[اشترك]
يتداول على ألسنتنا أنّ فلانا أصبح بعيدا عن الله، أو أنّه نسي الله بعد أن تحسنت أموره. ورأينا أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص الذين نسوا الله كيف يصابون باليأس الذلة والهلع عند ما تنزل بهم أبسط الشدائد، بحيث لا نكاد نصدّق بأنّهم سبق وأن كانوا على غير هذه الحال!
[اشترك]
أجل، هكذا حال هؤلاء الجماعة من ضيقي التفكير وضعيفي الإيمان، وعلى العكس من ذلك حال أولياء الله، حيث تكون نفوسهم واسعة وأرواحهم وضاءة نيّرة إزاء المؤثرات التي تحيط بهم ولو بلغت في عتوها وضغطها مبلغا شديدا، إنّهم كالجبال في مقابل الصعوبات والشدائد، إذا وهبتهم الدنيا فلا يؤثر ذلك فيهم، وإذا أخذت منهم العالم أجمع لا يتأثرون.
والعجيب في الأمر أنّ هؤلاء القوم الذي يخسرون أنفسهم والذين تذكرهم السور القرآنية في آيات متعدّدة (مثل يونس ـ آية ١٢، لقمان ـ آية ٣٢، الفجر ـ آية ١٤، ١٥، فصلت ـ الآية ٤٨، ٤٩) هم أنفسهم يعودون إلى الله، ويستجيبون لنداء الفطرة عند ما تنزل بهم النوازل وتقع بساحتهم الشدائد، ولكنّهم عند ما تهدأ أمواج الحوادث والضواغط يتغيرون، أو في الواقع يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا ويكون مثلهم كمن لم يسمع بالله الذي خلقه وأنقذه!
إنّ العلاج الوحيد لهذا المرض هو رفع مستوى الفكر في ظل العلم والإيمان، وترك العبودية لما هو دون الله وسواه، وفك الارتباط مع الشهوة والمادة، والعيش في إطار من القناعة والزهد البنّاء.
وممّا ذكرنا تظهر الإجابة على سؤال، وهو : إنّ الآيات التي نبحثها تصف حال مثل هؤلاء الأشخاص عند الصعوبات والشدائد بـ «يؤوس» في حين أنّ آيات أخرى مثل الآية (٦٥) من سورة العنكبوت تصفهم بأنّهم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وهي دلالة على غاية التوّجه نحو الخالق عزوجل؟
في الواقع ليس ثمّة من تضاد بين هاتين الحالتين، بل إنّ إحداهما هي بمثابة مقدمة للأخرى، فهؤلاء الأشخاص عند ما تصادفهم المشكلات ييأسون من الحياة، وهذا اليأس يكون سببا لأنّ تزول الحجب عن فطرتهم ويلتفتون لخالقهم العظيم.
إنّ هذا التوّجه الاضطراري إلى الخالق عزوجل ـ طبعا ـ ليس فخرا لأمثال هؤلاء وليس دليلا على يقظتهم، لأنّهم بمجرّد انصراف المشاكل عنهم يعودون إلى حالتهم السابقة.
أمّا أولياء الحق وعباد الله المخلصون الحقيقيون فلا ييأسون عند ما يقعون في المشاكل والمحن، بل تزيدهم الصعوبات استقامة وصلابة على طريق الهدى، وبسبب اعتمادهم على الله وعلى أنفسهم فإنّهم يتمتعون بقوّة لمواجهة المشاكل ولا معنى لليأس في وجودهم.
إنّ هؤلاء ليسوا على صلة بالخالق في أوقات المشكلات وحسب، وإنّما في اتصال دائم معه في كل الحالات إذ يستمدون العون منه تعالى، وتكون قلوبهم منيرة برحمته وهدايته.
إنّ الكثير من الناس لا يذكرون الله إلّا عند بروز المشاكل. وينسونه في الرخاء، إنّ نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل، أي أنّه صار طبيعة، ثانية لهؤلاء، لذا فإنّ ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والالتفات إلى وقائع الحياة الحقّة تعتبر حالة استثنائية في وجودهم، تحتاج في حضورها إلى عوامل إضافية، فما دامت هذه العوامل الإضافية موجودة فهم يذكرون الله، أمّا إذا زالت فسوف يرجعون إلى طبيعتهم المنحرفة وينسون الله.
[اشترك]
والخلاصة، أنّنا لا نجد من الناس بصورة عامّة من لا يلجأ إلى الله ولا يخضع له عند ما تضغطه المشاكل الحادّة والصعبة، ولكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفه بالوعي الإجباري، هو وعي عديم الفائدة.
إنّ المؤمنين والمسلمين الحقيقيين، يذكرون الله في الراحة والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى، في السجن وعلى كرسي الحكم، وفي أي وضع كان. إنّ تغيير الأوضاع وتبدّل الحالات لا يغيّر هؤلاء. إنّ أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هذه الأمور، مثلهم في ذلك علي بن أبي طالب عليهالسلام، حيث كانت عبادته وزهده ومتابعته لأمور الفقراء لا تختلف عند وجوده في السلطة، أو عند ما كان جليس بيته.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ـ يقول في وصف المتقين : «نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء».
وخلاصة القول: إنّ الإيمان والارتباط بالله وعبادته والتوسل به والتوبة إليه والتسليم له سبحانه وتعالى، كل هذه الأمور تكون مهمّة وثمينة وذات أثر عند ما تكون دائمية وثابتة، أمّا الإيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية، والتي تفرضها حالات خاصّة يمرّ بها الإنسان ويبغي من خلالها جلب بعض المنافع له، فليس لها أثر ولا قيمة. والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائما.
عندما تقول الآية المباركة "إنما يتقبل الله من المتقين" فهل يفهم منها أن الله لا يقبل الأعمال الصالحة من غير المتقين؟ وبناء على فهمه منها ألا يؤدي ذلك إلى عدم حرص غير المتقي على فعل الصالحات بذريعة أنه لن يُقبل منه؟
[اشترك]
الجواب من سماحة آية الله السيد منير الخباز:
لا إشكال أن للقبول مراتب كما أن للتقوى مراتب، فلكل مرتبة من القبول بإزائها مرتبة من التقوى، فالشخص المصر على المعصية مع التفاته إليها وإصراره عليها يكون فاقداً لأدنى مراتب التقوى، وبالتالي يكون فاقداً لأدنى مراتب القبول ولكن الشخص الذي يعصي الله ولكنه يتأذى ويتألم من المعصية، وقد يتوب وقد يعود إلى الذنب مرة أخرى فإن هذا الشخص واجد لمرتبة من مراتب التقوى وإن لم يكن تقياً بالمعنى الأتم.
إلا أن تألمه من الذين الذي يرتكبه هو مرتبة من مراتب التقوى، بإزاء هذه المرتبة يحظى بمرتبة من مراتب القبول وهو إعطاء الثواب على العمل الصالح الذي قام به، وأما إذا كان بمستوى درجة العدالة والوثاقة فإن بإزاء هذه المرتبة من التقوى يحصل على مرتبة أخرى من القبول وهي أن يكون لهذا العمل آثار أخروية متنامية؛ حيث إن الأعمال الصالحة لها آثار متنامية، نظير الشجرة المباركة التي تنمو في كل آنٍ وفي كل لحظة بثمر جديد، فهذه الآثار المتنامية هي درجة أخرى من القبول غير أصل العمل وإذا كان في منتهى مراتب التقوى كان عمله في منتهى درجات القبول، فقد يكون عمله سبباً لأن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
عن الرّضا صلوات الله وسلامه عليه قال : من صام ثلاثة أيّام من آخر شعبان ووصلها بشهر رمضان كتب الله تعالى له صيام شهرين متتابعين، وعن أبي الصّلت الهروي قال : دخلت على الامام الرّضا (عليه السلام) في آخر جمعة من شعبان فقال لي: يا أبا الصّلت انّ شعبان قد مضى اكثره وهذا آخر جمعة فيه فتدارك فيما بقى تقصيرك فيما مضى منه وعليك بالاقبال على ما يعنيك، واكثر من الدّعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتب الى الله من ذنوبك ليقبل شهر رمضان اليك وأنت مخلص لله عزّوجل، ولا تدعنّ امانة في عنقك الّا أدّيتها ولا في قلبك حقداً على مؤمن الّا نزعته، ولا ذنباً انت مرتكبه إلاّ أقلعت عنه، واتقّ الله وتوكّل عليه في سرائرك وعلانيتك(وَمَنْ يَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ اِنَّ اللهَ بالِغُ اَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىء قَدْراً) واكثر من أن تقول في ما بقى من هذا الشّهر : اَللّـهُمَّ اِنْ لَمْ تَكُنْ غَفَرْتَ لَنا فيما مَضى مِنْ شَعْبانَ فَاغْفِرْ لَنا فيما بَقِيَ مِنْهُ، فانّ الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشّهر رقاباً من النّار لحرمة هذا الشّهر، وروى الشّيخ عن حارث بن مغيرة النّضري قال : كان الصّادق صلوات الله وسلامه عليه يدعو في آخر ليلة من شعبان وأوّل ليلة من رمضان :
[اشترك]
اَللّـهُمَّ اِنَّ هذَا الشَّهْرَ الْمُبارَكَ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرآنُ وَجُعِلَ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتِ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ قَدْ حَضَرَ فَسَلِّمْنا فيهِ وَسَلَّمْهُ لَنا وَتَسَلِّمْهُ مِنّا في يُسْر مِنْكَ وعافِيَة، يا مَنْ اَخَذَ الْقَليلَ، وَشَكَرَ الْكَثيرَ، اِقْبَل مِنِّى الْيَسيرَ، اَللّـهُمَّ اِنّي اَساَلُكَ اَنْ تَجْعَلَ لي اِلى كُلِّ خَيْر سَبيلاً، وَمِنْ كُلِّ ما لا تُحِبُّ مانِعاً، يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ، يا مَنْ عَفا عَنّي وَعَمّا خَلَوْتُ بِهِ مِنَ السَّيِّئاتِ، يا مَنْ لَمْ يُؤاخِذْني بِارْتِكابِ الْمَعاصي، عَفْوَكَ عَفْوَكَ عَفْوَكَ ياكَريمُ، اِلـهي وَعَظتَني فَلَمْ اَتَّعِظْ، وَزَجَرْتَني عَنْ مَحارِمِكَ فلَمْ اَنْزَجِرْ، فَما عُذْري، فَاعْفُ عَنّي يا كَريمُ، عَفْوَكَ عَفْوَكَ، اَللّـهُمَّ اِنّي اَساَلُكَ الرّاحَةَ عًنْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسابِ، عَظُمَ الذَّنْبُ مِنْ عَبدِكَ فَلْيَحْسُنِ التَّجاوُزُ مِنْ عِنْدِكَ، يا اَهْلَ التَّقْوى وَيا اَهْلَ الْمَغْفِرَةِ، عَفْوَكَ عَفْوَكَ، اَللّـهُمَّ اِنّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ وابنُ اَمَتِكَ، ضَعيْفٌ فَقيرٌ اِلى رَحْمَتِكَ وَاَنْتَ مُنْزِلُ الْغِنى والْبَرَكَةِ عَلَى الْعِبادِ قاهِرٌ مُقْتَدِرٌ اَحْصَيْتَ اَعمالَهُمْ، وَقَسَمْتَ اَرْزاقَهُمْ، وَجَعَلْتَهُمْ مُخْتَلِفَةً اَلْسِنَتُهُمْ وَاَلْوانُهُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْق، وَلايَعْلَمُ الْعِبادُ عِلْمَكَ، وَلا يَقْدِرُ الْعِبادُ قَدْرَكَ، وَكُلُّنا فَقيرٌ اِلى رَحْمَتِكَ، فَلا تَصْرِفْ عَنّي وَجْهَكَ، واجْعَلْني مِنْ صالِحِي خَلْقِكَ الْعَمَلِ وَالاْمَلِ وَالْقَضاءِ وَالْقَدَرِ، اَللّـهُمَّ اَبْقِني خَيْرَ الْبَقاءِ، وَاَفِنني خَيْرَ الْفَناءِ عَلى مُوالاةِ اَوْلِيائِكَ وَمُعادةِ اَعْدائِكَ، والرَّغْبَةِ اِلَيْكَ، والرَّهْبَةِ مِنْكَ وَالْخُشُوعِ وَالْوَفاء وَالتَّسْليمِ لَكَ وَالتَّصْديقِ بِكِتابِكَ وَاتّباعِ سُنَّةِ رَسُولِكَ، اَللّـهُمَّ ما كانَ في قَلْبي مِنْ شَكٍّ اَوْ رَيْبَة اَوْ جُحُود اَوْ قُنُوط اَوْ فَرَح اَوْ بَذَخ اَوْ بَطَر اَوْ خُيَلاءِ اَوْ رِياء اَوْ سُمْعَة اَوْ شِقاق اَوْ نِفاق اَوْ كُفْر اَوْ فُسُوق اَوْ عِصْيان اَوْ عَظَمَة اَوْ شَيء لا تُحِبُّ فَاَسْأَلُكَ يا رَبِّ أنْ تُبَدِّلَني مَكانَهُ ايماناً بِوَعْدِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ، وَرِضاً بِقَضائِكَ، وَزُهْداً فِي الدُّنْيا، وَرَغْبَةً فيما عِنْدَكَ، وَاَثَرَةً وَطُمَأنينَةً وَتَوْبَةً نَصُوحاً اَساَلُكَ ذلِكَ يا رَبَّ الْعالَمينَ، اِلـهي اَنْتَ مِنْ حِلْمِكَ تُعْصى، وَمِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ تُطاعُ، فَكَانَّكَ لَمْ تُعْصَ وَاَنَا وَمَنْ لَمْ يَعْصِكَ سُكّانُ اَرْضِكَ، فَكُنْ عَلَيْنابِالْفَضْلِ جَواداً، وَبِالْخَيْرِ عَوّاداً يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ صَلاةً دائِمَةً لا تُحْصى وَلا تُعَدُّ وَلا يَقْدِرُ قَدْرَها غَيْرُكَ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ .
المصدر: مفاتيح الجنان ، تأليف : الشيخ عبّاس القمي
التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة 1، وهي بعبارة اخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.
[اشترك]
لهذا السبب وصف أمير المؤمنين علي عليه السّلام التقوى بأنها الحصن الذي يقي الإنسان أخطار الانزلاق إذ قال: «اعلموا عباد اللّه أنّ التّقوى دار حصن عزيز»2.
وفي النصوص الدينية والأدبية تشبيهات كثيرة تجسّم حالة التقوى، فعن الإمام علي عليه السّلام قال: «ألا و إنّ التّقوى مطايا ذلل، حمل عليها أهلها، و أعطوا أزمّتها، فأوردتهم الجنّة» 3.
و عبد اللّه بن المعتز شبّه التقوى بحالة رجل يسير على طريق شائكة، و يسعى إلى أن يضع قدمه على الأرض بتأنّ و حذر، كي لا تخزه الأشواك، أو تتعلق بثيابه، يقول:
خــــل الذّنـوب صغيـرها و كبــيرها فهـــــو التّـــقى
و اصنع كـماش فوق أر ض الشّوك يحذر ما يرى
لا تحـــقـــــرنّ صــغيــــرة إنّ الجبــال من الحصــى!4
هذا التشبيه يفيد أيضا أن التقوى لا تعني العزلة والانزواء عن المجتمع، بل تعني دخول المجتمع، و خوض غماره، مع الحذر من التلوّث بأدرانه إن كان المجتمع ملوثا.
بشكل عام، فانّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان باللّه واليوم الآخر. و معيار فضيلة الإنسان و افتخاره، و مقياس شخصيته في الإسلام، حتى أضحت الآية الكريمة: ﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... ﴾ 5 شعارا إسلاميا خالدا.
يقول الامام عليّ عليه السّلام «انّ تقوى اللّه مفتاح سداد، وذخيرة معاد، و عتق من كلّ ملكة، و نجاة من كلّ هلكة»6.
جدير بالذكر أن التقوى ذات شعب و فروع، منها التقوى المالية و الاقتصادية، و التقوى الجنسية و الاجتماعية و التقوى السياسية7.
الهوامش:
1. يقول الراغب في مفرداته: الوقاية حفظ الشيء ممّا يؤذيه و يضرّه، و التقوى جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، لذلك يسمى الخوف تارة تقوى بينما الخوف سبب للتقوى. و في عرف الشرع، التقوى حفظ النفس عمّا يؤثم. و «كمال التقوى» اجتناب المشتبهات.
2. نهج البلاغة، الخطبة 157.
3. نهج البلاغة، الخطبة 16.
4. تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 1، ص 62.
5. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
6. نهج البلاغة، الخطبة 230.
7. المصدر: كتاب الامثل في تفسير كتاب الله المنزل، لسماحة آية الله الشيخ مكارم الشيرازي
الخطوات العملية والبرامج التفصيلية للعمل الصالح ليست مجدية إذا لم يكن الإيمان مستقر في القلب؛ لأن رسوخ قدم الإنسان في العمل الصالح هو نتيجة حتمية لرسوخه في الإيمان، والثبات على العمل الصالح لابد أن يسبقه ثبات على الإيمان، ولذا نجد معظم آيات القرآن التي أمرت بعمل الصالحات جاءت مقترنة مع الأيمان، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).
[اشترك]
وما يصيب الإنسان من اقبال واعراض في عمل الصالحات يعود إلى الاقبال والاعراض الذي يحدث على مستوى الإيمان، وقد اكدت النصوص على أن الذنب لا يصدر من المؤمن وهو مؤمن، ففي الحديث عن رسول الله رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) وعليه لابد أن يكون سعي الإنسان منصباً في مراقبة إيمانه والعمل على تثبيته في قلبه، قال تعالى: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَان) فمن كتب الإيمان في قلبه يكون عمله صالحاً بالضرورة، فعن الأمام الصادق (عليه السلام) قال: (وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر، ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن)، وقد ميزت النصوص بين الإيمان المستودع الذي يكون عند الإنسان مجرد وديعة، وهم الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل عارض من شبهة) وبين الايمان المستقر الذي يكون ثابتاً تزول الجبال ولا يزول، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (المستقرّ ما استقرّ الإيمان في قلبه، فلا ينزع منه أبداً، والمستودع الّذي يستودع الإيمان زماناً ثمّ يسلبه)، والإيمان المستقر لا يكون إلا عن عقيدة قائمة على العلم واليقين، وعن أيمان نابع عن وعي وبصيرة، ولا طريق لذلك إلا بالعلم والتفكر والتدبر والاهداء الدائم للحق، مضافاً إلى تزكية النفس من الاهواء والشهوات، وقد وصف أمير المؤمنين أهل الصلاح بالعلم والبصيرة حيث قال في حقهم: (هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى) فبدون العلم والبصيرة لا يكون الإيمان مستقراً وبدون استقرار الإيمان لا يستقر الإنسان على عمل الصالحات، وعليه إذا كان العلم هو طريق الصلاح والجهل هو طريق الفساد فحينها تصبح كل الخطوات العملية لتحصيل العلم هي ذاتها الخطوات لتحصيل الصالحات، وبذلك نفهم الروايات التي تتحدث عن معرفة الله ووجوب طلب العلم والتفقه في الدين والتدبر في الآيات على أنها أساس لثبات الإيمان.
والاهتداء إلى الصراط المستقيم يكون بمعرفة أهل الصراط والسير على طريقتهم، ولذا نسأل الله الهداية إلى صراط الذين أنعم عليهم، وكذلك الحال بالنسبة للصلاح لا يكون إلا بمعرفة أهل الصلاح والاقتداء بهم، يقول أمير المؤمنين لكميل بن زياد: (يا كميل إنّه مستقر ومستودع واحذر أن تكون من المستودعين. يا كميل إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت الجادّة الواضحة الّتي لا تخرجك إلى عوج ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وهديناك إليه) حيث يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) كميل بالاهتداء بأهل الحق في قوله (ما حملناك عليه وهديناك إليه) وهو بذلك يشير إلى ضرورة الالتزام بمنهج أهل الحق وهم الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام)
وفي المحصلة الثبات على عمل الصالحات متعلق بالثبات على الايمان، وكل أمر يساعد على ثبات الإيمان يعد خطة عملية للصلاح، فما يؤدي إلى تقوية الإيمان يؤدي إلى بالضرورة لتقوية الصالحات، فإذا تيقن قلب الإنسان بالحق كان عمله صالحاً وإذا اضطرب قلبه وضعف يقينه كان عمله فاسداً، ولا يمكن أن يستغني الإنسان عن توفيق الله وتسديده ولذا لابد أن يكون الإنسان في حالة من الدعاء الدائم بالثبات على الهدى والايمان، قال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)".
الأول: أن يقول في كل يوم سبعين مرة: اسْتَغْفِرُ الله وَأَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ 1.
الثاني: أن يستغفر كل يوم سبعين مرة قائلاً: أسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ الحَيُّ القَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ 2، ووردت كلمة الحي القيوم في بعض الروايات قبل كلمة الرحمن الرحيم 1. وبأيّ الروايتين عمل فقد أحسن، والاستغفار كما يستفاد من الروايات أفضل الأدعية والأذكار في هذا الشهر، ومن استغفر في كل يوم من هذا الشهر سبعين مرة كان كمن استغفر الله سبعين ألف مرة في سائر الشهور 1.
الثالث: أن يتصدق في هذا الشهر ولو بنصف تمرة ليحرم الله جسده على النار 3.
وعن الصادق عليه السلام أنه سئل عن صوم رجب فقال: أين أنتم عن صوم شعبان؟ فقال له الراوي: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآلهما ثواب من صام يوما من شعبان؟ فقال : الجنة والله. فقال الراوي: ما أفضل ما يفعل فيه؟ قال: الصدقة والاستغفار ومن يتصدق بصدقة في شعبان ربّاها الله تعالى كما يربّي أحدكم فصيله حتى يوافى يوم القيامة وقد صار مثل أُحُد 4.
الرابع: أن يقول في شعبان ألف مرة: لا إِلهَ إِلاّ الله وَلا نَعْبُدُ إِلاّ إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ. ولهذا العمل الشريف أجر عظيم ويكتب لمن أتى به عبادة ألف سنة 5.
الخامس: أن يصلّي في كل خميس من شعبان ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد مائة مرة، فإذا سلّم صلى على النبي وآله مائة مرة ليقضي الله له كل حاجة من أمور دينه ودنياه 6.
ويستحب صيامه أيضاً، ففي الحديث تتزيّن السَّماوات في كل خميس من شعبان فتقول الملائكة : إلهنا اغفر لصائمه وأجبْ دعائَه 6.
وفي (النبوي): من صام يوم الاثنين والخميس من شعبان قضى الله له عشرين حاجة من حوائج الدنيا وعشرين حاجة من حوائج الآخرة 7.
السادس: الإكثار في هذا الشهر من الصلاة على محمد وآله 8.
السابع: أن يصلّي عند كل زوال من أيام شعبان، وفي ليلة النصف منه بالصلوات الشعبانية المرويّة عن السجاد عليه السلام.
الثامن: أن يقرأ المناجاة الشعبانية التي رواها ابن خالويه وقال: إنها مناجاة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام كانوا يدعون بها في شهر شعبان.
وهذه مناجاة جليلة القدر منسوبة إلى أئمتنا عليهمالسلام مشتملة على مضامين عالية ، ويحسن أن يدعى بها عند حضور القلب متى كان 9.
الهوامش:
1. رواه المجلسي في زاد المعاد : 49 عن الصادق عليهالسلام نقلاً عن كتاب حسين بن سعيد.
2. مصباح المتهجّد : 829.
3. رواه المجلسي في زاد المعاد : 47 عن الرضا عليهالسلام.
4. الاقبال 3 / 294 فصل 8.
5. الاقبال 3 / 294 فصل 9 عن النبيّ صلىاللهعليهوآله مع اختلاف لفظي واضافات.
6. a. b. الاقبال 3 / 301 فصل 11 فصل 11 عن رسول الله صلىاللهعليهوآله.
7. الاقبال 3 / 301 فصل 11.
8. رواه المجلسي في زاد المعاد : 49 عن الصادق عليهالسلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآله نقلاً عن كتاب حسين بن سعيد.
*المصدر: مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي قدس سره
آثار وفضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام
أيا زائراً قبراً على العرش قد علا |
تضمّن سبط المصطفى خيرة الملا |
هل دمعك القاني وقل متمثلاً |
أيقتل عطشاناً حسين بكربلا |
مَن زاره عليه السلام ماشياً
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ الرجل ليخرج إلى قبر الحسين عليه السلام فله إذا خرج من أهله بأوّل خطوة مغفرة ذنوبه، ثمّ لم يزل يقدس بكلّ خطوة حتّى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله تعالى فقال: عبدي سلني اعطك، ادعني اجبك، اطلب مني اعطك، سلني حاجةً اقضها لك، قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: وحقّ على الله أن يعطي ما بذل (۱).
وأيضاً عن عبد الله بن هلال، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلتُ له: جعلت فداك ما أدنى ما لزائر قبر الحسين عليه السلام فقال لي:
يا عبد الله إنّ أدنى ما يكون له أن يحفظه في نفسه وأهله حتّى يردّه إلى أهله، فإذا كان يوم القيامة كان الله الحافظ له (۲).
كرامة الله لزوّار الحسين عليه السلام:
عن عبد الله الطحان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته وهو يقول: ما من أحد يوم القيامة إلّا وهو يتمنّى أنّه من زوّار الحسين لما يرى ممّا يصنع بزوّار الحسين عليه السلام من كرامتهم على الله تعالى (۳).
وعنه عليه السلام أيضاً قال: مَن سرّه أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوّار الحسين بن علي عليه السلام (٤).
