عاشوراء والأربعين

كرامة في زحام الأربعين.. ودعاء من القلب إلى العرش!

في كل عام، ومع انتهاء مسيرة الزائرين في الأربعينية، تتناثر بين الجموع قصصٌ تعجُّ بالروحانية وتتوهج بنور الإيمان. وفي هذا العام، سمعتُ حكايةً تسكن في الأعماق عن امرأة ابتلاها القدر بفقدان والدتها المقعدة على كرسي متحرك ورضيعها في خضم زحام السائرين نحو كربلاء.

[اشترك]

أيامٌ مضت والمرأة تجوب المكان، وقلبها يعتصره الحزن، لا تعرف أين تذهب ولا إلى من تلجأ. لم تجد ملاذاً سوى التوسل إلى الله، والاستنجاد بأهل بيت الرحمة، عليهم السلام، أن يعيدوا إليها ما فقدت. وبينما هي في غمرة اليأس والرجاء، قادها القدر إلى مرقد العباس بن علي، عليهما السلام.

هناك، لفت نظرها مشهدٌ جعل قلبها يخفق بشدة. رأت امرأةً تجلس بالقرب من المرقد، وفي حضنها طفلٌ صغير ترضعه. لم تصدق عينيها، هرولت نحوها كالمتيمة، وكأنها عاشقة عثرت على محبوبها بعد طول غياب، أو كظمآنة في صحراء قاحلة وجدت ينبوع ماء. احتضنت طفلها، ودموع الفرح تتلألأ في عينيها.

وبينما هي تلتقط أنفاسها، بادرتها المرأة الجالسة بالحديث: "يا أختاه، منذ ثلاثة أيام وأنا أحضر إلى هذا المكان، بحثاً عن أهل هذا الطفل. رأيتُ أبا الفضل عليه السلام في منامي، وأمرني أن آتي هنا، قائلاً إن أحد زواره الصغار بحاجةٍ إلى رعاية." وأشارت المرأة إلى شابٍ كان يقف قريباً، تائهاً يبحث عمن يكفل العجوز المقعدة والرضيع.

وهكذا، كان للقدر ترتيبه، وكانت للسماء إرادتها. تحققت رؤيا المرأة، وجمع الله بين القلوب المفجوعة بألطافه الخفية، لتكون هذه القصة شاهدة على كرامات أهل البيت عليهم السلام، وعلى قوة الإيمان والدعاء في أحلك اللحظات وأصعب الظروف.

الدعاء، ذلك الهمس النابض من قلب المؤمن إلى خالقه، ليس مجرد كلمات تتناثر في الهواء، بل هو لغة الروح، صدى الشوق والحنين إلى السماء، وعشق العبد لربه. هو ملجأ المستضعف حين تنغلق كل الأبواب، وركيزة الثبات حين تشتد العواصف وتتكالب الأهوال.

فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الحاجة الواقعية، وإن لم يطلبه الإنسان بلسانه، لذا ترى أنه تعالى عد ما لم يطلبه الإنسان بلسانه دعاءً وسؤالاً، قال تعالى: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، إبراهيم: 34، فهم فيما لا يحصون من النعم التي لم يطلبوها بلسانهم، وإنما سألوها بلسان فقرهم وحاجتهم. وكذا قوله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، الرحمن: 29، فعد كل ما يفيضه على خلقه حتى الجمادات منها سؤالاً لها ودعاء.

وعليه فحقيقة الدعاء هو طلب رفع الحاجة الواقعية من الله تعالى، سواء طلبه بلسانه، أو لم يطلبه.

وهنا لدينا سؤالان: الأول: إن كانت هذه حقيقة الدعاء، فهي متحققة من كافة الخلق، ومن المؤمن والكافر، فما وجه الحث على الدعاء؟ والثاني: إن هذا المعنى للدعاء يقتضي استجابة جميع الأدعية، كونها مطلوبة بلسان الفقر والحاجة، والله سبحانه لا بخل في ساحته، مع إننا نجد كثرة الأدعية غير المستجابة؟

والجواب عن الأول، أن الدعاء وإن كانت حقيقته الحاجة والفقر الذاتي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، فاطر: 15، إلا أن ذلك لا يوجب عليه تعالى سد فقرهم وحاجتهم، وإنما قيد تعالى استجابة دعائهم بالإخلاص، وبتفريغ القلب من كل ما عداه، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..)، البقرة: 186، فاشترط سبحانه استجابة الدعاء، بكون العبد داعياً له دون غيره، وأما ما راج بين الناس من دعائه تعالى مع اعتقادهم بتأثير غيره من الأسباب المتعارفة لا يُعد دعاء له سبحانه، بل هو دعاء لإله يعمل مع الأسباب وهذا الإله ليس هو الله، ففي الحقيقة هذا الداعي لم يدعو الله جل جلاله.

وبعبارة أخرى، إذا دعيت لمريض وأنت تعتقد بتأثير الدواء او الطبيب وتغفل عن حقيقة حصر التأثير به تعالى، فقد دعيت إله آخر، ولم تدع الله. وقد بين آيات الذكر الحكيم هذه الحقيقة في عدة آيات كريمة، منها قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)، الأنعام: 63 ـ 64، فتخبر الآية الكريمة أن الانسان عند فقده الأسباب يدرك عدم تأثيرها فيتوجه الى الله تعالى لإنقاذه، ولكن في حال الرفاه تتعلق نفسه بالأسباب الطبيعية المتعارفة، ويشركها في التأثير، ويغفل عن حقيقة أن تأثيرها كان بتمليك وتقدير الله تعالى لها، وأن كل ما لها من القدرة والتأثير هو منه تعالى.

فالحقيقة التي يصدح بها القرآن أن ما تملكه هذه الأسباب من تأثير فهو من فيض جوده تعالى، وأنه جل اسمه متى ما أراد منعها من التأثير فهي مقهورة تحت إرادته، كما أن له تعالى تحقيق دعاء العبد من طريق غيرها من الأسباب.

وهنا ننبه إننا لا ندعو لترك تحصيل الأسباب المتعارفة، وإنما الممنوع هو الاعتقاد بتأثيرها من دون الله، أو أن ندعو الله وقلوبنا معلقة بالأسباب.

والخلاصة، أن الدعاء وإن كان هو ما تدعو به الفطرة ولسان الحاجة، إلا أنه تعالى لا يجب عليه الاستجابة، وإنما قيد استجابته بدعائه والاعتقاد بعدم تأثير غيره إلا به، قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..)، الفرقان: 77، وقال ايضاً: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، غافر: 60، والآية الكريمة صريحة في توقف استجابة الدعاء على دعاءه تعالى أي دعاء إله لا يعمل بمشاركة غيره من الأسباب.

وبما تقدم يتضح جواب السؤال الثاني، وهو سر عدم استجابة الدعاء، فالآية حدد ذلك بسببين:

الأول: عدم وجود حاجة حقيقية، كأن ما يدعو الانسان ويسأل الله أمراً لا يشكل حاجة حقيقية له، بل قد تصب في ضرره وهو لا يعلم، فلا تتحقق فيها حقيقة الدعاء، التي هي طلب رفع الحاجة الواقعية.

الثاني: أنه لم يدع الله تعالى، بل دعا إلهاً يعمل بمعية الأسباب، كم يسأل الله حاجة وقلبه متعلق بالأسباب الطبيعية، فلم يخلص الدعاء لله سبحانه. وفي عدة الداعي عن النبي صلى الله عليه واله قال: «قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمن السموات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن أستغفرني غفرت له».

وعن محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه واله، قال: أوحى الله الى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل آمل غيري، بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي، ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني.. الحديث».

ومن خلال هذا الأصل يمكن فهم الروايات الدالة على أسباب عدم الاستجابة، كقول الصادق عليه السلام: إن الله لا لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه. فإن مثل هذا الدعاء لا يحكي عن حاجة حقيقة يسألها العبد، ففقد الأمر الأول من أسباب عدم الاستجابة.

او كالذي ورد في دعوات الراوندي: في التوراة يقول الله عز وجل للعبد: إنك متى ظلمت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنه ظلمك، فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخرتكما الى يوم القيامة. فإن سؤال العبد على أخيه المؤمن سيجلب له الضُر وهو لا يعلم، فعدم استجابته لأجل أنه لا يشكل حاجة حقيقية له، لأن من سأل شيئاً رضي به وبكل ما يماثله في حقه، قال تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)، السراء: 11.

فهؤلاء الطائفتين من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.

2024/09/16
هل يوجد دليل على استحباب المشي في زيارة الأربعين؟
الروايات الواردة في الحث على زيارة الحسين (عليه السلام) ماشياً أو راكباً كثيرة جداً، وهي من الكثرة بمكان يكاد المرء يجزم بتواترها، وعند التواتر يكون البحث عن الأسانيد مضيعة للوقت، فليراجع من شاء كتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه ص 253 باب 49 ثواب من زار الحسين (عليه السلام) راكباً أو ماشياً. وكتاب الكافي ج4 ص 58 باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). وكتاب التهذيب للشيخ الطوسي ج6 ص 43 باب فضل زيارة الحسين (عليه السلام).

[اشترك]

أما زيارة الأربعين فقد وردت بسند معتبر في كتاب "تهذيب الأحكام" ج6 ص 113.

وعليه فالقادم لزيارة الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين، سواء جاء ماشياً أو راكباً هو مأجور مثاب على فعله، وله بكل خطوة ألف حسنة، ويمحو الله عنه ألف سيئة، وتستغفر له ملائكة العرش، ويكون الضامن لقضاء حوائجه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن مرافقي سيد الكائنات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة، كما جاء في الروايات المتقدمة.

المقال رداً على سؤال: انتشر فيديو في الآونة الأخيرة وفيه إنه لا توجد رواية معتبرة، أو حديث يؤكد استحباب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مشياً على الأقدام يوم الأربعين، وحتى أن حديث علامات المؤمن للعسكري لا يقصد زيارة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، فماذا تقولون بهذا؟
2024/08/27
ما حقيقة تعرّض السبايا إلى الضرب؟
إنّ سبايا أهلِ البيتِ قد تعرّضوا للضّربِ في عدّةِ مواطنَ، وقد نقلَ المؤرّخونَ شيئاً مِن ذلكَ في كتبِهم، وأرّخَها الشعراءُ في قصائدِهم، وممَّن نُقِلَ أنّهنّ تعرّضنَ للضربِ فاطمةُ الصّغرى، ومولاتُنا أمُّ كلثوم (سلامُ اللهِ عليها) وبناتُ الرسالةِ، حيثُ نقلت فاطمةُ الصّغرى أنّ نساءَ أهلِ البيتِ (ع) قد تعرّضنَ للضّربِ في يومِ عاشوراء عندَ سلبهنَّ بالضّربِ بكعبِ الرُّمح، وأنّ أحدَهم ضربَها بكعبِ الرمحِ بينَ كتفيها فسقطَت مغشيّاً عليها، وأخبرَت عَن عمّتِها أمّ كلثوم (ع) أنّها قد تعرّضَت للضربِ حتّى اسودَّ متنُها منَ الضّربِ (المُنتخبُ للطريحي، ص174، بحارُ الأنوار: 45 / 61).

[اشترك]

وعندَ الهجومِ على الخيامِ وسلبِ بناتِ رسولِ اللهِ (ص) حصلَ تدافعٌ بينَهم، ومنَ الطبيعي تعرضهنَّ للضربِ أثناءهُ، روى الصدوقُ بسندِه عن عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ المُثنّى ، عن أمِّه فاطمةَ بنتِ الحُسين ( عليهِ السلام ) ، قالت : دخلتِ الغاغة علينا الفسطاط ، وأنا جاريةٌ صغيرة ، وفي رِجليّ خلخالانِ مِن ذهب ، فجعلَ رجلاً يفضُّ الخلخالينِ مِن رِجلي وهوَ يبكي ، فقلتُ : ما يُبكيكَ ، يا عدوَّ الله ؟ ! فقالَ : كيفَ لا أبكي وأنا أسلبُ ابنةَ رسولِ الله ! فقلتُ : لا تسلُبني . قالَ : أخافُ أن يجئَ غيري فيأخذَه . قالت : وانتهبوا ما في الأبنيةِ حتّى كانوا ينزعونَ الملاحفَ عن ظهورِنا. (الأمالي للصّدوق، ص228). قالَ الشيخُ المُفيد في الإرشاد: وانتهبوا رحلهُ وإبلهُ وأثقالهُ وسلبوا نساءَه. قالَ حميدٌ بنُ مسلم: فواللهِ لقد كنتُ أرى المرأةَ مِن نسائِه وبناتِه وأهلِه تُنازعُ ثوبَها عن ظهرِها حتّى تُغلبَ عليه فيذهبُ به منها. (الإرشادُ للمُفيد: 2 / 112). قالَ السيّدُ المُقرّم: وبعدَ الزوالِ ارتحلَ إلى الكوفةِ ومعَه نساءُ الحُسين (ع) وصبيتُه وجواريه وعيالاتُ الأصحابِ وكنَّ عشرينَ امرأة ... فقلنَ النسوةُ: باللهِ عليكم إلّا ما مررتُم بنا على القتلى، ولمّا نظرنَ إليهم مُقطّعي الأوصالِ ... صحنَ ولطمنَ الوجوهَ ... واعتنقَت سكينةُ جسدَ أبيها الحُسين (ع) ... وأتاهنّ زجرٌ بنُ قيس وصاحَ بهنّ فلم يقمنَ، فأخذَ يضربهنّ بالسوطِ، واجتمعَ عليهنَ الناسُ حتّى أركبوهنَّ على الجِمالِ. (مقتلُ الحُسينِ للمُقرّم، ص305 – 309 عن تظلّمِ الزهراء، ص177).  قالَ الخليعي ( ت 650 هـ ): لهفي على فاطمَ الصُّغرى مقرّحةً *** بالدمعِ أجفانُها مسلوبةُ الوسنِ تدعو إلى زينبَ يا عمّتا سلبَ العلجُ *** القناعَ ليسبيني ويهتكَني فرُمُت أسترُ وجهي عندَ رؤيتِه *** فظلَّ يشتمُني عمداً ويضربُني المنتخبُ للطّريحي، ص146.  قالَ الشيخُ مفلح الصيمري (القرنُ التاسعُ الهجري) تقبِّلُ جثمانَ الحُسينِ سكينةُ *** وشمرٌ لها بالسوطِ ضرباً يقنع ُفيؤلمُها ضربُ السياطِ فتلتجي *** لعمّتِها مِن حيثُ بالضربِ توجع تقولُ له يا شمرُ ويحَك خلّها *** إذا كانَ بالتقبيلِ ترضى وتقنعُ وترفعُ صوتاً اُمّ كلثوم بالبكا *** وتشكو إلى اللهِ العليّ وتضرّع وتندبُ مِن عظمِ الرزيّة جدّها *** فلو جدّنا ينظرُ إلينا ويسمع إلى أن يقولَ:  أيا جدّنا شمرُ يبزُّ قناعَنا *** ويضربُنا ضربَ الإماءِ ويوجعُ المُنتخبُ للطريحي، ص135.  قالَ الشيخُ محمّدُ بنُ السمين (القرنُ الحادي عشر) وهوَ يصفُ حالَ مولاتِنا زينب (ع): ثمّ لما رأته ملقى ًعلى الترِب *** تريبَ الخدّينِ دامي الجبين صرخَت صرخةً وقالت أجدة *** العيسُ رفقاً هنيةَ أوقفوني لأودّعه كي أبلُّ غليلي *** بوداعي منهُ ولا تمنعوني إلى أن يقول:  فأجابوا صوتَ الشجيّ بسوطٍ *** وبضربٍ يُبدي خفيَّ الأنين فاستغاثَت بجدّها وأبيها *** وأخيها الزاكي الإمامِ المُبين إلى أن يقول: جدّي هذا القناعُ يسلبُ منّي *** ثمَّ بالسوطِ بعدَ قنعوني إلى أن يقولَ:  وإذا ما شكوتُ ضرّاً وبؤساً *** رجموني بغياً وما رحموني المُنتخبُ للطريحي، ص70  وقالَ الشيخُ داود البحراني ( ت 1012 هـ ) وهو يصوّرُ لسانَ حالِ السبايا: أبي هذي اُميّةُ ذاتُ صونٍ *** ونحنُ نساقُ جهراً بالفلاء تصانُ اُميّةُ ولها خدورٌ *** ونبرزُ مِن خِبانا للسباء كأنّا مِن بناتِ الزنجِ نُسبى *** ونضربُ بالسياطِ بلا خطاء المُنتخبُ للطريحي، ص203 – 204.

2024/08/24
ثلاثة أطراف للجريمة: من قتل الإمام الحسين (ع)؟!
إنَّ كل جريمة القتل قد يتعدد أطرافها، وبحسب الرؤية الشيعية فأن جريمة قتل الإمام الحسين (عليه السلام) لها ثلاثة أطراف:

[اشترك]

الطرف الأول: الممهد بالتمكين من قتاله

لا يخفى إنَّ قيام فرد أو جماعة بسلوك معين يكون سببا لوقوع الجريمة ويتمثل مصداق ذلك لمّا قام جماعة اجتمعوا على كتابٍ كتبوه في المسجد الحرام وتعاهدوا عليه لئن مضى محمد لا يكون الخلافة في بني هاشم ولا يولّوها عليّاً [انظر الأصول الستة عش للعصفري ص144]. 

وقد روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إذا كتب الكتاب قتل الحسين) [الكافي للكليني ج ٨ ص١٨٠].

قال المازندراني: شبه (عليه السلام) يوم قتل الحسين (عليه السلام) بيوم كتب فيه الكتاب في كونه مصيبة عظيمة وبلية شديدة على الهاشمين والعلويين والشيعة أجمعين لكونه أصلا ليوم القتل وسببا له إذ لو كانت الخلافة في بني هاشم ولم ينقلوها منهم إلى بني تيم وبني عدى وبني أمية لم يقع قتل الحسين (عليه السلام) (فقد كان ذلك كله) أي كتب الكتاب وقتل الحسين (عليه السلام) وخروج الملك من بني هاشم [شرح أصول الكافي ج20ص421].

فهذه الرواية تبيّن إنَّ أساس قتل الإمام الحسين (عليه السلام) كان كتابة تلك الصحيفة الملعونة وقد أُشير لهذا المعنى في بعض فقرات زيارة يوم عاشوراء فهم من أسس أساس الظلم والجور على أهل البيت، وهم الممهدين لهم بالتمكين من قتاله (عليه السلام).

الطرف الثاني: أمر يزيد بقتله (عليه السلام).

ذكر المؤرخون لما توجه الحسين (عليه السلام) إلى العراق بعث يزيد عبيد الله بن زياد واليا على العراق، وأمره أن يأخذ البيعة من الحسين وأمره إن أبى أن يقتله، ويبعث اليه برأسه [انظر: تاريخ اليعقوبي ج2 ص242-مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص178 -180 ومناقب آل أبي طالب ج4 ص88 والفتوح لابن أعثم ج5 ص10].

الطرف الثالث: تنفيذ عبيد الله بن زياد أمر يزيد.

ولمّا جهز ابن زياد جيشا لقتال الإمام الحسين (عليه السلام) كتب إلى قائد الجيش عمر بن سعد: إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتعتذر له ولا لتكون له عندي شافعا، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، وإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره .. [الإرشاد ج ٢ ص ٨٨].

والمحصل: أنَّ المسئولين عن جريمة قتل الإمام الحسين ثلاثة أطراف:

1- المسبب وهم أصحاب الصحيفة الملعونة.

2- الآمر وهو يزيد بن معاوية الأموي.

3-  المنفذ وهم ابن زياد وجيشه.

المقال رداً على سؤال: سؤال يتردد كثيرا في الأذهان من الذي قتل الإمام الحسين (عليه السلام) حسب الرؤية الشيعية؟
2024/08/23
الإمام الحسين في مواجهة الفكر الأموي المنحرف.. كلمة العتبة الحسينية في مؤتمر يوم الحسين الـ 32 - مدينة بنغالور الهندية
الإمام الحسين عليه السلام مثال للحقيقة والعدالة

جناب الأخ الأستاذ أغا سلطان المحترم

مأساة الإمام الحسين عليه السلام وتضحياته تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي، وكانت عاملا مهما في ايقاض الأمة من سباتها، وتعد بمثابة تذكير دائم بأهمية الدفاع عن العدالة، وأن العدالة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الإصلاح بأنواعه، والعدل لا يقتصر على جانب دون آخر ، بل هو مطلوب في كل المجالات...

[اشترك]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وتحية حب واحترام للإخوة والأخوات جميعا...

يحق لنا أن نفتخر بأن حب وعشق الإمام الحسين عليه السلام قد جمعنا في هذا المؤتمر الكبير الذي يقيمه جناب الأخ الأستاذ اغا سلطان المحترم للسنة الثانية والثلاثون.

لا بد من الإشارة في بادئ الأمر إلى أن الإمام الحسين عليه السلام عندما رأى أن يزيد وأتباعه قد مارسوا الظلم والجور والطغيان، وقد غاب في حكمه الغاشم العدل والعدالة الاجتماعية وانتشرت المفاسد والمظالم، وبدأ العالم الإسلامي يشهد انحرافا عن مبادئ الإسلام وانتشار للفساد والقمع والاستخفاف بحقوق الشعب ، مما شكل تهديدا مباشرا لجوهر الإسلام

ولا يخفى أن الإمام الحسين عليه السلام كانت نشأته وتربيته في بيت النبي وتشرب تعاليم الإسلام منذ صغره وله فهما عميقا للقيم الأساسية للدين الإسلامي بما في ذلك العدالة الاجتماعية والمساواة والرحمة وأنه عليه السلام سبط النبي محمد وله مكانة بارزة في التاريخ الإسلامي وبصفته الخليفة الشرعي للنبي صلى الله عليه وآله وأن التزامه الراسخ بمبادئ العدل والحقيقة والحفاظ على الإسلام بمثابة إلهام خالد للمسلمين في جميع أنحاء العالم ، ويتجلى ذلك بشكل واضح في نهضته المباركة برفضه البيعة ليزيد بمقولته (مثلي لا يبايع مثله)

فكانت مواقفه تدل على حقائق عدة اتسمت بالشجاعة وكان الجبن والتخاذل لا يطرق ساحته ولا الانكسار، لأن الانكسار يرمز ويعني اليأس من تحقيق الغاية.

فالإمام الحسين عليه السلام على يقين بالظفر بالأمنية وهي الشهادة في سبيل الله لإحياء دين جده المصطفى، والتي حمد الله تعالى على كل ما أصابه لأنه يؤمن بعدالة قضيته وبالمهمة التي نهض من أجلها

فكان لا بد أن يقوم الإمام الحسين عليه السلام بنهضته المباركة لغرض الإصلاح في أمة جده محمد صلى الله عليه وآله التي لم تكن نهضة انفعالية ينقصها الوضوح في الرؤية او القصور في تحديد الغايات والأهداف، بل كانت نهضة واعية واقعية حقيقية فقد خاطب الجموع الحاضرة التي جاءت لمقاتلته في أرض الطف أرض البطولة والشهادة أرض كربلاء المقدسة قائلا: "اني لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالما، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى الله عليه وآله،  اريد ان امر بالمعروف وأنهى عن المنكر واسير بسيرة جدي رسول الله وابي أمير المؤمنين...".

فمأساة الإمام الحسين عليه السلام وتضحياته تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي، وكانت عاملا مهما في ايقاض الأمة من سباتها، وتعد بمثابة تذكير دائم بأهمية الدفاع عن العدالة، وأن العدالة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الإصلاح بأنواعه، والعدل لا يقتصر على جانب دون آخر ، بل هو مطلوب في كل المجالات، إذ يجب أن يعم العدل في كل شيء في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والحقوق وبدونه لا يمكن أن ينعم المجتمع بالسعادة والامن والاستقرار صحيح أن الإمام الحسين عليه السلام استشهد في معركة كربلاء ، وسفك دمه الطاهر ومن معه من ولده وأهل بيته وأصحابه، لكنه انتصر وهزم بدمه سيف الظلم واسقط عرش الطاغوت،  فكانت شهادته إحقاقاً للحق والعدل وإزالة للظلم وطلبا للإصلاح وتأصيلا للفضيلة، ويعد انتصارا للعدل على الظلم.

ختاما: أنقل لكم تحيات وسلام سماحة المتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي وجناب السيد الأمين العام الأستاذ حسن رشيد، وكذلك سلام سماحة السيد أحمد الصافي المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة وأمينها العام، وانقل الى حضراتكم سلام وتحيات اخوتكم في العراق الذين يكنون لكم التقدير والاحترام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

السيد الدكتور سعد الدين البنّاء – موفد العتبة الحسينية المقدسة
2024/08/18
عطر الحسين (ع)!
أُريد أن أُنبّه إلى أمر، وهو أنَّ لأهل البيت - عليهم السَّلام - رائحةٌ ماديَّةٌ زاكيةٌ طيبةٌ للغاية، ولكنَّها من سنخٍ آخر له خصائص تعرفها من خلال التدبّر في الروايات.

وقد انتبهتُ لهذا الأمر يوم قرأت مقتل ولدي مسلم بن عقيلٍ - عليهم السَّلام - والأخ يطلب من أخيه أن يشمَّ رائحته.

وإذا قرأتم وصف الإمام عليٍّ - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وآله - فانظره يقول: " ...ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ،ويشمّني عرفه" والعرف هو الرائحة.

ويقولُ - عليه السلام - في موضعٍ آخر "وأشمُّ ريحَ النبوَّة"

وفي حديث الكساء أنَّ الإمامين السبطين - عليهما السلام - أخبرا أمَّهما السيدة الزهراء - عليها السلام -  أنهما يشمَّان رائحةً كرائحة جدِّهما رسول الله - صلى الله عليه وآله -

والمعروف أنَّ الصحابة كانوا يعلمون بقدومه فبل إطلالة هلال وجهه عليهم حيث تسبقه إليهم طيب رائحته - صلى الله عليه وآله - كما في السيرة النبويَّة.

وكان النبيُّ - صلى الله عليه وآله - يشمُّهما ويقول هما ريحانتاي من الجنَّة.

ولعلَّني سمعتُ أرباب المنابر يقولون إن السيدة زينب - عليها السلام - كانت تشمُّ صدر الإمام الحسين - عليه السلام - وليس في وسعي البحث في المصادر.

ولو تفضل علينا باحثٌ موالٍ فرصد تلك المواطن يكن متفضلاً علي الموالين جميعا.

وهنا رواية جاءت في تاريخ دمشق ج14 ص 245، وتهذيب الكمال للمزي ج6 ص444، وسير أعلام النبلاء للذهبي ج3 ص 317 وغيرها أنَّه لمَّا أُجرِيَ الماء على قبر الإمام الحسين - عليه السلام - نضبَ بعد أربعين يوماً، وانمحى أثرُ القبر فجاء أعرابيٌّ يأخذُ قبضةً من تراب الأرض ويشمُّها حتى استهدى إلى القبر الشريف عن طريق رائحته فقال باكياً:

أرادوا ليُخفوا قبره عن وليِّهِ *** وطيبُ ترابِ القبرِ دلَّ على القبرِ 

=============================

ملاحظة: البيت في تلك المصادر :أرادوا ليُخفوا قبره عن عدوه.

والذي ذكرته بيت مستدر السفينة لأنه أوفق بالقصة.

2024/08/07
إخبار النبي بمقتل الحسين (ع).. دم وتراب في «قارورة» أم سلمة!
أورد مفاد هذا الخبر قطبُ الدين الراوندي في الخرائج قال: إنَّ -الحسين- (عليه السلام) لمَّا أراد العراق قالت له أمُّ سلمة: لا تخرج إلى العراق فقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يُقتل ابني الحسين ب‍أرض العراق، وعندي تربةٌ دفعها إليَّ فيَّ قارورة. فقال: والله إنِّي مقتول كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً، وإنْ أحببتِ أن أُريكِ مضجعي ومصرعَ أصحابي. ثم مسح بيده على وجهها، ففسح اللهُ في بصرها حتى أراها ذلك كلَّه، وأخذَ تربةً فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورةٍ أخرى، وقال (عليه السلام): فإذا فاضتا دماً، فاعلمي أنِّي قد قُتلت. فقالت أمُّ سلمة: فلمَّا كان يوم عاشوراء نظرتُ إلى القارورتين بعد الظهر فإذا هما قد فاضتا دماً، فصاحت. ولم يُقلب في ذلك اليوم حجرٌ ولا مدرٌ إلا وُجد تحتَه دمٌ عبيط"(1).

وأورده مع شيءٍ من التفاوت ابنُ حمزة الطوسي في كتابه الثاقب في المناقب عن الإمام الباقر صلوات الله عليه قال: "لمَّا أراد الحسين صلوات الله عليه الخروج إلى العراق بعثتْ إليه أمُّ سلمة رضي الله عنها .. فأخرجت لهم القارورة فإذا هي دم عبيط"(2) وأورد قريباً من هذا الخبر في عيون المعجزات حسين بن عبد الوهاب(3).

وأمَّا إراءة الرسول (ص) تُربة الحسين (ع) لأمِّ سلمة فالأخبارُ في ذلك مستفيضةٌ وقد أوردتها كتبُ الفريقين:

فمِن ذلك ما أورده الشيخُ الصدوق في الأمالي بسنده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان النبيُّ (صلى الله عليه وآله) في بيت أُمِّ سلمة (رضي الله عنه)، فقال لها: لا يدخل عليَّ أحد. فجاء الحسينُ (عليه السلام) وهو طفل، فما ملكتْ معه شيئاً حتى دخل على النبيِّ (صلى الله عليه وآله) فدخلت أمُّ سلمةَ على أثرِه، فإذا الحسين على صدرِه، وإذا النبيُّ (صلى الله عليه وآله) يبكي، وإذا في يدِه شيءٌ يقلبُه، فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): يا أُمَّ سلمة، إنَّ هذا جبرئيل يُخبرني أنَّ هذا مقتول، وهذه التربةُ التي يُقتل عليها، فضعيها عندك، فإذا صارتْ دماً فقد قُتل حبيبي، فقالتْ أُمُّ سلمة: يا رسول الله، سلِ الله أن يدفع ذلك عنه. قال: قد فعلت، فأوحى اللهُ عزَّ وجلَّ إليَّ: أنَّ له درجة لا ينالُها أحدٌ من المخلوقين، وأنَّ له شيعة يشفعون فيُشفَّعون، وأنَّ المهدي مِن ولده، فطوبى لمَن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم والله الفائزونَ يومَ القيامة"(4).

وأورد قريباً منها الشيخُ المفيد في الإرشاد وورد فيها: "فقال: "خذيها واحتفظي بها" فأخذتُها فإذا هي شبهُ ترابٍ أحمر، فوضعته في قارورةٍ وسددتُ رأسها واحتفظتُ به، فلمَّا خرج الحسينُ (عليه السلام) من مكة متوجِّها نحو العراق، كنتُ أُخرج تلك القارورة في كلِّ يومٍ وليلة فأشمُّها وأنظرُ إليها ثم أبكي لمصابِه، فلمَّا كان في اليوم العاشر من المحرم -وهو اليومُ الذي قُتل فيه (عليه السلام)– أخرجتُها في أول النهار وهي بحالِها، ثم عدتُ إليها آخرَ النهار فإذا هي دمٌ عبيط .."(5).

وأورد خبرَ تربة الحسين (ع) -التي استودعها النبيُّ (ص) أمَّ سلمة- الشيخُ الطوسي في الأمالي بسنده عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عن أمِّ سلمة قالت: ".. قد والله قُتل سبطُ رسولِ الله وريحانتُه الحسين. فقيل: يا أمَّ المؤمنين، ومن أين علمتِ ذلك؟ قالت: رأيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) في المنام الساعة شعثاً مذعورا، فسألته عن شأنِه ذلك، فقال: قُتل ابني الحسين وأهلُ بيته اليوم .. قالت: فقمتُ حتى دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرتُ فإذا بتربةِ الحسين التي أتى بها جبرئيلُ مِن كربلاء، فقال: إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنُك، وأعطانيها النبيُّ (صلى الله عليه وآله)، فقال: اجعلي هذه التربة في زجاجةٍ -أو قال: في قارورةٍ- ولتكنْ عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين، فرأيتُ القارورة الآنَ وقد صارت دماً عبيطاً تفور .. فجاءت الركبان بخبرِه، وأنَّه قتل في ذلك اليوم.

قال عمرو بن ثابت قال أبي: فدخلتُ على أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، منزلة، فسألتُه عن هذا الحديث، وذكرتُ له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبد الله بن عباس، فقال: أبو جعفر (عليه السلام): حدثنيه عمرُ بن أبي سلمة، عن أمة أم سلمة .. قال عمرو بن أبي المقدام: فحدَّثني سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام): أنَّ جبرئيل جاء إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالتربة التي يُقتل عليها الحسين (عليه السلام) قال أبو جعفر -الباقر- (ع): فهي عندنا"(6) وأورد خبر القارورة ابن جرير الطبري الإمامي مختصراً في دلائل الإمامة وكذلك غيره(7).

خبر الإراءة والقارورة في طُرق العامَّة:

ومما ورد في طرق العامَّة ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن أمِّ سلمة قالت: كان الحسنُ والحسينُ يلعبان بين يدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) في بيتي فنزل جبريلُ فقال: يا محمد إنَّ أمَّتَك تقتلُ ابنَك هذا مِن بعدِك، وأومأَ بيده إلى الحسين فبكى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وضمَّه إلى صدره، ثم قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): يا أُمَّ سلمة وديعةٌ عندك هذه التربةُ فشمَّها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وقال: ويح وكرب وبلاء قالت: وقال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): يا أمَّ سلمة إذا تحولتْ هذه التربةُ دماً فاعلمي أنَّ ابني قد قُتل، قال: فجعلتْها أمُّ سلمة في قارورةٍ ثم جعلتْ تنظر إليها كلَّ يومٍ وتقولُ: إنَّ يوما تُحولين دماً ليومٌ عظيم"(8).

أقول: وأورده ابنُ حجرٍ في تهذيب التهذيب وقال: وفي الباب عن عائشة، وزينب بنت جحش، وأم الفضل بنت الحارث، وأبي أمامة، وأنس بن الحارث، وغيرهم"(9).

ومنه: ما أخرجه أحمدُ بن حنبل في المسند بسنده عن عن أنس قال: استأذن ملَكُ المطر أنْ يأتيَ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) فاذِنَ له فقال لأمِّ سلمة: احفظي علينا الباب لا يدخل أحدٌ فجاء الحسينُ بن علي رضى الله تعالى عنهما فوثبَ حتى دخلَ فجعل يصعدُ على منكب النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) فقال له الملك: أتحبُّه قال النبيُّ(صلَّى الله عليه وآله وسلم): نعم قال: فإنَّ أمتك تقتلُه وإنْ شئت أريتُك المكانَ الذي يُقتلُ فيه قال: فضربَ بيده فأراه تراباً أحمر فأخذت أمُّ سلمة ذلك التراب فصرَّته في طرفِ ثوبها قال: فكنَّا نسمع يُقتل بكربلاء"(10).

أقول: وأخرجه الهيثمي عن أبي الطفيل وقال: عن أبي الطفيل قال: استأذن ملكُ القطر أنْ يُسلِّم على النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلم) في بيت أم سلمة فقال لا يدخل علينا أحد فجاء الحسين بن علي رضي الله عنهما فدخل فقالت أم سلمة هو الحسين فقال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلم) دعيه فجعل يعلو رقبة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلم) ويعبث به والملك ينظر فقال الملك أتحبه يا محمد قال اي والله إني لأحبه قال أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان فقال بيده فتناول كفا من تراب فأخذت أم سلمة التراب فصرَّته في خمارها فكانوا يرون أن ذلك التراب من كربلاء. قال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه الطبراني وإسناده حسن(11).

وقال ابن العديم الحلبي: قلتُ وقد ذكر أبو حاتم بن حبَّان حديث إخبار ملك القطر (عليه السلام) النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بقتل الحسين في المسند الصحيح(12) .

ومنه: ما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند من طريقٍ آخر عن انس بن مالك أنَّ ملك القطر استأذن أنْ يأتي النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) فأذن له فقال لأمِّ سلمة: املكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد قال: وجاء الحسين بن علي ليدخل فمنعته، فوثب فدخل فجعل يقعدُ على ظهر النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وعلى منكبِه وعلى عاتقه قال: فقال الملك للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم): أتحبُّه؟ قال: نعم قال: إنَّ أمَّتك ستقتلُه وانْ شئتَ أريتُك المكانَ الذي يُقتلُ به، فضرب بيده فجاء بطينةٍ حمراء، فأخذتْها أمُّ سلمة فصرَّتها في خمارِها قال: ثابت: بلغنا إنَّها كربلاء"(13).

أقول: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني بأسانيد، وفيها عمارة بن زاذان وثَّقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجال أبى يعلى رجال الصحيح"(14).

فالإشكال في السند -بنظره- من جهة عمارة بن زاذان وهو ثقة، وثقه يحيى بن معين(15) ووثقه أحمد بن حنبل في العلل وقال: عمارة بن زاذان شيخ ثقة ما به بأس"(16) ووثقه العجلي في معرفة الثقات وقال: عمارة بن زاذان الصيدلاني بصرى ثقة"(17) وغيرهم والغريب أن الهيثمي قد وثق الرجل في موضع آخر من كتابه مجمع الزوائد قال: عمارة بن زاذان وهو ثقة"(18).

ومنه: ما أخرجه أحمد عن عائشة أو أم سلمة أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) قال لإحداهما: لقد دخل عليَّ البيت ملكٌ لم يدخل عليَّ قبلها قال: إنَّ ابنك هذا حسين مقتولٌ، وإنْ شئت أريتك من تُربةِ الأرض التي يُقتل بها قال: فأخرج تربةً حمراء"(19).

أقول: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح(20).

