بعد توقف دروسه الفقهية بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك تلا سماحة السيد محمد رضا السيستاني دامت بركاته كلمة على مسامع تلامذته تضمنت توجيهات دينية ورؤى ثاقبة تختص بالحوزة العلمية في النجف الاشرف. وخصوصيتها واهمية الحفاظ على رصانتها ومتانتها ومناهجها الصارمة.
نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
نحن على أبواب شهر رمضان المبارك، ولا حاجة إلى التذكير بأنّ هذا الشهر الفضيل أهمّ فرصة تتاح للمؤمن للاستزادة فيه من الخيرات والمثوبات، فينبغي له ـــ ولا سيّما مَن كان في سلك طلاب الحوزة العلمية ـــ استغلال جميع أوقاته لتقوية إيمانه وتزكية نفسه، بالقيام بمزيد من الأعمال الصالحة ومذاكرة العلوم النافعة والتعبّد لله تعالى بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن الكريم ونحوها.
وبالنظر إلى أنّه من أهمّ مواسم التبليغ الديني ينبغي للأعزة الذين يتمكنون من القيام بهذا العمل الرسالي أن لا يتوانوا في ذلك، كلّ حسب ما يتيسّر له، ولا بدّ أن نتذكر جميعاً بأنّ الوظيفة الأساس لأمثالنا هي أن نقرّب الناس إلى الله تعالى وإلى رسوله الكريم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) ونثبّتهم على العقائد الحقة والالتزام بأحكام الشريعة المطهّرة، ولا يتيسّر ذلك إلا بأن تصدّق أعمالنا أقوالَنا ونطبّق ما ندعو الآخرين إليه على أنفسنا وأهلينا أولاً، نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لذلك ويُسعدنا بأداء حقّ شهر رمضان العظيم ويوفقنا لصيامه وقيامه ويجعلنا من عتقائه من النار.
وهناك أمر مهمّ أجد من الضروري التذكيرَ به، وهو أنّ الوزن العلمي لحوزة النجف الأشرف أمانة في رقاب الجميع، بدءاً من المراجع ومروراً بالعلماء والفضلاء وانتهاءً بالطلاب على اختلاف مراحلهم الدراسية.
ومما ينبغي أن يلاحظ بهذا الصدد أمور:
أولاً: أنّ مَن يمتلك المؤهلات الكافية للوصول إلى مرتبة سامية في العلوم الحوزوية ـــ ولا سيّما الفقه والأصول والحديث والرجال على أيدي أساتذة أكفاء ـــ يلزمه صرف وقته في هذا المجال مهما وسعه ذلك، وليس له أن يصرفه في مجالات أخرى حتى لو كانت نافعة في حدّ ذاتها.
ومن المؤسف ما يلاحظ من توجّه غير واحد من النابهين الذين يؤمّل لهم مستقبل زاهر في الحوزة العلمية إلى العمل في المراكز والمؤسسات الثقافية والتحقيقية أو الانشغال التامّ بالعمل التبليغي أو التوجّه إلى الدراسة الاكاديمية ونحو ذلك ممّا يعيقهم عن مواصلة مسيرتهم العلمية الحوزوية.
نعم مَن ليست لديه مؤهلات كافية لبلوغ درجة عالية في العلوم الحوزوية حتى يصبح أستاذاً مرموقاً أو مؤلفاً بارعاً فيها ينبغي له التوجّه إلى العمل التبليغي أو التحقيقي إن كان قادراً على القيام به، وأمّا مَن وهب الله له من قوة الفكر والاستعداد والذكاء وفراغ البال ما يمنحه فرصة الوصول إلى مرتبة عالية من علمي الفقه والأصول ونحوهما فمن الضروري أن يصرف أوقاته في ذلك.
إنّ الحوزة العلمية بحاجة ماسة في مستقبلها إلى فقهاء عظام وفضلاء كبار بعد جيل الموجودين (أطال الله في أعمارهم) ولا يمكن تأمين هذه الحاجة الضرورية إلا بأن يبذل مَن لديهم مؤهلات كافية غاية جهدهم في تحصيل أعلى المراتب العلمية مقروناً بالصلاح والسداد.