أيّام زائري الحسين عليه السلام لا تعد من أعمارهم:
عن الإمام الرضا عليه السلام عن أبيه قال: قال أبو عبد الله جعفر الصادق عليه السلام: إنّ أيام زائري الحسين عليه السلام لا تُحسب من أعمارهم ولا تُعد من أجالهم (٥).
إنّ زائر الحسين عليه السلام يكون في جوار رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلي وفاطمة عليهما السلام:
عن أبي خالد ذي الشامة، قال: حدّثني أبو اسامة قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: مَن أراد أن يكون في جوار نبيّه صلّى الله عليه وآله وجوار علي وفاطمة فلا يدع زيارة الحسين بن علي عليه السلام (٦).
إن زائر الحسين عليه السلام يدخل الجنّة قبل الناس:
عن عبد الله بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنّ لزوّار الحسين بن علي عليه السلام يوم القيامة فضلاً على الناس، قلتُ: وما فضلهم ؟ قال: يدخلون الجنّة قبل الناس بأربعين عاماً وسائر الناس في الحساب والموقف (۷).
مَن زار الحسين عليه السلام كَمن زار الله في عرشه:
عن زيد الشحام، قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: ما لمَن زار قبر الحسين عليه السلام قال: كان كمَن زار الله في عرشه (۸).
مَن زار الحسين عليه السلام كُتب في أعلى عليّين:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: مَن أتى الحسين عليه السلام عارفاً بحقّه كتبه الله في أعلى عليّين (۹).
إنّ زيارة الحسين عليه السلام تزيد في العمر والرزق:
عن الإمام الباقر عليه السلام قال: مرّوا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام، فإنّ إتيانه يُزيد في الرزق ويمدّ في العمر ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من الله (۱۰).
إنّ زيارة الحسين عليه السلام تحطّ الذنوب:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
مَن أراد أن يكون في كرامة الله يوم القيامة وفي شفاعة محمّد صلّى الله عليه وآله فليكن للحسين زائراً ينال من الله الفضل والكرامة وحسن الثواب، ولا يسأله عن ذنب عمله في حياة الدنيا، ولو كانت ذنوبه عدد رمل عالج وجبال تهامة وزبد البحر، إنّ الحسين عليه السلام قُتل مظلوماً مضطهداً نفسه عطشاناً هو وأهل بيته وأصحابه (۱۱).
إنّ زيارة الحسين عليه السلام تعدل عمرة وتعدل حجّة:
عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: سأل بعض أصحابنا أبا الحسن الرضا عليه السلام، عَمّن أتى قبر الحسين عليه السلام، قال: تعدل عمرة (۱۲).
روى محمّد بن سنان قال: سمعتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: من أتى قبر الحسين عليه السلام كتب الله له حجّة مبرورة (۱۳).
إنّ زيارة الحسين عليه السلام تعدل عتق الرقاب:
عن أبي سعيد المدائني، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام فقلت:
جعلت فداك أتي قبر ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: نعم يا أبا سعيد ائتِ قبر ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله أطيب الطيّبين وأطهر الأطهرين وأبرّ الأبرار، فإذا زرته كتب الله لك عتق خمسة وعشرين رقبة (۱٤).
إنّ زوّار الحسين عليه السلام مشفّعون:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى يتجلّى لزوار قبر الحسين عليه السلام قبل أهل عرفات ويقضي حوائجهم ويغفر ذنوبهم ويشفّعهم في مسائلهم، ثمّ يثنّي بأهل عرفات فيفعل بهم ذلك (۱٥).
إنّ زيارة الحسين عليه السلام يُنفّس بها الكرب وتُقضى بها الحوائج:
عن الإمام الصادق عليه السلام: قال: إنّ إلى جانبكم لقبراً ما أتاه مكروب إلّا نفّس الله كربته وقضى حاجته (۱٦).
في جامع الأخبار: أن الله ـ تعالى ـ يخلق من عرق زوّار الحسين عليه السلام من كلّ عرقة سبعين ألف ملك يسبّحون الله ويهللونه.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: من زار الحسين عليه السلام أوّل يوم من رجب غفر الله له البتة.
روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: من زار قبر الحسين عليه السلام يوم عرفة كتب الله له ألف ألف حجّة مع القائم ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ، وألف ألف عمرة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعتق ألف نسمة وحملان ألف فرس في سبيل الله، وسمّاه الله عزّ وجل عبدي الصدّيق آمن بوعدي، وقالت الملائكة فلان صديق زكّاه الله من فوق عرشه، وسمى في الأرض وينادي منادي هذا من زوّار الحسين ابن علي عليه السلام شوقاً إليه فلا يبقى أحد في القيامة إلّا تمنّى يومئذ أنّه كان من زوّار الإمام الحسين عليه السلام (۱۷).
إن الله تعالى يبدأ بالنظر إلى زوّار قبر الحسين عليهالسلام عشيّة عرفة قبل أن ينظر إلى أهل الموقف، وأنّ يوم عرفة له من الفضل، وقد وردت أخبار كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام منها ما رواه بشير الدهان عن الإمام الصادق عليه السلام وذلك حين سأله وقال له: سيّدي ربّما فاتني الوقوف بعرفات فأعرّف عند قبر الحسين عليه السلام فقال له الإمام: أحسنت يا بشير أيما مؤمناً أتى قبر الحسين عليه السلام عارفاً بحقّه في غير عيد يوم عرفة كتب له عشرون حجّة وعشرون عمرة مبرورات متقبلات وعشرون غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: أربعة آلاف ملك شعث غبر يبكون الحسين عليه السلام إلى أن تقوم الساعة فلا يأتيه أحد إلّا استقبلوه ولا يرجع أحد إلّا شيّعوه ولا يمرض إلّا عادوه ولا يموت إلّا شيّعوه (۱۸).
وفي كامل الزيارات روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: كان الحسين بن علي عليهما السلام ذات يوم في حجر النبي صلّى الله عليه وآله يلاعبه ويضاحكه فقالت عائشة: يا رسول الله ما أشدّ إعجابك بهذا الصبيّ ؟! فقال لها: ويلك وكيف لا أحبّه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرّة عيني، أما إن أُمّتي ستقتله فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجّة من حججي، فقالت: يا رسول الله حجّة من حججك، قال: نعم، وأربعة، قال: ولم تزل تزاده وهو صلّى الله عليه وآله يزيد ويضعف حتّى بلغ تسعين حجّة من حجج رسول الله بأعمارها.
وأيضاً في الكامل عن يونس عن الرضا عليه السلام قال: من زار الحسين عليه السلام فقد حجّ واعتمر، قلت: يطرح عنه حجّة الإسلام قال: لا هي حجّة الضعيف حتّى يقوى ويحجّ إلى بيت الله الحرام، أما علمت أن البيت يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملك حتّى إذا أدركهم الليل صعدوا ونزل غيرهم فطافوا بالبيت حتّى الصباح، وإن الحسين عليه السلام لأكرم إلى الله من البيت، وإنّه في وقت كلّ صلاة لينزل عليه سبعون ألف ملك شعث غبر لا يقع عليهم النوبة إلى يوم القيامة.
وروي أن امرأة يقال لها أُمّ سعيد الأحمسيّة وهذه المرأة من أهل العراق وقد ذهبت إلى زيارة الشهداء في المدينة في زمان الإمام الصادق عليه السلام قالت: فجئت إلى الصادق عليه السلام فدخلت عليه فجاءت الجارية فقالت: قد جئتك بالدابّة فقال عليه السلام: يا أُمّ سعيد أيّ شيء هذه الدابّة أين تبغين تذهبين، قلت: أزور قبور الشهداء ؛ فقال عليه السلام: ما أعجبكم يا أهل العراق تأتون الشهداء من سفر بعيد وتتركون سيّد الشهداء ألا تأتونه، قالت: فقلت له: مَن سيد الشهداء ؟ فقال عليه السلام: هو الإمام الحسين عليه السلام بن علي بن أبي طالب عليه السلام، تقول: فقلت له: إنّي امرأة، فقال: لا بأس لمن مثلك أن تذهب إليه وتزوره، فقلت: أيّ شيء لنا في زيارته، قال: كعدل حجّة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وصيامها وخير منها قالت: وبسط يده وضمّها ثلاث مرّات، ثم قال عليه السلام: يا أُمّ سعيد تزورين قبر الحسين، قالت: قلت: نعم، قال: يا أُمّ سعيد زوريه فإنّ زيارته واجبة على الرجال والنساء (۱۹).
وفي البحار عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا سدير تزور قبر الحسين في كلّ يوم، قلت: لا، فقال: ما أجفاكم فتزوره في كلّ شهر قلت: لا، قال: أفتزوره في كلّ سنة، قلت: قد يكون ذلك، قال: يا سدير ما أفجاكم بالحسين عليه السلام، أما علمت أن لله ألف ألف ملك شعث غبر يبكون فيزورون لا يفترون، وعليك يا سدير أن تزور قبر الحسين في الجمعة خمس مرّات وفي كلّ يوم مرّة، قلت: جعلت فداك بيننا وبينه فراسخ كثيرة، قال لي: إصعد فوق سطحك ثمّ تلفت يمنة ويسرة ثمّ ترفع رأسك إلى السماء ثمّ تنحو نحو القبر وتقول: « السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك ورحمة الله وبركاته » يكتب لك بكلّ زيارة حجّة وعمرة.
روي عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقاً إليه وتقطعت أنفاسهم عليه حسرات.
وقال عليه السلام: من أتاه متشوّقاً كتب الله له ألف حجّة متقبّلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أُريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سنة من كلّ آفة، وإن مات في سنته حضرته الملائكة وهم ملائكة الرحمة، يحضرون غسله وإكفانه والاستغفار له، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير أن يروعاه، ويفتح له باب إلى الجنّة، ويعطى كتابه بيمينه ويعطى يوم القيامة نوراً ليضيء لنوره ما بين المشرق، والمغرب وينادىٰ هذا من زوّار قبر الحسين بن علي عليه السلام، ثمّ يقول الإمام عليه السلام: إذا اغتسل الزائر من ماء الفرات تساقطت عنه ذنوبه كيوم ولدته أُمّه (۲۰).
الهوامش
۱. كامل الزيارات لابن قولويه القمي: ۲٥۳، الحديث ۳۷۹، الباب التاسع والأربعون.
۲. بحار الأنوار ۱۰۱: ۷۸.
۳. الوسائل للحر العاملي ۱٤: ٤۲٤.
٤. بحار الأنوار ۱۰۱: ۷۲.
٥. التهذيب للشيخ الطوسي ٦: ۳٦.
٦. كامل الزيارات لابن قولويه القمي: ۲٦۰، الحديث ۳۹۲.
۷. بحار الأنوار ۱۰۱: ۲٦.
۸. المستدرك الوسائل ۱۰: ۱۱٥.
۹. ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ۱۱۰.
۱۰. بحار الأنوار ۱۰۱: ۳.
۱۱. بحار الأنوار ۱۰۱: ۲۷.
۱۲. ثواب الأعمال للصدوق: ۱۱۲.
۱۳. كامل الزيارات لابن قولويه القمي: ۲۹٤، الحديث ٤۸۲.
۱٤. الوسائل للحرّ العاملي ۱٤: ٤٤۸.
۱٥. مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ٤۹۷.
۱٦. بحار الأنوار ۱۰۱: ٤٥.
۱۷. من مجالس عاشوراء للشيخ كاظم الاحسائي النجفي: ۳۱۸.
۱۸. نفس المصدر.
۱۹. نفس المصدر: ۳۲۰ .
۲۰. نفس المصدر: ۳۱۸.
مقتبس من كتاب: [ النور المبين في شرح زيارة الأربعين ] / الصفحة: ۱۸ ـ ۲٥
الشيخ عباس القمي (ره):
يوم المبعث هو عيد من الأعياد العظيمة وفيه كان بعثة النبي صلىاللهعليهوآله وهبوط جبرئيل عليه صلىاللهعليه وآله بالرسالة ، ومن الاعمال الواردة فيه :
[اشترك]
الأول : الغسل1.
الثاني : الصيام ، وهذا اليوم أحد الأيام الأَرْبعة التي خصت بالصيام بين أيام السنة ، ويعدل صوم هذا اليوم صيام سبعين سنة2.
الثالث : الاكثار من الصلاة على محمد وآل محمد3.
الرابع : زيارة النبي و زيارة أمير المؤمنين عليهما وآلهما السلام4.
الخامس : قال الشيخ في (المصباح) : روى الرّيان بن الصَّلت قال : صام الجواد عليهالسلام لما كان ببغداد يوم النصف من رجب ويوم سبع وعشرين منه وصام جميع حشمه وأمرنا ان نصلي الصلاة التي هي اثنتا عشرة ركعة تقرأ في كل ركعة الحمد وسورة ،فإذا فرغت قرأت الحمد أربعاً وقل هو الله أحد أربعاً والمعوّذتين أربعاً وقلت أربعاً :
لا إِلهَ إِلاّ الله وَالله أَكْبَرُ وَسُبْحانَ الله وَالحَمْدُ للهِ وَلا حَوْلَ وَلاقُوَّةَ إِلاّ بِالله العَلِيِّ العَظِيمِ ، وأربعا : الله الله رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، وأربعاً : لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً1.
السادس : روى الشيخ أيضاً عن أبي القاسم حسين بن روح (رض) قال : تصلي في هذا اليوم اثنتي عشرة ركعة تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وما تيسّر من السور وتتشهد وتسلم وتجلس وتقول بين كل ركعتين :
الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً يا عُدَّتِي فِي مُدَّتِي يا صاحِبي فِي شِدَّتِي يا وَلِيِّي فِي نِعْمَتِي يا غِياثِي فِي رَغْبَتِي يا نَجاحِي فِي حاجَتِي يا حافِظِي فِي غَيْبَتِي يا كافِيَّ فِي وَحْدَتِي يا أنْسِي فِي وَحْشَتِي ، أَنْتَ الساتِرُ عَوْرَتِي فَلَكَ الحَمْدُ وَأَنْتَ المُقِيلُ عَثَرتِي ، فَلَكَ الحَمْدُ وَأَنْتَ المُنْعِشُ صَرْعَتِي فَلَكَ الحَمْدُ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَاسْتُرْ عَوْرَتِي وَآمِنْ رَوْعَتِي وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَاصْفَحْ عَنْ جُرْمِي وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِّئاتِي فِي أَصْحابِ الجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. فإذا فرغت من الصلاة والدعاء قرأت الحمد والاخلاص والمعوّذتين و (قل يا أيها الكافرون) و (إنا أنزلناه) وآية الكرسي سبع مرات ، ثم تقول : لا إِلهَ إِلاّ الله وَالله أَكْبَرُ وَسُبْحانَ الله وَالحَمْدُ للهِ وَلا حَوْلَ وَلاقُوَّةَ إِلاّ بِالله سبع مرات ، ثم تقول سبع مرات : الله الله رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، وتدعو بما أحببت5.
السابع : في (الاقبال) وفي بعض نسخ (المصباح) : أنه يستحب الدعاء في هذا اليوم بهذا الدعاء:
يا مَنْ أَمَرَ بِالعَفْوِ وَالتَّجاوُزِ وَضَمَّنَ نَفْسَهُ العَفْوَ وَالتَّجاوُزَ يا مَنْ عَفا وَتَجاوَزَ اعْفُ عَنِّي وَتَجاوَزْ يا كَرِيمُ ، اللّهُمَّ وَقَدْ أَكْدى الطَّلَبُ وَأَعْيَتِ الحِيلَةُ وَالمَذْهَبُ وَدَرَسَتِ الامالُ وَانْقَطَعَ الرَّجاءُ إِلاّ مِنْكَ وَحْدَكَ لاشَرِيكَ لَكَ ، اللّهُمَّ إِنِّي أَجِدُ سُبُلَ المَطالِبِ إِلَيْكَ مُشْرَعَةً (1)6 وَمَناهِلَ الرَّجاءِ لَدّيْكَ مُتْرَعَةً وَأبْوابَ الدُّعاءِ لِمَنْ دَعاكَ مُفَتَّحَهً وَالاِسْتِعانَةَ لِمَنْ اسْتَعانَ بِكَ مُباحَةٌ ، وَأعْلَمُ أَنَّكَ لِداعِيكَ بِمَوْضِعِ إِجابَةٍ وَلِلْصَّارِخِ إِلَيْكَ بِمِرْصَدِ إِغاثَةٍ وَأَنَّ فِي اللَّهَفِ إِلى جُوارِكَ وَالضَّمانِ بِعِدَتِكَ عِوَضا مِنْ مَنْعِ الباخِلِينَ وَمَنْدُوحَةً عَمَّا فِي أَيْدِي المُسْتَأْثِرِينَ ، وَأَنَّكَ لاتَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلاّ أَنْ تَحْجُبَهُمُ الاَعْمالُ دُونَكَ ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَفْضَلَ زادِ الرَّاحِلِ إِلَيْكَ عَزْمُ إِرادَةٍ يَخْتارُكَ بِها وَقَدْ ناجاكَ بِعَزْمِ الاِرادَةِ قَلْبِي ، وَأَسْأَلُكَ بِكُلِّ دَعْوَةٍ دَعاكَ بِها راجٍ بَلَّغْتَهُ أَمَلَهُ أَوْ صارِخٍ إِلَيْكَ أَغَثْتَ صَرْخَتَهُ أَوْ مَلْهُوفٍ مَكْرُوبٍ فَرَّجْتَ كَرْبَهُ أَوْ مُذْنِبٍ خاطِيٍ غَفَرْتَ لَهُ أَوْ مُعافىً أَتْمَمْتَ نِعْمَتَكَ عَلَيْهِ أَوْ فَقِيرٍ أَهْدَيتَ غِناكَ إِلَيْهِ وَلِتِلْكَ الدَّعْوَةِ عَلَيْكَ حَقُّ وَعِنْدَكَ مَنْزِلَةٌ ؛ إِلاّ صَلَّيْتَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَقَضَيْتَ حَوائِجِي حَوائِجَ الدُّنْيا وَالآخرةِ وَهذا رَجَبٌ المُرَجَّبِ المُكَرَّمِ الذي أكرمتنا به أول أشهر الحرم أكرمتنا به من بين الأمم ، يا ذا الجود والكرم ، فَنَسْأَلُكَ بِهِ وَبِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الأَعْظَمِ الأَعْظَمِ الاَجَلِّ الاَكْرَمِ الَّذِي خَلَقْتَهُ فَاسْتَقَرَّ فِي ظِلِّكَ فَلا يَخْرُجُ مِنْكَ إِلى غَيْرِكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ وَتَجْعَلَنا مِنَ العامِلِينَ فِيهِ بِطاعَتِكَ وَالامِلِينَ فِيهِ بِشَفاعَتِكَ ، اللّهُمَّ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ السَّبِيلِ وَاجْعَلْ مَقِيلَنا عِنْدَكَ خَيْرَ مَقِيلٍ فِي ظِلٍّ ظَلِيلٍ فَإِنَّكَ حَسْبُنا وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، وَالسَّلامُ عَلى عِبادِهِ المُصْطَفِينَ وَصَلَواتُهُ7 عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، اللّهُمَّ وَبارِكْ لَنا فِي يَوْمِنا هذا الَّذِي فَضَّلْتَهُ وَبِكَرامَتِكَ جَلَّلْتَهُ وَبِالمَنْزِلِ العَظِيمِ8 الاَعْلى أَنْزَلْتَهُ صَلِّ عَلى مَنْ فِيهِ إِلى عِبادِكَ أَرْسَلْتَهُ وَبِالمَحَلِّ الكَريم أَحْلَلْتَهُ ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ صَلاةً دائِمَةً تَكُونُ لَكَ شُكْراً وَلَنا ذُخْراً وَاجْعَلْ لنا مِنْ أَمْرِنا يُسْراً وَاخْتِمْ لَنا بِالسَّعادَةِ إِلى مُنْتَهى آجالِنا وَقَدْ قَبِلْتَ اليَسِيرَ مِنْ أَعْمالِنا وَبَلَّغْتَنا بِرّحْمّتِكَ أَفْضَلَ آمالِنا ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ وَصَلَّى الله عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ9.
أقول : هذا دعاء الإمام موسى بن جعفر (عليمها السلام) ، وكان قد دعا به يوم انطلقوا به نحو بغداد وهو اليوم السابع والعشرون من رجب. وهو دعاء مذخور من أدعية رجب9.
الثامن : قال في الاقبال قل : اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالنَّجْلِ الأَعْظَمِ ... الدعاء10. وقد مر هذا الدعاء على رواية الكفعمي في دعوات الليلة السابعة والعشرين.
اليوم الأخير من الشهر : ورد فيه الغسل وصيامه يوجب غفران الذنوب ماتقدّم منها وما تأخّر ويصلّي فيه صلاة سلمان11 12.
الهوامش:
1. a. b. مصباح المتهجّد : 814.
2. رواه السيّد في الاقبال 3 / 270 فصل 97 عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام مع اختلاف في اللفظ.
3. مصباح المتهجّد : 820.
4. الاقبال 3 / 274 فصل 99.
5. مصباح المتهجّد : 816.
6. مشرعةً : أي مفتوحة.
7. وصلاته ـ خ ـ.
8. العظيم : خ.
9. a. b. الاقبال 3 / 276 فصل 99. وفي المصباح : 537 في اواخر الفصل 43.
10. الاقبال 3 / 276 فصل 99.
11. الاقبال 3 / 284 ـ 285 فصل 106 و 107 عن الرضا عليهالسلام.
12. المصدر: مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي قدس سره.
ظلمة الروح واشراقة التوبة
بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحِيمِ
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
[اشترك]
انطلاقًا من الآية نتحدثُ فِي محاور روحِية ثلاثة:
المحور الأول الذنب وظلمتهُ فِي النفس، مَا هُو الذنب؟، وما هِي أنواعهُ؟، وما هُو أثرهُ على شخصية الإنسان؟
الذنب: هُو مُخالفة أمر الله او نهيهِ عن قصد وعمد. ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
الذنب قد يكون ظاهرًا، وهُو ما لا يخجل الإنسان من مُمارستهِ، وقد يكون بَاطنًا وهُو مَا يتستر به الانسان عن أعين آخرين وَ كلهما خطير، ﴿وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾، والذنب قد يكون كبيرة وَ هُو كُل ذنبًا توعد الله عليه بِالنّارِ كَالكذب والغيبة وَ النميمة، كَهتك حرمات المُؤمنِين وَ الصغيرة ما لم يتوعد عليه بِالنّارِ لكنهُ ذنب، كَالنظر للمرأة الأجنبية بِشهوةِ، ولكن لا كبيرة مع الاستغفار وَ لا صغيرة مع الاصرار كما ورد عن الإمام البَاقِر . أن فعل كبيرة وتاب انمحت، وإن فعل صغيرة وأصر عليها تحولت ِإلى كبيرة، ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، وللذنوب أثار خطيرة من الذنوب يُحبط الأعمال الصالحة كلها فِي الدنيا والاخرة.
﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾، وبعضُ الذنوب يُوجب أتقال سيئات الآخرين إليك، أنا إذا اغتبتُ إِنسان أخذت سيئاته وَحملتها معِي كما فِي الروايات الشريفة فِي تفسير قوله تعالى ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ وبعض الذنوب يوجب تضاعف العذاب، يُضاعف لها العذاب مرتين، والأثر التِي تشترك فيه كُل الذنوب صغيرة أم كبيرة هِي الحسرة، أن الإنسان يأتِي يوم القيامة فيرى نفسهُ فِي مكانِ لم يكن يتوقعه، في مكانِ نازل وَ موقعِ داني فيتألم وَ يتحسر. ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾.
المحور الثانِي: ظمأ الروح إلى معِين التوبة، مَا هِي التوبة؟، مَا هِي أقسامُ التوبة؟، ما هِي أهمية التوبة؟، وَ هل نحنُ نحتاج إِلى التوبة ام لا؟.
التوبة: هِي الرجوع إِلى الله بعد البعد عنه، اما لان الإنسان فعل ذنبًا فأبعدهُ عن ربه فِإذا رجع ِإلى ربهِ كان تائبًا ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقد يكون البعد ليس بسبب الذنب ولكن الإنسان ترك مقامًا قربيًا عند الله ثم أراد أن يسترجع هذا المكان، هذا يسمى توبة. ولذلك قال تعالى ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ وقال عن موسى ابن عمران ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ التوبة تكون وقتية، وتكون نصوحة.
التوبة الوقتية هي توبتنا، نتوب ونعود إِلى الذنب ثم نتوب وَ نعود إِلى الذنب هذه توبة وقتية، لكن المُهم هُو التوبة النصوح، القرآن الكريم يقول ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾. مَا هِي أهمية التوبة؟، اذا رجعنّا ِإلى الروايات والنصوص ونجد ان التوبة أمر مسيس بنا وبسلوكنّا أمر لصيق بحياتنّا دنيا وأخره.
مُعاوية بن وهب يسأل الإمام الصادق يقول له إِذا تاب العبد إلى ربهِ يغفر الله لهُ كُل ذنوبه؟ قال إذا تاب العبد ِإلى ربهِ غفر الله لهُ ذنوبه كُلها وَ ستر عليه، قلت: فكيف يُستر عليه قَال يُنسي الملكين ان يكتب عليه ما كان يأتيهِ من الآثم وَ يوحِي إلى جوارحهِ وإلى البقاع التِي فعل فيها الذنب بأن لا تشهد عليه - لا جارحه وَ لا بقعه -، فإذا لقِي الله يوم القيامة لقيهُ كيوم ولدتهُ أمه. لا تشهد عليه جارحة ولا بقعةُ بذنبهِ.
