الثاني : رؤية العمل :

تؤكد طائفة من آيات الكتاب أنّ الناس يوم القيامة سيشاهدون أعمالهم ويرونها،(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ..) [الزلزلة : 7] وينظرون ما قدّمت أيديهم وهذه الرؤية وإن كانت تحتمل وجوهاً عدة ، مثل : مشاهدة جزاء أو صحيفة أعمالهم..إلخ، غير أنّ حملها على ظاهرها يسوق لتجسّم الأعمال، و من تلك الآية السادسة من سورة الزلزلة :(لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) وما بعدها، وآيتين؛ في سورة التوبة (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) [آية: 105 - 94]، وفي سورة النبأ، وجاء لفظ النظر: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) [آية: 40] 

القسم الثالث : الجزاء وفاء للعمل

في وصف طبيعة العلاقة بين العمل والجزاء، تستخدم عدة من الآيات لفظ " الوفاء " وأنّ ما سيلاقيه الإنسان غداً هو وفاءٌ لنفس فعله واستيفاء لذات عمله، يقول تعالى : (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [البقرة : 272]؛ إذ يلاحظ هنا أنّ نفس مال المنفق ـ وليس ثواب ما أنفقه ـ  سيعود إليه ،  ومعنى التوفية  إعطاؤهم نفس أعمالهم،فالآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال، كما ويلاحظ فيها وفي غيرها مما مرّ وسيأتي اقترانها بنفي الظلم !

القسم الرابع : الخطايا حملٌ ثقيل على الظهور  

خلافاً للأقسام السالفة، يأتي القسم وكما هو واضح من سياق آياته خاصاً بالسيء من الأعمال، لتعبّر عن الخطايا بالحمل السيء، والأثقال والظلم والأوزار المحمولة على الظهور: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا) [طه : 100] ويقول عنها صاحب الميزان: من أوضح الآيات دلالة على أن الإنسان إنما يعذب بعمله ويخلد فيه وهو تجسم الأعمال.

القسم الخامس:  حضور العمل

تنص العديد من الآيات على حضور ذات العمل يوم القيامة، إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشر، مثل قوله تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف : 49] من أجل هذا تعلم النفس ما يحضر أمامها ماثلاً ؛لأنّه زرعها وصنيعها: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) [التكوير : 14] وللتأكيد مرة أخرى:ختمتْ الأولى بنفي الظلم فيما تختم هذه برأفة الله بعباده: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران : 30]       

القسم السادس : عين المحرّم  نارٌ !

وهذا القسم خاص بأكل المحرّم لا عام في الأفعال، ففي كتاب الله عزّ وجلّ ثلاثُ آيات مصرِّحات بعينية المحرّم للنار والنار للمحرم، وهي من أوضح الآيات دلالة على تجسّم الأعمال، ويلاحظ في الأولى والثانية الحصر:  (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) [البقرة : 174] والثانية: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء : 10] فيما تستخدم الآية الثالثة اسم الاشارة(هذا) للعقاب بوصفه عين الفعل: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) [التوبة : 34-35]

وصلة كلّ ذلك وعلاقته بما نحن فيه؛ هو أنّ أصحاب هذه النظريّة وجدوا في تجسم الأعمال أنجعَ حلٍ  لإشكاليّة الخلود في النار، بيان ذلك: إنّ نظريّة تجسّم الأعمال لا تفهم العلاقة بين العمل والجزاء على أنّها تشريعية  اعتباريّة قابلة للوضع والرفع، وإنّما تحكم الصلة بينهما على أنّها تكوينيّة ذاتيّة، فهما مقترنان متصاحبان الآن، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، والأمر سواء في صالح العمل وطالحه، وفيما نحن فيه يغدو لزوم العذاب للذنب كلزوم الزوجية للعدد أربعة والملوحة للملح، والحلاوة للعسل، وكما أنّه لا أحد يسأل عن علة زوجية العدد أربعة، كذلك لا أحد يسأل عن علة عذاب فعل المعصية؛ ذلك لأنّ لزوم عمل الذنب وصورته الباطنية والذاتية هي العذاب، وهي ترافق الذنب من لحظة صدوره، ومعجونة به، ونار العمل والفعل ليست عارضة على الإنسان وعمله ليجري السؤال عن علة عروضها ووقوعها، وحسب قول الفلاسفة: الذاتي لا يُعلل. ( قراملكي- المعاد، ص372).

 ثلاث ملاحظات هامّة

1ـ مقابل تلك الآيات ثمة آيات أخرى ظاهرها يفيد المغايرة بين العمل والجزاء والاختلاف والتعدد، غاية الأمر أنهما محكومان بالتوافق كقوله تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة : 24]، ومثله في القرآن أيضاً كثير، وادّعاء التناقض بين هذه الآيات وتلك لا يختلف عن ادعائه في اسناد الموت لملك الموت تارة ولله عزّ وجلّ أخرى!، من ثمّ : بناءً على نظرية التجسّم، فإنّ الآيات الدالة المغايرة والاعتبار والموافقة بين الجزاء والعمل، قد جاءت لتقريب حقيقة الجزاء الأخروي للأذهان، وفي هذا السياق يقول صاحب الميزان: إياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة، كما ينص على ذلك القرآن.

2ـ إنّ فهم جميع ما تقدم من آيات على أساس تجسّم الأعمال، يسلم من ارتكاب مخالفة الظاهر القرآني و لا يحتاج لتقدير كلمات، فمثلاً في قوله تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ [الشورى : 22] يجري على ظاهره ولا ضرورة لتقدير:  مشفقين من وبال ما كسبوا، كما قيل في التفاسير، وفي قوله تعالى : (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف : 19] يستقيم معناها، دون اضافة كلمة (أجور )، ليكون معناها: وليوفّيهم أجور أعمالهم، وهكذا الحال في سائر الآيات المتقدمة، ناهيك عن ظاهر الآيات الدالة على أنّ كون الأبرار في النعيم، و الكفّار والفجّار في جهنّم والجحيم، لَهو أمرٌ واقع الآن لا لاحقاً، وكائن حالاً لا مستقبلاً: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار 13-14]،وعدم شعورهم بها؛ لا ينفي كونهم محاطين بها: (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة : 49]؛ تماماً كما لا ينفي عدم شعور الذباب بالقمامة وهو يعيش كل دورة حياته وسطها !، على أنّ سر عدم تحسس لهيبها وحرارتها هو اختلاف الظرف والنشأة الذي يمثّل انتفاء شرط أو وجود مانع، فاليوم عمل لا جزاء، ويوم القيامة جزاء بلا عمل؛ لذا قال عقيب الآتين: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ !

3ـ يلاحظ في الآيات ـ محل الدراسة ـ أنّها قد استعملتْ الحصرَ بطريقَيه وأداتيه: إنما، والإثبات بعد النفي، كما أنّها قد اقترنت بالنص على نفي الظلم، فيما عرضنا، وفيما لم نعرض كقوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران : 161]، وما نريد قوله في هذه الملاحظة هو : إنّ كلاً من الحصر ونفي الظلم، يعززان دلالة تلكم الآيات على ما نحن فيه؛ فبناءً على تجسّم الأعمال فإنّ معنى الحصر يتوجه أكثر، وكذا نفي الظلم سيبدو مفهوماً أكثر؛ والسبب هو أن ذات العمل السيء قد عاد إلى صاحبه :(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : 43]، وبضاعته التي ردتْ إليه، لا يد صنعتهُ غير يده، فما يجزى به هو : عمله قد عاد عليه و رُدّ إليه، (فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : 22].

2020/12/10

بريطانيا: ’’الربا’’ شيء مستقبح!

إن مصلحة الطبقة الغنية الموسرة مناقضة لمصلحة الطبقات الفقيرة، فالمجتمع الذي يؤيده الرأسمالي هو ذلك المجتمع الذي يتعامل أفراده بالأثرة ولا يساعد من في المجتمع غيره إلا بفائدة مادية لنفسه، على أن ضيق الأفراد الفقراء فرصة يرحب بها المرابون.

ولكن المجتمع الذي يؤيد الفقير هو على العكس من هذا المجتمع، ولكن يجب أن لا يتطرف الفقراء في أعمالهم كرد فعل منهم بحيث تنشأ مشاكل أخرى نتيجة التطرف، بل يجب أن نجعل الدواء للداء الموجود لا أن نحول الداء إلى داء آخر كما عن الماركسية حيث أوجدت الصراع بينهم. فالمجتمع الذي فيه الربا والمرابون لا يمكن أن يرسو على قواعد ثابتة فلا بد أن تبقى أجزاؤه مائلة مفككة. ويقال في الهند « يولد المزارع مدينا ويعيش مدينا ويموت مدينا » ([1]) فهو لا يمكنه أن يندمج مع مجتمع المرابين بل يفضل مجتمعا آخر.

وهنا نقترح أن تقوم الدولة التي تنفق كثيرا في سبيل الخدمات الاجتماعية مجانا بوضع نظام لتقديم قروض بلا فوائد كطريق للخدمات الاجتماعية، وهذا هو الدواء الناجع لجعل المجتمع صالحا ولإيجاد المجتمع الأفضل حيث يقضي على أسس الاختلاف والتناقض بين المرابين والفقراء، وتُوجِد الإيثار فيما بينهم بدلا من الأثرة. وبعد أن تعمل الدولة على إزالة أسس الاختلاف في المجتمع تعمل جاهدة لإيجاد روابط بين أفراد المجتمع، وقد جعل الإسلام رابطة قوية بين الأغنياء والفقراء تجعل المجتمع متمسكا متآخيا فيه إيثار بدلا عن الأثرة، وذلك بإيجاد الزكاة والخمس التي تؤخذ من الأغنياء وتعطى إلى مستحقيها وبإيجاد الأمور الخيرية المستحبة التي ندب إليها الشرع الحنيف وبذل غاية ما في وسعه لتربية أبنائه على إيجاد المجتمع المتآخي الذي يكون فيه الإيثار سائدا بدلا من الأثرة.

الأثر الفطري للربا

ولأجل أن نتعرف على الأثر الفطري الذي يخلفه الربا نورد حديث إنجلترا وأميركا بعد الحرب العالمية الأخيرة لعقد اتفاقية ( برتين وود ) لدين كبير.

« إن إنجلترا كانت تريد من أميركا وقد كانت حليفتها في الحرب أن تمن عليها بالقرض بدون شيء من الربا، ولكن أمريكا ما رضيت بذلك وأبت أن تقرضها إلا بالربا، واضطرت إنجلترا بمشاكلها العديدة أن ترضى كرها بأداء الربا »

لكن لنرى ما هو الأثر الفطري الذي ترك في الشعب الإنجليزي من كبار سياسييهم واقتصادييهم.

ومما قاله اللورد كينز، بعد أن عقد الاتفاقية مع أمريكا باعتباره ممثلا للشعب الإنجليزي « لا أستطيع أن أنسى أبد الدهر ذلك الحزن الشديد والألم المرير الذي قد لحق بي من معاملة أمريكا إيانا في هذه الاتفاقية فإنها أبت أن تقرضنا شيئا إلا بالربا ».

ومما قاله تشرشل « إني لأتوجس خلال هذا السلوك العجيب المبني على الأثرة وحب المال الذي عاملتنا به أمريكا كان ضروبا من الأخطار. والحق أن هذه الاتفاقية قد تركت أثرا سيئا جدا فيما بيننا وبين أميركا من العلاقة ».

وقال اللورد دالتن وزير المالية « إن هذا العبء الثقيل الذي نخرج من الحرب وهو على ظهورنا، جائزة عجيبة جدا نلناها على ما عانينا في الحرب من الشدائد والمشاق والتضحيات لأجل الغاية المشتركة، وندع للمؤرخين في المستقبل أن يروا رأيهم في هذه الجائزة الفذة من نوعها، التمسنا من أميركا أن تقرضنا قرضا حسنا ولكنها قالت لنا جوابا على هذا : ما هذه بسياسة عملية » ([2]).

ومن هذه الأقوال نلمس الأثر الفطري واضحا سواء تعاملت به الأفراد أو الأمم، فهكذا تعترف إنجلترا أن الربا شيء مستقبح، فهل فكر الاقتصاديون في رفع الفائدة من مجتمعهم على الأقل ؟ ! كما فعل كينز.

 


[1] الإسلام والربا ص 201 عن تقرير البعثة الملكية عن الزراعة في الهند

[2] الربا المودودي ص 43 - 44.

2020/12/05

الكوميديا السوداء.. عاصفة لإسقاط ’قداسة الدين’ (فيديو)

هناك ملايين المقاطع الفيديوية والصور التي تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي لإشاعة السخرية ومنها ما يستهدف الدين لتشويهه، بل وباتت السخرية والنكتة من أهم وسائل اسقاط القداسة وهو ما يعرف اليوم بـ "الكوميديا السوداء".

يرى فضيلة الشيخ احمد سلمان ان السخرية والكوميديا السوداء وسيلة لكسر القدسية وأيضا طريقة تستخدم في السياسة لتسقيط الأنظمة والخصوم.

ويستبعد سماحته ان تكون هذه المقاطع التي تنتشر بهدف السخرية بأن تكون عفوية وانما يراد منها سلب أي قدسية واحترام للدين.

ويقسم الشيخ أحمد سلمان القضايا التي تنشر حول الدين الى ثلاثة أقسام:

الأول: أمور مكذوبة لا واقع لها وجعلت فقط لمجرد التسقيط والاستهزاء ويتفاعل عدد كبير مع معها فقط لأنها مضحكة.

الثاني: أمور حقيقية لكنها مقتطعة من سياقها لكن يفهم من الكلام على غير وجهه.

الثالث: أمور بالفعل تستدعي الضحك والسخرية لكنها حالات شاذة وتصرفات فردية ونادرة غير أن الاعلام يسلط الضوء على هذه النماذج الشاذة بهدف خلق صورة نمطية معينة عن الدين.

تفصيل أكثر في الفيديو أدناه:

2020/12/04

الربا.. ’ثروة’ من الفقراء إلى الأغنياء!

​من المؤسف جدا أن (مهنة المرابي) وهي الآفة العالمية التي تقدم القرض بسهولة عند الشدائد إلى الفقراء والمتوسطين تعتبره الحكومة غير الإسلامية، خارجا من دائرة واجباتها. ولكنا نقول إن من الواجب أن يكون من أول أعمال الحكومات العناية بهذه الآفة العالمية والنظر فيها، ولا تترك العمل للمرابين في سلب أموال الفقراء والمعوزين. ولكننا نرى من المؤسف أن الدول تكون كعامل نشط في جلب أموال الفقراء إلى هذا المرابي الصغير أو المرابي الكبير (البنك).

ومضار الربا من الناحية الاقتصادية تجسد في القروض الاستهلاكية والقروض الإنتاجية والقروض الحكومية من الداخل:

أ - القروض الاستهلاكية: وهي قروض يطلبها الفقراء المتوسطون نتيجة لوقوعهم في مصيبة أو شدة لقضاء حاجاتهم الضرورية. ومن المعلوم فداحة السعر الربوي في هذا النوع من القروض، لأن المتصدي لهذا النوع هو المرابي الذي لا رقيب عليه في تقرير الفائدة، فالذي يقع في شرك هذا المرابي مرة لا يتخلص منه طول حياته، بل يكون العبء على أبنائه وأحفاده في سداد دينه.

ويكون هذا واضحا إذا نظرنا إلى الربا المسموح به في إنكلترا للمرابي وهو 48 في المائة سنويا على الأقل، والسعر العام الذي تجري عليه المعاملات الاقتصادية فهو يتراوح بين 250 في المائة و 400 في المائة سنويا وقد تمت فيها بعض المعاملات الربوية بسعر 1200 في المائة أو 1300 في المائة سنويا.

والربا المسموح به رسميا للمرابي في أميركا هو بين 30 في المائة و 60 في المائة سنويا والمعاملات العامة الربوية تجري بسعر 100 في المائة و 260 في المائة سنويا ويرتفع أحيانا إلى 480 في المائة (1).

وهذه العملية هي التي تمكن الرأسمالي من دخل العمال وتجعله مستبدا به دونهم. ونتيجة لذلك تفسد أخلاقهم، ويقترفون الجرائم والدنايا، وهو يحط من مستوي المعيشة، ويقلل من كفاءاتهم ونشاطهم الذهني والبدني، وهذا ليس ظلما فحسب بل إنه ضرر على الاقتصاد الاجتماعي.

على أن المرابي يسلب قوة الشراء من الفقير، وإذا فترت قوة الشراء تكدست البضائع في الأسواق ونتيجة لهذا التكدس تتوقف بعض المعامل من الإنتاج أو تقلله على الأقل، وبهذه العملية تنشأ البطالة لمئات من البشر، وهذه البطالة تعرقل نمو التجارة والصناعة. بالإضافة إلى أن التأكيدات من قبل الاقتصاديين إلى الادخار وعدم الاستهلاك لتقديم قروض بفائدة ليجلب الربا إلى خزانته تؤدي إلى ظهور البطالة بالتقريب المتقدم.

ب - القروض الإنتاجية: وهذه القروض يأخذها التجار وأصحاب الصناعة والحرف لاستغلالها في الإنتاج المثمر.

إن هذه العملية التي يأخذ المرابي الربا من دون أن يتعرض لشيء إذا خسر المعمل أو التاجر تؤدي إلى تحرك الميزان الاقتصادي من جانب واحد دائما وهو جانب المرابي فهو رابح دائما، أما صاحب المعمل أو التاجر فليس كذلك وهذه العملية غير فطرية لتأديتها ضرر جميع العمال وصاحب العمل إلا المرابي فإنه لا يتضرر بذلك حيث إن ربحه مضمون.

بالإضافة إلى أن معظم رأس المال مدخر عند الرأسماليين، لأنهم يرجون ارتفاع سعر الربا، فلا يعطي ماله للتجارة أو الصناعة لانتظاره ارتفاع سعر الربا. على أن السعر المرتفع يجعل المرابي ممسكا لماله إلَّا وفق مصلحته الشخصية لا وفق حاجة الناس أو البلاد، وقد يكون السعر المرتفع مانعا أهم الأعمال النافعة المفيدة للمصلحة العامة ما دام ربحها لا يسدد سعر الربا، في حين أن المال يتدفق نحو الأعمال البعيدة عن المصلحة العامة لأنها تعود بربح كثير.

وقد يستعمل التجار الذين هم مطالبون بالربا الطرق المشروعة وغير المشروعة المؤدية إلى اضطراب المجتمع الإنساني والحط من الأخلاق الإنسانية وما يترتب عليها من جرائم في سبيل كسب سعر الربا.

ج - القروض الحكومية من الداخل: وهي القروض التي تأخذها الحكومة من أهالي البلاد، فهناك القروض المأخوذة لأغراض غير مثمرة كالحرب لأجل الأغراض الشخصية العدوانية الجاهلية، وهناك القروض المأخوذة لأغراض إنسانية اجتماعية كالتجارة مثلا، وهذان النوعان يشابهان القروض الاستهلاكية والقروض الإنتاجية.

والملاحظ هنا أن الحكومة تلقي ضغطا على عامة أهل البلاد لأجل أن تجلب من معاش الأفراد بجعل الضرائب والمكوس حتى تستطيع أن تؤدي إلى الرأسماليين (أصحاب القروض) الربا. والتجار أيضا لا يؤدون هذه الضرائب والمكوس من عندهم وإنما يرفعون قيمة الحاصل أو السلع فيؤخذ الربا على وجه غير مباشر من كل من يشتري من السوق وهو الفقير والمتوسط الحال. إذن الذي يتضرر تضررا كاملا هو الفقير فحسب، لأن صاحب الغلة وأصحاب المصانع والتجار يرفعون من سعر نتاجهم.

فالخلاصة: أن الربا ثروة من الفقراء إلى الأغنياء والحكومة هي الموظفة المخلصة للمرابي مع أن مصلحة الأمة على العكس. على أن قروض الدولة من الخارج فيها مفاسد أشد وأكثر خطرا على الإنسانية من غيرها، لأنه يغرس بذور العداوة بين أمم الأرض، والدولة التي فرضت عليها الربا تزيد من مصائب بلادها بفرضها الضرائب الفادحة على رؤس السكان والإقلال من النفقات (2).

وقد توصل (مستر هارولدج. ماولتون) مع زميله (مستر ليريا ستولكي) إلى النتائج التالية (3):

1 - « إن الإعفاء الكامل من دين تعويضات الحرب كله سوف يعمل على ازدهار الاقتصاد العالمي بدلا من أن يعوقه ».

2 - « إن تحصيل الديون التي على الحكومات سوف يكون من الوجهة الاقتصادية ضارا بالدول الدائنة أكثر مما يفيدها ».

وهذه الديون بعد الحرب العالمية الأولى تسمى (مدفوعات دين الحرب) كانت على (28) دولة أن تفي بها سنة 1931 أي بعد 13 سنة من إنهاء الحرب تبلغ (000 / 547 / 741 / 57) دولارا. وقد أحدثت ديون الحرب هذه آثارا مثبطة في اقتصاد العالم كله، وأطالت الكساد الاقتصادي العالمي ذلك الكساد يعتقد أنه أحد وأطول كساد فيما أعرف من تاريخ العالم » (4).

هذا وقد ذكر السنهوري وغيره مضارا أخرى في ربا المعاوضة وهي:

1 - احتكار أقوات الناس في المكيل والموزون.

2 - التلاعب في العملة لتقلب أسعارها لأنها هي سلعة من السلع إذا جوزنا الربا.

3 - وجود الغبن والاستغلال عند التعامل بالربا في الجنس الواحد، فإن التفاضل في الكم لا يواجه التفاضل في الكيف بدقة لو فرضنا وجود التفاضل في الكيف (5). فيمكن أن يمنع الربا اقتصاديا لهذه المضار، فلا يحصل الاحتكار لأقوات الناس ويمنع التلاعب في العملة ويمنع الغبن والاستغلال عند التعامل في الجنس الواحد.


الهوامش:

1 الربا أبو الأعلى المودودي ص 46.

2 الربا للمودودي ص 57 وما بعدها.

3 الإسلام والربا / قرشي ص 220 - 221.

4 الإسلام والربا / قرشي ص 220 - 221.

5 مصادر الحق 3 / 236.

2020/11/28

كرسي التديّن ’’الأعرج’’ : عقيدة وفقه.. ماذا عن الأخلاق؟! (فيديو)

ما هو الدين؟!

الدين هو المركب الذي يتكون من هذه الأمور الثلاثة هي:

1- البعد العلمي المعرفي (العقائد)، ويشمل أجوبة الأسئلة الوجودية الكبرى، كـ: من خلقنا؟ ومن أين جئنا؟ ولماذا وجدنا في هذا الكون؟ وكل ما يرتبط بهذه الأسئلة من التفاصيل الأخرى.

