ما حقيقة أن «الجرجير» من نبات جهنم؟

لم أقفْ على روايةٍ في طرقِنا مفادها أنَّ الجرجير أصلُه في جهنم وإنَّما وردت رواياتٌ عديدة بألسنةٍ مختلفة مفادُها أنَّ الجرجير سوف يكونُ من الزروع التي تنبتُ في جهنَّم.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

الرواية الأولى: رواها البرقي في المحاسن عن محمد بن عليٍّ عن عيسى بن عبد الله العلويِّ عن أبيه عن جدِّه قال: نظر رسولُ الله (ص) إلى الجرجير فقال: "كأنِّي انظرُ إلى منبتِه في النار"(1).

وظاهرُ الرواية أنَّ الجرجير سوف يكون من نبات جهنَّم، فقولُه: "كأنِّي أنظر إلى منبتِه في النار" معناه كأنِّي أرى الموقع الذي سوف يكون محلاً لنبات هذه البقلة في النار، فمساقُ هذا التعبير هو التأكيد على أنَّ الجرجير من الزروع التي سوف تنبتُ في النار.

الرواية الثانية: رواها البرقي أيضًا بسندٍ إلى أبي جعفر(ع) قال: "شجرةُ الجرجير على بابِ النار"(2).

الرواية الثالثة: رواها البرقي أيضًا بسندٍ إلى أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: "كأنِّي أنظر إلى الجرجير يهتزُّ في النار"(3).

الرواية الرابعة: رواها البرقي بسندٍ إلى أبي عبد الله (ع) قال: إنَّ رسولَ الله قال: "أكرهُ الجرجير وكأنِّي أنظر إلى شجرتِها نابتة في جهنَّم"(4).

الرواية الخامسة: رواها القطب الرواندي في الدعوات عن النبيِّ (ص) قال: "مَن أكلَ الجرجير ثم نام يُنازعُه عرقُ الجذام في أنفِه"، وقال (ص): "رأيتُها في النار"(5).

هذه هي الروايات التي وقفتُ عليها في طرقِنا وأكثرُها ضعيفُ السند، فالأولى مشتملةٌ على عيسى بن عبد الله العلوي وهو من المجاهيل، والثانيةُ مشتملةٌ على أبي جميلة وهو الفضل بن صالح وهو ضعيفٌ جدًا، وضعْفه متسالمٌ عليه بين الرجاليِّين بل إنَّ بعضَهم نسب إليه تعمُّدَ الوضع للحديث، والرابعةُ ضعيفةُ السند أيضًا لاشتمالِها على قتيبة بن مهران وهو مهمل وحمَّاد بن زكريا وهو مهمل أيضاً، وأمَّا الروايةُ الخامسة المرويَّة في الدعوات للقطب الراوندي فهي ضعيفة أيضًا لأنَّها مرسلة أي أنَّ الراوندي (رحمه الله) لم يذكر سندَه للرواية. فلم يبقَ إلا رواية واحدة وهي الرواية الثالثة التي ذكر لها البرقي طريقين فإنَّ الظاهرَ هو اعتبار سنديها.

وفي مقابل هذه الروايات تُوجد روايةٌ -إلا أنَّ في سندها ضعفًا- مرويَّةٌ عن موفَّق مولى أبي الحسن(ع) قال: كان إذا أمر بشيءٍ من البقل يأمرُ بالإكثار من الجرجير فيُشترى له، وكان يقول: ما أحمق بعض الناس يقولون: إنَّه ينبتُ في وادي جهنَّم، واللهُ تبارك وتعالى يقول: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ﴾(6) فكيف ينبتُ البقل(7).

هذا وقد أفاد صاحبُ البحار العلامة المجلسي رحمه الله: إنَّ من المحتمل صدور الأخبار المثبِتة لنبات الجرجير في جهنم تقيةً، أي إنِّها كانت قد صدرت لغرض المجاراة لأخبار العامَّة وليس لغرض الإخبار عن الواقع.

فلأنَّه وردت في طرق العامَّة رواياتٌ مفادها إنَّ الجرجير ينبت في جهنَّم، لذلك كان من المحتمل صدور ما ورد من طرقِنا مدارةً لهم لاقتضاء ظروف الصدور لذلك، ولهذا لا يمكن الاطمئنان بصحَّة ما اشتملت عليه هذه الروايات من مضمون خصوصاً بعد الالتفات إلى أمرين:

الأول: أنَّ أكثرها ضعيفُ السند.