محمد بن مسلم يسأل الإمام الصادق يقول: أن العبد يتوب ثم يعود إلى الذنب ثم يتوب ثم يعود إلى الذنب ثم يتوب مرارًا، فهل يقبل الله توبته؟ قال يا محمد نعم، كلما قبل العبد من ربه قبل توبته ومحى ذنبه ألم تقرأ قولهُ تعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
هل نحنُ نحتاج ِإلى التوبة؟، مَا هِي حاجتنّا ِإلى التوبة؟، لنسأل أنفسنّا هذا السؤال، كُل واحد منّا يسأل نفسه هذا السؤال، كلامنا لا يختص بجماعه او بأحد كُلنّا نحتاج إلى التوبة كُلنّا معنيون بالتوبة كُلنّا مُفتقرون إلى التوبة، لماذا نحنُ نحتاجُ ِإلى التوبة؟، نحنُ نحتاج التوبة حاجتنّا ِإلى الماء، حاجتنا إلى الغداء والهواء نحنُ نحتاج ِإلى أن نجدد التوبة كُل يوم حتى لو كنّا مؤمنين حتى لو كُنّا مُتدينين، نحنُ نحتاج إلى التوبة لعدة أسباب:
السبب الأول:
أن الذنوب سودت قلوبنّا الذنب يوجب ظلمة النفس، والنفس إِذا أظلمت لم تتفاعل مع عبادة من العبادات، نحنُ نرى من أنفسنّا أننا لا نتفاعل مع العبادة ولا نشتاق للدعاء والمناجاة لا نشتاقُ لقراءةِ القرآن ولا نشتاقُ لنافلة وَ المُستحبات، عدم الشوق عدم الحُب وعدم التفاعل مع العبادة دليل على مُوت قلوبنّا، دليلُ على أن قلوبنا ماتت أرواحنّا جفت لذلك لا تتفاعل مع العبادة، نحنُ نُصلي ولكن لا نرى للصلاة أثر على قلوبنّا ولا أثر على سلوكنّا، وهذا يشهد أن قلوبنّا ميتة وَ أرواحنا يابسة وجافة لا نُّور فيها لا حياة فيها لا نبض فيها، فبالتالي نحنُ نحتاج إِلى النُّور. ورد عن الِإمام الصادق «إذا اذنب العبد خرج في قلبه نكته سوداء فإن تاب انمحت وان عاد عادت فلا يُفلح بعدها ابدا» نفسهُ مُظلمة ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ قلوبنّا مُظلمة وتحتاجُ ِإلى نُّور وَ النُّور هُو التوبة ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾، نحنُ نحتاج إلى التوبة حاجتنّا ِإلى النُّور ﴿فمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾.
السبب الثانِي:
نحنُ نحتاج ِإلى التوبة حاجتنّا إِلى الهدوء والاطمئنان، هُناك فرق بين المُنافق وبين المؤمن أنت حاكم نفسك بنفسك، هل أنا منافق ام مؤمن؟ ورد في الحديث ”أن المنافق إذا أذنب كان ذنبه عنده كذبابة مرت على أنفه فأبعدها بيده“. لا يُبالي بالذنب ”والمؤمن إذا أذنب كان ذنبه كابي قبيس على صدره“ يُريد ان يُزيحه، المؤمن يتألم من الذنب المؤمن الحقيقي هُو الذي يشعر بلسعة الذنب هو الذي يشعر بوخزةِ المعصية هُو الذي يندم ويتحسر.
”إلهِي إنْ كانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْب تَوْبَةً، فَإنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النَّادِمِينَ، وَإنْ كَانَ الاسْتِغْفارُ مِنَ الْخَطيئَةِ حِطَّةً، فَاِنّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرينَ لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى“
المؤمن يتألم من ذنبهِ كثيرًا ويشعر بالقلقِ والأذى، لذلك المؤمن يحتاج ِإلى ما يعطيه الاستقرار إلى ما يعطيه الهدوء إلى ما يُعطيهِ الراحة، نحنُ كُلنّا فِي هذا العصر نشعر بالقلق هذا العصر عصر الأمراض والأوبئة المُنتشرة عصر الحروب، الإنسان يعيشُ فِي قلق في حيره يحتاج إِلى طاقة يعيش بها الهدوء والاطمئنان والاستقرار وهذا الاستقرار والهدوء لا تُأمنهُ ِإلا التوبة، التوبة ِإلى الله تغرس في داخلنّا حالةُ من الاطمئنان والهدوء وتزيل القلق من أنفسنّا ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ نحنُ نحتاج إلى التوبة حاجتنّا ِإلى الاستقرار.
السبب الثالث:
نحنُ نحتاج ِإلى المدد الإلهِي تمر بنّا أزمات ظروف قاهره خانقة نتوسل إلى الله نتضرع إلى الله أن يكشف عنا هذه الظروف الخانقة ولكن هل يستجب الله لنّا؟، اللهُ يقول لنّا ”عبدِي تعرف عليّ في الرخَاء أعرفك فِي الشدة“، إذا كنت تدعونِي دائمًا أجبتك وقت الازمة وقت الشده، من تعرف على ربه في الرجاء عرفهُ فِي الشده. ومن لم يتعرف على ربهِ في الرخاء قال الملائكة من هذا صوت غير مألوف لا نسمع إِليه!، نحنُ نحتاج أن نشعر أننا مرتبطون بالله حتى يهبنا الله المدد والعون نحنُ الفقراء إِلى الله ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ نحنُ عين الفقر عين الربط عين الحاجة، لذلك نحتاج إلى الله عز وجل ومن كان عين الفقر وعين الربط وعين الحاجة فلابد ان يُحسس نفسهُ دائمًا انهُ فقيرُ إلى الله يحتاج إلى المدد الإلهِي، يحتاج إلى العون الإلهِي.
كيف نحسس أنفسنّا أننا نحتاج إِلى الله؟، عبر التوبة لان التوبة رجوع إِلى الله يحسسنّا بالحاجة ِإلى الله يحسسنا بالافتقار إلى الله، لذلك التوبة هِي نفسها إلى توفيق من الله عز وجل لذلك قال الله عز وجل ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ الله يتوب علينّا، أي يوفقنّا للتوبة ثم نتوب ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾ حاجتنا إلى التوبة هي حاجتنا إلى المدد والشعور بالعناية الِإلهِيه.
السبب الرابع:
نحنُ نحتاج إِلى التوبة لاغتنام الفرصة قبل ان يُفاجئنّا الموت.. الموت.. الموت خصوصًا فِي هذا الزمن مع كثرت الأمراض والاوبئة، الموت المفاجئ لا يستثني كبيرًا ولا صغيرًا، نحنُ نحتاج إلى التوبة قبل أن يفاجئنا الموت قبل أن نصل إلى مرحلة لا توبة فيها ﴿حتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
بادر إلى التوبة والإنابة قبل ان يفاجئنّا الموت إلى التوبة إلى الإنابة ِإلى الرجوع ِإلى الله ورد عن النبي ِ «ان العبد ليتوب الى ربه قبل سنة من موته فتغفر له ذنوبه كلها وان السنة لكثير، وان العبد ليتوب الى ربه قبل شهر من موته فتغفر له ذنوبه، وان العبد ليتوب ِإلى ربهِ قبل يوم فتغفر له ذنوبه، وان العبد يتوب ِإلى ربه قبل موتهِ بساعةِ فتغفر له ذنوبه، ثم قال وإن الساعة لكثير، وان العبد ليتوب ِإلى ربهِ قبل ان تصل نفسهُ ِإلى هُنا وأشر إلى حلقهِ فتغفر لهُ ذنوبه».
قال النبي لأبي ذر يا أبا ذر كن على عمرك أشح منك على دهرمك ودينارك، - العمر الدقائق التي تمر - ”يا أبا ذر بادر بأربعة قبل أربعة بشبابك قبل هرمك، بصحتك قبل سقمك، بغناك قبل فقرك، بحياتك قبل موتك“ اغتنام الفرصة قبل الموت أمر ضروري لأجل المُبادرة إلى التوبة.
السبب الخامس:
نحنُ نحتاج ِإلى التوبة، لان التوبة ترفع عنّا لهيب السعير، أتدرون ونحنُ في الدنيا نعيش في الذنوب نعيش في النّار الإنسان يبنِي نارهُ وهُو فِي الدنيا، ويبني جنتهُ وهُو فِي الدنيا، إذا كان مُواظب على الصالحات في بحبوحة من الجنّة لكنهُ لا يشعرُ بها، وإذا كان مًصرًا على المعاصِي فهُو يعيشُ فِي النّار وَ لا يشعرُ بها. هُو فِي الدنيا ويعيش في قلبِ النّار المعاصِي تكون جمرات ملتهبة ساعرة تحف من حولنّا من قرننا إلى قدمنّا معاصينّا جمار ملتهبة تلسعنا لكننا لا نشعر بها لأننا مشغلون بالدنيا نلهث وراء المادة نلهث وراء الترف نلهث وراء أنفسنّا، شغلتنّا أنفسنّا عن الشعُور بلسعة الجمرات الملتهبة التِي تحف بأجسادنّا، ولذلك الإمام زين العابدين يقول ”اِلهي ظَلِّلْ عَلى ذُنُوبي غَمامَ رَحْمَتِكَ“.
انا إِنسان أعيشُ فِي الصحراء فِي الرمال الحارة تحت لهيب الشمس تلسعنِي ذنوبي كما تلسع الإنسان لهيب الشمس ولهيب الرمال الحارة، إذن احتاج إلى غمامة وَ هِي غمامة التوبة، ”اِلهي ظَلِّلْ عَلى ذُنُوبي غَمامَ رَحْمَتِكَ وَ اَرْسِلْ عَلى عُيُوبي سَحابَ رَأفَتِكَ“.
التوبة غمامة وسحابة تخفف عنّا هذا اللهب الذي يشتعل من ذنوبنّا ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ الحجر إِذا تحمل الحرارة أكل الجلد جلد الِإنسان، نحنُ لا نستطيع أن نمسك بإصبعنّا عود كبريت مشتعل فكيف نستطيع أن نعيش على حجارة مُلتهبة ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ لكما أرادوا أن يُخرجوا منها من غمًا أعيدُ فيها، نحنُ نحتاج إلى التوبة لتخلصنّا من سعير الذنوب ولهيب المعاصِي. فقلوبنّا ضما إلى التوبة ضمؤها إلى الهواء والماء والغداء.
المحور الثالث: النفس التوبة نفسُ مُطمئنة
هُنا سؤالان نسألهما أنفسنّا فيجيب كُل واحد منّا عن هذين السؤالِين بينهُ وبين نفسهِ هذه الليلة ليلة مراجعة بيننّا وبين أنفسنّا ساعة مُراجعة لِأنفسنّا.
السؤال الأول لمَاذا نُذنب ثم نتوب ثُم نُذنب، لماذا؟!، لماذا كُلما تُبنّا عدنّا ِإلى الذنبِ مرة أخرى، لمَاذا؟!، نحنُ ندخل المسجد نُصلِي جماعة ونستغفر وَ نتوب ثم إذا خرجنّا عدنّا إِلى الكذب ِإلى الغيبة والنميمة إلى العلاقات غير المشروعة ِإلى النظرة المشبوهة وغيرها من الذنوب، لماذا؟ مَا السبب؟، لماذا لا نثبت على التوبة؟!. لماذا لا نصمد على التوبة لماذا نكرر التوبة؟!، لماذا نكرر الذنب ونكرر المعصية؟!
”كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلَحَتْ سَريرَتي، وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابينَ مَجْلِسي، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةٌ اَزالَتْ قَدَمي، وَحالَتْ بَيْني وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟!، يِّدي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَني، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني“ لماذا سيدي أصر على الذنب مع إني تُبت منه لماذا؟، هُناك عدت أسباب تسيطر علينّا وتجعلنّا نُصر على الذنب.
السبب الأول: سوء التربية
إذا كُنت قد ربيت على ان لا أُبَالِي بالأخطاء لا أُبَالِي بالذنوب، كلما أخطأت قالوا لِي ستصبح جيدًا في المستقبل. كلما ارتكبتُ ذنبًا قالوا لِي هذا غُبار بسيط وسينتهِي، لما عصيتُ قيل لِيّ هذا أمر عَابِر وسينتهِي، إذا رُبيت على عدم المبالاة بالذنوب كثرت جُرأتِي على الله. كثر اعتدائي على حرمات الله لأنني شخص غير مُبالي بالأخطاء غير مُبالِي بالذنوب والمعاصِي. ويتحمل الاسر أبوأي مُجتمعي أسرتِي الذي علمنِي على ان لا أُبالي بالذنوب رحم الله والدين حمل ولدهما على طاعة الله، ولعن الله والدين حمل ولدهما على معصية الله.
السبب الثاني: قلة الحياء
لعلى الاباء ربونا على الطاعة لكنني قليل الحياء مع الله، أنا استحي ان أرتكب الذنب امام صديقي، أستحي ان أرتكب الذنب أمام أُسرتي، أستحي أن أرتكب الذنب أمام النّاس لكنني لا أستحي أن أرتكب الذنب أمام الله، أنا أتعامل مع الله بقلة الحياء لا أستحي من ربي إلى متى وقد كبر سنِّي؟!، إلى متى أستحِي من ربِّي؟!، ما عذر من بلغ العشرين، الأربعين، الخمسين أن هجعت عيناه عن طاعة كسلوا، ِإلى متى سأستحِي من ربِي؟!.
”أَنا يارَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الخَلاءِ وَلَمْ اُراقِبْكَ فِي المَلاءِ، أَنا صاحِبُ الدَّواهِي العُظْمى، أَنا الَّذِي عَلى سَيِّدِهِ اجْترى، أَنا الَّذِي عَصَيْتُ جَبَّارَ السَّماء، أَنا الَّذِي أَعْطَيْتُ عَلى مَعاصِي الجَلِيلِ الرُّشا، أَنا الَّذِي حِينَ بُشِّرْتُ بِها خَرَجْتُ إِلَيْها أَسْعى، ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحيي من ربي؟!.“
السبب الثالث: ضعف الخوف من الله
نحنُ لا نخاف من الله، نخاف من الدولة نخاف من القوي نخاف من المسؤل من الاسرة من الناس، لكنني لا أخاف من الله، لو كنت أخاف الله خوفًا حقيقًا لما عصيتُ الله بكُل جرئه لو كن أخاف الله لقلت لنفسي ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ورد عن الصادق ”خف الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وان كنت لا ترى إنهُ لا يراك فقد كفرت، وان كنت ترى إنه يراك ثم برزت إليه بالمعصية فقد جعلتهُ من أعظم الناظر إليك“ إِلهي سامحني، إِلهِي أنا أتحداك بالمعصية أنا أحتقرُ نظرك أحتقر رقابتك، أنا أُصر على الذنب أين لِي الخوف وأنا مصر على الذنب ومزاولات المعصية.
السبب الرابع: ضعف الإرادة
لو كُنت أملك إِرادة قوية لوقفة أمام شهوتِي أمام غريزتي لقلتُ لشهوتِي لا لا.. لا أصنع الذنب ابدًا، لكنني لا أملكُ رجولة لا أملك بطولة لا أملك إرادة صلبة ابدًا، لا أملك عزمًا صامدًا لا أملك عزمًا راسخًا. لذلك أتوب أحضر المأتم أبكِي أحضر الدعاء أبكِي أنوح أنتحب لكنني بمجرد أِنني أتعرض لِ أغراء المعصية والشهوة. أنقاد وراء نفسي أسترسل وراء شهواتِي لأنني لا أملك ِإرادة قوية ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، ومع ذلك ياربي ومع ذلك يا إِلهِي أنا أسرفتُ فِي الذنوب أسرفتُ فِي المعاصِي إِلّا أنني أكرر التوبة أُكرر التوبة. لماذا؟، لأنني أحبك ولأن الذنب لا يضرك ولأن رحمتك الواسعة التِي شملت كُل شيء تشملنِي. أنا العبد الصغير الفقير المسكين المستكين. إِلهِي.. ِإلهِي كيف أدعوك وقد عصيتك؟!، كلما أردت أن أدعوك تذكرتُ المعصية!، إلهي كيف أدعوك وقد عصيتك، فكيف لا أدعوك وقد عرفتك، وحبّك في قلبي مكين، مددت إليك يداً بالذنوب مملوّة، وعيناً بالرجاء ممدودة،
مولاي!.. أنت عظيم العظماء وأنا أسير الأُسراء، أنا أسيرٌ بذنبي مرتهنٌ بجرمي. «كُلنّا أسير لذنبهِ لمعصيتهِ»
إلهي!.. لئن طالبتني بذنبي لأُطالبنّك بكرمك، ولئن طالبتني بجريرتي لأُطالبنّك بعفوك.. ولئن أمرت بي إلى النار لأُخبرنّ أهل النّار بِحُبِي لك.
اللهم إن الطاعة تسرّك والمعصية لا تضرّك، فهب لي ما يسرّك، واغفر لي ما لا يضرّك.
الطريقُ لتربية الخوف في قلوبنّا الطريقُ لزرع الإرادة في نفوسنّا البكاء، من لا يبكِي لا يتغير البكاء طريق التغير، من لا يرق قلبه للموعظة لا يتغير من لا ترق نفسه للموعظة لا يتغير. البكاء طريقنّا
إلهِي! اَعِنّي بِالْبُكاءِ عَلى نَفْسي، فَقَدْ اَفْنَيْتُ بِالتَّسْويفِ وَ الاْمالِ عُمْري، وَمالي لا اَبْكي وَلا اَدْري اِلى ما يَكُونُ مَصيري، وَقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأسي اَجْنِحَةُ الْمَوْتِ، فَمالي لا اَبْكي اَبْكي، لِخُروجِ نَفْسي، اَبْكي لِظُلْمَةِ قَبْري، اَبْكي لِضيقِ لَحَدي، اَبْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير اِيّايَ، اَبْكي لِخُرُوجي مِنْ قَبْري عُرْياناً ذَليلاً حامِلاً ثِقْلي عَلى ظَهْري، الِإمام زين العابدين يعُلمنّا في مُناجَاةِ التَائِبين كيف نُربِي أنفسنّا. اِلهي اَلْبَسَتْنِى الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتي، وَجَلَّلَنِى التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتي، وَاَماتَ قَلْبي عَظيمُ جِنايَتي، فَاَحْيِهِ بِتَوْبَة مِنْكَ يا اَمَلي وَبُغْيَتي، وَ يَا سُؤْلِي وَ مُنْيَتِي، فَوَ عِزَّتِكَ مَا أَجِدُ لِذُنُوبِي سِوَاكَ غافِراً، وَلا اَرى لِكَسْري غَيْرَكَ جابِراً،... فَاِنْ طَرَدْتَني مِنْ بابِكَ فَبِمَنْ اَلُوذُ، وَاِنْ رَدَدْتَني عَنْ جَنابِكَ فَبِمَنْ اَعُوذُ، فَوا اَسَفاهُ مِنْ خَجْلَتي وَافْتِضاحي، وَوا لَهْفاهُ مِنْ سُوءِ عَمَلي وَاجْتِراحي.... اِلهي بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ، تُبْ عَلَيَّ وَبِحِلْمِكَ عَنّىِ، اعْفُ عَنّي وَبِعِلْمِكَ بي، اَرْفِقْ بي.. إِلهِي أَنْتَ الَّذي فَتَحْتَ لِعِبادِكَ بَابَاً إلَى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ فَقُلْتَ تُوبُوا إِلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً فّما عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ البابِ بَعْدَ فَتْحِهِ؟ إِلهِي إنْ كانَ قَبُحَ الذَّنْبُ مِنْ عَبْدِكَ فَلْيَحْسُنُ العَفْوُ مِنْ عِنْدِكَ، إِلهِي ما أَنا بِأَوَّلِ مَنْ عَصاكَ فَتُبْتَ عَلَيْهِ وَتَعَرَّضَ لِمَعْرُوفِكَ فَجُدْتَ عَلَيْهِ، يا مُجِيبَ المُضْطَرِّ يا كاشِفَ الضُّرِّ يا عَظِيمَ البِرِّ يا عَلِيماً بِما فِي السِّرِّ يا جَمِيلَ السِّتْرِ اسْتَشْفَعْتُ بِجُودِكَ وَكَرمِكَ إِلَيْكَ وَتَوَسَّلْتُ بِجَنابِكَ وَتَرَحُّمِكَ لَدَيْكَ، فَاسْتَجِبْ دُعائِي وَ لا تُخَيِّبْ فِيكَ رَجائِي..
التوبة تخلق الشخصية المطمئنة، هُناك توبة طارئة وهناك توبة ابتدائية، فِإذا أذنب ثم تاب فهِي توبة طارئة، وهناك شخص اصطفاهُ الله من الأصل فكانت توبته ذاتية. الحّر بن يزيد الرياحي بعد إِن أذنب تحرك ِضميره نحو التوبة وانتفض جسمهُ ورتعشى بدنهُ ارتعشت التوبة والانابة.
هل توجد حدود للتديّن المطلوب من المسلم؟ هل ينبغي أن يتحول كل المسلمين إلى "رجال دين" من حيث الورع والتقوى؟
[اشترك]
ليس هناك حد يقف عنده الإنسان لتكامله الروحي والمعنوي، وقد فتح الإسلام الطريق أمام الإنسان ليحقق بنفسه أعلى درجات الكمال حيث قال تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)، وفي الحديث القدسي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله تعالى يقول: لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون أنا سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته)، ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) المرتبة التي عليها حجج الله بقوله: (أولئك والله الأقلّون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته، حتّى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه. آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم) وهناك خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) تسمى بخطبة المتقين بين فيها ما يمكن أن يصل إليه العبد في تدينه وعبادته لله تعالى.
وعليه من أراد الكمال فليس للكمال حدود، أما من أراد الحد الذي يتحقق به إسلامه فعليه أن يحقق الحد الأدنى على ثلاث مستويات:
أولاً العقيدة: يجب على كل مكلف أن يكون عارفاً بعقائده على الوجه الصحيح، حتى لو لم يكن من أهل العلم والاختصاص في ذلك، وإنما يكفي أن يكون هو معتقد بها غير شاك أو مرتاب فيها.
ثانيا العبادات: يجب على المكلف الالتزام بعباداته على الوجه الصحيح فلابد أن يكون على علم بما فرضه الله عليه ولا يشترط أن يكون فقيهاً متبحراً في الأحكام، وإنما يكفي معرفة ما تصح به عباداته، كما يجب عليه المعرفة والالتزام بالتشريعات من حلال وحرام في كل ما يتعلق بسلوكياته الحياتية.
ثالثاً السلوك الأخلاقي: من أهم الأمور التي تميز الإنسان المسلم عن غيره هي الفضائل والقيم الأخلاقية التي يتحلى بها في حياته، كالصدق والسخاء والعفو والتعاون ولطف المدارة ومعاشرة الناس بالمعروف وغير ذلك، ففي الحديث: (إنّ الله تبارك وتعالى خصّ رسول الله صلّى الله عليه وآله بمكارم الأخلاق. فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله جلّ وعزّ، وارغبوا إليه في الزيادة منها)
وفي المحصلة على الجميع الاجتهاد في تحصيل الورع والتقوى، أو كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولكن أعينوني بورع واجتهاد)، فالتدين وإخلاص العبادة لله ليس عقبة تعيق حياة الإنسان حتى يفكر الإنسان في حدوده الدنيا، وإنما هي الطريق الذي يتجاوز الإنسان به كل تعقيدات الحياة ويكسر كل قيودها لينطلق في رحاب الفضائل والكمال، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
نوبات القلق والتوتر والشعور بعدم الراحة من الحالات الشائعة في المجتمعات، وقد يكون السبب في ذلك أما الظروف الصعبة التي يتعرض لها الإنسان، وأما بسبب سيطرت الهواجس والظنون على حياة البعض، ومن الطبيعي أن يكون هناك تباين بين الناس في كيفية التعامل مع هذه الحالة، وذلك بسبب الاختلاف في الوعي بفلسفة الحياة أو التباين في درجات الإيمان بالله، فالبعض يتغلب على هذه المشاعر والبعض الآخر تتغلب عليه المشاعر، فالإنسان بين أن يسيطر على نفسه وبين أن تسيطر النفس عليه.
[اشترك]
وما يؤسف له أن القلق والتوتر أصبح من المظاهر الشائعة في مجتمعاتنا المعاصرة، لما في الحياة من مظالم وإحباطات تجعل الإنسان يفقد الثقة في أي أمل مشرق، فمن الصعب أن يتجاوز الإنسان تحديات الحياة وهو في حالة من الاستسلام لهواجس النفس وظنونها وتخوفاتها، فالنفس بطبعها في حالة من الاستنفار الدائم والتخوف المستمر، ولذلك تنسج لصاحبها سيناريوهات تحذيرية تجعله في حالة من التوتر والقلق الدائم، ولذلك حملت آيات القرآن ظنون النفس كامل المسؤولية عن كل الانحرافات السلوكية، وفي المقابل أكد القرآن على ضرورة العقل والتعقل بوصفه الطريق الوحيد الذي يحقق للإنسان بصيرة في الحياة، فللعقل القدرة على التمييز بين التخوفات الموضوعية التي تمتلك مبرراً منطقياً وبين الهواجس النفسية، فكل ما ضعف جانب العقل كلما تمددت النفس وهكذا العكس بالعكس، والإنسان بين أن يجعل زمام المبادرة بيد عقله وبين أن يجعلها بيد ظنونه وهواجسه.
أما الحالات النفسية التي تجعل الإنسان في حالة من الاضطراب وعدم التوازن في الأحاسيس والمشاعر، أما أن تكون حالة عارضة بسبب صدمة معينية في الحياة، أو قد تكون عقدة نفسية تشكلت عند الإنسان منذ الصغر، أو قد تكون مرضاً نفسياً لم تشخص أسبابه، وقد تتطور هذه الحالة وتتعقد حتى تصبح مرضاً مستعصياً بحيث يفقد الإنسان تماماً السيطرة على نفسه، وحينها لا بد من خضوع المريض إلى جلسات من العلاج النفسي على أيدي متخصصين.