ومنه: وأخرج الطبراني بسنده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) لنسائه لا تُبكوا هذا الصبي يعنى حسيناً، قال: وكان يوم أم سلمة فنزل جبريل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الداخل وقال: لام سلمة لا تدعي أحدا أن يدخل على فجاء الحسين فلما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في البيت أراد أن يدخل فأخذته أم سلمة فاحتضنته وجعلت تناغيه وتسكنه فلما اشتد في البكاء خلت عنه فدخل حتى جلس في حجر النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمتك ستقتل ابنك هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يقتلونه وهم مؤمنون بي قال نعم يقتلونه فتناول جبريل تربة فقال بمكان كذا وكذا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد احتضن حسينا كاسف البال مغموما فظنت أم سلمة أنه غضب من دخول الصبي عليه فقالت يا نبي الله جعلت لك الفداء انك قلت لنا لا تبكوا هذا الصبي وأمرتني ان لا أدع أحدا يدخل عليك فجاء فخليت عنه فلم يرد عليها فخرج إلى أصحابه وهم جلوس فقال: إن أمتي يقتلون هذا وفى القوم أبو بكر وعمر وكانا أجرأ القوم عليه فقالا يا نبي الله وهم مؤمنون قال: نعم، وهذه تربته وأراهم إياها"(21).

هذا وقد أورد عددٌ من المؤرِّخين حديث القارورة:

منهم اليعقوبي في تأريخه قال: وكان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج رسول الله، كان دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إنَّ جبريل أعلمني أنَّ أمتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أنَّ الحسين قد قتل، وكانت عندها، فلمَّا حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كلِّ ساعة، فلمَّا رأتها قد صارت دماً صاحت: وا حسيناه ! وابن رسول الله ! وتصارخت النساءُ من كلِّ ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجَّة التي ما سُمع بمثلها قط"(22).

ومنهم ابن الأثير في الكامل: وروي أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) أعطى أمَّ سلمة تراباً من تربة الحسين حمله إليه جبريل فقال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) لأمِّ سلمة إذا صار هذا التراب دماً، فقد قُتل الحسين فحفظت أمُّ سلمة ذلك التراب في قارورةٍ عندها فلمَّا قُتل الحسينُ صار الترابُ دماً، فأعلمت الناس بقتله"(23).

ومنهم: اليافعي في مرآة الجنان قال في ذيل كلامه: .. فضرب بيده فجاء بطينةٍ حمراء فأخذتها أمُّ سلمة، فصيَّرتها في خمارها. وقيل وضعتها في قارورةٍ، فلمَّا قرب وقت قتلِ الحسين نظرت في القارورة فإذا الطينُ قد استحالَ دماً"(24)

العديد من الصحابة أراهم النبيِّ (ص) تربة الحسين (ع)

وخلاصة القول: إنَّ الروايات التي أفادت أنَّ النبيَّ الكريم (ص) أخبر أمَّ سلمة بمقتل الحسين (ع) وأراها شيئاً من التربة التي يُقتل فيها وأنَّه أودعها تلك التربة وأنبأها أنَّها سوف تستحيل دماً عبيطاً يوم مقتله الرواياتُ في ذلك مستفيضة بل هي في أعلى درجات الاستفاضة الموجبة للاطمئنان بالصدور، بل يظهر من العديد من الروايات الواردة من طرق العامَّة أنَّ إراءة النبيِّ (ص) لتربة الحسين لم تقتصر على السيدة أم سلمة بل كان قد أراها غيرها من الصحابة كأبي بكر وعمر وآخرين كما يظهر ذلك من رواية أبي أمامة، وكذلك يظهر من الروايات أن ممن أراهم النبيُّ (ص) تربة الحسين وأخبرهم بمقتله عائشة كما أورد ذلك ابن عساكر بسنده المقبري عن عائشة قالت بينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راقد إذ جاء الحسين يحبو إليه فنحيته عنه ثم قمت لبعض أمري فدنا منه فاستيقظ وهو يبكي فقلت ما يبكيك قال إن جبريل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين فاشتد غضب الله على من يسفك دمه وبسط يده فإذا فيها قبضة من بطحاء فقال يا عائشة والذي نفسي بيده إنه ليحزنني فمن هذا من أمتي يقتل حسينا بعدي"(25).

وكذلك فإنَّ ممَّن ورد أنَّ النبيَّ (ص) قد أراه تربةَ الحسين (ع) -التي يُقتل فيها- عبد الله بن عباس، أخرج ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال كان الحسين جالساً في حجر النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) فقال جبريل: أتحبُّه؟ فقال وكيف لا أحبه وهو ثمرةُ فؤادي! فقال: أما إنَّ أمَّتك ستقتلُه، ألا أُريكَ من موضع قبرِه، فقبضَ قبضةً، فإذا تربةٌ حمراء". قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات وفى بعضهم خلاف(26).

المقال رداً على سؤال: ينقل أحد الخطباء بأن الإمام الحسين (عليه السلام) التقى بالسيدة أم سلّمة قبل أن يشد الرحال لكربلاء وسلّمها تربة كربلاء، فهل هناك سند صحيح لهذه الواقعة لاسيما وإنني قمت بالبحث فلم أجد أي سند لهذا الكلام.

--------------------------

 الهوامش: 1- الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص253، الصراط المستقيم -العاملي البياضي- ج2 / ص179. 2- الثاقب في المناقب -ابن حمزة الطوسي- ص332. 3- عيون المعجزات -حسين بن عبد الوهاب- ص61. 4- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص203. 5- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص131. 6- الأمالي -الشيخ أبو جعفر الطوسي- ص316 7- دلائل الإمامة -الطبري الإمامي- ص180، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص8 8- المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص108، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر -ج14 / ص193. 9- تهذيب التهذيب -ابن حجر- ج2 / ص301 10- مسند أحمد بن حنبل -أحمد بن حنبل- ج3 / ص265، دلائل النبوة -البيهقي- ج6 / ص469، معرفة الصحابة -أبونعيم الأصبهاني- ص596. 11- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص190. 12- بغية الطلب في تاريخ حلب -ابن العديم- ج6 / ص2600. 13- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج3 / ص242، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر-ج14 / ص190. 14-مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص187 15- تاريخ ابن معين -يحيى بن معين - ص146. 16- العلل -أحمد بن حنبل ج1 / ص302. 17- معرفة الثقات -العجلي- ج2 / ص162 18- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج3 / ص102. 19- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج6 / ص294. 20- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص187. 21- المعجم الكبير -الطبراني- ج8 / ص285، الأمالي -الشجري- ج1 / ص244. 22- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج3 / ص245. 23- الكامل في التاريخ -ابن الأثير-ج4 / ص93، الفتوح -ابن أعثم- ج4 / ص324. 24- مرآة الجنان وعبرة اليقظان -عبد الله بن أسعد اليافعي المكي- ج1 / ص108. 25- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص195، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ترجمة الإمام الحسين (ع) ص46. 26- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص192، بغية الطلب- ابن العديم- ج6 / ص2601.
2024/07/24
هل نبشوا قبر الرضيع وقطعوا رأسه؟!
السؤال: هل هناك نصٌّ مُعتبر على أنَّه قد تمَّ نبش قبر عبدالله الرضيع من خلف الخيام واستُخرج جثمانُه وتمَّ قطعُ رأسه، كما يرد ذلك في السرد التاريخي وأنّ أحدى القبائل ممَّن شارك في حرب الحسين (ع) لم تحظَ برأسٍ تتباهى بحمله فاهتدوا إلى رأس عبدالله الرضيع ابن الإمام الحسين (ع)؟

الجواب: لا ريب أنَّ رضيعاً أو طفلاً صغيراً للحسين (ع) ذُبح يوم عاشوراء بسهمٍ أو مشقصٍ أو نشَّابة وهو في حجر أبيه (ع) أو على يديه، فقد تظافرت النصوصُ التأريخيَّة في ذلك من الفريقين، فقد ورد اسمُه ومقتلُه في زيارة الناحية المقدسة قال (ع): السلام على عبد الله بن الحسين، الطفلِ الرضيعِ، المرمِّي الصريع، المتشحِّط دماً، المصعَّدِ دمُه في السماء، المذبوحِ بالسهم في حجرِ أبيه، لعن اللهُ راميه حرملةَ بن كاهل الأسدي"(1).

وأورد مقتلَه من علمائنا مثلُ الشيخ الطبرسي في الإحتجاج والشيخُ المفيد في الإرشاد قال: "ثم جلس الحسينُ (عليه السلام) أمام الفسطاط فأُتي بابنِه عبد الله بن الحسين وهو طفلٌ فأجلسَه في حجره، فرماه رجلٌ من بني أسد بسهمٍ فذبحه، فتلقَّى الحسينُ (ع) دمَه، فلمَّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثم قال: "ربِّ إنْ تكنْ حبستَ عنَّا النصرَ من السماءِ، فاجعل ذلك لِما هو خير، وانتقمْ لنا من هؤلاءِ القومِ الظالمين" ثم حملَه حتى وضعَه مع قتلى أهلِه"(2).

وثمة روايةٌ أوردها ابنُ نما الحلِّي في مثير الأحزان والسيدُ ابن طاووس في الملهوف عن الإمام الباقر (ع): أنَّ الحسين (ع) "رَمى بالدم نحوَ السماءِ فلم تسقطْ من الدمِ قطرةٌ إلى الأرض"(3) وهو مناسبٌ لما ورد في زيارة الناحية.

وذكر مقتلَ الطفل أو الرضيع من مؤرخي العامَّة مثلُ البلاذري في أنساب الأشراف(4)، وابنُ قُتيبة الدينوري في الأخبار الطوال(5)، والطبريُّ في تاريخه(6) والخوارزميُّ في مقتل الحسين(ع) (7) وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيِّين(8)، وابنُ كثيرٍ في البداية والنهاية(9)، وابنُ الجوزي في المنتظم(10) وغيرُهم كثير.

فهذا المقدارُ ثابتٌ دون ريب، نعم وقع الخلافُ من جهةِ أنَّ الحسين (ع) هل حفَرَ له بجفنِ السيف ودفنَه أو أنَّه وضعَه مع القتلى من بني هاشم،

وأمَّا أنَّ احدى القبائل التي شاركتْ في حربِ الحسين (ع) نبشتْ قبرَ الطفل، وأخرجتْ جُثمانَه، وقطفتْ رأسَه لتتباهى به عند ابنِ زياد فهو وإنْ لم يكن مُستبعَداً على هؤلاءِ اللئام، فهم من الخِسَّة والدناءةِ بمستوىً لا يُستبعدُ صدورُ مثلِ هذا الفعلِ الشنيع منهم إلا انَّ هذا الخبر لم نجدْ له ذكراً في شيءٍ من مصادرِنا أو مصادرِ العامَّة، نعم أوردَ هذا الخبرَ الشيخُ محمد باقر الفشاركي من أصفهان (رحمه الله) المتوفى سنة 1314ه كما حُكيَ عنه في كتابٍ له اسمُه عنوان الكلام باللغة الفارسيَّة، ولم يُسنِد هذا الخبر إلى مصدرٍ كما هو الشأنُ في الكثير ممَّا أورده في كتابِه، وهو نفسُه قد صرَّح في كتابِه الذي كان عبارة عن محاضراتٍ كان يختمُها بذكر مصائبِ الإمام الحسين (ع) صرَّح بأنَّه لم يعتمدْ فيما ينقلُه على الكتب المعتبَرة أو المشهورة، فكان يكتفي فيما ينقلُه بما يُوجب عنده الظنَّ بل والإحتمال(11).

ولذلك لا يصحُّ التعويلُ على هذا الخبر كما لا يصحُّ التعويلُ على كلِّ ما تفرَّد بنقلِه في كتابِه عنوان الكلام، ولا ينبغي للخطباء الكِرام أنْ ينقلوا مثلَ هذا الخبر على المنابر حرصاً على المصداقيَّة.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

 

1- إقبال الأعمال -السيد ابن طاووس- ج3 / ص74، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج45 / ص66.

2- إعلام الورى بأعلام الهدى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص466، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص108.

3- مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص52، اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص69.

4- أنساب الأشراف -أحمد بن يحيى بن جابر ( البلاذري)- ج3 / ص201.

5- الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص258.

6- تاريخ الطبري -محمد بن جرير الطبري- ج4 / ص342.

7- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج2 / ص37.

8- مقاتل الطالبيين -أبي الفرج الأصفهاني- ص59.

9- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص203.

10- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج5 / ص340.

11-عنوان الكلام -الشيخُ محمد باقر الفشاركي- ص293.

2024/07/21
بعد ثلاثة أيام من مقتله.. من دفن الإمام الحسين (ع)؟
بقيت جثّة الإمام الحسين (عليه السلام)، وجثث أهل بيته وأصحابه بعد واقعة الطف مطروحة على أرض كربلاء، ثلاثة أيّام بلا دفن، تصهرها حرارة الشمس المحرقة، قال أحد الشعراء حول مصرع الإمام الحسين (عليه السلام):

هذا حسين بالحديد مقطّع* متخضّب بدمائه مستشهد

عار بلا كفن صريع في الثرى* تحت الحوافر والسنابك مقصد

والطيّبون بنوك قتلى حوله* فوق التراب ذبائح لا تلحد (1).

قبيلة بني أسد:

قبيلة تعيش أطراف كربلاء، خرج رجالها يتفحَّصون القتلى، ويتتبَّعون أنباء الواقعة بعد رحيل جيش عمر بن سعد إلى الكوفة، فلمّا نظروا إلى الأجساد وهي مقطّعة الرؤوس، تحيّروا في دفنها، فبينما هم كذلك جاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) بمعجزة طي الأرض إلى أرض كربلاء.

كيفية الدفن:

قال السيّد المقرّم: (ولمّا أقبل السجّاد (عليه السلام) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين لا يدرون ما يصنعون، ولم يهتدوا إلى معرفتهم، وقد فرق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم، وربما يسألون من أهلهم وعشيرتهم! فأخبرهم (عليه السلام) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وأوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب فارتفع البكاء والعويل، وسالت الدموع منهم كل مسيل، ونشرت الأسديات الشعور ولطمن الخدود.

ثم مشى الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى إلى موضع القبر ورفع قليلاً من التراب فبان قبر محفور وضريح مشقوق، فبسط كفّيه تحت ظهره وقال: (بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله لا حوّل ولا قوّة إلاّ بالله العظيم)، وأنزله وحده لم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: (إنّ معي من يعينني)، ولمّا أقرّه في لحده وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً:

(طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمسهّد، والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي فيها أنت مقيم، وعليك منّي السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته).

وكتب على القبر: (هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي قتلوه عطشاناً غريباً).

ثم مشى إلى عمّه العباس (عليه السلام) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء، وأبكت الحور في غرف الجنان، ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً: (على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته).

وشق له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد: (إنّ معي من يعينني)! نعم ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعين وأمرهم أن يحفروا حفرتين، ووضع في الأُولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب وأمّا الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن) (2).

وبعدما أكمل الإمام (عليه السلام) دفن الأجساد الطاهرة، عاد إلى الكوفة والتحق بركب السبايا.

الهوامش: 1ـ بحار الأنوار 45 / 277. 2ـ مقتل الحسين: 320.
2024/07/20
ما هو الهدف من البكاء على الإمام الحسين (ع)؟
السؤال: القول بأنَّ غرض البكاء والتعزية هو الحصول على الثواب ونيل شفاعة الأئمّة الأطهار عليهم السلام. والحال أن فرض الثواب على عمل ما فرع وجود حكمة ومصلحة في نفس ذلك العمل، فالعمل لا يستبطننّ أيّ ثواب ما لم تكن فيه مصلحة وحكمة معقولة. والسؤال عن مصلحة العمل وحكمته.

هل يمكن إثارة عواطف ملايين الأفراد وإبكائهم طيلة التاريخ لغرض تحصيل الثواب؟!

الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

الثواب ونيل الشفاعة ليس هو مِلاك الأمر بالبكاء على الإمام الحسين (ع) فالثواب أثرٌ ونتيجة أو قل هو جزاء، تماماً كما هو الثواب على أداء الصلاة والزكاة وغيرها من الطاعات، فإنَّ الثواب على أداء الصلاة مثلاً ليس هو  مِلاك جعل الصلاة والأمر بها بل هو أثرٌ وجزاءٌ على الالتزام بالأمر بالصلاة، وأمَّا ملاك جعل الصلاة أو الحكمة من جعلها فهو مثل نهيِها عن الفحشاء والمنكر.

كذلك هو البكاء على الإمام الحسين (ع) فإنَّ مِلاك الأمر به أو قل الحكمة من الترغيب فيه والحضِّ عليه فهو صيرورة الحسين (ع) حاضراً في وجدان الناس، فيكون ذلك طريقاً لهدايتِهم.

فإثارةُ مشاعر الحزن والبكاء على الحسين (ع) يُساهمُ في توثيقِ صلتهم به فيبعثُهم ذلك إلى الاقتداء به والاهتداء بهديه. وهذا هو منشأ الأمر بمودة أهل البيت(ع) فإنَّ مودَّتهم يكون طريقاً للهداية، تماماً كما أنَّ مودة الأشرار والمضلِّين يكون طريقاً للضلال.

فإنَّ المودة والحبُّ هي أسرع طرق الاقتداء فمَن أحبَّ أئمة الهدى رغِب في الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، ومن أحبَّ المضلِّين رغب في سلوك طريقهم.

2024/07/20
هل قطعوا رأس أبي الفضل العباس (ع)؟!
هل صحيح بأن الجيش الأموي قطع رأس العباس بن علي (ع) يوم العاشر واخذوا رأسه الشريف إلى الشام؟ الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

نعم قَطَع المعسكر الأموي رأس العباس بن علي (ع) وكذلك سائر رؤوس الشهداء من الهاشميين وأكثر رؤوس الأنصار، وقد ذكر المؤرخون انَّ المعسكر الأموي قطع رؤوس أكثر من سبعين شهيداً من شهداء كربلاء وحملوها إلى الكوفة ثم إلى الشام.

2024/07/20
إسلام مزيّف وآخر أصيل: هكذا كشفت عاشوراء الأقنعة!
إنّ الإسلام الذي أراد للإنسان أن يكون متمحّضاً ومسلّماً لله عزّ وجلّ حتّى تكون كلّ سكناته وحركاته لله تعالى، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فإنّ هذا المستوى من الذوبان في الحقّ لا يفهمه الإنسان ولا يستوعبه إلّا من خلال نماذج عاشت تلك التجربة.

ومن هنا كانت كربلاء وعاشوراء الإمام الحسين (ع) هي الحدّ الفاصل بين الإسلام في صورته المزيّفة التي سُخِّرَ فيها الدّين من أجل الأنا والمصلحة الذاتيّة، وبين الإسلام الحقيقيّ الذي سَخّر الإنسانُ فيه كلَّ ما يملك من أجل الله عزّ وجلّ، فعاشوراءُ الإمام الحسين (ع) بكلّ تفاصيلها الدامية صورٌ حيّة لكلّ القيم التي جاء من أجلها الإسلام.

ولا نريد هنا استعراض تلك الصور المعبّرة عن حقيقة الدين، حتّى أصبحت واضحة للعيان من خلال كربلاء، وإنما نؤكّد على أنّ الإسلام الذي ولد من رحم السلطة حاول أن يُسَخِّرَ كلّ الدين من أجل الحاكم، فكانت عاشوراء إعادة الدين إلى مساره الطبيعيّ، وهو تسخير كلّ شيء وجعله يدور حول الله عزّ وجلّ، ولولا ذلك الحدّ الفاصل الذي رسمه الإمام الحسين (ع) بدمه في كربلاء لم يبقَ للدّين حقيقة، وبذلك أصبحت عاشوراء الحسين عليه السلام رمزاً للإسلام المحمديّ الأصيل، يقف عندها المؤمنون ليعيدوا انتماءهم لله عزّ وجلّ عبر الحسين (عليه السلام)، ومن هنا صدق مَن قال: إنّ الإسلام محمّدي الوجود، علويّ الصّمود، حسينيّ البقاء.

فتمسّكُ الشيعة بالحسين (ع) علامة إيمانيّة وحالة إيجابيّة، تحسب لهم لا عليهم؛ لأنّها تعبّر عن وضوح الرؤية وتكامل الفهم، فلو لَـم ينتمِ الشيعة للإمام الحسين (ع)، ولم يملؤوا الدنيا ضجيجاً ونواحاً بدماء الحسين، لكان في أصل إسلامهم إشكالٌ، فهل للإسلام حقيقة وجوهر غير التوحيد؟ وهل للتوحيد حقيقة دون رفض الطاغوت والكفر به؟ فأيّ رفض كرفض كربلاء؟ وأيّ تسليم كتسليم الحسين (ع) في عاشوراء؟ فحضور الحسين (ع) في أيّ دين هو دليل استقامةٍ على الصراط، ومن هنا كان اسم الحسين (ع) هو الشعار الذي يرفعه السائرين على نهج الصالحين والمفارقين لسبيل الظالمين.

*نقلا عن مركز الرصد العقائدي
2024/07/16
من هو أول شهداء واقعة الطف؟
تارة نسمع أنَّ أول مَن استُشهد يوم الطف هو عليٌّ الأكبر (ع)، وأن آخر من استُشهد هو العباس بن علي (ع)، وتارةً نسمع بأنَّ علي الأكبر (ع) كان أول من استُشهد من الهاشميين وبأنَّ آخر من استُشهد هو القاسم بن الحسن (ع)، فمن هو أول من استشهد يوم الطف؟ ومَن هو آخر من استشهد؟

الجواب:

مسلم بن عوسجة أول شهداء الطف:

إنَّ أول شهيد بحسب ما ورد في زيارة الناحية عن الإمام الحجَّة المروية في كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس بسنده عن أبي جعفر الطوسي وبسند أبي جعفر الطوسي إلى الشيخ محمد بن غالب الأصفهاني هو مسلم بن عوسجة، فقد ورد في الزيارة المخصَّصة للشهداء: "السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي القائل للحسين وقد أذِنَ له في الانصراف أنحنُ نُخلِّي عنك، وبمَ نعتذر عند الله من أداء حقِّك .. ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم لقذفتُهم بالحجارة، ولم أفارقك حتى أموت معك، .. وكنتَ أوَّلَ من شَرَى نفسه، وأوَّلَ شهيدٍ من شهداء الله قضى نحبَه ففزتَ وربِّ الكعبة، شكرَ اللهُ استقدامك ومواساتِك أمامك .."(1).

ويؤيد ما ورد في الزيارة ما أفاده بعض المؤرِّخين مثل ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال: "إنَّ أول مَن قُتل من أصحاب الحسين (ع) هو مسلم بن عوسجة"(2)، وكذلك ما أفاده أبو مخنف في كتابه مقتل الحسين (ع) حين قال: "فصُرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين (ع)" وروى ذلك الطبري في تاريخه عن أبي مخنف كما أفاد ذلك ابن الدمشقي في كتابه جواهر المطالب(3).

وفي مقابل ذلك أفاد ابن الأثير في كتاب الكامل أنَّ أول من قُتل من أصحاب الحسين (ع) هو أبو الشعثاء الكندي قال: "وجثا أبو الشعثاء الكندي وهو يزيد بن أبي زياد بين يدي الحسين (ع) فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكلَّما رمى يقول له الحسين (ع): "اللهم سدِّد رميته واجعل ثوابه الجنَّة .." فقاتل بين يديه وكان أول من قُتل)(4).

والظاهر أنَّ ذلك وقع منه اشتباهًا وأنَّ الصحيح هو ما نقله الطبري في تاريخه عن أبي مخنف مِن أنَّ أبا الشعثاء "كان في أول مَن قُتل" فالنصُّ الذي ذكره ابنُ الأثير هو عينه الذي نقله الطبري عن أبي مخنف، ومن المعروف أنَّ ابن الأثير يعتمد كثيرًا على الطبري، فلعلَّ حرف الجر (في) سقط منه غفلةً أو أسقطه النساخ سهوًا.

فإذا كان الصحيح هو ما نقله الطبري عن أبي مخنف فإنَّ أبا الشعثاء يكون في أوائل من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) وليس هو الأول فيمن قُتل من أصحابه (ع)، فلا يكون هذا النصُّ منافيًا لما ورد في زيارة الناحية وغيرها من النصوص التاريخية التي أفادت أنَّ أول من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) هو مسلم بن عوسجة الأسدي.

لم يكن الحرُّ أول الشهداء:

نعم ورد في عدة من النصوص التاريخيَّة ما يُشعر بأنَّ أول من قُتل من أصحاب الإمام الحسين (ع) هو الحرُّ بن يزيد الرياحي:

منها: ما أفاده السيِّد ابن طاووس في كتاب اللهوف أنَّ الحرَّ بن يزيد الرياحي قال للحسين (ع) بعد أنْ أبدى ندمَه ممَّا كان قد بدر منه وأعلنَ عن توبته أمامه قال للحسين (ع): "فإذا كنتُ أولَ من خرج عليك فأذنْ لي أنْ أكون أول قتيلٍ بين يديك لعلِّي أكون ممَّن يُصافح جدَّك محمدًا (ص) غدًا في القيامة"(5).

ونقل صاحبُ البحار قريبًا من هذا المضمون عن محمد بن أبي طالب وصاحب المناقب قال: إنَّ الحرَّ أتى للحسين (ع) فقال: "يابن رسول الله (ص) كنتُ أول خارجٍ عليك فأذن لي لأكون أولَ قتيلٍ بين يديك وأولَ مَن يصافح جدَّك غدًا"(6).

هذا وقد حمل السيِّد ابن طاووس كلام الحرِّ على أنَّه أراد بأنه أول قتيل من حين قوله، وأما صاحب البحار فحمل كلامه على أنَّه أراد أول قتيل من المبارزين، وكلاهما اعتمد على قرينةٍ واحدة وهي أنَّ وقت كلام الحرِّ كان بعد أنْ قُتل جماعة من أصحاب الحسين (ع) فلا يمكن أنْ يكون مراده الأول حقيقة.

إلا أنَّ ما أفاده السيِّد ابن طاووس (رحمه الله) خلاف الظاهر جدًّا، والقرينة التي اعتمدها وإنْ كانت تقتضي أنْ لا يكون مراد الحرِّ من الأول هو الأول حقيقة ولكنَّها لا تقتضي أن يكون مرادُه الأول هو الأول من الآن، إذ إنَّ إطلاق عنوان الأول مع فرض علمه بأنَّه قد قُتل عددٌ من أصحاب الحسين (ع) غير متعارَف عند أهل اللسان والمحاورة، وكذلك فإنَّ هذه القرينة لا تقتضي أنْ يكون مراده من الأول هو أنَّه أول المبارزين كما أفاد صاحب البحار(رحمه الله) إذ إنَّ أقصى ما تقتضيه هذه القرينة -وهي استشهاد عددٍ من أصحاب الحسين (ع) قبل قوله- هو أنَّ الحرَّ لم يقصد من الأولِ الأوَّلَ حقيقة أما أنَّه يقصد ذلك أنْ يكون أول الشهداء من المبارزين فذلك أخصُّ ممَّا تقتضيه هذه القرينة.

والصحيح أنْ يقال إنَّه لم يثبت أنَّ الحرَّ قال ذلك بعد نشوب المعركة واستشهاد بعض أصحاب الحسين (ع)، بل المستظَهَر من عبائر المؤرِّخين أنَّ كلام الحرِّ -الذي أبدى فيه رغبته لأنْ يكون أول قتيلٍ- وقع في سياقٍ واحد مع تعبيره عن ندمه وتوبته، وذلك قد وقع منه حين وصوله للحسين (ع) وقبل نشوب المعركة، وعليه يكون مراده من الأول هو الأول حقيقة، ولكنَّ ذلك لا يقتضي أن يكون هو الأول واقعًا، إذ إنَّ ما أفاده الحرُّ لم يكن أكثر من أمنية عبَّر عنها أو أنَّه تعبير عن الاستعداد للشهادة، فهو وإنْ كان قد أراد أن يكون هو القتيل الأول بين يدي الحسين (ع) إلا أنَّ من الممكن أن لا يكون قد حظَيَ بنيل هذه الأمنية، فلا يكون هذا النصُّ منافيًا لما ورد في الناحية المقدسة وغيرها من أنَّ مسلم بن عوسجة هو الشهيد الأول من شهداء كربلاء.

بقي الكلام فيما أفاده بعض العلماء من أنَّ مسلماً (رحمه الله) كان أول قتيل بين يدي الحسين (ع) بعد الحملة الأولى، وهذا معناه أـنَّه لم يكن أول قتيل استُشهد بن يدي الحسين (ع)، وهذه الدعوى يُمكن استظهارها مما سرده محمد بن أبي طالب من تفاصيل سير المعركة بحسب نقل صاحب البحار وكذلك يمكن استظهارها من العرض الذي قدَّمه جمع من المؤرخين كالطبري وابن الأثير لتفاصيل المعركة.

إلا أنَّ ذلك لا يمكن التعويل عليه بعد التصريح الوارد في زيارة الناحية المقدسة والتي ورد فيها: ".. وكنتَ أول من شرى نفسه وأوَّلَ شهيدٍ من شهداء الله قضى نحبَه" فإنَّ هذه الفقرة صريحة في أنَّ مسلم بن عوسجة كان أوَّلَ شهداء الطف على الإطلاق، فلو كان قد سبقه للشهادة أحد من أصحاب الحسين (ع) لما صحَّ أن يُوصف بأنَّه أول من شرى نفسه وأنَّه أولُ شهيدٍ من شهداء الله، فإنَّ هذا الوصف إنَّما يصدق على من قُتل أولًا وإلا فكلُّ واحدٍ من أصحاب الحسين (ع) كان قد شرى نفسه، وكلُّ واحدٍ منهم يصحُّ وصفه بأنَّه من شهداء الله تعالى، فلا خصوصية لمسلم إلا من جهة الأوليَّة، ولو كان قد سبقه غيرُه لكان هو الحقيق بوصف الأوليَّة، فحمل الوصف بالأوليَّة على الأوليَّة بعد الحملة الأولى خلاف ما هو المتفاهم عرفًا من الفقرة الواردة في زيارة الناحية، وكذلك هو خلاف النصوص التأريخية التي أشرنا إليها، فبعضُها كان صريحًا والبعض الآخر كان ظاهرًا.

هذا أولًا، وثانيًا: فإنَّ النصوص التي استُظهر منها أنَّ مسلم بن عوسجة كان أول الشهداء بعد الحملة الأولى لم تكن صريحة في أنَّ العرض لتفاصيل المعركة كان على أساس الترتيب الزماني بنحو الدقَّة فكان جلُّ اهتمام هذه النصوص هو العرض لتفاصيل ما وقع في المعركة بقطع النظر عن تقدُّم بعض فصولها على البعض الآخر، ولذلك نجد اختلافًا في ترتيب الوقائع بين هذه النصوص رغم اتِّحادها في كثيرٍ من المضامين.

وهذا بخلاف الفقرة الواردة في زيارة الناحية والتي هي متصدِّية للتنصيص على أنَّ مقتل مسلم كان أولًا بالإضافة إلى مجموع الشهداء، وكذلك هو النص الوارد في كتاب البداية والنهاية وهكذا هو ظاهر ما نقلناه عن أبي مخنف وجواهر المطالب لابن الدمشقي.

والمتحصَّل من مجموع ما ذكرناه أنَّ مقتضى التحقيق هو أنَّ أول شهيدٍ من أصحاب الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء هو مسلم بن عوسجة الأسدي.

أوَّل شهيدٍ من الهاشميين:

وأما أول من استشهد من الهاشمين فهو عليُّ بن الحسين الأكبر (ع) كما أفاد ذلك الكثير من المؤرِّخين(7) وكذلك يمكن استشعاره ممَّا ورد في زيارة الناحية المخصَّصة للشهداء قال (ع): "السلام عليك يا أول قتيل من نسل خير سليل من سلالة إبراهيم الخليل"(8)، فهذه الفقرة وإن لم تكن صريحة في أنَّ الأكبر هو أول قتيلٍ من الهاشميين وذلك لأنَّها تحتمل معنيين:

الاحتمال الأول: أنَّ المراد من خير سليل هو الحسين (ع) وبناء على هذه المعنى يكون المراد من الرواية أنَّ علي الأكبر هو أول قتيلٍ من أولاد الحسين (ع) وهو لا يمنع من أن يكون قد سبقه أحدٌ من الشهداء من أولاد الحسن (ع) أو أولاد عقيل ابن أبي طالب.

الاحتمال الثاني: أن المراد من خير سليل هو الرسول (ص) وحينئذٍ تكون الرواية مقتضية لاستظهار أنَّ الأكبر هو أول الشهداء من اولاد الرسول (ص) فيكون قد سبَق أولاد الحسن (ع) في الشهادة ولكنَّها لا تقتضي ان يكون قد سبق أولاد عقيل بن أبي طالب.

فالرواية على كلا الاحتمالين لا تدلُّ بنفسها على أنَّ الأكبر (ع) كان أول شهيدٍ من بني هاشم إلا أنْ يُضمَّ إليها عدم نقل أحدٍ من المؤرخين هذه المنقبة لغيره من الهاشمين ممَّن استُشهد يوم الطف، نعم ورد في بعض النصوص التأريخية المتصدية لاستعراض تفاصيل المعركة يوم الطف ما يظهر منه تأخُّر مقتل علي الأكبر عن مقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل إلا أنَّ ذلك ينبغي أن لا ينافي ما ذكره أكثرُ المؤرخين لعين ما ذكرناه فيما يرتبط بمسلم بن عوسجة.

وعلى أيِّ تقدير فإنَّه يكفي لإثبات أنَّ الأكبر (ع) كان أوَّلَ الشهداء من بني هاشم تكاثر النقل لذلك عن المؤرِّخين من الفريقين، ولم نقف على مَن ذكر غير ذلك بنحو التنصيص.

نعم ورد في كتاب مقاتل الطالبيين أنَّ عليَّ الأكبر (ع) هو أوَّلُ من قُتل في الواقعة(9)، وهذا النصُّ لا ينافي ما ذكره المؤرِّخون من أنَّه أول شهداء بني هاشم ولكنَّه ينافي ما نصَّ عليه المؤرِّخون من أنَّ أول الشهداء على الإطلاق كان مسلم بن عوسجة، وعليه لا يصُّح التعويل على ما أفاده أبو الفرج في مقاتل الطالبيين، وذلك لتوافق النصوص رغم اختلافها على أنَّ الأكبر (ع) لم يكن أوَّل قتيلٍ يوم الطف. فلعلَّ مقصود أبي الفرج الأصفهاني هو ما عليه سائر المؤرخين من أنَّ الأكبر(ع) هو أول الشهداء من الهاشميين، ويُمكن تأييد ذلك بأنَّه كان بصدد التوثيق لمقاتل الطالبيين دون غيرهم، وبذلك صحَّ له أن يقول إنَّ علي الأكبر(ع) هو أول الشهداء في واقعة كربلاء، أي أنَّه أول الشهداء من الطالبيين في واقعة كربلاء.

آخر شهيدٍ يوم الطف:

وأما آخر من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) فهو سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي، نصَّ على ذلك أبو مخنف في مقتل الحسين (ع) قال: "كان آخرُ من بقي مع الحسين (ع) من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي .."(10)، وقال: ".. كان صُرع فأُثخن فوقع بين القتلى مثخنًا فسمعهم يقولون: قُتل الحسين فوجد فاقةً فإذا معه سكين وقد أُخذ سيفه فقاتلهم بسكينه ساعةً ثم إنَّه قتله عروة بن بطار التغلبي وزيد بن رقاد الجنبي وكان آخر قتيل"(11).

ونص على ذلك أيضًا الكثير من المؤرِّخين من الفريقين مثل السيد ابن طاووس في اللهوف، وابن نما الحلِّي في كتابه مثير الأحزان، والطبري في تاريخه، وابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ وغيرهم(12).

وهل كان العباس بن علي (ع) هو آخر من استُشهد من الهاشميين؟

الظاهر أنَّه لم يكن كذلك، نعم هو من أواخر من قُتل من الهاشميين، ولعلَّه آخر المقاتلين من بني هاشم، إذ إنَّ المنصوص عليه أنَّ من استُشهد بعده من الهاشميين هو عبد الله بن الحسن بن علي، وهو غلام لم يُراهق، نعم ثمة نصوص يظهر منها أن غير عبد الله بن الحسن (ع) قُتل أيضًا بعد العباس بن علي (ع)(13)، وأما ما نقل عن الشعبي في تذكرة الخواص من أنَّ العباس بن علي هو أول مَن قتل من الهاشميين فهو قول شاذ لا يُعبأ به.

الهوامش: 1- إقبال الأعمال -السيد ابن طاووس- ج3 / ص76، المزار -محمد بن المشهدي- ص491. 2- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص197. 3- مقتل الحسين (ع) -أبي مخنف الأزدي- ص136، تاريخ الطبري ج3 / ص331. 4- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص73. 5- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص61. 6- البحار -المجلسي- ج45 / ص10. 7- الكامل في التاريخ ج4 / ص73، الأخبار الطوال -الدينوري- ص256، تاريخ الطبري ج4 / ص340، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص200. 8- إقبال الأعمال -ابن طاووس- ج3 / ص76، المزار -الشهيد الأول- ص151، المزار -ابن المشهدي- ص491. 9- مقاتل الطالبيين -أبي الفرج الأصفهاني- ص52. 10- مقتل الحسين (ع) -أبو مخنف الأزدي- ص160. 11- مقتل الحسين (ع) -أبي مخنف الأزدي- ص155، 160، 201. 12- اللهوف -أبن طاووس- ص66، مثير الأحزان -إبن نما الحلّي- ص49، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص74، تاريخ الطبري ج4 / ص339. 13- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص109.
2024/07/13
دموع لا تجف: لماذا يحزن الشيعة على الإمام الحسين (ع)؟
حزن الشيعة له جذور أصيلة:حزن شيعة أهل البيت (وفقهم الله تعالى وأعزّهم) بمناسبة مقتل سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وسائر مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، وإحياء مراسم العزاء وإقامة شعائره، والإغراق في ذلك وتحري المناسبات له، ليست أموراً اعتباطية جرهم إليها التعصب والشقاق، ولا هي عادات محضة أخذوها عن أسلافهم وجروا عليها تقليداً لهم، كسائر التقاليد والعادات التي تزاولها بعض المجتمعات، والتي ما أنزل الله بها من سلطان. وإنما هي نشاطات لها جذور دينية أصيلة، وقد قامت عليها أدلة محكمة رصينة، أخبتوا لها وتحملوا من أجلها ما تحملوا من مصاعب ومصائب.