2- البعد العملي (الفقهي)، وهو مجموعة الاحكام التي جاءت بها الشريعة لتنظيم حياة الإنسان بالله (العبادات)، وكذلك التي تنظم حياة الانسان بأخيه الانسان (المعاملات).

3- البعد الأخلاقي (السلوك)، وهو من صميم الدين، لأن الإسلام بلور منظومة أخلاقية كاملة اجتمعت من بدايات الأنبياء إلى نبينا الأكرم (ص).

من هنا، فإن عملية التديّن لابد ان تكون تطبيقا لهذه الأمور الثلاثة لأنها حقيقة الدين، فممارسة الدين هي مجموعها لا بواحدة منها. ولا يصح ان نقول عن الذي لا يؤمن بهذه المنظومة كاملةً بأنه متديّن.

إذ لا ينفع تديّن من التزم بالأخلاق دون البعد العملي (الفقهي) وكذا الأمر بالنسبة لباقي الأبعاد الثلاثة التي بمجرد أن يسقط واحدة منها يسقط التديّن بأكمله، إضافة إلى مراعاة جانب التوازن بين هذه الأبعاد فلا ينفع ابدا القصر او التضخم في واحدة منها.

المشكلة الآن، في عصرنا الحالي، في التضخم الفقهي الذي حول الخطاب الديني خطاباً فقهياً وهذا ما ولّد في أذهان الناس تصوّراً مفاده أن الدين مجرد الرسالة العملية والقوانين التي نسميها الأحكام الفقهية. كما أصبح عندنا (انكماش) في البعد الأخلاقي والذي يكاد يصل إلى مرحلة الانعدام.

تفصيل أكثر مع فضيلة الشيخ أحمد سلمان [دامت بركاته] في الفيديو أدناه:

2020/11/21

’’بيت الوحشة والغربة’’.. ما حقيقة عذاب القبر؟! (فيديو)

هل كل انسان يعذب او ينعم في قبره؟

يصر بعض غير المتخصصين على انكار عذاب القبر ويستدلون بآيات فهموا من ظاهرها انه لا وجود للعذاب وروجوا لهذا المعتقد الفاسد.

ولا يخفى أن مثل هذه المسائل (العقائدية) بحاجة إلى متخصص لفهم النصوص التي تتحدث في هذا المقام، ومن هنا يناقش سماحة الشيخ علي آل محسن جملة من الردود على هذه الإثارات.

يقول تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر – 46).

هذه الآية فيها دلالة واضحة على أن بعض الخلق ومنهم العتاة والمجرمين يعذّبون في قبورهم، وهذا يثبت العقيدة التي اتفق عليها السنة والشيعة من ان بعض الناس يعذبون قبل قيام الساعة فيما يعرف بـ ’’عذاب القبر’’.

المزيد من التفاصيل ’’المهمة’’ حول عذاب القبر في الفيديو أدناه:

2020/11/18

’’ليبرالي ومتديّن’’ .. هل يتفق الإسلام مع الليبرالية؟!

يقول اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيدِ: ’’وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ’’ (2).

تختصرُ هذه الآيةُ المباركةُ رؤيةُ الإسلامِ فيما هي طبيعةُ العلاقةِ بينَ الإنسانِ وربِّه وبين الإنسانِ والإنسانِ، فالعلاقةُ بينَ الإنسانِ وبينَ اللهِ تعالى هي علاقةُ العبوديَّةِ، فكلُّ بني الإنسانِ على اختلافِ أقدارِهم ومواقعِهم وصفاتِهم وملكاتِهم وأعراقِهم فهم عبادٌ للهِ تعالى أذعنَوا بذلك أو جحَدوا، فإنَّ ذلك هو واقعُهم بحسبِ الرؤيةِ الإسلاميَّةِ. وحيثُ إنَّ العلاقةَ بين الإنسانِ وبين اللهِ تعالى هي علاقةُ العبوديَّةِ فإنَّ ذلك يقتضي انضباطَ الإنسانِ في اطارِ إرادةِ المعبودِ، فليس له أنْ يُحكِّمَ إرادتَه في مقابلِ إرادةِ اللهِ تعالى، وليس له أنْ يتمرَّدَ على إرادةِ اللهِ تعالى أو يتجاوزَ حدودَه، فهو عبدٌ للهِ تعالى، والعبدُ خاضعٌ لإرادةِ معبودِه، تلك هي رؤيةُ الإسلامِ فيما يتَّصلُ بطبيعةِ العلاقةِ بينَ اللهِ وبين الإنسانِ، فإلإنسانُ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى عبدٌ وليس حُرَّاً.

الإسلام: الإنسان عبد

وأما رؤيةُ الإسلامِ فيما هي طبيعةُ العلاقةِ بينَ الإنسانِ والإنسانِ فهي المساواةُ المقتضيةُ للحريَّة، فإلانسانُ بالإضافةِ للإنسانِ حرٌّ في أنْ يأتمرَ بأمرِه أو لا يأتمرُ أو أنْ ينتهيَ عند نهيهِه أو لا ينتهي، وهو حرٌّ بأنْ يقبلَ برأيِه أو لا يقبلُه، فلا طاعةَ لأحدٍ على أحدِ، وليس لأحدٍ أن يسلبَ غيرَه إرادتَه واختيارَه، وليس له تسخيرُه وإرغامُه على فعلِ ما لا يُريدُ. تلك هي رؤيةُ الإسلامِ في طبيعةِ العلاقةِ بين الإنسانِ والإنسانِ.

إذن فالإنسانُ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى عبدٌ محضٌ، والإنسانُ بالإضافةِ إلى الإنسانِ حُرٌّ محضٌ. وأما لزومُ طاعةِ الرسولِ (ص) فلأنَّ اللهَ تعالى قد أمرَ بطاعتِه، فطاعتُه تَرجعُ في المآلِ إلى طاعةِ اللهِ، قال اللهُ تعالى: ’’مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ’’(3) وكذلك فإنَّ طاعةَ الإمامِ المعصومِ (ع) إنَّما صارتْ لازمةً لأنَّ اللهَ تعالى قد أمرَ بطاعتِه، فطاعتُه ترجعُ في المآلِ إلى طاعةِ اللهِ قال تعالى: ’’يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ’’(4) فالطاعةُ الثابتةُ للرسولِ (ص) وللإمامِ (ع) تبعيةٌ وليستْ ذاتيَّة، فالطاعةُ الذاتيَّةُ متمحِّضةٌ للهِ جلَّ وعلا، فهو المعبودُ الذي لا طاعةَ لسواه. تلك هي الرؤيةُ الإسلاميَّةُ فيما يتَّصلُ بعلاقةِ الإنسانِ بالله وفيما يتَّصلُ بعلاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ، فالإنسانُ بالإضافةِ للهِ عبدٌ محضٌ، والإنسانُ بالإضافةِ إلى الإنسانِ حُرٌّ محضٌ.

الليبرالية: الإنسان حر!

وأما الرؤيةُ الليبراليَّةُ فهي تقومُ على أساسِ انَّ الإنسانَ حُرٌّ مطلقٌ حتى بالإضافةِ للهِ تعالى، لذلك فهي إذن على طرفِ نقيضٍ مع الرؤيةِ الإسلاميَّةِ، فإلاسلامُ يقومُ على أساسِ أنَّ الإنسانَ عبدٌ لله، والليبراليَّةُ تقومُ على أساسِ أنَّ الإنسانَ حُرٌّ حتى بالإضافةِ للهِ، فله أنْ يعبدَه وله أنْ لا يعبدَه، وله أن يمتثلَ لبعضِ أوامرِه ويتنكَّرُ للبعضِ الآخر بل له أن ينقضَها ويردُّ عليها ويتبنَّى عدمَ صوابيتِها، فهو حرٌّ فيما يتبنَّاه ويعتقدُ به، وحُرٌّ فيما يعملُ.

ولذلك ورد في الموسوعةِ الأمريكيَّة الأكاديميَّة ما هذا نصُه: ((إنَّ النظامَ الليبرالي الجديدِ (الذي ارتسم في فكرِ عصرِ التنويرِ) بدأ يضعُ الإنسانَ بدلاً من الإلهِ في وسطِ الأشياءِ، فالناسُ بعقولِهم المفكِّرةِ يمكنُهم أنْ يفهموا كلَّ شيءٍ، ويُمكنُهم أن يُطوِّروا أنفسَهم ومجتمعاتِهم عبرَ فعلٍ نظامي وعقلاني).

فالرؤيةُ الليبراليَّة وإنْ اختلفتْ في بعضِ تفاصيلِها وصورِها وتشعَّبت مذاهبُها وأضفى عليها الزمنُ العديدَ من التعديلاتِ والإصلاحاتِ لكنَّها بمختلفِ مذاهبِها وصورِها تشتركُ في أساسٍ واحدٍ تقومُ عليه كلُّ المذاهبِ الليبراليَّةِ وبه تتميَّزُ الليبراليَّة عمَّا عداها من الأُطرِ والنظمِ الفكريَّةِ والإجتماعيَّةِ والسياسيَّةِ والاقتصادية، هذا الأساسُ وهذه القاعدةُ التي تقومُ عليها الرؤيةُ الليبراليَّةُ هو استقلالُ الإنسانِ بالإضافةِ لكلِّ شيءٍ، فهو مستقلٌ حتى بالإضافةِ للهِ وللدينِ، فهو غيرُ مُلزمٍ بالإيمانِ باللهِ تعالى، ولو آمنَ باللهِ فهو غيرُ مُلزَمٍ بالتقيُّدِ بدينِ اللهِ، ولو قبل بدينِ اللهِ فهو غيرُ ملزَمٍ بأنْ يلتزمَ بأحكامِ اللهِ سواءً المتَّصلَ منها بالشأنِ العامِّ أو المتَّصلَ منها بالأحوالِ الشخصيَّةِ أو المتَّصلَ منها بالسلوكِ الخاصِّ، وهذا هو ما يعبرُ عنه عندَهم بالحريَّةِ الفرديَّةِ المطلقةِ، فمحورُ الوجودِ هو الفردُ بصيغتِه الشخصيَّةِ، وعلاقتُه باللهِ وبالكونِ وبسائرِ أفرادِ الإنسانِ هي الحريَّةِ والإستقلالِ المطلقِ، تلك هي البنيةُ التحيَّةُ للفكرِ الليبرالي.

ومن ذلك يتَّضحُ انَّ الليبراليَّةَ والإسلامَ على طرفي نقيضٍ، فالإسلامُ يقومُ على أساسِ انَّ الإنسانَ عبدٌ للهِ، والليبراليَّةُ تقومُ على أساسِ أنَّ الإنسانَ مستقلٌّ حتى بالإضافةِ لله، فقولُ اللهِ غيرُ مُلزمٍ له، وأحكامُه وأوامرُه وزواجرُه غيرُ مُلزمةٍ له، فلَه أن يتقيَّدَ بها، وله أنْ لا يتقيَّدَ بها وله أن يتقيَّدَ بما يُعجبُه منها ويرفضَ القبولَ بما لا يُعجبُه، فهو حُرٌّ مُستقِلٌّ.

الإسلام لا يتّفق مع الليبرالية

وعليه فدعوى انَّ الإسلامَ يشجِّع على الليبراليَّة خطأٌ فادحٌ نشأَ عن الغفلةِ عن جوهرِ الرؤيةِ الليبراليَّةِ، نعم الليبراليَّةُ تتفِّقُ معنا ولسنا من يَّتفقُ معها، هي تتَّفقُ معنا في عددٍ من النتائجِ المرتبطةِ بطبيعةِ علاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ، وقلتُ: إنَّها تتَّفقُ معنا في النتائجِ لأنَّ المبادئَ التي تنطلقُ منها الرؤيتينِ الإسلاميَّةِ والليبراليَّةِ فيما يتَّصلُ بطبيعةِ علاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ هي أيضاً متباينةٌ في الجملةِ، وقلتُ: إنَّها تتَّفقُ معنا ولسنا من يتَّفقُ معها لأنَّ الرؤيةَ الليبراليَّة إنما تبلورتْ في القرنِ الثامن عشر الميلادي وتبلورتْ أكثر في العقودِ الأولى من القرنِ العشرين، وإذا أردتَ أن تذهبَ بها إلى أقصى تأريخِها فهي إنَّما نشأتْ بوادرُها في القرنِ السادس عشر الميلادي، ولن تجدَ لها من ذكرٍ معتدٍّ به قبل هذا التأريخ، ومعنى ذلك انَّ الليبراليَّة قد وُلدتْ بعد الإسلامِ بما يقربُ من العشرةِ قرونٍ أي بما يَقربُ من الألفِ عام أو يزيدُ.

ونتائجُ الرؤيةِ الليبراليَّةِ التي جاءت موافقةً للرؤيةِ الإسلاميَّةِ هي المساواةُ بين أفرادِ البشرِ المقتضيةِ للحريَّةِ أي انَّها مقتضيةٌ لحريَّةِ الإنسانِ بالإضافةِ إلى الإنسانِ، وهي مقتضيةٌ كذلك للعدالةِ الاجتماعية، وهذه الأصولُ الثلاثةُ هي من أصولِ الإسلام، فليس لأحدٍ أنْ يُزايدَ علينا، على انَّ هذه الأصولَ الثلاثةَ تعتريها الكثيرُ من المحاذيرِ في الرؤيةِ الليبراليَّةِ لسنا بصددِ البيانِ لها فعلاً، وإنَّما نحنُ بصددِ الإشارةِ إلى انَّ الإسلامِ هو مَن أصَّل لهذه الأصولِ الثلاثةِ.

يقولُ اللهُ تعالى: ’’الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ’’(5) فقولُه تعالى: ’’وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ’’ فيه إشارةٌ بيِّنةٌ إلى واحدٍ من أهمِّ الغاياتِ التي بُعثَ النبيُّ الكريمُ (ص) من أجلِ تحقيقِها، فهو قد بُعثَ ليحرِّر البشريَّةَ من الاستعباد بمختلفِ أشكالِه والاستضعاف والاستغلال والابتزاز، فليس لأحدٍ على أحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ، وليس لأحدٍ أنْ يسلُبَ غيرَه إرادتَه واختيارَه، وليس له تسخيرُه وإرغامُه على فعلِ ما لا يُريدُ، وليس له استغلالُ ضعفِه لإجبارِه على قبولِ ما لا يُحبُّ، وليس له أنْ يبتزَّه فيقضيَ حاجتَه مقابلَ أنْ يخضعَ لإملاءاتِه أو يتصاغرَ له، وليس له أنْ يفرضَ سلطانَه على أحدٍ بالقسرِ والغلَبةِ، ذلك هو مؤدَّى قولِه تعالى: ’’وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ’’.

وهو كذلك مؤدَّى كلمةِ التوحيدِ: "لا إله إلا الله"، فلا معبودَ إلا اللهُ تعالى، فليس لأحدٍ على أحدٍ طاعةٌ، وليس لأحدٍ من الناسِ أن يأمرَ فيتعيَّنُ امتثال أمرِه أو ينهى فيتعيَّنُ الوقوفُ عندَ نهيهِ، أو يرى رأياً فلا يكونُ لأحدٍ أنْ يرى ما يُقابلُ رأيَه. فالإنسانُ حرٌّ في مقابلِ الإنسانِ الآخر، ليس مُلزَماً بأوامرِه ولا باعتمادِ رُؤاه.

ويقولُ أميرُ المؤمنينَ (ع) فيما يروى عنه: "أيُّها الناسُ إنَّ آدمَ لم يلدْ عبداً ولا أَمةً، وإنَّ الناسَ كلَّهم أحرارٌ"(6) ويقول أيضاً في المرويِّ عنه: "لا تكنْ عبدَ غيرِك وقد جعلكَ اللهُ حرَّاً"(7).

ويقولُ اللهُ تعالى: ’’يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ’’(8) هذه الآيةُ صريحةٌ في التعبيرِ عن طبيعةِ علاقةِ الناسِ فيما بينهم، فهم جميعاً ذكوراً واناثاً بمختلفِ أعراقِهم وأجناسِهم مخلوقونَ لله تعالى، وقد تعلَّقتْ إرادتُه تعالى لهم أنْ يتعارفوا فيما بينهم وانَّه لا تمايز بين أفرادِهم وأجناسِهم، وإذا كان من تفاضلٍ بينهم فهو في الآخرةِ، وهذا التفاضلُ منشأهُ اختيارُ التقوى.

وهذا المعنى نصَّت عليه الكثيرُ من النصوصِ الواردةِ عن الرسولِ (ص) وأهلِ بيتِه (ع). فمن ذلك قولُ النبيِّ (ص) فيما رويَ عنه -في خطبةِ الوداع-: "يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم. ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: فليبلِّغْ الشاهدُ الغائبَ"(9).

وورد عنه (ص) أنَّه قال: "إنَّ الناسَ من عهدِ آدم إلى يومِنا هذا مثلُ أسنانِ المشطِ، لا فضلَ للعربيٍّ على العجمي ولا للأحمرِ على الأسودِ إلا بالتَّقوى"(10).

فهذه النصوصُ -وغيرُها كثيرٌ- صريحةٌ في التصدِّي لتحديدِ طبيعةِ العلاقةِ بين الإنسانِ والإنسانِ وهي المساواةُ، وإذا كانت العلاقةُ بين الناسِ هي المساواةُ، فذلك يقتضى أنْ لا يكونَ لأحدٍ الحقُّ في أنْ يقسُرَ أحداً على طاعتِه، إذ لا فرقَ بينَك وبينَه، فكما انَّه ليس له الحقُّ في أنْ يفرضَ طاعتَه عليك، فكذلك ليس لك الحقُّ في أن تفرضَ طاعتَك عليه ومن ذلك يتولَّدُ ما يُعبَّرُ عنه بالحقِّ في الحريَّةِ، فلأنَّ الإنسانَ مساوٍ للإنسانِ فذلك يقتضي عدمَ استحقاقِ الإنسانِ في أن يمنعِ غيرَه من استصلاحِ أمرِه والانتفاع بما يتهيأُ له الانتفاع به، فكما انَّه ليس له الحقُّ في منعِكَ فإنَّه ليس لك الحقُّ في منعِه، وهذا ما يُعبَّرُ عنه بالحقِّ في تكافؤ الفرصِ، ولأنَّ الإنسانَ مساوٍ للإنسانِ لذلك فإنَّه ليس لأحدٍ منعُ غيرِه من تحكيمِ إرادتِه والإبداءِ لرأيهِ، فكما انَّه ليس له منعكَ من ذلك فكذلك ليس لك منعُه، لأنَّه لا فرقَ بينَك وبينَه، وهذا ما يُعبَّرُ عنه بحقِّ الاختيار وحقِّ التعبيرِ عن الرأي، وهكذا يتولَّدُ عن أصلِ المساواةِ الكثيرُ من الحقوقِ الأساسيَّةِ للإنسان، وحيثُ ثبت انَّ هذه الحقوقَ وشبهَها حقوقٌ للإنسانِ فانتهاكها ظلمٌ ورعايتُها عدلٌ، ومن ذلك يثبتُ للإنسانِ الحقُّ في العدالةِ والإنصافِ.

فيكفي لإثباتِ تأصيلِ الإسلامِ لحقِّ العدالةِ الاجتماعية تأصيلُه للمساواةِ وما يتولَّدُ عنها من حقوقٍ إلا انَّه ورغمَ ذلك تصدَّى الإسلامُ لتأصيلِ هذا الحقِّ أعني العدالةَ الاجتماعية في الكثيرِ من النصوصِ القرآنيَّةِ والنبويَّةِ والواردةِ عن أهلِ البيتِ (ع) بنحوٍ يشقُّ على الإحصاءِ، ويكفينا من ذلك قولُه تعالى: ’’إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ’’(11) وقولِه تعالى: ’’إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا’’(12).

إذن فالحقوقُ التي يفتخرُ دعاةُ الليبراليَّة بتأصيلِها قد سبقَ إليها الإسلامُ بمئاتِ السنين، نعم ثمةَ فرقٌ جوهريٌّ بين الرؤيةِ الإسلاميَّة والرؤيةِ الليبراليَّة فيما يتَّصلُ بحدودِ هذه الحقوقِ، فمثلاً حقُّ الإنسانِ في اعتمادِ أيِّ رأيٍّ يراه وحقُّه في ابداءِ هذا الرأي وحقُّه في سلوكِ مؤدَّى هذا الرأي، هذا الحق من جميعِ زواياه حقٌّ مكفولٌ للإنسانِ في شريعةِ اللهِ تعالى، وليس لأحدٍ من الناسِ -أيَّا كان- مصادرةُ حقَّه في ذلك، إلا انَّ هذا الحقَّ وإنْ كان مطلقاً بالإضافة لسائرِ الناسِ لكنَّه محدودٌ بأوامرِ اللهِ ونواهيه، فللإنسانِ أن يتبنَّى ما يشاءُ وأنْ يفعلَ ما يشاءُ وأنْ يقولَ ما يشاءُ ما لم تكن مشيئتُه فيما يقولُ وما يفعلُ وما يتبنَّي منافيةً لمشيئةِ اللهِ وإرادتِه وشرائعِه، فالإنسانُ بالاضافةِ للهِ عبدٌ لله، فهو ليس حُرَّا بالإضافةِ لله، يقول الله تعالى: ’’وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا’’(13) وهذا هو الفارقُ الجوهريُّ بينَ الإسلامِ والليبراليَّة، فالليبرالية ترى أنَّ الإنسانَ حرٌّ طليقٌ ومستقلٌّ في كلِّ شيءٍ حتى بالإضافةِ لله تعالى وشريعتِه وقيمِ الدين، فله الحقُّ أن يتبنَّى ما يناقضُ دينَ اللهِ، وله الحقُّ أنْ يفعلَ ما حرَّمَه اللهُ، وله الحقُّ أنْ يتركَ ما فرضَه اللهُ تعالى، وله أنْ يتجاوزَ قيمَ الدين، فهو مستقلٌّ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى كما هو مستقلٌّ بالإضافة إلى سائرِ الناس، ولا يحدُّ إرادتَه من شيءٍ كما لا يحدُّ سلوكَه شيءٌ إلا أنْ يترتَّب على سلوكِه ضررٌ شخصيٌّ على الغير، وأما الأضرار العامة فلا تحدُّ حريةَ الإنسانِ بنظرِهم أو بنظرِ أكثرِهم، فمعالجةُ الأضرارِ العامَّة بنظرِهم خاضعة للتوازناتِ والمصالحِ المتبادلةِ وليست خاضعةً للقيم.

