قال الله عزوجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }(1)
كيف عصم الله عزوجل نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) من تكذيب الناس يوم الغدير في قوله : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وقد كذبه البعض لاحقاً وحصول الفرقة بين الناس كما تذكر ذلك كتب السّير والمعاجم الحديثية؛ وما هو المقصود من العصمة في الآية الكريمة؟
المراد ظاهراً من قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} هو الوعد من الله تعالى لنبيِّه (ص) بأنْ يحفظه من الناس وذلك بأنْ يردَّ كيدهم ويُبطل تدبيرهم فلا ينالون منه ما أرادوه.
والواضح من لحن الآية ومساقها أنَّ ثمة مؤشِّرات بيِّنةً لدى الرسول (ص) بأنَّ جماعة وازنة من أمَّته وهم المنافقون يعملون جاهدين للحيلولة دون تبليغ الرسول (ص) لفريضة الولاية لعليٍّ وعترة أهل البيت(ع) في جموع الحجاج، فقد لا يتَّفق للرسول (ص) أنْ يجتمع بهذا الكمِّ الكبير من المسلمين في فرصةٍ أخرى خصوصاً وأنَّه قد نُبِّأ بأنَّ رحيله عن الدنيا قد اقترب.
فالمنافقون من طُلقاءِ قريش والممالئين لهم يُدركون جيداً أنَّ تبليغ النبيِّ(ص) لفريضة الولاية في موسم الحج وفي جموع الحُجَّاج سوف يُوقعُهم في حرجٍ شديدٍ، وقد يحولُ بينهم وبين ما يُخطِّطون له بعد رحيل الرسول (ص) لذلك كانوا يُدبِّرون لمنع النبيِّ (ص) من تبليغ فريضة الولاية في جموع الحُجَّاج، فالنبيُّ (ص) وإنْ كان قد بيَّنَ في مشاهد كثيرة أنَّ الخلافةَ وولاية الأمر بعده لعليٍّ(ع) إلا أنَّ ذلك كان في محضر أعدادٍ محدودة بالمقارنة للأعداد غير المسبوقة التي حضرتْ في حجَّة الوداع والتي كانت تتميز بأنَّها من مختلف قبائل الجزيرة العربيَّة، ولذلك كان المنافقون يحرصون على أنْ لا يتم التبليغُ لفريضة الولاية في جموع الحجَّاج، وكانوا على استعدادٍ أن يفعلوا أيَّ شيءٍ من أجل الحيلولة دون تبليغ الرسول (ص) لفريضةِ الولاية في موسم الحجِّ، فكانوا مستعدِّين لاغتياله قبل التبليغ، وإنْ لم يتهيأ لهم اغتيالُه أو اغتيالُ عليٍّ (ع) فإنَّ الخيار الآخر هو العمل على الإرجاف وبثِّ التشكيك في مصداقيَّة ما سيبلِّغه الرسول (ص) وإنْ وجدوا أنَّ هذا الخيار غير ناجعٍ ووأنَّه لن يُصغي المسلمون لإرجافهم وتشكيكهم فإنَّ الخيار الأخير هو التشويش وإثارة اللَّغط في كلِّ محضرٍ ومشهدٍ من مشاهد الحجِّ -يتحدَّث في النبيِّ (ص) عما يتعيَّن على المسلمين التزامه بعد رحيله- ليحولوا دون وصول البلاغ لعامَّة الحجاج، وقد عملوا على الخيارات الثلاثة فدبَّروا لاغتيال النبيِّ (ص) في الحجِّ إلا أنَّه لم يتهيأ لهم ذلك لالتفاف الحجَّاج حول الرسول (ص) في الطريق وفي جميع مشاهد الحج، وقد عيَّن الرسول (ص) حرساً يتناوبون على حراسة خيمته ليلَ نهار كما سننقل ذلك (2)، وأمَّا التشويش وإثارة اللَّغط فتُشير إليه الرواياتُ المتظافرة والتي أفادت أنَّ النبيَّ (ص) حين أعلنَ في عرفة أو في حجَّة الوداع أنَّ الأئمة من بعده اثنا عشر فإنَّ الراوي قال إنَّه لم يسمع بقيَّة خطاب الرسول (ص) لكثرة اللَّغط والضجيج (3)، فلم يتهيأ للرسول (ص) أنْ يبلِّغ فريضة الولاية بالنحو الذي يصلُ لعامة الحجَّاج أو لأكثرهم، ولعلَّه شعر بأنَّ الفرصة لن تكون سانحة في ظلِّ هذه المعوِّقات، فقد يتم اغتياله قبل أن يتمكَّن من التبليغ، وقد يتمكنون من اقناع عددٍ وازن من المسلمين بأنَّ فرض الولاية لعليٍّ (ع) مخالفٌ لمصلحة العرب ويتمكنون من إقناعهم بأنَّ فرض الولاية له ليس من عند الله تعالى وإنَّما هو محاباةٌ من النبيِّ (ص) لصهره وابن عمِّه(4)، وبذلك يسلبون التبليغ لفرض الولاية -لو وقع - المصداقية الدينيَّة، وقد يتمكَّنون من التشويش والحيلولة دون وصول صوت النبيِّ (ص) لعامَّة المسلمين كلما أراد التبليغ لفريضة الولاية كما وقع ذلك في عرفات.