فكما ألزمتهم الأدلة القاطعة بالتأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والقبول منه، والتمسك بأهل بيته (صلوات الله عليهم) والائتمام بهم في دينهم، كذلك قد حَمَلهم النبي والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) بأقوالهم وسلوكهم على التعامل مع تلك الأحداث الفجيعة بهذا النحو من التعامل.

فقد استفاض عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث الفريقين أنه أخبر عن ظلامة أهل بيته (صلوات الله عليهم)، ولاسيما الإمام الحسين (عليه السلام)، وذَكَر مصابهم فأكثر من البكاء عليها قبل وقوعها(1). وكذلك الحال في أمير المؤمنين (عليه السلام)(2).

بل بكت الأنبياء (عليهم السلام) على الإمام الحسين (عليه السلام) في أعماق التاريخ(3). وبكته بعد مقتله الأرض والسماء دماً، كما روى ذلك الفريقان(4). بل ورد أن جميع الموجودات قد بكته(5) في تفاصيل لا يسعنا سردها(6).

وقد عُدّ في النصوص من البكائين الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام)، لأنها أكثرت من البكاء على أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والإمام زين العابدين (عليه السلام)، لأنه أكثر من البكاء على أبيه الحسين (عليه السلام)(7). وفي الحديث عنه (عليه السلام) أنه قال: «إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة لذلك»(8).

وفي حديث الإمام الصادق (عليه السلام) عنه (عليه السلام) قال: «وكان جدي إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته، وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه»(9).

وفي حديث عمارة المنشد قال: «ما ذكر الحسين بن علي (عليهما السلام) عند أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) فرُئيَ أبو عبد الله ذلك اليوم مبتسماً إلى الليل»(10).

وكان هو وبقية الأئمة (عليهم السلام) يتحرّون المناسبات للحديث عن تلك الفجائع، والبكاء عليها، والحثّ على ذلك، وعلى إقامة المجالس المذكّرة بها. وما أكثر المآتم التي كانوا يقيمونها (عليهم السلام) بأنفسهم حينما يفد الشعراء عليهم ليذكروا مصابهم.

وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي. وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب»(11).

وعنه (عليه السلام): «إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ماخلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (عليهما السلام) فإنه فيه مأجور»(12).

وفي دعائه (عليه السلام) الطويل لزوّار الحسين (عليه السلام): «اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس… وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا…»(13).

وفي حديث مسمع كردين البصري بعد أن وصف حزنه على الحسين (عليه السلام)، قال له أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «رحم الله دمعتك، أما أنك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أمنا، أما أنك سترى عند موتك حضور آبائي ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها.

قال: ثم استعبر واستعبرت معه، فقال: الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة، وخصنا أهل البيت بالرحمة…»(14).

وفي حديث الريان بن شبيب عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال ـ في حديث ـ: «يا ابن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا فلو أن رجلاً أحبّ حجراً لحشره الله عزّ وجلّ معه يوم القيامة»(15).

وفي المأثور عنهم (عليهم السلام): «شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(16)… إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. وقد خُصصّت كتب كثيرة لجمعه وتبوبيه بنحو يسهل التعرف عليه.

وحقيق بشيعة أهل البيت، بل بالمسلمين عامّة، أن يتعرفوا على الكم الهائل مما ورد في ذلك. ولاسيما بعد أن صار في المتناول وسهل التعرف عليه بسبب حملة الطبع والنشر الحديثة. ليكونوا بذلك على بصيرة من الأمر، وتتجلى لهم هذه الحقيقة، وليعرفوا أنهم لم يؤدوا بعد ولا يؤدون حق ذلك مهما جهدوا.

‏نقلا عن كتاب من وحي الطف المرجع الديني الكبير آية الله السيد محمد سعيد الحكيم

الهوامش: •••••••••••••••••••••••• (1) انظر: كامل الزيارات ص:١٢٧، مسند أحمد ج:٣ ص:٢٤٢، مجمع الزوائد ج:٩ ص:٨٨١. (2) كتاب صفين ص:١٤٠. (3) كامل الزيارات ص:١٣٧. (4) منها ما أخرجه الطبري وغيره من بكاء السماء على الحسين (عليه السلام)، انظر: جامع البيان للطبري ج:٢٥ ص:١٦٠، الجامع لأحكام القرآن ج:١٦ ص:١٤. ومنها ما عن الزهري أنه لم ترفع حصاة في بيت المقدس إلا ووجد تحتها دم عبيط، قال ابن حجر: رواه الطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد ج:٩ ص:١٩٩. ومنها ما جاء في نوح الجن الذي رواه جمع منهم الطبراني في المعجم الكبير ج:٣ ص:٢٢١، وأخرجه في مجمع الزوائد ج:٩ ص:١٩٩ معلقاً عليه بقوله: (ورجاله رجال الصحيح). وعن أبي جناب الكلبي قال: (أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب بها: بلغني أنكم تسمعون نوح الجن؟ قال: ما تلقى حراً ولا عبداً إلا أخبرك أنه سمع ذاك...)، انظر: البداية والنهاية ج:٨ ص:٢١٧، تهذيب الكمال ج:٦ ص:٤٤١، سير أعلام النبلاء ج:٣ ص:٢١٦، وغيرها. (5) كامل الزيارات ص:١٧٩. (6) روى البيهقي بإسناده عن أبي قبيل قال: لما قتل الحسين بن علي (رضي الله عنهما) كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار. (السنن الكبرى ج:٣ ص:٣٣٧). (7) الخصال ص:٣٧٢. (8) الأمالي للصدوق ص:٤٠٢. (9) ، (10) كامل الزيارات ص:١٦٨، ٢١٤. (11) تهذيب الأحكام ج:٨ ص:٣٢٥. (12) كامل الزيارات ص:٢٠١. (13) ، (14) كامل الزيارات ص: ٢٢٩، ٢٠٣. (15) عيون أخبار الرضا ج:٢ ص:٢٦٩. (16) شجرة طوبى ج:١ ص:٣.
2024/07/07
ما هي وظيفتنا في شهري محرّم وصفر؟
لابد من تهيئة النفوس قَبلَ موسم الحصاد، فشهر رمضان المُبارك ليس شَهرُ الزراعة؛ بل هو شَهرُ استثمار الجِهود طوالَ العام. والذي يتكاسَل ويُريدُ في شَهرِ واحد أن يَزرَعَ ويحصَد معاً، فإن هذهِ الفترة قَد لا تَكونُ كافية؛ فهنيئاً لمن عَمِلَ على نفسه: مُراقبةً ومُحاسبَةً ومُعاتبةً ومُعاقبةً قَبلَ الشَهر الكريم، فإذا جاءَ شَهرُ رمضان حَلّقَ في الأجواء العُليا!

أما مَن لا طائرة لَه، ولا مُحرِكَ لَه، ولا سائقَ له، ولا وقودَ له؛ كيف له أن يُحلّق!.. وشَهرُ مُحرَم أيضاً من المواسم التي نُحلقُ فيها، فشهر رمضان الغالبُ عليه الأجواء التوحيدية، حيث المناجيات في أسحاره وفي ليالي القَدر.

أما في شَهرِي مُحرَم وصفر فإنه لتجديد العَهد بذكرِ الأئمة (عليهم السلام)، حيث هُناكَ: مُناسبة استشهاد الإمام الحُسين (عليه السلام)، ومُناسبة استشهادِ الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ومُناسبة استشهادِ الإمام المُجتبى (عليه السلام)، ووفاة النَبي الأعظم خاتم الأنبياءِ والمُرسلين (صلی الله عليه)، واستشهاد الإمام الرضا (عليه السلام)، ومناسبة الأربعين؛ فكلّ هذهِ المحطات هي محطات ولائية فيها ذِكرُ النبي (صلی الله عليه) وآل النبي (عليهم السلام)، لذا من المُناسب في هذين الشهرين أن نُجدد العَهدَ بِهم!..

وظائفنا في الأشهر الموسمية
أولاً: تثبيت البنية العقائدية.. إن المحبة الولائية إن اقترنت بالاعتقاد الأصيل المُعمق؛ فإن هذهِ المحبة لها آثارٌ باهرة!.. إذ لا يكفي أن يعتقد الإنسان بمقامات أهل البيت (عليهم السلام) من خلالِ بعض الكرامات والرؤى وغيرها، فهذه المعاني ليست بحُجة تجعلنا نستأنسُ ونفرَحُ بِها، رغم أنها قد تكون شيئاً جيداً، فقد روي عن النَبي (صلی الله عليه) أنه كان إذا صلى الصبح أقبل على أصحابه بوجهه فقال: (هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا)، وقد روي عنه (صلی الله عليه) قوله: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟.. قال: الرؤيا الصالحة). فالمنام الطيب مُبشِر إلى حَدٍ ما، ولكن هذا ليسَ بحُجّة، ولا يُروج للمذهب والدين بهذه الأمور مثل: المنامات، والكشف، وما يراه الإنسان بينَ النَومِ واليقظة. بل لابُدَ من البُنية العقائدية، التي تجعل الإنسان متمسكاً بمعتقده حتى لو اجتمعَ عليه أهل الشَرقِ والغَرب لا يمكن أن يغيّر من اعتقاده بـ: أنَّ الله عز وجل واحدٌ أحد، وأنَّ خاتم الأنبياء مُحمد (صلی الله عليه)، وأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خاتم الأوصياء، إذ يكفي دليل على ذلك حديث الغَدير وما صدر عن النبي (صلی الله عليه) كـ: حديث المنزلة، وحديثُ الكِساء، وحَديثُ المُباهلة.. فهو أعلمهم، وأقضاهم، وأشجعهم، وأقربهم، وأولهم إسلاماً، وصِهرُ النَبي (صلی الله عليه)؛ فلم يبق شيء: في العِلم هو الأول بإجماع المسلمين، في الشجاعة هو الأول، في النسب هو الأول، في القرابة هو الأول؛ فهل يُقاسُ بغيره؟..

إن هذهِ البُنية العقائدية الواضحة تُضاعفُ المحبة، كما تُضاعفُ الأسى أيضاً!.. فالمؤمن الذي يتشرف بزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أرض الغَري، بَعدَ السلام وزيارة أمين الله، والزيارة الجامعة -الصغيرة والكبيرة- والزيارة المخصوصة.. ليقف عِندَ الضريح لحظات ويبكي على ظُلامة أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ فهذه الدمعة تربطه بمولاه، هذهِ الدمعة لا تُنسى؛ فأمير المؤمنين (عليه السلام) يَردُ له الجميل!.. بعضُ المؤمنين عندَ ضريحِ سَيد الأوصياء وأبي الحسنين (عليه السلام)، يلهَجُ بهذهِ الفقرة من نهج البلاغة، فتجري عبرته كما تجري عندَ ضريح الحسين (عليه السلام) عند ذكر مصائبه.. فمصائب الحسين (عليه السلام) معروفة، أما مصيبة أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنها تعكسها جُملة واحدة، هذهِ الجُملة هي المَقتَلُ بعينه، ألا وهي قوله (عليه السلام): (فصبرتُ وفي العَينِ قَذى، وفي الحَلقِ شَجى). والمؤمن الذي يبكي على حال أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ضريحه؛ فليتأكد أنه تامُ الولاية!..

فإذن، إن الأمر الأول هو تجديد وتثبيت الجانب العقائدي النظري، من خلال أدلة الإمامة والولاية، فالأنبياء عموماً استخلفوا، فهذا موسى (عليه السلام) عندما ذَهبَ لميقات رَبه، لم يترك الأمة من دُونِ هارون (عليه السلام) ومع ذلك رَجع وقَد اتخذَوا العِجل!..

ثانياً: الاستماعُ الواعي.. إن ذكر الحسين (عليه السلام) -بحمد الله تعالى- في شرق الأرضِ وغربِها، حتى الأكواخ الثلجية أيضاً يُقامُ فيها عزاء الحُسين (عليه السلام)، وفي الغابات وفي أعالي الجِبال وفي العواصم العالمية. فالحُسين (عليهِ السلام) أورثَ هذهِ المحبة في قلوب المخلوقين حتى من غَير المُسلمين. وللاستفادة من هذه المجالس المنتشرة في كل مكان، على المستمع أن يفترض دائماً أنه هو المُخاطب -بينما البعضُ يَذهَب إلى المجلس وكأنَّ المُخاطَب غَيره- وليأخُذ من كلام الخطيب ما يُناسبُ داءَه!.. فهو عندما يذهب إلى الصيدلية فإنه لا يشتري كُلَّ الأدوية؛ وإنما يطلب دواء للداء الذي يعاني منه فقط.. كذلك الأمر بالنسبة إلى المجالس، عليه أن يأخذ ما يناسبه؛ فمثلاً: إن كان مُبتلى بمرض الغضب الذي لا مُبرر له، أو بداء الشهوة الزائدة، أو بداء الوهم، أو الوسوسة والخِيال، فليأخُذ من العالم ما يُعالجُ له هذا الداء.. وما المانع إن كان مُبتلىً بأمرٍ من هذهِ الأمور -وهيَّ أمورٌ مُشتركة بينَ الناس- أن يطلب من العالِم أو الخطيب أن يُركزَ على هذهِ النقطة في ليلة من الليالي؟!..

ثالثاً: الحضور الهادف.. عندما يذهب الإنسان إلى مجالس الحُسينِ (عليهِ السلام) عليه الالتزام ببعض الآداب التي منها:

١.الوضوء: إن مجلس الحسين (عليه السلام) هو مجلس ذِكر، فإن كان الإنسان باكياً على إمامه وهو متوضئ؛ سيكون مُحاطاً بهالة من نُور الوضوء والغُسل.

٢. صلاة ركعتين: إن كانَ المجلس يُقام في مسجد، عليه أن يكون مؤدباً ويصلي ركعتين تحية ذلكَ المسجد.

٣. استقبال القبلة: جاء في الحديث: (خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقَبْلَةَ).. لذا يقول أحد العُلماء: المؤمن عندما يريد أن يضع مكتباً في المنزل؛ فليجعله إلى جهة القبلة، وكذلك في العمل دائماً يجعل جلوسه باتجاه القبلة، كي لا يمضي الساعات الطوال في الدوام وهو يستدبر القبلة!..

٤. جلوس التشهد: إن كِبار العلماء يُرجحونَ جلسة التشهُد؛ لأن هذهِ الجلسة هي جِلسة العبودية -يجلس الإنسان بينَ يَدي اللهِ عز وجل كالعبد- فمن يستمع إلى خَطيبٍ عليه أن يكون كحالةِ المُتشهِد؛ فهذه أكثرُ الجلساتِ أدباً!..

٥. الاستغفار: إن المؤمن عند حضور مجالس الذكر، يحاول أن يطهر باطنه بالاستغفار.

٦. الدعاء: ما المانع أن يقرأ المستمع دُعاء المُطالعة الذي هو: (اللهم!.. ارزقني نور العلم، وسرعة الفهم، وأخرجني من ظلمات الوهم)، ويسأل اللهَ عَزَّ وجل أن يفتَحَ بابَ فهمه عندما يسمع لعالمٍ من العُلماء؟!.. إذ من الممكن أن يجعل رَب العالمين هذا الكلام مُتغلغلاً في قلبه، فهمام عندما سَمِعَ خُطبة المُتقين؛ صَعقَ صَعقةً كانت فيها نفسهُ.

رابعاً: الدَمعةُ الموجهة.. إن الإنسان الذي يبكي على مُصيبة سَيد الشُهداء (عليه السلام) ويتفاعل، عليه أن يحوّل هذهِ الدمعة إلى طاقة مُحركة. فالوقود الذي يسكب في المحطة على الأرض؛ يذهَبُ هَدَراً!.. ولكن القطرات التي تَدخِلُ في مُحرك السيارة؛ فإنها تتحول من مادة سائلة إلى مادة غازية ثُمَّ إلى قوة دافعة. كذلك الدمعة فإنها من أغلى قطرات هذا الوجود، فقد روي عن النبي (صلی الله عليه) أنه قال: (لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْن:ِ قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏ وَأَمَّا الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ). فهذهِ الدمعة يجب أن لا تذهَبُ هَدَراً؛ بل:

١. ينبغي أن نجعل هذهِ الدمعة الولائية مُقترنة بدمعة التوحيدِ أيضاً.. فالخُطباءُ عادةً يختمون المجلس بالدُعاء؛ علينا أن لا نجعل هذا الدُعاء أمراً شكليّاً ونقول: أمين!.. ونحن ساهين لاهين، فكلمة “أمين” هي دُعاءٌ بمعنى: اللهم أجِب!.. فالخَطيبُ عندما يدعو ويقول: (اللهم!.. أهدنا فيمن هَديت) نحن نقول:ُ أمين، أي؛ يا رَب أنا أطلبُ ما يطلبه الخطيب. فلنجعل هذا الدُعاء بهذهِ الدمعة الولائية التي جَرت ببركةِ هذا المجلس، وبما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام).

٢. علينا أن نتوجه إلى اللهِ عز وجل بالمُناجاة بين يديه ولا نكتفي بدعاء الخطيب.

٣. وإن كان الأمر مُمكناً أن نستثمر هذه الدمعة في سجدةٍ أو في ركعتين.

٤. يجب تسجيل موقف من خلال هذه الدمعة، فعندما يُقال: فُلان أصابه حادث؛ فالذي تجري دمعته على هذا الخبر يُعلَم أنَّ هذا من أقرب الناس إليه، فهو إما:أخوه، أو أبوه، أو صديقه المُخلص؛ فهذه الدمعة ما جرت جُزافاً.. فإذن، إن الإنسان بهذهِ الدمعة يسجل موقفاً فهو يقول: يا أبا عَبد الله قلبي مُتألمٌ لَك؛ لأنّكَ إمامي؛ لأنّكَ مُقتداي، ولأنّكَ الإمام الذي أُحشر تَحتَ لوائه. هذا هو الكلام الذي يُبيّنه من خِلالِ هذهِ الدَمعة؛ فليكن صادقاً فيه!..

٥. يجب عدم تلويث هذه الدمعة، فالشاب الذي يحضرُ هذهِ المجالس، ويبكي على الإمام، فهل يعقل عندما يخرج إلى الأسواق أن يزيغ بصره؟!.. إن زيغان البَصر لا يُناسبُ هذهِ الدَمعة، فهذه العَين التي تشرفَت بدمعة البُكاءِ على الحُسينِ (عليهِ السلام) يجب عدم تلويثها بالنظر إلى ما لا يجوز!.. علماً أن المعصية في موسم الحَج لحجاج بيت اللهِ الحرام قاصمة للظهر، فالإنسان الذي ينظرُ إلى النِساء في الطَواف نَظرة مُريبة، هذا يختلفُ عَن النظر في الأسواق. والمعصية في شَهر رمضان تختلف عن باقي الأيام، وأيامُ مُحرَم وخاصة العشرة الأولى من هذا الشَهر أيامُ عَزاءِ أهلِ البيت (عليهم السلام)، فالأئمة في مثل هذه الأيام كانَ لهم بُكاءٌ ونحيب، روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (إنّ يوم الحسين (عليه السلام) أقرح جفوننا وأسبل دموعنا). لذا، فإنه من المُناسب أن نُراقب، ونُشدد المُراقبة، فالمعصية هذهِ الأيام أيضاً من موجبات الطَردِ من رحمة اللهِ عَزَ وجل.

خامساً: اصطحاب الأهل.. إن المؤمن يحاول أن لا يستفرد بالتوفيق والهُدى، فقد ورد في الحديث: (يا عليّ!.. لعن الله ثلاثة: آكل زاده وحده، وراكب الفلاة وحده، ونائم في بيت وحده). إذا كان تناول الإنسان لطعامه بمفرده أمراً مرفوضاً وخاصة إذا كانَ في الجَمع، حيث إنه من الأفضل أن يأكلَ معَ أهلِ بيته فقد ذكر النبي (صلی الله عليه): (أن خّيرَ الطعامِ ما كَثُرَت عليه الأيدي). كذلك الأمر بالنسبة إلى الطعام المعنوي: أيضاً عليه أن لا يكون وحيداً، بل ليأخُذ بأيدي أهلِ بيته، وأصدقائه!.. إذ إن عدم أخذ الولد في أيامِ مُحرَم إلى مجلسٍ أبدا، أمر لا يليقُ بالمؤمن الذي يحرص في كلِّ يَوم على أن يَذرِفَ دَمعة سخيةً على مولاه!.. بل حتى اليائس من تربيةِ ولده أو ابنته؛ فليأخُذ بأيديهم في هذه الأيام المُغتنمة، وليقل في نفسه: يا رَب أنا أخذتُ بيدِ ولدي إلى ساحل بحر النجاة، وإلى سفينة النجاة، وإلى باب الهُدى؛ يا رَب ببركةِ هذهِ الذوات المُقدسة أجعل الأثر في كلام هذا الخطيب!.. ولطالما صار هناك انقلاب في نفوس البعض رِجالاً ونِساءً، فالخِروج من الظُلماتِ إلى النور يكون ببركةِ مجالسِ الحُسينِ (عليه السلام)، وخاصة في بِلاد الغَرب حيث الناسُ في سَهوٍ ولَهوٍ، أو في تجارةٍ ودراسة؛ ولكن إذا جاءت عشرة محرم ترى أفسق الناس يجلسُ تحتَ لِواء الحُسين (عليه السلام) باكياً!.. يجب اغتنام الفرص وأخذ الأولاد إلى هذه المجالس وخاصة إن كان الإنسان يائساً منهم.

سادساً: البكاء.. إن المؤمن يحاول أن يدخل إلى قلبِ ولي أمره من خلال البُكاءِ على جَده الحُسين (عليهِ السلام)، فعلاقتنا بصاحب أمرنا (عليه السلام) ليست على ما يُرام، فما الذي يراهُ في ديوان أعمالنا ليقر عيناً بنا؟.. وما الذي يربطنا بمولانا؟.. وأي عَملٍ أدخلنا عليهِ السرورَ به؟.. بَل لطالما أغضبناه وأحزناه بسوءِ أفعالنا، ولكن في شَهرِ مُحرَم:

١. إن جَرت دمعة الإنسان على سَيد الشُهداء (عليه السلام)، فليتوجه بالخطابِ إلى وليِّ الأمر، وليقل: يا مولاي!.. لئن ساءت أحوالي وأعمالي، ولكن هذه الأيام أنا مُتشبهٌ بِك، ألست أنت القائل: (السلام عليك يا جداه!.. لئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة ناصباً.. لأندبنك صباحاً ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً). فأنا يا مولاي أبكي على جدك كما تبكي عليه، أنت تبكي دَماً ولكني أبكي دَمعةً. هذا البُكاء يربط الإنسان بمولاه.

٢. ما المانع أن يستمع الإنسان إلى شيءٍ من مصائبهم في جَوف الليل، في ساعة السحر عند قيام الليل، وخاصة في العشرة الأولى من مُحرم؟!.. فيذكر مصيبتهم، ويتذكر صلاة زينب (عليها السلام) ليلة الحادي عشر عندما صَلت وهيَّ جالسة بما بَقيَّ فيها من الرَمق، فقد كانت من الصباحِ إلى الليل وهيَّ تشهدُ مصرعَ إخوانها وأولادها وأصحاب أخيها؛ هذا التذكر يجعله يذرف الدمع في صلاة ليله.

٣. كلما توجه إلى الصلاة يتذكر صلاة الحسين (عليه السلام) يومِ عاشوراء، كيف صلى والسهام تَمطرُ عليه؛ فتجري دموعه على إمامه!..

٤. يتذكر ليلة العاشر عندما كان لَهم دَويٌ كَدوي النحل بينَ مُصلٍّ وراكعٍ وساجد، فقد ذكرت أخبارُ كتب السِّير والتاريخ في وصف أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) (أنّ كلاًّ منهم: كان عابداً ناسكاً، قارئاً للقرآن يختمه في يومٍ وليلة، وكان لهم ليلةَ عاشوراء دَوِيٌّ كدَوِيّ النَّحل في تلاوتهم وصلاتهم، وهم ما بين راكعٍ وساجد، وقائمٍ وقاعد).

٥. يتذكر في خَلوة الليل مُصيبتهُم ويترنم بهذهِ الأبيات:

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة *** لكنما عيني لأجلك باكيـــة
تبتـل منكم كربلاء بـدم *** ولا تبتل مني بالدموع الجارية
أنست رزيتكم رزايانا التي *** سلفت وهونت الرزايا الآتية

إن بعض المؤمنين ليس عندهم حاجة ولكنهم يبكون فقط لمصيبة الحسين (عليه السلام)، وما قيمة هذهِ الدمعة مقابل ما قدموا من النفسَ والنفيس في طاعة الله عز وجل؟.. والبعض ممن فقد شاباً، عندما يبكي على علي الأكبر (عليه السلام) يحاول أن لا يتذكر ولده الفقيد؛ لأن مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) ومصيبة ذُريته أنسته كل مصائبه.

نقلاً عن السراج
2024/07/04
هل عادت قافلة السبايا يوم الأربعين؟ .. إجابة مفصّلة
أولاً: لا شك لدينا في أن عودة موكب سبايا آل الرسول صلى الله عليه وآله إلى كربلاء ومعهم رؤوس الشهداء كانت في يوم الأربعين من نفس السنة التي استشهد بها الإمام الحسين عليه السلام وهي سنة 61 للهجرة، بعد أن نقلهم الأعداء إلى الكوفة وأمضوا فيها عدة أيام قبل أن يذهبوا بهم الى الشام.

[اشترك]

وقد ذكرت النصوص الواردة أنهم التقوا في ذاك اليوم الأليم عند عودتهم إلى كربلاء مع الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري الذي قدم من المدينة المنورة بعد استشهاد الإمام الحسين لزيارة قبره فكانت تلك الزيارة في تلك السنة هي أول زيارة أربعين للإمام الحسين عليه السلام في اربعينيته الأولى، ومن الثابت أيضاً أن زيارة الأربعين هي من الزيارات المعتبرة وقد ورد الحث في الأحاديث عليها حتى ورد أنها من علامات المؤمن الخمس، وهو ما حافظ عليه المؤمنون عاماً بعد عام.

ثانياً: إن الرأي المشهور والمعتبر عند الشيعة منذ القدم هو أنهم عادوا في تلك السنة ومروا إلى كربلاء في طريق عودتهم إلى المدينة المنورة، رغم وجود رأي قال به بعض قدماء علمائنا وهو احتمال أن لا تكون عودتهم في نفس السنة بل يرون أنه يمكن أن تكون في السنة التالية أو في وقت متأخر عن يوم العشرين من صفر وذلك استنادا إلى قرينة استبعاد أن تكون الفترة الزمنية كافية لهذه الرحلة الطويلة إلى الشام مع العودة إلى كربلاء.

ولكن هذا الرأي لا يمكن الاستناد اليه خاصة بعد ملاحظة وجود أدلة قاطعة تؤكد إمكانية قطعهم لتلك المسافات في الأيام التي ساروها بل على حصول ذلك فعلا انسجاما مع الروايات الدالة على ذلك، وفق البيان التالي:

أ‌- من الثابت أن جيش الأعداء قد اصطحبوا الأسارى والسبايا إلى الكوفة في اليوم الحادي عشر من محرم، واركبوهن على النياق (وهي الجمال) وقد ورد في بعض النصوص أنها كانت بلا وطاء، وقد دخلوا الكوفة في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر محرم.

ب‌- تذكر النصوص التاريخية أن انطلاق موكب السبايا والأسارى نحو الشام كان في اليوم التاسع عشر من محرم وفي قول آخر كان ذلك في اليوم الخامس عشر منه وأن دخولهم الى الشام كان في اليوم الأول من شهر صفر، وهذا يعني ان مدة المسير من الكوفة الى الشام كانت حوالي 12 يوما على رواية، أو 17 يوماً على القول الآخر.

ت‌- من المعروف تاريخيا أنهم سلكوا في طريق الذهاب الطريق الأطول ابتداء من الكوفة نحو ما يعرف حاليا بشمال العراق حيث عبروا بغداد الى تكريت ثم الموصل وتلعفر، مرورا بنصيبين في الأراضي التركية حاليا، وبعدها الى الأراضي السورية الى الرقة وحلب (حيث مسجد النقطة) ثم إلى حماه وحمص ثم الى شرق لبنان حيث مروا بمدينة بعلبك واتجهوا بعدها شرقا نحو منطقة الزبداني وصولا الى مدينة دمشق من جهتها الغربية، لغاية أرادها الأعداء من استعراض قوتهم.

أما في طريق عودتهم من الشام إلى كربلاء فقد سلكوا طريقا أقصر وليس عامرا بالسكان كما هي حال طريق الذهاب، وهو قريب من حدود الأردن حالياً عبر مرورهم بالأنبار إلى كربلاء قبل أن يكملوا عودتهم نحو المدينة المنورة، بعد أن أمضوا أياما في الشام قدرها العلامة المجلسي بانها عشرة أيام، وهي الأقرب الى الواقع.

ث‌-  بملاحظتنا لمسافة الطريق الطويل من الكوفة الى الشام فإنه يبلغ وفق الحسابات المعروفة في زماننا حوالي 1900 كلم، وهذا يعني أنهم قطعوا يومياً ما بين 120 إلى 150 كلم. وهذا أمير يسير بالنسبة لسير الجمال.

ج‌- اذا لاحظنا أن الجمال لها قابلية السير لمسافات طويلة حتى بدون ماء، وأن معدل سرعتها كما يقول الخبراء في زماننا يصل في حده الأقصى ولمسافات ليست طويلة الى ما يقارب 65 الى 70 كلم في الساعة، وأما مع المسافات الطويلة فإن الجمال تستطيع ان تسير بمعدل 40 كلم في الساعة، وأن معدل السير البطيء للجمل هو ما بين 8 الى 10 كلم في الساعة، وهذا لا يزيد كثيراً عن سرعة الإنسان الماشي التي يسير بما معدله 5 الى 7 كلم في الساعة.

فإننا نلاحظ حينئذ أن القافلة قد سارت من الكوفة بسرعة اعتيادية جدا، فلم تكن بطيئة ولا سريعة وتقدر سرعتها بما بين 15 و20 كلم في الساعة، بمعدل يتراوح بين 8 و10 ساعات في اليوم ليس أكثر وهذا أمر اعتيادي أيضا ولا غرابة فيه، رغم  إمكانية ان يقطعوا تلك المسافة بزمن أقل لوجود نصوص تدلل على ان الأعداء كانوا يجدون بهن السير.

ح‌- أما فيما يتعلق بطريق العودة الى كربلاء، فلم يكونوا بحاجة إلى أكثر من خمسة أيام في رحلة العودة، ويبدو أنهم ساروا بسرعة أبطأ من سرعة الذهاب الاعتيادية، بعد أن غادروا الشام بعد العاشر من شهر صفر اذ لم يبقوا بها أكثر من عشرة أيام كما تشير الى ذلك بعض النصوص، ولا وجه لبعض النصوص التي تشير الى بقاءهم اكثر اذ لم يكن ليزيد من مصلحة في إبقائهم في الشام أكثر، خاصة بعد وفاة رقية وتقلب المزاج العام نتيجة خطبة زينب وكلام زين العابدين بحيث صار من مصلحته تعجيل إرجاعهم، فتكون النتيجة أن وصول السبايا ومعهم الرؤوس إلى كربلاء كان في يوم الأربعين من نفس تلك السنة، طبقا للنصوص الواردة ولا وجه لاستبعاد ذلك، كما وقع فيه بعض علماءنا السابقين لعدم التفاتتهم إلى تلك الخصوصيات التي أشرنا إليها.

*في 1 صفر 1439   استفتاءات مكتب سماحة السيد محمد صادق الحسيني الروحاني هامش: المقال رداً على سؤال: يُشكل علينا البعض بقولهم هل من المعقول أن تكون فترة السبي ورجوع سبايا أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء مدة أربعين يوما فقط، بحيث تقطع المسافة الطويلة من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام عبر شمال العراق وتركيا، مرورا بلبنان ومن ثم إلى الشام؟ وبعدها العودة الى كربلاء في يوم الأربعين ؟ أرجو التفضل بالإجابة مع التفصيل؟
2023/09/07
كيف نزور الإمام الحسين في الأربعين؟ (فيديو)
يقطع الزائر مسافات طويلة لحين وصوله إلى هدفه وهو حرم الإمام الحسين عليه السلام لأداء مراسيم زيارة الأربعين.

ومن وصايا سماحة الشيخ حبيب الكاظمي في هذا الصدد هو أن يجعل الزائر لنفسه ورداً خلال رحلته، ويؤكد سماحته على ما وصفه بـ «سيد الأذكار» وهو قول: «لا إله إلا الله».

كما أوصى أيضاً بـ «سيد الأذكار الولائية» وهو قول: «اللهم صل على محمد وآل محمد».

كيف نزور الإمام الحسين عليه السلام في الأربعينية؟ وتوصيات أخرى مع سماحة الشيخ حبيب الكاظمي في الفيديو.. نتابع:

2023/09/04
هل زيارة الأربعين مستحبة؟
بعد الزيارات المليونية للإمام الحسين عليه السلام كل عام، حاول بعضهم التشكيك في زيارة الأربعين، بأنها لم يثبت استحبابها بخصوصها، أي أنها ليست من الزيارات المخصوصة، كزيارة ليلة القدر، وليلة النصف من شعبان، ويوم عرفة وغيرها.

والكلام يكون في عدة نقاط:

1- أن علماء الطائفة لم يعتنوا بتدوين أسانيد الروايات المتكفلة ببيان الآداب والسنن والمستحبات ونحوها، وإنما كانت عنايتهم بذكر أسانيد الروايات المبيِّنة للأحكام الإلزامية، وهي الواجبات والمحرمات، ولهذا تجد جميع روايات بعض كتب المستحبات مثل (مكارم الأخلاق) للطبرسي بلا أسانيد.

وقد اختلف علماء الطائفة في طريقة التعامل مع مثل هذه المستحبات والسنن المذكورة في الكتب المعروفة على نحوين:

النحو الأول: أن يؤتى بتلك الآداب والمستحبات بعنوان الاستحباب، اعتمادًا على قاعدة التسامح في أدلة السنن، إذ يكفي في إثبات الاستحباب وجود فتوى أو رواية تدل على هذا المستحب وإن كانت ضعيفة السند.

النحو الثاني: أن يؤتى بتلك الآداب برجاء المطلوبية كما هو مسلك المحقق السيد الخوئي (قدس سره).

وعليه، فإن زيارة الأربعين يؤتى بها بأحد هذين النحوين، وكذا جميع الزيارات والأدعية وغيرها من الآداب والسنن المذكورة في كتاب مفاتيح الجنان وغيره.

2- أنه لا شك في أن زيارة الإمام الحسين عليه السلام مستحبة في جميع الأوقات، في العشرين من صفر وغيره، وعلى ذلك دلت الروايات المتواترة عن أهل بيت العصمة والطهارة.

منها: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عَنْ حَنَانٍ عَنْ أَبِيه قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام: يَا سَدِيرُ تَزُورُ قَبْرَ الْحُسَيْنِ عليه السلام فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ لَا، قَالَ: فَمَا أَجْفَاكُمْ! قَالَ: فَتَزُورُونَه فِي كُلِّ جُمْعَةٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَتَزُورُونَه فِي كُلِّ شَهْرٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَتَزُورُونَه فِي كُلِّ سَنَةٍ؟ قُلْتُ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ. قَالَ: يَا سَدِيرُ مَا أَجْفَاكُمْ لِلْحُسَيْنِ عليه السلام! أمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّه عَزَّ وجَلَّ أَلْفَيْ أَلْفِ مَلَكٍ شُعْثٌ غُبْرٌ، يَبْكُونَ، ويَزُورُونَ لَا يَفْتُرُونَ، ومَا عَلَيْكَ يَا سَدِيرُ أَنْ تَزُورَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ عليه السلام فِي كُلِّ جُمْعَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وفِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَه فَرَاسِخَ كَثِيرَةً، فَقَالَ لِي: اصْعَدْ فَوْقَ سَطْحِكَ، ثُمَّ تَلْتَفِتُ يَمْنَةً ويَسْرَةً، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ انْحُ نَحْوَ الْقَبْرِ، وتَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه، السَّلَامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّه وبَرَكَاتُه. تُكْتَبُ لَكَ زَوْرَةٌ، والزَّوْرَةُ حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ. قَالَ سَدِيرٌ، فَرُبَّمَا فَعَلْتُ فِي الشَّهْرِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً 1.

وبه يتضح أنه إذا لم يثبت استحباب زيارة الإمام الحسين عليه السلام في خصوص العشرين من صفر، فإن الاستحباب ثابت بالعنوان العام.

وكل من زار الإمام الحسين عليه السلام في العشرين من صفر أو غيره فإنه مثاب مأجور حتى لو لم تكن زيارته عليه السلام في ذلك الوقت من الزيارات المخصوصة.

والتشكيك في أن زيارة الإمام الحسين عليه السلام في العشرين من صفر مخصوصة أو غير مخصوصة، ليست له أي فائدة إلا صدّ الشيعة وتثبيطهم عن زيارته عليه السلام.

3- أن الفرق بين الزيارة المخصوصة والزيارة المطلقة أن ثواب الزيارة المخصوصة أكثر، مثل زيارته في يوم عاشوراء، أو في ليلة النصف من شعبان، أو في ليلة القدر، أو يوم عرفة أو غيرها...

ولكن كل من بلغه ثواب على عمل، فعمله برجاء ذلك الثواب، أعطاه الله ما كان يؤمّله من الثواب، وإن لم يكن الأمر كذلك، وهذا ما دلت عليه الروايات الصحيحة المستفيضة التي سميت: (روايات من بلغ).