والثاني: هو غرابة المضمون الذي اشتملت عليه، وذلك يقتضي لكي يتمَّ الاطمئنان بصدقِه أنْ تتراكم القرائن على الصدق بمستوىً يتناسب مع غرابةِ هذا المضمون.

فالعقلاءُ قد يطمئنون إلى صدق خبرٍ لمجرَّد كون الجائي به ثقة، وذلك لأنَّ مضمون الخبر الذي جاء به كان مألوفاً أو متوقعاً، أمَّا لو كان الخبرُ غريباً فإنَّ العقلاء لا يكتفون في مثلِه بخبر الواحد وإنْ كان ثقةً، فما لم يتعزَّز الخبرُ ذو المضمون الغريب بإخباراتٍ أخرى وقرائن تُساهم في تضعيف احتمال الكذب والاشتباه وتُساهم في مضاعفة احتمال الصدق إلى أنْ ترقى به إلى مستوى الاطمئنان بالصدق فإنَّ مثل هذا الخبر لا يكون معوَّلاً عليه عقلائيًا وكذلك يكون ساقطًا عن الحجيَّة شرعًا إمَّا لأنَّ حجيَّة الطرق والأمارات لم تكن تأسيسيَّة وإنَّما هي إمضاءٌ لما عليه العقلاء، وقد قلنا إنَّ العقلاء لا يُعوِّلون على مثل هذه الأخبار ما لم تكن معتضدة بقرائن موجبة للاطمئنان بالصدق، وإمَّا لأنَّ حجيَّة خبر الثقة تعبُّدًا ثابتة لخصوص الروايات المتضمِّنة لبيان حكم شرعيٍّ أو نفي حكمٍ شرعي أو بيان مضمونٍ ذي أثرٍ شرعي، ومثل هذه المضامين ليست كذلك، فلا هي بيانٌ لحكمٍ شرعي ولا هي نفيٌ لحكمٍ شرعي ولا هي بيانٌ لمضمونٍ ذي أثرٍ شرعي. لذلك لا تكونُ مشمولةً لأدلة حجيَّة خبر الواحد الثقة.

كلُّ ذلك مبنيٌّ على القبول بغرابة المضمون الّذي اشتملت عليه الروايات المذكورة، وأمَّا بناءً على انتفاء الغرابة وذلك لأنَّ منشأ الإستغراب ليس تاماً فحينئذٍ لا يكون ثمَّة مانع من اعتماد هذه الروايات خصوصاً وأنَّها متعدِّدة وفيها ما هو معتبرٌ سندًا فلا بدَّ إذن من ملاحظة منشأ الغرابة في المضمون الذي اشتملت عليه هذه الروايات.

والظاهر أنَّ منشأ الغرابة والاستيحاش هو أمور ثلاثة مجتمعة:

الأوّل: هو عدم قابليّة الجرجير وغيرِه من الزروع لأنْ ينبتَ في وسط النّار خصوصاً نار جهنّم التي وصفها القرآنُ الكريم بقولِه: ﴿إِذَا أُلقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ / تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ...﴾(8)، وقوله: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى﴾(9)، وقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ / نَارٌ حَامِيَةٌ﴾(10)، وقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ / نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ / الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ / إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ / فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾(11).

فإذا كانت النّار كما وصفها القرآن الكريم كيف يُتَعقَّل أن ينبتَ فيها مثلُ الجرجير والّذي هو من أضعف الزروع ساقاً وأقلّها تجذّراً.

الثّاني: إنَّ كلَّ ما في جهنَّم هُيِّئَ ليكون وسيلةً لتعذيب أهل النّار، وليس في الجرجير ما يقتضي ذاك، فليس هو من قبيل الأشواك كما إنَّه ليس مرَّ المذاق، وليس هو من قبيل الأطعمة السامَّة والّتي يترتَّب على تناولها آلامٌ وأسقام، فلو كان للجرجير واحد من هذه الخصوصيَّات وأمثالها لأمكن القول بأنَّ اللهَ سيُعذِّب الكافرين بهذه النبتة إلا أنَّ الأمر ليس كذلك.