ثانياً: الحذر التامّ من ادّعاء الوصول إلى المراتب العلمية السامية ولا سيّما الاجتهاد والفقاهة من دون توفر شواهد وافية على ذلك بشهادة أهل الخبرة من المتصفين بالورع والدقة في شهاداتهم، التي تكون بطبيعة الحال مستندة إلى الاطلاع على الآثار العلمية للشخص كالكتب الاستدلالية والمقالات العلمية والدروس العالية ونحوها، ممّا هو من نتاج فكره وجهده لا مقتبساً من أفكار وكتابات الآخرين.
وحذارِ من تعويل الشخص على نفسه في تشخيص اجتهاده فإنّ النفس خدّاعة، وكثيراً ما تعتقد بأنّ لصاحبها امكانات عقلية وعلمية تتفق مع رغبتها وهواها ولكن لا تطابق الواقع.
وكذلك حذارِ من التعويل على شهادة بعض الطلبة الذين لم يثبت بلوغهم مرحلة كافية من العلم تؤهّلهم لتشخيص المجتهد عن غيره.
كتب أستاذ الفقهاء والمجتهدين المحقق النائيني (قدّس سرّه) بخطّه الشريف في بعض أجوبة استفتاءاته: ((لا يخفى أنّ غير المجتهد إذا ادّعى الاجتهاد كان ذلك فسقاً لا يقاس بسائر الفسوق، وكان موجباً لأن يندرج مرتكبه في أتباع الغاصبين الأوّلين، فلو فرض أنّه كان معتقداً اجتهاد نفسه ومعذوراً في خطئه بأنْ عَرَض نفسه على عدلين من أهل الخبرة بالاجتهاد المطلق وهما أخطآ في اجتهاده وصدّقا اجتهاده خطأً منهما وهو اعتمد على تصديقهما وقام بما لا يجوز صدوره من غير المجتهد، ففي خصوص هذه الصورة لا يكون دعوى الاجتهاد وتصدي ما لا يجوز صدوره عن غير المجتهد قادحاً بعدالته وإلا كان من أعظم الفسوق وأعظم المعاصي وقد غصب مقام النيابة عن صاحبه أرواحناه فداه وصلى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين فاندرج في أتباع الظالمين الاوّلين)).
وبذلك يُعرف أنّه لا ينبغي أن يغترّ المرء بحضور عدد ولو غير قليل من الطلاب مجلس درسه وإن كان فيهم بعض الأذكياء فيتوهّم أنّه بلغ رتبة عالية من العلم، ولا سيّما أنّ دواعي الحضور متنوعة ولا تنحصر في الاعتقاد بأهلية المدرّس كما هو واضح.
ثالثاً: تجنّب الترويج لمَن يتصدّى لموقع علمي من تدريس أو غيره إلا بعد التأكد من أهليته لذلك، وإلا فلا مسوّغ له وأكتفي بذكر نحوين منه:
النحو الأول: إطلاق ألقاب علمية عالية كعنوان (آية الله) على جملة ممّن لديهم حلقات بحث الخارج، كما يُشاهد ذلك في العديد من قنوات الحوزويين على شبكة الانترنيت، مع أنّ هذا العنوان إنما ينبغي أن يطلق على مَن هو مسلّم الاجتهاد والفقاهة عند أهل الخبرة، وهو قليل جداً في هذه الأزمنة، ولا يصحّ أن يطلق على غيره وإن كان فاضلاً محترماً ومبلّغاً بارعاً، نعم للضرورة أحكامها ولكنّها لا تتمثّل في شيء من الموارد المشار إليها.
وبتعبير آخر لا ينبغي الخلط بين مقامين :
الأول: مقام العالم الفقيه القادر على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها المعروفة، بتمكّنه التامّ من أدواته وهي متنوعة ولا تنال بسهولة ـــ ومن أهمها علم الأصول والحديث والدراية والعلوم الأدبية ونحوها ـــ مع ممارسة معمّقة في هذا المجال والتحلّي باستقامة النظر في مرحلة تفريع الفروع على الأصول.