- منها: ما رواه الكليني في الكافي في بسند صحيح عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام قال: من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه، كان له، وإن لم يكن على ما بلغه 2.

فمن بلغه أن في زيارة الأربعين ثواباً عظيماً وهو كذلك، فزار الإمام الحسين عليه السلام في ذلك الوقت برجاء نيل ذلك الثواب، فإن الله بفضله وواسع كرمه يعطيه من الثواب ما كان يؤمّله.

4- أن ثواب الزيارة يختلف من زائر إلى آخر، فمن جاء من البصرة خالص النية عارفًا بحق الإمام، وقد عانى في طريقه ما عانى من التعب والجوع والعطش والفقر والخوف، فهو أكثر ثوابًا ممن لم يعان شيئًا من ذلك، حتى لو كانت زيارة الثاني مخصوصة وزيارة الأول مطلقة.

ثم إن الله تعالى يعطي الزائرين الثواب بفضله ورحمته سواء أكانت الزيارة مخصوصة أم مطلقة، والله واسع الكرم كثير العطاء، فمن أحسن الظن بربه أعطاه الله تعالى أكثر مما أمله.

الهوامش: 1. الكافي 4/589. 2. الكافي 2/87.
2023/08/30
ما هي أدلّة زيارة الأربعين؟
روي عن سيدنا ومولانا أبي محمد الحسن ابن علي العسكري أنه قال (علامات المؤمن خمس صلاة إحدى وخمسين وزيارة الأربعين وتعفير الجبين والتختم باليمين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم).

في رحاب زيارة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه في العشرين من صفر يثار سؤال حاصله ماهو الدليل على استحباب زيارة الأربعين بعنوانها الخاص؟

حيث يرى أصحاب هذا السؤال أن الزيارة شيء عظيم ولها حضور مليوني لكن لها أصل شرعي بمعنى هل ورد في إثباتها دليل خاص أو لم يثبت؟

خطأان منهجيان:

قبل الجواب على هذا السؤال ينبغي أن نشير إلى خطأين منهجيين يستبطنا هذا السؤال.

الخطأ الأول: إن المطالبة بالدليل من الفقيه هو خُلف كون الإنسان مُقَلِداً لأن التقليد هو أخذ الفتوى والالتزام بها من غير مطالبة بالدليل ويمكن أن نشبه التقليد بالرجوع إلى الطبيب حال المرض بمنطق المتعالج لايصح أن أسأله ماهو الدليل على أن هذا الدواء يشفيني من المرض أو ماهو الدليل على أنني أحتاج هذه الإبرة ولو سألته عن ذلك فربما يطردني من عيادته فهو يرى أنك جئت واثقًا بخبرته وأنك ستستلم منه العلاج ومطالبتك بالدليل والبرهان فهذا خُلف كونه طبيبًا عارفًا وخُلف كونك محتاجًا لعلاجه.

وكذلك الأمر بالنسبة للفقيه المرجع في مقام التقليد لا في مقام البحث بين المرجع وتلامذته أوالبحث العلمي بين مرجعين.

الكلام في مقام التقليد يقتضي أن يكون الإنسان آخذًا للفتوى من غير مطالبة بالدليل عليها فضلا عن الاعتراض عليها فلو قال أحد المراجع باستحباب زيارة الأربعين فلا يصح للمُقَلِدين أن يسألوه عن الدليل ويصح ذلك في مقام البحث بين فقهين.

الخطأ الثاني: الأخذ بآراء وأدلة باحثين غير المرجع الذي يقلده المكلف.

مثل أن يقلد المكلف مرجعًا  يقول بلزوم الذبح في مِنى والمكلف يرى أن أحد الباحثين لا يرى انحصار الذبح في مِنى وله أدلة مخالفة  وهذا لا معنى له في مقام التقليد.

لنفترض أن مكلفًا يقلد مرجعا يقول باستحباب زيارة الأربعين بعنوانها الخاص وأنها ثابتة بالأدلة فهو كمقَلِد لا معنى لقوله لكن فلانًا يضعف الرواية.

وفي مثل الخمس مثلا يقَلِد المكلف مرجعًا يقول بلزوم الخمس في أرباح المكاسب وباحث أو فقيه آخر لا يرى ذلك وهنا خطأ أن لا يلتزم المكلف بأداء هذ الواجب لعدم وجود أدلة تثبته.

المكلف حين يقَلِد مرجعًا ما فهو يعتبره صالحًا للتقليد فيأخذ منه هذا الحكم ومنظومة الأحكام الأخرى فلا معنى ليترك تقليده في مورد واحد لمجرد شبهة أو رأي مخالف وذلك لاختلاف المباني الفقهية في قبول الروايات كما سيأتي.

أدلة ونقاش:

يستدل على زيارة الأربعين بأدلة عامة وخاصة وهي:

أولًا: الدليل العام على استحباب زيارة الإمام الحسين والمشي إليه في كل وقت وفي كل حين بل تأكيد الاستحباب على زيارته ويوم الأربعين أحد هذه الأيام التي ورد الدليل بعمومه على محبوبية الزيارة واستحبابها.

بمعنى إن تمكنت من زيارة الحسين صباحًا، مساءً يوم السبت، في رجب، في شعبان، يوم العيد، يوم الأربعين وغير يوم الأربعين فافعل.

وقد بلغ عدد الروايات الواردة من طرقنا ألف ومائة وأربعين رواية وهو أمر ملفت للنظر أن تحظى قضية بهذا العدد الهائل من الراويات وبمختلف الألسنة ومختلف الطول والقصر ومختلف التعابير وفي بعضها بعنوان الواجب كما ورد (إن زيارته واجبة على الرجال والنساء) ولا مستحب عندنا وارد بهذه الصيغة.

وللعلماء عدة محامل لهذه الرواية فقالوا إنها:

- واجبة مرة واحدة في العمر.

- واجبة بمعنى الواجب الكفائي بحيث لا تترك ولا تعطل.

- واجبة بمعنى الاستحباب المؤكد.

وهنا نشير إلى فكرة يذكرها بعض العلماء وهي أن الأصل في التشريع أن يرد بروايات عامة وليست خاصة فترد العمومات والمطلقات والقواعد العامة أولا ثم المخصِصات والمقيِدات فمثلًا يأتي وجوب الصلاة أولًا ثم تأتي خصوصيات الصلاة.

وهذا الأمر يجري في اتخاذ القرارات بشكل عام وعلى مستوى الدول أيضًا فالدول عند توقيع الاتفاقيات فيما بينها تنظر للأساس العام وهو  ثم الخاص نظرًا لأن التبادل الاقتصادي بين الدول هو أساس نهضتها وثرائها قررنا أن نتعامل مع هذه الدولة.

إذًا فالأصل الإتيان بالعام ثم الخاص.

ثانيًا: الأدلة الخاصة وهي ما ورد الأحاديث والروايات بذكر زيارة الأربعين على وجه الخصوص مثل رواية الإمام العسكري التي افتتحنا بها الحديث ومثل رواية صفوان.

قد يشكل البعض على هذه الرواية بإشكالات من جهة السند ومن جهة المتن والدلالة.

فمن جهة السند قال البعض بعدم ثبوتها وهنا يجب أن نسأل عن مبنى ومسلك الفقيه لأن قضية الأدعية والزيارات لا تحتاج أصلًا للنظر في الأسانيد حتى نقول بضعف سندها.

ويرى البعض يكفي أن تكون مشهورة بنحو من الأنحاء عند الفقهاء ولو لورودها في كتاب أو كتابين من كتب شيخ الطائفة الطوسي وهذا يكفي للاستناد إلى الرواية.

ويرى قسم ثالث أنها ثابتة بقاعدة التسامح في أدلة السنن فيثبت عنده الاستحباب.

من هنا يتضح الغلط في القول بضعف هذه الرواية عدم ثبوتها وأهمية معرفة مسلك ومبنى الفقيه والباحث.

فمن يرى أنها تامة السند يفتي بالاستحباب.

أما من جهة الدلالة فقد قال البعض أن المقصود أربعين مؤمن فالرواية لا تدل على زيارة الأربعين ويمكن الجواب عن ذلك بجهات متعددة:

- (ال العهدية): المعهود عند الناس ولم يعهد في تراث الإمامية وغير الإمامية أن هناك تأكيدًا على زيارة أربعين مؤمن أجل ورد الدعاء لأربعين مؤمنًا في صلاة الليل لكن لا يقال الدعاء للأربعين إنما تخصص بالدعاء لأربعين مؤمنًا.

أيضًا عندنا استحباب أن يكتب على كفن الميت أربعين مؤمنًا يشهدون له بالخير والصلاح.

وأما زيارة أربعين مؤمنًا فغير ثابتة على مستوى الأحاديث وحتى الممارسة العملية فلم نسمع عن عالم من العلماء أنه كان يزور أربعين مؤمنًا ويمكن أن يكون فلان كثير الزيارة لإخوانه المؤمنين لكن لا تخصيص للأربعين عندنا.

- كل ما ورد في الرواية هو من مختصات الإمامية فمن مقتضى السياق أن زيارة الأربعين من مختصات الإمامية التي لا يفعلها غيرهم وزيارة أربعين مؤمن ليست من مختصات الإمامية فكلمة زيارة صارت من العرف الخاص بالمعصومين عليهم السلام.

فالأربعين عهدية وسياق الرواية بأنها من مختصات الإمامية لا يناسب أن تكون زيارة أربعين مؤمن وبالتالي هذا الإشكال لا يتم.

وأما رواية صفوان تقول في يوم الأربعين (السلام على ولي الله وابن وليه) فهي أوضح من الرواية الأولى ولا مجال فيها للتأمل في دلالتها.

أما من جهة السند فيصفها بعض العلماء بأنها بسند معتبر إضافة لكونها من المشهورات بين الفقهاء حيث قال البعض معتبرة عندنا وعند المشهور من الفقهاء فيمكن الاستفادة من الرواية إضافة للعمومات التي تؤكد على استحباب زيارة الإمام الحسين.

وبالرجوع للمذكور تاريخيًا أن المحقق النوري سنة 1320 أشاع المشي لزيارة الحسين في أوساط العلماء إشاعة كبيرة فكان يذهب لزيارة كربلاء ماشيًا ويحرض طلابه ومن حوله على المشي لزيارة الحسين ومن الواضح أن المشي يختلف عن أصل الزيارة.

يذكر أيضًا عن القرطبي وهو من مفسري العامة أندلسي الأصل عاش في مصر مُتوفى سنة 671 يعني قبل زمان العلامة الحلي مؤلف  (التذكرة بأحوال الموتى ومنازل الآخرة) يذكر فيها عند الحديث عن موقع رأس الحسين عليه السلام بذكر النظريات ويقول وفي العشرين من صفر رُدَ رأس الحسين إلى كربلاء من الشام ولذلك يقوم الشيعة بزيارة كربلاء لهذه المناسبة.

والزيارة لم تبدأ في تلك السنة إنما هو شاهد حيث وصله الخبر وهو في مصر أو الأندلس لأنه ليس عراقيًا ولم يزر العراق فهذا يدل أن زيارة الشيعة لكربلاء في العشرين من صفر لمناسبة إلحاق الرأس بالجسد كانت شائعة.

ولو افترضنا عدم ثبوت الروايات فهل هناك محذور في اختيار يوم الأيام يتفق عليه الناس لمناسبة تاريخية بالطبع لا محذور في ذلك فهي مستحبة في أي وقت كما أشرنا مسبقًا.

بل حتى من يقول أنها غير ثابتة فالرواية ضعيفة السند وقاعدة التسامح في أدلة السنن لا تثبت في الاستحباب من الناحية العلمية لكن هؤلاء العلماء يبادرون للزيارة ومنهم السيد الخوئي.

وفي قاعدة التسامح فرع هو لو أتى المكلف بالعمل لأنه ورد فيه خبر وإن كان ضعيفًا فيؤتى الثواب المذكور رغم أن الخبر غير صحيح وهذا وارد في روايات النبي ما حاصله من بلغه ثواب على عمل من رسول الله فعمله ابتغاء ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن رسول الله قاله مثلًا (من قال سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس الله له بكل ذكر غرس في الجنة) فيُعطى هذا الثواب الموعود وإن لم يكن الرسول قد قاله واقعًا.

فلو تبين في يوم القيامة أن روايات زيارة الأربعين غير ثابتة فلا يفوته الثواب فلا معنى للإعاقة في هذا الجانب لهذا الاعتبار.

أضف إلى ذلك أن هناك عناوين ثانوية يجب ملاحظتها من قبل الفقيه والمثقف العارف حيث أن أوضح مظهر لعزة آل محمد واستجابة الخلائق للإمام الحسين هو هذه الزيارة الأربعينية.

وهذا من المواقف العظيمة والمهيبة التي تجسد نتيجة وثمرة نداءات الحسين وتحقق لنا معنى (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) و(إنا لننصر رسلنا) وتحقق معنى ما ذكرته مولاتنا العقيلة (فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يرحض عنك عارها وهل جمعك إلا بدد وأيامك إلا عدد)

هذه الزيارة تناظر نداء إبراهيم في الحج (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) هذا النداء تموج في الناس فأخذوا يستجيبون سنة بعد سنة وهانحن نرى الجموع يلبون نداء الحسين في عصر العاشر من المحرم هل من ناصر ينصرنا؟ هل من معين يعيننا؟ هل من ذاب يذب عنا؟ كان ينتظر مناصرًا واحدًا مدافعًا واحدًا بعد أن هوى أصحابه فدائيين للدين وهذه الجموع وعلى مد البصر منهم الشيخ الكبير الهم الذي لو تركته في الأيام العادية لا يستطيع الحركة وإذا بحب الحسين وعشقه يصنع بداخله معجزة يحركه هذه المسافات الطويلة.

مرضى ونساء كبيرات السن وأطفال كلهم يستجيبون لنداء ذلك اليوم إن كان لم يجبك سمعي عند استغاثتك فقد أجابك قلبي وفؤادي أجبناك بأنفسنا وضمائرنا ودموعنا ونسأل الله أن يثبت لنا قدم صدق عندك يوم الورود.

هذه المسيرة العظيمة التي جاءت لتتنصر الحسين وتسعف دمعات زينب العقيلة وتشاركها حضور كربلاء بعد أن كانت في الشام.

*تدوين: فاطمة الشيخ منصور
2023/08/29
ما هو المرض الذي منع الإمام السجّاد (ع) من القتال في كربلاء؟!
المُحرَز بل والمقطوع به أنَّ الإمام زين العابدين (ع) كان يوم عاشوراء مُصابًا بمرضٍ عارِض، وكان من الشدَّة بحيثُ منعَه من القتال، فهذا المقدار هو المتسالَم عليه بين المؤرِّخين والمحدِّثين من الفريقين، وأمَّا ما هي طبيعةُ هذا المرض فلم تتصدَّ الروايات لبيانه تفصيلًا، ولعلَّ منشأ ذلك هو عدم ترتُّب فائدةٍ تُذكر على العلم بما هي طبيعة المرض الذي عرَض على الإمام (ع) في كربلاء. كان الإمام (ع) مبطوناً:

نعم أشارت معتبرة أبي الجارود عرَضًا إلى أنَّ الإمام (ع) كان مبطونًا، فقد أورد الكليني في الكافي بسندٍ معتبر روايةً طويلة عن أبي جعفر الباقر (ع) قال فيها: ".. ثُمَّ إِنَّ حُسَيْنًا حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه فَدَعَا ابْنَتَه الْكُبْرَى فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ (ع) فَدَفَعَ إِلَيْهَا كِتَابًا مَلْفُوفًا ووَصِيَّةً ظَاهِرَةً، وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) مَبْطُونًا لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّه لِمَا بِه فَدَفَعَتْ فَاطِمَةُ الْكِتَابَ إلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ .."([1]).

وورد أيضًا في كتاب النوادر لعليِّ بن أسباط قال: بعض أصحابه رواه أنَّ أبا جعفرٍ -الباقر- (عليه السلام) قال: كان أبي مبطونًا يوم قُتل أبوه صلواتُ الله عليهما، وكان في الخيمة .."([2]).

المبطون مَن يشتكي علَّةً في جوفِه:

فالإمام (ع) -بحسب ما أفادته معتبرة أبي الجارود ومرسلة عليِّ بن أسباط- كان مبطونًا، ومعنى أنَّه كان مبطونًا هو أنَّه كان يشتكي من بطنِه أي أنَّه مصابٌ بداءٍ في بطنِه، فالمبطون هو مَن به علَّةٌ في بطنه كما أنَّ المصدور هو من به علَّة في صدره، والمفؤود هو مَن به علَّة في فؤاده([3]).

فالإمام (ع) إذن -بحسب هذا المأثور- كان مصابًا بعلَّة في بطنِه، وأمَّا ما هي طبيعةُ هذه العلَّة فلم تتصدَّ الرواية لبيانه فإنَّ عنوان المبطون يصدقُ على مَن هو مصابٌ في معدته كما يصدقُ على مَن هو مصابٌ بعلَّةٍ في بعض أحشائه كالكبد أو الطحال أو غيرهما، فالعربُ تُطلق عنوان المبطون على كلِّ مَن أُصيب بداءٍ في جوفه، ولذلك تَعتبِر -مثلاً- المبتلى باستسقاء البطن مبطونًا([4]) رغم أنَّ هذا الداء لا ربط له بالمعدة بل هو عبارة عن تجمُّع سوائل في الجوف نتيجة خللٍ في وظائف الكبد أو الكُليتين أو هما معًا.

وعليه فالاستدلال بالرواية على أنَّ الإمام (ع) كان مصابًا في معدتِه بمثل الاسهال لا تصح، فإنَّ الرواية أفادت أنَّه كان مبطونًا والمبطون عنوانٌ واسع لا تتحدَّد به طبيعةُ المرض.

ذكر المفيد أنَّه مُصابٌ بالذرَب:

نعم ذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد وتبعه الطبرسي في إعلام الورى وابن نما الحلِّي وصاحب السرائر([5]) أنَّ الإمام (ع) كان مريضًا بالذرَب -بفتح الراء- وهو كما قيل داءٌ يُصيبُ المعدة وأظهرُ آثاره الإسهال الحاد والمتَّصل وقد يكون عن غير اختيار، ولذلك عرَّفوا الذرَب بقولهم هو: الدَّاءُ الذي يَعْرِضُ للمَعدة فلا تَهْضِمُ الطَّعامَ، ويَفْسُدُ فيها ولا تُمْسِكُه([6]).

مناقشة ما أفاده الشيخ المفيد:

ولم أجد أحدًا من مؤرِّخي الفريقين غير الشيخ المفيد -ومَن تبعه- ذكر أنَّ الإمام (ع) كان مصابًا بالذرَب، والظاهر أنَّ ذلك كان اجتهادًا منه في تفسير معنى المبطون الوارد في معتبرة أبي الجارود والرواية الأخرى، خصوصًا وأنَّ كلمة المبطون تُستعمَل في الاصطلاح الفقهي فيما يُساوق أو يقترب من معنى الذرَب على خلاف ما عليه سعة المدلول اللُّغوي لكلمة المبطون.

ولو كان الأمرُ كذلك وكان قولُ المفيد أنَّ الإمام (ع) مصابٌ بالذرَب اجتهادًا منه في تفسير ما ورد في مثل معتبرة أبي الجارود فإنَّ النتيجة هي أنَّه ليس لدينا في الأخبار ما يصحُّ الاستناد إليه لإثبات دعوى أنَّ الإمام (ع) كان مصابًا بالذرَب لأنَّ ما أفاده الشيخ المفيد (رحمه الله) لم يكن سوى اجتهاد منه في تفسير معنى المبطون.

ولو كان ما أفاده الشيخ المفيد -من دعوى أنَّ الإمام (ع) مصابٌ بالذرب- خبرًا تلقَّاه ولم يكن اجتهادًا فإنَّه يكون ساقطًا عن الحجِّية والاعتبار لكونه خبرًا مرسلًا ليس له في الأخبار وكلمات المؤرِّخين ما يعضدُه فلا يُعتمد في مقابل معتبرة أبي الجارود عن الباقر(ع) ولا يصلح تفسيرًا لها.

المتعيَّن هو ما ورد في معتبرة أبي الجارود:

بل المتعيَّن طرحُ هذا القول والبناء على منافاته للواقع حتى مع قطع النظر عن معتبرة أبي الجارود، وذلك للقطع بأنَّ الإمام زين العابدين (ع) أكرمُ على الله تعالى من أنْ يبتليَه بهذا الداء في هذا الظرف العصيب حيثُ شحَّة الماء أو انعدامه وحصار الأعداء واقتيادهم له من كربلاء إلى الكوفة أسيرًا مكبَّلاً بعد يومٍ من مقتل الحسين (ع) ولك أنْ تتصوَّر الحال والهيئة التي يكون عليها المُصاب بالذرَب والإسهال المتَّصل في مثل هذا الظرف.

إنَّ الإمام زين العابدين (ع) أكرمُ على الله تعالى من أنْ يبتليَه بهذا الداء في مثل هذا الظرف العصيب، والرواياتُ الكثيرة المتصدِّية لبيان صفات المعصوم (ع) وما أكرمه اللهُ تعالى به خيرُ دليلٍ على ما ذكرناه([7])، فلعلَّ الشيخ المفيد (رحمه الله) لم يلتفت إلى لوازم هذه الدعوى أو أنَّه لم يقصد من الذرَب الداءَ الذي من آثاره الاسهال المستمِر، فلعلَّه قصد بعضَ ما يُصيب المعدة من أدواء، وهي كثيرة، ولا يترتَّب على الكثير منها إسهالٌ أو شبهه بل يتمحَّض أثرُها في الشعور بالآلام أو الإعياء والضعف العام في البدن، أو أنَّه (رحمه الله) قصد الذِرْب بكسر الذال وسكون الراء وهو كما أفاد الزبيدي في تاج العروس: دَاءٌ يكونُ في الكَبِدِ بَطِيءُ البُرْءِ ([8])، فلو كان شيءٌ من ذلك هو مرادُه فلا مانع من احتماله وأنَّه هو المقصود من معتبرة أبي الجارود التي أفادت أنَّ الإمام (ع) كان مبطونًا.

وخلاصة القول: إنَّ الذي نصَّت عليه معتبرة أبي الجارود عن الإمام الباقر (ع) ومرسلة عليِّ بن أسباط عن الإمام الباقر (ع) هو أنَّ الإمام زينَ العابدين (ع) كان أيام كربلاء مبطونًا، والمبطونُ هو مَن يشتكي علَّةً في بطنه، والمراد من البطن هو مطلق الجوف وما اشتمل عليه من أحشاء كما هو مقتضى ما نصَّ عليه اللُّغويون، وعليه فالرواية مجملة من جهة تحديد ما هي طبيعة الداء الذي أُصيب به الإمام (ع) في كربلاء، وأنَّ أقصى ما تدلُّ عليه الرواية هو أنَّه كان يشتكي من علَّةٍ في بطنه.

وأمَّا ما أفاده الشيخ المفيد (رحمه الله) من دعوى أنَّ الإمام (ع) كان مصابًا بالذرَب فإنْ كان يقصدُ أنَّه مصابٌ بالداء الذي يُصيب المعدة ويكون من أثره الإسهال المتَّصل فهو من سهو القلم قطعًا -والعصمةُ لأهلها- وإنْ كان يقصدُ من الذرَب ما يُصيب المعدة من أدواء فيترتَّب عنها آلام أو إعياء أو كان يقصد الداء الذي يُصيب الكبد فلا محذور من احتمال ذلك.

وأمَّا ما قيل من أنَّ المراد من الذرَب هو جراحٌ حادَّة أصيب بها الإمام (ع) لمشاركته في القتال قبل أنْ يرتثَّ فيمنعه ذلك عن مواصلة القتال فهذا القول لايصحُّ، وقد فصَّلنا ذلك في مقالٍ مستقلٍّ تحت عنوان: مشاركة الإمام زين العابدين (ع) في القتال يوم كربلاء؟

الهوامش: المقال رداً على سؤال: ما هي طبيعةُ المرض الذي كان الإمامُ زين العابدين (ع) مُصابًا به في كربلاء؟ [1]- الكافي -الكليني- ج1 / ص290، 291. [2]- الأصول الستة عشر -تحقيق المحمودي- ص339، بحار الأنوار -المجلسي- ج45 / ص91. [3]- لسان العرب -ابن منظور- ج9 / ص13، ج13 / ص54، أساس البلاغة -الزمخشري- ص52، غريب الحديث -ابن قتيبة- ج1 / ص100، ترتيب إصلاح المنطق -ابن السكيت- ص342، تاج العروس- الزبيدي- ج18 / ص61. [4]- النهاية في غريب الحديث والأثر -ابن الأثير- ج1 / ص136، لسان العرب -ابن منظور- ج13 / ص53، تاج العروس- الزبيدي- ج18 / ص61. [5]- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص114، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص470، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص64، السرائر -ابن ادريس الحلي- ج1 / ص250. [6]- لسان العرب -ابن منظور- ج1 / ص385، النهاية في غريب الحديث والأثر -ابن الأثير- ج2 / ص156. المسائل في الطب للمتعلمين -حنين بن إسحاق ت: 260ه- ص493، شرح الأسباب والعلامات (شرح نفيس الكرماني 619ه) -نجيب الدين السمرقندي-ج1 / ص696 قال: الذرب: وهو انطلاق البطن المتصل. وقيل: هو أن لا ينهضم الطعام في المعدة والأمعاء ولا يغذو جميع البدن بل يستفرغ من أسفل فقط استفراغا متصلا وهو كثير الرطوبة وذلك بسبب ضعف الماسكة فلا يقدر على حمل الغذاء وامساكه أكثر من هذا القدر من الزمان وهو زمان الهضم. وسمى به لان الذرب في اللغة فساد المعدة، يقال: ذربت معدته إذا فسدت؛ أو لأنه بمعنى الحدة يقال: لسان ذرب وسيف ذرب، أي: حاد فسمى به لحدة البراز وسرعة حركته في الخروج؛ أو لأنه بمعنى عدم البرء يقال: ذرب الجرم، إذا لم يقبل الدواء، فسمى به لصعوبة العلة وعظم الخطر فيها". [7]- راجع في ذلك مثل صحيحة اسحاق بن غالب عن أبي عبد الله الصادق (ع) الكافي -الكليني- ج1 / ص204، ورواية زرارة عن أبي جعفر الباقر(ع) ج1 / ص388، ومعتبرة علي بن الحسن بن فضال عن الإمام الرضا (ع) من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج4 / ص419، عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص192. [8]- تاج العروس -الزبيدي- ج1 / ص296.
2023/08/14
ما قصة إرسال رأس ابن زياد إلى الإمام السجاد (ع)؟
بعد أنْ قَتل المختارُ الثقفي عبيدَ الله بن زياد بعث برأسه إلى الإمام السجاد (ع) فأُدخل عليه وهو يتغدى وقال: أُدخلت على ابن زياد وهو يتغدى ورأس أبي بين يديه، فقلتُ اللهمَّ لا تمتني حتى تريني رأس ابن زياد وأنا أتغدى الحمد لله الذي أجاب دعوتي ثم أمر فرمي به".

وفي رواية ابن نما الحلي أنَّه سجد لله قائلًا: شكرًا لله، وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوِّي وجزا اللهُ المختار خيراً، فكيف يُمكن الجمع بين حرمة المُثلة بالميِّت وبين موقف الإمام السجاد (ع)؟!

بعث المختار لرأس ابن زياد ثابتٌ في الجملة:

الظاهر أنَّ بعث المختار الثقفي لرأس عبيد الله بن زياد إلى بني هاشم ومنهم الإمام السجَّاد (ع) ومحمد ابن الحنفية ثابتٌ في الجملة، وذلك لتظافُر الروايات والنصوص التاريخية على نقل ذلك ولكنَّها مختلفة اختلافًا شديداً في بيان التفاصيل، ولذلك لا يصحُّ التعويل على آحاد هذه الروايات وهذه النصوص وإنَّما يُعوَّل من مجموعها على القدر المشترك بينها وهو أنَّ المختار بعث برأس عبيد الله بن زياد إلى بني هاشم، وأمَّا ما هي ردَّةُ فعل الإمام السجَّاد (ع) وكيف تعاطى مع هذا الحدث فليس لنا ما يُمكن التثبُّت من صحَّته، لأنَّ جميع هذه الروايات ضعيفة من حيث السند، ولم يصح منها سوى روايةٍ واحدة، وهي معتبرة جارود بن المنذر، عن أبي عبد الله (ع) قال: "ما امتشطتْ فينا هاشميَّة ولا اختضبتْ، حتى بعثَ إلينا المختارُ برؤوس الذين قَتلوا الحسين (ع)"(1).

وأقصى ما تدلُّ عليه هذه المعتبرة هو أنَّ اهل البيت (ع) استبشروا بمقتل عُبيد الله بن زياد ومَن كان معه من قتلَةِ الحسين (ع) ولا تدلُّ على إقرار الائمة (ع) بصحَّة الكيفيَّة التي قُتل بها هؤلاء، ولا بجواز التمثيل بجثثِهم، ولا بجواز حمل رؤوسهم إلى المدينة أو مكَّة –على اختلاف النصوص– ولا بنصبها فيهما أو في إحداهما، كلُّ ذلك لا يقتضيه مدلول رواية جارود بن المنذر.

التعليق على رواية المدائني:

وأمَّا الرواية المذكورة في السؤال فهي منقولة في أمالي الشيخ الطوسي (رحمه الله) ونصُّها: أخبرنا محمد بن محمد، قال: أخبرني أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، قال: حدَّثني محمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا المدائني، عن رجاله: أنَّ المختار بن أبي عبيد الثقفي ".. فبعث برأس ابن زياد إلى عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) فأُدخل عليه وهو يتغدَّى، فقال عليُّ بن الحسين (عليهما السلام): أُدخلتُ على ابن زياد وهو يتغذَّى ورأس أبي بين يديه، فقلتُ: اللهمَّ لا تُمتني حتى تريَني رأسَ ابن زياد وأنا أتغدَّى، فالحمد لله الذي أجاب دعوتي. ثم أمر فرُمي به.."(2).

فالرواية عاميَّة أي ليست من رواياتنا، والشيخ الطوسي (رحمه الله) نقلها من كتبهم كما يتَّضح ذلك من ملاحظة سندها، فهي تنتهي إلى عليِّ بن محمد بن عبد الله، أبو الحسن المدائني وهو مؤرِّخٌ شهير من مؤرِّخي العامَّة تُوفي سنة 225 هـ، هذا مضافًا إلى ضعف طريق الشيخ الطوسي إليه لاشتماله على مجاهيل، على أنَّ مِن غير المعلوم مَن هم رجال المدائني إلى الرواية، فهي لذلك بحكم المُرسلة، فالرواية ضعيفة السند من وجوهٍ عديدة.

على أنَّ الرواية غير قابلةٍ للتصديق، فالإمام (ع) لا يسألُ الله تعالى أنَّ يرى أحدًا يُمثَّل بجثَّته وكأنَّه يقرُّ هذا الفعل المحرَّم، على أنَّ نُبل الإمام (ع) وسموَّ نفسِه ومكارمَ أخلاقه تأبى عليه ذلك، فهو ليس كسائر الناس يرغبون في التشفِّي حتى بما يحرم أو بما هو مستبشَعٌ في نفسه.

ويُؤيِّد سقوط هذا المضمون -وهو دعاء الإمام برؤية رأس ابن زياد– أنَّ جُلَّ الروايات إنْ لم يكن جميعها -سواءً الوارد منها في طرقِنا أو طرق العامَّة- ليس مشتملًا على هذا الدعاء، نعم وردَ في بعضِها أنَّ الإمام (ع) لمَّا رأى رأس ابن زياد حمِدَ الله تعالى على استجابة دعائه ولكن لم تُبيِّن مضمون الدعاء، فليس في شيءٍ منها أنَّه دعا أنْ يرى رأس ابن زياد، فلعلَّه دعا أنْ يرى ابن زياد قتيلًا.

ولتوثيق ما ذكرناه ننقلُ لكم أهمَّ الروايات والنصوص التاريخية الواردة في هذا الشأن:

النص الأول: أورده القاضي النعمان المغربي (رحمه الله) في كتابه شرح الأخبار قال: وكان عليُّ بن الحسين (عليه السلام) يدعو في كلِّ يومٍ وليلةٍ أنْ يُريَه اللهُ قاتلَ أبيه مقتولًا. فلمَّا قتل المختارُ قتَلَةَ الحسين (عليه السلام) بعثَ برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسولٍ من قِبَله إلى عليِّ بن الحسين (عليه السلام) وقال لرسوله: إنَّه يصلِّي من الليل فإذا أصبح وصلَّى الغداة هجع ثم يقوم فيستاك، يؤتى بغدائه، فإذا أتيت بابَه، فاسألْ عنه، فإذا قيل لك إنَّ المائدة وُضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على مائدته، وقل له: المختار يَقرأُ عليك السلام، ويقول لك: يابن رسول الله قد بلَّغك الله ثأرك، ففعل الرسولُ ذلك. فلمَّا رأى عليُّ بن الحسين رأسين على مائدته خرَّ لله ساجدًا، وقال: الحمدُ لله الذي أجاب دعائي وبلَّغني ثأري من قَتلة أبي، ودعا للمختار وجزَّاه خيرا"(3).

النص الثاني: أورده الكشي في اختيار معرفة الرجال بسنده عن عمر بن عليِّ بن الحسين: أنَّ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) لمَّا أُتي برأس عبيد الله بن زياد، ورأس عمر بن سعد، قال: فخرَّ ساجدًا، وقال: الحمدُ لله الذي أدركَ لي ثأري من أعدائي، وجزى اللهُ المختارَ خيرا"(4).

النص الثالث: أورده اليعقوبي في تاريخه قال: ".. ووجَّه المختار برأس عبيد الله بن زياد إلى عليِّ بن الحسين في المدينة مع رجلٍ من قومه، وقال له: قف ببابِ عليِّ بن الحسين، فإذا رأيت أبوابه قد فُتحت ودخل الناس، فذلك الذي فيه طعامُه، فادخل إليه، فجاء الرسول إلى باب عليِّ بن الحسين، فلمَّا فُتحت أبوابُه، ودخل الناسُ للطعام، دخل ونادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي، أنا رسولُ المختار ابن أبي عبيد معي رأسُ عبيد الله بن زياد، فلم تبقَ في شيء من دور بني هاشم امرأةٌ إلا صرختْ، ودخل الرسولُ فأخرج الرأس، فلمَّا رآه عليُّ بن الحسين قال: أبعدهُ اللهُ إلى النار"(5).

النص الرابع: أورده ابنُ سعدٍ الطبقات الكبرى قال: وبعث برأسه -ابن زياد- إلى المختار فعمد إليه المختار فجعله في جونة ثم بعث به إلى محمَّد بن الحنفية وعليِّ بن الحسين وسائر بني هاشم، فلمَّا رأى عليُّ بن حسين رأس عبيد الله ترحَّم على الحسين، وقال: أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين وهو يتغدى وأُتينا برأس عبيد الله ونحن نتغدى"(6).

أكثر الروايات خالية من الدعاء الذي تضمَّنته رواية المدائني:

هذه هي أهمُّ النصوص الواردة في هذا الشأن، وهي كما تُلاحظون خالية من ممَّا تضمَّنته رواية المدائني من أنَّ الإمام السجَّاد (ع) دعا بأنْ يُريَه الله تعالى رأس ابن زياد بل صرَّحت رواية شرح الأخبار للنعمان المغربي أنَّ دعاء الإمام السجاد(ع) هو: "أنْ يُريَه اللهُ قاتلَ أبيه مقتولًا"، وفرقٌ بين الدعاء بأنْ يرى رأس ابن زياد وبين الدعاء بأنْ يراه قتيلًا، فالأول ظاهرٌ أو مشعِرٌ بالإقرار بجواز قطع رأسِه والتمثيل به، وأمَّا الثاني فهو لا يدلُّ على أكثر من الدعاء بأنْ يُسلِّط الله عليه مَن يقتله بقطع النظر عن طبيعة القتلة وكيفيَّتها.

وحيث إنَّ ما تضمَّنته رواية المدائني –بناءً على ظهورها في الإقرار بجواز المُثلة– منافٍ لِما هو المعلوم من ضرورة الفقه، ومنافٍ لِما هو المعلوم مِن سموِّ أخلاق أهل البيت (ع) لذلك فهذا المقدار من رواية المدائني مكذوبٌ على الإمام (ع)، على أنَّ الرواية –كما ذكرنا- ساقطةٌ عن الاعتبار في نفسِها نظرًا لضعف سندِها.

استبشار السجَّاد بمقتل ابن زياد لا يعني التصحيح لكيفيَّة قتله:

وأمَّا ما وردَ في بعضِ هذه الروايات وهذه النصوص التاريخيَّة من أنَّ الإمام (ع) خرَّ ساجدًا وحمِدَ الله تعالى فهو لا يدلُّ على أكثر مِن استبشارِه بقتل ابن زياد، فليس في هذه الروايات دلالةٌ على إمضائه لكيفيَّة القتل كما أنَّه ليس فيها دلالة على إمضائه لحمل الرأس ونصبه، فالمقام أشبهُ شيءٍ بما لو دعا أحدٌ على قاتل أبيه بأنْ ينتقمَ اللهُ تعالى منه فيتَّفق لهذا الرجل القاتل أنْ يفترسه سبُع أو يسقطَ من شاهقٍ أو يقتله قطَّاعُ الطريق فيستبشر ابنُ القتيل باستجابة دعائه في قاتل أبيه، فهو يستبشرُ بما وقع لقاتل أبيه بقطع النظر عن طبيعة ما وقع له، فهو يستبشرُ بقتله سواءً وقع ذلك من طريق افتراس السباع له أو من طريق الفتك به من قبل قطاع الطرق أو غير ذلك، فهو يرى أنَّ دعوته قد استُجيبت أيًا كانت الكيفيَّة التي وقع بها القتل، وليس لأحدٍ أنْ يتوهَّم أنَّ ابن القتيل يُقرُّ بجواز قطع الطريق أو الاغتيال لو كان قد قُتل بالاغتيال، فلو سُئل ابن القتيل هل أنت مستبشِرٌ بمقتل قاتل أبيك لقال: نعم، ولو سُئل وهل أنت مقرٌّ بجواز قتله اغتيالًا مثلًا لأمكن أنْ يقول لا أرى جواز ذلك، فالاستبشار بمقتله الذي وقع بالاغتيال لا يُلازم الإقرار بجواز الاغتيال.