وإذا جاز لنا أن نحلل نفسية السائل من خلال تحليل السؤال يمكننا أن نقول إن ما يعانيه يعود إلى طبيعة وعيها بفلسفة الحياة وقلة إدراكها لحقائق الدين والعبادة، فيبدو أن ما تعرفه عن الحياة هو ما اكتسبته من تجربتها المحدودة، فهي لم تبحث وتتعمق في فلسفة الحياة وسر وجود الإنسان فيها، فعندما يجهل الإنسان بقيمة الحياة سوف يجهل أيضاً بقيمته كإنسان، إذ كيف يحس الإنسان بقيمته إذا لم يحس بقيمة للحياة؟ وكيف يحس بقيمة الحياة وهو لم يعرف عنها إلا مجريات حياته اليومية؟ فعلى الإنسان أن يستقل طاقته الفكرية والمعرفية ليزداد بصيرة في هذه الحياة، وما يؤسف له أن غالب الناس يركنون إلى الراحة ويستسلمون للظروف لتتصرف في حياتهم بدون قرار منهم أو إدراك لمصيرهم، وعليه إذا لم يجهد الإنسان عقله بالتفكير والتعلم سوف يكون من الهمج الرعاع كما وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (الناس ثلاثة: فعالم ربـّاني، ومتعلـّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع: أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) فإذا لم يقرر الإنسان بنفسه بأن لا يكون من الهمج الرعاع فعليه أن لا يتوقع أن يأتي من يقرر نيابة عنه.
ويتصل بذلك بشكل وثيق قلة الوعي الديني، فكثير من الناس يعتمدون في ثقافتهم الدينية على ما هو موجود في المحيط الاجتماعي، وهو بالتأكيد لا يعبر عن وعي أصيل بالدين، فحالة التردد بين الالتزام الديني وعدم الالتزام تكون أحيانا بسبب التردد بين ثقافتين لا يملك الإنسان القدرة على ترجيح أحدهما، ولذلك يتذبذب بحسب المحفزات الخارجية، فهي تصلي وتلتزم بالحجاب لوجود بعض المحفزات التي ترجح ثقافة التدين على الثقافة الأخرى، وفي اليوم الثاني عندما تكون الحوافز عكسية تتخلى عن الحجاب والصلاة وتسمع الأغاني، أما إذا كان الإنسان على بصيرة من دينه فإنه لا يمكن أن يشك أو يتردد مهما كانت المحفزات العكسية، وعليه يجب عليها أن تتعلم أمور دينها وتثقف نسفها من خلال قراءة الكتب والاستماع للمحاضرات وغير ذلك من طرق كسب العلم، فمتى وصلت إلى يقين بحقائق الدين زال عنها هذا الشك والتردد، ومتى ما اضطرب القلب اضطرب معه كل شيء قال تعالى: (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)
وقد يكون السبب ليس معرفياً ولا دينياً وإنما نفسياً، فالبعض قد يبتلى بكثرة الشك، فعندما يفقد الإنسان الثقة في نفسه يكون في حالة دائمة من التردد والحيرة، والسبب في ذلك قد يكون التربية الخاطئة، فالبعض يتعرضون لظروف تربوية تجعلهم يعيشون عقدة نفسية تحرمهم من الثقة في انفسهم وفي خياراتهم، وهذه الحالة لابد أن يعيد الإنسان صياغة نفسه من جديد، وهذا ممكن مهما كانت الآثار التربوية قد حفرت عميقاً في شخصيته، فليس هناك حتميات في ما يتعلق بسلوك الإنسان، وإنما الإنسان دائماً له القادرة على اختيار نمط الحياة الذي يؤمن به.
وكذلك قد تكون حالة الشك والريبة بسبب شياطين الجن والإنس الذين يوحون زخرفاً من القول غروراً، كما وصفهم تعالى في قوله: (شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) وعلاج ذلك بالابتعاد عن أصدقاء السواء، فإذا عاش الإنسان في وسط مؤمن فإن هذا الوسط سوف يجعله أكثر قرباً من الله تعالى.
هذه مشكلة الكثير من الشباب وخاصة المراهقين فى هذا العصر، ولأجل أن يكون الجواب محددا أعرض لكم الملاحظات التالية:
[اشترك]
1- إن التخيل بشكل عام مادة دسمة لتشكل الإرادة والتأثير على مركز أخذ القرارات في الوجود الإنساني، ومن هنا فإن الحركات الكبيرة تنشأ من هذه الخواطر رحمانية أو شيطانية.
وعليه فمن يريد السيطرة على مجرى حياته فلا بد من الالتفات إلى هذا الأمر واتباع سياسة الوقاية قبل العلاج.
2- إن التخيل ثمرة طبيعية لفضول النظر والقول، فمن يريد السيطرة على خياله فلا بد من التحكم فى بوابات المعرفة لديه، والمتمثله بالسمع والبصر، اذ هما بابا الفؤاد الذين يسربان كثيرا من الأمور إليه، ولا شك أن مراجعه الغافلين وخاصة فى هذا المجال من موجبات انفتاح هذه الأبواب على العبد.
3- هنالك أوقات يستستلم فيها الإنسان لكثير من الوهم ومنه ساعات النوم، ومن هنا لزمت مراقبة هذه الساعة وذلك بعدم الذهاب الى النوم إلا وقت النعاس، أضف إلى الالتزام بأدعية ما قبل النوم والقراءة النافعة وخاصة القراءات التى تذكر الإنسان بالعالم الآخر.
4- مع اشتداد التخيل المهيج فعلى الإنسان أن يغير من جوه الذى يعيش فيه وذلك بالالتجاء الى جو آخر كالصلاة وقراءة القرآن أو غسل التوبة أو زيارة الأصدقاء أو الاتصال بهم أو ما شابه ذلك من الأمور الصارفة عن عالم الشهوات.
السيد علي أكبر الحسيني:
هل دعوتم الله مرة وهل لا زلتم تدعونه؟ هل اكتشفتم دور الدعاء في إيجاد حالة من الخشوع والاستقرار النفسي لدى الإنسان؟ وهل تعرفون ما هو الدعاء وما هي قيمته وأهميته؟
[اشترك]
الدعاء يعني أن يدعو الشخص ربّه إليه ويسلم له قلبه ويصارحه بما يختلج في نفسه، الدعاء هو أن يأنس الإنسان مع الله ويتكلم معه ويطلب منه حاجة ويرجوه أمراً ما فقد قال أبو عبد الله عليه السلام: [الدعاءُ يردُ القضاء بعدما أبرم إبراماً. فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا يُنال ما عند الله عز وجل إلا بالدعاء وإنه ليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه] (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: [الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح] (2).
وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: [عليك بالدعاء فإنه شفاء من كل داء] (٣).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: [ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى. قال تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء] (4).
ولكن ما هي حقيقة الدعاء بحيث احتل هذه المكانة الرفيعة وأصبح بهذا القدر من القيمة والأهمية؟ وما يفعل الدعاء بالإنسان بحيث إن الله سبحانه وتعالى جعل قيمة الإنسان كلها مرتبطة بالدعاء حيث خاطب تبارك وتعالى نبيه الكريم: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) [الفرقان:77].
إن الدعاء في حقيقته هو الارتباط الذي يحصل عن وعي ومعرفة بين قلب الإنسان (روح الإنسان ومشاعره) وبين ربّه الغني الحميد. هذه البركة الصغيرة تتصل من خلال الدعاء بالرحمة الإلهية الواسعة التي هي كالبحر لا حدود لها وبهذا الاتصال فإن هذه البركة الصغيرة (التي هي روح الإنسان وفؤاده الواعي) تنجو من التعب والذبول وبالتالي يجد الإنسان أن جميع آماله قد تحققت وبشكل أفضل وأنه وصل إلى كل ما كان يصبو إليه وتخلص من الفقر والفاقة وعندها يدرك المعنى والمفهوم الحقيقي للحياة وينسى الكآبة والإحساس بالضياع وعدم جدوى هذه الحياة وينفض عنه كل أنواع العذاب والشقاء ويصل بالتالي إلى ساحل الاستقرار والسلامة بفضل أمواج الرحمة الإلهية. وخلاصة الكلام إن الإنسان عندما يدعو الله فهو يطلق وجوده وكيانه المتناهي في الصغر في البحر اللامتناهي فيغرق في العزّة والكرامة وعلى هذا الأساس ومن منطلق هذا المعنى السامي فإن قيمة الوجود الإنساني بأكمله تتمثل في الدعاء والمناجاة حيث إن [الدعاء هو شفاء من كل داء] (5).
وبإمكانك أيها القارئ الكريم أن تلاحظ من خلال الرسالة التالية كيف تتجلى هذه الأهمية العظيمة للدعاء والتي من شأنها أن تمنح تلك القيمة الكبرى للوجود الإنساني.
الرسالة: ... لقد مررت بأيام صعبة وعصيبة. فقد كنت أعاني من الاضطراب والقلق، كما كنت أشعر بالضياع وعدم جدوى العيش في هذه الدنيا وعدم جدوى حياتي كلها، فقد مللت وسئمت من كل شيء.. وقد أشار عليّ أحد الأصدقاء أن ألجأ إلى الدعاء والتوسل إلى الله تبارك وتعالى وأن أطلب منه جل وعلا أن يعيد إليّ الطمأنينة والاستقرار والراحة النفسية وبالفعل فقد اتجهت إلى الدعاء وصرت أدعو الله بدعاء علمني اياه صديقي المذكور، فزال عنّي القلق والاضطراب وبت اشعر بهدوء واستقرار عجيبين... ولحد الآن عندما أشعر بأن المشاكل والصعوبات قد تراكمت عليّ وأن بعض الأمور باتت تسبب لي القلق والاضطراب فإني أتوجه إلى مرقد أحد الأولياء الصالحين من أبناء أحد الأئمة عليهم السلام وهذا المرقد يقع بالقرب من منزلنا وهناك أدعو الله وأتحدث معه بكل بساطة وبعد فترة من الدعاء والابتهال إلى الله أشعر بنور يغمر أعماق قلبي وأشعر بروح تنبعث في كياني من جديد وتبدو مشاكلي بسيطة وهينة وتافهة وتسيطر عليّ حالة أشعر معها وكأني لا أحتاج إلا إلى الدعاء والمناجاة مع الله، وعندما اشعر بارتياح عجيب ويزول عني القلق والاضطراب نهائياً وأبدأ أقول في نفسي، (تكلم مع الله فقط وليكن أملك بالله وحده...).
وأنت أيضاً أيها القارئ الكريم هل ترغب بأن يغمر النور قلبك؟ وهل تريد التخلص من القلق والاضطراب وهل تريد أن يستجاب دعاؤك؟ إذن أدع الله بقلب واع وسليم.
ولكن قبل أن تنطق بالدعاء والابتهال إلى الله عليك أن تطهر نفسك وتنظف قلبك من الضغينة والقساوة والبغضاء فقد جاء في رواية منقولة عن أمير المؤمنين والإمام جعفر الصادق عليهما السلام: [عندما تخشع قلوبكم النظيفة أثناء المناجاة والدعاء وتنهمر دموعكم فذلك دليل على قبول دعائكم وتحقق أمنياتكم] (6).
ولكن هل تعلمون متى يكون الدعاء أعظم أثراً وأسرع استجابة من قبل الله؟ إنه الدعاء الذي ينطلق من قلب متّق ونزيه ونظيف بعيداً عن الحقد والكذب والحسد (7)
إذن حري بنا أن نحيي ليالينا في الدعاء ومناجاة الله تبارك وتعالى ونبكي من خشية الله لكي نطهر بذلك قلوبنا ولندعو ربنا ونتضرع ونتوسل إليه ما استطعنا ذلك فإن الله تعالى يتقبل دعاء عباده ويلبّي حاجاتهم.
الهوامش:
(1) أصول الكافي ج٢ ص ٤٥٩ باب ٣. وبحار الأنوار ج٩٣ باب الدعاء.
(2) أصول الكافي ج٢ ص ٤٥٧ باب الدعاء.
(3) المصدر نفسه.
(4) مكارم الأخلاق، ص٢٩٧.
(5) أصول الكافي ج٢ عن أمير المؤمنين والإمام الصادق عليهما السلام.
(6) أصول الكافي ج٢.
(7) تنبيه الخواطر عن الرسول صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
نقلاً عن كتاب العلاقات الزوجية مشاكل وحلول
رَجَب.. بابٌ إلى آل محمد (ص) !
بسم الله الرحمن الرحيم
رَجَب، واحدٌ من الأشهر الأربعة الحُرُم..
يَتَرَقَّبُهُ المؤمنون لِما يعلمون من فَضلِهِ وبركته وعَظيم شأنه.
[اشترك]
فعن الإمام الصادق عليه السلام: إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ فَضَّلَهُ اللَّه وَعَظَّمَ حُرْمَتَهُ وَأَوْجَبَ لِلصَّائِمِينَ فِيهِ كَرَامَتَهُ (فضائل الأشهر الثلاثة ص18).
وعنه عليه السلام أنّه: شَهْرٌ مُبَارَكٌ عَظِيمُ الْحُرْمَةِ مَسْمُوعُ الدُّعَاءِ (فضائل الأشهر الثلاثة ص34).
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: رَجَبٌ شَهْرٌ عَظِيمٌ، يُضَاعِفُ اللَّهُ فِيهِ الْحَسَنَاتِ، وَيَمْحُو فِيهِ السَّيِّئَاتِ (الفقيه، ج2، ص: 92).
تتجلى البركةُ في هذا الشهر، وتظهر كرامةُ الله للصائمين فيه، حينما يورِثُ الصومُ فيه براءة من النار.. وخلوداً في جنات الرحمان!
لكن..
قد يتساءل سائلٌ فيقول:
كيف يكون الصوم في هذا الشهر أماناً من سَكَرات الموت؟ وهَول المُطَّلَع؟ وعذاب القبر؟ وشدائد يوم القيامة وأهواله؟
هل يُعقل أن ينال الصائمُ ثواباً لا يُحصى قَدرُه؟!
أيُعقل أن نعصي الله تعالى أيامنا.. ثمَّ نَتَوَجَّه إليه في الأشهر المباركة فننال الفوزَ عندَه ؟!
هل يكتفي الله عزَّ وجلَّ منّا بصيامٍ وقيامٍ في أوقاتٍ عَظَّمَها وشرَّفها ؟ ثمَّ لنا أن نفعل ما شاء سائر أيامنا؟
وهل ينال كلُّ مسلمٍ هذا الثواب مهما كان مذهبه وعقيدته؟!
لكنَّ المؤمن لا يُعدَم جواباً على هذه التساؤلات، ويوضحُ ذلك في أمور:
أولاً: اشتراط الثواب بالإخلاص
إنَّ عَظيمَ الثواب مشروطٌ بأمورٍ منها الإخلاص لله عزَّ وجل، وقد ورد ذلك عن النبي (ص) في صيام شهر رجب عندما ذكر لذلك ثواباً وشَرَطَه فقال: (إِذَا أَخْلَصَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وهذه قاعدةٌ سيّالة، فإنَّ الله عزَّ وجل إنما يعطي الثواب العظيم على القليل الذي يؤتى به خالصاً لوجهه.
وقد ورد عن الصادق عليه السلام: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَحِيمٌ يَشْكُرُ الْقَلِيلَ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُرِيدُ بِهِمَا وَجْهَ اللَّهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّهُ لَيَتَصَدَّقُ بِالدِّرْهَمِ يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ (المحاسن ج1 ص253)
فليست العبرةُ عند الله تعالى بكثرة العمل، بل بحُسنه، ولا يكون ذلك بغير الإخلاص والتوجُّه إليه تعالى، ومع الإخلاص تَتَغيَّرُ حياةُ العبد، فيصير من الصالحين، لأنَّ الإخلاص يعني التوجه إلى الله عز وجل وحده، فلا يشوب العمل حينها شائبةٌ أبداً..
ومَن كان كذلك بلغَ من درجات القُرب من الله مبلغاً عظيماً.. فقد ورد في الحديث عن الباقر عليه السلام: مَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعِينَ يَوْماً.. إِلَّا زَهَّدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا وَبَصَّرَهُ دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا فَأَثْبَتَ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ (الكافي ج2 ص16).
وهذه منزلة جليلةٌ ينالُها الإنسان بالإخلاص، وما يُذكَرُ من ثوابٍ عَظيم موقوفٌ عليه.
ثمَّ إنَّ مِن تمام التوجُّه نحو الله تعالى والإخلاص له الامتناع عن معصيته..
فتشهد ملائكة الرحمان لله تعالى أن العبد كان في الأشهر المباركة:عَمَّا مَنَعْتَهُ فِيهَا مُمْتَنِعاً.. لَقَدْ صَامَ بِبَطْنِهِ، وَفَرْجِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ.. وَكَثُرَتْ نَفَقَاتُهُ فِيهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَعَظُمَتْ أَيَادِيهِ وَإِحْسَانُهُ إِلَى عِبَادِكَ، صَحِبَهَا أَكْرَمَ صُحْبَةٍ، وَوَدَّعَهَا أَحْسَنَ تَوْدِيعٍ، أَقَامَ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا عَنْهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَلَمْ يَهْتِكْ عِنْدَ إِدْبَارِهَا سُتُورَ حُرُمَاتِكَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ هَذَا (تفسير الإمام ص655).
هكذا يكونُ المُخلِصُ الذي يستحقُّ الثواب، يُعظِّمُ هذه الأشهر عندَ حضورِها، ثم لا ينسلِخُ عن الطاعة بعد انسلاخها، لأنَّه يعبد الله ولا يعبدها !
وليس هو ممَّن يحفظ حُرُمات الله فيها ويهتكها في سواها من الليالي والأيام.. فكلُّ الأيام لله، وإن كان بعضُها أعظم من بعض..
هكذا يكونُ الإخلاص لله، وهكذا يكون المُخلِص، نِعمَ العَبد الصادق في عبادته، فيستحق عظيم الثواب من الله تعالى.
ثانياً: الثواب فَضلٌ من الإله العظيم
لقد ابتدأ الله عزَّ وجلَّ الإنسان بالنِّعَمِ العظيمة قبل أن يسأل، ودون أن يعمل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها).
فإنَّ أحدَنا لو تجرَّدَ وَجَدَ أنَّ النِّعَمَ التي أسبغها عليه الإلهُ العظيم في غاية العظمة، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والعابد والجاحد، والصدِّيق والزنديق.. ثم لم يكن الأمرُ مُستغرَباً، لِما نعلم من كَرَمِ الإله العظيم وَجُودِه ومَنِّهِ وعطائه.
لكنّا لِجَهلِنا لا نألف أن يُعطينا الإلهُ جنّاتٍ عرضُها السماوات والأرض جزاءَ القليل من أفعالنا.
يغيبُ عنّا أن ليس شيءٌ يُعجِزُ الله تعالى، بل يستوي عنده اليسيرُ والخَطير، وفليس في قُدرةِ الله سَهلٌ وصَعبٌ! فقدرَتُه واحدةٌ تجاه المقدورات كلِّها..
ويَغيبُ عنّا أن ليس ينقصُ من سلطانه ومُلكه شيء مع كثرة العطاء..
ويَغيبُ عنّا أنَّ مَن ابتدأ بالعَطاء دون السؤال أحقُّ أن يعطي بعد السؤال.. ومَن أعطى المؤمن والكافر في دار الامتحان نِعَماً لا تُحصى، جديرٌ بأن يعطي المؤمن في دار الجزاء ما هو أعظَمُ مِن ذلك..
إنَّ الله تعالى يعلَم أن من توجَّهَ إليه في شهر رجب مخلِصاً صادقاً، وتَطَوَّعَ فيما لم يوجِب عليه، تعظيماً لِشَهرٍ عظَّمَهُ الله، هو من أهل الصلاح الذين يستحقون الثناء، ويسعون نحو رضا الرحمان.
لذا تشهدُ له هذه الشُّهور المباركة بين يدي الرحمان:
فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ حُرْمَةَ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، ووَصَلَهُمَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الشُّهُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. بِتَعْظِيمِهِ لَهَا (تفسير الإمام ص655).
ثمَّ تَصف الملائكة فِعلَه في هذه الأشهر فتقول لله تعالى:
وَلَقَدْ تَعَرَّضَ بِجُهْدِهِ لِرِضَاكَ، وَطَلَبَ بِطَاقَتِهِ مَحَبَّتَكَ (تفسير الإمام ص655).
ويأتي النداء يوم القيامة من عند الله تعالى للرجبيين، أصحاب الوجوه المُنيرة يوم القيامة، وَحَمَلَةِ تيجان المُلك.. ومحلِّ كرامة الله تعالى.. يأتيهم النداء:
وَعِزَّتِي وَجَلَالِي: لَأُكْرِمَنَّ مَثْوَاكُمْ، وَلَأُجْزِلَنَّ عَطَاكُمْ.. إِنَّكُمْ تَطَوَّعْتُمْ بِالصَّوْمِ لِي فِي شَهْرٍ عَظَّمْتُ حُرْمَتَهُ، وَأَوْجَبْتُ حَقَّهُ (فضائل الأشهر الثلاثة ص31).
بهذا يصيرُ صيامُ يومٍ واحدٍ من رجب تَطَوُّعاً باباً من أبواب الجنّة، وسبيلاً لرضا الرحمان.
فالله تعالى نَدَبَهُم إلى صيامِه وقيامه فسارَعوا إلى ذلك، فأجزلهم ثواباً عظيماً.
ثالثاً: إشتراط الثواب بولاية آل محمد (ع)
ليست أبوابُ الجِنان مفتوحةً على مِصراعيها لمن صام شهر أيام رجب وقام لياليه، فإنَّ لها شروطاً يرفضُها أكثر الخلق، وأهمُّها ولاية آل محمد عليهم السلام، كما عن الصادق عليه السلام أن كلَّ عبدٍ:
إِنْ أَقَرَّ بِوَلَايَتِنَا ثُمَّ مَاتَ عَلَيْهَا قُبِلَتْ مِنْهُ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ وَزَكَاتُهُ وَحَجُّهُ.
وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِوَلَايَتِنَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ (الأمالي للصدوق ص256).
وهو قوله تعالى: (وقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)، فإنَّها: (أَعْمَالُ مُبْغِضِينَا وَمُبْغِضِي شِيعَتِنَا) (بصائر الدرجات ج1 ص426).
فإذا اكتملت الشرائط، صارَ العبدُ أقربَ ما يكون لآل محمدٍ في درجتهم، كما عن الباقر عليه السلام:
مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَجَعَلَهُ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأمالي للصدوق ص5).
فَبِقَدرِ معرفة الإمام وولايته تُضاعَفُ الأعمال، وتُرفَعُ الدَّرجات.
وبقَدرِ الطاعة والمودة لهم يقتربُ العبدُ منهم عليهم السلام، وإن كانوا في مَحَلٍّ لا يطمحُ إليه طامح.
إنَّ أكثر المؤمنين جِدَّاً في طاعة الله تعالى أقرَبُهُم لآل محمدٍ عليهم السلام (تفسير الإمام ص665).
وقد صار شَهرُ رجب (باباً للتَّقرُّب من آل محمد)، فَعَظَّمَهُ المؤمنُ، وعَظَّمَهُم فيه، وعَرَفَ حرمَتَه، وأدّى حقَّه، فكان من المُفلِحين.
ثمَّ صار يتوجَّه إلى مشاهد أولياء الله في رَجَب، ويدعو الله بما يدعونه به، ويسأله بالمولودين فيه، ثم يخاطبُ سيِّدَ الشُّهداء في أوله ونصفه بخِطَابٍ سامٍ فيقول:
لَبَّيْكَ داعِيَ الله، انْ كانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغاثَتِكَ، وَلِسانِي عِنْدَ اسْتِنْصارِكَ، فَقَدْ أَجابَكَ قَلْبِي وَسَمْعِي وَبَصَرِي ! (الإقبال ج3 ص342).
ها هو قلبُ المؤمنين يهتفُ في غرَّةِ رجَب باسم الحسين.. ويطمعُ بزيارته فيه وفي غيره من الشُّهور.. وقد اتَّخذَ هذا الشَّهرَ باباً إلى الحُسين وأخيه، وأمِّه وأبيه، وجَدِّه وبنيه.. عليهم من الله السلام، والرحمة والإكرام..
اللهم اجعلنا ممن يُعظِّم هذه الأيام، ويمتثِل أمرَك فيها وأمر أوليائك، ويَثبُت على ولايتهم، والبراءة من أعدائهم، إنك سميعٌ مُجيب.
والحمد لله رب العالمين
أولى ليالي رجب الأصبّ 1443 هـ
ما هو المراد من الآثار المعنوية للصوم؟
الآثار المعنوية هي عبارة عن المعطيات التي تتصل بالروح والعقل والنفس، فكل ما يؤثر في تسامي الروح، وكلُّ ما يساهم في تصفية العقل، وفي تزكية النفس، فهو أثر معنويّ.
[اشترك]
وذلك في مقابل الآثار الماديَّة للصوم، كالآثار الصِّحية، والآثار السلوكية المرتبطة بنظام المجتمع، أو المرتبطة بالسلوك الشخصيّ، إذ من الواضح أنَّ أثر الصوم لا ينحصر في الآثار المعنوية، بل يتَّسع ليشمل آثاراً صحية، واخرى اجتماعية، وآثاراً تتصل بالسلوك الشخصي. هذا هو المراد من الأثر المعنوي، أو الآثار المعنوية للصوم، والتي قلنا أنها الآثار المرتبطة بالروح والعقل والنفس.