الثاني: مقام غيره من أهل الفضل، وقد يمتلك براعة في مخاطبة الجمهور وتثقيفهم وتوعيتهم، وهو عمل في غاية الأهمية ولكن لا يصح أن يسند المقام الأول إلى صاحبها إن لم تكن له مقوماته ولو كان له بعض الإلمام بها.
وبالجملة: لا يكفي أن تكون للشخص حلقة للبحث الخارج لكي يُتعامل معه معاملة المجتهد الفقيه ويطلق عليه لقب (آية الله)، ولا سيّما مع ما هو المعلوم من أنّه وفقاً للنظام التعليمي الحرّ والمتوارث للحوزات العلمية لا توجد جهة فاعلة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف تقوم بالتحكّم في إقامة دروس الخارج، ولذلك يلاحظ أنّ العديد من غير الكفوئين يتصدّون لها من دون رادعٍ أو مانع، فلا بدّ من الحذر التامّ بهذا الشأن.
ومن المؤسف ما نطلع عليه في الوسط الحوزوي من كتب مؤلّفة ودروس منشورة لأشخاص يلقبون بهذا اللقب (آية الله) مع أنّ تلك الكتب أو الدروس فاقدة لنصاب الاجتهاد بوضوح، بل فيها ما هو خارج الموازين العلمية تماماً، والسبيل الأنجع لعلاج مثل هذه من الظواهر غير الصحيحة هو الارتقاء بالمستوى العلمي للطلاب بصورة عامة حتى لا يجد مَن لا تحصيل له مجالاً للبروز في أوساطهم ولا أقلّ من أن يكونوا قادرين على تشخيص من ينبغي الاعتماد عليه من الفضلاء والطلاب النابهين في تمييز العالم الحقيقي عن غيره.
حكى لي سيدي الأستاذ الوالد (دامت بركاته) عن أستاذه المحقق الشيخ حسين الحلّي (رضوان الله عليه) أنّه كان يقول: ((من مزايا حوزة النجف أنها تُجلس كلّ شخص في المكان الذي يليق به))، وكان مقصوده (قدس سره) أنّه ربّما يحاول البعض أن يتقدّم ويحتل موقعاً من المواقع الحوزوية كالمرجعية والتدريس وإمامة الجماعة ونحوها وهو ليس أهلاً له فإنّ الحوزة لا تسمح له بذلك بل تُرجعه إلى حيث يناسبه، وكان هذا في أيام تزخر الحوزة بعشرات المجتهدين ومئات الفضلاء الذين لا يمكن مع وجودهم أن ينخدع أحد ببعض المظاهر الزائفة، وأصبحنا وللأسف في زمن يُطلق فيه العديد ممّن لا تحصيل لهم دعاوى فارغة وينخدع بهم البعض قلّوا أو كثروا.
النحو الثاني: الحضور في دروس غير المؤهلين فإنّه يعدّ ضرباً من الترويج لهم، ولا مبرّر له شرعاً حتى مع افتراض عدم خلوّه من بعض الاستفادة منهم، ولا ينبغي التساهل في هذا الأمر، ولو كان المدرّس يجهل عدم أهليته للتدريس فإنّ في الحضور لديه مسؤولية مضاعفة من حيث إغراؤه بالجهل.
ومن أسوأ الأمور وأقبحها وأضرّها ما إذا كان الحضور لنيل بعض المزايا المادية من مالية أو غيرها تُمنح للحضور، ولا تبرّره الحاجة في حال من الأحوال، وكان هذا الأمر في عُرف الحوزة العلمية في النجف الأشرف في أيام مجدها منقصةً شديدةً للدافِع وللآخِذ ويُسقط كليهما عن الاعتبار، وينبغي أن يكون كذلك.
إنّ الهدف من الحضور في أيّ درس يجب أن يتمحّض في الاستفادة منه، ومَن لا يستفيد من درس (ولو لسبب شخصي) لا ينبغي أن يحضر فيه، وتكثير السواد ليس مبرّراً لذلك.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله تعالى أن يوفقنا لِما فيه خير دنيانا وآخرتنا إنّه ولي التوفيق، وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين.
المصدر: شفقنا العربي