الثالث: إنَّ الجرجير من البقول التي يرغبُ النّاس في تناولِها، فهي مستساغةُ الطعم وهي في الوقت نفسه ذاتُ قيمةٍ غذائيَّة، وحينئذٍ لا تكونُ صالحةً لأنْ يُخوَّف بها العصاة والكافرين. فهي ليست من قبيل الضريع الّذي هو غير مستساغِ الطعم عند الإنسان بل وربَّما الحيوان أيضًا.

هذه الأمور الثلاثة لعلَّها هي منشأ الاستيحاش والاستغراب من مفاد الروايات المذكورة إلا أنَّه وبالتأمّل اليسير يتَّضحُ عدم اقتضائها جميعاً للاستغراب.

أمَّا الأمر الأوَّل: فلأنَّ من المقطوع به أنَّ الجرجير إذا كان سوف ينبتُ في جهنَّم فإنَّه سيكون واجدًا لخصوصيَّاتٍ تقتضي أهليَّته التكوينيّة للإنبات في وسط جهنَّم، فليس من الصحيح افتراض نباتِه في جهنَّم مع الالتزام ببقائه على ما هو عليه من خصوصيَّات في هذه الحياة. فإنَّ فساد ذلك أوضح من أنْ يخفى على أحد.

ولهذا لم يطرأ في ذهن متوهِّم ٍأو لا ينبغي أنْ يطرأ وهمٌ في أنَّ نبتةَ الضريع المعهودة هي بعينِها وبتمام خصوصيَّاتها سوف تكون طعامًا لسكَّان جهنّم، إذ من غير المعقول أن يتصوَّر أحدٌ قابليَّة هذه النبتة مهما كانت صلابتها لمقاومة نار جهنَّم، وهذا هو ما يلزم افتراضه لنبتة الجرجير لو كانت ستنبتُ في جهنَّم.

وعليه لا يصحُّ اعتبار الأمر الأوّل منشاً للاستغراب بعد أنْ كان اختلاف الخصوصيَّات في النشأتين أمراً مفروغاً عنه.

ويمكنُ تأكيد ذلك بملاحظة الكثير من الآيات التّي لا مصحِّح للقبول بمضامينها إلا الالتزام بالاختلاف في بعض الخصوصيَّات بين النشأتين.

ونذكر لذلك نماذج من هذه الآيات:

النموذج الأوّل: قوله تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ / يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾(12).

فرغم أنَّ أسباب الموت تنتابُه مجتمعةً ومتوالية إلا أنَّه ليس بميِّت، فهل يصحُّ قبول هذا المعنى لولا الإيمانُ بأنَّ ثمَّة خصوصيَّةً لتلك النشأة منتفية عن هذه النشأة.

النموذج الثاني: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الحَمِيمُ / يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالجُلُودُ / وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ / كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ﴾(13).

فالثياب من نار والغَسول حميم وأثرُه انصهار الأحشاء وما بطَن وظهر ثمَّ إنَّهم لا يموتون بل كلَّما خرجوا من عذابٍ أُعيدوا فيه، فأيُّ روح هذه التي تستقرُّ في بدنٍ رغم كلِّ هذا العذاب لولا أنَّ الله تعالى أراد لها الاستقرار على خلاف ما تقتضيه طبيعة النشأة الأولى.

النموذج الثالث: قوله تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ / إِنَّا جَعَلنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ / إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ / طَلعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾(14).

﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ / لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ / فَمَالِؤُونَ مِنْهَا البُطُونَ / فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ﴾(15)، فالزقوم شجرةٌ تنبتُ في أصل الجحيم، والظاهر أنَّها ليست شجرةً واحدة بل إنَّ ثمَّة أشجار زقّومٍ كثُر كما هو المُستظهَر من قوله تعالى: ﴿لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾(16).

فهذه الشجرة إمَّا أن تكون مسانخة في حقيقتِها وخصوصيَّاتها مع شجر الدنيا، وإمَّا أنْ تكون مباينة لها في حقيقتِها وتمام خصوصيَّاتها.

فالاحتمال الأوّل ممتنعٌ لافتراض امتناع أنْ تنشأ شجرةٌ بالخصوصيَّات المعهودة في أصل الجحيم.

والاحتمال الثّاني وهو أنَّ شجرة الزقُّوم ليست شجرةً أصلاً وإنَّما هي حقيقةٌ أخرى أُطلق عليها اسم الشجرة، هذا الاحتمال خلاف الظاهر فلا يُصار إليه دون قرينة، فإنَّ لفظ الشجرة ظاهرٌ عرفًا ولغةً في المعنى المعهود للشجرة.

