هل كان عليٌّ باحثاً عن الحقيقة؟!

سُئلتُ غير مرّة عن قول سماحة السيد باقر السيستاني حفظه الله: " كان عليٌّ باحثاً عن الحقيقة وعانى في سبيلها"!، وبودي قبل كلّ شيء بيان مبدأ لا ينبغي لكلّ عاقل إهماله اطلاقاً في التعامل مع ما ينقل له من كلمات وعبارات، سيّما في النقل عن الشخصيّات العلميّة، والمبدأ يتلخّص: بضرورة الفهم قبل التسرّع بالحكم، وقد روي عن أهل البيت أنّ من أخلاق الجاهل: الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم. (البحار، ح4، ج2،ص62).

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وبناءً على ذلك، فأوّل ما ينبغي فعله؛ كيما يتحدّد المعنى المقصود هو: عرض السياق الكامل الذي وردتْ فيه العبارة، ثمّ التعقيب عليها وتحليلها تحليلاً يفضي إلى تحديد المعنى المراد بجلاء، فهنا أمران:

الأمر الأوّل- إيراد العبارة ضمن سياقها.

في كتيّب: تجربتي مع الدين (ص26-27) وهو صغير في حجمه وكبير بمحتواه، وتحت عنوان:(تأكّد حقّانيّة دين الإسلام بموقف الإمام علي عليه السلام منه) جاء النصّ الآتي:

وممّا زاد في قناعتي بذلك، أنّني وجدتُ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مصدّقاً للنبي صلى الله عليه وآله، وكان عليه السلام كما تدلّ عليه الأخبار التاريخية الواضحة..

أولاً- ملازماً للنبي صلى الله عليه وآله قبل الرسالة، ويذهب معه إلى غار حراء للعبادة، حيث كان قد أودعه أبو طالب عنده صلى الله عليه وآله، فكان عالما بجميع خفايا وممارسات النبي صلى الله عليه وآله من دون شك.

ثانياً- نبيهاً، وذكيّاً، وفطناً، ولم يكن بالممكن استغفاله بحيث يؤمن بشيء لا واقع له.

وثالثاً- ولا أشك في ذلك- أنّه عليه السلام كان باحثاً عن الحقيقة لنفسه، وأنّه عانى في سبيلها ما عانى، فلو كان في أحوال النبي صلى الله عليه وآله ما يدلّ على أنّها ناشئة عن تدبيره الشخصيّ لكان هو أوّل من يطّلع على ذلك، ولا يداهن في شأنه.

ولقد قال عليه السلام في كلام لابنه الحسن عليه السلام:

"واعلم يا بني، أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليَّ من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإنّهم لم يدّعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكّروا كما أنت مفكّر، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عمّا لم يكّلفوا... ـ إلى أن قال ـ واعلم يا بني: أنّ أحداً لم ينبئ عن الله كما أنبأ عنه الرسول (ص) فارض به رائداً، وإلى النجاة قائداً، فإنّي لم آلك نصيحة، وإنّك لن تبلغ في النظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظري لك واعلم يا بني: أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفتَ أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل...".

إذن، ففي إيمان الإمام أمير المؤمنين (ع) بالإسلام ـ وفق ما نعلمه من شخصيّته وسلوكه وأفكاره حسب الشواهد التاريخية الواضحة ـ شاهدٌ آخر على صدق هذه الرسالة..". انتهى موضع الحاجة.

الأمر الثاني- تحليلها، وتعيين المعنى المقصود.

اتضح من سرد السياق الكامل أنّ الجملة جائت ضمن عرض أحد شواهد صدق النبوّة الخاتمة عبر دراسة طبيعة الشخصيّات التي انجذبت لرسالة الإسلام، وآمنتْ بها، فإذا ما وجدنا أنّ تلك الشخصيات كانت نماذجَ صالحة وفي غاية الصدق والاستقامة والمبدأية وعدم المواربة، مع معرفتها بالنبي (صلى الله عليه وآله) عن قرب كما هو الحال في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام-؛ فلا شكّ أن ذلك سيكون أحد شواهد صدق الدعوة التي استقطبتهم، كما هو مقتضى قانون المسانخة، أو مثلما يقال في المثل: شبيه الشيخ منجذبٌ إليه.

ومعلوم أنّ تماميّة هذا الاستشهاد يتوقّف على النظر والدراسة لتلك الشخصيات في الجانب الطبيعي، والبعد القيمي/الأخلاقي والإنساني فيها، مجرّدة عن الأبعاد الغيبيّة؛ كي يسوق الاستشهاد إلى المطلوب، ويوصل إلى النتيجة، ويحقّق غايته، وهذا نظير الاستشهاد على صدق النبي(صلى الله عليه وآله) بمراجعة سيرته الماضيّة، والاطلاع على سمات شخصيّته التي كان يعرف بها قبل البعثة، وأنّه كان يعرف مثلاً بـ(الصادق الأمين).

ثمّ إنّا لو حلّلنا الجملة تحليلاً أدبياً بعيداً عن سياقها، لوجدناها منصرفة إلى معنى صائب؛ لأنّها قد جائت بصيغة الجملة الإسميّة: (كان باحثاً عن الحقيقة..)، دون الفعليّة:( يبحث عن الحقيقة..)! وبينهما فرقٌ لا يخفى على طلبة العلم!، فضلاً عن أنّ مفردة البحث تعني الطلب، ولا شكّ أنّ علياً (صلوات الله عليه) كان طالباً للحقّ غير مكابر ولا جاحد ولا ممارٍ أو مخاتل فيه!.

ومن يرفض هذا المعنى يلزمه أن يقبل بنقيضه في حقّ أمير المؤمنين(عليه السلام)؛ فإنّه ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة، مثلما يرشدنا نهج البلاغة، وبصياغة منطقيّة، وعلى سبيل المنفصلة الحقيقيّة: لا يخلو الإنسان من أحد أمرين، فإمّا أن يكون باحثاً عن الحقيقة مستعداً للتضحيّة في سبيلها، أو لا يكون كذلك، وبحسب قانون التناقض -الذي يعتمد عليه في معرفة صوابيّة القضيّة من خلال كذب نقيضها، أو كذبها من خلال صدق نقيضها- فإنّ من لم يقبل أنّ أميرَ المؤمنين كان باحثاً عن الحقيقة فعليه أن يقبل بنقيضها! وحاشاه من ذلك (صلوات الله عليه) .