كذلك المقام فإنَّ استبشار الإمام (ع) بمقتل قاتل الحسين (ع) لا يُلازم وليس فيه دلالة على إمضائه لكيفيَّة قتله أو إمضائه للتمثيل به وحمل رأسه ونصبه في المدينة ومكة، وأمَّا الدعاء للمختار (رحمه الله) فلأنَّه تتبَّع قتلَة الحسين (ع) وقتل مَن وقع منهم تحت يده، لذلك فهو مستحِقٌّ لأنْ يُدعى له، وليس في ذلك تصويبٌ لكلِّ ما كان قد فعله، فلم يكن الدعاء له إلا لكونه انتصر لأهل البيت (ع) وقتله لقتلَة الحسين (ع) فالدعاء له بأنْ يجزيَه الله خيرًا منشأه ذلك محضًا فليس فيه دلالة على التصحيح لكلِّ ما يفعل.

فالمختار بناءً على ما ورد في بعض الأخبار كان يهدمُ دور مَن شاركوا في حرب الإمام الحسين (ع) فهل الدعاء له بأنْ يجزيه اللهُ خيرًا بعد قتل قتلة الحسين (ع) يعني أنَّ الإمام (ع) يُصحِّح ما يفعله من هدمٍ لدور مَن شاركوا في حرب الحسين (ع) رغم أنَّ هذه الدور قد تكون ملكًا للورثة أو يأوي إليها من أولاده وزوجاته ممَّن لا شأن لهم بجريرة صاحب الدار.

كلُّ ذلك مع قطع النظر عن الإشكال في أسناد هذه الروايات المشتملة على أنَّ الإمام (ع) قد دعا للمختار في ذلك الموقف وإلا فإنَّ عددًا من هذه الروايات لم تشتمل على أنَّ الإمام (ع) قد دعا للمختار في ذلك الموقف، فالنصُّ الذي أورده اليعقوبي لم يتضمَّن أنَّ الإمام (ع) قد دعا للمختار، فلم يشتمل هذا النصُّ على أكثر من قول الإمام (ع) "أبعدهُ اللهُ إلى النار" يعني ابن زياد، وكذلك فإنَّ النصَّ الذي أورده ابنُ سعد في الطبقات وأورده ابنُ عساكر في تاريخ مدينة دمشق لم يتضمَّن أكثر من ترحُّم الإمام السجاد (ع) على الإمام الحسين (ع) قال: "فلمَّا رأى عليُّ بن حسين رأسَ عبيد الله ترحَّم على الحسين" وهكذا فإنَّ رواية المدائني ومعتبرة جارود بن المنذر لم تتضمَّنا الدعاء للمختار فأكثر الروايات خالية من الدعاء للمختار في ذلك الموقف.

وأمَّا ما ورد في رواية ابن سعد في الطبقات من أنَّ الإمام السجَّاد (ع) قال حين رأى رأس ابن زياد: "أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين وهو يتغدَّى وأُتينا برأس عبيد الله ونحن نتغدى" فهو بيانٌ لعجيب قضاء الله تعالى وغريب ما يُقدِّره وهو كذلك تعبيرٌ عن الشعور بالاِمتنان بلطف الله جل وعلا بالموتورين من أهل بيت الرسول (ص) فقد فعل (جلَّ وعلا) بقاتل الحسين (ع) مثل ما كان قد فعل، فكما أُدخل رأس الحسين (ع) على ابن زياد وهو يتغدى كذلك قدَّر الله تعالى تسليةً لأوليائه فأُدخل رأس ابن زياد على الإمام زين العابدين (ع) وهو يتغدى، فهو (عليه السلام) لم يأمر بذلك بل ولا طلب من المختار أنْ يحمل إليه رأس ابن زياد فضلًا عن ادخاله عليه وهو يتغدى ولكنَّ اللهَ تعالى قدَّر أنْ يُري عباده كيف ينتقمُ لسيِّد الشهداء (ع).

الاستبشار بمقتل ابن زياد ليس بدافع التشفِّي:

ثم إنَّ هنا أمرًا يحسنُ التنبيهُ عليه وهو أنَّ سجود الإمام (ع) وحمده لله المعبِّر عن استبشاره بمقتلِ قتلَةِ الحسين (ع) لم يكن عن قصد الشماتة والتشفِّي - فإنَّ أخلاقَ أهل البيت (ع) وسموَّ طبائعهم وطهارة نفوسِهم تأبى ذلك – وإنَّما هو من الاستبشار بنصر الله تعالى لأوليائه كما قال تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(7) ويقول تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ / وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(8).

فكما استبشر النبيُّ (ص) بمقتل جبابرة قريش يوم بدر أمثال أبي جهل ابن الحكم وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وأميَّة بن خلف ووقف على جثامينهم بعد أنْ جمعهم في قليب (بئر) وخاطبهم بقوله: "يا أهل القليب إنَّا قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقَّا، فهل وجدتُم ما وعد ربكم حقَّا"(9)، أو قال: "لقد كنتم جيرانَ سوءٍ لرسول الله، أخرجتموه من منزلِه، وطردتُموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتُموه، فقد وجدتُ ما وعدني ربِّي حقَّا، فهل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقَّا"(10).

فكما استبشرَ رسولُ الله (ص) بمقتل جبابرة قريش يوم بدرٍ وخاطبهم بقوله إنَّه وجد ما وعده ربُّه من النصر واستئصال هؤلاء المرَدة كذلك استبشرَ الإمامُ زينُ العابدين (ع) بمقتل ابن زياد وسائر قتلَةِ الحسين (ع).

التعليق على رواية المنهال في كيفيَّة قتل حرملة:

بقي الكلام حول رواية المنهال بن عمرو، قال: دخلتُ على عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) منصرفي من مكة فقال لي: يا منهال، ما صنع حرملة بن كاهلة الأسدي؟ فقلتُ: تركتُه حيًّا بالكوفة، قال: فرفع يديه جميعا، فقال: "اللهمَّ أذقْه حرَّ الحديد، اللهمَّ أذقْهُ حرَّ الحديد، اللهم أذقْهُ حرَّ النار".

قال المنهال: فقدمتُ الكوفة، وقد ظهرَ المختارُ بن أبي عبيد، وكان لي صديقا، قال: فكنتُ في منزلي أيامًا حتى انقطع الناس عنِّي، وركبتُ إليه فلقيتُه خارجًا من داره، فقال: يا منهال، لم تأتِنا .. وسايرتُه ونحن نتحدَّثُ حتى أتى الكناس، فوقفَ وقوفًا كأنَّه ينتظرُ شيئًا، وقد كان أُخبر بمكان حرملة بن كاهلة، فوجَّه في طلبه، فلم نلبثْ أنْ جاء قومٌ يركضون وقومٌ يشتدُّون حتى قالوا: أيُّها الأمير، البشارة، قد أُخذ حرملة بن كاهلة، فما لبثنا أنْ جِيء به، فلمَّا نظرَ إليه المختار قال لحرملة: الحمد لله الذي مكَّنني منك. ثم قال: الجزَّارَ الجزَّار، فأُتي بجزار، فقال له: اقطعْ يديه، فقُطعتا، ثم قال له: اقطعْ رِجليه، فقُطعتا، ثم قال: النارَ النارَ، فأُتي بنارٍ وقصب فأُلقي عليه واشتعلت فيه النار.

فقلتُ: سبحان الله! فقال لي: يا منهال، إنَّ التسبيح لحسن، ففيم سبَّحت؟

فقلت: أيُّها الأمير، دخلتُ في سفرتي هذه منصرفي من مكَّة على عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) فقال لي: يا منهال، ما فعل حرملة بن كاهلة الأسدي؟ فقلتُ: تركتُه حيًّا بالكوفة؟ فرفع يديه جميعًا فقال: "اللهمَّ أذقْهُ حرَّ الحديد، اللهم أذقْهُ حرَّ الحديد، اللهم أذقْهُ حرَّ النار".

فقال لي المختار: أسمعتَ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول هذا؟ فقلتُ: واللهِ لقد سمعتُه قال، فنزل عن دابَّته وصلَّى ركعتين فأطال السجود، ثم قام فركب، وقد احترق حرملة .."(11).

فهذه الرواية ليس فيها دلالة بل ولا إشعار بإمضاء الإمام (ع) للمُثلة، فما فعله المختار (رحمه الله) بحرملة لم يكن بأمر الإمام (ع) بل لم يكن المختار –أساسًا– يعلم بدعاء الإمام (ع) كما يتَّضح ذلك من الرواية، فهو إنَّما علِم بدعاء الإمام (ع) بعد أنْ أمر بإحراق حرملة، وليس في الرواية أنَّ الإمام (ع) قد أُخبِر بما فعله المختار بحرملة فأقرَّه على ذلك وصحَّح عمله.

وأمَّا دعاءُ الامام السجَّاد (ع) على حرملة بأنْ يُذيقَه اللهُ حرَّ الحديد وحرَّ النار فلا يعني الدعاء عليه بأنْ يُمثَّل بجسده فكثيرًا ما يتَّفق أنْ يموت الإنسان بالحديد والنار معًا، فيُضربُ مثلًا بالسيف في معركةٍ ويكون قريبًا من خندقٍ يشتعل بالنار فيتقهقرُ في ذلك الخندق فيجتمع عليه حرُّ الحديد وحرُّ النار.

فلا ملازمة بين الدعاء على أحدٍ بأنْ يُذيقَه اللهُ حرَّ الحديدِ وحرَّ النار وبين الرضا بالمُثلة، فما وقع لحرملة -أخزاه الله- كان استجابةً من الله تعالى لدعاء الامام (ع) وانتقامًا منه تعالى لسيِّد الشهداء (ع) دون أنْ يتحمَّل الامامُ (ع) تبعاتِ التمثيل بجسد هذا الجلف المخذول، يقول الله تعالى: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكْرًا﴾(12).

الهوامش: 1- اختيار معرفة الرجال –الشيخ الطوسي- ج1 / ص341. 2- الأمالي –الشيخ الطوسي- ص243. 3- شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص271، مناقب آل أب طالب – ابن شهراشوب – ج3 / ص285. 4- اختيار معرفة الرجال –الشيخ الطوسي- ج1 / ص341 5- تاريخ اليعقوبي –أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي- ج2 / ص259. 6- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج5 / ص100، تاريخ مدينة دمشق –ابن عساكر- ج54 / ص343. 7- سورة الصف / 13. 8- سورة الأنفال / 9-10. 9- من لا يحضره الفقيه –الصدوق- ج1 / ص180. 10- تصحيح اعتقادات الاماميَّة –الشيخ المفيد- ص92. 11- الأمالي –الشيخ الطوسي- ص238-239. 12- سورة الكهف / 87.
2023/08/14
ما الدليل على استحباب البكاء على الإمام الحسين (ع)؟
قال بعض المخالفين: يقول الشيعة: إن البكاء على الحسين مستحب! فهل هذا الاستحباب مبني على دليل أم على هوى؟! وإذا كان على دليل فما هو؟! ولماذا لم يفعل ذلك أحد من أئمة أهل البيت الذي تزعمون أنكم أتباعهم؟!

1- أن البكاء على الإمام الحسين عليه السلام سواء أكان ناشئاً عن دليل صحيح أم كان منبعثاً عن هوى فإنه ليس بقبيح، وليس بمحرَّم، بل هو فعل حسن؛ لأن الشيعة إنما يبكون على رجل يكفي أنه سيِّد شباب أهل الجنة، مضافاً إلى أنه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي قد ثبت بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحبّه؟

ولو أنا سمعنا برجل شريف قُتل مظلوماً أشنع قتلة، وقُتل معه أبناؤه وإخوته، وأصحابه، بغير حق، ورُضَّ جسمه الشريف بالخيول بعد قتله، وجعل رأسه على رأس رمح طويل يطاف به من بلد إلى بلد، ثم سبُيت نساؤه وبناته وأخواته المصونات، يتصفّح وجوههن الشريف والوضيع، وبكينا على هذا الرجل بدل الدموع دماً لما كنا ملومين في ذلك، فكيف به إذا كان من سادات المسلمين، بل من سادات أهل الجنة؟

2- أن رسول الله صلى الله عليه وآله بكى على الإمام الحسين عليه السلام قبل قتله بسنين كثيرة، وأحاديث أهل  السنة التي يعتد بها هذا المخالف تدل على ذلك.

فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير بسنده عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ذات يوم في بيتي، فقال: «لا يدخل عليَّ أحد»، فانتظرت فدخل الحسين رضي الله عنه، فسمعت نشيج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي صلى الله عليه وسلم يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله ما علمت حين دخل، فقال: إن جبريل عليه السلام كان معنا في البيت، فقال: تحبه؟ قلت: أما من الدنيا فنعم، قال: إن أمَّتك ستقتل هذا بأرض يقال لها (كربلاء)، فتناول جبريل عليه السلام من تربتها فأراها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أحيط بحسين حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، قال: صدق الله ورسوله، أرض كرب وبلاء. (المعجم الكبير 3/108، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدهما ثقات).

وأخرج أيضاً بسنده عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، أنه سافر مع علي رضي الله تعالى عنه، فلما حاذى نينوى، قال: صبراً أبا عبد الله، صبراً بشط الفرات، قلت: وما ذاك؟ قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان، فقلت: هل أغضبك أحد يا رسول الله؟ مالي أرى عينيك مفيضتين؟ قال: قام من عندي جبريل عليه السلام، فأخبرني أن أمتي تقتل الحسين ابني، ثم قال: هل لك أن أريك من تربته؟ قلت: نعم، فمد يده فقبض، فلما رأيتها لم أملك عيني أن فاضتا. (المعجم الكبير 3/176، قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 7/90: رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وأبو يعلى بسند صحيح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد، أبو يعلى، والبزار، والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا).

وأخرج أيضاً بسنده عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: دخل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه، فنزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منكب، ولعب على ظهره، فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبه يا محمد؟ قال: يا جبريل، وما لي لا أحب ابني، قال: فإن أمَّتك ستقتله من بعدك، فمدَّ جبريل عليه السلام يده، فأتاه بتربة بيضاء، فقال: في هذه الأرض يقتل ابنك هذا يا محمد، واسمها الطف، فلما ذهب جبريل عليه السلام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والتربة في يده يبكي، فقال: يا عائشة، إن جبريل عليه السلام أخبرني أن الحسين ابني مقتول في أرض الطف، وأن أمتي ستفتتن بعدي، ثم خرج إلى أصحابه، فيهم علي، وأبو بكر، وعمر، وحذيفة، وعمار، وأبو ذر رضي الله تعالى عنهم وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مضجعه. (المعجم الكبير 2/113).

وأخرج البوصيري بسنده عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا في بيتي، فجاء الحسين يدرج، قالت: فقعدت على الباب، فأمسكته مخافة أن يدخل فيوقظه. قالت: ثم غفلت في شيء فدبَّ، فدخل فقعد على بطنه، قالت: فسمعت نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت فقلت: يا رسول الله ما علمت به. فقال: إنما جاءني جبريل عليه السلام وهو على بطني قاعد، فقال لي: أتحبه؟ فقلت: نعم. قال: إن أمَّتك ستقتله، ألا أريك التربة التي يُقتل بها؟ قال: فقلت: بلى. قال: فضرب بجناحه، فأتاني هذه التربة. قالت: فإذا في يده تربة حمراء وهو يبكي ويقول: ليت شعري من يقتلك بعدي؟!

قال البوصيري: رواه عبد بن حميد بسند صحيح، وأحمد بن حنبل مختصراً عن عائشة أو أم سلمة على الشك. (إتحاف الخيرة المهرة 7/90).

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.

فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله بكى على الإمام الحسين عليه السلام قبل مقتله بسنين كثيرة، فإن من بكى عليه سلام الله عليه بعد ذلك فقد تأسَّى برسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا كافٍ في ثبوت استحباب البكاء على الإمام الحسين عليه السلام.

3- أن أئمة أهل البيت عليهم السلام أمروا شيعتهم بالبكاء على الإمام الحسين عليه السلام، والروايات الدالة على ذلك كثيرة:

منها: ما رواه ابن قولويه بسنده عن أبي جعفر عليه السلام، قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي عليهما السلام دمعة حتى تسيل على خدِّه بوَّأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لأذىً مسَّنا من عدوّنا في الدنيا بوَّأه الله بها في الجنة مبوَّأ صدق، وأيما مؤمن مسَّه أذى فينا، فدمعت عيناه حتى تسيل على خدّه من مضاضة ما أوذي فينا، صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار. (كامل الزيارات: 201).

ومنها: ما رواه أيضاً بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي عليهما السلام، فإنه فيه مأجور. (نفس المصدر).

ومنها: ما رواه أيضاً بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل له، قال: ومن ذكر الحسين عليه السلام عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله عزَّ وجل، ولم يرضَ له بدون الجنة. (نفس المصدر: 202).

ومنها: ما رواه أيضاً بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل قال: إن الحسين عليه السلام مع أبيه وأمّه وأخيه في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله، ومعه يُرزَقون ويُحبَرون، وإنه لعَنْ يمين العرش متعلق به، يقول: يا ربِّ أنجز لي ما وعدتني، وإنه لينظر إلى زوَّاره، وإنه أعرف بهم، وبأسمائهم، وأسماء آبائهم، وما في رحالهم، من أحدهم بولده، وإنه لينظر إلى من يبكيه فيستغفر له، ويسأل أباه الاستغفار له، ويقول: «أيها الباكي لو علمتَ ما أعدَّ الله لك لفرحت أكثر مما حزنت»، وإنه ليستغفر له من كل ذنب وخطيئة. (نفس المصدر: 206).

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تحث على البكاء على الإمام الحسين عليه السلام، وترغب فيه.

وأما قول المخالف: «ولماذا لم يفعل ذلك أحد من أئمة أهل البيت الذين تزعمون أنكم أتباعهم؟!» فجوابه: أنه يكفي أن النبي صلى الله عليه وآله فعله كما مرَّ في الروايات الصحيحة التي رواها أهل السنة أنفسهم، ومع ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا نحتاج إلى النظر في فعل باقي أئمة أهل البيت عليهم السلام.

هذا مضافاً إلى أن أهل البيت عليهم السلام مارسوا البكاء عمليًّا، وحسبك الروايات الدالة على بكاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فهي مستفيضة.

فقد روى الشيخ الصدوق في الخصال بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام ـ في حديث طويل ـ قال: ولقد بكى [الإمام زين العابدين عليه السلام] على أبيه الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما وُضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك، إن يعقوب النبي عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً، فغيَّب الله عنه واحداً منهم، فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيًّا في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي، وأخي، وعمي، وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟! (الخصال: 518).

وفي حديث آخر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله، وعلي بن الحسين عليه السلام.

إلى أن قال: وأما فاطمة عليها السلام فبكت على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى تأذى بها أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، وكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء، فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي بن الحسين عليه السلام فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، ما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86]، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة. (الخصال: 272).

وروى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السلام، قال: فأنشدته، فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون - يعني بالرقة -، قال: فأنشدته:

امرُرْ على جَدَثِ الحسينِ

فَقُلْ لأعظُمِهِ الزكيَّةْ

قال: فبكى، ثم قال: زدني، قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى عشراً كُتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسة كُتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كُتبت لهما الجنة، ومن ذُكر الحسين عليه السلام عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنة. (كامل الزيارات: 208).

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على ما قلناه.

2023/08/07
تفاصيل قتل الحسين (ع).. هل نصدّق بكل ما يقوله الخطباء على المنابر؟!
ابكي على مصيبة الحسين بحرقة لكن مع هذا اشك بأغلب ما ينقله الخطباء والرواديد واقول ودموعي على خدي من قال ان ما يروى صحيح فما هي نصيحتكم؟

تُعتبَرُ واقعةُ كربلاء مِن أهمِّ الأحداثِ التاريخيّةِ التي توافرَت لها دواعي الاهتمامِ مِن جميعِ المُسلمين، نظراً لِما تُمثّلُه شخصيّةُ الإمامِ الحُسين (عليهِ السلام) مِن محوريّةٍ دينيّةٍ كبيرةٍ عندَ جميعِ الطوائفِ والمذاهبِ الإسلاميّة، فقد اهتمَّ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بالإمامِ الحُسين (عليهِ السلام) بشكلٍ خاصٍّ مُبيّناً منزلتَه ومكانتَه، كما أنّه تحدّثَ عمّا يُصيبُه في كربلاء وبكاهُ قبلَ مقتلِه، ولذلكَ لم تحظَ قضيّةٌ تاريخيّةٌ باهتمامِ المؤرّخينَ نقلاً وتدويناً وتوثيقاً مثلَ قضيّةِ الإمامِ الحُسين (عليهِ السلام)، حيثُ رواها الجميعُ بمُختلفِ اتّجاهاتِهم في مصادرِهم الحديثيّةِ والتاريخيّة والأدبيّةِ المُختلفة، هذا مُضافاً إلى الأصداءِ الكبيرةِ للحادثةِ وتأثيراتِها العميقةِ في تاريخِ المُسلمين السياسيّ، والفكريّ، والأدبيّ، والثقافي، ممّا جعلَها محطَّ اهتمامِ المؤرّخين. 

هذهِ العواملُ وغيرُها جعلَتها تحظى باهتمامِ الرواةِ وقُدامى الأخباريّينَ الذينَ قاموا منذُ القرنِ الثاني الهجري، ببذلِ جهودٍ كبيرةٍ نحوَ تتبّعِ أخبارِ الواقعةِ والبحثِ عن تفاصيلِها ومُجرياتِها وتجميعِ المعلوماتِ الدقيقةِ عن حوادثِها ومِن ثمَّ كتابتِها وتدوينِها.

وقد مهّدَ الأخباريّونَ الأوائلُ الطريقَ لمَن جاء بعدَهم منَ الأخباريّينَ المُتأخّرينَ والمؤرّخينَ المُهتمّينَ في توثيقِ وضبطِ وتنظيمِ وترتيبِ مُختلفِ الحوادثِ التاريخيّة.

وقد جمعَ المؤرّخونَ ما أمكنَهم منَ الوقائعِ والحوادثِ والنصوصِ مِن مُختلفِ المصادر.

وقاموا في مرحلةٍ تالية، بمُراجعتِها وغربلتِها وتوثيقِها وتنسيقِها وتبويبِها وإيرادِ ما ارتأوه مِنها في مدوّناتِهم وموسوعاتِهم التاريخيّة، وكذلكَ فعلَ بعضُ المُحدّثينَ ومؤرّخوا الطبقاتِ والتراجم.

وبهذا فقد غدَت واقعةُ كربلاء مدوّنةً وموثّقةً منذُ بواكيرِ عمليّاتِ التدوينِ التاريخيّ في تاريخِ المُسلمين، وتوالَت الكتاباتُ حولَها تِباعاً في مُختلفِ الأدوارِ التاريخيّة.

هذا مُضافاً للمصادرِ التاريخيّةِ التي عنيَت بهذهِ الواقعةِ، بحيثُ لم تخلُ موسوعةٌ تاريخيّةٌ مِن ذكرِ تفاصيلِ ما وقعَ على الإمامِ الحُسين (عليهِ السلام) يومَ عاشوراء، ومِن أبرزِ المصادرِ التي تطرّقَت إليها هي: الطبقاتُ الكُبرى لابنِ سعدٍ (ت 230). الأخبارُ الطوالُ لأبي حنيفةَ الدينوري (ت 276). أنسابُ الأشرافِ للبلاذريّ (ت279)، تاريخُ اليعقوبي لابنِ الواضح (ت 282)، الفتوحُ لابنِ الأعثمِ الكوفي (ت 304)، تاريخُ الطبري لابنِ جرير (ت 310)، مقاتلُ الطالبيّينَ لأبي الفرجِ الأصفهاني (ت 356)، تجاربُ الأممِ والملوكِ لابنِ مسكويه (ت424)، تاريخُ دمشقَ لابنِ عساكر (ت571)، المُنتظَمُ في تاريخِ الأممِ والملوكِ لأبي الفرجِ الجوزي (ت 597) الكاملُ لابنِ الأثير (ت 630)، تذكرةُ الخواصِّ لابنِ الجوزي (ت654)، سيرُ أعلامِ النبلاءِ للذّهبي (ت748)، البدايةُ والنهايةُ لابنِ كثير (ت 774) وغيرُهم.

هذا مُضافاً إلى اهتمامِ بعضِ مصادرِ الحديثِ والتراجمِ والأدبِ التي عنيَت بترجمةِ الإمامِ الحُسين (عليهِ السلام) ومناقبِه وأحوالِه مِن قبيلِ مُسندِ أحمد (ت241) ومُعجمِ الطبراني (ت360) ومِن كتبِ الأدبِ العقدُ الفريدُ لابنِ عبدِ ربّه (ت 328).  أمّا عندَ شيعةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) فقد تضاعفَ الاهتمامُ بمقتلِ الحُسين وتناقلوا ذلكَ جيلاً عن جيل، وقد تصدّى الأئمّةُ (عليهم السّلام) بأنفسِهم لحفظِ تلكَ الواقعةِ، وأمروا شيعتَهم بإقامةِ المجالسِ وذكرِ تفاصيلِ ما جرى على الإمامِ الحُسين وأصحابِه في كربلاء، ولذا كانَ منَ الطبيعيّ أن يهتمَّ عُلماءُ ومؤرّخو الشيعةِ بتوثيقِ تلكَ الأحداثِ، فمِن بينِهم القاضي النعمانُ المغربي (ت 363) في شرحِ الأخبار، والشيخُ الصدوقُ (ت381) في مجالسِه، والشيخُ المُفيد (ت 413) في كتابِ الإرشاد، ومحمّدٌ بنُ فتّالَ النيسابوري (ت508) في روضةِ الواعظين، والشيخُ الطبرسي (ت 548) في اعلامِ الورى، وابنُ شهرِ اشوب (ت 588) في المناقبِ وأبو الفتحِ الأربلي (ت 693) في كشفِ الغمّةِ وغيرُهم.

وعليهِ فإنَّ أصلَ الحادثةِ وما فيها مِن تفاصيلَ مُبكيةٍ ممّا لا يجوزُ التشكيكُ فيها لمُجرّدِ التشكيكِ، وذلكَ لأنَّ العلماءَ قد تصدّوا لبيانِ ما هوَ ثابتٌ منَ القصصِ والأحداثِ وما هوَ زائدٌ لا أصلَ له، بل حرّمَ المراجعُ والعُلماءُ على الخُطباءِ ذكرَ ما لم يثبُت وقوعُه بوثيقةٍ تاريخيّةٍ تؤكّدُه، فبعضُ القصصِ التي لها مصدرٌ تاريخيٌّ ولكنّها غيرُ مؤكّدةٍ توقّفَ الفقهاءُ في جوازِ نقلِها على المنابرِ، فمثلاً قصّةُ زواجِ القاسمِ بنِ الحسنِ في كربلاء قد ذكرَها بعضُ المؤرّخينَ معَ أنَّ فيها بعضَ الشكوكِ والمُلاحظات، ولذلكَ لم يُجيزوا نقلَها بالشكلِ الذي يترسّخُ في أذهانِ الناسِ على أنّها حقيقةٌ حتميّة، وإنّما أجازوا ذلكَ على نحوِ الاحتمالِ فقط، ففي سؤالٍ وُجّهَ للمرجعِ التبريزيّ جاءَ فيه: (منَ المُتعارفِ عندَنا في الخليجِ في شهرِ مُحرّمٍ الحرام تخصيصُ اليومِ الثامنِ لشبيهِ القاسمِ بنِ الحسن (عليهِ السلام)، ولإثارةِ النُّدبةِ والنياحةِ، يطرحُ الخطباءُ على المنابرِ مُصيبتَه وينقلونَها حسبَ ما ذكرَه المؤرّخونَ، ومِنها زواجُه بابنةِ عمِّه المُسمّاةِ له في يومِ الطف، وربّما يُدخلونَ ما يُعبّرُ عن مراسيمِ الزواجِ كالشموعِ في وسطِ المجلس، فيزدادُ حزنُ الناسِ، إلّا أنّه في عصرِنا كثرَ المُعترضونَ على مثلِ هذهِ الرواياتِ والتعبيرِ عنها بالضعفِ، وكأنّه الشغلُ الشاغلُ لهم، بل بلغَ الأمرُ إلى الاستشكالِ في قراءةِ مثلِ هذهِ الرواية، فبمَ تنصحونَ أمثالَ هؤلاءِ حيثُ أنَّ مُصيبةَ الطفِّ جامعةٌ لكلِّ المصائب؟ فأجابَ رحمَه الله: (بسمِه تعالى: لا بأسَ بقراءةِ هذا المجلسِ على القاسمِ بنِ الحسن، ولكِن حسبَ ما وردَ في الكتبِ التاريخيّة، بحيثُ لا تكونُ قراءتُه على نحوٍ يترسّخُ في أذهانِ الناسِ أنّها حتميّةُ الحصول، بل على نحوِ الاحتمال، والمسائلُ المُتيقّنةُ والمُطمئنُّ بها غيرُ قليلةٍ، فليكُن الاهتمامُ بها أكثرَ للترسّخِ في الأذهانِ للأجيالِ القادمةِ لدفعِ الشبهاتِ التي تحيطُ بهم، واللهُ الموفّق).

2023/08/06
شبهة: لماذا تلعنون بني أميّة قاطبة وفيهم المؤمن؟!
زيارة عاشوراء تضمّنت لعن بني أميّة قاطبة أي جميعاً، مع أنّه فيهم من يكون مؤمناً قطعاً مثل: خالد بن سعيد بن العاص الّذي هو من أوائل الصحابة إسلاماً، والّذي وقف مع الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله في مسألة الخلافة.

ومثل أمامة بنت أبي العاص الّتي تزوّجها الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام بعد وفاة الصديقة الطاهرة بوصيّة منها، ومثل محمّد بن حذيفة الّذي كان من خواصّ أمير المؤمنين عليه السّلام، وغير هؤلاء ممّن انتسبوا لبني أميّة وكانوا من المؤمنين الموالين لأهل البيت عليهم السّلام، فإنّه لا شكّ في حرمة لعنهم لقوله تعالى: ]وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[([461])، وقوله تعالى: ]لَهـَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[([462])، وقوله تعالى: ]لَهـَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ[([463])، إلى غير ذلك من الآيات، وعليه فيتبيّن أنّ هذه الزيارة موضوعة أو على الأقلّ قد نالتها يد التحريف والدسّ.

الجواب من سماحة الشيخ مسلم الداوري الإصفهاني:

أوّلاً: أنّ المسمّى بأميّة من ولد عبد شمس اثنان، أميّة الأصغر وأميّة الأكبر، إلاّ أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى ولد أمية الأكبر كما صرح بذلك السويديّ في كتابه ((سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب))([464])، ومن هنا قال العلامة المامقانيّ في تنقيح المقال في ذيل ترجمة محمّد بن أبي حذيفة: ((لا ينبغي أن يتوهّم من كون الرجل عبشمياً وأنه ابن خال معاوية كونه أمويّاً، وبنو أميّة ملعونون قاطبة؛ لأنّ الرجل من بني عبد شمس والد أميّة وليس هو من ولد أميّة فإنّ بني عبد شمس سبعة بطون بنو أمية الأكبر بن عبد شمس وهم المقصودون من بني أميّة عند الإطلاق، وهم الملوك الملعونون قاطبة وبنو ربيعة بن عبد شمس، ومنهم شيبة بن ربيعة وأخوه عتبة والد محمّد هذا، وبنو عبد العُزّى ومنهم أبو العاص بن الربيع بن عبد العُزّى صهر النبيّ صلّى الله عليه وآله على ابنته زينب، وبنو عبد أميّة، وبنو نوفل، وبنو حبيب ومنهم حبيب ومنهم عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وبنو أميّة الأصغر ومنهم عبد الله بن الحارث بن أميّة بن عبد شمس ويقال للبطون الثلاثة الأخيرة العبلات بفتح العين والباء؛ لأنّ أمّهم عبلة بنت عبيد من بني غنم ومن ذلك كله يتبيّن أمران:

أحدهما: أنّ كون الرجل عبشمياً لا يلازم كونه أمويّاً.

الثاني: أن كون الرجل أمويّاً لا يلازم كونه ملعوناً؛ لأنّ بني أميّة الأكبر والد ملوك الجور المستخلفين ملعونون قطعاً، ولم يعلم لعن بني أميّة الأصغر وليس الملعون كل من سمّي بأميّة، بل اللعن وقع على طائفة خاصة معينة تدعى ببني أميّة على الإطلاق وهو بنو حرب بن أميّة وبنو العاص بن أميّة))([465]).

ويشهد لـه ما رواه الصدوق بإسناده إلى محمّد بن الفضيل الزُّرَقِيّ، عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام، قال: ((للنار سبعة أبواب... وباب يدخل منه المشركون والكفّار، فهذا الباب يدخل فيه كلّ مشرك وكلّ كافر لا يؤمن بيوم الحساب، وهذا الباب الآخر يدخل منه بنو أميّة، لأنّه هو لأبي سفيان ومعاوية، وآل مروان خاصّة، يدخلون من ذلك الباب، فتحطمهم النار حطماً لا تسمع لهم منها واعية، ولا يحيون فيها ولا يموتون))([466]).

وأبو سفيان ومعاوية وآل مروان كلّهم من ولد أميّة الأكبر، بل رواية زيارة عاشوراء أيضاً ظاهرها قد يقتضي الانحصار بأميّة الأكبر بقوله عليه السّلام: ((اللهمّ العن أبا سفيان ومعاوية ويزيد بن معاوية عليهم منك اللّعنة أبد الآبدين وهذا يوم فرحت به آل زياد وآل مروان بقتلهم الحسين صلوات الله عليه اللهمّ فضاعف عليهم اللّعن والعذاب الأليم)).

وقوله عليه السّلام: ((ولعن الله آل زياد وآل مروان ولعن الله بني أميّة قاطبة)).

وثانياً: أنّ لفظ ((بني أميّة)) صار في عرف الأئمّة عليهم السّلام في غير معناه اللّغوي، بل مرادهم جميع الطغاة والفاسدين من ولد أميّة الأكبر ومن يسلك مسلكهم ويحذو حذوهم في معاداة أمير المؤمنين والأئمّة الطاهرين عليهم السّلام، وأوليائهم، سواء كان من هذا الحيّ، أم سائر الأحياء.

فإن من سلك مسلكهم يعدّ منهم وطينته من طينتهم، وإن لم يكن في النسب الظاهريّ معدوداً منهم، ومن كان موالياً لأمير المؤمنين والأئمّة الطاهرين عليهم السّلام فهو منهم من أي حيّ كان.

والدليل على ما ذكرناه قوله عزّ وجلّ: ]وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحـَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحـَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ[([467])([468]).

ويشهد لـه صريح الحديث المرويّ عن كتاب الاختصاص للمفيد عن أبي حمزة الثماليّ قال: دخل سعد بن عبد الملك ـ وكان أبو جعفر عليه السّلام يسمّيه سعد الخير، وهو من ولد عبد العزيز بن مروان ـ على أبي جعفر عليه السّلام فبينا ينشج كما تنشج النساء، قال: فقال لـه أبو جعفر عليه السّلام: ما يبكيك يا سعد؟ قال: وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال لـه: لست منهم، أنت أمويّ منّا أهل البيت، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ يحكي عن إبراهيم ]فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي[([469])([470]).

وما رواه الحاكم في المستدرك عن عمرو بن مرّة الجهنيّ ـ وكانت لـه صحبة ـ أنّ الحكم بن أبي العاص استأذن على النبيّ صلّى الله عليه وآله، فعرف النبيّ صلّى الله عليه وآله صوته وكلامه فقال: ائذنوا لـه عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلاّ المؤمن منهم وقليل ما هم، يشرّفون في الدنيا ويضعون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق([471]).

وعلى هذا فمن لم يتبعهم ولم يقوّي أمرهم فليس منهم، ففي خبر عبد السلام بن صالح الهرويّ، قال: قلت لأبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام: يابن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السّلام، قال: إذا خرج القائم عليه السّلام قتل ذراريّ قتلة الحسين عليه السّلام بفعال آبائها؟ فقال عليه السّلام: هو كذلك، فقلت: قول الله عزّ وجلّ: ]وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[، ما معناه؟ قال: صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراريّ قتلة الحسين عليه السّلام يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أن رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند الله عزّ وجلّ شريك القاتل، وإنّما يقتلهم القائم عليه السّلام إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم.

والحاصل:

أنّ من لم يكن متابعاً لهم فلا يشمله اللعن وإن كان منتمياً لبني أميّة نسباً، أمثال خالد بن سعيد بن العاص، وأبو العاص ابن الربيع، وعمر بن عبد العزيز على خلاف فيه، وأمامة بنت أبي العاص الّتي تزوجها الإمام أمير المؤمنين بعد وفاة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السّلام، ومحمد بن حذيفة وأمّه بنت أبي سفيان وغيرهم، وبذلك يندفع الإشكال كلاًّ.