الفرق بين الآثار المعنوية، والآداب المعنوية للصوم:
أ- الآداب وسيلة للحصول على الآثار
المراد من الآداب المعنوية للصوم هو الأعمال التي جعلها الشارع وسائلَ لتحصيل الآثار المعنوية، فهي معبَرٌ وطريق لتحصيل الآثار، هي آداب يلتزمها المكلف مُتلقَّاةٌ من قِبَل الشَّارع، لا مبتكرة، وإنما هي مُتلقَّاةٌ من قِبَل الشارع المقدس، هذه الأعمال وهذه الآداب يُنتج التزامها الآثار المعنوية والتي هي مصب حديثنا إن شاء الله.
فالآثار المعنوية هي مثلا لحكمة، كما ورد في الروايات الشريفة أن: "يا ربِّ وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يُورث الحكمة والحكمة تُورث المعرفة، والمعرفة تُورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر .."(1)، ومن الآثار المعنوية التقوى، كما تشير اليها الآية المباركة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(2)، ومن آثار الصوم المعنوية سكون القلب، كما ورد في الروايات الشريفة: "أن من ثمرات الصوم سكون القلب"، وكذلك من آثار الصوم المعنوية تثبيت الإخلاص، هذه هي أهم، أو أبرز الآثار المعنويَّة للصوم.
أما الآداب المعنوية للصوم فهي تختلف -كما قلنا-، إذ أنَّ الآداب وسائل لتحصيل الآثار. الآداب المعنوية، مثل: الاستغفار، تلاوة القرآن، الدعاء والمناجاة، التدبُّر، محاسبة النفس، مراقبتها، الصَّدقة على الفقراء والمساكين. هذه آدابٌ إذا التزمها المكلف حاز على الآثار المعنوية. عملية الإمساك والصوم لله -جلَّ وعلا- هي إحدى الآداب، أي أنها إحدى الأعمال التي جُعلت كوسيلة من قِبَل الشارع المقدس لتحصيل الآثار المعنوية. وبهذا البيان يتَّضح الفرق بين الآداب المعنوية والآثار المعنوية للصوم.
ب- الآداب اختياريَّة، أما الآثار فغير اختياريَّة
واتضح أيضا مما بيناه أنَّ الآداب المعنوية للصوم أعمال اختيارية يقوم بها المكلف بمحض اختياره وليس للشارع فيها إلَّا دور البيان والحث عليها، فالشارع وظيفته بيان الآداب والمكلف بالخيار بين أن يلتزم بهذه الآداب، أو لا يلتزم، أو يلتزم ببعضها ويترك البعض الآخر. وبمقدار ما يلتزم به من آداب، بمقدار ما يتحصَّل عليه من آثار، فالآداب المعنوية أفعال اختيارية يفعلها المكلَّف أو لا يفعلها، إذ أنَّ الاختيار -كما ذكر العلماء- هو أنَّ لك أن تفعل، ولك أن لا تفعل، فالاستغفار لك أن تفعله، ولك أن لا تفعله، وكذلك التدبُّر، وكذلك الصَّدقة، وكذلك تلاوة كتاب الله تعالى، والمناجاة، والدعاء، وقيام الليل، وما إلى ذلك من أفعال، فهي أفعالٌ اختيارية كشف عنها الشَّارع، وبيَّنها، وشرَّعها واعتبرها على عُهدَة المكلَّف، أما العهدة الإلزامية -لكن الإلزام الذي لا يتنافى مع الاختيار-، أو بنحو التحبيب والحثّ الذي لا يبلغ حدَّ الإلزام.
أما الآثار المعنوية فليست اختيارية، بل هي مكافآت إلهية، ومعطيات تنشأ عن الإلتزام بهذه الآثار، هي وعدٌ إلهيّ مفاده: إنْ التزم المكلَّف بهذه الآداب كافئتُه بهذه الآثار. فإذا صام المكلف الصوم الخاص الذي نريده منه عندئذٍ أكافأه بأن أجعل في قلبه الحكمة، بأن أرزقه سكون القلب وهدوء الفؤاد، بأن أهبه التقوى والإخلاص وأقرِّبه. هذه كلها أمورٌ ليس للمكلف أن يتحصَّلها، هي منحٌ ومكافئات من الله -جلَّ وعلا- للمكلَّف، إلَّا أنَّ هذه المكافآت ليست مكافآت مجَّانية، بل هي مكافآت يتحصَّل عليها بواسطة الالتزام بهذه الآداب، فالآداب هي طريق تحصيل هذه الآثار، فمن أراد أن يتحصَّل على أثر الصوم-وهو الحكمة، وسكون القلب، والتقوى- فليلتزم بالآداب المعنوية. هذا ما اردنا إثارته كمقدَّمة للبحث. وهناك نقطة نريد الإشارة إليها قبل بيان ماهي العلاقة بين هذه الآثار وبين الصوم، وهي:
أهمية التعرف على الآثار المعنوية للصوم:
التعرُّف على هذه الآثار هو الطريق لتحصيلها، من الصعب التوصُّل إلى هذه الآثار لمن يجهلها، لماذا؟ قلنا إنَّ هذه الآثار ليست مكافآت مجَّانية، وإنما هي مكافآت يُتحصَّل عليها بواسطة الإلتزام بالآداب، والالتزام بالآداب لا يتَّفق للمكلَّف التزامه إن لم يعرف ماهي المعطيات والمردودات التي تترتَّب عن هذه الآداب، وبتعبير أدقَّ: كلُّ إنسان عندما يريد الإقدام على الفعل لابدَّ أن يتصوَّره أولاً، فإذا تصوَّره، وأدرك فائدته في المرحلة الثانية، ثمَّ حصل عنده الإذعان والتصديق بهذه الفائدة، انعقد عندئذ العزم لديه على تحصيل هذه الفائدة، وانعقاد العزم على هذه الفائدة هو الذي يجعله يلتزم بهذه الآداب، وبتعبير أدق بالوسائل والطرق التي تبلغ به هذا الشيئ الذي أدرك فائدته، وأدرك مردوداته. إذن لابدَّ أن نعرف هذه الآثار، وليست معرفةً تصوُّريةً -كما قلنا- إنَّ تصوّر الفعل وحده غير كافٍ في عقد العزم على تحصيله، لاينعقد العزم على تحصيل الشيئ بمجرد تصوره، التصورات التي تنقدح في الأذهان كثيرةٌ جدًّا وأمَّا ما يُقدِم عليه المُكلَّف من أفعال فهي أقلُّ بكثيرٍ من التصوُّرات التي تنقدح في ذهنه، فإذن يختار الانسان من تصوّراته مجموعةً من التصوّرات، لماذا يختارها؟ لأنه يُدرك فائدتها، ويُذعن بترتُّب فوائد ومردوداتٍ على تطبيقها فتنقدح الرَّغبة في النَّفس لتحصيلها، وعندها ينعقد العزم. إذن لابدَّ من معرفة هذه الآثار حتى يحصل التصديق بفائدتها، وإذا حصل التصديق بفائدتها حصلت الرَّغبة في تحصيلها، وإذا حصلت الرَّغبة انعقد العزم على تحصيلها، وإذا انعقد العزم بحَثَ الإنسانُ عن الوسائل المُحصِّلة لهذه الآثار، من هنا تكمن أهمية استيعاب هذه الآثار -وليس تصورها، لابد من استيعابها- واستيعاب ما يترتَّب عليها من فوائد ومردودات، هذه مسألة أحببنا إثارتها، لأهميتها في دخول هذا البحث الذي سوف ندخل فيه الآن ان شاء الله.
الآثار المعنويَّة للصوم:
قلنا إنَّ الآثار المعنوية للصوم -كما أشارت الروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)- هي سكون القلب، وهي التقوى، وتثبيت الإخلاص، والحكمة. هذه آثارٌ معنوية أربع تترتب على الصوم- وليس أيُّ صومٍ، كما ربما نبين ذلك-.
أولاً: الحكمة
نبدأ بالحكمة والتي هي أحد الآثار التي تترتَّب على الصوم. ورد في حديث المعراج(3)، إنَّ رسول الله (ص) قال لربِّه: ياربي، وما ميراثُ الصَّوم؟ قال: الصوم يُورث الحكمة، والحكمة تُورث المعرفة، والمعرفة تُورث اليقين. فإذا استيقن العبد، لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر)(4) فإذن ميراث الصوم هو الحكمة.
ما هو المراد من الحكمة؟
نستلهم المراد من الحكمة من كلمات أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، ورد عن أبي الحسن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: "الحكمة هي الفهم والعقل"، المراد من الحكمة هو الفهم والعقل.
ماهو المراد من الفهم؟ وما هو المراد من العقل؟
الفهم هو رؤية الأمور على ماهي عليه من واقع، بمعنى أن تستوعب الأمر استيعاباً واقعياً، وتكون مُدرِكاً له، أما مجرّد أن تتصور هذه الأمور، وتكون هذه التصورات غير مطابقة للواقع؛ هذا لا يكون فهماً، هذا يكون جهلا، وقد يكون جهلا مركبا(5). إذن الفهم هو رؤية الأمور على ما هي عليه من واقع، واستيعاب الأمور على ماهي عليه من واقع، فالرجل الفاهم هو الرجل الذي لا ينظر إلى الأمور من منظار نفسيّ، عاطفيّ، فالعاطفة تحجب العقل عن إدراك الواقع، وتكون جداراً بين الواقع والعقل. كذلك حين يعتمد الإنسان وسائل غير برهانية للتعرُّف على الواقع، فإنَّه لن يصل إلى الواقع. من هو الذي يصل إلى الواقع؟ ومن الذي يفهم الواقع؟ هو الذي يتأمَّل في كلِّ ما يشاهده، ويكون نظره إليه نظراً مُتأنياً، وليس نظراً مُرتجلاً، هذا أولاً. وثانياً يعتمد الوسائل البرهانية، والوسائل العقلائية للتعرُّف على الواقع. هناك حدثٌ واحدٌ يشاهده اثنان، يفهمه الأوَّل، ويغفل عنه الآخر! ماهو سرُّ ذلك؟ سرُّ ذلك أنَّ الأوَّل اعتمد على التروِّي والتأمُّل والتأنِّي، وملاحظة الحيثيات المتصلة بهذا الأمر، هذا أولاً، وثانياً: اعتمد الوسائل العقلائية للتعرُّف على واقع هذا الأمر. لذلك ورد في الرواية أنَّ: "العاقل هو الذي لا تلتبس عليه اللوابس"، الذي لا تلتبس عليه اللوابس هو الانسان الذي يعتمد طرقاً برهانية، طرقاً عقلائية لتحليل ما يشاهده. هناك أمران مهمَّان للوصول إلى الواقع: الأول هو اعتماد الوسيلة البرهانية العقلائية، والأمر الثاني هو تعمُّد فهم الواقع. كثيرٌ ممن لا يفهم الواقع هو لا يريد أن يفهم، فتراه يعتمد على ما يخطر في ذهنه من انطباعات عن هذا الموقف الذي شاهده، ويعتمد هذه الانطباعات، ويرتِّب عليه الآثار دون أن يبذل مؤونة زائدة للتفكير والتأمُّل للتعرف على أنَّ هذا حقٌ أو أنه باطل، وللتعرُّف على ما ينبغي أن يحصل و ما لا ينبغي أن يحصل، ليس له أيُّ استعداد لأن يبذل هذه المؤنة، إذا افتقد الانسان هذين الأمرين فلن يصل إلى الواقع، هذا هو المراد من الفهم.
ب- المراد من العقل:
وأما ما هو المراد من العقل؟ فهو حسن تدبير الأمور، فالعاقل هو الذي يتمكَّن من تدبير أموره على الشَّكل المتناسب مع الحق، ومع مقتضيات العقل، ومقتضيات السِّيرة العقلائية الناشئة عن مقتضياتٍ واقعية، هذا هو العقل.
الفرق بين الذكاء والعقل
فرقٌ بين الذكاء والعقل، قد يكون الإنسان ذكيًّا ولا يكون عاقلا، العقل هو القدرة على تدبير الأمور، ويكون هذا التدبير هو التدبير المتناسب مع ما يتطلبه الواقع، ونقصد من الواقع هو الحق، وأما الذكاء فهو أمرٌ يخلتف تماماً عن العقل، وقد يجتمع في الإنسان ذكاءٌ وعقل، ولكن قد يفترق الذَّكاء عن العقل، فيكون الإنسان ذكيًّا ولا يكون عاقلاً، وأنا اثير هنا نقطة -أرجو ان لا يساء فهمها-، أنا أتصوَّر أنَّ الرِّوايات والأدلَّة التى أشارت إلى أنَّ النِّساء ناقصات العقول، وما قيل من نقض عليه بأنَّ كثيراً من النساء يتفوَّقن في المعارف وفي العلوم على الرجال، فما هو معنى أنَّ النساء ناقصات العقول، وما معنى قوَّامية الرِّجال على النساء؟ التمييز بين الذكاء والعقل يُساهم في الإجابة عن هذا الاشكال، هذا هو المراد كما نفهم من قول أبي الحسن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): "إنَّ الحكمة هي الفهم والعقل"، وهناك روايات أخرى أشارت إلى ما هو المراد من الحكمة، مثلا: قول الإمام الباقر (عليه السلام): "الحكمة أن لا أتكلَّف ما قد كُفيته ولا أضيع ما وَليته"(6) هذا بيانٌ لمصداقٍ من مصاديق الحكمة، وهو تدبير الأمور على أحسن وجه، واستيعابها، وفهمها فهماً واقعيًّا، ثم تدبيرها تدبيراً متناسباً مع ما يقتضيه البرهان وتقتضيه الطريقة العقلائية، فلا أتكلَّف ما قد كُفيته، لأنه فضولٌ وعناء بلا داعٍ وبلا مبرِّر، ولا أضيِّع ما وليته، إذ أنَّ هذا التضييع ينافي الحكمة، إذ أنه قد اوكلت إليَّ مهمة وعليَّ أن أُحسن تدبير هذا الامر، فضيَّعته وجعلتُه يذهب ويفوت، وكان الأجدر بي أن أُحسن تدبيره، وأُتمَّه على أوفق وجه.
هناك رواية اخرى: "من الحكمة أن لا تتعاطى ما ليس في قدرتك، ولا يخالف لسانك قلبك، ولا تتكلَّم فيما لا تعلم، ولا تترك الأمر عند الإقبال، ولا تطلبه عند الإدبار"(7) وقال الإمام السجَّاد (عليه السلام): "رأس الحكمة مخافة الله"(8) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "رأس الحكمة تجنُّب الخدع"(9) وقال رسول الله (ص): "الرفق رأس الحكمة"(10) وكلُّ هذه المعاني التي ذُكرت في هذه الروايات هي بيانٌ لمصاديق الإنسان الحكيم.
الارتباط بين الصوم والحكمة
ونشير في نهاية الحديث إلى ما هي العلاقة بين الصوم وبين الحكمة؟ إنه قد لا يلحظ وجه للعلاقة بين الحكمة والصوم، الرواية الشريفة تكشف عن وجود ارتباطٍ وثيق بينهما، قال رسول الله (ص) في حديث المعراج: إنَّ الله عز وجل قال له في -حديث قدسي-: "يا أحمد، إنَّ العبد إذا أجاع بطنه، وحفظ لسانه، علَّمتُه الحكمة، وتكون حكمته نوراً وبرهاناً"(11)، وفي رواية أخرى عن الإمام علي (عليه السلام): "التخمة تُفسد الحكمة، والبِّطنة تحجب الفِّطنة"(12)، وقال (عليه السلام): "القلب يتحمَّل الحكمة عند خلوّ البطن، والقلب يمجُّ الحكمة عند امتلاء البطن"(13). وهذه مسالة وجدانية، فهناك ثلاث قوى في النفس: القوة العاقلة، والقوة الغضبيَّة -المعبر عنها بالقوة السَّبُعية-، والقوة الشهوية. وهي قوى متغالبة -كما يقول علماء الأخلاق والفلسفة العملية- هذه قوى متغالبة، فعندما تطغى القوَّة الشَّهوية فإنَّ القوَّة العاقلة تضعُف، وأشارت الروايات إلى ذلك -كلَّما قويت الشهوة ضعُف العقل، وكلَّما قوي العقل ضعُفت الشهوة-، هاتان قوتان في النفس متغالبتان، فالإنسان إذا امتلأ بطنه من بالطعام، وامتلأت نفسه بحب الشهوات، وأقدم على حبِّ ما يُلهي وما تلتذُّ به النفس، عندئذ يضعف عقله، وضعف العقل هو ما ينافي الحكمة.
الهوامش:
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 74 ص 27.
2- سورة البقرة / 183.
3- وهو عبارة عن مجموعة من الرِّوايات نقلها لنا رسول الله (ص)، وهي مجموعةٌ من المعارف تلقَّاها عن الله -جلَّ وعلا- حينما عرج به إلى السماء، فنقل لنا ما شاهده، وما تلقاه عن الله -جلَّ وعلا-.
4- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 74 ص 27.
5- الجهل المركب: هو أن تجهل شيئا، وتجهل بأنك تجهله.
6- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 13 ص 415.
7- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 673.
8- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 4 ص 376.
9- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 673.
10- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 72 ص 352.
11- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 74 ص 29.
12- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 674.
13- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 89.
إن الكثيرين هذه الأيام يفكرون في الاستجمام، لإراحة البدن من تعب الحياة اليومية. والأرواح كالأبدان تحتاج إلى الاستجمام بل هي الأولى به؛ لأن الأبدان مآلها إلى الفناء، أما الأرواح فهي باقية ببقاء الله -عز وجل-: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ). فكما أن هناك في عالم الطبيعة ثلاثة أشهر هي فصل الربيع، كذلك أيضاً بالنسبة لعالم الأرواح؛ فإن ربيعها هذه الأشهر المباركة الثلاثة: رجب شهر الله -عز وجل-، وشعبان شهر نبيه (ص)، وشهر رمضان شهر أمته.
[اشترك]
فرب العالمين جعل لنا شهرين للتهيئة، لعقد الصفقة الكبرى في ليلة القدر؛ إذ أنه من الملاحظ في هذه الأشهر كثرة العبادة، والذكر صباحاً ومساءً، وإحياء المناسبات الكبرى. حيث أن هذين الشهرين يمتازان بكثرة مواليد أهل البيت -عليهم السلام-: ميلادُ أمير المؤمنين (ع)، والمبعث النبوي الشريف، وميلاد سيد الشهداء (ع)، وأخيهِ العباس، وولدهِ زين العابدين (ع)، وقمة الأفراح بميلاد الإمام المهدي (عج)، وميلاد الإمام الحسن (ع) في منتصفِ شهرِ رمضان المبارك؛ كلها مناسبات فرح وسرور. ومن المعروف أنه في مناسبات الفرح والسرور تؤخذ الجوائز والعطايا، فما المانع أن يطلب الإنسان في كل مناسبة منها عطية من العطايا الكبار، من والد صاحب المناسبة أو ولده؟!
فإذن، إن هذين الشهرين بالإضافة إلى العشرين ليلة الأولى من شهر رمضان المبارك؛ هي أيام حاسمة لنيل ليلة قدر متميزة. تلك الليلة التي عندما أراد رب العالمين الإشارة إليها قال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) وكذلك عندما أراد أن يعبّر عن يوم القيامة قال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) فاستخدم نفس اللحن؛ ليبين لنا أن عقولنا قاصرة عن فهم حقيقة هذه الليلة. فمن يشتكي خلال السنة: سقماً في بدنه، أو قطيعةً في رزقه، أو اضطراباً في قلبه، أو مشكلة في أسرته؛ فكل ذلك كُتب في ليلة القدر، ولو أنه أتقن ليلة القدر الماضية لما أصيب بذلك. من منا يدّعي أنهُ في ليلة القدر الماضية بذَلَ قُصارى جهده؟!
كيف نتهيأ لليلة القدر؟
أولاً: أربعينية ترك المعاصي. إن أفضل ما يلتزم به المؤمن خلال هذه الأشهر، أربعينية ترك المعاصي؛ فيبدأ من أول رجب مثلاً، وحتى منتصف شعبان ليقول لإمام زمانه (عج): “يا مولاي! هذه نفسي قد هذّبتها، أو خففت من سلبياتها؛ فامسح أنت على قلبي وفكري”. وليكن شعاره: “اللهم اجعله خير شهر رجب مرّ علي منذ أن خلقتني”. ومن المفيد في هذا المجال أن يخادع الإنسان نفسه -مثلاً- بطلب الالتزام فقط لأربعين يوماً، قائلاً: يا نفس! ليست لكِ الهمة أن تكوني على الطريق المُستقيم سنة كاملة، لذا أطلبُ منكِ -يا نفسي- أن تلتزمي فقط أربعينَ يوماً. فرب العالمين جعل موسم الحج أياماً معلومات، وشهر رمضان أياماً معدودات؛ فهذهِ سياسة إلهية؛ لأنه يعلم أن بني آدم لا طاقةَ لهُ بالاستمرارية، فيغريه ويعطيه عينة من النفحات. وبالتالي، فإن الذي يتقن العمل في شهر رمضان، ويصير للهِ عبداً؛ ويستذوق حلاوة القرآن، وقيام الليل في شهرِ رمضان؛ فإنه سيستمر في ذلك طوال العام؛ ولكن شريطة أن يستذوق. وكما في الروايات: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية)، فإن هو نوى؛ جاءه المدد من رب العالمين.
ثانياً: الاستغفار. إن شهر رجب هو شهر الإنابة إلى الله عز وجل، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه قال: (رجب شهر الاستغفار لأمتي، فأكثروا فيه الاستغفار؛ فإنّه غفورٌ رحيم. ويسمّى الرجب الأصبّ؛ لأن الرّحمة على أمتي تصب صبّاً فيه، فاستكثروا من قول: أَسْتَغْفِر اللهَ وَاَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ). لذا فإنه يجب على الإنسان خلال هذا الشهر، أن ينظف بيت الروح الذي أهمله لتسعة أشهر، وذلك باتخاذ أول خطوة وهي الاستغفار.
ثالثاً: تصفية النفس. إن المؤمن حريص على كسب مرحلة الغفران، وعلى الاستغفار، وتصفية النفس قبل شهر رمضان. فلنحاول أن نخرج أنفسنا من آبار الأهواء والشهوات التي أسقطنا أنفسنا فيها، كُلنا كمثل يوسف في غيابات الجُب، كُلنا دون المستوى الطبيعي. لذا علينا في هذين الشهرين أن نُخرج أنفسنا من هذهِ الآبار العميقة -بعضُنا في حفرة، وبعضُنا في بئرٍ عميق- كي نحلق في أول ليلة من ليالي شهر رمضان، وكما قال الشاعر:
ومن يتهيّب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
رابعاً: اغتنام الفرص. إن هذا الشهر سمي بالأصبّ؛ لأن الرحمة الإلهية فيه تصبّ على الأمة صبّاً. فرقٌ بينَ باب مفتوح فتحة بسيطة، وهناك أناس كثيرون وراء الباب يدخلون واحداً واحداً. وبينَ الأبواب المُشرّعة، الكُل يدخل في فترةٍ قصيرة! في شهر رجب أبواب الرحمة الإلهية مُفتحة: فذنبٌ واحد في غير شهر رجب، قد يحتاج إلى سبعين استغفار بدمعة في جوف الليل؛ عسى ربنا أن يغفر لنا. أما في رجب فاستغفارٌ واحد يكفي، لذا علينا أن نستكثر من هذا الذكر المحمدي: (اَسْتَغْفِر اللهَ وَاَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ). ومن يكون في هذه الشهور في بلاد بعيدة: أجنبية، أو إسلامية، ويسترخي قليلاً في أمر دينه؛ ولا يراقب مأكله ولا مشربه؛ ليعلم أن هذا الشهر شهر الرحمة الغامرة، فحيثما كنت اغتنم هذه الفرصة!
خامساً: الالتزام بالدعاء المخصوص بهذا الشهر. في الحديث يروي السيد ابن طاووس: عن محمد بن ذكوان المعروف بالسجّاد -لأنه كان يكثر من السجود والبكاء فيه حتى ذهب بصره- قال: قلت للصادق -عليه السلام-: جعلت فداك! هذا رجب علّمني فيه دعاءً ينفعني الله به، قال عليه السلام: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قل في كل يوم من رجب صباحاً ومساءً، وفي أعقاب صلواتك في يومك وليلتك: “يا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَآمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ شَرٍّ! يا مَنْ يُعْطِي الكَثيرَ بِالقَلِيلِ! يا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ! يا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ؛ تَحَنُّنا مِنْهُ وَرَحْمَةً! أَعْطِنِي بِمَسأَلَتِي إِيّاكَ جَمِيعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَمِيعَ خَيْرِ الآخرةِ، واصْرِفْ عَنِّي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ جَمِيعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرةِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ ما أَعْطَيْتَ، وَزِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ يا كَرِيمُ”)! إن في هذا الدعاء نقاطاً دقيقة ينبغي الالتفات إليها: فأنت لا تسأل الله -عز وجل- بقربك منه مثلاً، أو بحقك عليه؛ بل أنت تعلم أنك لا تستحق ولكنك سائل. ورب العالمين خزائنه بين الكاف والنون؛ فما المانع أن يعطيك خير الدنيا والآخرة إذا أراد (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)؟ لذا عليك أن تتكلم مع الله -عز وجل- بما يجعله يريد. فإذا رقّ قلبك، ودمعت عينك، وأحسست بشيء من علامات الاستجابة؛ عليك بهذا الدعاء. وفي الحديث: (إذا رق القلب، وجرى الدمع. فدونك! دونك! فقد قصد قصدك).
سادساً: الالتزام بمستحبات الشهر. ومن جملة الأعمال الواردة التي علينا الالتزام بها خلال هذا الشهر:
1- ترديد كلمة التوحيد (لا اِلـهَ إلاَّ اللهُ) خلال الشهر ألف مرة. عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (من قال في رجب: “لا اِلـهَ إلاَّ اللهُ” ألف مرّة؛ كتب الله له مائة ألف حسنة، وبنى الله له مائة مدينة في الجنّة).