وممَّا ذكرناه يتَّضحُ أنَّه ليس لأحدٍ أن يدَّعي لنفسِه أنَّه ليبراليٌّ متديِّن، فإمَّا أنْ تكونَ ليبراليَّاً أو تكونَ متديِّناً فالمنهجانِ على طرفي نقيضٍ، ودعوى امكانيَّةِ التوفيقِ بين المنهجينِ لا تعدو الوهمُ الناشئَ عن الجهلِ بجوهرِ الفرقِ بين المنهجينِ أو الناشئَ عن كيدِ المسوِّقين وإرادتهم التلبيسَ على مَن يجهلُ بحقيقةِ الفرقِ بين المنهجينِ، ولولا محدوديَّةُ الوقتِ لأفضنا الحديثَ حولَ الآثارِ الكارثيَّةِ على الدينِ والقيمِ والاقتصاد والسياسةِ المترتِّبة على اعتمادِ المنهجيَّة الليبراليَّة، فحذارِ من الانخداعِ ببريقِ الشعاراتِ والإيحاءِ بالامتنانِ علينا بهذه الشعاراتِ، نعم لا مانعَ من التعايشِ والتعاونِ اليقِظ مع المعتمدينَ للرؤيةِ الليبراليَّة بل إنَّ مقتضى الخُلقِ والتعقُّلِ هو التعاون اليقظُ لتحقيقِ الأهدافِ المشتركةِ في حدودِ ضوابطِ الدينِ وقيمِه المبتنيةِ على التسامحِ.


الهوامش:

2- سورة الذاريات / 56.

3- سورة النساء / 80.

4- سورة النساء / 59.

5- سورة الأعراف / 157.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج 8 ص 69.

7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 3 ص 51.

8- سورة الحجرات / 13.

9- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف -عبد العظيم المنذري- ج 3 ص 612.

10- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج 12 ص 89.

11- سورة النحل / 90.

12- سورة النساء / 58.

13- سورة الأحزاب / 36.

2020/11/16

في يده ’’خواتم’’ ويحمل ’’مسبحة’’ .. من هو المتديّن؟! (فيديو)

المجتمع صاغ مجموعة من المعايير لوضع صورة للمتدين، بحيث إذا رأى أحدهم شخصا انطبعت عليه هذه الصورة قال عنه هذا متدين ويعتبرها المجتمع صورة مثالية ويحاكم على أساسها باقي الأفراد.

فهل هناك ضرر ناجم عن الصورة النمطية في الذهن عن التدين؟

الجواب، نعم، هذا الأمر يتحول إلى مشكلة إذا جعلنا الصورة هي معيار تدين الناس، فمن لم نجده مصداقاً لهذه الصورة نحكم عليه بأنه ليس متديناً، ونسلب عنه صفة التدين فقط لأن صورته العامة لا تنطبق على هذا القالب الموجود في الذهن.

إذاً، ما هي مقاييس التدين الحقيقية؟

الإجابة مع سماحة الشيخ الفاضل أحمد سلمان في الفيديو أدناه:

2020/11/13

مزّقوا وحشتهم... هل يعلم الأموات بمن يزور قبروهم؟!
​هل صحيح أنَّ الميِّت يعلمُ بمَن يزوره عند قبره؟ وماهو الدليلُ على ذلك من النصوص الشرعيَّة؟

نعم فقد ورد ذلك عن أهل البيت (ع) في رواياتٍ عديدة تبلغ حدَّ الاستفاضة، وفيها ما هو معتبرٌ سنداً، وقد أفاد بعضُ هذه الروايات أنَّ الميَّت يأنسُ بمَن يزورُه وأنَّه ينتفعُ بدعاء مَن يزوره وبما يتلوه عند قبره من القرآن، وأنَّ الميِّت يفرحُ بذلك كفرح أحدكم بالهديَّة، واشتمل بعضُ هذه الروايات على إفادة أنَّ قبري الأبوين من مواطن استجابة الدعاء، فمَن كانت له حاجة فليذهب إلى قبر أبيه أو أُمِّه فيدعو لهما ثم يدعو لنفسه فيُستجاب له -إنْ شاء الله تعالى- لدعائه لهما.

ولتوثيق ما ذكرناه ننقل بعض ما ورد في ذلك من الروايات عن أهل البيت (ع):

منها: ما رواه الصدوق بسندٍ معتبرٍ عن محمد بن مسلم قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): الموتى نزورهم؟ قال: "نعم، قلتُ: فيعلمون بنا إذا أتيناهم؟ فقال: إي والله إنَّهم ليعلمون بكم ويفرحون بكم، ويستأنسون إليكم"(1).

ومنها: ما رواه الكليني بسندٍ معتبرٍ عن جميل بن درَّاج، عن أبي عبد الله (ع) في زيارة القبور قال: "إنَّهم يأنسونَ بكم، فإذا غِبتم عنهم استوحشوا"(2).

ومنها: ما رواه الكليني أيضاً بسنده عن إسحاق بن عمار، عن أبي الحسن (ع) قال: قلتُ له: المؤمن يعلم مَن يزور قبرَه؟ قال: "نعم لا يزالُ مستأنساً به ما زال عند قبره، فإذا قام وانصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة"(3).

ومنها: ما رواه الشيخ الطوسي في المجالس والأخبار بسنده عن عبد الله بن سليمان عن الباقر (ع) قال: سالتُه عن زيارة القبور قال: إذا كان يوم الجمعة فزُرْهم، فإنَّه مَن كان منهم في ضيق، وُسِّع عليه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يعلمون بمَن أتاهم في كلِّ يوم فإذا طلعت الشمس كانوا سدى، قلتُ: فيعلمون بمَن أتاهم، فيفرحون به؟ قال: "نعم، ويستوحشون له إذا انصرفَ عنهم"(4).

أقول: إنَّ استحياش الموتى بانصراف مَن يزورُهم بعد أُنسهم بزيارتهم لهم ليس مطَّرداً لكلِّ الموتى ظاهراً، فمنهم مَن لا يستوحش بانصراف مَن يزوره عن قبره وإنْ كان يأنس بزيارة مَن يزورُه، ويشهد لذلك معتبرة صفوان بن يحيى قال: قلتُ لابي الحسن موسى بن جعفر (ع): بلغني أنَّ المؤمن إذا أتاه الزائر أنِسَ به، فإذا انصرف عنه استوحش، فقال: لا يستوحش"(5).

فإنَّ ظاهر المعتبرة أنَّ المؤمن لا يستوحش إذا انصرف عن قبره مَن يزورُه، ولعلَّ المراد من المؤمن في الرواية هو ذو المرتبة المتميِّزة من الإيمان.

ومنها: ما رواه الكليني بسنده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال أميرُ المومنين (ع): "زوروا موتاكم فإنَّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدُكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أُمِّه بما يدعو لهما"(6).

ورواه الصدوق في (الخصال) بسندٍ معتبر عن عليٍّ (ع) في حديث الاربعمائة بإختلافٍ يسير قال: قال أميرُ المؤمنين: "زوروا موتاكم فإنَّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب الرجل حاجتَه عند قبر أبيه وأمٍّه بعد ما يدعو لهما"(7).

ومنها: ما رواه الرواندي في الدعوات عن داود الرقِّي قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): يقومُ الرجلُ على قبر أبيه وقريبِه وغير قريبه، هل ينفعُه ذلك؟ قال: "نعم، إنَّ ذلك يدخلُ عليه كما يدخل على أحدكم الهدية يفرحُ بها"(8).

فمثل هذه الروايات وكذلك غيرها صريحٌ في أنَّ الميِّت يعلمُ بمَن يزوره ويأنسُ بزيارته، ولا محذور في ذلك عقلاً بعد أن كان الإدراك من شؤون الروح وليس من شؤون الجسد، ثم إنَّ القضية من شؤونات الغيب فلا سبيل إلى إنكارها أو إثباتها إلا بواسطة الوحي، فإذا ورد عن أهل بيت الوحي (ع) ما يتَّصل بهذه الشؤونات وغيرها وثبتَ عنهم ذلك وجبَ الإقرار والإذعان به، لأنَّهم إنَّما يُخبرون عن وحيِّ الله تعالى الذي أوحاه إلى نبيِّه الكريم (ص) قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) (9) وقال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (10).


الهوامش: 1- من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق ج 1 ص 181. 2- الكافي -الشيخ الكليني- ج 3 ص 228. 3- الكافي -الشيخ الكليني- ج 3 ص 228. 4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 7 ص 415. 5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 3 ص 222. 6- الكافي -الشيخ الكليني- ج 3 ص 230. 7- الخصال -الشيخ الصدوق- ص 618. 8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 99 ص 296. 9- سورة البقرة / 285. 10- سورة المزمر / 33.
2020/11/07

بعيداً عن فكرة «العذاب»: لماذا نخاف من الموت؟!
هنالك فردان يخافان من الموت؛ أحدهما من يفسّره بمعنى العدم والفناء المطلق، و الآخر من كانت صحيفة أعماله سوداء و مظلمة، أمّا من لم يكن من هؤلاء ولا اولئك فما مبرر خشيته من الموت، أفهناك شي‏ء يفقده من جراء الموت؟ مشهورة هي حكاية «ماء الحياة» و التي تتناقل بسرعة فائقة حيث أقدم الإنسان منذ قديم الأيام بالبحث عن شي‏ء يسمى «إكسير الشباب» و قد نمقوه بالأساطير و الخرافات و عقدوا عليه الآمال.

[اشترك]

و لعل القضية تفيد حقيقة تكمن في خشية الإنسان من الموت وحبّه لمواصلة الحياة و الهروب من نهايتها، على غرار إسطورة «الكيمياء» تلك المادة الكيميائية الخفية التي لو أُضيفت على النحاس الذي لا قيمة له جعلته ذهباً ذا قيمة باهضة، و التي تفيد خوف الإنسان من الفقر الاقتصادي و مدى سعيه للحصول على الثروة. و إسطورة إكسير الشباب هي الأخرى تعكس هلع الكهولة و الضعف والتآكل و بالتالي الموت و نهاية الحياة.

إنّ أغلب الناس يخشون الموت و يهربون من مظاهره و يشمأزون من إسم المقبرة و يسعون جاهدين لاطماس الماهية الأصلية للقبور من خلال تزيينها و إضفاء بعض الجمالية عليها، حتى أنّهم يلجأون إلى‏ تحذير الأفراد من بعض الأشياء الخطرة- غير الخطرة التي لايريدون للآخرين أن يقتربوا منها أو يخربوها من خلال الكتابة عليها «خطر الموت» و يرسمون عليها صورة لعظمين من عظام ميت في حالة علامة في خلف جمجمة جوفاء خالية من الروح تطالع الإنسان. و قد حفلت النتاجات الأدبية لمختلف أصقاع الدنيا بما يفيد خوف الإنسان من الموت، فبعض العبارات من قبيل «هيولا الموت»، «شبح الموت»، «صفعة الموت» و «مخالب الموت» و ما إلى‏ ذلك من التعبيرات التي تدل على‏ مدى‏ القلق والهلع و الاضطراب. كما يؤيد ذلك القصة المعروفة بشأن رؤيا هارون الرشيد- الذي رأى‏ في المنام سقوط جميع أسنانه- فعبّر له شخصان تلك الرؤيا قال الأول: يموت جميع أفراد أهلك قبلك. و قال الثاني: إنّ عمر الخليفة سيكون أطول من جميع قرابته، فما كان ردّ فعل هارون الرشيد إلّاأن وهب الثاني مئة دينار، بينما جلد الأول مئة جلدة، فهذا دليل آخر على‏ خشية الإنسان من الموت.

و ذلك لأنّ الفردين عبّرا عن حقيقة واحدة، إلّاأنّ أحدهما ذكر الموت بالنسبة لقرابة الخليفة فكان جزاؤه مئة جلدة، وعبّر الآخر عن ذلك الموت بطول عمر الخليفة فتناول مئة دينار!. ناهيك عن كل ما سبق فقد إعتاد الناس بعض الأمثال و العبارات التي تكشف عن مدى‏ خشيتهم من الموت، فإذا أرادوا مثلًا تشبيه فرد بآخر ميت في قضية إيجابية خاطبه قائلًا «إسم اللَّه عليك» أو «أبعد اللَّه عنك» ذلك، أو فليخرس لساني سيصبح الأمر بعدك كذا و كذا، أو ترتيب الأثر على كل شي‏ء يبعد احتمال الموت أو يكون مؤثراً في طول العمر، و إن بدا خرافة تماماً ولا أساس له و كذلك أدعيتهم التي تتضمن كلمة الدوام و الخلود من قبيل: دام عمره، دام مجده، دامت بركاته، خلد اللَّه ملكه، أطال اللَّه عمره و كل عام و أنتم بخير و ...! و التي تشكل كل واحدة منها دلالة على‏ هذه الحقيقة. طبعاً لا يمكننا إنكار وجود بعض الأفراد النادرين الذي ليس لهم أدنى خشية من الموت، حتى أنّهم يسارعون لاستقباله، إلّاأنّهم قلائل، كما أنّ العدد الحقيقي أقل بكثير من اولئك الذين يزعمون ذلك.

ما مصدر هذا الخوف و القلق من الموت؟

عادة ما يخشى الإنسان «الزوال» و «العدم». يخشى «الفقر»، فهو زوال الثروة. يخشى «المرض» لأنّه زوال السلامة و العافية. يخشى «الظلمة» حيث ليس فيها نور. يخشى «الصحراء» و قد يخشى «الدار الخالية» لأنّه لا أحد فيها. بل يخشى الميت حيث لاروح فيه، و الحال لايخشى ذلك الشخص حين كان على قيد الحياة و الروح فيه! و بناءاً على ما تقدم فإن خشي الإنسان الموت فذلك لأنّه يراه «فناءاً مطلقاً» و عدماً لكل شي‏ء. و إن خشي الزلزلة و الصاعقة و الحيوان المتوحش، فذلك لأنّها تهدد وجوده بالفناء و العدم.

طبعاً لايبدو هذا الأمر غريباً من وجهة النظر الفلسفية، لأنّ الإنسان «وجود» و الوجود ينسجم مع الوجود الآخر، بينما ليست له أية سنخية وتناسب مع العدم، فما عليه إلّاالفرار و الهرب منه، لم لايهرب؟ إلّا أنّ هناك قضية مهمّة هنا لاينبغي الغفلة عنها و هي: كل هذه الأمور صحيحة إذا فسّر الموت بمعنى الفناء و العدم و نهاية كل شي‏ء، و الحق لو فسّر كذلك فليس هناك شي‏ء أعظم رهبة منه، و كل ما قيل بخصوص هيولا الموت هو عين الصواب. أمّا إن إعتبرنا الموت- كولادة الجنين من بطن أمّه- ولادة أخرى و آمنا بإنّ اجتيازنا لهذا الممر الصعب يعني وضع أقدامنا في عالم أوسع و أشمل وأكمل من هذا العالم و هو مليى‏ء بأنواع النعم التي يصعب علينا تصورها في ظل الظروف الراهنة و الحياة الفعلية. و خلاصة القول فإن اعتبرنا الموت أكمل و أسمى من هذه الحياة، و التي لا تعد سوى سجناً إن قارناها بالحياة في ذلك العالم، فمن الطبيعي سوف لن تعد للموت مثل هذه المعاني التي تشير الخوف و الهلع و النقرة لدى‏ النفس، وستكون له معاني جمالية رائعة قريبة من القلب محببة إلى‏ النفس.

لأنّه إن سلب من الإنسان جسمه زوده بالأجنحة ليحلق بها في سماء الأرواح الشفافة اللطيفة التي تفوق التصور و الخيال و الخالية من كافة أشكال الإقتتال و التراع و العداء و الهموم و الغموم. و هنا نتذكر ذلك الشاعر الذي له مثل هذه الأفكار و هو يأمر حكيماً عالماً بلغة الشعر: فلتمت أيّها الحكيم من مثل هذه الحياة، فالموت من هذه الحياة لايعني سوى البقاء، و لتحلق بأجنحتك كالطيور فتطوي تلك المسيرة الكاملة، ولا تخشى من الحياة التي تنتظرك فالخشية لابدّ أن تكون من هذه الحياة الضيقة المحدودة. فمن البديهي أنّ من ينظر هكذا إلى‏ مسألة الموت لن يقول أبداً أنّ الموت حالة عبثية لا طائل من وراءه أو هو إنتحار و قتل للنفس، بل يراه حقيقة سامية يحث الخطى من أجل معانقتها، و ما أجمله إن كان وسيلة لبلوغ الأهداف المقدسة و السامية، و خلاص الإنسان من الذلة و الخنوع والبؤس و الشقاء.

العنصر الآخر لخشية الموت‏

هناك طائفة أخرى‏ تخشى الموت لا لأنّه يعني الفناء و العدم المطلق، بل لأنّ صحيفة أعمالهم بلغت درجة من الاسوداد و الظلمة بحيث يشاهدون بأم أعينهم ما سيترتب عليها من جزاء أليم و عذاب شديد سيطالهم بعد الموت، أو على الأقل أنّهم يحتملون ذلك. فهؤلاء أيضا محقون في خشيتهم الموت، لأنّهم بمثابة المجرم الذي اقتيد من قضبان السجن و حمل إلى‏ المقصلة، طبعاً الحرية و الخلاص مطلوب، لكن لا التحرر من السجن نحو المشقة! فحرية هؤلاء من سجن البدن أو سجن الدنيا يتزامن و حركتهم نحو المقصلة، «المقصلة» لا بمعنى الإعدام بل بمعنى العذاب الأسوأ منه. ولكن ما بال اولئك الذين يخشون الموت و لايرونه فناءاً وعدماً، كما ليس لهم من صحيفة أعمال سوداء؟ لِمَ يرهبون الموت في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة؟ لماذا؟ ...

يتبع...

2020/11/03

نهاية أم بداية: بماذا سنشعر عندما نموت؟!

عادة ما يعيش الناس حياتهم في الزمان الحاضر و يكتفون بما هم عليه الآن، و الأفراد الذين يعيشون الزمان الماضي ليسوا قلائل أيضاً، و هذه الطائفة تنهمك على الدوام في التعامل مع النماذج الحاوية لأحداث الماضي الحلوة والمريرة بعد إنتشالها من تحت الأنقاض، و الواقع أنّهم يقضون أعمارهم في نبش قبور الماضين.

فهم لا ينفكون عن أمرين؛ إمّا ذرف الدموع على‏ الحوادث الأليمة، و إمّا التغني ببطولات وأمجاد عظمائهم الذين دفنوا تحت التراب! نعم هناك من يفكر في المستقبل ولّا سيما المستقبل البعيد و هم قليلون، و هنا يطرح هذا السؤال: ما السبب الذي يكمن وراء التحفظ عن التعرض لحوادث المستقبل والذي يتخذ أحياناً طابع الهروب؟ ترى أيعزى ذلك إلى‏ طبيعة المستقبل الخارجة عن دائرة الحس، والناس أبناء الحس فهم يألفون هذه الأم فقط؟ أم يعزى ذلك إلى هالة من الغموض و الإبهام التي تغطي المستقبل فتجعله يكتسي حلّة مخيفة؛ الأمر الذي يثير الهلع لدى من يقترب منه؟ أم أنّ المستقبل شئنا أم أبينا مقرون بالمشيب و العجز و الكهولة و بالتالي‏ الموت والعدم، و هي الأمور التي يرتعش منها الفرد و يهرب منها بكل كيانه. ولكن على كل حال لامفر لنا من التعامل مع المستقبل رغم الخوف والهلع والإبتعاد و الهرب، و لا شك أنّ هذا المستقبل هو الذي‏يختزن مصيرنا و عاقبة أمرنا، فالماضي ولّى و إندثر و الحاضر سينتهى كلمح بالبصر إلى‏ الماضي، و عليه فلا يبقى‏ سوى المستقبل؛ المستقبل البعيد الذي تكتنفه الأسرار و الألغاز والذي ينتظرنا فنسير نحوه دون تريث، فلم لا ندركه و نفكر فيه؟

الموت ليس بهذا الرعب‏

إنّ الناس و رغم كل اختلافاتهم و تنوع مشاربهم الفكرية والعقائدية سيبلغون شاءوا أم أبوا و كيفما تحركوا و إنطلقوا نقطة مشتركة تتمثل بالموت واختتام هذه الحياة. فنقطة إنطلاقة الحياة غنية كانت أم فقيرة، وفي وسط الجهل كانت أم العلم، و مقرونة بالسعادة أم الشقاء سيأتي عليها الموت بغتة فيجعل الجميع يعيشون حالة واحدة تسودهم فيها المساواة التامة المطلقة التي يعجز الكل عن الإتيان بها. و لهذا يمكن تأمل مقدار العمر و طول الحياة، بينما لايمكن مناقشة الموت، حتى لو استخرجنا ماء الحياة من الظلمات واحتينا جرعة منه، فإنّ الحياة الأبدية متعذرة محالة، لأنّ طول العمر لايعني الأبدية قط. و على هذا الأساس يتفق جميع الأفراد على‏ الإيمان بالموت رغم الفوارق الفكرية التي تسودهم، و لعل التعبير عن الموت باليقين على لسان آيتين من الآيات القرآنية هو إشارة إلى‏ هذه الحقيقة، فقد صرحت إحدى‏ هاتين الآيتين بالقول: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقينُ»[1]. و صرحت الآية الأخرى‏ على لسان الآثمين: «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتَّى اتَيْنَا الْيَقِينُ»[2]. و معنى ذلك لقاء المحسنين و الآثمين في تلك اللحظة القطعية واليقينة.

الشعور الإنساني حين الموت‏

السؤال الذي‏يطرح نفسه هنا: بم يشعر الإنسان حين الموت؟ لا أحد يعرف الشعور الذي يخالج الإنسان حين الموت، حيث لم يعد أحد من هناك ليشرح للآخرين شعوره في تلك اللحظة الحساسة. فهل مفارقة هذه الحياة كقلع السن اثر حالة التخدير و دون أي ألم ومعاناة، أم يعاني الإنسان حينها أقسى أنواع العذاب و الشدّة بحيث يعجز الإنسان عن وصف تلك الحالة؟ أم القضية تختلف باختلاف روحيات الأفراد و أخلاقياتهم وصفاتهم وأعمالهم؟ فهو سهل يسير على‏ البعض كاستشمام رائحة الوردة، بينما ثقيل وصعب على البعض الآخر كحمل ثقل وزنه الجبل. و لعل هناك شعورا آخر يخالج الإنسان لحظة الموت لايسعه فكرنا و ذهننا ولايمكننا إدراكه في ظل ظروف هذه الحياة. فلو قدر لوليد خرج من رحم أمّه العودة الثانية إلى‏ توأمه الآخر في الرحم، فهل يسعه شرح ما شاهده خارج رحم أمّه منذ الولادة حتى عودته ثانية إلى‏ بطنها؟

أليس هذا الأمر أشبه شيئاً بفرد أخرس يروم وصف رؤياه وما شاهده في المنام لآخر مكفوف البصر؟!