فيتعيّن احتمالٌ ثالث وهو أنَّ شجرةَ الزقُوم مسانخة في حقيقتِها للشجر المعهود في هذه النشأة، غايتُه أنَّها تختلف عنها في بعض الخصوصيَّات المناسبة لتلك النشأة.

هذه ثلاثةُ نماذج من آيات القرآن الكريم، وثمة نماذجُ أخرى كثيرة أعرضنا عن ذكرها لكفاية ما ذكرناه ورعايةً لعدم الإطالة.

هذا مضاف إلى ما ورد في السنَّة الشريفة من رواياتٍ كثيرة يصعب تأويلُها أو التنكُّر لصدورها، فهي متواترةٌ إجمالاً أو مستفيضة، ومفادها إنَّ الله تعالى سيعذِّب أقوامًا في النار بالحيَّات والعقارب، فإذا كان استيحاشٌ من نبات بعض الزروع في جهنَّم فليكن استيحاشٌ من وجود الحيَّات والعقارب في جهنم، إذ كيف يتمُّ القبول بإمكانيَّة بقائها حيةً في وسط الجحيم لولا القبول بمنحِها خصوصيَّاتٍ تُؤهلُها لذلك.

إذن فالأمر الأول لا يصحُّ اعتباره مبرَّرًا للاستيحاش والاستغراب من مفاد الروايات المتضمِّنة لنبات الجرجير في النار.

وأما الأمر الثاني والثالث: فكذلك لا يصلحان لتبرير الاستيحاش والاستغراب من الروايات المذكورة، وذلك لأنَّه لم يثبت أن كلَّ ما في جهنم سيكون مادَّةً لتعذيب العصاة من أهل النار، ولو تمَّ القبول بذلك فما المانع من إيداع هذه البقلة بعض الخصوصيَّات فتكون بذلك واحدًا من وسائل التعذيب لسُكان أهل النار بأن يُصبح الجرجير بقلةً شديدة النتَن يتأذَّى من رائحتها سكانُ جهنم أو يكون ذلك هو أثرها بعد الأكل، فهي مقتضية له في الدنيا فيكون مضاعفًا في الآخرة خصوصاً لو لم يكن في جوف مَن تناولها غيرها وكان ما تناولُه كثيرًا فإنَّ أثرها حينئذٍ لا يُطاق، فهي عذاب للمتملِّي منها قسرًا وعذاب لمتلقِّي أثرها، فالأول ينتابه الخزي والعار، والثاني ينتابه الغثيان، أو لا تكون كذلك ولكنَّها تكون طعاماً لذوي العز والكبرياء فيشعرون بالصغار والمذلَّة، فبعد صنوف الطعام وأجوده والذي كان يُحمل إليهم على أطباق الذهب والفضَّة ويحوطُهم الخدم والجواري ينتظرون أمراً ليسارعوا في إمضائه فإذا هم يقتاتون بقلةً ليست بذي بالٍ عند فقراء الدنيا فضلاً عن كبرائهم، فهم يحرصون على تحصيلِها وتناولِها لما المَّ بهم من جوعٍ فيجدونها كما وصف الله تعالى الضريع بقوله: ﴿لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾(17)، وقد يجدونها ملوَّثةً بصديد القروح ومٌلطَّخة بالدماء النازفة من حروق العصاة، فأيُّ مهانةٍ ومذَّلة أقسى على قلب العزيز من ذلك، فحتى لو كانت هذه البقلة مُستساغة في نفسِها فإنَّها لن تكون مُستساغة في هذه الأجواء الملبَّدة بألوان المهانة وصنوف التحقير، فكأنَّه معنيٌّ هو الآخر بقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾(18).

ثم إنَّه ما مِن شيءٍ إلا ويصلحُ أنْ يكونَ مادَّةً للتعذيب، فالجبابرةُ والطغاة قد يُعذِّبون أسراهم بشربِ الماء أو بتناول البطيخ، وقد ورد أنَّ الله تعالى يُعذِّب بعض العصاة بالثلج.

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ روايات الجرجير التي أفادت أنَّه من زروع الجحيم ليس فيها ما يقتضي تكذيبَها أو استبعادَ صدورها.