2- قراءة سورة التوحيد مائة مرة. روى السّيد في الإقبال فضلاً كثيراً لقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشرة آلاف مرّة، أو ألف مرّة، أو مائة مرّة في شهر رجب. وروي أيضاً (أنّ من قرأ قُل هو الله أحدٌ مائة مرّة في يوم الجمعة من شهر رجب، كان له يوم القيامة نور يجذبه إلى الجنّة).
3- الالتزام بالاستغفار الوارد بقول: (اَسْتَغْفِرُ اللهَ لا اِلـهَ إِلاّ هُوَ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ) مائة مرة. عن النّبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنّه قال: (من قال: في رجب: “اَسْتَغْفِرُ اللهَ لا اِلـهَ إِلاّ هُوَ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ” مائة مرّة، وختمها بالصّدقة؛ ختم الله له بالرّحمة والمغفرة. ومن قالها أربعمائة مرّة، كتب الله له أجر مائة شهيد).
4- الصلاة ستين ركعة. يصلّى في هذا الشهر ستّين ركعة، يُصلّى منها في كلّ ليلة ركعتين، يقرأ في كلّ ركعة: الحمد مرّة، و(قُل يا أيّها الكافِرُونَ) ثلاث مرّات، و(قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ) مرّة واحدة. فإذا سلم رفع يديه إلى السّماء وقال: (لا إِلـهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيي وَيُميتُ، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيء قَديرٌ، وَاِلَيْهِ الْمَصيرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظيمِ. اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد النَّبِيِّ الأُْمِّيِّ وَآلِهِ)، ويمرر يده على وجهه، وعن النّبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (إنّ من فعل ذلك استجاب الله دعاءه، وأعطاه أجر ستّين حجّة وعُمرة).
5- يستحبّ أن يصلّي في كلّ ليلة من اللّيالي البيض من هذه الأشهر الثّلاثة: رجب، وشعبان، ورمضان: اللّيلة الثالثة عشرة منها ركعتين، يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة، وسورة “يس” و”الملك” و”التّوحيد”. ويصلّي مثلها أربع ركعات بسلامين في الليلة الرّابعة عشرة، ويأتي ستّ ركعات مثلها يسلّم بين كلّ ركعتين منها في الليلة الخامسة عشرة. فعن الصّادق -عليه السلام-: (أنّه من فعل ذلك، حاز فضل هـذه الأشهر الثّلاثة، وغفر له كلّ ذنب سوى الشرك).
فإذن، إن المؤمن في فصل ربيع الأرواح يمشي في أرض الكنوز؛ والذي يغفل عن جمع الكنوز؛ يأتي متحسراً يوم القيامة. ولكن لنحذر من التركيز في العطية! فالبعض منا يقرأ الجائزة قبل العمل، فإن اقتنع بها عمل، وإلا فلا يعمل. والحال أننا عبيد، ويجب أن نقوم بوظائف العبودية، ورب العالمين واسع كريم؛ ألاّ نقول في الدعاء: (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه؛ تحنناً منه ورحمة). فمن لم يعرفه هو الكافر الملحد، ورب العالمين يعطيه؛ فكيف بالمؤمنين؟!
ما هي علامة القبول؟
لا بأس أن يعلم الإنسان: هل قُبلت طاعته أم لم تُقبل! فإبراهيم الخليل وهو خليل الرحمن، سأل الله -عز وجل- أن يريه كيف يحيي الموتى (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فهو يريد علامة الإحياء، ورب العالمين يريدنا أن نطلب علامة القبول. وأهم علامة للقبول هو تغير السلوك، فمثلاً: الذي يستحم علامة صدقه نظافته ورائحته العطرة. والذنوب نتن فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (تعطّروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب). وعليه، فإن علامة القبول هي التخلص من هذا النتن. فالذي يغضب لينظر إلى غضبه بعد الموسم؛ فإن أصبح هادئاً حليماً؛ فقد قبلت طاعته. والذي شهوته في الحرام؛ علامة قبوله زهده فيه. والذي يمنع حق الله -عز وجل- في ماله؛ يؤدي الخمس. وقس على ذلك باقي فروع الشريعة! وهناك علامة أخرى للقبول، وهي حالة الاطمئنان القلبي. فالمؤمن بعد السفرة العبادية يعيش الارتياح؛ فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه). هذهِ الفرحة ليست عندَ الإفطار فحسب! بل بعدَ صلاة الليل لهُ فرحة، وبعدَ صلاة الجُمعة والجماعة لهُ فرحة أيضاً. فهنيئاً لمن وهبه الله -عز وجل- روحاً ونفحة من ريحانه!
الخلاصة:
1. إن الأرواح كالأبدان بحاجة إلى استجمام من ثقل الذنوب.
2. إن من يريد كسب ليلة قدر متميزة، يبدأ بالتهيؤ لها من شهري: رجب وشعبان.
3. إن على الإنسان في مناسبات مواليد المعصومين -عليهم السلام- أن يطلب العطايا الكبار من صاحب المناسبة.
4. أنه علينا أن نحوز مرحلة الغفران قبل شهر رمضان، لنحلق مع أول لياليه إلى الرضوان.
5. إن من علامات قبول الطاعة: التغير في السلوك، والاطمئنان القلبي.
كيف يضمن الإنسان آخرته، فالدنيا التي نعيش فيها كثيرة الفتن، وخصوصا زمننا الحاضر اصبحنا نخرج من فتنه وندخل بالأعقد منها؟
[اشترك]
من الضروري أن يفكّر الإنسان بشكل دائم ومستمر في مصيره وعاقبته، فما دام الشيطان موجوداً وقد أقسم على إغواء البشر، وجرّهم إلى نار جهنم، ومن جهة أخرى النفوس البشرية تميل إلى الراحة واللهو واتباع الشهوات وتأمر صاحبها بالسوء، مضافاً إلى عواملَ كثيرة ومن أهمها انتشار الشبهات والفساد وكثرة المشككين، تجعل الإنسان يعيش حالة الخوف من مصيره وخاتمته، وهو خوفٌ ممدوح، إذ لا بدّ على المؤمن أن يعيش حالة الخوف من سوء العاقبة، ولا ضمان ولا مؤمّن حقيقيّ من عدم الانحراف وسوء العاقبة، فالإنسان يعيش حالات من التقلبات.
وحسن الخاتمة وسوؤها لا يعلمه إلا الله، يقول المازندراني بعد شرحه لبعض الأحاديث: وفيه تنبيه على الخوف من سوء الخاتمة، وهو الذي قرّح قلوب العارفين. وقال في موضع آخر: سوء الخاتمة الذي يضطرب منه قلوب العارفين. (شرح الكافي للمازندراني: 4 / 292، و: 9 / 304).
وحسن العاقبة وسوؤها موضوع كبير لا يسعه هذا المقام.
ولكن هناك جملة من الأعمال لو التزم بها الإنسان، واستمرّ عليها بشكل دائم بلا انقطاع، لعله يكون معيناً -إن شاء الله- على حسن العاقبة.
الأمر الأول: معرفة العقائد الدينية الصحيحة، وعقد القلب عليها، وتقوية اليقين والإيمان بالله والنبي والأئمة والمعاد.
فإنّ معرفة العقائد الصحيحة تبصّر الإنسان وتقيه من الانزلاق إلى الانحراف والضلال.
وكلما ازداد إيمان الإنسان وقويَ يقينه بالعقائد الدينية، قلّ خطر سوء عاقبته، وكلما ضعف إيمان الإنسان، ازداد خطر سوء العاقبة.
ويجب على العاقل أن يبنيَ دينه وعقيدته على طبق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، كما وردَ في الحديث المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض.
الأمر الثاني: الابتعاد عن الشبهات والإلقاءات الشيطانية، وعدم مجالسة أهل الريب والبدع، وترك الإصغاء لهم، وعدم متابعة المواقع والفضائيات التي تبثّ الشبهات والشكوك في العقائد الدينية.
وينبغي للإنسان أن يسأل أهل الاختصاص ويتابع معهم فيما علق بذهنه من شبهات، فإنّ الشبهات تضعف الإيمان، وإذا تراكمت لعلها تجرّ الإنسان إلى الانحراف أو الخروج من الدين عاجلاً أو آجلاً.
رويَ عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أنه قال: أسلم القلوب ما طهر من الشبهات. (تحف العقول لابن شعبة، ص235).
ورويَ عن الإمام السجاد (ع): فان الشكوك والظنون لواقح الفتن. (بحار الأنوار: 91 / 147).
ورويَ في الصحيح عن النبي (ص) لزوم إظهار البراءة من أهل الريب والبدع والوقيعة فيهم ومباهتتهم. (الكافي: 2 / 375).
ورويَ عن الإمام السجاد (ع): والذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب. (معاني الأخبار للصدوق، ص271).
الأمر الثالث: التفقه في الدين، وملازمة التقوى: وهو العمل بالواجبات وترك المحرمات، يقول الله تعالى: "تِلكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدونَ عُلُوًّا فِي الأَرضِ وَلا فَسادًا وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ." [القصص: ٨٣]
ولا بد أن يكون تفقهه على طبق فقه وعقيدة أهل البيت (عليهم السلام) حصراً، ويبتعد عما هو ليس منهم، ولا يكون الإنسان على مذهبهم حتى يأخذ عنهم، ورد في وصية أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد أنه قال له: يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا. (تحف العقول لابن شعبة، ص171).
وروى الكليني بسنده عن زيد الشحام، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل : (فلينظر الإنسان إلى طعامه)
قال: قلت: ما طعامه؟
قال (ع): علمه الذي يأخذه، عمن يأخذه. (الكافي للكليني: 1 / 50).
وروى الكليني بسنده عن بشير الدهان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا يا بشير! إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم (يعني إلى المخالفين) فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم. (الكافي: 1 / 33).
الأمر الرابع: ترك الحسد والتكبر: فإن إبليس وصل إلى ما وصل إليه بحسده لآدم، وتكبره عن السجود له، وكذلك الشلمغاني والعبرتائي، الذيْن صدر اللعن بحقهما من الناحية المقدسة، قال السيد الخوئي عن العبرتائي: ولعلّ السرّ والله العالم في عدوله عن الحقّ وانحرافه عن المذهب هو البغي والحسد، حيث إنّه كما عرفت كان من أعيان هذه الطائفة ووجوهها، وعلى جانب عظيم في أعين الناس، وقد لقيه أصحابنا بالعراق وكتبوا عنه، وأنكروا ما ورد في مذمّته حتى حملوا القاسم بن العلاء على أن يراجع في أمره مرة بعد أخرى، ولذلك كان يتوقّع اللعين صدور التوقيع باسمه وتفويض السفارة إليه وجعله نائباً خاصاً، فلمّا رأى خلاف ذلك دعاه بغيه وحسده إلى الخروج عن الدين والانحراف عن الحق، أعاذنا الله من سوء الخاتمة، ووقانا من تسويلات النفس الغاشمة. (موسوعة السيد الخوئي، شرح العروة: 12 / 335).
الأمر الخامس: الرضا بقضاء الله والتسليم له، والتفويض له، والتوكل عليه، قال تعالى: (الَّذي خَلَقَ المَوتَ وَالحَياةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزيزُ الغَفورُ) [الملك: ٢] فالإبتلاء والإمتحان والإختبار لا ينجح فيه إلا المؤمن بالله، الذي رضيَ بقضاءه، وسلمّ لأمره، وفوّضَ إليه أموره، وصبر على بلاءه.
الأمر السادس: الدعاء: فإنه مفتاح الفلاح.
قال المازندراني: ولذلك كان أهل الحق والسعادة يطلبون حسن العاقبة واستقامة الخاتمة بالتضرع والابتهال. (شرح الكافي للمازندراني: 4 / 292).
رويَ عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى، ولا إمام هدى ولا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت: كيف دعاء الغريق؟
قال: يقول: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
فقلت: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك.
قال (ع): إن الله عز وجل مقلب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. (كمال الدين للصدوق، ص352).
ورويَ عن محمد بن سليمان الديلمي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت له: جعلت فداك إن شيعتك تقول إن الإيمان مستقر ومستودع، فعلمني شيئاً إذا أنا قلته استكملتُ الإيمان. قال: قل في دبر كل صلاة فريضة: رضيت بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن كتاباً وبالكعبة قبلةً وبعليّ ولياً وإماماً وبالحسن والحسين والأئمة صلوات الله عليهم، اللهم إني رضيت بهم أئمة فارضني لهم انك على كل شئ قدير. (تهذيب الأحكام للطوسي: 2 / 109).
والأدعية كثيرة وبالأخص أدعية شهر رمضان.
الأمر السابع: إخراج حب الدنيا من القلب فإنها رأس كل خطيئة، وأساس كلّ انحراف، فكلما قويَ حبّ الدنيا، ضعف حبّ الله، فيعمل جاهداً لممارسة ما يعمّر دنياه، فيهدم آخرته، لعمارة الدنيا! وكلما قويَ حبّ الله، ضعف حبّ الدنيا والتعلق بها.
والدنيا براقة جذابة مغرية، فمالها وذهبها وفضتها من جهة، ورئاستها وسلطتها وشهرتها ومناصبها من جهة أخرى، وشهواتها من جهة ثالثة.
بحيث لو سيطرت على قلب الإنسان، وجذبته نحوها، وجعلت القلب معلقاً بها، فإنها تبعده عن الله وتجره نحو الانحراف، ولا سمح الله إلى سوء العاقبة، أجارنا الله وإياكم منها.
الأمر الثامن: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام: وذلك من خلال زيارتهم بشكل مستمر، والحضور في مجالس العزاء، وممارسة الشعائر الحسينية والفاطمية، وتعلم علوم أهل البيت عليهم السلام ونشرها ومدارستها.
الأمر التاسع: التمسك بالمرجعية الدينية في عصر الغيبة، فإنّ أهل البيت عليهم السلام أمرونا بالتمسك بالمراجع في عصر الغيبة الكبرى.
(رَبَّنا لا تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَنا وَهَب لَنا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهّابُ).
التودد الى الناس
رضا علوي سيد احمد
قال الإمام علي (عليه السلام): (بالتودد تكون المحبة) (1).
وقال (عليه السلام) أيضاً: (أقرب القرب مودّات القلوب) (۲).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (رحم الله عبداً اجتر مودة الناس إلى نفسه فحدثهم بما يعرفون، وترك ما ينكرون) (3).
وقال (عليه السلام) أيضاً: (ثلاث تورث المحبة: الدين، والتواضع، والبذل) (4).
[اشترك]
التودد: طلب المودة، واجتلاب الود، والتحبب، فأن يتودد المرء إلى أن يحبب المرء الناس إليه، ويصبح محبوباً بينهم، تلك رغبة وغاية يجدّ في طلبها كل الناس واهتمام من الاهتمامات الأساسية لكل منهم. فما من إنسان إلا ويحب جماً أن يحوز على حب عائلته، وإخوانه، وأصدقائه، وزملائه في العمل، وعموم الناس، لأن (المرء بأخيه)، وببني نوعه.
إن كسب ود الناس وحبهم بعد عظيم من أبعاد النجاح، والسعادة الإنسانية. فهل هناك أعظم سعادة من أن يكون المرء محبوباً، مودوداً، محفوداً محشوداً بين بني البشر؟ وهل هناك أمرّ وأشقى من أن يمسي غير متمتع بحب الناس وودهم، ويعيش بعيداً عنهم وخارج ألبابهم وقلوبهم؟
لقد أعطى الدين للحب اهتماماً عظيماً، إذ أنه القاعدة العريضة والمتينة التي يقوم عليها صرح الاجتماع الحضاري الناجح، وفي سبيل ذلك جاء الدين بمجموعات كثيرة من النصوص التي تهتم بشؤون المحبة والمودة المتبادلة بين الناس، تلك النصوص التي يخلق بالمرء أن ينشئ بنيان معاملة الناس على أساسها وهُداها (وهل الدين إلا الحب)؟
ومن أجل أن يحبب المرء، الناس إليه، جاءت القواعد التالية:
كي يصبح محبوباً إلى الناس، يعني: أن يطلب مودتهم، ويتحبب إليهم، كي يصبح محبوباً من قبلهم، مودوداً بين ظهرانيهم.
إن التودد والتحبب إلى الناس، يقود إلى كسب مودتهم ومحبتهم، وبهذه المحبة يكون قريباً منهم والى قلوبهم. وعليه فمن أبرز ثمار المحبة: القرب، والقرابة من الناس. قد يكون المرء بعيداً عن الناس بالنظر إلى النسب، ولكن المحبة تجعله قريباً منهم، وقد يكون قريباً منهم من جهة النسب، ولكنه لا يتحبب إليهم ولا يحبهم، فيمسي بعيداً عنهم. ومن هنا كانت المودة أقرب الأرحام بالنسبة للإنسان، وأن لا قرابة أقرب من محبات القلوب. بل حتى القرابة هي أحوج إلى الحب والود، من الحب والود إلى القرابة.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (القرابة الى المودة أحوج من المودة الى القرابة) (5).
وقد يتساءل المرء: كيف التودد والتحبب إلى الناس لكسب محبتهم ومودتهم؟ بطبيعة الحال أن التودد إلى الناس والتحبب إليهم عملية تفاعل، لا تنتج من لا شيء، وإنما تعتمد على عطاء يقدمه الإنسان إليهم، فهي عطاء يستتبعه أخذ. ويتمثل العطاء في التواضع للناس، وحسن الخلق معهم، والرفق بهم، وحسن البِشر وطلاقة الوجه معهم، وخدمتهم والبذل لهم، والإنصاف في معاشرتهم، والوفاء لهم، وتحديثهم بما يعرفون ويؤمنون به، وترك ما ينكرونه.
وهنا سؤال: هل المطلوب من الإنسان أن يتحبب إلى الناس ويحبهم بصورة مطلقة، أم أن هناك معايير وحدود تنظم هذا الحب؟ لا شك أن الإنسان في حبه للناس ينبغي له أن ينظر إلى مناظرتهم له في الخلقة، ويتعامل معهم على أساس ذلك. وفي الطرف الآخر ينبغي له أن يحفظ المقاييس المبدئية في الحب، فيجعل حبه في الله، وبغضه في الله أيضاً. بمعنى آخر: الحب على أساس حب الله والإيمان والالتزام بمبادئه.
يقول تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) [المجادلة: 22] (6).
ومن هنا فالإنسان حينما يقيم حبه للناس وفق معايير سليمة، يتقوم حبه وبغضه، فيعرف ما ومن يحب، وما ومن يبغض. أما إذا ضاعت المعايير السليمة للحب فيه، اختلطت عليه الأمور، وأصبح الخير والشر عنده سواء، ولم يعد يفرق بين حق وباطل، وخير وشر، وحسن وقبيح، وفضيلة ورذيلة. وعليه، فهل المبطلون، والأشرار، وأتباع الرذيلة، ومن هم على شاكلتهم، جديرون بالحب والود؟
بطبيعة الحال، كلا! بل إن من الحكمة ووضع الشيء في موضعه، أن يضع المرء تودده وتحببه، ومودته ومحبته في موضعها، فيتحبب إلى من هو أهل للتحبب فيحبه، ولا يتحبب إلى من ليس أهلاً لذلك. ومن الجديرين بالتحبب لهم: الأخيار، والأكياس (الفطنين)، العلماء، المؤمنون، المتقون، العقلاء، أولياء الله، الأوفياء. ومن غير الجديرين بالتحبب لهم: أضداد المتقدمين.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من وضع حبه في غير موضعه، فقد تعرض للقطيعة) (7).
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (لا تبذلن ودك إذا لم تجد موضعاً) (8).
ويقول (عليه السلام) ايضا: (إياك أن تحب أعداء الله، أو تصفي ودك لغير أولياء الله، فإن من أحب قوماً حشر معهم) (9).
وبعد أن يعلم المرء وضع الحب في موضعه المناسب، عليه أن يتخلق بالتواضع لمن هم جديرون بالحب والود، إذ التواضع هو العنصر الأساس لنمو الحب فيما بين الناس، والتواضع يحتاج الى التقرب والدنو منهم، اما التكبر والابتعاد فهما يؤديان إلى نفورهم وابتعادهم.
ومما يؤسف له أن بعض الناس يبتعد عن الناس ولا يتقرب إليهم، وينتظر منهم أن يحبوه، بل ربما يفتخر البعض بأن الناس يتقربون إليه ويتوددون، وهو يبتعـد عنهم، وهذا من اللؤم والحماقة. إن المرء خليق به أن يتودد الى الناس، ويغتنم فرصة إقبالهم عليه، ومن يبتعد حين التقرب منه، ليس جديراً بأن يتقرب إليه.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (زهدك في راغب فيك نُقصان حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس) (10).
وهكذا فلكي يكسب المرء ود الناس وحبهم له، جدير به أن يتقرب إليهم ويتودد ويتحبب، مع جعل التحبب والحب وفق المعايير المبدئية.
الهوامش
(1) الغرر والدرر.
(۲) المصدر السابق.
(۳) وسائل الشيعة، ج11، ص471.
(٤) بحار الأنوار، ج78، ص 229.
(5) نهج البلاغة، الحكم.
(6) حاد: عادى وغاضب. يوادون: يحابون، يحبون، يودون.
(۷) بحار الأنوار، ج74، ص183.
(۸) الغرر والدرر.
(9) المصدر السابق.
(۱۰) نهج البلاغة، الحكم.
من كتاب فن التعامل مع الناس
المقصود بقساوة القلب في المفهوم الديني والمعنوي هو غلظة القلب وتحجره وعدم خشوعه وتأثره بذكر الله ومواعظه.
[اشترك]
و القلب القاسي قلب مغلق ليس فيه الخير و لا توجد فيه الرحمة و الرقة فهو قلب مذموم بل و من علامات شقاء صاحبه ، فقد رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ علیه السلام عَنِ النَّبِيِّ صلى الله علیه و آله أَنَّهُ قَالَ: " يَا عَلِيُّ أَرْبَعُ خِصَالٍ مِنَ الشَّقَاءِ ، جُمُودُ الْعَيْنِ ، وَ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ ، وَ بُعْدُ الْأَمَلِ ، وَ حُبُّ الْبَقَاءِ " 1 خلافاً للقلب الرحيم و الرقيق و اللين فإنه ممدوح و من علامات السعادة و الصلاح .
قساوة القلب في القرآن الكريم
لقد ذم الله سبحانه وتعالى القلوب القاسية وأصحابها الذين لا يقبلون الوعظ والارشاد وتأبى قلوبهم القاسية الخشوع أمام كلمة الحق، بل وفضل الصخور الصماء القاسية في ظاهرها على القلوب القاسية التي لا تلين لذكر الله و إن كانت في ظاهرها لينة و طرية.
قال الله عَزَّ وجَلَّ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) 2.
و قال جل جلاله : (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) 3.
و قال سبحانه و تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) 4.
موجبات قساوة القلب
ذكرت الروايات والأحاديث عدداً من الأمور التي تورث قساوة القلب نذكرها كالتالي:
الغفلة عن ذكر الله عَزَّ وجَلَّ: جاء في وصية الامام محمد الباقر لجابر بن يزيد الجعفي: " ... وإِيَّاكَ والْغَفْلَةَ فَفِيهَا تَكُونُ قَسَاوَةُ الْقَلْب " 5.
أكل الدم: رُوِيَ عن الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال في حديث " ... وأَمَّا الدَّمُ فَإِنَّهُ يُورِثُ آكِلَهُ الْمَاءَ الْأَصْفَرَ 6
وَ يُورِثُ الْكَلَبَ 7 وَ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ وَ قِلَّةَ الرَّأْفَةِ وَ الرَّحْمَةِ حَتَّى لَا يُؤْمَنَ عَلَى حَمِيمِهِ وَ لَا يُؤْمَنَ عَلَى مَنْ صَحِبَهُ ... " 8 .
شرب الخمر : رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه و آله أَنَّهُ قَالَ : " الْعَبْدُ إِذَا شَرِبَ شَرْبَةً مِنَ الْخَمْرِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ ، فِي الْأَوَّلِ قَسَا قَلْبُهُ ، وَ فِي الثَّانِي تَبَرَّأَ مِنْهُ جَبْرَئِيلُ وَ مِيكَائِيلُ وَ إِسْرَافِيلُ وَ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ ، وَ فِي الثَّالِثَةِ تَبَرَّأَ مِنْهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَ الْأَئِمَّةِ ، وَ فِي الرَّابِعَةِ تَبَرَّأَ مِنْهُ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَ الْخَامِسُ قَوْلُهُ عَزَّ وَ جَلَ : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) 9 " 10 .
كثرة الطعام و الشراب: فقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال : "مَنْ تَعَوَّدَ كَثْرَةَ الطَّعَامِ وَ الشَّرَابِ قَسَا قَلْبُهُ " 11 .
وَ رُوِيَ: " مَنْ قَلَّ طَعَامُهُ صَحَّ بَدَنُهُ وَ صَفَا قَلْبُهُ، وَ مَنْ كَثُرَ طَعَامُهُ سَقُمَ بَدَنُهُ " 12.
أكل اللحم اربعين يوما بصورة متوالية: رُوِيَ عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: " مَنْ أَكَلَ اللَّحْمَ أَرْبَعِينَ يَوْماً صَبَاحاً قَسَا قَلْبُهُ " 13.
طرح التراب على ذي الرحم من الأموات: فعَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ : مَاتَ لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ 14 عليه السلام وَلَدٌ فَحَضَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام ، فَلَمَّا أُلْحِدَ تَقَدَّمَ أَبُوهُ فَطَرَحَ عَلَيْهِ التُّرَابَ ، فَأَخَذَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام بِكَفَّيْهِ وَ قَالَ : " لَا تَطْرَحْ عَلَيْهِ التُّرَابَ ، وَ مَنْ كَانَ مِنْهُ ذَا رَحِمٍ فَلَا يَطْرَحْ عَلَيْهِ التُّرَابَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله نَهَى أَنْ يَطْرَحَ الْوَالِدُ أَوْ ذُو رَحِمٍ عَلَى مَيِّتِهِ التُّرَابَ " .
فَقُلْنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَ تَنْهَانَا عَنْ هَذَا وَحْدَهُ؟
فَقَالَ: " أَنْهَاكُمْ مِنْ أَنْ تَطْرَحُوا التُّرَابَ عَلَى ذَوِي أَرْحَامِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْقَسْوَةَ فِي الْقَلْبِ، وَ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بَعُدَ مِنْ رَبِّهِ " 15 .
موجبات لين القلب وصلاحه
هناك أمور توجب لين القلب و رقته أشارت اليها الاحاديث و الروايات.
كرم الأصل: فقد رُوِيَ عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في حديث للمفضل بن عمر: " ... وَ مَنْ كَرُمَ أَصْلُهُ لَانَ قَلْبُهُ وَ مَنْ خَشُنَ عُنْصُرُهُ غَلُظَ كَبِدُهُ ... " 16.
ملاطفة الايتام و المسح على رؤوسهم: فقد رُوِيَ عن الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال : " مَنْ أَنْكَرَ مِنْكُمْ 17 قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَلْيَدْنُ يَتِيماً فَيُلَاطِفُهُ وَ لْيَمْسَحْ رَأْسَهُ يَلِينُ قَلْبُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ ، إِنَّ لِلْيَتِيمِ حَقّاً " 18.
وَ قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " يُقْعِدُهُ فِي خِوَانِهِ وَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ يَلِينُ قَلْبُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَانَ قَلْبُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ " 19.
اكل العدس: رُوِيَ عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: شَكَا رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه و آله قَسَاوَةَ الْقَلْبِ؟
فَقَالَ لَهُ: " عَلَيْكَ بِالْعَدَسِ فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَ يُسْرِعُ الدَّمْعَةَ " 20.
الهوامش:
1. الخصال: 1 / 242، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، المولود سنة: 305 هجرية بقم، و المتوفى سنة: 381 هجرية، الطبعة الأولى، سنة: 1403 هجرية، قم/إيران.
2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 74، الصفحة: 11.
3. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 43، الصفحة: 132.
4. القران الكريم: سورة الحديد (57)، الآية: 16، الصفحة: 539.
5. تحف العقول : 285 ، لأبي محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني من فقهاء القرن الرابع الهجري.
6. الماء الأصفر : (استسقاء البطن) ويسمى الحبن، و الحبن هو تراكم السوائل داخل البطن.
7. قال العلامة الطريحي : الكَلَب بالتحريك : داء يعرض للإنسان من عض الكلب . راجع : مجمع البحرين : 2 / 163 ، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي ، المولود سنة : 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق ، و المتوفى سنة : 1087 هجرية بالرماحية ، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق ، الطبعة الثانية سنة : 1365 شمسية ، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران .
8. من لا يحضره الفقيه : 3 / 314 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق ، المولود سنة : 305 هجرية بقم ، و المتوفى سنة : 381 هجرية ، طبعة انتشارات إسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، الطبعة الثالثة ، سنة : 1413 هجرية ، قم / إيران .
9. القران الكريم: سورة السجدة (32)، الآية: 20، الصفحة: 416.
10. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 76 / ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
11. طب النبي : 23 ، لجعفر بن محمد المستغفري ، المتوفى سنة 432 هجرية ، طبعة المكتبة الحيدرية النجف الأشرف / العراق ، سنة 1385 هجرية .
12. الدعوات ( سلوة الحزين ): 77، لسعيد بن هبة الله قطب الدين الراوندي، المتوفى سنة: 573 هجرية، الطبعة الأولى سنة: 1407 هجرية، طبعة مدرسة الامام المهدي، قم/إيران.
13. المصدر السابق : 24 .
14. أي الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام سادس أئمة أهل البيت عليهم السلام .
15. الكافي : 3 / 199 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
16. الكافي : 1 / 27 .
17. أي من كان لا يحب أن يبتلى بقسوة القلب .
18. ثواب الأعمال و عقاب الأعمال : 200 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق ، المولود سنة : 305 هجرية بقم ، و المتوفى سنة : 381 هجرية ، طبعة دار شريف الرضي للنشر ، الطبعة الثانية ، سنة : 1406 هجرية ، قم / إيران .
19. نفس المصدر السابق .
20. الكافي : 6 / 343 .
إن الدعاء في ساعة الرخاء، دافع للبلاء في ساعة الشدة والضراء.
[اشترك]
فالإنسان المؤمن الذي يكثر من الدعاء، وهو في حالة الاسترخاء والارتياح كليلة زفافه مثلا، وفي ساعة لا يكون عنده فيها أي مشكلة فإن هذه الدعوات تدخر، لتثبت عبودية العبد الخالصة. فالملائكة عندما تسمع -الله هو السميع، والملائكة الكاتبة أيضا تسمع وتراقب، والله هو الرقيب من ورائهم- صوت المؤمن في الشدة، فإنها تقدم تقريراً، ولعلها تقول في تقريرها: يارب!.. إن هذا الإنسان كان يدعو في الحالات الاعتيادية، فلم يكن دعاء هذا العبد بدعاء عبد مصلحي، بحيث لا يدعو الله عز وجل إلا في الشدائد فإذن، إن تقديم الدعاء في ساعة الرخاء، من موجبات الاستجابة في ساعة الشدة.
وكذلك الدعاء في أول النهار، فإن هناك تأكيدا في الشريعة المقدسة على أن يفتتح الإنسان نهاره بالالتجاء إلى الله عز وجل.. فمن المعروف أن برنامج المؤمن المثالي والمراقب، يبدأ قبل صلاة الفجر، ولو بمقدار إحدى عشرة ركعة نافلة الليل، ولا ينتهي البرنامج إلا مع طلوع الشمس. وليس هناك ولي من أولياء الله عز وجل، ينام في هذه الفترة، فإن هذا هو الحد الأدنى من العمل العبادي المستحب.. والمؤمن الذي ليست له أية مشكلة، ولكنه جالس في مصلاه بين الطلوعين، وهو بين النوم واليقظة، يترنح يمينا وشمالا، ويغلب عليه النعاس، ولكنه جالس في مصلاه بين يدي الله قائلا: (أصبحت اللهم معتصما بذمامك المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول، من شر كل طارق وغاشم، من سائر من خلقت وما خلقت من خلقك الصامت والناطق).. فالذي يكثر من الالتجاء، فإنه يلتزم بهذا التعويذ الصباحي، ومن الطبيعي أن يكون مثل هذا الإنسان في درع الله الحصينة، التي يجعل فيها من يريد.
فإذن، إن من موجبات دفع البلاء أيضاً -بلاء النهار وبلاء الليل- هذه الأدعية النهارية. والإنسان قد لا يجد متسعا من الوقت، إذا أراد أن يقرأ جميع ما ورد من التعقيب بعد الفجر، بينما هناك صنف يتعجب فيما يفعله المؤمن بين الطلوعين، تلك الفترة التي من الممكن أن تمتد لساعة ونصف.
إن ملخص الكلام: هو لزوم استقبال البلاء قبل وقوعه بالدعاء. وافتتاح النهار بذكر الله عز وجل، والاستعاذة.. إن هذين المعجونين إذا تركبا، فإنه يرجى أن يكون به الإنسان في حماية رب العالمين.. إذ (لا إله إلا هو فاتخده وكيلا) .. وهنيئا لمن كان محاميه ووكيله رب العالمين، الذي بيده مقاليد كل شيء!
آثار المزاح الباطل
ما من مفردة من مفردات الحياة، إلا وللشريعة فيها رأي، فرب العالمين له في كل حركة رأي، حتى أنه ذكر أدق المستحبات والمكروهات؛ ومنها المزاح.
[اشترك]
أولاً: المزاح المذموم
هو ذلك المزاح الذي يكون بالباطل، فبعض الناس يكذب حتى يُضحك الآخرين، وبعضهم يكذب على حساب وهن الآخرين، وبعضهم يعلق على إنسان لديه عيب في خلقته، ليضحك الآخرين.. وهناك من يستهزئ بألقاب الآخرين، أو بعشيرتهم.. فصور الاستهزاء كثيرة.
ثانياً: آثار المزاح
1. عن الإمام علي (عليه السلام): (من كثر مزاحه؛ استجهل)؛ أي كأن هذا الإنسان لا يلحق بالعقلاء.. فالإنسان كثير المزاح عندما يدلي بدلوه في قضية من القضايا؛ لا يؤخذ بكلامه.
2. عن الإمام علي (عليه السلام): (من كثر مزحه؛ قلّ وقاره)؛ أي أن المزاح الكثير من موجبات إذهاب الوقار؛ فكم من الجميل أن يُرى الأب وقوراً في العائلة! فبعض الآباء يحافظون على وقارهم إلى آخر عمرهم، رغم أن أولادهم يرونهم صباحاً ومساءً، وعلى مائدة الطعام، وفي ثياب النوم.
3. عن الإمام علي (عليه السلام): (من جعل ديدنه الهزل؛ لم يعرف جده).. بعض كثيري المزاح عندما يأتي بخبرٍ؛ لا أحد يصدقه، بل يُطلب منه أن يُقسم على صحة قوله، وأنه ليس بمزاح.. هذا الإنسان لا يعرف جده من هزله، وهذه كارثة لأنه إنسان لا تعلم هويته وشخصيته.
ثالثاً: المزاح المطلوب
1. المزاح بحق: إن المزاح المطلوب، هو المزاح الذي يكون بحق، وليس فيه كذب، هذا الشرط الأول للمزاح.. ينقل عن النبي (صلی الله عليه) أنه قال للعجوز الأشجعية: (يا أشجعية!.. لا تدخل العجوز الجنة، فرآها بلال باكية، فوصفها للنبي (صلی الله عليه) فقال: والأسود كذلك، فجلسا يبكيان، فرآهما العباس فذكرهما له، فقال: والشيخ كذلك، ثم دعاهم وطيّب قلوبهم، وقال: ينشئهم الله كأحسن ما كانوا، وذكر أنهم يدخلون الجنة شبانا مّنورين، وقال: إنّ أهل الجنة جردٌ مردٌ مكحلون).. فالكلام الذي قاله النبي (صلی الله عليه) للعجوز كلام حقيقي؛ لأن الله تعالى يقول في سورة “الواقعة”: (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا).. فإذن، النبي (صلی الله عليه) استعمل المزاح، ولكن بشكل لا يجانب الحقيقة.
2. المزاح غير المفرط: ليس المراد بالمزاح المطلوب، أن يمزح الإنسان في كل صغيرة وكبيرة، فالمؤمن بشكل عام فيه أريحية، وفيه طيبة، روي عن رسول الله (صلی الله عليه) أنه قال: (الْمُؤْمِنُ: دَعِبٌ، لَعِبٌ.. وَالْمُنَافِقُ: قَطِبٌ، وَغَضِبٌ)؛ ليس بمعنى الدعابة واللعب الباطل، ولكن بمعنى خفة الدم: فإن سافر مع قوم -مثلاً- لا يزعجهم، وينساق معهم، ويساعدهم.. وإن حلّ ضيفاً على أحد؛ يكون ضيفاً محبوباً! أما المنافق فإنه قطب غضب: أي عبوس ووجهه مكفهر، وهذه ليست من صفات المؤمن أبداً.
3. المزاح الهادف: روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (ما من مؤمن إلا وفيه دعابة.. قلت: وما الدعابة؟.. قال المزاح).. ومن أرقى أنواع المزاح، ذاك المزاح الذي يكون ظاهره مزاحاً؛ ولكن باطنه أعلى صور الجد، وهو الذي يُذهب هماً وغماً عن قلب مؤمن.. كأن يرى الزوح زوجته مهمومة حزينة: إما لأذى الناس، أو لأذى أولادها، أو لأي شيء؛ فيمزح معها مزحة؛ وإذا بها تنسى ما فيها من الهموم! هذا السرور الذي أدخله على قلب زوجته، قد يكون عند الله عز وجل؛ أفضل بكثر من الجد!
رابعاً: الفرق بين المزاح المحمود والمزاح المذموم
إن المزاح المذموم، هو: ما كان بالباطل، وبلا هدف.. والمحمود: ما كان بالحق، وبهدف.. المؤمن يكون في كل حالاته هكذا؛ لأن بعض الأولاد عندما يكبرون يتجاسرون على آبائهم، ويتكلمون معهم بكلمات بذيئة؛ وذلك بسبب المزاح الباطل الذي كان يمزحه الأب معهم وهم صغار.. روي عن الإمام العسكري (عليه السَّلام) أنه قال: (لَا تُمَارِ فَيَذْهَبَ بَهَاؤُكَ، وَلَا تُمَازِحْ فَيُجْتَرَأَ عَلَيْكَ)؛ فالأب الذي يتلفظ بألفاظ قبيحة أمام ولده الصغير، هذا الولد عندما يكبر يبادله تلك الكلمات التي حفظها في صغره.
فإذن، إن المزاح في حياة المؤمن، كملح الطعام؛ يستعمله بالمقدار الذي يلزم في حياته الاجتماعية.
معالم الأنس
إن الإنسان بطبعه، يحتاج إلى من يأنس به، فكل إنسان على وجه الأرض، لا يمكنه أن يعيش من دون أنس، سواء كان هذا الأنس بالحق أو بالباطل! ولو تُرك الإنسان في مكان لوحده، من الممكن أن يصاب بعد فترة بلوثة في عقله. وبما أن الإنسان دائماً يبحث عن أنيس؛ فإن الشريعة جاءت لتحدد لنا معالم الأنس.
[اشترك]
قلب المؤمن
إن هناك رواية تصف قلب المؤمن بأنه عرش الرحمن، هذه الرواية هي من أروع ما قيل حول القلب!. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (القلب حرم الله، فلا تُسكن حرم الله غير الله)؛ كلام قصير؛ ولكنه كلمة الفصل في هذا المقام! أي كما أن الحرم المكي، وحرم الأئمة؛ لا يدخل فيه من ليس بأهل، كغير المسلم مثلاً؛ القلب كذلك. لذا، فإن المؤمن لا يعطي من قلبه لكل أحد، ولا يحب كل أحد، ولا يستأنس بكل أحد، حتى وإن كانوا من المقربين. ولهذا السبب بعض المؤمنين تفشل حياته الزوجية؛ لأنه يعيش مع امرأة لا يأنس بها، لكونها امرأة دنيوية: همها الدنيا، ولا تعرف الحرام، وترتكب ما لا يجوز؛ فمن الطبيعي في هذه الحالة، أن يعيش المؤمن مع زوجته تكلفاً. وهذا الأمر وقع في حياة الأنبياء؛ كنبيّي الله: لوط ونوح (عليهما السلام) هذان النبيان عاشا مع امرأتين منحرفتين بنص القرآن الكريم، يقول تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). هذا التعبير جداً قاسٍ؛ ولكن هكذا شاء رب العالمين!
موجبات الأنس
إن روايات أهل البيت (عليهم السلام) روايات واقعية، فقد ذكرت أن الأنس في ثلاث، ولكن هناك روايات أخرى متعددة، كأنها تقول: الأنس في أربع لا في ثلاث! الثلاث هي في عالم الدنيا، كالرواية المعروفة التي قال فيها النبي (صلی الله عليه): (حُبّب إلي من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وقرة عيني في الصلاة)؛ فالطيب والنساء؛ في الأرض. أما قرة العين في الصلاة؛ فهذا أمر آخر.
أولاً: الأنس الدنيوي. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (الأنس في ثلاث: في الزوجة الموافقة، والولد البار، والصديق المصافي).
1. الزوجة الموافقة: أي موافقة على طاعة الله ورسوله؛ لا بمعنى الطاعة العمياء.
2. الولد البار: ليس كل ولد يقرّ عين أبيه؛ فبعض الأولاد وبال على آبائهم في الدنيا، فكيف في الآخرة؟! ولكن الولد البار، الإنسان يأنس به؛ فهنيئاً لمن كان له ولد بار يأنس به!
3. الصديق المصافي: أي الذي يكنّ لك الصفاء، لا الصديق المخادع! بعض الأصدقاء يريدك لنفسه، لا يريدك لنفسك، ولهذا بعض الصداقات الحميمة تنقطع، عند استغناء أحدهما عن الآخر! مثلاً: عندما يكون الإنسان موظفاً كبيراً في الدولة، ويمكن الاستفادة من وجوده؛ تكون ديوانيته عامرة؛ طلباً للحوائج. أما عندما يتقاعد، أو تنتهي دورته النيابة مثلاً، ويصبح مواطناً عادياً؛ فإن الناس تهرب منه، وقد لا تسلم عليه.
ثانياً: الأنس المعنوي. إن الأئمة (عليهم السلام) يفتحون بابا رابعاً للأنس، عن الإمام العسكري (عليه السلام): (من آنس بالله؛ استوحش من الناس). المؤمن يستأنس إذا استوحش الناس، ويستوحش إذا استأنس الناس؛ أي أن مزاجه عكس عامة الناس.
1. الاستئناس: إن عامة الناس يستوحشون من البيت الفارغ، أما المؤمن فلا يستوحش، الأمر سيان بالنسبة له: إن كان الأهل موجودين أنعم بهم وأكرم؛ يؤنسهم، ويستأنس بهم!. وإن سافروا وبقي وحده في المنزل؛ فإنه لا يستوحش أبداً. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (ما مِن مؤمنٍ إلّا وقد جَعلَ اللّه لَهُ مِن إيمانِهِ اُنْساً يَسكُنُ إليهِ، حتّى لو كانَ على قُلّةِ جَبلٍ لَم يَسْتَوحِشْ)؛ ولكن هذه الدرجة قلّ من وصل إليها!.
- (ما مِن مؤمنٍ إلّا وقد جَعلَ اللّهُ لَهُ مِن إيمانِهِ اُنْساً يَسكُنُ إليهِ). إن كلمة “أنس” عادة تطلق على الزوجة، يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؛ المؤمن يأنس بزوجته أيضاً، فرسول الله (صلی الله عليه) كان يأنس بسيدتنا خديجة أم المؤمنين (عليها السلام)؛ ولكن كان لرسول الله (صلی الله عليه) أنس آخر، كان يقول: (إن لي مع الله حالات، لا يحتملها ملك مقرب، ولا نبي مرسل).
- (حتّى لو كانَ على قُلّةِ جَبلٍ لَم يَسْتَوحِشْ). إن المؤمن لو كان على قمة أعلى جبل في العالم؛ لا يستوحش؛ لأن له أنساً بخالق الأنس. لهذا هناك بعض المؤلفات لعلماء كبار، تم تأليفها في السجن، رغم أن السجين -عادة- يبتلى: بالضيق، والقلق، والاكتئاب؛ ولكن العلماء عندهم راحة بال واطمئنان!. ككتاب “اللمعة الدمشقية” الذي ألفه الشهيد الأول (رحمه الله) وهو في سجن قلعة الشام. هكذا يجب أن يكون المؤمن دائماً!.
2. الاستيحاش: إن وحشة المؤمن قد تكون وهو حي في الدنيا، وقد تكون وهو ميت في القبر.
أ- في عالم الدنيا: إن المؤمن الذي يضطر لحضور الأعراس؛ يرى نفسه مستوحشاً؛ لأن مثل هذه المجالس: إن كان فيها حرام؛ فهذه مصيبة!. وإذا كانت حلالاً؛ فإن الناس يكونون في غفلة من أمرهم. ولهذا يدخل آخر القوم، ويخرج أول القوم. والمؤمن الذي عدوه أجواء الغفلات؛ فإنه لا يستسلم: فإن كان على مائدة طعام في مطعم، أو في عرس، أو ما شابه؛ بإمكانه أن يُغير الجو!.
ب- في عالم الموتى: من الممكن أن يكون هناك معنى آخر للاستيحاش؛ ألا وهو عالم الموتى.
* الموت: إن بعض الناس يخاف من كل كلمة تذكره بالموت، مثل: الموت، الجنازة، المغتسل، المقبرة، غرفة الإنعاش؛ فهذه الكلمات مخيفة للبعض. ولكن المؤمن يستأنس بها، بل بعض المؤمنين سياحته في آخر الأسبوع، هي في الذهاب إلى قبور الموتى.
* القبر: إن الناس يستوحشون بعد أن يدخلوا القبر؛ ولكن المؤمن يستأنس!.
* البرزخ: إن المؤمن له أنس شديد في عالم البرزخ، كما نسمع من الروايات. فالطريق الوحيد إلى عالم الموتى في البرزخ، هو: الروايات، والمنامات الصادقة. يقول أحد المراجع، وهو من ذرية رسول الله (صلی الله عليه): عندما أدخلونا عالم البرزخ، انتابتني حالة من الوحشة -هذه الوحشة قهرية، فالإمام المعصوم بكى لهول المطلع وفراق الأحبة عند الموت، كما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): (لما حضرت الحسن بن علي (عليه السلام) الوفاة بكى، فقيل: يا بن رسول الله!. أتبكي ومكانك من رسول الله (صلی الله عليه) مكانك الذي أنت به، وقد قال فيك رسول الله (صلی الله عليه) ما قال، وقد حججت عشرين حجّةً ماشياً، وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات حتى النعل والنعل؟. فقال (عليه السلام): إنما أبكي لخصلتين: لهول المطّلع، وفراق الأحبة) وكنت في وحشة شديدة، وإذا بأئمة أهل البيت جميعاً، يأتون لزيارتي -طبعا أرواحهم البرزخية- يقول: ومع ذلك بقي شيء من الوحشة، هذه الوحشة أزيلت تماماً عندما زارتني جدتي فاطمة الزهراء (عليها السلام). هذا منام، ولكن في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ما يدل على هذه الحقيقة، خصوصاً زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) أليس هو القائل:
يا حار همدان من يمت يرني *** من مؤمن أو منافق قبلا
هذا ما قالته السيّدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) بعد مصابها، بعدما رضوا الريحانة، ومجيء نساء المهاجرين والأنصار إليها: (أَصْبَحْتُ وَاللَّهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُمْ، قَالِيَةً لِرِجَالِكُمْ، لَفَظْتُهُمْ قَبْلَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ...) الى آخر الخطبة.
[اشترك]
أي دنيا مقصودة هذه؟ فالسيدة ليست من أهل الدنيا والكل يعرف ذلك، ولم تكن مقبلة عليها ثم تركتها أو محبةً لها فكرهتها فتكون عائفةً لها الآن.
لابد أنها الدنيا التي صبغت أيام من تخاطبهم سيما بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث الانقلاب على الأعقاب، فتبرأت من (دنياهم) التي اتسمت بصفاتٍ غيّرت ملامح وجه التأريخ من مسفر الى معتم.
إنها دنياهم التي لم يراعوا فيها حرمة نبيّهم، خانوا أمانته، تناسوا تعاليمه، أحاديثه، لدرجة أن حديثاً مزوراً يتلى عليهم وينسب له كحديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) فيستقبلونه بأدمغة مقفلة وأفواه صامتة دون إنكارٍ للفرية على رسول الله!
دعونا نلقي نظرة على دنيانا، نوقف صخب أيامنا لبرهة ونتساءل أي دنياً نعش نحن، هل هي دنيا الزهراء أم العائفة لها؟! عندما أصبحنا على أيام لا ندري كم لبثنا قبلها لتتحول وتنتقل كل هذه الانتقالة المرعبة التي صارت فيها الأحكام الشرعية باهتة بعدم الاستعمال! بتنا لا نحكّم تعاليم النبي، نسينا أننا أمته وأن إيماننا الحق مقرونٌ بالتسليم ليس إلا، يقول تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما). النساء- آية (66)
إن الدنيا التي تركتها السيدة فاطمة تلك التي ركنوا فيها الى طلب عافيتها دون عافية الدين فالمهم توفّر وجبة الطعام والمال ولا يهم إن كان إمام الزمان يُحرق باب داره وتُغصب منه الخلافة.
كحال من لا يهمّه أن تُعطل الأحكام الشرعية وينتشر الباطل والسوء أمام عينيه وتمحى هويته ويستهان بمقدساته وطنه ومقدساته ويرى أن الدماء التي تُسفك لأجلهما هي دماء حروب مجردة يتنازع فيها طرفان متخاصمان دون أن يلاحظ أُس الحق ولا آثار الباطل لو أنه ساد وغلب.
هي سلام الله عليها عائفة للدنيا التي تجعل نساءنا منشغلة بسفاسف الأمور دون معاليها، حياتها عبارة عن لا هدف، لا مشروع نتيجة عدم ارتباطها بالقدوة الحسنة، لا تدرك قيمتها ولا تعزز فطرتها فتركض خلف قدوات سطحية لا ترقى لشخصية المرأة العظيمة. لا تدرك مسارها ووظيفتها.
تلك النساء لم يرتبطن بفاطمة فهجرت دنياهن بل ربطنها بالجو العام الذي نأى بنفسه عن أداء التكليف وحمل هموم الأمة وتطبيق الشريعة بحذافيرها والتخلي عن المعصوم، فلم تتميز إحداهن عن هذا الجو. حجّمن وجودهن كثيراً ورسمن أدوارهن بفرشاةٍ متسخة بأدران الأهواء والإعلام المضلل.
الحب هو المحرك لكل خيارات الإنسان الحياتية، بحيث لا يمكن أن نتصور إقدام الإنسان على شيء دون أن يكون الحب هو المحرك له، وعلى ذلك فإن جميع خيارات الإنسان تبنى على أحد أمرين، إما حبه لذاته، وإما حبه لله.