عبثية الهرب من الواقع‏

إنّ أسوأ سبل مواجهة الحقائق المريرة يتمثل بالتهرب من إدراكها وإستيعابها أو إيداعها بوتقة النسيان. حقّاً ليس هناك خفة عقلية تفوق هذه القضية بأن ننسى شيئاً لاينسانا أبداً، أو نتوقع إعادة النظر بشأن مطلب حتمي لايمكن إجتنابه بأي شكل من الأشكال. لماذا لا نفكر بالموت و الحوادث التي تعقبه و مصير الروح بعد مفارقتها لهذه الحياة و مئات القضايا الأخرى ذات الصلة بالموت؟ و الحال وقوع الموت في المستقبل القريب بالنسبة لنا يعد من الحوادث القطعية الحتمية التي لا غبار عليها و لا نقاش فيها. إنّنا حين نتصفح التاريخ نرى الموت قد صرع أقوى الأفراد و أقدرهم من قبيل الاسكندر و جنكيز خان و نابليون و من كان على‏ شاكلتهم، كما قضى على‏ أعظم العلماء و المفكرين و أقوى الأدباء و الشعراء و الكتّاب، فقد ركع الجميع للموت و استسلموا له، و عليه فليس من المعقول أن ننساه أو نخشاه و نخافه عبثاً، فقد ورد عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال «وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيْمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ»[3]. فما أحرانا أن نتقدم إلى‏ الأمام بكل شجاعة و بسالة و واقعية لنقف على الأمور المتعلقة بنهاية الحياة و نحصل على‏ الأجوبة الشافية و الوافية المنطقية بخصوص الألغاز و الأسرار التي تكتنف الموت.

رؤيتان لمصير الإنسان‏

هل لحظة الموت هي لحظة وداع كل شي‏ء؟ لحظة نهاية الحياة؟ لحظة الغربة الأبدية و الإنفصال المطلق عن هذا العالم، و تحلل و عودة المواد المؤلفة لبدن الإنسان إلى عالم الطبيعة؟ أم هي لحظة الولادة الجديدة؟ أم هي خروج ثاني من رحم الدنيا إلى‏ عالم واسع و شامل آخر؟ أم تحطيم قضبان سجن رهيب؟ أم التحرر من قفص ضيق و صغير و إفتتاح نافذة نحو عالم روحي واسع بعيد عن الزخارف المادية لهذا العالم و مجانب للهم و الغم و الألم و المعاناة والعداوة و الكذب و الظلم و الجور و الإجحاف و ضيق النظر و الحقد والضغينة والحرب و القتال، و بالتالي كل المنغصات و الكدورات التي ينطوي عليها هذا العالم؟ بغض النظر عن مدعى صحة الرؤيتين المذكورتين و إقترابها من الحقيقة والمنطق- و بالطبع سنتحدث في الأبحاث القادمة باسهاب عن هذا الموضوع- فإنّ الرؤية الاولى تبدو مظلمة و مخيفة و أليمة و الثانية جميلة ورائعة و هادئة.

فصورة الموت على ضوء النظرة الاولى‏ تجعل شربت الحياة- مهما كانت الحياة مرفهة- علقماً مريراً على الإنسان أو تضطره للخضوع لأي ‏شي‏ء والاستسلام لأي ‏ظروف من أجل الفرار من الموت.

و القضية على العكس تماماً بالنسبة للنظرة الثانية التي يسعها جعل‏ شربت الحياة عذباً و شربت الشهادة في سبيل الحق و الأهداف السامية أعظم عذوبة وحلاوة، و تلقن الإنسان بعدم الاستسلام لأي ‏شي‏ء و الانحناء لأي شرط بسبب هذه الحياة، بل عليه أن يكون حرّاً في دنياه و لايخشى الموت المشرف! والخلاصة فإنّ الموت ليس مرعباً دائماً، فقد تكون هذه الحياة أعظم منه رعباً أحياناً.

يتبع...

الهوامش:


[1] ( 1). سورة الحجر، الآية 99

[2] ( 2). سورة المدثر، الآية 46- 47

[3] ( 1). نهج البلاغة، الخطبة 188

2020/10/24

مهمة شاقة وعسيرة.. ما الذي يريده الإسلام؟!

اهداف الاسلام

إن من الواضح: أن أهداف الإسلام القصوى ليست هي مجرد تحقيق العدل، ولو بمفهومه الأوسع، إذ لو كان كذلك لم يبق معنى للأوامر الداعية إلى الجهاد والتضحية بالنفوس في سبيل الله والمستضعفين، إذ لماذا يتخلى هذا الشخص عن نفسه وعن حياته في حين يبقى الآخرون يتمتعون بالحياة، وبمباهجها ولذائذها؟!

كما أنه لو كان العدل هو الهدف فلا يبقى معنى لمحبوبية الإيثار على النفس ومطلوبيته له تعالى، ثم مدح من يفعل ذلك من الناس كما في قوله تعالى: (... وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...) 1.

كما أنه لا معنى لنهي الإنسان عن الحقد والحسد، وغير ذلك مما لا يمكن تتبعه واستقصاؤه، فإن ذلك كله وسواه ليدل على أن الهدف ليس هو مجرد تحقيق العدل، وإنما هو فوق وأهم وأقدس من ذلك.

إنه تجسيد إنسانية الإنسان، وإظهار كنوزها، والارتفاع بهذا الإنسان إلى مستوى الجدارة الحقيقية لأن يمثل النموذج الذي يريده الله للإنسان الكامل، وليس العدل وسواه من كمالات وفضائل إلا واحداً من تلك المراحل والوسائل الموصلة إلى ذلك الهدف المقدس والأسمى، الذي يستبطن في داخله: كل العدل، وكل الكمالات وكل الفضائل، وأخيراً كل السعادة، والفوز والنجاح.

هذا هو هدف الإسلام، وهذا ما يسعى إليه، ويعمل من أجل الوصول والحصول عليه، وليس أدل على ذلك من الآية الكريمة التي تحدد مهمة النبي الرسول، بأنه يُعلِّم الناس الحكمة، ويطهرهم، ويزكيهم، بالإضافة إلى تبليغ رسالة الله لهم، قال تعالى :

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) 2.

وليلاحظ: أيضاً قوله تعالى: (... مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 3.

ومن يراجع الآيات القرآنية يجد الكثير الكثير مما يدل على ذلك دلالة واضحة، حتى إن ذلك لا يحتاج إلى أي بيان أو توضيح، ولا إلى المزيد من الدلالات والشواهد.

الحاجة إلى الوزير والوصي

وبعد أن عرفنا حقيقة هدف الإسلام، فإننا نعرف:

أن مهمته شاقة وعسيرة جداً لأنها تصطدم أولاً وبالذات بالإنسان الفرد، حيث لا بد له من السيطرة على غرائزه وشهواته وطموحاته، ليوجهها ويستفيد منها في مجال بناء الشخصية الإنسانية المثالية والفضلى، كما أنها تهدف إلى التغيير الجذري في البنية الاجتماعية والسياسية وغيرها للمجتمع، ليقتلع كل جذور الشر، ويستأصل كل عوامل الانحراف ؛ ليغرس عوضاً عنها كل معاني الخير والصلاح، والبركة والفلاح.

نعم، إنها مهمة شاقة وعسيرة جداً، ولا أشق ولا أعسر منها، وهي تحتاج لإنجازها ثم إلى استمرارها إلى جهد هائل ومستمر، ما دام أن الإنسان يحمل في داخله عوامل التغيير والتحول، التي منحه الله إياها لتكون عوامل لبقائه وسعادته ولراحته، وأعطاه أيضاً وسائل ضبطها والهيمنة عليها وتوجيهها، ولكن تلك الوسائل كثيراً ما تضعف عن السيطرة على تلك العوامل.

ولسوف يبقى هذا الخطر قائماً، ما دام ذلك الصراع قائماً.

وإذا كان الصراع مستمراً باستمرار وجود الإنسان على مدى الزمان، وكان خطر الشذوذ والانحراف مستمراً أيضاً:

فإن الأنبياء (عليهم السلام) سيكونون بحاجة إلى مواصلة القيام بمهمة التربية والتزكية، وغرس الفضائل الإنسانية والأخلاقية في نفوس الناس، بالإضافة إلى الاستمرار في تلاوة الآيات القاهرة للعقل ؛ والمرضية للوجدان، وبالإضافة إلى تعليم الشريعة والأحكام، ثم الإشراف على تطبيقها، والرقابة المستمرة على ذلك.

ومن هنا تبرز الحاجة إلى الوزير والوصي، والنصير والأخ والولي، والخليفة للنبي (صلى الله عليه وآله)، فجاء تنصيب علي (عليه السلام) من قبل الرسول الأكرم (صلوات الله عليه وآله) هو الحركة السليمة والطبيعية في خط الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه، وما يوم الدار، وما جرى من تنصيب علي (عليه السلام) فيه خليفة ووزيراً ووصياً للرسول إلا واحداً من تلك المناسبات الكثيرة التي جرى فيها التأكيد على هذا الأمر، وترسيخه بصورة قوية وحاسمة 4.


الهوامش:

1. القران الكريم: سورة الحشر (59)، الآية: 9، الصفحة: 546.

2. القران الكريم: سورة الجمعة (62)، الآية: 2، الصفحة: 553.

3. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 6، الصفحة: 108.

4. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء الثالث.

2020/10/21

هل يتقاطع الإسلام مع العلمانية؟ وما هو الموقف الذي تتبناه المرجعية الدينية؟ (فيديو)

ينشر موقع الأئمة الاثني عشر حوار مفصلاً لسماحة آية الله السيد منير الخباز [دامت بركاته] تحت عنوان "العلمانية تحت المجهر" أجراه في عام 2016.

ويسلط الحوار الضوء على نقاط مهمة أشار إليها سماحته منها المجالات التي يتقاطع فيها الدين مع العلمانية، ولخصها بـ (القيم الأخلاقية و المجال السياسي، والمجال الإقتصادي).

فيما يبين سماحته ثلاثة آراء لدى فقهاء الإمامية (الشيعة) في شكل النظام السياسي الذي يتبناه الدين.

الحوار في الفيديو أدناه:

 

2020/10/11

المذهب الاقتصادي في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)

 

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في ثلاثة محاور:

تعريف المذهب الاقتصادي الإسلامي.

قراءة الرؤية الكونية والاجتماعية للمذهب الاقتصادي الإسلامي.

معالم المذهب الاقتصادي في العهد العلوي.

المحور الأول: تعريف المذهب الاقتصادي الإسلامي.

هناك فرق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي:

علم الاقتصاد: علم نشأ منذ بداية العصر الرأسمالي أي منذ أربعة قرون تقريبا وهو علم يتكئ ويعتمد على علمي السياسة والتاريخ، وهو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وظواهرها وربطها بالعوامل المتحكمة فيها.

المذهب الاقتصادي: هو المنهج الذي يتخذه كل مجتمع لتنظيم حياته الاقتصادية ولحل المشكلات العملية.

كل مجتمع على الأرض يعيش اقتصاد لأن كل مجتمع على الأرض يعيش إنتاج وتوزيع، إذن هو محتاج إلى طريقة ومنهج ينظم به حياته الاقتصادية ويقوم على أساسه بحل مشاكله العملية، ولكننا عندما نريد أن ندرس أي مذهب اقتصادي لابد أن ندرس الرصيد الفكري وراء هذا المذهب، كل مذهب اقتصادي يعتمد على رصيد فكري خلفه، هو الذي أنتج هذا المذهب الاقتصادي، قد يكون الرصيد الفكري تاريخيا، وقد يكون فلسفيا، وقد يكون قيميا، بالنتيجة وراء المذهب الاقتصادي رصيد فكري أنتجه وأمده.

عندما نريد أن نقارن بين المذهب الاقتصادي الرأسمالي والمذهب الاقتصادي الإسلامي فإن المذهب الاقتصادي الرأسمالي يتيح للإنسان الفائدة الربوية، من حق الإنسان أن ينمي أمواله عن طريق الفائدة الربوية، بينما المذهب الاقتصادي الإسلامي يمنع التنمية عبر الفائدة، لأن هناك اختلاف بين الرصيدين الفكريين لكل من المذهبين، المذهب الاقتصادي الرأسمالي رصيده الفكري يرى أن المركزية والمحورية في الحياة الاجتماعية للإنسان، وبما أن المركزية والمحورية للإنسان إذن باب الحرية مفتوح للإنسان، ومن حرية الإنسان حريته في تنمية ثرواته فبإمكانه أن ينمي ثرواته عبر الفوائد الربوية، هذا من متفرعات حريته، وحريته مما يتفرع على محوريته ومركزيته، بينما المذهب الاقتصادي الإسلامي لايرى المحورية للإنسان، المحورية في الحياة لخالق الإنسان، والإنسان مجرد خليفة ونائب (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) والخليفة يسير على ضوء قوانين المستخلف، ومن قوانين المستخلف (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) أن الثروة لاتقتنص إلا بعمل وهذا قانون في المذهب الاقتصادي الإسلامي، هذا القانون ناشئ عن نفس الرؤية، لايمكن تحصيل الثروة إلا بعمل، إما بعمل مباشر وإما بعمل مختزن، فمثلا لو استأجرت سائق للسيارة تعطيه أجرة، جزء من الثروة لأنه قام بعمل، وهذا عمل مباشر، وفي حالة أخرى هو يعطيك سيارته يقول لك استأجر سيارتي، هو أعطاك عمل لكن عمل مختزن ضمن الطاقة، طاقة السيارة، فإما أن يكون العمل مباشر كأن يكون هو سائق أو عمل مختزن كأن يسلمك السيارة باعتبار أن السيارة عمل مختزن، الأجر والثروة تقتنص عن طريق عمل إما مباشر أو مختزن.

إذن كسب الفائدة الربوية تحصيل للثروة من دون عمل، لاعمل مباشر ولا عمل مختزن لذلك منع المذهب الاقتصادي الإسلامي منها وإن فتح الباب المذهب الاقتصادي الرأسمالي لاختلاف الرؤيتين بمعنى اختلاف الرصيد الفكري بين هاذين المذهبين.

بعض الفقهاء يجوز هذا، لو فرضنا أن البنك يقرضك 100 ألف دولار لمدى خمس سنوات، سعر الدولار اليوم يساوي 3.75 ريال وبعد خمس سنوات ينخفض هذا السعر يصبح 3.5 فالمقرض سيخسر لأنك ستعيد إليه 100 ألف دولار ولكن ستعيد دولارا بقيمة أقل من قيمته حين أقرضك، هنا بعض الفقهاء يجوز شرط التدارك، لايكون هذا فائدة بل يكون تدارك للخسارة وليس فائدة ربوية، يعطيك 100 ألف يشترط عليك فارق قيمة الدولار حين تسليمه إليه هذا اشتراط لتدارك الخسارة وليس اشتراطا لفائدة ربوية.

المذهب الاقتصادي الإسلامي هو المنهج الذي وضعه الإسلام لتنظيم الحياة الاقتصادية وحل مشاكلها العملية استنادا إلى الرصيد الفكري الديني، سواء كان رصيدا قيميا أو رصيدا مفاهميا كمفهوم الإسلام عن الإنسان والحياة والكون، أو رصيدا تحليليا لحركة التاريخ.

المحور الثاني: قراءة الرؤية الكونية والاجتماعية للمذهب الاقتصادي الإسلامي.

نلخص هنا في بنود أربعة لهذه الرؤية الكونية:

البند الأول: عندما نتأمل في هذه الآية المباركة: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) نستنتج منها أن إنسانية الإنسان مرتبطة بالطبيعة، بمعنى أن هذا المخلوق لو عاش في طبيعة أخرى لن يصبح إنسانا، الإنسان مستخلص من هذه الطبيعة،

لولا مجيئه من هذه الطبيعة لما صار إنسانا، (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) بما أن إنسانية الإنسان تعتمد على الطبيعة في ابتدائها إذن لابد أن تعتمد على الطبيعة في كمالها، كما أن مبدأ إنسانية الإنسان جاء من الطبيعة فكمال إنسانية الإنسان بإعمار الطبيعة، إذا لم يعمر الطبيعة ولم ينتج فليست له إنسانية كاملة، إنسانيته جاءت من الطبيعة وكمال إنسانيته بإعمار الطبيعة (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) بدون إنتاج لايعتبر إنسان متكامل، ”قيمة كل امرء مايحسنه“.

البند الثاني: لايمكن أن يعمر الإنسان الطبيعة بدون نظام، يحتاج إلى نظام يحفظ استقرار الحياة الاجتماعية، لولا استقرار الحياة الاجتماعية ووجود حاضنة آمنة مااستطاع الإنسان أن ينتج، مااستطاع أن يعمر الأرض، إعمار الأرض يحتاج إلى نظام يحفظ استقرار الحياة الاجتماعية ويحفظ الأمن حتى يكون هناك مجال للإنتاج والإبداع والعطاء، القرآن الكريم يقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) الله يريد حفظ الحياة الاجتماعية.

البند الثالث: ركائز حفظ النظام

الركيزة الأولى: كرامة الإنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) لولا كرامة الإنسان مااستطاع الإنسان أن ينتج ولا أن يعطي، هذا عنصر أساس.

الركيزة الثانية: تلاقح التجارب، عندما نقرأ الآية المباركة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) لتعارفوا أي تعارف التجارب والطاقات، أتعرف على طاقتك وخبرتك وتتعرف على طاقتي وخبرتي، الحضارة الشرقية لايمكن أن تنهض من دون تلاقح مع طاقات الحضارة الغربية، والحضارة الغربية لايمكن أن تنتج من دون تلاقح مع طاقات الحضارة الشرقية، الحضارات عندما تتلاقح طاقاتها، وتتلاقح تجاربها يتحقق هذا العنصر وهذه الركيزة (لِتَعَارَفُوا).

الركيزة الثالثة: التعاون، مجرد تلاقح الطاقات والتجارب لاينفع مالم يكن هناك تعاون فعلي (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

الركيزة الرابعة: التراحم، الحضارة الإسلامية تختلف عن الحضارات الأخرى في أن من أسسها التراحم، هناك بعض الباحثين اللغويين يقول هناك علاقة وثيقة بين عنوان الأرحام وعنوان الرحمة، لماذا يسمى الأقرباء الذين ينحدرون من صلب واحد أرحام؟ هذا مشتق من الرحمة، الله تبارك وتعالى هو الرحمة (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) رحمته تعالى صاغ بها الإنسان فجاء الإنسان وهو يعيش قيمة وخلق الرحمة (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) الإنسان ولد وفي قلبه وميض ونبع الرحمة،

هنا يوصي الإسلام على أن يفيض نبع الرحمة من قلب الإنسان على كل أقربائه الذين ينحدرون من صلب واحد ويعبر عنهم بالأرحام، الرحمة وتعاطف البشر، انقاذ بعضهم لبعض ودفاع بعضهم عن بعض أساس من أسس الحضارة الإسلامية (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

البند الرابع: قاعدة النظام الذي يحفظ الاستقرار ويوفر الأمن هي العدالة وتعني نوعين من القوانين: قوانين ثابتة وهي التي لاتتغير بتغير الظروف ”من أحيا أرضا مواتا فهي له“ قانون ثابت، وقوانين متحركة هي القوانين المواكبة للظروف المتغيرة، فمثلا: عندما تريد أن تبيع ذهبا وتكون قد اشتريت هذه القطعة بعشرة آلاف ريال وتريد بيعها قبل أن تستلمها، وأردت بيعها بمبلغ 12 ألف فهذا لايجوز شرعا، لايجوز بيع الموزون أو المكيل بربح قبل قبضه، أن تبيعه بنفس قيمته فهذا لا اشكال فيه ولكن بيعه بربح قبل قبضه فلايجوز.

المحور الثالث: معالم المذهب الاقتصادي في العهد العلوي.

عهد الإمام علي لمالك الأشتر، نحن نفخر بهذا العهد لأن المنصفين من الباحثين منهم الإمام محمد عبده المصري وغيره ركزوا على أنه لاتوجد لدينا وثيقة تعرض لنا رؤية اقتصادية إسلامية متكاملة إلا العهد العلوي، القرآن فيه آيات متفرقة، والنبي له أحاديث متفرقة حسب الأزمنة والظروف،

أما وثيقة تعكس رؤية اقتصادية متكاملة وتعكس المذهب الاقتصادي الإسلامي ليس لدينا وثيقة إلا هذا العهد وهو عهد الإمام علي لمالك الأشتر، لذلك عدة من الباحثين سلطوا الضوء على هذا العهد منهم الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه «اقتصادنا»، منهم الدكتور طالب فارس في بحثه حول ملامح الاقتصاد في عهد الإمام علي لمالك الأشتر، عدة باحثين ركزوا على هذا العهد.

نذكر مجموعة من معالم المذهب الاقتصادي الإسلامي في العهد العلوي:

المعلَم الأول: المنطلقات.

ذكر العهد ثلاثة منطلقات: العدالة والإنصاف والوسطية، قال : ”أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية“

هنا عناوين ثلاثة: عدل وإنصاف ووسطية مالفرق بينها؟ هي منطلقات للمذهب الاقتصادي.

العنوان الأول: العدل، وهو عبارة عن وضع الأشياء في مواضعها ويتفرع عليه إعطاء كل ذي حق حقه، فمثلا: هناك بحث اقتصادي حول تحديد القيمة التبادلية للسلعة، كيف تتم؟

لو كان لديك قلادة ذهب حتى تصبح قلادة كم عاملا تحتاج؟ تحتاج إلى مادة وهذه المادة تبلور إلى أن تصبح ذهب وتحتاج إلى آلات تصنعها كقلادة وتحتاج إلى خبرة وتحتاج إلى طاقة ثم تحتاج إلى عمل، يعني أن هناك عدة عوامل تدخلت حتى صارت قلادة، عندما نحدد قيمة هذه القلادة بعشرة آلاف هل نعطيها للعامل الذي أنتجها أم توزع على جميع العوامل التي تدخلت في إنتاجها، من العوامل: المادة، والآلة التي صنعتها، والخبرة التي ملكها العامل المنتج، ونفس الجهد الذي بذله المنتج، هل توزع القيمة التبادلية للسلعة على العوامل المتنوعة أم تعطى جاهزة للعامل المنتج؟ هذه عدالة، العدالة تبرز هنا، كيف تضع الأشياء في مواضعها، فلو افترضنا أن كل شخص يمتلك شيء، شخص يمتلك المادة، والآخر يمتلك الآلة، وآخر يمتلك الخبرة، وآخر قام بالعمل، هل ستوزع القيمة على هؤلاء الأربعة أم أنها ستعطى للعامل المنتج.