وأما أنَّ الجرجير بقلةٌ لبني أمية

قد وقفنا في ذلك على أربعِ روايات:

الرواية الأولى: رواها الكليني في الكافي بسندٍ له إلى أبي بصير قال: سأل رجلٌ أبا عبد الله (ع) عن البقل الهندباء والباذروج والجرجير فقال: إنَّ الهندباء والباذروج لنا والجرجير لبني أمية(19).

الرواية الثانية: رواها البرقي في المحاسن بسندٍ إلى أبي عبد الله (ع) انه قال: "إنَّ لبني أميَّةَ من البقول الجرجير"(20).

والرواية الثالثة: رواها في المستدرَك عن دعائم الإسلام عن رسول الله (ص) انَّه قال: "الهندباء لنا والجرجير لبني أميَّة"(21).

الرواية الرابعة: رواها في المستدرَك أيضًا عن ابن بسطام في طبِّ الأئمة (ع) عن الرضا (ع) انه قال: "الباذروج لنا والجرجيرُ لبني أميَّة"(22).

والظاهرُ أنَّها جميعًا ضعيفةُ الإسناد.

أما الرواية الأولى فيكفي لإسقاطها سندًا اشتماله على أحمد بن سليمان، وأما الثانية فيكفي لسقوط سندها اشتماله على عليِّ بن أبي حمزة البطائني رأس الوقف والمفتري على الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) وأمَّا الرواية الثالثة والرابعة فضعيفتان بالإرسال.

وأما ما هو المراد من هذه الروايات فله أكثر من احتمال:

الاحتمال الأول: إنَّ المراد من التعبير بأنَّ الهندباء لنا والجرجير لبني أميَّة هو أنَّ الهندباء محبوب لنا والجرجير محبوب لبني أميَّة.

الاحتمال الثاني: إن المراد هو أنَّه ينبغي أن يكون الهندباء مختصاً بنا وأن يكون الجرجير مختصَّاً ببني أميَّة.

الاحتمال الثالث: انَّ النسبة سيقت لغرض التعبير عن محبوبيَّة أكل الهندباء ومرجوحيَّة أكلِ الجرجير.

وثمة احتمالات أخرى استبعدناها فلم نذكرها. والاحتمالات الثلاثة تشترك جميعًا في إفادة المفاضلة بين الهندباء والجرجير وأنَّ الأول خيرٌ من الثاني، إما لأن الهندباء محبوبٌ لأهل البيت (ع) ولن يكون ذلك إلا لخصوصيَّة امتاز بها عن الجرجير أوجبت محبوبيَّته، وهذه الخصوصية إما أن تكون من قبيل القيمة الغذائيَّة وإما لكونه من زروع الجنَّة والجرجير من زروع الجحيم كما ورد في الروايات، وكذلك يقتضي الاحتمال الثاني تفضيل الهندباء على الجرجير، إذ أنَّه لن يكون ممَّا ينبغي اختصاصه بأهل البيت (ع) إلا لمزيَّةٍ فيه اقتضت الطلب للانتساب التشريفي لأهل البيت (ع) كما أن هذا الاحتمال يقتضي أنْ يكون الجرجير من السوء بحيث يكون المناسب لشأنه هو الانتساب لبني أميَّة.

ولعل المنشأ لتشريف الأول بالانتساب لأهل البيت (ع) هو قيمتُه الغذائية أو الأثر النفسي والذهني الذي يترتَّب على تناوله أو لأنَّه من زروع الجنَّة أو لتمام هذه المناشىء كما أنَّ من المحتمل كون المنشأ للانتساب التوهيني للجرجير هو ما يقتضيه من أثرٍ سيئ على مَن تملَّى منه ليلاً حيث أفادت العديدُ من الروايات أنَّ مَن ملأ منه بطنَه ليلاً بات على خطر الجذام أو البرص كما في رواية. كما أنَّ من المحتمل كون المنشأ لطلب الانتساب التوهيني هو أنَّه من زروع الجحيم.

وهكذا الحال بالنسبة للاحتمال الثالث فإنَّه يقتضي تميُّز الهندباء على الجرجير، فإنَّه لن تكون المحبوبيَّة لتناول الهندباء جزافيَّة كما أن المرجوحيَّة لتناول الجرجير لن تكون جزافيَّة.