الهوامش: [461]ـ سورة الأنعام، الآية: 164. [462]ـ سورة البقرة، الآية: 286. [463]ـ سورة البقرة، الآية: 134. [464]ـ سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب: 70. [465]ـ تنقيح المقال 2: 59 من باب الميم. [466]ـ الخصال 2: 396، باب السبعة، الحديث 51. [467]ـ سورة هود، الآية: 45 ـ 46. [468]ـ أنظر: مكيال المكارم 2: 418. [469]ـ سورة إبراهيم، الآية: 36. [470]ـ الاختصاص: 85. [471]ـ المستدرك علی الصحيحين4: 481.
2023/08/05
هل تعرّض أهل البيت للذلّ في كربلاء؟!
هل تعرَّض أهلُ البيت للذُلِّ في كربلاء؟ وما هو معنى القول المأثور عن الإمام الرضا (ع): ".. وأذلَّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء"؟ الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

الحديثُ المُشار إليه في السؤال هو صحيحةُ إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا (عليه السلام): "إنَّ المحرَّم شهرٌ كان أهلُ الجاهلية يُحرِّمونَ فيه القتال، فاستُحلَّت فيه دماؤنا" إلى قوله (ع): "إنَّ يوم الحسينِ أقرحَ جفوننا، وأسبلَ دموعَنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء .."(1).

معنى قوله (ع): "وأذلَّ عزيزنا":

ومعنى قوله (ع): "وأذلَّ عزيزنا" هو أنَّه تمَّ الاستضعاف والاستهانة وإيقاع الإهانة والإذلال بعزيزنا، والمراد من العزيز في الرواية هم كلُّ فردٍ فرد من أبناء الرسول (ص) وبناته وسائر قرابته ممَّن كانوا مع الحسين (ع) في كربلاء، فكلُّ هؤلاء الكِرام قد تمَّ استضعافُهم والاستهانةُ بهم والإهانةُ لهم وذلك بمثل التنكيل والتمثيل بأجساد الشهداء منهم والأسرِ والسبي لمَن بقيَ منهم، ولذلك رُويَ أنَّ الإمام الحسين (ع) خاطبَهم يوم عاشوراء بقوله: "صَبْرًا يا بَني عُمُومَتي! صَبْرًا يا أَهْلَ بَيْتي! لا رَأَيْتُمْ هَوانًا بَعْدَ هذَا الْيَوْمِ أَبَدًا"(2).

لا ضير على المؤمن أنْ يُستهانَ به ويُستَضعَف:

ولا ضيرَ على المؤمن أنْ يُستهانَ به ويُستَضعَف أو يُهانَ ويُستهزَأَ به أو يُسخرَ منه وإنَّما الضيرُ على مَن يجترحُ في حقِّه هذه الجريرة الموبقة، وقد أخبرَ القرآنُ في مواضعَ عديدة أنَّ المستكبرين والطغاة كانوا يستضعفون أتباع الرُسل بل ويسخرون من الرسُل أنفسِهم ويستهزئون بهم بمثل رجمهم أو تهديدهم بالرجم وبمثل طردهم وإضحاك الناس عليهم وبمثل الافتراء عليهم واتِّهامهم في شرفِهم وبمثل التنكيل بهم والتمثيل بأجسادهم كما فَعلوا بنبيِّ الله يحيى (ع).

نماذج من إهانات العصاة للأنبياء (ع):

يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾(3) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾(4) فكلٌّ من الآيتين تُخاطبُ النبيَّ الكريم (ص) وتحكي له ما كان ينالُ الرسُل الَّذين سبقوه مِن امتهانِ أقوامِهم لهم واستخفافِهم بهم والسخريةِ منهم، تُخاطبه بذلك لتُخفِّف عنه بعضَ ما يجدُه من أَلمِ الاستخفاف بدعوته والامتهان لشخصِه الكريم بمثل وضع الأشواك في طريقه، وإلقاء القذارات ومخلَّفات الذبائح على ظهرِه ورأسه أثناء سجوده، وإغراء الصبيان والسفهاء بشتمِه ورجمه بالحجارة والأقذار.

ويقولُ اللهُ تعالى يحكي ما وقع لنوحٍ (ع) مع قومه: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(5) فكانوا يتعاقبون السخرية به، ففوجٌ يمضي وآخرُ يأتي، يتحلَّقُّون حولَه كما يُفعَلُ بالمعتوه أو المجنون يتهكَّمون بما يفعلُ وبما يقول، يقصدون من ذلك تحقيره وتصغيره وامتهانه وإدخال الوهن والإذلال عليه، لذلك جاء الوعيدُ من الله تعالى في ذيل الآية أنَّ الخزي والذلَّ سوف يلحقُ بهم فيما بعد ويوم يقوم الناس للحساب.

كذلك كان حال سائر الأنبياء في أقوامهم، فإبراهيمُ (ع) شيخُ الأنبياء أخذوه وساقوه كما يُساق الجُناة استصغارًا لشأنه، وتحلَّقوا حوله يُقرِّعونه كما قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾(6) ثم صفَّدوه في الأغلال كما يُفعلُ بالمجرمين، وجمعوا الناس ينظرون إليه وهو على تلك الحال المُزرية ثم قذفوه في النار يبتغون من ذلك إراءة الناس له وهو يتقلبُ فيها، إمعانًا في إذلاله والاستهانة به كما قال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ / فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾(7) فقد أرادوا من ذلك إذلاله فشاء اللهُ تعالى أن يكونوا هم الأسفلين.

وكذلك فعلَ بنو إسرائيل بالمسيح عيسى بن مريم (ع) فقذفوا أمَّه بالفجور ثم أخذوا رجلًا اعتقدوا أنَّه المسيح فجرَّدوه من ثيابه ووضعوا إكليل الشوك على رأسه إمعانًا في إذلاله ثم كلَّفوه قسْرًا بأنْ يحملَ خشبة الصلب على ظهره، وساقوه بها إلى موضع صلبه وكانوا كلَّما أدركَه الإعياء أو تعثَّرَ ضربوه، ثم جمعوا الناس حولَه وصلبوه على خشبته وهم يتضاحكون ويُسمِعونه أقذع السُباب وكلمات التقريع، يقول الله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا / وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾(8).

وكذلك فعلوا بنبيِّ الله يحيى بن زكريا قتلوه استجابةً لرغبة بغيٍّ، وحملوا رأسه في طستٍ إليها، ولذلك كان الحسين (ع) يُكثرُ من ذكره كما رُوي ذلك عن الإمام عليِّ ن بن الحسين عليهما السلام قال: "خرجنا مع الحسين عليه السلام فمَا نزلَ منزلًا ولا ارتحل منه إلا ذكَرَ يحيى بن زكريا وقتله، وقال يومًا: ومِن هوانِ الدنيا على الله أنَّ رأسَ يحيى بن زكريا (عليه السلام) أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل"(9).

إذن فالاستضعافُ والامتهان والإذلال أمرٌ تعرَّض له الأنبياء والصالحون على امتداد تاريخ الرسالات، وذلك لا يُضيرُهم ولا يُنقِص من شأنِهم بل هو سرُّ رفعتِهم وعلوِّ قدرهم عند الله تعالى وعند الناس، والإذلال الذي يُنقِص من قدر الانسان هو الذي تعقُبه استجابةٌ لمقتضيات الإذلال، فحينما يُستذلُّ أحدٌ فيخنَع ويضرع ويستجيبُ ويستسلم لدواعي الإذلال فهذا هو الذليل، وأمَّا حينما يصبرُ على الأذى ويتجلَّد، ويرفض الخنوع والخضوع والاستجابة لدواعي الإذلال فهو العزيز بل يتصاغر مضطهدوه أمام عزَّته وشموخه رغم تظاهرِهم بالاستعلاء، ويشعرون بالصَغار في أنفسهم والانبهار من ثباته على موقفِه رغم قساوة ما أوقعوه عليه من وسائل الإخضاع.

شموخُ الحسين في مقابل سعي المعسكر الأموي لإخضاعه:

كذلك كان الحسينُ (ع)، فقد حشدَ له النظامُ الأموي جيشًا يُناهز تعدادُه الثلاثين ألفًا(10) فأحاطوا به وبأُسرته يرجون مِن ذلك إرغامه على الاستسلام والبيعة فصدح فيهم غير عابئ ولا مكترث: "ألا وإنَّ الدعيَّ ابن الدعيِّ قد ركزَ بين اثنتين بين السلَّة والذلَّة وهيهات منَّا الذلة، يأبى اللهُ ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابتْ وطهرتْ وأنوفٌ حميَّة، ونفوسٌ أبيَّة من أنْ تُؤثر طاعةَ اللئام على مصارع الكِرام، ألا وإنِّي زاحفٌ بهذه الأسرة مع قلَّة العدد وخذلة الناصر"(11).

وظلَّ كذلك مستمسكًا بموقفِه وإبائه حتى بعد أنْ وثبوا عليه وعلى أنصاره وأولاده قتلًا وتنكيلًا، حينها ضربَ (عليه السلام) بيدِه إلى لحيته، وجعل يقول: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ تعالى عَلَى الْيَهُودِ إِذْ جَعَلُوا لَهُ وَلَدًا، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ تَعالى عَلَى النَّصارى إِذْ جَعَلُوهُ ثالِثَ ثَلاثَة .. وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلى قَوْمٍ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلى قَتْلِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ، أما وَاللهِ! لا أُجيبُهُمْ إِلى شَيءٍ مِمّا يُريدُونَ حَتّى أَلْقىَ اللهَ تَعالى وَأَنَا مُخَضَّبٌ بِدَمي"(12).

وحين وقع سهمٌ في نحرِه، فخرَّ عن فرسِه -كما في رواية الصدوق- أخذَ السهمَ فرمى به، وجعل يتلقَّى الدم بكفِّه، فلمَّا امتلأتْ لطَّخ بها رأسَه ولحيتَه وهو يقول: "ألقى اللهَ عزَّ وجلَّ وأنا مظلومٌ متلطِّخٌ بدمي"(13) وقال كما في رواية السيِّد ابن طاووس: "هكذا ألقى الله مُخضبًا بدمي مغصوبًا على حقِّي"(14) أو قال: "هكذا حتى ألقى ربِّي بدمي مغصوبًا على حقِّي"(15).

وأصابَه جرحٌ بليغٌ في حلقِه -كما في الدرِّ النظيم- فكانَ "يضعُ يدَه عليه فإذا امتلأت بالدم قال: اللهمَّ إنَّك ترى، ثم يعيدُها، فإذا امتلأت قال: اللهمَّ إنَّ هذا فيك قليل"(16) وقال كما في المناقب: "بِسْمِ اللهِ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ، وَهذا قَتيلٌ في رِضَى اللهِ"(17).

فما أعطى الدنيَّة من نفسِه، وما وجدوا منه استكانة، وما ظهرَ على محيَّاه خوفٌ أو تلكأ، يقول الإمامُ الباقر (عليه السلام) كما في صحيحة بريد العجلي: "أُصيبَ الحسينُ بن عليٍّ (عليهما السلام) ووُجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرون طعنةً برمحٍ أو ضربة بسيف أو رميةً بسهم، فرُويَ أنَّها كانت كلُّها في مقدَّمه لأنَّه (عليه السلام) كان لا يولِّي"(18).

استُهين بهم فتوشّحوا بالعزَّة والإباء:

وخلاصةُ القول: إنَّ المعسكر الأموي عمِلَ جاهدًا على استضعاف أهل البيت وامتهانِهم في كربلاء، فتوسَّل بكلِّ وسيلةٍ يرجو منها الوصول إلى إخضاعهم وقَسرِهم على الاستسلام ابتداءً بحصارهِم الخانق الذي لم يتَّفق له مثيل، ثم حرمانهم من الماء، وحين لم يُفلح في إرغامهم على القبول بالهَوان زحفَ عليهم بجمْعِه فلم يرقُب فيهم إلًّا ولا ذمَّة حتى كادَ أنْ يستأصلَهم، وحين أباد الكبيرَ والصغيرَ منهم ولم يجد في ذلك شفاءً لغليلِه المستعِر بين جوانحه -والذي أوقذتْه وزادتْ من أوارهِ مظاهرُ العزَّة والإباء التي تجلَّت في مواقف الشهداء من أهل البيت- راح يبحثُ عمَّا يشفي به غيظه وحنقَه فلم يجد ذلك إلا في الانتقام من جثامين الشهداء الذين مرَّغوا كبرياءَه في الوحل فصنعَ بها ما يعتقدُ أنَّه يحطُّ من أقدارها، فكان يطأُها بسنابك خيلِه، ويُبضِّعُ أوصالَها بخناجره، ويجتزُّ رؤوسَها ويرفعُها على رؤوسِ الرماح ليَظهرَ بها في مظهَرِ القاهرِ المنتَصِر علَّه يسترُ بها ما انطوت عليه نفسه من خَوارٍ وضِعةٍ وصَغار، فكان يحرصُ على التظاهر بالقهر والغلبة، وهذا هو ما دفعه إلى أنْ يُشعِل النار في مخيَّمات الشهداء ويسوقَ بنات الرسول (ص) كما تُساق الأسارى، ليظهروا بحسب وهمه في مظهر المذلّة والهوان ويظهر هو في مظهر العزِّ والاقتدار.

فالمقصود من قول الإمام الرضا (ع): "وأذلَّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء" هو الإشارة إلى الهيئة المزرية التي حرص المعسكر الأموي أنْ يُظهِر عليها أهل البيت في كربلاء.

خطاب السيِّدة زينب (ع) يُلخِّص ما وقع في كربلاء:

وهذا ما أشارت إليه السيِّدة زينب (ع) في خطبتها الشهيرة: "أظننتَ يا يزيد حيثُ أخذتَ علينا أقطارَ الأرض وآفاقَ السماء، فأصبحنا نُساقُ كما تُساقُ الأسارى أنَّ بنا على اللهِ هوانا وبك عليه كرامة؟! وأنَّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عَطفِك، جذلانَ مسرورا، حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة والأمورَ متَّسقة، وحين صفا لك ملكَنا وسلطاننا، مهلًا مهلا أنسيتَ قول الله تعالى ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.

أمِنَ العدلِ يابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإماءك وسوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هتكتَ ستورهن .. وكيف يُرتجى مراقبة مَن لَفَظَ فوه أكبادَ الأزكياء، ونبتَ لحمُه بدماء الشهداء؟ وكيف يُستبطأ في بغضنا أهلَ البيت مَن نظر إلينا بالشنَف والشنآن، والإحن والأضغان؟

فو الله ما فريتَ إلا جلدَك، ولا جززتَ إلا لحمَك، ولتردنَّ على رسول الله بما تحمَّلتَ مِن سفكِ دماء ذريتِه، وانتهكتَ من حُرمتِه في عترتِه ولُحمته، حيثُ يجمعُ الله شملَهم ويلمُّ شعثَهم، ويأخذُ بحقِّهم، ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، حسبُك باللهِ حاكما، وبمحمَّدٍ خصيما وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلمُ من سوَّى لك ومكَّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلا .. ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتَك إنِّي لأستصغرُ قدرَك، وأستعظمُ تقريعَك وأستكبرُ توبيخَك .. فكدْ كيدَك واسعَ سعيَك، وناصبْ جهدَك، فواللهِ لا تمحو ذكرَنا، ولا تُميتُ وحينا، ولا تُدركُ أمدنا، ولا ترحضُ عنك عارُها، وهل رأيُك إلا فنَد، وأيامُك إلا عدد، وجمعُك إلا بدَد، يوم يناد المنادي ألا لعنةُ الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأوِّلنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة .."(19).

الهوامش: 1- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص190. 2- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص112، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص68. 3- سورة الأنبياء / 41. 4- سورة الرعد / 32. 5- سورة هود / 38. 6- سورة الصافات / 94. 7- سورة الصافات / 97-98. 8- سورة النساء / 156-157. 9- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص132، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص429. 10- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص177. 11- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص24، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص40. تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- مع اختلاف يسير ج14 / ص219، بغية الطلب في تاريخ حلب -ابن العديم- ص2588، التذكرة الحمدونيَّة -ابن حمدون- ج5 / ص212. 12- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص101، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص126. مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص9. 13- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص226. 14- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص170. 15- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص118. 16- الدر النظيم -ابن حاتم المشغري- ص551. 17- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص258. 18- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص228، شرح الأخبار -القاضي المغربي- ج3 / ص541. روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص189. 19- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / 36، مع اختلاف يسير، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص81، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص105.
2023/08/03
ما حقيقة بكاء «يزيد» على الإمام الحسين (ع)؟!
هل ثبت أن يزيد بكى على شيء مما جرى على الإمام الحسين في لحظةٍ ما، وذلك كما نقله القاضي النعمان في شرح الأخبار، والطبراني في المعجم الكبير، ونَقل الطبري أن عمر بن سعد بكى أيضاً؟

الجواب من مركز الرصد العقائدي:

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}

لم يثبت ذلك، بل الثابت خلافه، وهو أن الطاغية يزيد بن معاوية استبشر بمقتل الإمام الحسين (ع)، وراح يعبِّر عن جريمته النكراء بألوان الفرح والسرور.

وفيما يلي مناقشة هذا التساؤل بوضوح واختصار ..

[أولاً] روايات بكاء يزيد ضعيفة:

• أما رواية القاضي النعمان في شرح الأخبار: ج٣ ص٢٦٧ ح١١٧٢، قال: «وَرُوِيَ عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: قُدِمَ بنا على يزيد بن معاوية (لعنه الله) .. فبكى يزيد .. فاشتدَّ بكاؤه، حتى سمع ذلك نساؤه فبكينَ، حتى سمع بكاؤهنَّ من كان في مجلسه .. إلخ».

فهي مرسَلة، والقاضي النعمان توفي سنة ٣٦٣هـ، ولم يُدرك الإمام الباقر (ع)، ولم يذكر مصدراً لروايته هذي.

بل القاضي النعمان نفسه، كذَّب يزيد في الرواية نفسها، فقال: «كذب عدوُّ الله! بل هو الذي جهَّز إليه الجيوش! وقد ذكرتُ خبره فيما مضى».

وهذا يكفي في كشف تصنُّع يزيد، وفضح تمثيله بالبكاء، فخداعه لا ينطلي على الأذكياء، إنما يراوغ به الأغبياء.

• وأما رواية الطبراني في المعجم الكبير: ج٣ ص١١٦ ح٢٨٤٨، قال: «حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الزبير، حدثني محمد بن الحسن المخزومي، قال: لما أُدْخِل ثِقْلُ الحسين بن علي (رض) على يزيد بن معاوية، ووُضِعَ رأسُه بين يديه، بكى يزيد ..إلخ».

راويها: أبو الحسن محمد بن الحسن بن زبالة المخزومي، توفي سنة ١٩٩هـ، أجمع علماء الرجال قاطبة على تضعيفه جداً، وقالوا: «كذاب، هالك، متروك، منكر الحديث». كما في ميزان الاعتدال: ج٣ ص٥١٤ ت٧٣٨٠، وتهذيب التهذيب: ج٩ ص١٠١ ت١٦٠.

ثم هو لم يُدرك الحادثة، وروايته لها منقطعة، فمن أين له يعرف تفاصيلها؟! وهذا يزيد روايته ضعفاً ووهناً.

• وأما رواية الطبري في تاريخه: ج٥ ص٤٥٢، قال: «قال أبو مخنف: عن الحجَّاج، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي .. وقد دَنا عُمر بن سعد من حسين، فقالت [يعني: زينب]: يا عمر بن سعد، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه! قال: فكأني أنظر إلى دموع عُمر وهي تسيل على خدَّيه ولحيته، قال: وصَرف بوجهه عنها».

وهذا الإسناد شديد الضعف: فإن الحجَّاج بن أرطاة، كثير الخطأ والإرسال والتدليس، وهو هنا قد عَنْعَنَ ولم يصرِّح بالسَّماع، مضافاً لاتهامه بالرشوة في القضاء، والزيادة في الروايات، وتغيير ألفاظها واضطرابها. كما في تاريخ بغداد: ج٩ ص١٣٣ ت٤٢٩٤، وسير أعلام النبلاء: ج٧ ص٦٨ ت ٢٧، وتهذيب التهذيب: ج٢ ص١٧٢ ت٣٦٥.

ثم إن عبد الله بن عمار ـ الراوي للرواية ـ جندي في جيش عمر بن سعد، بل قيل: إنه قائد الرَّمَّاحَة. وهو نفسه صرَّح في هذه الرواية: أنه قد أعان على قتل الإمام الحسين (ع)، حتى عُوتِبَ في ذلك!

فكيف تُقبل روايته في محاولته تبرئة عمر بن سعد من تورُّطه بجريمته الشنيعة الفظيعة؟! أو بالأقل محاولته إظهار تعاطف عُمر مع قضية الإمام (ع)؟!

بل في نفس الرواية ما يمنع من الأخذ ببعض تفاصيلها، مثل قول عبد الله بن عمار: «خرجتْ زينب ابنة فاطمة ـ أختُه ـ وكأني أنظر إلى قُرْطِها يجول بين أذنيها وعاتقها، وهي تقول: ليت السماء تطابقت على الأرض!».

هذا كلام منكر جداً، فليس من شأن هذا المجرم أن يرى شيئاً من محاسن سيِّدة الحِجاب والحِشمة (ع)!

وواضح أن قوله: «فكأني أنظر إلى دموع عُمر وهي تسيل على خدَّيه ولحيته»، وأيضاً قوله: «وكأني أنظر إلى قُرْطِها يجول بين أذنيها وعاتقها»، من زياداته وإدراجه على أصل الرواية، فإنه من انطباعه هو، لا من نقله للحدث!

[ثانياً] روايات بكاء يزيد معارضة:

ورد في التاريخ ما يثبت أن تظاهر يزيد بالبكاء على الإمام الحسين (ع) ما هو إلا مخادعة ومراوغة منه، والواقع أنه كان فرحاً مسروراً بقتله الإمام (ع)، فمثلاً:

١- روى القاضي النعمان في شرح الأخبار: ج٣ ص١٥٨، قال: «فدخل اللعين يزيد على نسائه، فقال: ما لكنَّ لا تبكينَ مع بنات عمكنَّ؟! وأمرهنَّ أن يعولنَّ معهنَّ! تمرُّداً على الله (عز وجل)، واستهزاءً بأولياء الله (ع) .. وجعل يستفزُّه الطرب والسرور، والنسوة يبكينَ ويندبنَ، ونساؤه يعولنَّ معهنَّ!».

٢- وروى الخوارزمي في مقتل الحسين: ج٢ ص٨٠ ح٣٣، بسنده عن الإمام السجاد (ع) قال: «لما أُتِيَ برأس الحسين (ع) إلى يزيد، كان يتَّخذ مجالس الشرب، فيأتي برأس الحسين فيضعه بين يديه ويشرَب عليه! فحضر ذات يومٍ أحدَ مجالسه رسولُ ملك الروم ـ وكان من أشراف الروم وعظمائها ـ فقال: يا ملك العرب، رأس من هذا؟ فقال له يزيد: ما لَكَ ولهذا الرأس؟ قال: إني إذا رجعتُ إلى ملكنا، يسألني عن كل شيء رأيتُه! فأحببتُ أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه، ليُشاركك في الفرح والسرور .. إلخ».

٣- وروى الخوارزمي في مقتل الحسين: ج٢ ص٧١ ح٣٢، بسنده عن السيدة زينب (ع) قالت بخطبتها في مجلس يزيد: «أظننتَ يا يزيد، حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أن بِنَا على الله هَواناً، وبك عليه كرامة؟! وأن ذلك لعِظَم خطرك عنده؟! فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عِطْفِك، جذلان مسروراً .. إلخ».

٤- وروى ابن كثير في البداية والنهاية: ج٨ ص١٩٧، قال: فأرسلهم [يعني: السبايا] إلى يزيد، فجمع يزيد من كان بحضرته من أهل الشام، ثم دخلوا عليه فهنَّوه بالفتح!».

٥- وروى السيوطي في تاريخ الخلفاء: ص١٥٨، قال: «لمَّا قُتِلَ الحسين وبنو أبيه، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد، فسُرَّ بقتلهم أولاً، ثم نَدِمَ لمَّا مَقَتَه المسملون على ذلك، وأبغضه الناس، وحُقَّ لهم أن يبغضوه!».

[ثالثاً] روايات حزن يزيد مرفوضة، وروايات فرحه مقبولة:

نصَّ بعض كبار علماء أهل السُّنة على: أن يزيد بن معاوية استبشر بقتل الإمام الحسين (ع)، ولذلك حكموا بكفره أو فسقه، وبجواز لعنه أو شتمه، فمنهم مثلاً:

(١) ابن الجوزي، وقد صنَّف كتاباً خاصاً في بيان مخازي يزيد وجواز لعنه، سمَّاه: (الرَّد على المتعصب العنيد المانع من ذمِّ يزيد)، وذكر في أثنائه أقوال جماعة من كبار العلماء.

(٢) وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: ج١ ص٢٥٧، وأفرد فصلاً خاصاً لشرح موبقات يزيد، ومما قاله: «والذي يدلُّ على هذا [يعني: رضا وفرح يزيد بقتل الإمام] أنه استدعى ابن زياد إليه، وأعطاه أموالاً كثيرة وتحفاً عظيمة، وقرَّب مجلسه ورفع منزلته، وأدخله على نسائه وجعله نديمه».

(٣) والتفتازاني في شرح العقائد النسفية: ع٢ ص٤٩٣، قال: «والحق: أن رضا يزيد بقتل الحسين، واستبشاره بذلك، وإهانته أهل بيت النبي (ع)، مما تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً. فنحن لا نتوقف في شأنه، بل في إيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه».

(٤) والآلوسي في روح المعاني: ج١٣ ص٢٢٧، قال: «وعلى هذا القول: لا توقف في لعن يزيد، لكثرة أوصافه الخبيثة، وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه. ويكفي ما فعله ـ أيام استيلائه ـ بأهل المدينة ومكة .. والطامة الكبرى: ما فعله بأهل البيت، ورضاه بقتل الحسين (على جده وعليه الصلاة والسلام)، واستبشاره بذلك، وإهانته لأهل بيته، مما تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً».

اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين (ع)، وشايعتْ وبايعتْ وتابعتْ على قتله، اللهم العنهم جميعاً.

2023/08/02
لم تكن خائفة في كربلاء: هل السيدة زينب (ع) معصومة؟
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ من آل إبراهيم المصطفين الأخيار آل محمد ومن المصطفين من آل محمد  العقيلة الحوراء زينب، فإن زينب كانت من المصطفين، لأن الاصطفاء لا يختص بالأئمة، بل يشمل كل معصوم من أهل البيت.

ولذلك نرى الإمام الحسين عليه السلام طبق آية الاصطفاء على علي الأكبر، لما برز علي الأكبر إلى المعركة وقف الحسين وقال: «اللهم اشهد عليهم أنه برز إليهم غلام أشبه الناس بنبيك، وكلما اشتقنا لرؤية نبيك نظرنا إليه» ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ فاعتبر الإمام الحسين ولده علي الأكبر مصطفى من المصطفين الأخيار مع أنه لم يكن إماما.

إذن الاصطفاء يشمل كل من حبي بالطهارة والعصمة من أهل البيت عليهم السلام  ومن جملة هؤلاء ومن أبرزهم العقيلة الحوراء بطلة كربلاء السيدة زينب عليها السلام عندما نتحدث عن هذه الشخصية العملاقة، السيدة زينب التي اقترن اسمها باسم الحسين، وصوتها بصوت الحسين  نتحدث عن ثلاث صفحات:

كما يذكر علماؤنا في كتبهم الكلامية أن العصمة نوعان: عصمة اقتضائية، وعصمة فعلية.

العصمة الاقتضائية: هي نوع من العلم، بمعنى أن المعصوم تنكشف له أسرار الأفعال، وتنكشف له أخطار المعاصي، وتنكشف له الآثار المترتبة على الطاعات، العصمة الاقتضائية نوع من الانكشاف، انكشاف يقتضي امتناع المعصوم عن المعصية وعن الرذيلة، والمواظبة على الطاعة والامتثال والانقياد، نظير الإنسان العادي هو معصوم عن شرب الدم، أو شرب البول، أو شرب الأوساخ، لأنه انكشف له أضرار هذه الأشياء، فهو معصوم عن شربها، بمعنى أنه يمتنع عن شربها بإرادته واختياره، لأنه انكشف له ضررها وخطرها، المعصوم يرى المعاصي كما نرى نحن القاذورات، كالدم، والبول، وأمثال ذلك، كما أننا نرى هذه القذارات ونشمئز منها لأن أضرارها واضحة أمامنا فنمتنع بإرادتنا واختيارنا عن تناولها، فإن المعصوم يرى المعاصي كما نرى القذارات والأوساخ، فيمتنع عنها بإرادته واختياره.

العصمة الفعلية: هي عبارة عن سيطرة العقل على تصرفات الإنسان، فالعصمة الفعلية ترجع إلى عامل اختياري، عامل بشري، كما يحدث إذا دخل الإنسان إلى قاعة الامتحان وجلس هناك لمدة ساعتين يمتحن، ترى أن عقله يسيطر على معلوماته، ترى هذا الإنسان يجلس في قاعة الامتحان لا يخطئ، يجلس لمدة ساعتين يكتب المعلومات بدقة واتقان، لأن عقله مسيطر على تصرفاته، ومعلوماته، نتيجة سيطرة العقل على المعلومات لا يخطئ هذا الإنسان في تسجيل المعلومات وفي تحليلها وفي تطبيقها على مواردها، مثل الطبيب في العملية الجراحية، أحيانا يجري الطبيب عملية جراحية لمدة خمس ساعات، أو ست ساعات بدقة واتقان ونجاح 100% هذا الطبيب يسيطر عقله على حركاته وتصرفاته لمدة خمس ساعات، أو ست ساعات فلا يخطئ في العملية الجراحية أبدا، هنا العصمة هي عصمة بشرية فعلية، بمعنى سيطرة العقل على تصرفات الإنسان.

هؤلاء المعصومون من غير الأئمة الطاهرين مثل العقيلة زينب، العباس ابن علي، على الأكبر، معصومون بالعصمة الفعلية، هؤلاء كان لعقولهم حضور، وهيمنة، وسيطرة، عقولهم تسيطر على تصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم نتيجة حضور العقل وسيطرته، هذا الإنسان ليس بإمام لكن نتيجة سيطرة العقل وهيمنته تراه لا يخطئ، لا يعصي، لا يرتكب الرذيلة، فهو بشر لكنه وصل إلى درجة العصمة الفعلية، لأنه وصل إلى درجة سيطرة العقل على التصرفات والتحركات كلها.

إذن العقيلة زينب كما يظهر من الروايات كانت طاهرة معصومة بهذا النوع من العصمة الذي نسميه بالعصمة الفعلية.

صفحة العلم:

زين العابدين يخاطب العقيلة زينب عليها السلام يقول: «عمة، أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفاهمة غير مفهمة» هذا الكلام صادر من إمام يعرف الأشخاص ومستوى درجاتهم العلمية، ما قاله الإمام زين العابدين لأحد غير زينب «أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفاهمة غير مفهمة».

العلم ينقسم إلى قسمين: علم اكتسابي، وعلم لدني

العلم الاكتسابي: هو ما يستقيه الإنسان من شخص آخر.

العلم اللدني: هو المعلومات التي يلهم بها قلب الإنسان من قبل الله تبارك وتعالى، كما ذكر القرآن في شأن أم موسى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ أم موسى لم تكن إمام، ولم تكن امرأة معصومة، لكنها رزقت علما إلهاميا، لدنيا.

أيضا الإمام علي عليه السلام يخبر عن هاذين النوعين من العلم: علم اكتسابي، وعلم لدني، يقول: ”علمني رسول الله  ألف باب من العلم، في كل باب يفتح لي ألف باب“

”علمني“ هذا علم اكتسابي ”يفتح لي“ هذا علم لدني، فهو جمع بين العلمين، هناك علم اكتسابي ”علمني ألف باب من العلم“

أنا   مدينة   العلم  وعلي  بابها

إنما    المصطفى   مدينة   علم          فمن أراد المدينة فليأتها من بابها

وهو    الباب   من   أتاه   أتاها

ولكن من هذه العلوم الاكتسابية لدي علم لدني ”يفتح لي من كل باب ألف باب“

السيدة العقيلة زينب بطلة كربلاء كانت موئلا ومعدنا للعلم اللدني، أنت بحمد الله معلمة بالعلم اللدني، عالمة غير معلمة، وفاهمة غير مفهمة، ولذلك كانت هي مطلعة على مسيرة الأحداث، ونتائجها من أولها إلى آخرها، نتيجة لعلمها اللدني .

صفحة العظمة:

أي عظمة تجسدت في شخصية بطلة كربلاء العقيلة الحوراء زينب عليها السلام عظمة لا حد لها، ولا وصف لها، عظمة يعجز اللسان أن يحدد ذرة منها.

هناك خلط من بعض القراء بين زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم، وبين زينب العقيلة الكبرى وهي زوجة عبد الله ابن جعفر، والمشهورة بالعقيلة، والمدفونة بأرض الشام على أشهر الروايات، وزينب الصغرى المكناة بأم كلثوم زوجة مسلم ابن عقيل، وهي على بعض الروايات مدفونة بأرض مصر، فهناك زينب الكبرى، وهناك زينب الصغرى، وأحيانا يحصل خلط بين الزينبين، كثير من روايات المصيبة هي تعني زينب الصغرى، ولا تعني زينب الكبرى، كما ذكر الشيخ جعفر التستري في كتابه الخصائص الحسينية، وهو من الفقهاء المعروفين، قال: هناك خلط بين زينب الكبرى، وزينب الصغرى، في كلمات المؤرخين، أو كلمات القراء.

مثلا: زينب التي بكت ليلة العاشر وولولت ومسح الحسين على صدرها، وقالت: أخي ردنا إلى وطن جدنا، قال: «هيهات لو ترك القطا لغفا ونام» هذه زينب الصغرى، وإلا زينب الكبرى كانت عالمة بالموضوع، عارفة بالمسيرة كلها، أولها وآخرها، وما صدر منها شيء في هذا المجال.

مثلا: في يوم العاشر، زينب التي جلست عند جسد الحسين وقت مصرعه هي زينب الصغرى، وأما زينب الكبرى فما خرجت من الخيام، لأنها كانت هي المسؤول عن الإمام السجاد، عن الأيتام، عن الأطفال، كانت المسؤول الأول عن العائلة كلها، وما خرجت من الخيمة حتى أخبرها الإمام زين العابدين بالمصيبة، فخرجت ونطقت بذلك الكلام العظيم حول جسد الحسين.

كذلك الرواية التي تقول بأن زينب نطحت بجبينها مقدم المحمل - إذا صحت الرواية - المقصود بها زينب الصغرى، إذن هناك أحيانا خلط بين زينب الصغرى، وزينب العقيلة.

زينب العقيلة معدن العظمة، والصفحة المشرقة بالجلال والجمال والكمال، زينب العقيلة عظمتها في أنها شريكة الحسين، في أن الحسين حملها مسؤولية يوم كربلاء، في أن الحسين اعتبرها امتدادا له، كما حصل في زمن الإمام العسكري، والإمام الهادي، اعتبروا حكيمة بنت الإمام الجواد بابا للشيعة، المسلمون ما كان يمكنهم في زمن الإمام الهادي والعسكري الرجوع للأئمة للظروف الأمنية، وظروف التقية، فالأئمة أرجعوا الشيعة والمسلمين إلى امرأة وهي حكيمة بنت الإمام الجواد، لأنها كانت عالمة، فقيهة، مطلعة على التشريع وأسراره، فأرجع الإمامان المسلمين والشيعة في ذلك الزمان إلى حكيمة مع أنها امرأة، لكن المرأة قد تفوق ملايين الرجال في عظمتها إذا اتسمت بالكفاءة والجدارة.

الحسين عليه السلام أرجع المسلمين إلى أخته العقيلة زينب حفاظا على الإمام السجاد عليه السلام فكانت مرجعا وملاذا لهم، يرجع إليها في بيان الأحكام، الإمام الحسين ما جعل لها هذا المنصب وهذا الموقع اعتباطا، بل لأن هناك مظاهر لعظمة العقيلة زينب:

الرصيد السياسي:

كانت واعية للأحداث منذ وفاة جدها رسول الله  وعمرها ثلاث سنوات إلى يوم مقتل أخيها الحسين، واعية لتسلسل الأحداث وأهداف هذه المسيرة، والدليل على وعيها السياسي أنها لما قتل الحسين خرجت من الخيمة، ما أعولت ولا ولولت، ولم يصدر منها أي نوع من أنواع الهوان أو الانكسار أبدا، يقول حميد بن مسلم: خرجت تجر أذيالها خفرا وصونا، ولم نكن نعرفها، فقيل: هذه ابنة علي وفاطمة، وصلت إلى الجسد الشريف، مدت يديها من تحت الجسد ورفعته إلى السماء، وقالت: «اللهم تقبل منا هذا القربان» واعية، تعرف أن أهداف الثورة هي الله عز وجل، واعية لأهداف الثورة، وأهداف الحركة، هدف ثورة الحسين إعلاء كلمة الله، وإبقاء دين الله حيا جديدا فاعلا، وربط الأمة بدينها «اللهم تقبل منا هذا القربان» لأنه سفك دمه في سبيلك، كانت تردد كلمات أخيها الحسين «تركت الخلق طرا في هواك، وأيتمت العيال لكي أراك».

الرصيد الروحي:

لم تكن السيدة زينب قلقة أو خائفة، كانت مطمئنة رابطة الجأش، تمر عليها النوائب والمصائب المفجعة والكوارث، وهي لا تتزلزل، ولا تقلق، ولا تهتز أبدا، رابطة الجأش، قوية الإرادة، تملك صمودا حديديا لا تملكه الجبال، دخلت على ابن زياد، فلما رآها ابن زياد وعرفها أراد أن يثيرها، أراد أن يحرك فيها الأشجان، أراد أن يقول لها أنت أنثى، والأنثى عاطفية، تعول وتولول وتنهار، لكنها أثبتت له أنها وإن كانت أنثى لكنها أعظم من الجبال في قوة إرادتها وصبرها.

قال لها ابن زياد: أرأيت صنع الله بأخيك والعتاة المردة من أهل بيتك، قالت: ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، أما سمعت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ قال لها: لقد خرج من الدين أبوك، وأخوك، قالت: بدين أبي وجدي اهتديت، أنت وأبوك إن كنت مسلما، قال لها: الحمد لله الذي فضحكم، وكذب أحدوثتكم، ونصر الأمير عليكم، قالت: إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا نحن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة.