العنوان الثاني: الإنصاف، الفرق بين الإنصاف والعدالة هو أن العدالة ملكة قلبية، والإنصاف سلوك عملي، الإنصاف تجسيد للعدالة، العدالة هي توازن روحي داخلي والإنصاف تجسيد لذلك التوازن في علاقتك مع الله أو علاقتك مع نفسك أو علاقتك مع الطبيعة كما ورد عن الرسول محمد : ”إن لربك عليك حق ولجسمك عليك حق ولأهلك عليك حق فأعط كل ذي حق حقه“.

العنوان الثالث: الوسطية وهي عبارة عن القوانين المتحركة المنطلقة من قاعدة العدالة المواكبة للظروف المتغيرة، وذكرنا أمثلة سابقا للقانون المتحرك.

المعلَم الثاني: المفردات المدونة في العهد العلوي التي تعكس بمجموعها صورة المذهب الاقتصادي.

نقتصر هنا على مفردتين:

المفردة الأولى: التجارة، نلاحظ النص الوارد عن الإمام علي : ”ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح“ ماذا يعني لنا هذا النص؟ مالفرق بين الإنتاج والتداول؟

الإنتاج هو تطوير المادة الخام بصورة تلبي حاجة المستهلك، تصنع من الحديد سيارة، ومن البلاستيك جهاز معين، تطوير المادة بصورة تخدم حاجة المستهلك، أما التداول فهو نقل السلعة من المنتج إلى المستهلك، إما نقل عامودي كأن يخرجها من الأرض، أو أفقي كأن يطرحها في السوق.

التجارة هل هي إنتاج أم تداول؟ بحسب المذاهب الاقتصادية الأخرى فالتجارة ليست إنتاج، التاجر وسيط يلعب دور الوسيط بين المنتج والمستهلك، بينما في المذهب الاقتصادي العلوي التجارة إنتاج، سيد الصدر يقول: هذا التعبير ”فإنهم مواد المنافع“ التجارة مادة للإنتاج، فالتجارة عبارة عن رأس المال والخبرة والعمل، مجموع هذه العناصر التي تتلخص في التجارة، تسهم في خلق توافق بين المنافع الاستعمالية وبين المنافع التبادلية، لذلك تعتبر التجارة إنتاج.

المفردة الثانية: المنع من الاحتكار، قال : ”واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله منع منه وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لاتجحف بالفريقين

“ الاحتكار أنواع: الاحتكار في الثروة، من بيده الثروة يحتكرها على شركات الإنتاج فلا يسلمها إياهم إلا بأسعار مجحفة وبالطبيعي أن شركات الإنتاج إذا استلمت المادة بأسعار مجحفة سوف ترفع من قيمة السلعة، يعني أن الانحراف في المسار الأول سوف ينعكس في المسار الثاني، أو أن تكون السلعة موجودة في السوق لكن تصطنع ندرة لها، تسمى ندرة مصطنعة حتى يصبح الطلب أكثر من العرض فترتفع قيمتها، أو احتكار للنقد، جمع النقد في مؤسسة معينة حتى ترتفع قيمة فائدة القروض، الاحتكار بصوره ممنوع ”باب مضرة للعامة“ باعتبار أن في قانون منع الاحتكار حفاظا على سلامة شكل المذهب الاقتصادي في توازنه بين الإنتاج والتوزيع.

المعلَم الثالث: دور السلطة في المذهب الاقتصادي الإسلامي

هنا عدة بنود تعرض لها الإمام في العهد العلوي لشرح دور السلطة في تجسيد هذا المذهب الاقتصادي الإسلامي:

البند الأول: إدارة الموارد الطبيعية والمالية بتوازن، هذا النص الذهبي عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”هذا ماأمر به عبد الله علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين مالك ابن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصرا، جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها

“ أربعة عناصر يقوم عليها الاقتصاد: الإنتاج: عمارة بلادها، استصلاح أهلها: توفير الأيدي العاملة المنتجة، جهاد عدوها: حماية الثروات والحقوق، التوزيع: جباية خراجها، أربعة عناصر: إنتاج، وتوفير الأيدي، وحماية الثروات، والتوزيع،

هذه العناصر الأربعة يعرضها الإمام في عرض واحد، يريد أن يقول لابد من إدارة هذه العناصر الأربعة بتوازن بحيث لايطغى الإنتاج على التوزيع، لايكون الإنتاج على حساب التوزيع بل لابد من التوازن بينهما، مثلا: ”من أحيا أرضا مواتا فهي له“ هذا إنتاج، لو أتى شخص وأحيا مئة كيلو متر أو مليون كيلو متر هذا على حساب التوزيع لأنه هنا أنتج أكثر من حاجته على حساب نصيب غيره من الثروة المنتجة، لابد أن يكون هناك توازن بين الإنتاج والتوزيع.

عندما يقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”واستصلاح أهلها“ يعني توفير الأيادي الصالحة بإعدادها وتأهيلها ورعايتها حتى تكون أيادي صالحة للعمل، لم يقل الإمام استجلاب بل قال استصلاح، فالاستصلاح يختلف عن الاستجلاب وعن الاستعمال، الاستصلاح يعني توفير أيدي صالحة، فالصلاح يحتاج إلى تأهيل وإعداد، إذن دور الدولة استصلاح بمعنى توفير أيدي مع إعداد وتأهيل لأن تكون ايدي منتجة.

هنا نشير إلى نقطة: جائحة كورونا كما تقول التقارير أسرعت بالتحول الرقمي، نحن كنا سنصل إلى هذا التحول الرقمي بعد خمس سنوات أو سبع سنوات ولكن هي أسرعت به بحيث صار الاعتماد على الطاقة، على الانترنت لا على الطاقة البشرية، هذه الجائحة أسرعت بذلك وهذا خدم شركات كثيرة لكنها أيضا خلفت كوارث بشرية، فالكثير من الشركات العالمية العملاقة تسرح الكثير من الموظفين، مدام يمكن العمل والإنتاج عبر الطاقة، عبر الإنترنت فما هي الحاجة للطاقة البشرية الهائلة، اليوم مكاتب كبيرة تغلق، لاحاجة لها، فهي تحتاج إلى عمال تنظيف وعمال صيانة وعمال تعقيم وعمال مواصلات وكل هؤلاء يحتاجون إلى أجور ويحتاجون إلى رعاية وهذا يستدعي نفقة ومصروفا كبيرا يثقل كاهل الشركة،

بينما إذا اعتمدت الشركة على الآلة في التعقيم والتنظيف والتأهيل فلا تحتاج إلى هذه الطاقة البشرية، ولأنها لاتحتاج إلى الطاقة البشرية إذن هي مضطرة إلى أن تسرح أعداد هائلة من الموظفين، ونتيجة تسريح هذه الأعداد الهائلة ازدياد حجم البطالة، لازدياد كمية اليد العاملة بدون فرصة عمل،

وهذه كوارث، وستأتي وتزداد، وحتى التجار، أنت الآن صرت تعتمد على الطلب الإلكتروني فالتاجر لايحتاج إلى فتح محلات تجارية تكلفه أموال ومصارف وعمال، فالطلب الإلكتروني يوفر لك الحاجة والسلعة التي تريدها، ونحن نستقبل أيضا كارثة أعظم وهي الثورة الصناعية الرابعة،

مرت على البشرية أربع ثورات:

الثورة الأولى: في القرن الثامن عشر عندما اخترع الإنسان المحرك البخاري وأدار به الحياة الزراعية من دون الحاجة للاعتماد على الحيوانات والإنسان.

الثورة الثانية: عندما اخترع الإنسان الكهرباء، عندما استطاع الإنسان أن يجعل البترول مصدرا للطاقة.

الثورة الثالثة: عندما طغت الرقمنة وطغى الاعتماد على الكمبيوتر استغنى أيضا عن طاقات بشرية هائلة.

الثورة الرابعة التي تستقبلنا هي: ماأعلن عنها عام 2016 في دافوس في سويسرا، أعلن أن البشرية مقبلة على ثورة صناعية كبرى وهي عبارة عن القدرة الهائلة على الاختراقات لهذه التكنلوجيا الإنترنتية إن صح التعبير، فتصبح المركبة تقود نفسها بنفسها، ستجد الآلة «الروبوت» تعمل في كل مكان، يغني عن الطاقة البشرية في كثير من المواطن.

إذن بالنتيجة لابد من تفكير كيف نعد اليد العاملة ونؤهلها إذا كنا سنستقبل استغناءا عن الطاقة البشرية، فهل فكر الخبراء الاقتصاديون في تأهيل اليد العاملة بحيث تواكب هذه الثورة الصناعية العملاقة من دون أن تحدث لنا بطالة ولا مزيد من اليد العاملة بدون فرص للعمل.

البند الثاني: فرض الضرائب، لايوجد دولة بدون ضرائب، فالضرائب جزء من روافد ازدياد ميزانية الدولة كل دولة تعتمد على ضرائب في الحفاظ على حجم ميزانيتها، على مفتاح الإنفاق العام، الإمام أمير المؤمنين فرض ضرائب، الزكاة ليست واجبة في الخيل، الإمام أمير المؤمنين فرض الزكاة في الخيل العتاق وفي البراذين دعما لميزانية الدولة وخزينة بيت المال في زمانه.

البند الثالث: رعاية القطاع العام، الإمام علي يعبر عن هذا الأمر تعبير دقيق:

”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج فإن ذلك لايدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد“

هناك فرق بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والإعمار، الإمام يركز على الإعمار، النمو الاقتصادي هو عبارة عن ظاهرة الإنتاج، أن ترى الإنتاج لهذه الدولة ظاهرا، أن ترى ارتفاع في معدل الناتج المحلي الإجمالي، وهناك تنمية اقتصادية وهي عبارة عن إجراءات يتخذها صناع القرار عبر خطط تطويرية تسهم في ارتفاع مستوى المعيشة وتحدث تغيرات كمية أو نوعية في رأس المال البشري والتنافس الإقليمي وفي مجال الصحة والتعليم والأمن،

وهناك الإعمار ”وليكن نظرك في عمارة الأرض“ الإعمار هو العلاقة الوطيدة بين حجم الإنتاج وحجم ميزانية الدولة الذي يقوم عليه الإنفاق العام، هنا الإمام يركز على رعاية القطاع العام ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“ كل دولة أمامها مسؤولية تنمية الإنتاج، في تنمية الإنتاج إما بالتدخل المباشر بأن تنفق على السياحة والتجارة والصناعة والموانئ، أو تدخل غير مباشر بأن تدعم القطاع الخاص في مجال الاستثمار في الموارد الطبيعية، عندما تقوم أي دولة بهذه الصورة حققت رعاية القطاع العام.

نورد هنا مثالين من واقعنا حتى يتضح المقصود:

المثال الأول: الإمام علي عندما يقول: ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“ يؤسس قاعدة عامة ولكن هذه القاعدة لاتنطبق على كل الظروف أو على كل بلد ومجتمع، لماذا؟ الآن في الأزمات الاقتصادية الخانقة مثل انخفاض سعر البترول، الخبراء الاقتصاديون يدرسون هل أن الأولوية لخفض الإنفاق ومزيد من الضرائب أم أن الأولوية لمزيد من الإنفاق وخفض الضرائب ولو بالاستثمار عن طريق الاقتراض من أجل المحافظة على نمو اقتصاد الدولة، تحديد أيهما أولى في الخروج من الأزمة الاقتصادية، يعتمد على خبراء اقتصاديين وهذا مانسميه بالقوانين المرنة، القوانين المتحركة، فمثلا مؤسسة النقد الفدرالي الأمريكية بين فترة وأخرى تصدر التقارير ماهو الأولى زيادة كمية الفائدة أو نقصها، ماهو الأولى زيادة كمية النقد أو تخفيضه من أجل المحافظة على النقد الموجود فرارا من العجز والتضخم، اختيار الأولى في الخروج من الأزمة الاقتصادية هذا من القوانين المتحركة، الإمام يطرح قانون ثابت لكن يحتاج هذا القانون إلى ضميمة القانون المتحرك عندما يقول: ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“.

المثال الثاني: رعاية المنتج الوطني تدخل تحت قوله : ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخرا

“ فمثلا الصين الغول العملاق تضخ أموال هائلة على شركات الإنتاج بقروض ميسرة لكي تسهم في الإنتاج بشكل أوسع وتغرق السوق العالمية بسلعها ومنتجاتها، بسعر أقل وبجودة أفضل، لذلك الكثير من الشركات الأمريكية عجزت عن منافسة هذا الغول، وطرحت قوانين صارمة تحد من سيطرة هذا الغول الصيني على السوق،

بالنتيجة أنت الآن في الخليج عموما شركات سوبرماركت طغت وسيطرت، وفي المستقبل قد تسيطر بشكل أكبر، هذا الناتج المحلي والشركات والإنتاج المحلي يضعف بمرور الوقت لأن هذه الشركات عملاقة لديها أموال ضخمة تخفض سعر المنتج وتيسر وصوله للمستهلك، بالتالي تجلب اليها المستهلك، وبالتالي هذا يؤثر على الناتج المحلي بحيث تصبح الشركات المحلية مجرد أجراء وعمال لدى الشركات العملاقة الكبرى، دعم الإنتاج المحلي بفرض قوانين وضرائب صارمة على الشركات الكبرى يدخل ضمن ”وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج“.

البند الرابع: الحفاظ على القيمة التبادلية، القيمة التبادلية للسلعة تنشأ من عاملين: ندرة المادة وجودة العمل، تحدد قيمة السلعة طبقا لهذين العاملين، لكن أحيانا هناك من يلعب في السوق في قوانين العرض والطلب حتى يختلق ندرة من أجلها ترتفع قيمة السلعة هنا تتدخل الدولة، تتدخل السلطة لأنها تراقب النشاط التبادلي في السوق لتحافظ على القيمة التبادلية العادلة للسلعة، الإمام علي يقول:

”وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لاتجحف الطرفين“ التعبير بكلمة سمح تعبير لطيف يشير إلى جانب اقتصادي وجانب خلقي، يعني أن يكون السعر مقبول اقتصاديا وناشئ عن سماحة وقناعة من النفس بما رزقها الله تبارك وتعالى.

البند الخامس: الضمان الاجتماعي، يقول الإمام : ”الله الله بالطبقة السفلى من الذين لاحيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا فاجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وتعهد ذوي اليتم منهم وذوي الرقة في السن ممن لاحيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه“ كل دولة لديها ضمان اجتماعي بمقدار قوة اقتصادها، دور العجزة، مؤسسات رعاية الأيتام وكفالاتهم، الجمعيات الخيرية، الجمعيات التعاونية، حساب المواطن كل هذا يدخل ضمن الضمان الاجتماعي، الضمان الاجتماعي يسد باب الجريمة، ويمنع تحول الفقر إلى كفر

كما ورد عن الإمام علي : ”مادخل الفقر بلدا إلا وقال للكفر خذني معك“ الضمان الاجتماعي ضرورة لاستقرار الحياة الاجتماعية وتوفير الأمن فيها،

اليوم نحن مقبلون على فصل دراسي ربما فصل دراسي كامل تعليم عبر الإنترنت، فالطالب يحتاج لتوفر الإنترنت وقدرة على التواصل مع المدرس عبر الإنترنت والاستفادة منه، كما نوفر عبر الضمان الاجتماعي الملابس والأغذية والأدوية أيضا نوفر عبر الضمان الاجتماعي لهؤلاء الفقراء والمحتاجين وسائل التواصل عبر الإنترنت ليستطيعوا من خلاله التواصل مع دروسهم وأساتذتهم ومواصلة تعليمهم كل ذلك يدخل ضمن الضمان الاجتماعي،

إذن علي ابن أبي طالب عكس لنا صورة انسانية حيوية من خلال هذه المبادئ التي سجلها في عهده العلوي المبارك لمالك الأشتر.


المصدر: شبكة المنير

2020/10/07

للشباب المؤمن: كيف نتعامل مع التطور المادي؟

عندما يحصل هناك تطور وازدهار في الجوانب المادية والظواهر الدنيوية ينبغي أن يكون ذلك التطور مترافقاً بالسمو والترقي في الجوانب الإيمانية الدينية نحن محتاجون؛ فاقد الشيء لا يعطيه.

في واقع الأمر عندما ينظر الإنسان إلى أعمال السلف والعلماء الماضين -الذين تركوا الدين وديعة بين أيدينا- يشعر بالخجل، لقد كانت أعمالهم مختلفة عن أعمالنا، لقد تغيّرت ظروف زماننا، وتغيّر نوع العلاقات بين الناس مضافا إلى تأثير الثقافة غير الإسلامية؛ في النهاية مهما كانت الأسباب نجد أنّ الحالة الروحانية الإيمانية التي كانت لدى السابقين قد ضعُفَت اليوم، وتراجعت وأصبحت هزيلة للغاية.

عندما يحصل هناك تطور وازدهار في الجوانب المادية والظواهر الدنيوية ينبغي أن يكون ذلك التطور مترافقاً بالسمو والترقي في الجوانب الإيمانية الدينية، وإلّا فإنّ التطور في الجوانب المادية لوحدها سوف يكون كوضع السكين الحادة في يد الرجل السكران؛ يستخدمها حيث لا ينبغي ولا يجوز.

عندما أرادوا مدّ سكة الحديد في إيران في عهد ناصر الدين شاه عارض عالم طهران الأول المرحوم الحاج ملا علي كَني المشروع، وكان يقول: إذا ما وضع الأجانب أقدامهم في إيران سوف تتأثر الثقافة الإسلامية بهم، وسوف تضعف شعائر المجتمع الأساسية بالتدريج، لذلك قاموا في العام الذي توفي فيه - 1306 ق- بمدّ سكة حديد بين طهران ومرقد السيد عبد العظيم الحسني، وكان يطلق على عربات النقل المستخدمة فيها اسم "السيارات الدخانية".

نعم بالتأكيد لا يمكن للمسلمين أن يحرموا أنفسهم من التطور والرقي المادي، ولا يمكنهم ألّا يستخدموا التقنيات الحديثة؛ بل يجب عليهم أن يتزودوا بالوسائل والتقنيات المتطورة؛ ولكن في مقابل ذلك ينبغي عليهم العمل -عبر بذل الجهد والتوسل- على تقوية وترسيخ القوى الإيمانية والجوانب الإلهية في أنفسهم وفي مجتمعاتهم، وذلك للإشراف على تلك الأدوات المادية وتوجيهها بحيث لا تستخدم استخدامات غير مشروعة وغير إنسانية.

يقول الباري تعالى في كتابه المجيد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ».

علينا أن نكون على يقين أنّ الباري تعالى -وهو العالم والقادر والمنزّه عن كلّ ضعف وقصور- يرى أعمالنا، ونحن غافلون عن هذا الأمر، ونغفل عن حقيقة أنّ أعمالنا تسجل كاملة بلا نقصان، وأنّ لهذه الأعمال تأثيرها في هذه الدنيا، وفي عالم البرزخ، وفي عالم الآخرة، وفي جميع ما سنلاقيه من عوالم.


من جواب لسماحة آية الله العظمى شبيري الزنجاني على طلب مجموعة من الشباب لإرشادهم أخلاقيا

2020/09/14

عذاب القبر… حقيقة أم خيال؟!
عذابُ القبر هو العذاب الإلهيُّ الذي يقع بين النشأتين الدنيا والآخرة، وقد أشار القرآنُ الكريم اجمالاً إلى وقوع العذاب في تلك النشأة المعبَّر عنها بعالم البرزخ أشار إليها في مثل قولِه تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب) فآلُ فرعون -بمقتضى الآية الشريفة- يُعرَضونَ على النار صباحَ مساء  وفي يوم القيامة يُؤمرُ بهم فيدخلون في عذابٍ هو أشد، وهو عذابُ جهنَّم، فالعذابُ الذي يتلقَّاه آلُ فرعون صباحَ مساء قبل قيام الساعة هو المعبَّرُ عنه بعذاب القبر وبعذاب البرزخ.

فالآيةُ تصلحُ شاهداً على وقوع عذاب القبر في الجملة، وأما ثبوتُ ذلك بما هو أكثرُ وضوحاً فيتمُّ من ملاحظة السنَّة الشريفة والتي أكَّدت على أنَّ العذابَ في القبر وعالم البرزخ واقعٌ لا محالة على أقوامٍ وأنَّ آخرين سوف يحظونَ في ذلك العالم بالنعيم، فهذا المقدار لا يسعُ المؤمن إنكاره، فإنَّ الروايات الواردة من طرقنا عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) في هذا الشأن تبلغُ بل تتجاوزُ حدَّ التواتر الإجمالي، فإذا ضممنا إليها ما ورد عن الرسول الكريم (ص) من طُرقِ العامَّة فإنَّها بذلك تفوقُ حدَّ التواتر بمراتب.

نعم التفاصيل الواردة حول عذاب القبر لم تصل إلينا إلا من طريق الآحاد، ولهذا لا يكون من غضاضةٍ على أحدٍ لو بنى على التوقُّف وعدم الإذعان بوقوعها أو وقوع بعضِها وذلك نظراً لعدم وجود ما يقتضي التثبُّت القطعي من الوقوع. وأما الإنكار لأصل وقوع العذاب في القبر والبرزخ على إجماله فهو ممَّا لا يسعُ المؤمن البناء عليه والإذعان به بعد قيام التواتر عن مَعدِن الوحي(ع) على وقوعه.

وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أمرٍ وهو أنَّ عذابَ القبر من القضايا التي ينحصرُ طريقُ التثبُّت من وقوعها بالنقل، وذلك لأنَّها من القضايا الغيبيَّة المتَّصلة بالنشأةِ الأخرى التي لم ننتقل إليها، فهي لذلك غيرُ خاضعةٍ للمعاينة من أبناءِ هذه النشأة، وإنَّما يُعاينُها مَن انتقل إلى تلك النشأة، ولهذا لا سبيل إلى التثبُّت من وقوعها بواسطة الحسِّ والتجربة بل يتمحَّضُ سبيلُ التثبُّت من وقوعِها في الإخبار من طريقِ الوحي عن عالِم الغيبِ والشهادة، فحيثُ إنَّ وقوع العذاب في القبر وعالم البرزخ أمرٌ لا يُحيله العقل ، وحيثُ ثبت بالتواتر القطعيِّ عن النبيِّ(ص) وأهل بيتِه(ع) أنَّ ثمة عذاباً يقعُ بين النشأتين على أقوامٍ لذلك وجَبَ التسليم إذ هو مقتضى الإيمان بنبوَّة النبيِّ محمد (ص) وأنَّه لا ينطقُ عن الهوى إنْ هو إلا وحيٌّ يُوحى.