وأمَّا ما هو المستظهَر من الاحتمالات الثلاثة فالظاهر أنَّه الاحتمال الثالث، فإنَّ الاحتمال الأول مستبعدٌ لأنَّه يقتضي أن يكون الإخبار عن محبوبيَّة الهندباء إخبارًا عن هوىً شخصي للهندباء وهو مخالفٌ لظاهر حال الإمام والذي كان بصدد الجواب عن سؤال السائل، والسائل لم يكن يسأل عن ما كان يهواه قلبُ الإمام شخصيَّاً وإنَّما كان يسأل عن حكم الشريعة في الهندباء والجرجير نظراً لكون الإمام ممثلاً للشريعة أو أنه يسأل عن طبيعة الهندباء والجرجير لاعتقاده بأنَّ الإمام (ع) مطّلعٌ على الخصائص التكوينيَّة للأشياء.

وأما الاحتمال الثاني فاستبعادُه ينشأ من اقتضائه لعدم فعليَّة انتساب الهندباء لأهل البيت (ع) والجرجير لبني أميَّة في حين أن الظاهر من قوله (ع): "الهندباء لنا والجرجير لبني أميَّة" هو فعلية انتساب كلٍّ منهما لكلِّ منهما.

فيتعيَّن الاحتمال الثالث وهو إنَّ النسبة سِيقت لغرض التعبير عن محبوبيَّة تناول الهندباء ومرجوحيَّة تناول الجرجير فإنَّ الإمام (ع) إما أن يكون بصدد بيان الحكم الشرعي لتناول البقلتين.

وإمَّا أنْ يكون بصدد بيان طبيعة البقلتين التكوينيَّة وأنَّ الأولى تقتضي تكويناً رجحان تناولها والثانية تقتضي تكويناً مرجوحيَّة تناولها.

وعلى كلا التقديرين تكون النسبة فعليَّة فإنَّ أهل البيت (ع) أولى بما هو محبوب شرعًا وهو ما يصحِّح نسبة كلِّ محبوبٍ شرعيٍّ لهم كما إنَّ أهل البيت (ع) سادة العقلاء فشأنُهم الفعل والأمر بكلِّ ما هو راجح عقلاً وذلك هو ما صحَّح انتساب التناول للهندباء لهم، فهم مَن حثَّ على تناولِه، وهم من كشفَ عن طبيعة آثاره.

كما أنَّ بني أمية والذين هم رمز الشر والسوء شأنُهم أن يُنسب لهم كلُّ مرجوحٍ شرعاً أو عقلاً، فالمصحِّح لنسبة بقلة الجرجير لهم هو أنها سيئة الأثر تكويناً أو أنَّها مرغوب عن تناولِها شرعًا لسوء أثرِها تكويناً أو لأنَّها من زروع الجحيم.

والذي يؤكد ما استظهرناه هو تصدِّي الروايات للحثِّ على تناول البقول التي نسبَها أهلُ البيت (ع) لأنفسِهم وبيان آثارها وفوائدها وتأكيد ذلك بالإخبار عن أنَّها ستكونُ من زروع الجنة، فإن ذلك يُعزِّز استبعاد الاحتمال الأول وترجُّح الاحتمال الثالث.

كما أنَّ الرويات التي حثَّت على عدم تناول الجرجير ليلاً وعدم التملِّي منه تُؤكد ما استظهرناه من أن نسبتَه لبني أميَّة إنَّما هو لغرض التعبير عن مرجوحيَّة تناوله، لأنَّ شأنَهم أن يُنسب لهم كلُّ ما هو مرجوح.

مقال رداً على سؤال: ما مدى صحَّة سند ودلالة الحديث الوارد عن المعصومين (ع) في شأن الجرجير أنَّ أصله في جهنَّم وهو طعام بني أميَّة؟

الهوامش:

1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج25 / ص198.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج25 / ص197.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج25 / ص198.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج25 / ص187.

5- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج16 / ص422.

6- سورة البقرة / 24.

7- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج8 / ص306.

8- سورة الملك / 7-8.

9- سورة الأعلى / 12.

10- سورة القارعة / 10.

11- سورة الهمزة / 5.

12- سورة إبراهيم / 16-17.

13- سورة الحج / 19-22.

14- سورة الصافات / 62-65.

15- سورة الواقعة / 51-54.

16- المصدر نفسه.

17- سورة الغاشية / 7.

18- سورة الدخان / 49.

19- الكافي -الشيخ الكليني- ج6 / ص368.

20- المحاسن -أحمد بن محمد بن خالد البرقي- ج2 / ص518.

21- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج16 / ص422.

22- المصدر نفسه.