ففي هذا الظرف المشحون بالتحدِّيات نزلت آية التبليغ فشدَّدت على ضرورة التبليغ لفريضة الولاية قبل رحيل جموع الحجَّاج إلى بلدانهم وعدم تفويت هذه الفرصة ووعدت الآيةُ النبيَّ الكريم(ص) أنَّ الله تعالى سيعصمُه من الناس فيتمكَّن دون عوائق من إنجاز المهمَّة التي كُلِّف بها، لذلك بادرَ الرسولَ (ص) إلى لَمِّ فلول الحجَّاج في غدير خم وصدع بالرسالة التي كلَّفه الله تعالى بأدائها، ولعلَّ من تدبير الله تعالى أنْ يتأخَّر تبليغ الرسالة بفرض الولاية إلى وقتٍ شعرَ فيه المنافقون أنَّهم تمكَّنوا من منع النبيِّ (ص) من التبليغ وأنَّ فرصةَ التبليغ في جموع الحجَّاج قد تمَّ فواتُها، لذلك كان ما فعله النبيُّ (ص) في غدير خم مفاجئاً، وكذلك فإن من تدبيره تعالى أن يسبق التبليغ لفريضة الولاية نزول آية التبليغ لتُشدَّد على ضرورة التبليغ، وبذلك ينتفي توهُّم أنْ فرض الولاية لعليٍّ (ع) كان محاباةً من الرسول (ص) فالآية وحدها كانت وحدها كفيلة بحماية الرسول (ص) من هذه التهمة التي عمل المنافقون على الإرجاف بها
فدعوةُ الرسول (ص) لفلول الحجَّاج، واسترجاع من تقدَّم واستقدام من تأخَّر، ونصبُ المنبر في هجير الصحراء يستثير فضولَ الناس ويسترعي اهتمامَهم وجودةَ اصغائهم لما سيقولُ الرسول (ص) وهو ما فوَّت على المنافقين فرصة التشويش الذي تمكَّنوا منه يوم عرفات.
وهكذا أنجز اللهُ تعالى لنبيِّه (ص) وعدَه فعصمَه من بغيهم، فلم يتمكنوا من اغتياله قبل أنْ يؤدِّى الرسالة التي كُلِّف بأدائها في جموع الحجَّاج، ومنعَهم من أنْ ينالوا من مصداقيَّة ما بلَّغه للمسلمين عن ربِّه، وأبطلَ سعيَهم، فلم يتهيأ لهم الحيلولة دون وصولِ صوتِه لمسامع المسلمين، وزاد رسولُ الله على ذلك -إمعاناً في إقامة الحجَّة - فوضع كفَّ عليِّ(ع) في كفِّه ورفعها من فوق منبره عالياً حتى بانَ بياضُ إبطيهما لجموع الحجَّاج ليظلَّ هذا المشهدُ اليتيم وغيرُ المسبوق محفوراً في الذاكرة .
فالعصمة التي وعد اللهُ نبيَّه (ص) بها في الآية الشريفة تعني الحفظ له من بغي المنافقين وكيدهم إلى أنْ ينتهي من الإبلاغ للرسالة التي كُلِّف بأدائها ليهلَكَ بعدها من هلكَ عن بيِّنة ويحيى من حيَّ عن بيِّنة. وقد أنجزَ اللهُ تعالى لنبيِّه (ص) وعدَه فحفِظه من بغي المنافقين وكيدِهم إلى أنْ أكمل التبليغ لرسالة ربِّه وبيَّن للمسلمين ما فرضَه الله عليهم من الإذعان لفريضة الولاية لعليٍّ والعترة الطاهرة (ع) وعندها نزل القرآن بالإعلان عن أنَّ الدين قد كمل وأنَّ النعمة قد تمَّت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(5)
فالعصمةُ في الآية الشريفة لم تكن تعني الوعد بالحفظ للنبيِّ (ص) من غائلة المنافقين إلى منتهى أجله، فشأنُ النبيِّ (ص) شأن سائر الأنبياء والمصلحين يكون دائماً في معرض القتل، غايتُه أنَّ الله تعالى وعده بالحفظ إلى أنْ يُتم عليهم حجَّته كاملةً وافية، فلا يبقى بعدها عذرٌ لمعتذر، وذلك هو مؤدَّى قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(6) فهو لا يقسِرُ الناس على الهداية وإنَّما يُرشدهم إليها ثم لهم أن يختاروا الهدى أو الضلال، ولعلَّ ممَّا يُؤيد عدم اقتضاء الآية للوعد بالحفظ من القتل إلى منتهى الأجل قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(7) فهو تعالى لم يضمن لنبيِّه (ص) أنْ لا يموت مقتولاً شأنُه في ذلك شأنُ المرسلين الذين سبقوه.
وكذلك فإنَّ العصمة التي وعد اللهُ نبيَّه (ص) بها في الآية لا تقتضى منعه من أنْ يتَّهمه المنافقون في صدقِه أو في عقلِه أو في عدلِه أو في أنَّ ما جاء به كان من عند ربِّه، وغاية ما تقتضيه العصمة في الآية هو المنع من تأثير أراجيفهم من قيام الحجَّة عليهم وعلى عامة المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم ، فالنبيُّ (ص) كسائر الأنبياء، وسنَّةُ الله تعالى في أنبيائه أن يكون لهم أعداء، ومقتضى عداوتهم هو المعاندة والمضادَّةُ بمثل المكر والكيد والتشويشِ والتغريرِ والتكذيب والافتراء والتضليل، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ }(8)