وأما دعوى أنَّ وقوع العذاب في القبر أمرٌ ينفيه الوجدان، لأنَّه كثيراً ما يتَّفقُ فتحُ قبور الموتى بعد دفنِها بيومٍ أو يومين فلا يُرى على أجسادِهم أثراً لعذاب، ولا يُرى أثراً لضغطةِ القبر أو غيرها من الأهوال التي تحدَّثت عنها الروايات. ألا يُؤشِّر ذلك إلى عدم صحَّةِ ما ورد في الروايات من وقوع العذاب في القبر؟!

فالجوابُ عن ذلك أنَّ هذه الدعوى نشأتْ عن توهُّم أنَّ العذاب في القبر يقعُ على أجساد الموتى والحال أنَّ أكثر الروايات لم تتصدَّ لبيان حقيقة وماهيَّة العذاب الذي سيقعُ في تلك النشأة وهل هو عذابٌ يقعُ على الأجساد أو هو عذابٌ يقعُ على الأرواح.

وثمة رواياتٌ عديدة أفادت أنَّ المعذَّب والمُنعَّم في عالَم البرزخ هي الأرواح الماثلة في قوالبَ برزخيَّة، فأجسادُ الموتى تظلُّ في قبورِها كما هي إلى أنْ تتلاشى، والذي ينالُه العذابُ والنعيم إنَّما هي الأرواح الماثلة في قوالبَ برزخيَّة لا علم لنا بحقيقتِها وكُنْهها، فإذا كان المرادُ من عذاب القبر والبرزخ هو هذا المعنى فإنَّه أمرٌ غيرُ قابلٍ للوقوف عليه بواسطة الحسِّ ومن طريق الإطلاع على أجساد الموتى بعد دفنِها، والذي يُؤكِّد أنَّ العذاب لا يقعُ على أجساد الموتى الماديَّة هو ما أفادته الكثيرُ من الروايات بأنَّ العذاب في القبر وكذلك النعيم قد يستمرُّ لبعض الكفار والعصاة ولبعض المؤمنين طويلاً أو إلى أنْ تقوم الساعة، ومن المعلوم أنَّ الجسد يتلاشى بعد الموت في مدَّةٍ يسيرة، وهذا أمر يُدركُه الجميع منذُ عصر النصِّ وقبله وبعده، وذلك يدلُّ بوضوح أنَّ مراد النصوص من عذاب القبر والبرزخ ليس عذاباً ماديَّاً يقعُ على الأجساد، وما يظهرُ من بعض الروايات أنَّ العذاب في القبر وعالَم البرزخ ماديٌّ يتعيَّنُ حملُه على إرادة الترميز والإشارة إلى العذاب البرزخيِّ وذلك لتقريب المعنى للأذهان أو يُحمل على أنَّ العذاب وإنْ كان يقعُ في القبر قبل تلاشي الجسد ولكنَّ هذا العذاب يقع بنحوٍ لا يكون قابلاً للرؤية من قِبل أبناء هذه النشأة، فالميِّتُ يتعذَّبُ دون أنْ يشعرَ بعذابه مَن هم حولَه من الأحياء، وذلك لأنَّ طبيعة العذاب الذي يقعُ على الميِّت مناسبٌ للنشأة البرزخيَّة التي لا يسعُ الأحياء من أبناء هذه النشأة الإطَّلاع عليها.

فحين يردُ في الروايات أنَّ الميِّت يُضغطُ في قبرِه أو يُعذَّبُ بلدغ ولسع الحيَّات والعقارب فإنَّه قد يكونُ المراد من ذلك أنَّه يجدُ أَلمَاً يُساوقُ ألمَ الضغط واللسع دون أنْ يكون ثمة ضغطٌ أو لسْعٌ أو يكون المرادُ أنَّه يجدُ ألمَ الضغط أو اللسْع دون أنْ يكون ثمة ضغطٌ ولسعٌ ظاهريٌّ يُشاكِلُ الضغطَ واللسع الذي يقعُ في عالَم الدنيا، فالضغطُ واللسعُ وإنْ كانا حقيقيين ولكنَّهما من طبيعةٍ أخرى مناسبةٍ للحياة البرزخيَّة، ولذلك يتعذَّر على الأحياء من أبناء هذه النشأة الإطَّلاع عليها، وكم هي الوجودات الواقعيَّة التي لا يُمكن الوقوف عليها بواسطة السمع والبصر الحسِّيين؟ فهل يسعُ العاقلُ أنْ يُنكرَ كلًّ ما لا يُبصرُه بعينِه ولا يَسمعُه بأُذنِه؟!.

ويمكن تقريبُ حالة الميِّت المعذَّب بالنائم الذي يُشاهد الأهوال وينتابُه منها الرعبُ والهلَع، فيُشاهدُ وحشاً كاسراً ينهشُ فى لحمه أو يُهشِّمُ عظامَه أو يجثمُ على صدره أو يجدُ ناراً تشتعلُ في جسدِه ويتألمُ لذلك، وقد يجدُ نفسَه يصرخُ أو يركُض أو يسقطُ من شاهقٍ وجسدُه في موضعِه على الفراش لا يتحرَّك، ولا يشعرُ مَن حولَه مِن المستيقِظين بما يُشاهدُه هذا النائم وبما يشعرُ به.

فمثلُ هذه الحالة التي يكونُ عليها النائم يُمكن أنْ تكونَ مؤشِّراً للإستئناس بإمكانيَّة أنْ يقعَ العذابُ على الميِّت ويَشعرُ به ويتألَّم منه دون أنْ يشعُرَ الأحياءُ ممَّن حولَه بما يشعُرُ به وما يُشاهدُه من أهوال وما يتألَّم منه، والفرقُ بين ما يجدُه النائم وبين ما يجدُه الميِّت هو أنَّ النائم إنَّما يجدُ صوراً ذهنيَّة، وأمَّا الميِّت فيُعذبُ بصنوفٍ من العذاب الواقعيِّ إلا أنَّ مَن حولَه لا يسعُهم المعاينة له، وذلك لأنَّ طبيعة العذاب مناسبةٌ لطبيعة النشأة التي انتقل إليها والتي هي مغايرةٌ لطبيعة هذه النشأة.

وخلاصة القول: إنَّ عدم الرؤية لآثار العذاب أو النعيم على أجساد الموتى بعد فتح قبورِهم لا ينفي وقوع ذلك عليهم بعد إمكانيَّة أنْ لا تكون طبيعة العذاب والنعيم مناسبةً لهذه النشأة ، وهذا أمرٌ لا يُحيلُه العقل ، فالتغايرُ بين النشأتين يقتضي التغايُر للقوانين المجعولة لكلٍّ منهما وهو ما يقتضي الحيلولة دون اطَّلاع أبناء هذه النشأة على أحوال مَن انتقل إلى النشأة الأخرى .

 ثم إنَّ هنا أمراً يحسنُ بنا الإشارةُ إليه وقد نُفصِّله في مقالٍ لاحقٍ وهو أنَّ العذابَ والنعيم في القبرِ وعالَم البرزخ ليس حتماً على كلِّ الموتى كما أفادت ذلك الروايات ، فليس كلُّ ميِّتٍ إمَّا أنْ يكون في عذابٍ وإمَّا أنْ يكون في نعيم ، فثمة مَن يقعُ عليه العذاب ، وثمة مَن يحظى بالنعيم ، وثمة من يُتركُ حتى يُبعثَ يوم القيامة كما هو شأنُ المستضعفين من الرجالِ والنساء ، وثمة مَن يقعُ عليه العذاب لمدَّةٍ ثم يُرفعُ عنه فإمَّا أنْ يحظى بعده بنعيمٍ أو يُتركُ إلى يوم البعث .

اللهمِّ إنَّا نعوذ بك من عذاب القبر ونسألك العافية في المحيا والممات.

2020/09/12

الخطر كبير تعامل بحذر مع ما تقرأ

لقد كان للنجاح الكبير الذي حققه العلم الحسي التجريبي أثره الواضح في المفاهيم والفكر السائد مطلع القرن العشرين، حتى صار منهجاً جاذباً لسائر التخصصات الأكاديمية الأخرى تحت عنوان (العلموية)، بل وصل الأمر عند البعض ان عبدوه وأسسوا له الكنائس[1]، فصارت أيدلوجية كسائر الأديان، فليس الدين إلا إعطاء تصور شامل للوجود، وهذا ما قام به العلمويون، يقول الفيلسوف الإيراني حسين نصر: أنّه في العالم الغربي، يقبل الكثيرون أيديولوجية العلم التجريبي الحديث، ليس بصفته علمًا عاديًّا بسيطًا، ولكن بصفته بديلًا عن الدين[2]. ويقول وليم برود: حلّ العلم محل الدين باعتباره المصدر الأساسي للحقيقة والقيم في العالم الحديث[3].

نحن هنا لا ننتقد العلم، وإنما ننقد (العلموية)، وهي بتعبير واضح وصريح لتيموثي فريس: ذلك المذهب الذي يدعي أن العلم التجريبي يزودنا، ليس بأحد الطرق الى الحقيقة، بل بالطريق الأوحد اليها[4]. فليست المشكلة في العلم، وإنما بالمنهج الذي يحصر طريق المعرفة بأنبوبة الاختبار.

هذا واضح لا لبس فيه، ولكن المشكلة ان هذا الأمر يخفى على شبابنا ممن ألفوا القراءة والاستفادة من كل جديد، ولا أبالغ ان ادعيت بتخطي هذا الأمر الى بعض المتخصصين، الأمر الذي ستكون له آثاره الخطيرة على ثقافتهم الناشئة، فكما بينّا في مقالات سابقة ـ أنبوبة الاختبار هي الحكم ـ عدم مناسبة هذا المنهج لدراسة جميع العلوم، وان حصر المنهج العلمي به من الغلو، الذي ستنعكس آثاره بصورة واضحة على باقي التخصصات الأكاديمية، الأمر الذي يحاول بعض المتخصصين في هذه المجالات التنبيه عليه، كالكاتب تيموثي فريس في مجلة نييورك لمراجعة الكتب تعليقاً على كتاب (عن الذباب والفئران والناس) لكاتبه فرانسوا يعقوب والذي بدوره انتقد فيه العلموية ايضاً، فقال فريس: لقد ازدهر مذهب العلموية ازدهاراً سريعاً في القرن التاسع عشر، عندما أُعجب بضعة مفكرين بتلك الانتصارات لعلم الديناميكي النيوتني وبالقانون الثاني للديناميكا الحرارية، الى درجة انهم سمحوا لأنفسهم أن يتصورا ان العلم ربما يكون بعد وقت قريب قادراً على ان يتنبأ بكل شيء. واليوم علينا أن نكون قادرين على الاعتراف بأن مثل هذه الادعاءات لا تعدو ادعاءات إطنابية. إن العلموية اليوم، لا يدعو لها ويدافع عنها إلا أقلية ضئيلة جداً من العلماء[5].

والفيلسوف بول فييرابند، الذي كان مؤيدًا متحمسًا للعلموية في شبابه، وقد وصفَ العلمَ التجريبي لاحقًا بأنّه مؤسسة فوضوية أساسًا. وجادل بشكل قاطع بأنّ العلم التجريبي لا يستحق الاحتكار الحصري لـلتعامل مع المعرفة[6].

وأوستن هيوز حيث قال: العلموية بكل مظاهرها المتنوعة – من علم الكونيات الخيالي إلى نظرية المعرفة التطورية والأخلاقيات- يبدو أنّها من بين الأفكار الأكثر خطورة؛ لأنّها تدعي أنها شيء مختلف تمامًا عما هي عليه حقًا، ولأنها حصلت على التزام واسع النطاق وغير منتقَد. إنّ الإصرار المستمر على الكفاءة العالمية للعلوم التجريبية لن يؤدي إلا إلى تقويض مصداقية العلم ككل. ستكون النتيجة النهائية هي زيادة الشكوك الجذرية التي تشكك في قدرة العلم التجريبي على معالجة حتى الأسئلة المشروعة ضمن مجال اختصاصه. يتوق المرء إلى التنوير الجديد لنقض ادعاءات هذه الخرافة الأخيرة[7].

وهنا أذكر مقالة لعالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، التي قسم فيها المثقفين في كل مجتمع الى فئتين، الأولى: منفتح يعمل على الاستفادة وإدخال كل ما يراه نافعاً الى مجتمعه، والثاني محافظ يتعامل بحذر مع كل ما هو جديد، ويرى الدكتور ان المجتمع يحتاج الى كلا الفئتين، وعدم الاتزان فيهما يضر تقدمه الحضري، فالتضييق على الفريق الأول يفوت على المجتمع تجارب وإمكانيات كبيرة، كما ان فتح الباب على مصراعيه لاستقبال كل شيء، وعدم السماح للفريق الثاني بأخذ دوره يجعل المجتمع عرضة لدخول الضار، فوجود الفئتين والتوازن بينهما أمر ضروري لتقدم كل مجتمع، كما حصل في سوق عكاظ عندما كانت قريش تستفيد من مجيء الشعراء وبلغاء العرب فيأخذوا منهم الجميل ويذروا ما دون ذلك، فصارت لغتهم أفصح لغات العرب.

من هنا يأتي هذا المقال للانتباه عند قراءة الكتب التي بنيت على المنهج العلمي التجريبي، سواء الغربية منها او التي كتبها أبناء جلدتنا ممن تأثر بالمنهج الحسي.

ففيما يخص العلوم الاجتماعية: نقرأ لعالم الاجتماع الامريكي المعاصر والذي يُعد حجة في اختصاصه، روبرت بيللاه في كتابه (عادات القلب: الفردية والالتزام في الحياة الأمريكية)، مبيناً تأثر سائر العلوم بهذا المنهج، وقد قسمها الى أبواب:

ففيما يخص العلوم الاجتماعية كتب: يمكن تلخيص الافتراضات المستترة خلف التيار الرئيسي للعلوم الاجتماعية بما يلي ـ يقصد ان العلوم الاجتماعية بُنيت على هذه المسائل ـ : الفلسفة الوضعية الاختزالية، ومذهب التفكيك والتبسيط، والنسبية، والجبرية (الحتمية)، لا أقول ان العلماء الاجتماعيين الحاليين أمكنهم أن يقدموا دفاعاً فلسفياً جيداً عن تلك الافتراضات، ولا أنهم واعون بشكل تام أنهم ملتزمون بها سلفاً، وإنما أقصد أن أشير فقط بمعنى وصفي الى تلك الافتراضات المسبقة، والأحكام المتحيزة المحددة الكامنة في اذهانهم حول طبيعة الحقيقة. ولا أقصد هنا بالفلسفة الوضعية أكثر من ذلك الافتراض أن مناهج وطرق علم الطبيعة هي المقاربة الوحيدة الممكنة للوصول الى المعرفة الحقيقية، وتلك هي البديهية التي تزعم ان العلوم الاجتماعية لا تختلف عن العلوم الكونية إلا بالنضج وأن كلا العلمين سيصبحان عما قريب علماً واحداً.

ثم يضيف بيللاه: إن العلوم الاجتماعية تجسد أخلاق الحداثة والعصرنة تماماً، فبالنسبة اليها لا يوجد كون كلي، أي لا يوجد شيء كلي يمكن لأفعال الإنسان أن يكون لها معنى بالاستناد اليه، وليس هناك بالطبع الله، ولا أية حقيقة مطلقة نهائية، وبنفس الوقت لا يوجد هناك أيضا طبيعة بالمعنى التقليدي للخلق او لكونها تعبيراً عن حقيقة متعالية سامية. وكذلك لا يمكن لأي علاقة اجتماعية متبادلة ان تكون لها أي قداسة. ولا يمكن أن يكون لأي شكل اجتماعي أن يُصبغ أو يُشرَّب بأي معنى إلهي مقدس او كوني، بل على العكس يمكن تفسر كل علاقة اجتماعية متبادلة بلغة فائدتها الاجتماعية والنفسية. وأخيراً رغم أن علماء الاجتماع يتحدثون كثيراً عن النفس، إلا انه ليس لديهم أي شيء يقولونه عن الروح، بل مفهوم الروح نفسه يتضمن إطاراً إلهياً ومقدساً وكونياً (كوزمولوجيا)، مستبعداً وغائباً تماماً في الفكر الحديث. وإذا أردنا ان نضع هذا التباين بطريقة أخرى، فإن النظرة الدينية التقليدية تجد ان العالم بجوهره ذا مغزى ومعنى، وإن دراما الوجود الشخصي والاجتماعي تم عيشها في إطار المعنى الكوني والروحي المتواصل، أما الرؤية العصرية الحديثة فإنها تجد العالم في جوهرة لا معنى له، ولا يتصف بالمعنى إلا من خلال الفاعلين الفرديين والمجتمعات التي يبنونها لأجل أهدافهم الخاصة.

ويضيف: معظم علماء العلوم الاجتماعية العصريين سيرفضون بأدب أن يناقشوا البيانات التي ذكرت للتو، ولن يبدو أي نية سيئة تجاه الدين، كل ما في الأمر انهم ببساطة غير واعين بدرجة كبيرة، والتي يضعف فيها ما يقولونه وما يكتبونه، كل الفكر التقليدي والإيمان والعقائد الدينية التقليدية.

ويخلص روبرت بيللاه الى: إن الإدانة الأعمق لجامعة اليوم هي أنها تضعف العقائد الدينية، وليس هذا فحسب بل كل عقيدة أياً كانت ما عدا تلك التي ينص عليها العلم[8].

وأما العلوم الإنسانية: فيرى روبرت سكولز أن الأخبار الحزينة هي معاناة أساتذة الآداب ـ وهو منهم ـ من مشكلة السماح لأنفسهم بالاقتناع بانها لا تستطيع ان تدعي الحقيقة، بل عليها ان تواصل الاعتراف بالطريقة نفسها[9].

يقصد سكولز: لتأثر هذه العلوم بالعلم الحسي فإن باحثيها مقتنعين بانها لا توصل الى الحقيقة.

 هذا الأمر انسحب لقيمة هذه العلوم وبالتالي لقيمة علمائها وباحثيها، ويشير مقال في مجلة هارفرد عام 1988 الى ان عدد الشهادات الجامعية الممنوحة في العلوم الإنسانية يتناقص باستمرار منذ عام 1970 على كلا المستويين النسبي والمطلق. وبشكل عام، في المعدل الوسطي، يستلم أساتذة العلوم الإنسانية أدنى الرواتب الجامعية اليوم، بفارق آلاف واحياناً عشرات آلاف، كما ان حملهم التعليمي أي عدد ساعات التدريس أثقل، والوقت الذي يمنح لأجل الأبحاث هو الأقل والأدنى.

بل غدت هذه العلوم مجرد علوم لا تفيد أكثر من الشك، يقول كارل وودرينغ: الآداب مفيدة للسلوك الشكي في الحياة.

وفيما يتعلق بالدراسات الدينية: فكما هو معلوم تعتبر النصوص المقدسة قلب كل دين. ويتقبلها اتباعه على انها وحي سماوي يتجاوز بمضامينه عالمنا المادي وتسمو عليه. أما الدراسات الدينية التي تتبع في منهاجها العلم الحسي التجريبي فلم يكن بإمكانها أن تقبل بهذه الحقيقة، فقد كتب ماركوس بورج حول كتاب العهد الجديد يقول: تعتبر الصفة الأساسية للدراسات الإنجيلية في الزمن الحديث ـ الى حد كبيرـ محاولة لفهم الكتابات المقدسة فهماً نصياً محضاً بمعزل عن موضوع الوحي أو أي عالم آخر. وتسعى الدراسة العلمية الحديثة للكتاب المقدس ـ التي ولدت في عصر التنوير وحولت بشكل جذري كل المناهج التعليمية الأكاديمية ـ تسعى الى فهم مادة البحث طبقاً للصورة الجذرية للحقيقة التي تهيمن على العقل الحديث. ويتم تقديم التفسيرات "العقلانية" اي العقلية ضمن إطار الفهم أُحادي البعد للحقيقة ـ للنصوص التي تتكلم عن الظواهر الخارقة " اي فوق الطبيعية".

أما أهم فروع الدراسات الدينية التي تفرعت على علم الكتاب المقدس فهي التي يمكن القيام بها دون العودة للمستويات الأخرى للحقيقة: مثل دراسة الطرق التي أتبعها كُتاب الكتاب المقدس في تنقيحهم للنصوص المنقولة التي وصلت اليهم، ودراسة شكل ووظائف الأنماط الأدبية والشفهية المختلفة لنصوص الكتاب المقدس، ودراسة التطور البلاغي للتقليد المسيحي المبكر الذي عبر عن نفسه في النصوص... الخ، وكلها يجمع بينها قاسم مشترك واحد هو انها تركز على السمات "الدنيوية المتعلقة بهذا العالم" للنصوص فقط.

اما بالنسبة للتوراة العبرية فقد كان على آرثر جرين أن يقول: أحدث بروز مذهب (ويسن شافت) في علم التاريخ بالمعنى الأوربي الواسع لكلمة العلم انقساماً بين دراسة التوراة كوظيفة دينية، وبين صياغة منهج للبحث العلمي في التوراة وتحويله الى دين بديل بحد ذاته. إننا مجبرون على تضييق أهداف التعليم والبحث عن إيماننا بالله، والطرق التي تتم بها دراسة الدين في الجامعة هي نفس طرق دراسة التاريخ وعلم فقه اللغة في أقسام الدراسات الإنسانية، أو طرق فرع الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وعلم النفس وعلم الاجتماع في أقسام العلوم الاجتماعية. ولقد كانت نتيجة مناهج الدراسة تلك، إنقاص قيمة التوراة كوحي إلهي. إن أي عالم باحث يقدم موضوعاً لمجلة "الأكاديمية الأمريكية للدين"، أو مجلة "أدبيات الكتاب المقدس" مفترضاً ان الكتابات المقدسة تمثل فعلاً وحقيقة كلمة الله سوف يصبح بحثه أضحوكة[10].  

من هنا تأتي أهمية التعامل بحذر مع ما نقرأ، وضرورة التعرف أولاً على منهج الكاتب الفكري، ومقدار تأثره بمنهج الحس والتجربة، المنهج الذي انتقده حتى الملحدين، ورفضوا مخرجاته، منهم الفيلسوف الملحد توماس ناجل الذي انتقد أحد المتحمسين للعلموية وهو عالم الأعصاب سام هاريس، ووصفه بأنه خلط بين المعرفة التجريبية والمعرفة العلمية. وكذلك عمل الناقد الماركسي تيري إيجلتون عندما وصف علموي آخر هو كريستوفر هيتشنز بقوله: لديه “فكرة علمية قديمة عن ما يُعتبر دليلًا”، وهو يختزل المعرفة في ما يمكن وما لا يمكن إثباته عن طريق الإجراء العلمي. وكذلك انتقد الفيلسوف اللاأدري أنتوني كيني أيضًا الفيلسوف الملحد ألكسندر روزنبرغ بقوله: اختزل جميع معارف الكون في علم الفيزياء[11].