امرأة أمام سلطان جائر، أمام شخص يبطش بكل إنسان، يحوله إلى مشنقة الإعدام، لكنها لم تبال بشيء من سلطانه أو جبروته أو كبريائه، تحدت كل كلامه بصوت هادئ، بقوة إرادة، باطمئنان، بثبات، لتحكي لنا أنها مصداق لقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ كانت مصداق لقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ارتباطها بربها جعلها مطمئنة، هادئة، لذلك كان الإمام الحسين  يوصيها فيقول: «أخية زينب، ولا تنسيني من نافلة الليل» لأنه يعرف حبها للنافلة، حبها للصلاة، علاقتها بالله، وارتباطها بالله، فأوصاها، قال: «أخية زينب، ولا تنسيني من نافلة الليل».

الرصيد الثوري:

امرأة ثائرة بكل معنى الكلمة، حرارة الثورة تتفجر من جوانبها، ما كانت تعرف الاستكانة، ولا الخذلان، ولا التراجع، ولا الانهيار أبدا، كانت تتكلم بكل ثقة، أدخلوها على يزيد ابن معاوية والحبل في عنقها، وجروها وأوقفوها بين يدي يزيد إهانة وإذلالا لها، تصور امرأة فقد أولادها يوم كربلاء، فقدت إخوتها، فقدت عشيرتها كلهم، حملت المسؤولية، عشرين يوما هي تتحمل مسؤولية الأطفال من بلد إلى بلد، تسبى بأعنف صور السبي والإذلال، تضرب، ترفس، يعتدى عليها، ومع ذلك ما وهنت، ولا ضعفت، ولا استكانت، ولا انهارت، إلى أن أدخلوها على يزيد ابن معاوية، وتعمد إذلالها، وإهانتها، تعمد أن يكسر قلبها، لكنها وقفت أمامه، وبمجرد أن استقر المجلس، وأصبح يزيد يتبختر بأنه انتصر على الحسين  التفتت إليه أمام الجماهير المحتشدة، قالت: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السما، أن بك على الله كرامة، وبنا عليه هوانة، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسرورا، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، فمهلا مهلا، لا تطش جهلا، أما سمعت قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، وإن رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

فجرت قنبلة في مجلس يزيد ابن معاوية، هذه المرأة هي ابنة علي وفاطمة، هذه علي وفاطمة، صورة أخرى عن علي وفاطمة، تحمل بطولة علي، وقوة إرادته، وتحمل روح التضحية والبذل من أمها فاطمة الزهراء عليها السلام جمعت بين النورين، نور علي، ونور فاطمة.

من هنا يتبين لنا لماذا أخذها الحسين معه إلى كربلاء، من هنا يتبين لنا السر في قول الحسين: «شاء الله أن يراني قتيلا، وأن يرى النساء سبايا، من هنا يتبين لنا ما معنى أن زينب شريكة الحسين، الحسين قضى، لكن ثورة الحسين كانت تحتاج إلى وسيلة إعلامية قوية، أكبر وسيلة إعلامية امتلكها الحسين هي العقيلة زينب، لسان زينب، صوت زينب، أكبر وسيلة إعلامية نشرت مظلومية الحسين وثورته وأهدافه، لسان زينب وصوتها، فهي من جهة عندما وقفت تتحدى يزيد ابن معاوية أثبتت للأجيال أن الحسين لم يمت، لأن خطه ما زال باقيا في أخته زينب، الحسين كان إرادة، ثورة، انتفاضة، وهذه العناوين كلها بقيت ولم تمت، تجسدت في أخته العقيلة زينب.

إذن فزينب احتفظت بخط الحسين، وإرادته، فزينب امتداد للحسين، العقيلة زينب كانت وسيلة إعلامية تبرهن للأجيال أن الحسين لم ينكسر، أن الحسين لم يمت ما دامت الحركة الثورية موجودة عند العقيلة زينب، وبرهنت للأجيال ظلم يزيد، فوقفت بكل إجلال وقالت: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك، وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا على ظهور المطايا، قد أبديت وجوههن، وهتكت ستورهن، تساق كما تساق العبيد من بلد إلى بلد، يستشرفهن القريب والبعيد، والدنيء والشريف، حيث لا من حماتهن حمي، ولا من ولاتهن ولي، كشفت ما كان يكنه يزيد، كشفت زيف الخلافة الأموية، والسلطة الأموية آنذاك.

العقيلة زينب بهذا الكلام تعلم المرأة المسلمة، والفتاة المسلمة مدى أهمية الحجاب، العقيلة زينب لم يهتك شعرها، كشف الحجاب عن وجهها، لكنها اعتبرت ذلك هتكا لسترها، واعتبرت ذلك اعتداء عليها، العقيلة زينب تبرهن للأمة، للمرأة والفتاة المسلمة أن عليها أن تتحفظ على حجابها، أن الحجاب ليس شكلا، الحجاب ليس مجرد عباءة، الحجاب وقار، عفاف، حياء، لا يكفي أن تلبس العباءة وهي لا تتوقف عن أن تتحدث مع الرجال بحديث مفصل يملأه الضحك والقهقهة، والاقتراب من دون مبالاة، لا يكفي الحجاب وهي تذهب إلى كل مكان، وتسافر إلى كل مكان وحدها بدون أن يكون هناك رقيب أو حفيظ عليها، هذا ليس حجابا حقيقيا، الحجاب الحقيقي هو العفة، الحياء، أن تعرف المرأة أنها قطعة من الحياء والعفاف، هناك جسور وفواصل بينها وبين الانخراط مع الرجال، وبين أن تسافر في كل مكان وحدها، هذا أمر بعيد عن حقيقة الحجاب، الحجاب ليس شكلا وصورة، زينب العقيلة تؤكد على أن الحجاب هو الالتزام باللباس الفضفاض الذي يستر البدن كله، وأن الحجاب معنى عملي وهو عبارة عن الحياء والعفة والوقار.

الرصيد الإثاري:

كان للسيدة زينب مواقف مثيرة، وكانت تصنعها بهدف أن تحرك الواقعة، واقعة الحسين ليست مجرد فكر، وليست مجرد ثقافة، ولكن مع هذه الثقافة وهذا الفكر لهيب عاطفي ووجداني، غليان قلبي، كانت العقيلة زينب تضم إلى ذلك كله اللهيب القلبي، العاطفي، كانت تستخدم بعض المواقف المثيرة حتى تربط الخط الفكري بالخط العاطفي، واللهيب الوجداني بالثقافة الفكرية، رصيدها الإثاري كان رصيدا كبيرا.

2023/07/30
بحث مفصّل: هل كان الإمام الحسين (ع) عالماً بشهادته في كربلاء؟!
قبل الدخول في تفاصيل البحث نرى من الضروري أن نشير إلى ثلاثة أمور كمدخل لأصل البحث، وهي: 1 ـ إمكان علم الغيب ووقوعه

إنّ الإدراك والعلم بالأمور الغائبة والخافية ممكنٌ بشهادة القرآن الكريم والسنة المطهّرة، والتاريخ، والتجارب المتعدِّدة، بل هو واقع ومتحقِّق أيضاً.

هناك من الآيات ما يرى اختصاص علم الغيب بالله سبحانه وتعالى([1])، وفي الوقت نفسه هناك آيات أخرى تتوسّع في علم الغيب، وتثبته لبعض الشخصيات الممتازة، من قبيل: الأنبياء، والأولياء الربانيين عليهم السلام. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً﴾ (الجن: 26). و﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 179).

من خلال التأمل في الآيات النافية لعلم الغيب عن الآخرين، والآيات المثبتة لعلم الآخرين بالغيب، يتضح أنّ المراد من الآيات النافية هو علم الغيب الاستقلالي، بمعنى العلم الذي يحصل عليه الإنسان دون إعلام من الله عز وجل، وأنّ المراد من الآيات المثبتة هو علم الغيب التبعي، بمعنى أن يعلم الإنسان الغيب بتعليم من الله سبحانه وتعالى. وقد وردت في هذا المضمون روايات، منها: ما روي عن الإمام علي عليه السلام أنه أخبر بفتنة المغول والترك، فقال له بعض أصحابه متعجّباً: «لقد أَعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب»! فأجابه الإمام: «لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ»([2]).

ليس هناك من علماء الشيعة، من المتقدِّمين والمتأخِّرين، مَنْ يشكِّك في علم الأئمة بالغيب، وإخبارهم ببعض المغيّبات، بل هناك من المفكرين من أهل السنة مَنْ يقول بهذا المعنى أيضاً([3]). وأدلّ دليل وخير شاهد على ثبوت علم الغيب للأئمة هو صدق ما أخبروا به من حوادث المستقبل، ومن بينها: نبوءات الإمام علي عليه السلام التي دوّنت في كتب التأريخ([4]).

وأما فيما يتعلق بدلالة التجربة والتاريخ على إمكان ووقوع علم الغيب فيجب القول: إنه ليس هناك مَنْ يشكِّك حالياً في أصل هذا النوع من العلوم، بل يتمّ التحقيق في شأنه من قبل المفكرين والعلماء في العالم الغربي تحت عنوان علم الإدراكات الميتافيزيقية (Ex – sensory perception). وهناك بحثٌ متفرّع عن الإدراكات غير الحسية، والتنبؤ بالمستقبل (البصيرة = laivoyance). وقد عبّر عنه بعض المتخصِّصين، مثل: ألكسيس كاريل، وهانس يورغن آيزنك: «إنّ البصر المغناطيسي، وتراسل الأفكار، معلومات أولية للملاحظة العلمية. وفي استطاعة مَنْ وهبوا هذه القوّة أن يستشفّوا أفكار الأشخاص الآخرين السرّيّة، دون أن يستخدموا أعضاءهم الحسّيّة… كما أنهم يحسّون أيضاً بالأحداث السحيقة، سواء من الناحية الفراغية أم من الناحية الزمنيّة»([5]).

وهنا يمكننا أن نشير إلى المتنبئ الغربي الشهير نوستردامس (1503 ـ 1566م)؛ إذ تنبّأ بما سيحدث بعد عصره بقرون([6]).

وبالتالي فإنّ أصل إمكان علم الغيب ووقوعه مسألة متسالم عليها، وقطعية لا غبار عليها.

2 ـ سابقة البحث وجذوره

إنّ الروايات التي تمّ التصريح فيها بعلم الأئمة عليهم السلام بزمان وفياتهم واستشهادهم، وكذلك بإخبارهم بالغيب والأمور الماضية والآتية، تشكل منشأ البحث. وعلاوة على الروايات فإنّ الآيات التي تثبت علم الغيب لبعض الأولياء، والأسئلة والأجوبة المتبادلة بين الناس والأئمة، تحكي عن سابقة البحث، ورجوعها إلى صدر الإسلام. فمثلاً: قد أخبر الإمام علي عليه السلام أنّ قاتله هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي([7]). الأمر الذي أثار بعض التساؤلات الكلامية لدى البعض، ومن ذلك: ذهاب الإمام علي عليه السلام إلى مسجد الكوفة في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة؛ وتناول الإمام الحسن عليه السلام للطعام الذي دست السمّ فيه زوجه جعدة بنت الأشعث؛ وثورة الإمام الحسين عليه السلام التي انتهت باستشهاده. إنّ هذه المسائل الثلاث المتقدمة طرحت من قبل حمران على الإمام الباقر عليه السلام، وأراد منه جوابها([8]). وقد استمرّت المناقشات والتساؤلات المختلفة بشأن تفاصيل علم الأئمة للغيب بعد عصر الأئمة، وحتى عصرنا الراهن، وهذا ما سنتناوله في الصفحات التالية.

3 ـ كيفية علم الأئمة بالغيب

بعد اتضاح إمكان ووقوع علم الغيب بالنسبة للإنسان، وبالنسبة للأئمة بشكل واضح، نشير فيما يأتي إلى بيان مختصر بكيفية علمهم للغيب، في إطار النظريات الأربع التالية:

أـ فعلية علم الإمام بلوح المحو والإثبات، وكذلك اللوح المحفوظ.

ب ـ فعلية علم الإمام بلوح المحو والإثبات فقط.

ج ـ توقف العلم الفعلي للإمام بسؤال الإمام لله سبحانه وتعالى([9]).

دـ التوقف في الذهاب إلى رأي بعينه، وتفويض الأمر إلى الأئمة أنفسهم([10]).

إنّ تحليل وتبيين هذه النظريات الأربعة بحاجة إلى موضع آخر، إلا أننا نكتفي هنا بالتوضيح التالي، وهو: إنه بناءً على النظرية الأولى يكون علم الإمام بزمان ومكان استشهاده أمراً قطعياً ومسلماً؛ وذلك لأنّ اللوح المحفوظ يحتوي على جميع ما يحدث في الكون، دون تغيير أو تبديل، وإنّ اتصال روح الإمام عليه السلام بهذا اللوح يعني علمه بما سيقع في المستقبل من الحوادث، بما في ذلك مكان وزمان استشهاده. وأما النظريتان الثانية والثالثة فإنهما ساكتتان عن علم الإمام عليه السلام بزمان استشهاده؛ وذلك لتحديد علم الإمام ـ طبقاً للنظرية الثانية ـ بلوح المحو والإثبات، وكما هو واضح من اسم هذا اللوح فإنّ ما هو مثبت فيه قابل للمحو، وعليه يحتمل التغيير في الأحداث الواردة فيه، بما في ذلك وقت ومكان استشهاد الإمام. من هنا فقد كان الأئمة عليهم السلام يخبرون في بعض الروايات بساعة موت بعض الأشخاص، فلا يحدث الموت في الوقت المحدَّد، الأمر الذي يثير اعتراضاً لدى البعض، فكان الأئمة يجيبون عن ذلك بقولهم: إنّ أجلهم الطبيعي قد حان، ولكنهم قد أُمهلوا بسبب عمل خير صدر عنهم، من قبيل: الصدقة، التي تزيد في الأعمار.

أما النظرية الثالثة فإنها ترجع علم الإمام بالغيب إلى سؤال الإمام، فيعود البحث إلى تحقُّق السؤال والطلب، بمعنى: هل سأل الإمام الحسين عليه السلام الله تعالى أن يلهمه هذا العلم؟

المسألة الأخرى أنّ أنصار النظريات الثلاث الأخيرة يتمسّكون ـ في خصوص علم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده ـ بأدلة وقرائن خاصة تثبت علم الإمام باستشهاده. وهذا ما سنشير إليه في الصفحات القادمة.

علم الإمام الحسين بزمان استشهاده

بعد بيان النظريات الثلاث المتقدمة، كمدخل لأصل البحث، ندخل في تبيين وتحليل علم الإمام عليه السلام بالزمان الدقيق لاستشهاده.

الرؤية الأولى: رؤية المخالفين للعلم بالشهادة

كان بعض المتقدّمين من علماء الإمامية، والغالبية من علماء أهل السنة، يرفضون علم الإمام الدقيق بزمان استشهاده، ويقولون: إنّ الإمام يعلم باستشهاده على نحو الإجمال، دون معرفة تفاصيل ذلك، فلا يعلم بالزمان الدقيق لاستشهاده (الذي هو اليوم العاشر من محرم الحرام عام 60هـ)، فلم يكشف الله تعالى له ذلك.

أما في القرون المتأخِّرة فقد أصبح القائلون بهذا الرأي يمثِّلون الأقلّية، خلافاً للقرون المتقدّمة؛ إذ كان القائلون به كثراً، وهم من العلماء البارزين، نذكر منهم:

1ـ الشيخ المفيد (413هـ)

فقد خالف علم الإمام بالغيب على نحو مطلق، بحيث يشمل الأسرار والضمائر، وحصر علم الإمام بالغيب بموارد الإعلام الإلهي في بعض الموارد الخاصة، كما في الإجابة عن علم الإمامين علي والحسين عليهما السلام بالغيب، وعدم تبرير ذهاب الإمام علي إلى مسجد الكوفة، وذهاب الإمام الحسين إلى الكوفة وكربلاء، قائلاً: إنّ إجماع الشيعة قائم على علم الإمام بأحكام الشرع فقط. وإليك نصّ عبارته: «إنّ الإمام يعلم ما يكون بإجماعنا: أنّ الأمر خلاف ما قال. وما أجمعت الشيعة قطّ على هذا القول، وإنما إجماعهم ثابتٌ على أنّ الإمام يعلم الحكم في كلّ ما يكون، دون أن يكون عالماً بأعيان ما يحدث، ويكون على التفصيل والتمييز، وهذا يسقط الأصل الذي بنى عليه الأسئلة بأجمعها»([11]).

وفي معرض إنكاره علم الإمام علي عليه السلام بالوقت الدقيق لاستشهاده تحدّث عن علم الإمام الحسين عليه السلام، فقال: «فأما علم الحسين عليه السلام بأنّ أهل الكوفة خاذلوه فلسنا نقطع على ذلك؛ إذ لا حجّة عليه من عقل ولا سمع»([12]).

2ـ السيد المرتضى (436هـ)

فقد اعتبر أنّ تحرّك الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة ناشئ عن ثقة الإمام بوفاء الناس له؛ إذ قال: «أبو عبد الله عليه السلام لم يسِرْ طالباً للكوفة إلا بعد توثُّق من القوم وعهود وعقود، ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحق عن نصرته، ويتفق بما اتفق من الأمور الغريبة»([13]).

3ـ الشيخ الطوسي (460هـ)

فقد تأثَّر في مسألة علم الإمام الحسين عليه السلام بالسيد المرتضى، ونقل نص عباراته في مؤلَّفاته. فمثلاً: قال في معرض جوابه عن الدافع وراء حركة الإمام الحسين وثورته، رغم علمه بكثرة الأعداء، وقلة الناصر، وغدر أهل الكوفة وخيانتهم: «قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنه أنه يصل إلى حقه، والقيام بما فوّض إليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك، وإن كان فيه ضرب من المشقة يحتمل مثلها تحملها. وأبو عبد الله عليه السلام لم يسِرْ إلى الكوفة إلا بعد توثق من القوم وعهود وعقود…، ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف بعضهم عن نصرته، ويتفق من الأمور الطريقة الغريبة»([14]).

وقد قرر الشيخ الطوسي انقسام موقف الإمامية في ما يتعلق بعلم الإمام عليه السلام بزمان استشهاده إلى موافق ومخالف، فقال: «اختلف أصحابنا في ذلك؛ فمنهم مَنْ أجاز ذلك؛ ومنهم مَنْ قال: إن ذلك لا يجوز»([15]).

4ـ الشيخ الطبرسي

فقد توسل في تبريره عدم اعتبار ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده إلقاءً للنفس في التهلكة بأمرين: الأول: إنّ الإمام كان يغلب عليه الظن بأن الأعداء لن يقدموا على قتله؛ والثاني: إنه كان يتصوّر أنه إذا لم يواجه العدو في ساحة المعركة فإن ابن زياد سيدبّر له محاولة اغتيال، ويغدر به، فاختار الاستشهاد والقتل بشجاعة، فقال ما نصّه: «إنّ فعله عليه السلام يحتمل وجهين: أحدهما: إنه ظنّ أنهم لا يقتلونه؛ لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وآله؛ والآخر: إنه غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً، كما فعل بابن عمّه مسلم، فكان القتل مع عزّ النفس مع الجهاد أهون عليه»([16]).

إنّ تعبير الشيخ الطبرسي عن رأي الإمام عليه السلام بالظنّ صريح في أنه لا يرى أنّ الإمام كان على يقين من استشهاده.

ومن بين المعاصرين عمد مؤلف كتاب (شهيد جاويد) إلى شرح هذه النظرية بالتفصيل([17]).

أدلة المخالفين

بعد التعرف إجمالاً إلى الرأي المتقدِّم نشير فيما يلي إلى أدلة القائلين به:

1 ـ إلقاء النفس في التهلكة

إنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام وخروجه من المدينة إلى الكوفة إذا كانت مقرونة بعلمه بمآلها، وما ستنتهي إليه من عدم وفاء أهل الكوفة، واستشهاد مبعوثه (مسلم بن عقيل)، واستشهاد الإمام نفسه وأصحابه، وأسر أهل بيت النبوّة، لن يكون له من تفسير سوى إلقاء النفس إلى التهلكة والموت المحتم، وهو ما نهى عنه القرآن الكريم بشدّة؛ إذ قال تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195).

كانت هذه الشبهة مطروحة في عصر الأئمة الأطهار عليهم السلام، وعصر الشيخ المفيد والسيد المرتضى، وكان يروّج لها المتطرّفون من أهل السنة؛ إذ يهدفون من ورائها إلى سلب القداسة عن حركة الإمام الحسين عليه السلام. وهنا يمكن أن نشير إلى ابن العربي المالكي([18])(540 هـ)، ومن المعاصرين: محبّ الدين الخطيب المصري([19])، والشيخ محمد الطنطاوي([20])، وعبد الوهاب النجار([21]). وحيث كان الشيخ المفيد والسيد المرتضى وغيرهما معاصرين لأهل السنة، الذين كانوا يرددون هذه الشبهة باستمرار، عمدوا إلى إنكار علم الإمام عليه السلام التفصيلي باستشهاده دفعاً لهذه الشبهة، وبذلك لا تكون ثورة الإمام مصداقاً لإلقاء النفس إلى التهلكة.

تحليل ودراسة أـ الآثار المباركة المترتبة على ثورة الإمام الحسين

حيث كان لثورة الإمام الحسين عليه السلام في وجه دولة الجور والفسق والفجور ـ التي كانت تبرر أعمالها بوصفها مظهراً من مظاهر الحكومة الدينية والخلافة النبوية ـ من الآثار أنها كشفت النقاب عن الوجه الحقيقي لحكومة يزيد، وأثبتت أنّ هذا الكمّ الهائل من الظلم والجور لا ينبغي أن يمرَّر على صفحات التأريخ باسم الإسلام، لا تكون ثورة الإمام عليه السلام إلقاءً للنفس في التهلكة.

ب ـ ضرورة الإمام عليه السلام واضطراره

إنّ وجود الإمام عليه السلام وبقاءه نعمةٌ لا تقيّم، وإنّ الإمام نفسه مسؤول عن المحافظة على هذه النعمة، إلا أنه عليه السلام كان قد تنبّه إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الأمويين يخططون لاغتياله خفية([22])، فإنْ تحقَّق لهم ونجحوا في ذلك لن تكون نتيجة ذلك عدم انتفاع الإسلام من استشهاد الإمام فحسب، بل يكون الظلمة والجائرون من حكام بني أمية المستفيد الأكبر؛ إذ نجحوا في إزاحة أكبر سدّ من أمامهم، دون أن يتركوا أثراً يدلّ على ارتكابهم هذه الجريمة الشنعاء. وعليه إذا بادر الإمام وأعلن الثورة، ورفع لواء المعارضة ضد حكم يزيد، فإنه رغم مواجهة الاستشهاد والمصير ذاته يكون قد كسب الكشف عن زيف الأمويين، وأزاح النقاب عن الوجه الكريه لبني أمية. ولذلك بعد أن وجد الإمام الحسين عليه السلام نفسه على مفترق طريقين: عدم الثورة والقتل غيلة؛ والثورة والاستشهاد في ساحة القتال، اختار الطريق الثاني. أو بعبارة أخرى: لم يكن له مندوحة من اختيار هذا الطريق.

ج ـ عدم ضرورة الالتزام بمؤدى علم الغيب

يعتقد القائلون بعلم الأئمة ـ وكذلك الأنبياء ـ بالغيب بأنّ العالمين بالغيب يعتمدون في حياتهم العادية والدنيوية على علمهم العادي والظاهري. ومن باب المثال: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله رغم علمه الغيبي بعدم إيمان أبي جهل ملزمٌ بدعوته إلى الإسلام. وهكذا الإمام الحسين عليه السلام رغم علمه بما سيؤول إليه مصيره في نهضته وثورته، وما سيصدر عن أهل الكوفة من الخيانة، كان يعتمد في سلوكه العلم الظاهري، وهو تلبية آلاف الكتب التي جاءته من أهل الكوفة، فأرسل إليهم مبعوثه مسلم بن عقيل، ثم استجاب لطلب مبعوثه بالقدوم؛ ليكون قد راعى بذلك ظاهر الحال والعلم العادي.

قال العلامة الطباطبائي في شأن سلوك النبي والأئمة العادي على أساس من العلم الظاهري: «إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بنصّ القرآن الكريم ـ وكذلك الإمام عليه السلام من عترته ـ بشرٌ كسائر أفراد البشرية الآخرين، وإنّ الأعمال التي تصدر عنه في مسيرته في هذه الحياة الدنيا مثل أعمال سائر أفراد الناس، تقع في مسار الاختيار، وطبقاً للعلم العادي والظاهري»([23]).

ثمّ تحدث العلاّمة عن سبب إيفاد الإمام الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وتلبيته لكتب أهل الكوفة، فقال: «إنّ الإمام عليه السلام قد عمل في هذه الموارد ونظائرها طبقاً للعلوم التي يحصل عليها من خلال مجاري العادة والشواهد والقرائن الظاهرية، ولم يقُمْ بأيّ عمل من شأنه دفع الخطر الحقيقي الذي كان يعلم به؛ إذ يعلم أيضاً أن ذلك لن يجديه شيئاً؛ إذ هو من القضاء المحتوم الذي لا يغيّر ولا يُبدّل»([24]).

د ـ إتمام الحجّة

بغية تكميل المسألة المتقدّمة نشير إلى أنّ الإمام إذا لم يستجب لمضمون الكتب التي بعث بها إليه آلاف الكوفيين لسجلوا أنفسهم ـ رغم ما هم عليه من الخيانة وعدم الوفاء ـ أبطالاً على طول التأريخ، ولأمكنهم الاحتجاج على الإمام الحسين عليه السلام عند الله تعالى بأنهم قد دعَوْه لقيادتهم، ولكنه رفض دعوتهم في الثورة على يزيد ونظام حكمه الجائر. وبعبارة أخرى: كي تتمّ الحجّة عليه وعلى الناس كان الإمام ملزماً برعاية ظاهر الحال والعلم العادي، وأما إذا سلكوا الطريق الذي يقتضيه علمهم بالغيب فسوف تترتب على ذلك الكثير من المحاذير والمشاكل.

وهذا ما تؤيِّده رواية مأثورة عن الإمام علي عليه السلام، حيث قال فيها: إنه كان على علم بأنّ أبا موسى الأشعري سوف ينخدع بمسألة التحكيم، ولما سأله أحد أصحابه عن سبب قبوله باختيار الناس له حَكَماً ما دام يعلم بذلك أجابه الإمام عليه السلام قائلاً: «يا بني، لو عمل الله في خلقه بعلمه ما أقبل عليهم بالرسل»([25]).

وحاصل القول: إنّ الدليل الأول الذي أقامه المخالفون لا يمكن أن يُثبت مدَّعاهم. وأما ما ذهب إليه بعض المعاصرين من توجيه رأي الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي بأنّ مرادهم إنكار العلم بحسب الظاهر، بمعنى أنّ الإمام عليه السلام بحسب الظاهر والعلم العادي لم يكن عالماً بزمن استشهاده، وأما بحسب الباطن فكان يعلم بذلك([26])، فهو مخالف لظواهر عباراتهم.

2 ـ القرائن والشواهد التاريخية

وأما ثاني أدلة المخالفين فيتمثل في الشواهد والقرائن التاريخية، بمعنى أننا عندما ننظر في أسلوب حركة الإمام الحسين عليه السلام وتخطيطه ندرك أنه في سفره هذا لم يكن ليعلم بالتوقيت الدقيق لاستشهاده؛ إذ بعد موت معاوية، وتسنّم يزيد وتربُّعه على دست الحكم، وهو شخص شارب للخمر، ملاعب للقرود، معروف لدى الصحابة باستهتاره وتهتكه، وجد الإمام الحسين عليه السلام الفرصة مناسبة لإقامة الحكومة الدينية. كما كان رفض أهل المدينة البيعة ليزيد، ووصول آلاف الكتب من أهل الكوفة تدعوه إلى القدوم إليهم، والتي كانت بمنزلة البيعة له، عاملاً وعنصراً مشجِّعاً للإمام الحسين على المبادرة بثورته المسلحة ضدّ يزيد. من هنا رحّب الإمام الحسين بدعوة أهل الكوفة له، فأرسل ابن عمّه (مسلم بن عقيل) بوصفه سفيراً له؛ بغية التمهيد للثورة، والوقوف على حقيقة الأمر، وإبلاغه بما عليه واقع الناس هناك.

والشاهد الثاني عدم حركة الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة إلا بعد وصول كتاب مسلم يخبره بتوفُّر الأرضية المناسبة للثورة وإقامة الحكومة.

وما إلى ذلك من الشواهد الأخرى التي تثبت قصد الإمام إلى إقامة حكومة إسلامية، وهذا لا ينسجم مع الرؤية القائلة بعلم الإمام التفصيلي بزمان استشهاده([27]).

تحليل ودراسة 1ـ تناغم الشواهد التاريخية مع العلم الظاهري والعادي للإمام

إنّ أقصى ما يُثبته هذا الدليل اهتمام الإمام بالشواهد التاريخية. وهذا لا ينكره الموافقون؛ فإنّ القائلين بعلم الإمام عليه السلام بالغيب ـ كما سبق أن ذكرنا ـ يعتقدون بأنّ الإمام مأمور في تحرّكه وسلوكه بالعلم على طبق علمه العادي والظاهري. وعليه فإنّ ما قام به الإمام الحسين من استجابته لأهل الكوفة، وإرسال سفيره مسلم بن عقيل، يستند إلى علمه العادي والظاهري. وهذا لا ينافي علم الإمام بالغيب.

2ـ تكافؤ الشواهد التاريخية

هذا عدا عن وجود أدلة وشواهد تاريخية أخرى تعارض وتتكافأ مع الشواهد المذكورة في نصّ الدعوى المتقدمة. فطبقاً لهذه الشواهد نجد الإمام قد عزم على التوجّه إلى كربلاء، لا من أجل إقامة الحكومة، بل امتثالاً لما هو مأمور به ضمن خطّة مقرَّرة في علم الله، وهو ما أكّد عليه الإمام نفسه في أكثر من مناسبة. وعليه تكون الشواهد التاريخية متعارضة، ولا يمكن ترجيح بعض الشواهد على الشواهد الأخرى. ولكي نتخذ الموقف المناسب والصحيح يجب الرجوع إلى غير الشواهد التاريخية([28]).

وخلاصة القول: إنّ أدلة الذاهبين إلى إنكار علم الإمام عليه السلام بزمان استشهاده لا تنهض لإثبات ما ذهبوا إليه.

الرؤية الثانية: الموافقون للعلم بالشهادة

إنّ القائلين بعلم الإمام عليه السلام بالغيب ـ رغم الاختلاف في تفسير علم الأئمة بالغيب، وقد تقدم ذكر أربعة منها ـ مجمعون على علم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده، ويسوقون لذلك بعض الشواهد الخاصّة. وفيما يلي سنعمد أولاً إلى ذكر بعض القائلين بهذه الرؤية، وهم:

1ـ الشيخ الصدوق

فقد ذهب هذا العَلَم إلى القول بعلم الإمام المطلق بجميع الأمور المرتبطة بشخصه، سواء في ذلك ما كان وما سوف يكون. ويشمل هذا الرأي علم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده. فقد قال الشيخ الصدوق في ذلك: «اعتقادنا فيهم أنهم معصومون، موصوفون بالكمال والتمام، والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص، ولا عصيان، ولا جهل»([29]).

2ـ ابن طاووس

قال: «والذي حقَّقناه أنّ الحسين عليه السلام كان عالماً بما انتهت حاله إليه، وكان تكليفه ما اعتمد عليه»([30]).

3ـ المحدّث البحراني

قال: «إنّ رضاهم بما ينزل بهم من القتل والسيف أو السم، وكذا ما يقع من الهوان على الدين من أعدائهم الظالمين، مع كونهم عالمين، قادرين على دفعه، إنما هو لما علموه من كونه مرضيّاً له سبحانه وتعالى، مختاراً بالنسبة إليهم، وموجباً للقرب من حفرة قدسه»([31]).

4ـ المحقق اللاهيجي

قال: «إنهم يعلمون متى يموتون»([32]).

5ـ العلامة المجلسي

قال: «الحسين عليه السلام كان عالماً بغدر أهل العراق، وإنه سيستشهد هناك مع أولاده وأقاربه وأصحابه… الظاهر من الأخبار أنه عليه السلام كان عالماً بشهادته، ووقتها، وكان ينتظرها، ويُخبر بوقوعها»([33]).

إنّ هذا الرأي هو مذهب أكثر العلماء والمفكِّرين من المعاصرين. وفيما يلي نشير إلى بعض هؤلاء العلماء المعاصرين:

6ـ الشيخ جعفر الشوشتري

قال: «قد علم عليه السلام بأنه يقتل؛ فقال لأصحابه: أشهد أنكم تقتلون جميعاً…»([34]).

7ـ المحقق الإصفهاني

قال: «إنّ الإمام قبل حركته من مكة، وحتى عندما خرج من المدينة، كان يعلم بجميع أحداث كربلاء، بل وحتى أحداث ما بعد كربلاء من سبي أهل بيت العصمة، ولذلك فقد حمل معه عياله وحرمه»([35]).

8ـ العلامة الطباطبائي

قال: «إنّ للإمام ـ طبقاً للأخبار الكثيرة ـ مقاماً من القرب الإلهي، ولذلك يستطيع العلم بكلّ ما يريد علمه بإذن من الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك علمه التفصيلي باستشهاده، وجميع ما سيجري عليه وعلى أهل بيته»([36]).

9ـ الشهيد مرتضى مطهري

يذهب الأستاذ الشهيد مطهري إلى عدم التمكّن من إثبات علم الإمام أو عدم علمه عليه السلام بزمان استشهاده من ناحية الأحداث التاريخية. وعليه فقد مال في إثبات علم الإمام عليه السلام بالغيب إلى البعد المعنوي والعلمي لشخصية الإمام عليه السلام، فقال: «إنّ الإمام على المستوى الآخر المتمثّل بمستوى الإمامة كان يعلم بأنه سينتهي إلى كربلاء، وأنه سوف يستشهد هناك»([37]).

10ـ الشيخ محمد تقي الجعفري

قال العلامة الشيخ محمد تقي الجعفري، بعد إشارته إلى المراتب العلمية والمعنوية للأئمة عليهم السلام: «إنّ مجموع ما تقدّم يمكنه بوضوح أن يُثبت إمكان علم الإمام الحسين باستشهاده في واقعة كربلاء ـ كما كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يعلم بقاتله، واللحظة التي سيضرب فيه على رأسه بالسيف، وهي ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ـ، إلا أنه لا يرقى إلى ذلك العلم المطلق الذي هو مختصّ بذات الله تعالى»([38]).

كما كان كلٌّ من الشيخ محمد صالح المازندراني([43])، والشيخ كاشف الغطاء([44])، والعلامة الأميني([45])، والميرزا حبيب الله الخوئي([46])، والشهيد القاضي الطباطبائي([47])، والشيخ علي پناه الاشتهاردي([48])، ومراجع الدين، مثل: السيد حسين البروجردي، والسيد محمد رضا الگلبايكاني، والشيخ محمد علي الأراكي، والسيد المرعشي النجفي([49])، ممَّن ذهب من المعاصرين إلى القول بعلم الإمام عليه السلام بالغيب.

وقد ألَّف الشيخ صافي الگلبايكاني كتاب (شهيد آكاه)([50]) في نقد كتاب (شهيد جاويد)([51])، وهو أكثر الكتب تفصيلاً في هذا المجال.

أدلة الموافقين

بعد التعرّف على أنصار نظرية علم الإمام عليه السلام بزمان استشهاده ندخل في بيان الأدلة والشواهد التي أقامها هؤلاء على مذهبهم هذا:

1 ـ منزلة الإمامة العلمية والمعنوية

إنّ هذا الدليل بحاجة إلى تفصيل أكبر، ولكننا نكتفي هنا بذكره على نحو مختصر، على الشكل التالي:

إنّ ذات الباري تعالى، المستجمعة لكافة الصفات الكمالية واللامتناهية، هي علّة العلل، والمفيضة لجميع الوجودات الممكنة، وإنّ الصادر الأول ـ طبقاً للروايات وما هو محقَّق في الفلسفة ـ هو الوجود النوراني للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله والخمسة من أصحاب الكساء عليهم السلام. وإنّ وجود وخلق سائر الممكنات تابع لوجودهم النوراني. وقد ورد في ذلك روايات أيضاً. وقد أفرد العلامة المجلسي فصلاً لذلك تحت عنوان: (باب بدء خلقهم وطينتهم وأرواحهم) في كتابه «بحار الأنوار»([52])، من قبيل: «أوّل ما خلق الله نوري»([53]).

وروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «فنحن أوّل خلق الله»([54]).

وقد ثبت في الفلسفة بالدليل أنّ وجود المعلول نور وشعاع عن وجود العلة. ولذلك تكون العلة على الدوام محيطة بمعلولها، ويكن المعلول حاضراً عندها بالعلم الحضوري. ولما كان الوجود القدسي للإمام الحسين عليه السلام متقدّماً على عالم الطبيعة في سلسلة العلل فهو من هذه الناحية عالم بحوادث عالم الطبيعة، بما في ذلك موته، وانتقال روحه القدسي إلى عالم المجرّدات.

وقد قال العلامة الطباطبائي في تقرير هذا الدليل: «إنّ الإمام بحسب مقامه النوراني أكمل إنسان في عصره، وهو مظهر تامّ لأسماء الله وصفاته، وعالم بكلّ شيء بالفعل، ومطلع على جميع الوقائع الشخصية. وبحسب وجوده العنصري والمادي كلما توجّه إلى ناحية انكشفت له الحقائق، وتجلَّت له بوضوح»([55]).