[اشترك]
وقد عبر القرآن عن حب الذات بـ (هوى النفس) وقد جعله العقبة الكبرى التي تقف بين الإنسان وبين اتباعه للحق، ومن هنا كان ابتلاء الإنسان الحقيقي في هذه الحياة هو في مقدار مخالفته لهواه، وبمعنى آخر كيف يمكنه أن يستبدل محبته لذاته بمحبته لله تعالى، والفرق بين حب النفس وحب الله، هو ذاته الفرق بين حب الرغبات والشهوات وبين حب القيم والفضائل، وكما أن الإنسان بطبعه وغريزته ميال إلى حب الشهوات، نجده في قبال ذلك أيضاً مفطور على حب الكمال، فيعشق القيم ويحب المناقب والفضائل، وضمن هذه المعادلة التي يعيشها الإنسان في داخل وجوده وكيانه، يأتي الدين كمعزز ومذكر ومنبه لجانب الكمال فيه، بحيث ينهاه عن الهوى والشهوات، ويأمره بالحق وبكل ما يمثل كمالاً حقيقياً له، وقد لخص القرآن هذه المعادلة بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ.. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) بمعنى أن هناك علاقة عكسية بين حب النفس وحب الله، فمتى ما تمكن أحدهما من قلب الإنسان ذهب الاخر، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، وعلى ذلك فالإنسان بين خيارين بين أن يعبد هواه وبين أن يعبد ربه، وإذا كان حب النفس عبادة للنفس بالضرورة، فإن عبادة الله هي محبته بالضرورة أيضاً.
وعليه يمكننا أن نؤكد أن عشق الإنسان للقيم وتطلعه للكمال نابع من إيمان الإنسان بالله وبأسمائه الحسنى، ومن هنا كان كمال الإنسان عن طريق الاتصال بالله ومن ثم التخلق بأخلاقه، فأعظم ما يتطلع له الإنسان هو تجاوز الأنانيات الضيقة والتحول إلى حالة أسمى وأرفع، وذلك لا يكون إلا بعد الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى، فمحدودية الإنسان من جهة وكون القيم مطلقة من جهة أخرى تفرض عليه تجاوز الذات والمادة للبحث عن مصدر هذا الإطلاق، وبهذا يمكننا تفسير حالة التجاوز والتسامي الموجودة عند الإنسان، وإلا كيف نفهم تضحية الإنسان بنفسه من أجل الحق؟ فالإنسان الذي لا يشعر بالقيم لا يمكنه النزوع إلى مثل أعلى ولا يهوى المقدس والمتعالى، فالشعور بالقيم هو الذي يجعل الإنسان يتجاوز ذاته للوصول إلى ما هو أعلى.
وبالتالي الإيمان بالله في حقيقته تحديد لمسار الإنسان، فبدل أن يكون مسار الإنسان قائم على حب الذات يكون مساره قائم على حب الله، ومن المؤكد أن القيمة الحقيقية للإنسان هي بقيمة الهدف الذي يسعى إليه، والفرق كبير بين أن تكون قيمة الإنسان في الشهوات والرغبات، وبين أن تكون قيمته في الاخلاق والمثل الفاضلة، ومن هنا تنحصر حياة الإنسان بين حبه لله وحبه لهواه، أي بين أن تكون حياته لها قيمة وبين أن تكون القيمة هي الأنا والشهوة، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
وعليه إذا كان الإنسان مفطوراً على حب الكمال فهو مفطور قبل ذلك على حب الله تعالى، والإيمان بالله ليس إلا استحضاراً لهذا الحب في القلب، وبذلك نفهم حديث الإمام الصادق (عليه السلام): هل الدين إلا الحب؟! وكذلك نفهم أن محبة الله هي التي تحرك الإنسان نحو الالتزام بدينه، قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). وكذلك فرست الآيات الارتداد عن الدين بعدم محبة الله، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلهِ)
وفي المحصلة فإن الحب هو جوهر الحياة وسر بقائها، والمعرفة التي لا يكون أساسها الحب تكون وبالاً على الإنسان، قال تعالى: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ). ومن حب الإنسان لله يتفرع حبه لمخلوقاته التي هي مظهر لقدرة الله وجماله، وبذلك نفهم كل الاخلاق الفاضلة والتعاليم السامية التي امر بها الإسلام اتباعه، وكل ذلك لا يمكن أن يكون لو لم يكن الدين هو الحب.
ما مدى صحّة حديث التائب من الغيبة آخر من يدخل الجنّة، وهل يتعارض مع الحديث التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟
[اشترك]
يظهر من كلمات علمائنا حين تعرّضوا لهذا الحديث أنّه لا إشكال فيه، ثُمَّ إنّ هذا الحديث يُعَـدُّ من الأحاديث القدسيّة، إذْ ورد نصّه وَفْقاً لِما يلي: أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة وإن لم يتب فهو أوّل من يدخل النار. [ينظر: بحار الأنوار، ج ٧٢، العلّامة المجلسي، ص ٢٢٤، ص259].
فإذا عرفت ذلك، فهذا الحديث لا يتعارض مع الحديث المشهور: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). وإنّما يفيد أنّ التائب من الغيبة إذا حسنت توبته وندم واستغفر ربّه جلّ وعلا من ذلك العمل الشنيع، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيقبل توبته، فيرفع عنه عقوبة الغيبة، فيكون حاله كحال مَنْ لا ذنب له، ولكنْ في الوقت نفسه فإنّ الله سبحانه وتعالى سيؤخّر دخوله إلى الجنّة حتّى لا يتساوى مع من لم يرتكب الغيبة في حياته، فيتميّز بذلك صاحب السلوك الصحيح والمنهج القويم من غيره، وهذا بحدِّ ذاته يُعَـدُّ مصداقاً من مصاديق العدالة الإلهيّة في التمييز والتفضيل بين المسلمين بمختلف أصنافهم واتّجاهاتهم سواءٌ أكانوا من الأنبياء والرسل أم كانوا من أتباعهم، وهي ثقافة واضحة ينشر مفاهيمها القرآن العظيم في كثير من آياته، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة : 253]. وقال تعالى:)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( [النحل : 76].وقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء : 95]، وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير). [الحديد : 10].
[اشترك]
هذا التسبيح العظيم مما تصافق على روايته العامة والخاصة، وسبب نسبته إليها (عليها السلام) أنها كانت السبب في تشريعه (صلوات الله وسلامه عليها) كما أفاده العلامة الحلي (رحمه الله) في "منتهى المطلب"، حيث قال: (وأفضل الأذكار كلها تسبيح الزهراء عليها السلام وقد أجمع أهل العلم كافة على استحبابه).
روى الجمهور، عن أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يحجون بها ويعتمرون ويتصدقون، فقال:
«ألا أ حدثكم بحديث إنْ أخذتم به أدركْت م من سبقكم ولم يدْرِك كم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا منْ عمِل مثله، تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين».
ومن طريق الخاصة: ما رواه الشيخ في الصحيح، عن ابن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «منْ سبح تسْبِيح فاطِمة الزهْراءِ عليها السلام قبْل أنْ يثْنِي رِجْليْه مِنْ صلاةِ الْفرِيضةِ غفر الله له ولْيبْدأْ بِالتكْبِيرِ».
وعن ابن أبي نجران، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «منْ سبح الله فِي دبرِ الْفرِيضةِ تسْبِيح فاطِمة الزهْراءِ عليها السلام الْمِائة مرة وأتْبعها بِلا إِله إِلا الله غفر الله له».
وعن أبي هارون المكفوف، عن أبي عبد الله عليه السلام قال يَا أَبَا هَارُونَ إِنَّا نَأْمُرُ صِبْيَانَنَا بِتَسْبِيحِ فَاطِمَةَ عليها السلام كَمَا نَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ فَأَلْزِمْه فَإِنَّه لَمْ يُلْزِمْه عَبْدٌ فَشَقِيَ.
عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ مَا عُبِدَ اللَّه بِشَيْءٍ مِنَ التَّحْمِيدِ أَفْضَلَ مِنْ تَسْبِيحِ فَاطِمَةَ عليها السلام ولَوْ كَانَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْه لَنَحَلَه رَسُولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله فاطمةَ الزّهراء عليها السّلام» . وإنّما نسب إليها؛ لأنّها سبب في تشريعه.
روى ابن بابويه، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لرجل من بني سعد:
«إلا أُحدّثكم عنّي وعن فاطمة عليها السّلام؟ أنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها ، وطحنت بالرّحى حتّى مَجَلَت يداها ، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتّى دكنت ثيابها ، فأصابها من ذلك ضررٌ شديدٌ ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل ؟ فأتت النّبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله فوجدت عنده حُدّاثا فاستحيت فانصرفت ، فعلم عليه السّلام أنّها جاءت لحاجة ، فغدا علينا ونحن في لحافنا ، فقال : السّلام عليكم ، فسكتنا واستحيينا لمكاننا ، ثمَّ قال :
السّلام عليكم ، فسكتنا ، ثمَّ قال : السّلام عليكم ، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف ، وقد كان يفعل ذلك يسلَّم ثلاثا فإن أذن له وإلَّا انصرف ، فقلت : وعليك السّلام يا رسول اللَّه ادخل فدخل وجلس عند رؤوسنا فقال : يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمّد ؟ فخشيت إن لم نجبه أن يقوم ، فأخرجت رأسي فقلت : أنا واللَّه أُخبرك يا رسول اللَّه ، إنّها استقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها ، وجرّت الرّحى حتّى مَجَلَت يداها ، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتّى دكنت ثيابها ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل ، قال : أفلا أُعلَّمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم ؟ إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعا وثلاثين تكبيرة ، وسبّحا ثلاثا وثلاثين ، واحمدا ثلاثا وثلاثين ، فأخرجت فاطمة عليها السّلام رأسها ، فقالت : رضيت عن اللَّه وعن رسوله ، رضيت عن اللَّه وعن رسوله » .
وتسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام: التكبير أربعا وثلاثين، والتحميد ثلاثا وثلاثين، والتسبيح ثلاثا وثلاثين على هذا الترتيب في الأشهر.
روى الشيخ، عن محمد بن عذافر قال: دخلت مع أبي على أبي عبد الله عليه السلام، فسأله أبي عن تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام ؟ فقال: «الله أكبر» حتى أحصى أربعا وثلاثين مرة، ثم قال: «الحمد لله» حتى بلغ سبعا وستين، ثم قال: «سبحان الله »حتى بلغ مائة يحصيها بيده جملة واحدة.
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «يبدأ بالتكبير أربعا وثلاثين، ثم التحميد ثلاثا وثلاثين، ثم التسبيح ثلاثا وثلاثين». [ منتهى المطلب 5: 244]
فهذا العدد وهذا الترتيب بحسب المشهور هو أمر توقيفي خاضعٌ للنص الشرعي الوارد عن المعصومين (عليهم السلام).
أوقات هذا التسبيح العظيم بحسب الروايات الواردة فيه، هي: عقب كل صلاة فريضة مباشرة، وقبل النوم.
آثاره: زيادة الرزق والاكتفاء عن الناس، والشفاء من الأمراض، وطرد الشيطان، وطلب المغفرة، والحصول على رضوان الله.
لم تكن حاجة إلى درس الأخلاق
كتب السيد أحمد المددي:
لم تكن هنالك حاجة إلى دروس الأخلاق؛ لأنّ جميع سكنات وحركات وأقوال وسيرة هؤلاء العلماء هي درس في الأخلاق.
[اشترك]
لقد وصلت بخدمة السيد الخوئي مراتٍ عديدة وجدته فيها إنساناً عادياً ليس عنده تكلّف. وكان السيد الشاهرودي كالصديق مع باقي الطلاب. وكل هذه في الحقيقة أخلاق عملية تغني عن الدرس. ينقل عن السيد الشاهرودي أنّه كان يمزح مع الكسبة ويدخل عليهم السرور بذلك. ومن جهة أُخرى كانت حياتهم خالية من التكلّف بحيث إذا لاحظ الطالب ذلك في حياة المراجع هانت عليه الصعوبات.
ينقل عن الشيخ الآخوند الخراساني أنّه كان يردّد الكلام الفارسي، فيقول: «سي سال خورشت نان من، گرمی نان من بود» ومعناه: إنّ طعامي مدة ثلاثين عاماً هو عبارة عن حرارة الخبز الذي أتناوله.
ونقل السيد البجنوردي عن السيد يوسف الحكيم النجل الأكبر للسيد الحكيم أنّه كان يقول: «كنّا نطبخ الباقلاء نأكلها ظهراً للغداء، ونتعشّى بمائها في الليل». وحُكي في حياة السيد أبو الحسن الأصفهاني أنّه في مرّة من المرّات لم يكن لديه إيجار البيت فألقى صاحب الدار به وعياله وأثاثه خارجاً فبات مع عائلته في غرفة من غرف مسجد الكوفة، حيث لم يكن يملك بيتاً فحسب بل لا يملك إيجار البيت! وحدثني بعض الأصدقاء بأنّه كان يتحدث مع بعض الطلاب وإذا به يغشى عليه في أثناء الكلام، فلما أفاق قال إنّه لم يأكل منذ ثلاثة أيّام!
لم يكن هؤلاء الطلاب ليعترضوا بشيءٍ أو يقولوا شيئاً؛ لأنّهم يشاهدون حياة مراجعهم وعلمائهم مثلهم. ينقل والدي عن السيد الخوئي أنّه قال: إني قد أخرج في بعض الأحيان لشراء (اللبن الرائب) فأرجع والإناء خال ليس فيه شيء؛ لأني كنت في طول الطريق مشغول البال بمسألة علمية أُفكر فيها. لم يكن يقصد أحد من هؤلاء التفوق سوى التفوق في العلم والأخلاق والروحانية. إنّ ذلك الوضع غير قابل للمقارنة مع وضع بعض طلبتنا اليوم حيث لا قناعة بشغل ولا شغلين.
يُنقل أنّ حرم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان في وقت السحر يعج بحدود مئتي طالب يتلون دعاء أبي حمزة في قنوت صلاة الليل! وعندما ذهبتُ إلى النجف كان الفصل شتاءً، وليل الشتاء طويل، فكانت أبواب الحرم تُغلق ليلاً، فحاول نجل السيد الحكيم فتحها في ليالي الجمعة فقط وكسبَ بذلك موافقة خدّام الحرم. وقد كان السيد البجنوردي يذهب إلى الحرم فإذا وجد الباب مغلقاً صلّى صلاة الليل خلف الباب، وهكذا كانت سيرة غيره من العلماء. لقد كان جوّ النجف يساعد حتى الطالب غير المجدّ على أن يكون عالماً؛ لأنّه أين ما حلّ يجد مجلس البحث العلمي منعقداً. فكل إنسان يعيش في مثل هذا الجو يصير من أهل العلم بشكل طبيعي.
الاجتهاد
ليس هناك وجود لمصطلح العرفان في الكتاب والسنة، وبالتالي لا يمكن البحث بشكل مباشر في النصوص لمعرفة موقفها من العرفان.
[اشترك]
إن الطريق الوحيد لمعرفة ذلك هو دراسة مقولات العرفان ومرتكزاته ومن ثم مقارنتها بما جاء في القرآن والسنة، ومن الطبيعي حينها أن تتباين وجهات النظر بين المؤيد والمعارض، فبينما يعتبره المؤيدون فهماً أصيلاً للإسلام ودرجة عالية من إدراك الحقيقة الإسلامية، يعتبره البعض الآخر فهماً مشوهاً ومنحرفاً عن الإسلام، ومازال هذا التباين معلقاً بين المؤيدين والمعارضين دون الوصول إلى رؤية مشتركة، ومن الصعب جداً في هذا المقام إيراد ما دار بين الفريقين من نقاشات، فقد تضمنت عشرات الكتب والبحوث المعقدة ووجهات النظر المختلفة للفريقين، ومن المستحيل الإحاطة بها في هذا المقام، وعليه سوف نختصر الإجابة على بيان الخطوط العامة للعرفان.
يعد العرفان من الطرق القلبية والوجدانية لإدراك الحقيقة، ويعبر عن ذلك بالكشف والشهود، وهو نوع من الوقوف المباشر على الحقائق بعيداً عن مقاربتها نظرياً ومفاهيمياً، والطريق لتحقيق ذلك يعبر عنه بالسير والسلوك، ويقصد به رياضات روحية تمكن العارف من التخلص عما يربطه بالحياة الدنيا فلا يكون مشغولاً إلا بمعرفة الله تعالى، ولذلك أولى العرفان النفس اهتماماً خاصاً بوصفها عقبة أمام معرفة الحقائق، فأوصى بتزكية النفس وتهذيبها كمقدمة ضرورية للمعرفة، إلا أنه في المقابل أهمل العقل ولم يوليه الاهتمام الكافي، فحصر المعرفة الإسلامية في الجانب الوجداني وما ينكشف للروح، وقد اعتبر البعض أن ذلك اخراج للمعرفة الإسلامية من كونها معرفة بمقياس العقل، حيث يتحول الإسلام معها إلي تجربة شعورية خاصة لا تمتلك معايير موضوعية ولا تمتلك القدرة على التعميم، ولتفادي هذه الإشكالية تكون العرفان النظري الذي يقدم مقاربات عقلية لنتائج الكشف العرفاني، إلا أن ذلك لا يعدو كونه تبريراً عقلياً لمعرفة لا تعترف بالعقل، وبالتالي مقاربة العرفان نظرياً هو هدم لحقيقة العرفان نفسها؛ لأن العرفان تجربة شعورية واحساس داخلي بالحقيقة، وأي محاولة لإخراجها من هذا المحيط هو الحكم عليها بالإعدام.
ومن المؤكد أن العرفان بوصفه طريقة تستهدف اندماج العارف مع الحقيقة المطلقة، لم يكن خاصاً بالمسلمين أو حتى بأصحاب الديانات السماوية، وإنما هو أرث بشري له الكثير من الأمثلة في الحضارات البشرية المختلفة، مثل الحضارة اليونانية والهندية والإيرانية مضافاً لمرحلة الإسكندرية التي دمجت بين الثقافة الشرقية والغربية فيما يعرف بالافلاطونية المحدثة، وقد تميز العرفان الإسلامي باستثماره للعلوم والمعارف الإسلامية ومحاولة صياغتها بما يتفق مع المنهج العرفاني، وقد نشاء التصوف في الوسط الإسلامي كخيار عرفاني يعبر عن تلك المحاولة، ومع وجود تباين بين المدارس العرفانية إلا أنها قد تلتقي جميعاً في الاعتقاد بوحدة الوجود حتى وإن كانت ضمن سياقات ومقاربات مختلفة، حيث يقوم العرفان أساساً على نفي الاثنينية والإيمان بالحقيقة الواحدة، وقد قدم العرفان النظري مقاربات متعددة لتصوير كيف تكون الحقيقة واحدة مع وجود هذه الكثرة، وبعيداً عن هذه المقاربات، فالنتيجة هي أن العارف في تكامله المعنوي يقصد الفناء في الله تعالى، وقد عبر عن ذلك في العرفان الإسلامي بقوس الصعود، حيث يعود العارف ضمن مراحل ودرجات عرفانية إلى مصدر الوجود، والعرفان في هذه المرحلة يعد خياراً عملياً وسلوكياً، أي أن العارف وضمن رياضات روحية وعبر وسيط روحي يجتاز هذه المراحل ليعود إلى مصدر الوجود، أما مرحلة الخلق والإيجاد فيعبر عنها بقوس النزول حيث فيه يتنزل الخالق أو يتجلى في خلقه، وعليه فإن نظام الوجود في التصور العرفاني يشبه الدائرة التي تنقسم إلى نصفين، يمثل النصف الأول قوس النزول والنصف الثاني قوس الصعود، والعرفان في مرحلة قوس النزول يعد بحثاً أنطولوجياً يتكفل به العرفان النظري، أما قوس الصعود فهو من اختصاصات العرفان العملي والسلوكي، وفي المحصلة لا يستقيم أي معنى للعرفان إلا بالإيمان بوحدة الحقيقة ونفي أي نوع من أنواع الاثنينية في الوجود، وهذا ما جعل الفقهاء والمحدثين يتحفظون كثيراً على العرفان.
وعليه فإن الموقف العام لمعظم المحدثين والفقهاء هو الموقف السلبي من العرفان الذي يبتعد عن ظاهر النصوص، حيث يعتقدون أن استناد العرفان على الكتاب والسنة ليس إلا خداعاً للعامة، فالعرفان كرؤية معرفية أو كسلوك عملي يمثل رؤية مختلفة عما هو ظاهر في النصوص الدينية، فمثلاً التوحيد ومعرفة الله عند العرفاء مختلفة تماماً عما هو موجود في النص الديني، ولا يمكن أن يحدث أي نوع من الانسجام بينهما إلا من خلال تأويل النصوص وصرفها عن دلالاتها الظاهرية، وهذا ما لا يقبله لا الفقهاء ولا عامة المسلمين، فقد أكدت النصوص الدينية على البينونة الحقيقية بين الخالق والمخلوق، وإن الخلق لم يكن حالة فيض أو صدور أو تنزل للخالق في مرحلة المخلوق، وإنما هو خلق وابتداع مباين لله بينونة حقيقية مفهوماً ومصداقاً، والإنسان في تكامله لا يندك في الخالق ولا يفنى فيه بأي معنى من معاني الفناء والوحدة، وبذلك يغلق الإسلام الباب أمام أي شطحة من شطحات المتصوفة التي ادعوا فيها منازل ومقامات تقشعر منها الابدان.
وأما العرفان بالمعنى المقبول هو العمل وفق هدى الله في التشريع والالتزام بأحكام الكتاب والسنة، والاكتفاء بفهم ظواهر النصوص بعيداً عن التأويلات الباطنية والاعتماد على الرموز والاشارات المخالفة للفهم العرفي للنص، وكذلك التقرب إلى الله على طريقة الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ومناجاة الله بما جاء عنهم من أدعية، مضافاً إلى تهذيب النفس وتربيتها بالزهد في الدنيا والابتعاد عن منزلقاتها وشبهاتها.
وفي الختام هناك بعض الروايات التي حذرت من التصوف، ولا يمكن حملها على مطلق العرفان الإسلامي ولذا لا تكون حجة قاطعة في المقام ولذلك اخرنا ذكرها.
عن الامام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن التصوف: (إنهم أعداؤنا، فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم، وسيكون أقوام، يدّعون حبنا ويميلون إليهم ويتشبهون بهم، ويلقبون أنفسهم بلقبهم، ويقولون أقوالهم، ألا فمن مال إليهم فليس منا، وإنّا منه براء، ومن أنكرهم ورد عليهم، كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله) (سفينة البحار للمحدث القمي ج2 ص57)
وعن الامام العسكري (عليه السلام) لابي هشام الجعفري: (يا أبا هشام! سيأتي زمان على الناس.. علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض، لأنهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف، وأيّم والله: أنهم من أهل العدوان والتحرف، يبالغون في حب مخالفينا، ويضلون شيعتنا وموالينا، فإن نالوا منصبا لم يشبعوا، وإن خذلوا عبدوا الله على الرياء، ألا إنهم قُطّاع طريق المؤمنين والدعاة إلى نحلة الملحدين، فمن أدركهم فليحذرهم وليضمن دينه وإيمانه منهم) (سفينة البحار ج2 ص58).
البطالة رذيلة
«إن الله عز وجل يبغض العبد البطال، النّوام الفارغ» (1). «البطالة تقسي القلب» (2). «ترك التجارة مذهبة للعقل» (3).
[اشترك]
حروف البطالة تدل بصلب تكوينها وتركيبها على ما يراد منها وأنها ترادف العطالة ومصدر للباطل، ولكن إذا دققنا أمعنا النظر فلا تجد عاطلا عن كل شيء، لأن النفس، أية نفس، لا بد لها من شيء تشاغل به، ولو بالتناقل من مقهى إلى ملهى أو بالتردد بين مجالس التهاني والتعازي أو قتل الوقت بحديث الرخص والغلاء والطقس، والأجواء، وفلان طويل، وعلتان قصير، كما يفعل المخنثون الكسالى. وفيما يلي نذكر أهم ما يمتاز به الشغال عن البطال وهذا عن ذاك.
الشغّال الشجاع:
ومن خصائصه الثقة بالنفس وقوة الشخصية ومضي العزم وعلو الهمة ومجابهة الأخطار، والاستمرار في بذل الجهد، والصبر على الشدائد، وهذا هو السبيل إلى نجاح الحياة، لأنها حركة دائبة وعمل متواصل حتى ولو كان فيه أغلاط وأخطاء. قال (ألكسیس کارل): «لا نجاح بلا عمل... ونجاح الحياة لا يتعارض مع وجود كثرة الأخطاء، ولكن الذي يتعارض معه على خط مستقيم هو الكذب والرياء وعدم العمل، وفي الحياة البدائية كان الموت دائما عقابا للضعف وعدم العلم».
البطّال الجبان:
وصفات البطال على العكس تماما من صفات الشغال: شخصية متفسخة مهترئة، وأعصاب معلولة مشلولة، وفشل دائم وملازم، وأعذار كبیت العنكبوت، وتهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم على الحظ حيناً وأحيانا على الآخرين، وتواكل على العاملين الكادحين.
بقي أن نشير إلى أن قسوة القلب وذهاب العقل - اللذين وردا في الحديث – هما كناية عن أن البطال يعيش من غير قلب وعقل حيث لا عين ولا أثر لما في الخارج، لأن العمل المحسوس هو الدليل على ما يدور في العقل، ويحس به القلب، ولا شيء عند البطال إلا كثرة القيل والقال، وفي الكافي عن السيد المسيح عليه السلام، أنه قال: «الذين يكثرون الكلام قاسية قلوبهم، ولكن لا يعلمون». وفي كتاب الحكمة الخالدة: «تعرف خساسة المرء بكثرة كلامه فيما لا يعنيه، وإخباره عما لا يسأل عنه.
المصدر: كتاب نفحات محمدية
الهوامش:
(1): الكافي، 5/ 84 ح2
(2): كنز العمال، للمتقي الهندي: 3/ 192
(3): من لا يحضره الفقيه: 3/ 192 ح3718