حقيقة أولئك يصدق عليهم قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم: 7.

الهوامش:


[1]  كنيسة السيانتولوجيا او الكنيسة العلموية هي طائفة دينية تتخذ من العلم والمكننة أساساً لتعاليمها، وتشتهر كديانة في الولايات المتحدة، انشأها كاتب الخيال العلمي رون هوبارد في العام 1954.

[2] William Chittick, The Essential Seyyed Hossein Nasr, p.30.

[3] ويليام برود ونيكولاس واد، خونة الحقيقة، ص ٢٧١-٢٧٢.

[4] لماذا الدين ضرورة حتمية، د. هوستن سميث، ص64.

[5] نفس المصدر، ص88.

[6] Paul Feyerabend, Against Method.

[7] Austin L. Hughes, The Folly of Scientism, The New Atlantis, p.15.

[8] لماذا الدين ضرورة حتمية، 116 ـ 120.

[9] نفس المصدر.

[10] نفس المصدر.

[11] Mario Bunge, In Defense of Scientism.

2020/08/06

الدين… أقوى من القانون والعلم!

تنويه: يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

الوازع الديني أقوى أثرا في النفوس من القانون والعلم

للدين أبعاد مختلفة تستوعب جوانب الانسان والحياة. وقد يهتم بعض المتدينين بناحية معينة من الدين ويعتبرونها الجانب الاهم فيه، وانها تشكل عمقه وجوهره. فمثلاً يركز بعض على الجانب العقيدي، ويولون قضاياه ومسائله الاهمية القصوى، باعتبار ان العقيدة هي الاصل والاساس. بينما يوجه آخرون عنايتهم نحو شعائر الدين وعباداته، كالصلاة والصيام والحج والزكاة، لما ورد فيها من النصوص آيات وأحاديث.

ويؤكد بعض ثالث على تطيبيق انظمة الاسلام وقوانينه في ادارة المجتمع، لأن اسلمة الحياة العامة تجسد حاكمية الدين ونفوذه.

وكل تلك الابعاد مهمة وأساسية. غير ان هناك بعداً آخر يحق لنا ان نعتبره عمق ا لدين، وجوهر التدين، وهو الحال التي يستهدف الدين خلقها وايجادها في نفس الانسان، وهو الوازع الديني، او ملكة التقوى، بحسب منطق القرآن والنصوص الدينية.

وما العقيدة الا ارضية لانتاج هذه الحال. فإذا لم تحصل اصبحت العقيدة مجرد معلومات مختزنة في ذهن الانسان، غير فاعلة ولا مؤثرة في حياته. وتلك هي مشكلة بعض الكافرين، الذين لا تنقصهم العقيدة كمعلومات وحقائق، لكنهم لايذعنون لها في حياتهم لغياب هذا الوازع من نفوسهم.

وهؤلاء يقول القرآن الكريم فيهم: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ 1 ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ 2. فإن تعلم وتعترف بالله تعالى لا يكفي، وإنما المطلوب ان يثمر ذلك حال التقوى في نفسك.

وعبادات الاسلام ليست مقصودة بذاتها ولذاتها وإنما هي، حسبما يبدو من نصوص الدين، برامج ووسائل لتمكين حال التقوى في نفس الانسان. فيقول الله تعالى في الصلاة: ﴿ ... إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... ﴾ 3، فهي تهدف الى خلق هذا الوازع الذي يردع عن الانحراف، وإذا لم يتحقق هذا الهدف فلا قيمة لتلك الصلاة، كم روي عن الرسول: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا».

والصوم حكمة تشريعية الوصول الى درجة التقوى. يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ 4.

والحج ما المقصود بمناسكه وشعائره؟ وهل لله تعالى غرض فيها؟ إنه عز وجل في الحديث عن الاضحية في الحج يشير الى ان ما يريده منها هو زرع ملكة التقوى عند الانسان، يقول تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ... ﴾ 5. وحتى الانظمة والقوانين العامة غرضها تعزيز هذا الوازع الديني في النفوس، كما يقول تعالى حول تشريع نظام القصاص والعقوبات: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ 6. إذاً فالتقوى هي الجوهر والغاية والحصيلة من كل جوانب الدين: عقيدة وعبادة ونظاماً. ورائع جداً ما قاله أمير المؤمنين علي: «التقوى منتهى رضى الله عباده وحاجته من خلقه».

وفي نفس الانسان مجموعة كبيرة من الدوافع المتعددة والمتناقضة.

فكما يقول الفيلسوف البريطاني، برتراند راسل، «الانسان اكثر تعقيداً في نزعاته ورغباته من أي حيوان آخر، وتنشأ الصعوبات التي يواجهها من هذا التعقيد، فهو ليس اجتماعياً تماماً مثل النمل والنحل، ولا هو انفرادي تماماً مثل الاسود والنمور، انه حيوان شبه اجتماعي، وبعض رغباته ونزعاته اجتماعي، وبعضها انفرادي فهو مخلوق مادي روحي خلقه الله تعالى من قبضة من تراب ونفخة من روح، وللتراب انشداداته وميوله، كما للروح طموحاتها وتطلعاتها، ما يجعله ميدان تجاذب بين الاتجاهين».

ومع هذه التجاذبات والانشدادات المتضادة، يحتاج الانسان الى قوة تمكنه من التحكم السليم في رغباته وميوله، وتوجهها لصالح نفسه ومجتمعه. ولا قوة تتمكن من القيام بهذا الدور افضل من قوة الدين. وما نصطلح على تسميته بالوازع الديني هو قوة تدفع الانسان للخير وتمنعه عن الانحراف والشر.

وقوة القانون ليست قادرة على ذلك، لان القانون طوع واضعه، ويمكن التحايل والالتفاف عليه، ولأنه يتعامل مع ظاهر الانسان وخارجه، ولا ينفذ الى عمقه وباطنه. ويستطيع الانسان ان يفلت من عقوبة مخالفته للقانون. القانون قد يعاقب المسيىء لكنه لا يكافئ المحسن. وقال تعالى: ﴿ ... وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ... ﴾ 7، وكان رسول الله اذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديداً.

وقد يرى بعضهم ان تقدم وعي الانسان، وتطوره العلمي، كفيلان بضبط سلوكه وتصرفاته. لكن شاهد الواقع شيء آخر. فعلى المستوى العام تطورت وسائل العنف وأساليب التخريب والفساد، وانتشرت الاسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل، ووظف العلم لدى الدول الكبرى لمزيد من السيطرة والهيمنة على الشعوب.

وعلى المستوى الفردي يمكننا التحدث على مشكلة التدخين.

فأضراره ومساوئه واضحة وثابتة علمياً، ألزمت شركات التدخين أن تكتب على كل علبة منه تحذيراً.

لكن العلم والوعي لم يؤثرا في انتشار التدخين وتسويقه.

ويشير تقرير عن وزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر إلى أن أنفاق الفرد على التدخين في القاهرة يفوق أنفاقه على التعليم والترفيه والثقافة والرياضة وشركة واحدة تعمل في صناعة السجائر هي « فيليب موريس» تحقق موارد تبلغ «30» بليون دولار سنوياً وفي المملكة العربية السعودية تحدث تقرير لوكالة الأنباء السعودية عن تضاعف استهلاك سكان السعودية من التبغ ومصنوعاته لاكثر من ضعف في العالم 1995م عن العام السابق وبلغ الاستيراد 22 ألف طن، بقيمة 844 مليون ريال.

وكان بلغ في السنة السابقة 9 آلاف طن وتحتل المملكة المركز الرابع بين أول 15 دولة مستوردة للسجائر ويقدر إجمالي ما تستورده بنحو 47 مليون سيجاره يومياً. وتبلغ الوفيات بين المدخنين ثلاثة أضعافها بين غير المدخنين، وفي كل الأعمار ابتداء من وقت البلوغ والشباب وتقدر المنظمة العالمية عدد المدخنين في العالم ببليون ومئة مليون إنسان، وإذا استمرت اتجاهات الاستهلاك الحالية على نفس المنوال فإن أكثر من 500 مليون شخص ممن هم اليوم على قيد الحياة سيقتلهم التبغ فيموت نصف هؤلاء وهم في سن الكهولة ويخسر واحدهم في المتوسط ما بين 20 و 25 عاما من عمره المتوقع. أما العدد الإجمالي للذين تتوقع وفاتهم بسبب التبغ فيبلغ عشرة أضعاف مجموع من لاقوا حتفهم بسبب الحرب العالمية الثانية أما التدين الصادق فأنه يوجد في نفس الإنسان وازعاً دينياً يجعله مندفعاً للخير ممتنعاً من الشر متجاوزاً ضغط الرغبات والأهواء والشهوات.

فكان الإسراف في شرب الخمر عادة سائدة في الجاهلية ويعتبرونها من المفاخر التي يتسابقون عليها في مجالسهم ولكن لما نزلت آيات تحريم الخمر سنة ثلاث للهجرة، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة ﴿ألا أيها القوم إن الخمر قد حرمت﴾ فمن كان في بده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها وشقت زقاق الخمر، وكسرت قنانيه… وانتهى الامر كان لم يكن سكر ولا خمر.

هكذا يكون الوازع الديني حاكماً على تصرفات الإنسان على رغم سلطان العادة وقوة الرغبة وكمثال نشير إلى قصة تحريم التبغ والتنباك في إيران سنة 1312هـ ففي تلك السنة أعطى شاة إيران ناصر الدين القاجاري امتياز شراء التبغ وتصنيعه لشركة إنكليزية على حساب استقلال البلاد ومصلحة اقتصادها فأصدر المرجع الديني انداك، والميرزا محمد حسن الشيرازي فتوى بتحريم التبغ والتنباك بيعاً وشراء واستعمالاً فالتزم الشعب الإيرانيين يزيد على العشرين مليوناً، وكسرت كل نارجيلة وكل آلة تستعمل للتدخين فلما طلب الشاة أن يؤتي له بنارجيلة، على العادة أخبروه أنه لم يبق في لاقصر نارجيلة واحدة، لأن المرجع الديني قد حرم ذلك ما أضطره إلى فسخ امتياز الشركة الإنكليزية.

والمورد الأخر : أن يكون الإنسان في موقع قوة تجاه آخرين فأن ذلك قد يسوغ له استخدام قوته بغير حق معهم وهنا يحتاج إلى التقوى والوازع الديني ليتعامل مع الخاضعين لسلطته باحترام وأنصاف فالرجل في عائلته والرئيس مع مرءوسته والحاكم مع رعيته كلهم معرضون لهذا المنزلق ما لم يكن الوازع الديني حاضراً في نفوسهم وقد أوصى الأمام علي مالك الأشتر حينما ولاه مصر قائلاً : وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً.

وفي عهد عمر بن عبد العزيز كتب إليه وإليه على البصرة: «إن أناسً من العمال قد اقتطعوا من مال الله، ولست أرجوا استخراجه منه ألا أمسهم بشيء من العذاب، فأن رأي أمير المؤمنين في أن يأذن لي بشيء من ذلك فعلت...» فكتب إليه العجب كل العجب من استئذانك اياي في عذاب بشر كأني لك جنة من عذاب الله، وكان رضاي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل فانظر من قامت عليه البينة، أو أقر فخده بما أقر وأيم الله لأن يلقوا الله عز وجل بخيانتهم.

احب إلى من أن ألقى الله بدمائهم وكتب إليه وال آخر: «إني قدمت الموصل فوجدتها من أكثر البلاد سرقاً ونهباً، فأن أدنت لي أخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة، فعلت ولن يصلحهم غير ذلك».

فكتب إليه «خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فأن لم يصلحهم الحق لا اصلحهم الله».

فهذا هو عمق التدين، وجوهر الدين وحقيقته وأما إذا فقد الوازع الديني أو ضعف، فأن مجرد الإيمان بالمعتقدات أو أداء العبادات كمظهر لا يعنى تديناً حقيقياً ولا يجدي أمام الله سبحانه وتعالى، فأنه ﴿ ... إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ 8.

و«إنما» تفيد الحصر في اللغة العربية. 9


الهوامش:

1. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 31، الصفحة: 212.

2. القران الكريم: سورة المؤمنون (23)، الآية: 86 و 87، الصفحة: 347.

3. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 45، الصفحة: 401.

4. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 183، الصفحة: 28.

5. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 37، الصفحة: 336.

6. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 179، الصفحة: 27.

7. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 61، الصفحة: 215.

8. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 27، الصفحة: 112.

9. نشرت هذه المقالة في جريدة الحياة 8 / 12 / 1999م.

2020/08/05

أنبوبة الاختبار هي الحكم: هل فشل المنهج التجريبي في معرفة «الإله»؟

يحكى ان رجلاً رأى أحدَ العمّال يبحث عن المعادن تحت الرمال عن طريق جهاز الكشف عن المعادن. فتعجّب من دقة الجهاز وقدرته على التنبؤ بما هو مدفون تحت الأرض من المعادن.

فأخذ نفس هذه الآلة وبدأ يبحث عن أشياء بلاستيكية وخشبية مدفونة تحت الأرض باستخدام نفس هذه الآلة. فلمّا لم يجد قال:

"لا يوجد في هذا الشاطئ خشب ولا بلاستيك لأنني استعملت هذه الآلة التي أثبتت كفاءتها في البحث عن المفقودات فلم أجد شيئاً".

يبدو أن هذا الرجل قد ارتكب خطأ كبيراً في استعمال الآلة تلك في غير موضوعها.

تخيل أنه زاد على ذلك من شدة إعجابه بهذه الآلة فقال: لا يوجد في الوجود خشب أو بلاستيك، لأنني كلما استعملت هذه الآلة لم أجد شيئا. وأنا لا أصدق غيرها!!

فخطأ هذا الإنسان ليس في تصديقه لهذه الأجهزة بعد أن أثبتت كفاءتها في الكشف عن المعادن، وإنما خطؤه في أنه قصر المصدر الوحيد للمعرفة على هذه الأجهزة. فهي –بالرغم من كفاءتها في مجالها- لا تكشف عن كل شيء في العالم.

بعض الناس صار يرتكب خطأ مشابها في معرض حماسته للعلم التجريبي، ويقول إنه لن يصدق إلا ما رآه بعينيه، وأن العلم التجريبي هو مقصده الأوحد للكشف عن أي حقيقة. وهذا القائل يظلم العلم التجريبي، ويسيء فهم دوره من حيث يظن أنه يتبعه وينصره.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على ان الطريق الوحيد المأمون الذي يمكن من خلاله اثبات الأشياء ونفيها في الخارج هو المنهج العلمي التجريبي، الذي يسلكه العلماء التجريبيون في بحوثهم ودراساتهم، وفي بيان هذا المعنى يقول بتراند راسل: ان الذي يعجز العلم عن اكتشافه لا يستطيع البشر معرفته[1]. ويقول جي، ي، مورلاند ـ أحد المعاصرين الغلاة في العلم ـ: العلم وحده عقلاني، العلم وحده يحقق الحق وأن كل شيء آخر مجرد عقيدة ورأي... إذا كان هناك شيء لا يمكن قيامه واختباره بالطريقة العلمية فلا يمكن ان يكون صحيحاً او عقلانياً[2].

وبما ان الوجود الإلهي لا يمكن اثباته بالطريق العلمي التجريبي، فإنه لا يصح الإيمان بوجوده ولا التسليم بخلقه للكون، يقول بوجين سكون ـ عالم في المركز القومي للتعليم العلمي ـ لا يمكن ان نضع إلهاً كلياً في أنبوب اختبار[3].

وكتب قبله ستيوارت مل مقالاً بعنوان: (الايمان بالله والدين المنزل)، قال فيه: ان الله لا مكان له في العالم الحديث؛ نظراً لعدم قدرة الإنسان على اخضاع فكرة الإلوهية للتجرية[4].

لكن بمراجعة لطبيعة المنهج العلمي التجريبي نجد انه لا يثبت ولا ينفي ما لا يمكن اخضاعه للاختبار والتجربة، لكون هذه الأمور خارجة عن نطاقه الذي يمكن ان يعمل فيه، وأصول القضايا الدينية ليست مما يمكن اخضاعها للاختبار والتجربة، إذن فالمنهجية العلمية الصحيحة تقتضي ان لا يحكم عليها من خلال المنهج التجريبي بإثبات ولا نفي، لكونها خارجة عن نطاقه.

يقول ستيفن جاي جولد: العلم لا يمكنه بأساليبه المشروعة أن يتخذ قرارات فاصلة في قضية وجود الله فنحن لا نؤكدها ولا ننكرها، وبصفتنا علماء لا يمكننا التعليق عليها أصلاً[5].

وتؤكد الأكاديمية الامريكية للعلوم المعنى ذاته فتقول: العلم هو وسيلة للمعرفة عن العالم الطبيعي، ويقتصر على تفسير العالم الطبيعي من خلال الأسباب الطبيعية، لذلك لا يمكن للعلم ان يقول أي شيء عما هو فوق طبيعي، فمسألة وجود الله او عدم وجوده هي أمر يقف العلم تجاهها على الحياد[6]. هذا أولاً.

وثانياً، ان طرق اثبات الوجود الخارجي للأشياء لا تقتصر على طريق الأدراك الحسي، واخضاعه للاختبار والتجربة، وإنما يمكن إثباته عن طريق آثاره وأفعاله، فكثير من الحقائق التي يؤمن بها العلماء التجريبيون ويصدقون بها، ويبنون عليها اكتشافاتهم، لم يتم إثباتها عن طريق الحس والتجربة، يقول واين أولت ـ وهو من المختصين بالكيمياء الحيوية ـ مبيناً تناقض الذين ينكرون وجود الله بناء على ان وجوده لا يخضع للمنهج العلمي التجريبي: يسلم العلماء بصحة بعض الفروض المقبولة ، والتي ليس هناك سبيل لأدراكها إدراكاً حسياً، فليس هناك من يستطيع أن يدعي أنه رأى البروتون او الإلكترون، ولكن الناس يلمسون آثارهما، وكذلك الحال فيما يتصل بتركيب الذرة وخواصها، وكذلك الحال فيما يتعلق بتركيب الأجرام السماوية البعيدة، وما يفصلها من مسافات شاسعة، مما لا نستطيع أن نخضعه لتجاربنا، أو نقيم الأدلة المباشرة على صحة نظرياتنا وفروضنا حوله.

فمن الواضح ان كثيراً من المعلومات التي يحتاجها الإنسان في حياته ويسلم بصحتها، لابد أن يتقبلها ويؤمن بها إيماناً يقوم على التسليم بصحتها، وليس معنى ذلك أنه إيمان أعمى، فهو إيمان يسمح بأن يوضع على محك الاختبار في شتى مواضيعه، فيزداد بذلك قوة وتدعيماً ويستطيع الإنسان أن يمارس مثل هذا الإيمان فيما يتصل بفكرة وجود الله[7].

ويؤكد أستاذ الفيزياء التطبيقية جورج هربرت لونت وجود التناقض نفسه عند الغلاة في العلم المنكرين لوجود الله، فيقول في كلام مفصل: فمن المعروف في علم الهندسة اننا نستطيع ان نبني كثيراً من النظريات على عدد قليل من البديهيات، (يقصد بالبديهيات الأمور التي لا يمكن اختبارها وإقامة التجربة عليها) او تلك الفروض التي نسلم بها دون مناقشة أو جدال حول صحتها، فالعلماء يسلمون أولاً بالبديهيات، ثم يتبعون مقتضياتها او النتائج التي تترتب عليها، وعند اثبات أي نظرية نجد ان برهانها يعتمد في النهاية على مسلمات أو أمور بديهية، ومع ذلك فإن النظريات مجتمعة لا تستطيع أن تقدم دليلاً على صحة بديهية من هذه البديهيات، ولكننا نستطيع أن نختبر صحة هذه البديهيات بمعرفة ما يترتب على استخدامها من اتفاق او تضارب مع التطبيقات العملية والحقائق المشاهدة.

ولا تعتبر صحة النظريات التي تقوم على الأخذ بهذه البديهيات، ولا مجرد عدم مشاهدة آثار للتناقض بين هذه النظريات وبين الواقع والمشاهد، دليلاً او برهاناً كافياً، فالواقع أننا نقبل البديهيات قبول تسليم وإيمان، وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أنه تسليم وإيمان أعمى لا يقوم على البصيرة.

وكذلك الحال فيما يتعلق بوجود الله، فوجوده تعالى امر بديهي من الوجهة الفلسفية، والاستدلال بالأشياء على وجود الله ـ كما في الإثبات الهندسي ـ لا يرمي الى إثبات البديهيات، ولكنه يبدأ بها، فإذا كان هناك اتفاق بين هذه البديهية وبين ما نشاهده من حقائق هذا الكون ونظامه، فإنه يعد دليلاً على صحة البديهية التي اخترناها، وعلى هذا فإن الاستدلال على وجود الله يقوم على أساس المطابقة بين ما نتوقعه إذا كان هناك إله وبين الواقع الذي نشاهده.

والاستدلال بهذا المعنى ليس معناه ضعف الإيمان، ولكنه طريقة مقبولة البديهيات قبولاً يتسم باستخدام الفكر، ويقوم على أساس الاقتناع بدلاً من ان يكون تسليماً أعمى[8].

وأيضاً يقول فيرنر هايزنبرك الحائز على جائزة نوبل بأن: قوانين الطبيعة عندما صيغت رياضياً في النظرية الكمومية لا تتعامل بهذه الحالة مع الجسيمات الأولية ولكنها تتعامل مع معرفتنا بها[9].

فكثير من القوانين الطبيعية المسلمة اليوم لم تخضع للتجربة، وإنما آمنا بها لمعرفتنا بآثارها.

