للأنبياء والأئمة: لماذا منح الله ’العصمة’ لفئة من خلقه دون الآخرين؟!

 

لماذا خص الله فئة من خلقه بالعصمة دون غيرهم؟ أين العدالة؟!

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

يرتكز السؤال على فهم خاطئ لمفهوم العصمة، فالعصمة ليست جبر ونزع لإرادة المعصوم، كما أنها ليست مرتبة ينالها الإنسان بدون استحقاق واستعداد، فالمعصوم كبقية البشر لا يخرج فعله عن كونه منزلة بين المنزلتين، أي لا جبر ولا تفويض وإنما هو أمر بين الأمرين.

فهو ليس مفوضاً حتى يستغني عن الله، كما أنه ليس مجبوراً فيكون منزوع الإرادة والاختيار، وبالتالي فإن لإرادة المعصوم واختياره دخل في حصول لطف الله وعنايته، ومن هنا يمكننا القول إن العصمة هي لطف يمتنع معه العبد عن ارتكاب المعاصي مع قدرته على ارتكابها، فهي أشبه بمرتبة عالية من التقوى تحبسه عن المعاصي، ومرتبة عالية من العلم تكشف له قبائح الذنوب، ومرتبة عالية من الإرادة تردعه عن الاقتراب من الآثام، وبذلك تكون العصمة كمال يناله الإنسان بوصفه بشر، فلا يتخلى عن بشريته في حال كونه معصوم، فمع توفر دواعي المعصية عنده إلا انه يتركها بمحض إرادته، فما يميز الإنسان عن الملائكة وعن الحيوان هو كونه مخلوق يحمل استعداداً ملائكياً واستعداداً حيوانياً، حيث خلقه الله قبضة من طين ونفخة من روح، والإنسان في حالة من الصراع الدائم بين مقتضيات الروح والطينة، والعصمة ليست إلا انتصار لجانب الروح على جانب المادة، إلا أن ذلك لا يعني أن المعصوم اصبح مجرد عن المادة وعن تأثيراتها على النفس، فكونه لا يخطئ ولا تصدر منه المعاصي لا يعني أنه مخلوق مجرد كالملائكة، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ)، وعليه فإن المعصوم في حال عصمته يعيش حالة من النزاع بين متطلبات المادة المتمثلة في الغرائز والشهوات وبين متطلبات الروح المتمثلة في القيم والأخلاق، وعليه لا يكون معفياً عن جهاد نفسه ومصارعة هواه، ولهذا اصبح المعصوم قدوة ومثال لجميع المؤمنين، قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فإذا لم يعاني الأنبياء والأئمة هذا الصراع ولم يجاهدوا رغباتهم ولم يحرموا أنفسهم كيف يمكن أن يكونوا لنا أسوة؟ يقول الإمام علي (عليه السلام): (أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ) أي أن الإمام وجد أساسا لكي يقتدي به عامة الناس، مما يعني أن عصمة الإمام لا تجعله بعيداً عما يعاني منه جميع البشر من ضغط الهوى وصعوبة كبح الشهوات والرغبات، ولذا يقول (عليه السلام): (أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ) أي أنه الزم نفسه بالقليل من حاجات الجسد وحرم نفسه حتى من الحلال والمباح ليكون قدوة في جهاد النفس وتربية الذات، وبذلك هو يعاني اكثر مما يعانيه بقية الناس ومن هنا صرح سلام الله عليه بقوله: (أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ)، ثم يكشف أمير المؤمنين (عليه السلام) عن إمكانية إشباع شهواته ورغباته بملذات الحياة حيث قال: (وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ) والذي يمنعه من ذلك ليس كونه غير قادر على الوصول إليها أو أنه فاقد للإحساس بهذه الملذات كالملائكة مثلاً وإنما تركها بقوة إرادته وجهاده لأهواء نفسه، ولذا يقول: (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى) وبذلك يتضح أن المعصوم يعيش جهاداً صعباً وصراعاً مريراً في تربية ذاته وتهذيب نفسه من أجل العروج بها في مدارج الكمال، والمؤمن في جهاده لنفسه أنما يسير في نفس الاتجاه الذي سبقه إليه المعصوم، وهو بذلك يستحق الفضل والأجر إلا أنه يكون قاصراً وبشكل دائم عن بلوغ ما وصل إليه المعصوم من جهاد النفس وتربية الذات.

وعليه لا يصح السؤال والاعتراض على عصمة البعض دون الآخر؛ لأن الله لم يمنح العصمة اعتباطاً وإنما جعلها في أهلها ومن لهم استعداد على حملها، وقد رد الله على المعترضين بقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ)، فالله يصطفي من بين خلقه من يكون أهلا لتحمل هذه الأمانة قال تعالى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ). وإذا اتضح ذلك يتضح أن الأمر في المبدأ لا علاقة له بالعدالة.