وثالثاً: ولعله تأكيد لما تقدم، ان الذي يطالع أكثر الآراء العلمية اليوم يجدها (تفسير للملاحظات)، أي ان العالم عندما يلاحظ شيئاً يعطيه تفسيراً معيناً، وتفسيره هذا غير ملاحظته، فقد يرى الإنسان سلوكاً معيناً للجزيئات تحت الذرية كالإلكترونات والبروتونات، فيفسره تفسيراً معيناً فهذا التفسير ليس هو ما لاحظه، وأدخله أنبوب التجارب، وانما هو استنباط واستنتاج وقياس بعض السلوكيات على البعض الآخر، وهذه التفسيرات لا تسمى تجربة، وكلما زادت الشواهد التي تؤيد تفسيره، قوي التفسير الى ان يصل الى حد النظرية المسلمة، فمثلاً  إيه ميكلسون وإي مورلي حاولا تفسير انتقال الموجات الكهرومغناطيسية، ففسراها كحال أكثر علماء تلك الفترة عن طريق وجود الأثير وأنه المسؤول على حمل الموجات الكهرومغناطيسية، ولكن عند فشلهما في إثبات وجود الأثير تخلا عن هذا التفسير الى ان وضع أينشتاين تفسيراً للظاهرة، لكن العلماء لاحظوا قصور المعادلات المبنية على هذه النظرية من قياس المسافات الضئيلة، الى ان وصلت النوبة الى مجموعة من العلماء الشباب أمثال هيزنبيرج وديراك وبوهر وباولي وغيرهم من أفذاذ التاريخ البشري، وأسسوا نظرية تتعلق بفيزياء الكم قادرة على قياس المسافات الضئيلة الذرية وما دونها. فعندما وجد العلماء أن هذه المعادلات الكلاسيكية لا تستطيع تفسير فيزياء المسافات الضئيلة تم اقتراح تفسيراً آخر قائم على مبادئ فيزياء الكم. وهكذا ، فالعلم قائم على الافتراض والتفسير اي تفسير الظواهر وما تقوم عليه الملاحظة والتجربة، وهذا التفسير قد يصيب وقد يخطأ، ويتم التحقق منه بحسب قدرته على تفسير كل مصاديق وأفراد الظاهرة، وعند عجزه عن التفسير يُعلم ان ثمة خطب ما في هذا التفسير ولابد من البحث عن تفسير آخر، يقول الكسيس كارليل: إن الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات والفروض[10].

فالعلم ليس هو الا قياس بعض الأمور على بعض وافتراضات يمكن التحقق من صحتها من خلال ما تقدم.

ويقول البروفيسور أ. ي. ماندير: إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى الحقائق المحسوسة، بيد ان الحقائق التي توصلنا الى معرفتها لا تنحصر بالحقائق المحسوسة ، فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكنا عثرنا عليه على كل حال، ووسيلتنا في هذا السبيل هي الاستنباط، فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه بالحقائق المستنبطة، والأهم ان نفهم انه لا فرق بين الحقيقتين، وإنما الفرق هو في التسمية، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة، والحقيقة دائماً هي الحقيقة، سواء عرفناها بالمباشرة او بالاستنباط[11].

ويضيف ماندير قائلاً: إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل، فكيف يمكن أن نعرف شيئاً عن الكثير الآخر؟ .. هناك وسيلة وهي الاستباط او التعليل. وكلاهما طريق فكري، نبتدأ به بواسطة حقائق معلومة، حتى ننتهي بنظرية: إن الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقاً[12].

فطريقة العلم الحديث أنه يقدم رأياً عن شيء بعد مشاهدة مظاهره، وعندما يجتمع لدى العالم قدراً مناسباً من الحقائق الملحوظة فإنه يحس بضرورة وضع نظرية او فرض علمي، وبعبارة أدق: ضرورة فكرة اعتقادية ووجدانية، تقوم بتفسير الملاحظات، وربط بعضها ببعض، فإذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيراً كاملاً عدت حقيقة علمية، رغم أنها لم تلاحظ قط كما لوحظت الحقائق الأخرى التي نعرفها بالمشاهدة، او بالملاحظة العلمية.

ومعنى ذلك ان العالم يؤمن بوجود شيء غريب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره، فكل حقيقة نؤمن بها تكون دائماً (فرضاً) في أول أمرها، الى ان نكشف حقائق جديدة تدعم صدقها، فنزداد يقيناً بها، حتى نبلغ حق اليقين. وإذا لم تؤيدها الملاحظات اللاحقة تخلينا عنها.

فالحقائق العلمية ليست بحقائق شوهدت فعلاً، وإنما هي تفسيرات لبعض المشاهدات، لأن المشاهدات الإنسانية لا يمكن ان توصف بانها كاملة، يقول البروفيسور سوليفان بعد نقده للنظريات العلمية: هذا العرض للنظريات العلمية يثبت ان معنى نظرية علمية صحيحة أنها فروض عملية ناجحة ومن الممكن ان تكون سائر النظريات العلمية باطلاً، ذلك ان النظريات التي نعتبرها اليوم حقيقة ليست إلا ـ قياساً على وسائلنا المحدودة للملاحظة ـ ولا تزال قضية الحقيقة في عالم العلم قضية علمية ونفعية[13].

وهذا ما قام به المتدينون، فلاحظوا ظواهر عدة واستنبطوا منها وجود الإله، أفلا يكون هذا وفق المنهج العلمي!!

رابعاً: قصور العلم التجريبي وعدم قدرته على توفير الأجوبة لكثير من الأسئلة، فالاقتصار على انبوبة الاختبار يجعل مثل قضايا الفن والجمال والقيم والأخلاق والشعر والفلسفة ليست علمية، وحينئذ يكون الاقتصار على العلم التجريبي التزاماً بالجهل، وعدم إمكان تحديد موقف في مثل هذه القضايا. ولنقرب المسألة بمثال: هب ان أمك صنعت لك كعكة، فأخذناها ليتم تحليلها من قبل مجموعة من العلماء، فإذا سألتهم عن تفسير للكعكة؟ فعلماء التغذية سيخبروننا عن عدد السعرات الحرارية في الكعكة وأثرها التغذوي، أما علماء الكيمياء الحيوية فسيحيطوننا علما عن البروتينات والدسم الى أخره، والكيميائيون سيحدثوننا عن العناصر التي دخلت في الكعكة، والفيزيائيون يحللونها وفق الجسيمات الأولية، وسيكون دور أهل الرياضيات عرض مجموعة من المعادلات الأنيقة التي تصف سلوك هذه الجزيئات. وبعد أن قدم لنا كل هؤلاء العلماء وصفاً علمياً للكعكة، هل يمكن ان نقول ان الكعكة قد تم تفسيرها تفسيراً كاملاً، فلنفترض إنك سألت هؤلاء العلماء: لماذا صنعت أمي الكعكة؟ هل يستطيعون إجابتك؟ بالقطع لا؛ لأن العلم يختص بجواب أسئلة كيف، ولا يجيب عن أسئلة من قبيل لماذا. من هنا يتضح قصور العلم الحسي التجريبي عن تفسير كافة الظواهر، والحاجة الى علوم أخرى قادرة على ذلك، ومكملة له. يشير الى هذا حامل جائزة نوبل سير بيتر ميداوار في كتابه (نصيحة الى العالم الشاب): لا يوجد أسرع في التسبب بالعار للعالم لنفسه او لمهمته من ان يعلن بطريقة شاملة وخصوصاً عندما لا يوجد أي داع لمثل هذا الإعلان، بأن العلم يعرف او سيعرف قريباً أجوبة كل الأسئلة التي تستحق أن تسأل وأن الأسئلة التي تتطلب جواباً علمياً هي بطريقة ما ليست أسئلة او أسئلة كاذبة يسألها الأغبياء فقط ويدعي السذج أنهم قادرون على إجابتها.

ويتابع قائلاً: إن وجود حدود للعلم شيء واضح من عجزه عن الإجابة على أسئلة من مستوى أسئلة تلاميذ المدرسة الابتدائية، بما يتعلق بأول وآخر الأشياء، أسئلة من نوع: (كيف بدأ كل شيء؟) او (لماذا نحن هنا؟)، (والغاية من الحياة؟).. ويضيف: باننا يجب ان نلجأ الى الأدب التخيلي والى الدين للحصول على الأجوبة لهذه الأسئلة[14].

ويؤكد فرانسيس كولنز: مدير معهد الجينوم على هذا: العلم لا حيلة له في الإجابة عن أسئلة من نوع "لماذا جاء الكون الى الوجود؟"

، ما معنى الوجود الإنساني؟" " مالذي سيحدث بعد أن نموت؟"[15].

يكتب أوستن فاور: كل علم يختار منحى من مناحي الأشياء في العالم ويظهر لنا كيف تعمل، وكل شيء يقع خارج المجال يقع خارج مجال هذا العلم، ونظراً لأن الإله ليس جزءً من هذا العالم، وبالأحرى ليس أحد مظاهره، لا يمكن أي شيء يقال عن الخالق ـ مهما كان حقاً ـ ان يصير عبارة تنتمي الى أي نوع من أنواع العلوم[16].

فالقول بأنه لابد ان يخضع الوجود الإلهي للبحث الحسي التجريبي قول عبثي قائم على تحكمات واشتراطات لا مسوغ لها ولا دليل عليها، وفي الختام أرى ان قصة كذاب بلدة كريت تنطبق تماماً على دعوى هؤلاء، وملخصها إن رجلاً دخل بلدة كريت اليونانية، وصادف أحد فلاسفتها، فقال له الفيلسوف: مالذي جاء بك؟ أجابه الرجل: جئت لأتعلم من فلاسفة هذه البلدة. فقال له الفيلسوف: إن كل فلاسفة كريت كذابون.

وهنا تحير الرجل: فإن كان كلام هذا الفيلسوف صادقاً، فلابد ان يكون قد كذب عليَّ لأنه منهم، فقد قرر الفيلسوف ان كل الفلاسفة كاذبون وبما انه منهم فيكون كاذباً.

وهنا نقول ان كان كلام المتحمسين للعلم التجريبي (بأن طريق المعرفة منحصر بالعلم التجريبي، وكل ما عداه باطل)، صادقاً بطل هذه الدعوة نفسها لأنها تفسير واستنتاج لم يخضع لآليات العلم التجريبي، فهل قامت التجربة على صحة هذه المقولة؟ وهل يمكن اختبار هذه الدعوى في المختبر، وهل هي من قبيل المادة ليتم اختبارها ومعرفتها من خلال العلم التجريبي؟

فهي مما يبطل نفسه بنفسه، فيصدق عليها قوله تعالى: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً).النحل: 92.

الهوامش:


[1] العلم والدين 243.

[2] القضية الخالق، لي سترويل 94.

[3] القضية الخالق، 24.

[4] الإلحاد في الغرب، رمسيس عوض، 206.

[5] العلم ووجود الله، هل قتل العلم الايمان بوجود الله؟ جون لينكس، 160.

[6] من خلق الله، إدكار اندورز، 70. هذا اولاً.

[7] الله يتجلى في عصر العلم، تحرير جون كلوفرمونسيما، 136.

[8] الله يتجلى في عصر العلم، 185.

[9] اقوى براهين جون لينكس، 50.

[10] الإسلام يتحدى، ص40.

[11] A.E. mander. Clearer thinking. 46.

[12] المرجع السابق، 49.

[13] J.w.n.Sullvan. Limitaions of Science, p. 158.

[14] Hannah Devlin. Hawking: God Did Not Greate The Universe. 12 Sep 2010.

[15] أقوى براهين جون لينكس، ص70.

[16] Fan 1997. P. 26ـ/ Is science a religion?. The Humanist. Jan 

2020/08/02

قبل أن تناقِشوا في الدين

تنويه: يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

إذا أردتم أن تتحدثوا عن الدين والعقيدة وتناقشوا في ذلك وتحكموا على أفكار الآخرين بالوسطية أو التطرّف فأرجو منكم - قبل الحديث والنقاش والحكم - أن تعملوا على أربعة أمور :

الأمر الأول : حاولوا أن تُبعدوا العواطف والشعارات قليلاً.

الأمر الثاني : عليكم أن تقرأوا القرآن الكريم كل القرآن بتمعّن، فإنّه يعطيكم كلّيات العقيدة وعمومات الدين.

الأمر الثالث : اقرأوا حديث أهل البيت (ع) كأصول الكافي، لتطّلعوا على حديث أئمتكم (ع)، شريطة أن ترجعوا للعلماء أو الفضلاء فيما يشكل عليكم من معاني بعض الروايات، وإياكم وتكذيبها قبل مراجعة أهل الاختصاص.

الأمر الرابع : أن تقرأوا بعض الكتب العقائدية لعلمائنا المعروفين، وأنصحكم بقراءة المراجعات للسيد شرف الدين (قدس) وأصول العقيدة للسيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) وإصدارات السيد محمد باقر السيستاني (دامت بركاته).

أما إذا لم تعملوا على هذه الأمور الأربعة بتمامها فلا يحق لكم أن ترموا فكرة هذا بالتطرف والدعشنة، أو فكرة ذاك بالاعتدال، فإنّ هذه الأحكام ستكون نتيجة العواطف والميل النفسي المبنيَّين على عدم المعرفة، وقد تظلمون أشخاصاً لا يحق لكم ظلمهم - فينطبقُ عليكم ما رميتم به الآخرين من وصف الدعشنة - وقد تروِّجون لأفكارٍ خاطئة لا يصح الترويج لها وإن وافقت ميولكم النفسية.

العلم الديني والثقافة العقائدية حالها حال بقية العلوم والفنون، لا تنزل على الإنسان بالوحي بل تحتاج إلى مطالعة ودراسة وسؤال ذوي الاختصاص.

أما أنك تريد الراحة والنقاش بكل شيء فهذا غير صحيح عقلائياً وشرعاً، فإنّ الجدال من دون علم يقال له "المراء" وهو من كبائر الذنوب، وأخبر النبي (ص) أنّ المراء دون الشرك بدرجة.

2020/07/26

أشد من الفقر الاقتصادي: مجاعة ثقافية.. كيف نواجهها؟!

تنويه: يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي أو سياسة «موقع الأئمة الاثني عشر»

على الرغم من توفّر وسائل المعرفة بشتى انواعها وسهولة تناول المعارف الدينية نجد وللأسف الشديد تدنيّاً فاحشاً في المستوى المعرفي والثقافي الديني عند كثير من أبناء الطائفة الشيعة، بل ربما تجد مَنْ هو في موقع المسؤولية والوجاهة الاجتماعية لا يفقه أبجديات الدين والمذهب.

وهذه الحقيقة ليست من نسج مخيلتي بل هي نتيجة واقعية أدركناها وعايشناها وأقرّ بها كثيرٌ مِنْ أهل الاختصاص في هذا المجال .

وهذا الواقع الأليم قد يختلف شدةً وضعفاً بين منطقة وأخرى وبلدة وثانية إلا أن هذا التقييم هو للجو الديني الشيعي العام في هذه البلاد، أقصد لبنان.

ومختصر الكلام في ذلك: أن وضعنا الثقافي المعرفي أشد من وضعنا الاقتصادي، فإن كنّا نعاني فقراً على المستوى المادي الاقتصادي فإنّنا في الوقت ذاته نعاني قحطاً ومجاعة على المستوى المعرفي والثقافي الديني.

إن أبناء الطائفة الشيعية على مرّ العصور مشهورون بعلمهم، ومعرفتهم، وقوة البرهان لديهم، ونبهاتهم، وورعهم، واجتهادهم، وقد ورثوا كل ذلك عن أئمتهم عليهم السلام، فالحذار الحذار من التفريط بهذا الامتياز والتفضيل.

وما مقالتي هذه إلا تنبيها وتحذيراً من سلوك هذه الاتجاه.

ولو أردنا البحث عن أسباب هذا التدني المعرفي لوجدناها كثيرة متعددة، بعضها يرتبط بأمور عامة على الساحة الشيعية، وبعضها يرتبط بأمور خاصة عند الناس أنفسهم.

وحيث إن كلامنا مبنيٌّ على الاختصار سعياً لمراعاة مقتضى الحال، فإن الإسهاب في بيان هذه الأسباب والإطناب في طرق العلاج مع كون أكثرها مما لا يمكننا فعله وتطبيقه لأنه ليس بأيدينا، فإن كل ذلك يلزم منه نقض الغرض.

وما يهمني تسليط الضوء عليه وأرى فيه ظاهرة لها الأثر الكبير في استفحال هذه المشكلة هو عدم استفادة بعض رجال الدين من الجلسات والسهرات التي تعقد ويجتمع فيها المؤمنون تحت عناوين متعددة، ليجيّروا مثل هكذا اجتماعات لنشر المعارف والوعظ والإرشاد، بل يخوضون مع عامة الناس في مواضيعهم الدنيوية التي ترتبط بسفاسف الأمور، ويساعدهم على ذلك الناس أنفسهم حيث لم يستفيدوا من وجود هذا العالم المختص في مجال الدين وهو حاضر بينهم ينفعهم ويأخذ بيدهم ويعلمهم ويرشدهم.

وقد أخذ الله على العالم أن يعلّم كما أخذ على الجاهل أن يتعلم، وكلهم مسؤول يوم القيامة، فالطريقة الناجعة في تصويب المسار وجعل هذه الاجتماعات مورداً للاستفادة هو أن يبادر الحضور للسؤال ويطلبوا من العالم الحاضر أن يتكلم فيهم بالمعرفة الدينية والوعظ والإرشاد حتى لو وصل الأمر الى إحراجه في ذلك.

كما أن على أهل العلم حين يحضرون في مجلس أن يتكلموا فيه بالوعظ والإرشاد وبيان الأحكام ولا يتماشوا مع أهل المجلس بما لا ينفعهم بل ربما كان وبالاً عليهم جميعاً.

فقد ورد عن أَبـِي عـَبـْدِ اللَّهِ الصادق (علیه السلام) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله وسلم) مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ فَلَمْ يـَذْكـُرُوا اسـْمَ اللَّهِ عـَزَّ وَ جـَلَّ وَ لَمْ يـُصـَلُّوا عـَلَى نـَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ حَسْرَةً وَوَبَالًا عَلَيْهِمْ.

وأختم بهذه الطريفة عن السيد الحميري (رحمه الله) حيث حضر مجلساً كان أهل ذلك المجلس يتذاكرون فيه أمر الزرع والنخل، وخاضوا في ذلك ساعة من المجلس، وإذا بالسيد الحميري ينهض ويقوم من المجلس، فقال له الحاضرون :

يا أبا هاشم ممَّ القيام؟ فقال:

إنِّي لأكرهُ أن أطيلَ بمجلسٍ

لا ذكرَ فيهِ لفضلِ آلِ محمدِ

لا ذكرَ فيه لأحمدٍ ووصيِّهِ

وبنيهِ ذلكَ مجلسٌ نَطِفٌ ردي

إن الذي ينساهم في مجلسٍ

حتى يفارقه لَغَيرُ مسدَّدِ

اللهم وفقنا وجميع المشتغلين لخدمة شريعة سيد المرسلين وآله الأطيبين الأطهرين.

2020/07/15

من يقف وراء العنف في العالم؟

هناك نوعان من العنف:

1 - العنف المادي (وهو استعمال القوة لإرغام العدو) فقد يكون تعدّياً وظلماً، كما قد يكون تهديدا أو استعمالا للقوة في ايقاف العدو الظالم عند حدّه، كما قد يكون، انتقاماً منه لكسر شوكته أو تدميره بعيداً عن الأخلاق .

2 - العنف غير المادي « وهو عبارة عن تزييف الحقائق وإفساد المعرفة الانسانية، والحيلولة دون تطبيق الحقوق والواجبات في العلاقات بين البشر » .

موقف الاسلام من العنف :

الاسلام يقول : إن في كل انسان استعداد لعمل الخير والشر، والله خلق الانسان وخلق له عقلا يدبر به أموره ويميّز بين الخير والشر، وقد دعا الاسلام إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون والتسامح، كما أن الأديان السماوية هدفها واحد، وهو التوحيد وعبادة الله وهي حلقات متصلة لهداية البشر، إلاّ أن الدين الاسلامي الذي هو آخر الأديان أشمل من الأديان السابقة عليه وأكمل، ولذا أقرّ الاسلام التعددية الدينية والثقافية ما دامت متصلة بالتوحيد، ولم يكره الاسلام أحداً لاعتناق الاسلام كما قال : (لاَ اِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ) وقال (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) في أوج قوته وعظمته .

ومن هذا كله نعرف أن استعمال القوة لارغام غير المسلم على اتباع الاسلام بحيث يكون ظالماً متعدّياً، أمر لا يقرّه الاسلام . أما صدّ العدو عن ظلمه وايقافه عند حدّه - وهو ما نسمّيه العنف المضاد - فهو أمر جائز بل ممدوح أيضاً لأنه يوقف التعدّي عند حدّه ويرفع الظلم والقهر أو يدافع عن النفس .

وأما تزييف الحقيقة وإفساد المعرفة والحيلولة دون تطبيق الحقوق والواجبات فهو أمر مرفوض اسلامياً لأنه خيانة وظلم للانسان الذي أراد الله له الهداية والتكريم .

من يقف وراء العنف في العالم ؟

إن الذي يقف وراء العنف في العالم عدّة أمور :

الأول : الثقافة والتربية والبيئة والعلاقات الاجتماعية والسياسية، فإنها تلعب دوراً مهماً في جعل بعض الافراد أو حتى الشعوب أكثر ميلا إلى استعمال العنف من غيرهم، ففي أمريكا مثلا ترتفع معدلات الجريمة بخلافها في السويد . فمثلا إذا كانت الثقافة والتربية هي افشاء العصبية والطائفية والعنصرية ازداد العنف في المجتمع ضد الآخر، أما إذا كانت الثقافة هي التسامح والتعاون ونبذ العصبية والطائفية والعنصرية قلّ العنف ضدّ الآخر .

الثاني : استبداد السلطات، والقمع المفرط في العقاب وانعدام احترام الرأي الآخر، فقد تعمد السلطة إلى العنف عندما تبرر العنف والقمع باصدار القوانين والتشريعات ضدّ الآخرين .

الثالث : الشعور بالاحباط الذي ينشأ من الصدمة الناتجة عن عدم تحقق الآمال والتطلعات والأهداف . فعندما يواجه شعب بالإبادة وعدم احترام الحقوق والتوهين وتهتك حقوق الانسان ليل نهار، يتوجه إلى العنف كطريق وحيد للمحافظة على حقوقه وعزّته .

العنف المقنع:

وهو ما يعرف بالعنف الاجتماعي أو المسكوت عنه الذي ينمو ويشب عند غياب الوعي الاجتماعي وغياب السلوك العقلاني وفقدان الحرية والعدالة، ويتمثل في الكراهية للآخرين والسيطرة على الضعفاء، والاتهامات الباطلة، والاعتداء على الاعراض جنسياً واضطهاد الأطفال والمعوقين وتخريب الممتلكات العامة والخاصة والاعتداء على الحيوان وقطع الزرع وتخريب البيئة والضوضاء والصخب وتعليم الأطفال النزاع والصراع عن طريق وسائل الاعلام والأفلام البوليسية وأمثال هذه الأمور التي لا يقرّها عقل ولا شرع .

2020/07/14