وقد أشار العلاّمة إلى قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام: 75)، فقال: «فالإمام يجب أن يكون إنساناً ذا يقين، مكشوفاً له علم الملكوت، متحقِّقاً بكلمات من الله سبحانه، وقد مرّ أنّ الملكوت هو الأرض، الذي هو الوجه الباطن من وجهَيْ هذا العالم»([56]).

وقال العلامة محمد تقي الجعفري أيضاً: «إنّ المقام الرفيع لإمامة هؤلاء الأئمة عليهم السلام يفوق الطبيعة، وهذا ما يمكِّنهم من علم الغيب، والاطلاع على المستقبل»([57]).

وقد تمّت الإشارة إلى هذا الأصل المذكور في بعض الروايات. فقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: «فإنه لا يبلغ أحدٌ من شيعتنا حدّ الاستبصار حتى يعرفني بالنورانية، فإذا عرفني بها كان مستبصراً بالغاً، قد خاض بحراً من العلم، وارتقى درجة من الفضل، واطلع على سرّ من سرّ الله ومكنون خزائنه»([58]).

وبتقرير عرفاني يمكن القول: إنّ كلّ اسم من أسماء الجمال والجلال الإلهي يستدعي مظهراً خاصاً في عالم الوجود، فالشيطان مثلاً مظهر لاسم الله المضلّ، وإنّ الأولياء والأفراد الكاملين من الناس هم مظهر صفات الجمال، ومنها: صفة العلم وعلاّم الغيوب، فهم يتمتعون بذات علم الله الغيبي، ولكنهم يمتازون عنه في الذاتي وغير الذاتي (الاستقلال وعدم الاستقلال)، فالله عالم بالذات والاستقلال، وهم عالمون بالتَّبع والعرض([59]). من هنا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام؛ بوصفه واحداً من أصحاب الكساء الخمسة، متقدّم في وجوده النوراني على عالم الخلق، فهو مظهر من مظاهر صفات الله الكمالية، بما في ذلك صفة العلم والشهادة، وبذلك يكون عالماً بالأسرار الغيبية، ومنها: زمان استشهاده.

2 ـ الشواهد التاريخية

منذ بداية ثورة الإمام الحسين عليه السلام وخروجه من المدينة كان جميع من حوله من الشخصيات البارزة على يقين من عدم انتصاره الظاهري والعسكري، فقد عمدوا إلى إجراء معادلة حسابية ورياضية بسيطة، قارنوا فيها بين عدّة الحسين وما عليه يزيد والجهاز الحاكم من العدّة والعدد، فتبينوا ما سوف يتمخّض عنه الواقع، فبادروا إلى بذل النصح، وسعوا إلى ثني الإمام عليه السلام عن عزمه. ومن جملة هؤلاء: عبد الله بن عباس، ومحمد بن الحنفية، وأم سلمة زوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ومسور بن فحرمة، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن جعدة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مطيع، وعمرو بن سعيد، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد([60]). فهنا نتساءل: هل كان الإمام هو الوحيد الذي جهل هذه المعادلة، فيدركها جميع أبناء عصره وجيله دونه؟!

إنّ الحقيقة التي تقودنا إلى الإجابة عن هذا السؤال هي الطريقة التي أجاب بها الإمام الحسين عليه السلام عن جميع التساؤلات التي أبداها له الناصحون، وقالها لجميع مَنْ حاول تشجيعه وثنيه عن التوجُّه إلى الكوفة. فبدلاً من تبرير ما هو مقدم عليه، وطمأنتهم بأنّ الأمر سيكون على خلاف ما توقَّعوه، كان يتحدث عن المصير، والقضاء الإلهي المحتوم، ويبيّن لأنصاره أنهم مقدمون على عملية استشهادية متوّجة بالنصر الخالد عبر الأجيال، ومن ذلك: قوله: «من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح». وقد بيّن أنّ إرادة الله عزّ وجل قد تعلقت بما هو مُقدِم عليه.

والذي يؤكد هذه الحقيقة أنّ الإمام لم ينثنِ عن عزمه وقراره، حتى بعد أن بلغه خبر استشهاد مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وقيس بن مسهر الصيداوي، ونقض أهل الكوفة لعهودهم، وأخبر أصحابه بأن يوطنوا النفس على الشهادة، وأن مَنْ تبعه طلباً للعافية وحطام الدنيا لن يحصل من ذلك على شيء، وهذا ما سنذكره في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

3 ـ الروايات الخاصّة

الدليل الثالث على علم الإمام الحسين عليه السلام بالغيب وزمان استشهاده روايات عديدة ومتنوّعة، تدل بأجمعها على هذا المدعى. ونشير إليها على النحو التالي:

3ـ 1ـ علم الإمام بالماضي والمستقبل

وردت أخبارٌ متعدّدة تثبت علم الأئمة عليهم السلام بما مضى وما يأتي، وهذا يستلزم علم الإمام بزمان وفاته واستشهاده. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «لو كنت بين موسى والخضر‘ لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولنبّأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأنّ موسى والخضر أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتّى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وراثة»([61]).

وإنّ من بين مصادر العلم بالحوادث الماضية والآتية كتب: الجفر، والجامعة، ومصحف فاطمة÷، التي يتوارثها الأئمة فيما بينهم. وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال في وصف مصحف فاطمة، الذي هو بإملاء جبرئيل وخط الإمام علي  عليه السلام: «أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون»([62]).

3ـ 2ـ العلم بزمان الوفاة

الصورة الثانية روايات أخصّ، وهي التي تتحدّث عن علم الأئمة بزمان وفياتهم. وإنّ بعض تلك الروايات لا تكتفي بمجرّد إثبات علم الأئمة بزمان وفياتهم فحسب، بل ترى ذلك من خصائص الإمامة. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «أيّ إمام لا يعلم ما يصيبه، وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجّة لله على خلقه»([63]).

كما عقد الشيخ الكليني في ذلك باباً في كتابه «أصول الكافي»، تحت عنوان: (إنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون).

3 ـ تنبّؤ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام

نقلت النصوص الروائية الشيعية والسنية على حدّ سواء أخباراً متواترة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يخبر فيها عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. فلا يستطيع المخالفون التشكيك في صحة سندها بعد بلوغها حدّ التواتر، ولكنهم قالوا في معرض الإجابة عنها: إنّ هذه الروايات المتواترة قد أخبرت عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في أرض كربلاء على نحو الإجمال، ولم تذكر زمن وقوع هذه الحادثة بشكل صريح ودقيق.

وللإجابة عن هذا الكلام ينبغي القول: إنّ هذه الروايات المتواترة قد أشارت إلى مكان استشهاد الإمام الحسين بكلمات من قبيل: كربلاء، والطف، وأرض العراق، وشطّ الفرات([64]). وحيث كان الإمام الحسين قد عقد العزم على التوجّه إلى كربلاء، وظهرت المؤشرات على خيانة أهل الكوفة ونكثهم لعهودهم، يتضح أن زمان تحقق نبوءة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد قرب، وأنّ الإمام الحسين حتى إذا لم يكن يعلم بزمان استشهاده بدقة، ولكنه يعلم علم اليقين أنّ حركته نحو كربلاء ستنتهي باستشهاده.

علاوة على ذلك فإنني، ومن خلال استقراء أجريته على بعض الروايات، توصَّلتُ إلى أنّ البعض منها يحدِّد يوم وسنة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.

فقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنه حدد سنة استشهاد الإمام الحسين برأس عام (60هـ)، المقارنة لبداية محرم الحرام الشهر الأول من عام (61هـ)، وهو الشهر الذي استشهد فيه الإمام أبو عبد الله عليه السلام؛ إذ قال صلى الله عليه وآله: «يقتل الحسين على رأس ستين من هاجري»([65]). وفي رواية أخرى حدَّد الإمام علي عليه السلام الشهر واليوم الذي يُقتل فيه الحسين؛ وذلك إذ يقول: «والله، لتقتلنّ هذه الأمة ابن نبيها في المحرّم لعشر مضين منه»([66]).

3ـ 4 ـ موقف الأئمة اللاحقين

إنّ الدليل السابق كان يقوم على روايات مروية عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام تحدد زمان استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. أما الدليل الذي بين أيدينا فيحدِّد موقف بعض الأئمة الآخرين، الذين يفيد نفس المعنى.

لقد أشار الإمام الصادق عليه السلام من خلال الاستناد إلى حركة وأسلوب الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام، واستشهادهم، إلى القضاء والقدر الإلهي، وأنّ ذلك إنما كان مصحوباً بأصل اختيارهم وعلمهم عليهم السلام، الذي حصلوا عليه من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله؛ وذلك حيث قال عليه السلام: «إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم، وقضاه، وأمضاه، وحتّمه على سبيل الاختيار، ثمّ أجراه؛ فبتقدّم علم إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله قام عليّ والحسن والحسين»([67]).

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام أشارت إلى أنّ الإمام علي عليه السلام كان يعلّم أصحابه علم الغيب في ما يتعلق ببعض المنايا والبلايا. وهنا أشكل أحد الحاضرين على الإمام الصادق، وقال: لماذا لم تحصل أنت على مثل هذا العلم؟ فأجابه الإمام قائلاً: «ذلك بابٌ أغلق، إلا أنّ الحسين بن علي عليه السلام فتح منه شيئاً يسيراً»([68]).

3 ـ 5 ـ مواقف وكلمات الإمام الحسين عليه السلام

انتهينا حتى الآن من بيان زمن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام من زاوية علم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسائر الأئمة عليهم السلام. وهنا سنتعرّض ـ كمسك ختام ـ إلى المسألة من زاوية كلمات ومواقف شخص الإمام الحسين، الأمر الذي يُثبت علمه عليه السلام بزمن استشهاده، وذلك على النحو التالي:

1ـ حاولت زوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أم سلمة أن تصرف الإمام عن عزمه في التوجّه إلى الكوفة، فقال لها: «يا أمّه، إن لم أذهب اليوم ذهبت غداً، وإن لم أذهب غداً ذهبت بعد غد. إني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، والساعة التي أقتل فيها، والحضرة التي أدفن فيها»([69]).

2ـ كما سعى محمد بن الحنفية إلى ثنيه عن قراره، فأجابه الإمام عليه السلام قائلاً له: «أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، اخرج إلى العراق، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»([70]).

3ـ وفي جوابه عن نصيحة ابن عباس يعلمه بمكان استشهاده، معلناً أنّ أمنيته أن يترك هذه الدنيا: «أنا أعرف بمصرعي منك، وما وكدي من الدنيا إلا فراقها»([71]).

4ـ لقد أكّد الإمام بعد مغادرة المدينة ودخوله إلى مكّة المكرّمة على استشهاده ومَنْ يسير في ركابه، كما جاء في رسالة له بعث بها إلى محمد بن الحنفية، قال فيها: «أما بعد فإنّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام»([72]).

5ـ عند التحاق زهير بن القين بركب الإمام الحسين عليه السلام أخبره الإمام باستشهاده، وحمل رأسه المبارك إلى مجلس يزيد: «يا زهير، اعلم أنّ هاهنا مشهدي، ويحمل هذا ـ يعني رأسه ـ من جسدي زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد، يرجو نائلة، فلا يعطيه شيئاً»([73]).

6ـ استيقظ الإمام الحسين عليه السلام في بعض المنازل [منزل ثعلبة] من نومه، فأخبر عن سماعه هاتفاً يُبشره بالجنة: «قد رأيت هاتفاً يقول: أنتم تسرعون، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة»([74]).

7ـ قال الإمام الحسين بعد سماعه خبر استشهاد هاني بن عروة وعبد الله بن يقطر: «أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبد الله بن يقطر. وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير ذي حرج، ليس عليه ذمام»، فتفرّق الناس عنه([75]).

8ـ التقى عمرو بن لوزان الإمام الحسين عليه السلام، فأقسم عليه أن ينصرف عن قصده، فأخبره الإمام بعلمه بمصيره وغدر أهل الكوفة به، فقال: «يا عبد الله، ليس بخفي عليّ الرأي، وإنّ الله تعالى لا يغلب على أمره، والله، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي…»([76]).

9ـ أخبر الإمام الحسين عليه السلام في بعض المنازل [منزل بطن عقبة] عن رؤيا رآها في المنام عن كلاب تنهشه، ففسَّرها بأنه سيقتل، حيث قال: «ما أراني إلاّ مقتولاً، قالوا: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: رؤيا رأيتها في المنام، قالوا: وما هي؟ قال: رأيت كلاباً تنهشني، أشدّها عليّ كلب أبقع»([77]).

10ـ كان الإمام الحسين عليه السلام يكثر من ذكر اسم يحيى بن زكريا، الذي استشهد، وحمل رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، الأمر الذي يحكي عن أنه سيلاقي ذات المصير([78]).

11ـ لدى وصول الإمام الحسين إلى كربلاء تكلم بكلمات عديدة، تدل على علمه بزمان ومكان استشهاده، ممّا لا مجال لذكره في هذا المختصر([79]).

المسألة الجديرة بالذكر فيما يتعلق بأسناد الكلمات المنسوبة إلى الإمام، وكذلك الشواهد التاريخية الأخرى، هي أنّ بعض هذه الأسانيد تدعو إلى التأمل، إلا أننا من خلال ملاحظة مجموع هذه الأحاديث والروايات نحصل على نوع من التواتر المعنوي القائم على علم الإمام بزمان استشهاده.

حصيلة البحث

ذكرنا في مستهلّ البحث أن إمكان علم الغيب لبعض الناس ليس فيه أي إشكال، بل هو واقع ومتحقِّق. فإذا ثبت ذلك لبعض الناس العاديين كان ثبوته للأنبياء والأئمة من باب أولى.

فيما يتعلق بعلم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده يذهب غالبية أهل السنة ـ طبقاً لعدم إيمانهم بالإمامة على النحو الذي يؤمن به الإمامية ـ إلى إنكار الفضائل الخاصة بالأئمة عليهم السلام، من قبيل: العصمة، وعلم الغيب. وهذا ما التزموا به في موضوع علم الإمام الحسين باستشهاده أيضاً. وأما عند الإمامية فهناك رؤيتان مختلفتان: الرؤية الأولى: تنسب إلى علماء الإمامية الأوائل، من قبيل: الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، من الذين ينكرون علم الإمام الحسين بزمان استشهاده. ويبدو أنّ هذا الإنكار جاء في سياق دفع إشكال من قبل بعض علماء أهل السنة، يقوم على أنّ الالتزام بعلم الإمام بزمان استشهاده، وعدم أخذ الحيطة والحذر، إلقاء للنفس في التهلكة، كما تشهد بذلك عباراتهم. ولكننا أشرنا في تحليلنا للإشكال السابق إلى أنه مع فرض العلم بزمان الاستشهاد لا يكون في مواجهة المصير المحتوم إلقاء للنفس إلى التهلكة. كما استدل المنكرون لعلم الإمام بالغيب بالشواهد التاريخية. وهي شواهد مخدوشة، بالإضافة إلى معارضتها لشواهد تاريخية أخرى. وعليه لا تكون وجهة نظر المخالفين قائمة، ولا ثابتة. وفي المقابل الرؤية الثانية القائمة على علم الإمام بالغيب، بما في ذلك علم الإمام الحسين عليه السلام بزمان استشهاده، وهو اختيار جميع علماء الإمامية البارزين طوال القرون الأخيرة، مستدلين لذلك بالأدلة العقلية (المقام العقلي والمعنوي للإمام)، والأدلة النقلية (الشواهد التاريخية، والروايات بمختلف العناوين)، الأمر الذي يعزِّز من قوّة هذا الرأي.

ترجمة: حسن علي حسن الهوامش: (*)الشيخ محمد حسن قدردان قراملكي - أستاذ في مركز الدراسات الثقافية الإسلامية، ومن أبرز المهتمين بعلم الكلام المدرسيّ في إيران. ([1]) النمل: 65؛ الأنعام: 59. ([2]) نهج البلاغة، الخطبة: 128؛ وكذلك انظر: الشيخ المفيد، الأمالي: 35؛ بحار الأنوار 26: 104؛ مجمع البيان 3: 261؛ الميزان في تفسير القرآن 20: 131. ([3]) انظر: مقدمة ابن خلدون: 216، 344، الفصل 53؛ السيد الشريف، شرح المواقف 6: 22؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 5: 3، شرح الخطبة رقم: 92، 149. ([4]) انظر: نهج البلاغة، الخطبة: 93، 128،175، 189؛ ميزان الحكمة 7: 310. ([5]) انظر: الدكتور ألكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول: 136 ـ 137، مكتبة المعارف، ط1، بيروت، 2003م؛ هانس يورغن آيزنك، الصائب والخاطئ في علم النفس: 92. ([6]) ومن جملة ما تنبأ به: نهاية السلطة الكنسية، وإعلان الجمهورية الفرنسية عام 1792م، واقتلاع عين ملك فرنسا، وموته بتأثير ذلك عام 1559م، وسقوط سجن الباستيل، وظهور نابليون. والمهم في البين أنّ نوستردامس كان يسند مغيّباته إلى النور واللطف الإلهي (انظر: شرف الدين أعرجي، تنبؤات نوستردامس). ([7]) انظر: الشيخ المفيد، الإرشاد: 151؛ كشف الغمّة 1: 581. ([8]) أصول الكافي 1، باب نادر في ذكر الغيب، باب أنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، باب أنّ الأئمة يعلمون ما كان. ([9]) لمزيد من الاطلاع في شأن هذه النظريات الثلاث المذكورة آنفاً يمكن الرجوع إلى: الشيخ المفيد، المسائل العكبرية، المسألة 20؛ الشيخ الطوسي، تمهيد الأصول في علم الكلام: 814؛ السيد المرتضى، الذخيرة في علم الكلام: 436؛ ابن شهرآشوب، متشابه القرآن ومختلفه: 211؛ الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 1: 182؛ الميرزا القمي، قوانين الأصول: 226؛ والآخوند الخراساني، كفاية الأصول 1: 373؛ الملا صالح المازندراني، شرح أصول الكافي 5: 364، 388؛ العلامة الأميني، الغدير 5: 59؛ العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان 1: 273؛ الملا محسن الفيض الكاشاني، كتاب الوافي 3: 593. ([10]) انظر: الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 224، الطبعة القديمة. ([11]) المسائل العكبرية، المسألة 20. ([12]) المصدر السابق. ([13]) تنـزيه الأنبياء: 436، منشورات المطبعة الحيدرية، الطبعة الثانية، النجف الأشرف، 1379هـ. ([14]) تلخيص الشافي 4: 182 ـ 183، دار الكتب الإسلامية، قم المقدّسة، 1394هـ. ([15]) المصدر السابق، 189 ـ 190. ([16]) تفسير مجمع البيان 1: 289، تفسير الآية 165 من سورة البقرة. ([17]) انظر: صالحي نجف آبادي، شهيد جاويد (الشهيد الخالد). ([18]) انظر: القاضي ابن العربي المالكي، العاصم من القواصم: 232. ([19]) انظر: المصدر السابق، التعليقات. ([20]) انظر: مجلة رسالة الإسلام، السنة 11، العدد 1: 85، القاهرة. ([21]) انظر: هامش تاريخ الكامل، لابن الأثير 3: 37. ([22]) انظر: الشيخ المفيد، الإرشاد: 234؛ إعلام الورى: 137؛ تفسير مجمع البيان 1: 289؛ المحقق الإصفهاني، حسين كيست؟ (من هو الحسين؟): 325؛ كاشف الغطاء، جنة المأوى: 208. ([23]) العلامة الطباطبائي، بحثي كوتاه درباره علم إمام (بحث مختصر في علم الإمام): 44، مع مقدمة الشهيد القاضي الطباطبائي، تبريز، 1396هـ. ([24]) المصدر السابق: 43. ([25]) بحار الأنوار 41: 310. ([26]) انظر: القاضي الطباطبائي، مقدمة بحثي كوتاه درباره علم إمام (بحث مختصر في علم الإمام). ([27]) لمزيد من الإيضاح انظر: كتاب شهيد جاويد (الشهيد الخالد). ([28]) انظر: الشهيد مرتضى مطهري، حماسه حسيني (الملحمة الحسينية) 3: 188 ـ 189. ([29]) اعتقادات الإمامية: 99. ([30]) الملهوف على قتلى الطفوف: 11، منشورات المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1369هـ. ([31]) أحكام القرآن 1: 319، نقلاً عن: عبد الرزق المقرم، مقتل الحسين: 44، دار الكتب الإسلامية، النجف الأشرف. ([32]) گوهر مراد: 594. ([33]) مرآة العقول 3: 124؛ بحار الأنوار 45: 98. ([34]) خصائص الحسين: 30، 42، الطبعة القديمة. ([35]) حسين كيست؟: 325، كتاب فروشي فروغي، طهران. ([36]) نقلاً عن: محمد علي الأنصاري، دفاع عن الحسين الشهيد: 93، (المقدمة)؛ وانظر: بحث مختصر في علم الإمام: 34. ([37]) حماسه حسيني (الملحمة الحسينية) 3: 189. ([38]) مقالة: (چشمه خورشيد)، المنشورة في سلسلة مقالات كنكره بين المللي إمام خميني وفرهنگ عاشوراء، الكتاب الأول 2: 27، طهران، 1374هـ ش. ([39]) صحيفة النور 1: 174، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران. ([40]) المصدر السابق 3: 182. ([41]) المصدرالسابق 4: 15. ([42]) المصدر السابق 18: 140. ([43]) شرح أصول الكافي 6: 37، 40، 84، مع تعليقات أبي الحسن الشعراني، المكتبة الإسلامية، طهران، 1385هـ. ش. ([44]) جنة المأوى: 207 ـ 208. ([45]) الغدير 5: 80، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم المقدّسة، 1416هـ. ([46]) شرح نهج البلاغة 9: 117، 224. ([47]) مقدمة بحث في علم الكلام. ([48]) كتاب هفده ساله جرا صدا در آورد، انتشارات مؤسسه علامه، 1391هـ. ([49]) نقلاً عن مقدمة المصدرالسابق. ([50]) (الشهيد العالم). ([51]) (الشهيد الخالد). ([52]) انظر: بحار الأنوار، ج25. ([53]) المصدر السابق: 22. ([54]) المصدر السابق: 20، 54: 170؛ أصول الكافي 2: 10. ([55]) العلامة الطباطبائي، بحثي كوتاه درباره علم إمام (بحث مختصر في علم الإمام): 44. ([56]) الميزان 1: 273. ([57]) مقالة: (چشمه خورشيد)، المنشورة في سلسلة مقالات كنكره بين المللي إمام خميني وفرهنگ عاشوراء، الكتاب الأول 2: 15. ([58]) بحار الأنوار 26: 7. ([59]) انظر: الميزان في تفسير القرآن 1: 273؛ بحثي كوتاه درباره علم إمام (بحث مختصر في علم الإمام): 4؛ مقالة (چشمه خورشيد)، المنشورة في سلسلة مقالات كنكره بين المللي إمام خميني وفرهنگ عاشوراء، الكتاب الأول 2: 27. ([60]) انظر: السيد علي أكبر القرشي، خاندان وحي 3: 29 ـ 37، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1368هـ. ش. ([61]) أصول الكافي1: 31، كتاب الحجة، الباب 48، ح1. ([62]) المصدر السابق: 298، الباب 40، ح2. ([63]) المصدر السابق: 317، الباب 47، ح1. ([64]) انظر: ابن عساكر، تاريخ المدينة ودمشق 14: 187، 191، 192، 195، 197، دار الفكر، بيروت، 1415هـ. ([65]) المصدر السابق: 198. ([66]) أصول الكافي، باب أنّ الأئمة يعلمون متى يموتون، ح4؛ بحار الأنوار 45: 202. ([67]) علل الشرائع 1: 268. ([68]) بحار الأنوار 10: 175؛ إثبات الهداة 5: 203. ([69]) الملهوف على قتلى الطفوف: 55. ([70]) بحار الأنوار 16: 216؛ مدينة المعاجز: 239؛ مروج الذهب 2: 68. ([71]) إثبات الهداة 5: 186؛ الملهوف على قتلى الطفوف: 57. ([72]) إثبات الهداة 5: 206؛ مدينة المعاجز 2: 539، باب معاجز الإمام الحسين، المعجزة رقم 14. ([73]) الملهوف على قتلى الطفوف: 61. ([74]) انظر: الشيخ المفيد، الإرشاد: 205؛ إعلام الورى: 229. ([75]) الإرشاد 2: 75؛ إعلام الورى وأعلام الهدى: 228. ([76]) المصدر السابق. ([77]) كامل الزيارات: 75. ([78]) الإرشاد: 236؛ جلاء العيون: 564. ([79]) الملهوف على قتلى الطفوف 71؛ إثبات الهداة 5: 202؛ كشف الغمة 2: 259.
2023/07/29
لماذا أخذ الحسين (ع) النساء والأطفال إلى كربلاء؟!
إن قلت: إنّه لم يكن يعرف ما سيحصل لهم، سأقول لك: لقد نسفت العصمة التي تقول: إنّ الحسين يعلم الغيب. وإن قلت: إنّه يعلم، فسأقول لك: هل خرج الحسين ليقتل أبناؤه؟!

وإن قلت: إنّ الحسين خرج لينقذ الإسلام، فسأقول لك: وهل كان الإسلام منحرفاً في عهد الحسن؟! وهل كان الإسلام منحرفاً في عهد علي؟! ولماذا لم يخرجا لإعادة الإسلام؟!

فإمّا أن تشهد بعدالة الخلفاء وصدقهم ورضى علي بهم، أو تشهد بخيانة علي والحسن للإسلام؟!

هذه الأسئلة وردت على ما يبدو من أحد المخالفين المتعصّبين!

الجواب من السيد جعفر مرتضى العاملي (ره):

أوّلاً: إن ما ورد في السؤال، من أنّ العصمة تقتضي علم الغيب، لا يصحّ، بل هي تقتضي العمل بالتكليف الشرعي، وعدم الخطأ في تطبيقه، وعدم إهماله ونسيانه.

ثانياً: إنّ السائل نفسه يقول: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان معصوماً، ويقول عن نفسه: إنّه يعتقد بالقرآن الذي يقول عنه صلّى الله عليه وآله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) (۱).

ولنا أن نقول أيضاً: إنّ هذا السائل يعتقد: بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قد أخبر بكثير من الغيوب التي تحقّقت، ومنها: أنّ عليّاً عليه السلام سيقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين. وان عائشة ستخرج على علي عليه السلام ظالمة له، وأنّها ستنبحها كلاب الحوأب.

ونضيف هنا أيضاً: أنّكم قد رويتم في كثيرٍ من مصادركم الأساسيّة: أنّه صلّى الله عليه وآله قد أخبر بقتل الإمام الحسين في كربلاء، وبكى عليه، وأودع لدى أمّ سلمة قارورةً فيها من تراب كربلاء، وقال لها: إنّها إن فاضت دماً، فلتعلم أن الحسين قد قتل (۲).

ثالثاً: إذا كان الحسين يعلم بأنّه سيقتل في كربلاء، وهو يمارس وظيفته الشرعيّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك لا يمنعه من القيام بما أوجبه الله عليه من الذهاب إلى تلك البقعة.

كما أنّ علم إبراهيم خليل الله بأنّه سيواجه القتل إذا حطم الأصنام للنمرود، لم يمنعه من فعل ذلك. وعلم الأنبياء كلّهم بما سيواجهونه من مصائب وبلايا وأخطار لا يجعلهم يتخلّون عن واجبهم، والجلوس في زوايا بيوتهم، أو الهروب من مسؤليّاتهم.

وكان الرسول صلّى الله عليه وآله يعلم أيضاً بما سيواجهه به المشركون، وكان يرى ما يفعلونه بأصحابه من تعذيبٍ إلى حدّ الموت، ولكنّه كان يأمرهم بالصبر، ويقول لعمّار وأبيه وأمّه: « صبراً يا آل ياسر » (۳).

فلماذا لم يتخلّوا عن دينهم، أو عن صلاتهم، وصومهم على الأقلّ، ليتخلّصوا من الموت الذي طال حتّى النساء منهم، حيث ماتت والدة عمّار تحت التعذيب؟!

وإذا كان لا بدّ من حمل النساء والأطفال مع الحسين عليه السلام إلى كربلاء، لكي يقع عليهم السبي أو القتل، وليمنع ذلك من إثارة الشبهات والشكوك حول ما جرى له عليه السلام، ويضيع بذلك دمه، ولا ينتفع به الإسلام والمسلمون. حين يدعي بنو أميّة ومحبّوهم :

أنّ الحسين قد قتل بيد اللصوص، أو افترسته الوحوش، أو ما إلى ذلك.

نعم.. إنّه حين يكون المطلوب هو حفظ الإسلام بهذا الدم، وبهذا السبي، فهل سيبخل الحسين بذلك، ويمتنع من حملهم معه إلى كربلاء، ويحفظ بهم الإسلام والدين؟!

ومن يجود بدمه في سبيل دينه، هل سيبخل بما هو دونه؟! إن احتاج الإسلام إليه؟!

وهل سيكون آل ياسر الذين تعرضت نساؤهم للتعذيب والقتل أسخى على الدين من الحسين عليه السلام ..

رابعاً: إنّ الإسلام لم ينحرف، ولا يمكن أن ينحرف في يومٍ من الأيّام، بل كان فريق من الناس ممّن يدعي الإسلام هم الذين ينحرفون عنه، ويعملون على صدّ الناس عن الدخول فيه، أو عن العمل والالتزام بأحكامه.

خامساً: إنّ حال الناس في مدى التزامهم بالإسلام يختلف ويتفاوت من عصر لعصر ومن وقت لآخر ..

كما أن سبل هدايتهم، وصيانة دينهم، وحفظ يقينهم، وما يؤثر في سلامة مسيرتهم تختلف وتتفاوت وتخضع للظروف، وللقدرات وللإمكانات، اختلاف الحالات، فقد يكفي فيه مجرّد التعليم والإرشاد، وقد يحتاج إلى ممارسة بعض الشدّة في الزجر عن المنكر، والتشدّد في فرض المعروف.. وربّما بلغ الانحراف عن خط الاستقامة حدّاً يحتاج فيه تصحيح المسار إلى درجات أشدّ من الكفاح، وإلى الجهاد واستعمال السلاح وخوض اللجج وبذل الأرواح والمهج.

وهذا ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله بالذات، فقد مارس من أساليب الدعوة إلى الله في كلّ حين ما توفّر لديه، وسمحت به الظروف، واقتضته الأحوال، فما احتاج اليه وتوفّر لديه واستفاد منه في مكّة قد اختلف عمّا احتاج إليه وتوفّر لديه واستفاد منه في المدينة، وما مارسه في صلح الحديبيّة اختلف عمّا مارسه في فتح مكّة، واختلف هذا وذاك مع ما كان في بدر وأحد وحنين.

سادساً: هل يستطيع مسلم أن يساوي بين عهد يزيد وبين ممارسات يزيد، وبين عهد أبي يكر وممارسات أبي بكر؟! أو بينه وبين عمر ابن الخطاب؟! أو بين يزيد وبين علي عليه السلام في سيرته وممارساته؟!

بل إنّك لا تستطيع أن تساوي حتّى بين أبي بكر وعثمان، في سيرتهما، وفي طريقتهما، فهل تساوي بين يزيد وعهده وبينهم وبين عهدهم؟!

الهوامش ۱. الآية ۱۸۸ من سورة الأعراف. ۲. راجع: تاريخ اليعقوبي ج ۲ ص ۲٤٥ و ۲٤٦ والمعجم الكبير للطبراني ج ۳ ص ۱۰۸ وتاريخ مدينة دمشق ج ۱٤ ص ۱۹۳ وكفاية الطالب ص ۲۷۹ وتهذيب الكمال ج ٦ ص ٤۰۸ ومقتل الحسين للخوازمي ص ۱۷۰ و ط مطبعة الزهراء ج ۲ ص ۹٦ ونظم درر السمطين ص ۲۱٥ والكامل في التاريخ ج ٤ ص ۹۳ والوافي بالوفيات ج ۱۲ ص ۲٦۳ وإمتاع الأسماع ج ۱۲ ص ۲۳۸ وج ۱٤ ص ۱٤٦ وترجمة الإمام الحسين عليه السلام لابن عساكر ص ۲٥۱ و ۲٥۲ ومعارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول للزرندي الشافعي ص ۹۳ وكتاب الفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ۳۲٤ وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص ۸۳ وذخائر العقبى ص ۱٤۷ وطرح التثريب ج ۱ ص ٤۲ ومجمع الزوائد ج ۹ ص ۱۸۹ وينابيع المودة ج ۳ ص ۱۱ و ۱۲ والمواهب اللدنية ص ۱۹٥ والخصائص الكبرى للسيوطي ج ۲ ص ۱۲٥ وجوهرة الكلام ص ۱۲۰ ومأتم الحسين أو سيرتنا وسنّتنا للعلامة الأميني ط سنة ۱٤۲۸ هـ ص ۹۰ عن مصادر كثير. ۳. المستدرك للحاكم ج ۳ ص ۳۸۳ والإصابة ج ٦ ص ٥۰۰ وج ۸ ص ۱۹۰ والإستيعاب ج ٤ ص ۱٥۸۹ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ۲۰ ص ۳٦ وكنز العمال ج ۱۱ ص ۷۲۸ والدرجات الرفيعة ص ۲٥٦ و ۲٦۰ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص ۹۸ والمناقب للخوارزمي ص ۲۳٤ والسيرة الحلبية ج ۱ ص ٤۸۳.
2023/07/29
ما هي أعمال ليلة ويوم عاشوراء؟
أعمال ليلة عاشوراء 1 هي كالتالي: 1. صّلاة مائة ركعة، يقرأ في كلّ ركعة سورة الفاتحة (الحمد( مرة واحدة، و سورة التوحيد (الإخلاص) ثلاث مرّات، و يقول سبعين مرّة بعد الفراغ من الجميع : "سُبْحانَ اللهِ وَ الْحَمْدُ للهِ وَ لا اِلـهَ اِلاَّ اللهُ وَ اللهُ اَكْبَرُ وَ لا حَوْلَ وَ لا قُوَّةَ اِلاّ بِاللهِ الْعَلىِّ الْعَظيمِ".

2. الصّلاة أربع ركعات في آخر اللّيل، يقرأ في كلّ ركعة منها بعد سورة الفاتحة (الحمد) كُلاً من آية الكرسي، و سورة التّوحيد (الإخلاص)، و سورة الفلق، و سورة النّاس عشر مرّات، و يقرأ سورة التّوحيد (الإخلاص) بعد السّلام مائة مرّة.

3. الصّلاة أربع ركعات، يقرأ في كلّ ركعة منها سورة الفاتحة (الحمد) و سورة التّوحيد (الإخلاص) خمسين مرّة، و هذه الصّلاة تطابق صلاة أمير المؤمنين صلوات الله و سلامه عليه ذات الفضل العظيم.

و قال السّيد ابن طاووس (رحمه الله) بعد ذكر هذه الصّلاة: فإذا سلّمت من الرّابعة فأكثر ذكر الله تعالى و الصّلاة على رسوله و اللّعن على أعدائهم ما استطعت.

4. و رُوِيَ في فضل إحياء هذه اللّيلة أن من أحياها فكأنّما عَبَدَ اللهَ عبادة جميع الملائكة، وأجْرُ العامل فيها يعدل سبعين سنة، و من وفّق في هذه اللّيلة لزيارة الحُسين (عليه السَّلام) بكربلاء و المبيت عنده حتى يصبح، حشره الله يوم القيامة ملطّخاً بدم الحسين (عليه السَّلام) في جملة الشّهداء معه (عليه السَّلام).

اعمال يوم عاشوراء

أعمال يوم عاشوراء هي كالتالي:

1. بما أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي استشهد فيه الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام) فهو يوم عزاء و مصيبة و حزن بالنسبة لأهل البيت (عليهم السلام) و الموالين لهم، فينبغي لكل من والاهم أن يمسك فيه عن السّعي في حوائج الدنيا، و على الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) أن لا يدّخروا فيه شيئاً لمنازلهم، فقد رُوِيَ عن الإمام علي بن موسى الرّضا (عليه السَّلام) أنه قال: "مَنْ تَرَكَ السَّعْيَ فِي حَوَائِجِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَضَى اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ، وَ مَنْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَ حُزْنِهِ وَ بُكَائِهِ يَجْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ فَرَحِهِ وَ سُرُورِهِ وَ قَرَّتْ بِنَا فِي الْجِنَانِ عَيْنُهُ، وَ مَنْ سَمَّى يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ بَرَكَةٍ وَ ادَّخَرَ لِمَنْزِلِهِ فِيهِ شَيْئاً لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيمَا ادَّخَرَ، وَ حُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ يَزِيدَ وَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ النَّار" 2 .

2. كما و ينبغي للموالين لأهل البيت (عليهم السلام) التَّفرغ فيه للبكاء على الحسين (عليه السَّلام) و ذكر مصائبه و مصائب أهل بيته، و أن يقيمُوا المآتم بهذه المناسبة الأليمة.

3. و يُستحب في يوم عاشوراء زيارة الحسين (عليه السَّلام) بـ زيارة الإمام الحسين في يوم عاشوراء.

4. كما و يُستحب في هذا اليوم الاجتهاد في التبرِّي و لعن قاتلي الإمام الحسين (عليه السَّلام).

5. و يُستحب تعزية المؤمنين بعضهم بعضاً بقول : اَعْظَمَ اللهُ اُجُورَنا بِمُصابِنا بِالْحُسَيْنِ عَلَيْهَ السَّلامُ، وَ جَعَلْنا وَ اِيّاكُمْ مِنَ الطّالِبينَ بِثارِهِ مَعَ وَلِيِّهِ الاِمامِ الْمَهْديِّ مِنْ آلِ مُحَمَّد عَلَيْهِمُ السَّلامُ . 3 .

6. وينبغي للموالين لأهل البيت (عليهم السلام) الإمساك عن الطعام و الشّراب في هذا اليوم من دُون نيّة للصّيام، و أن يفطُروا في آخر النّهار بعد العصر بما يقتات به أهل المصائب كاللّبن الخاثر و الحليب و نظائرهما لا بالأغذية اللّذيذة، و قال العلامة المجلسي في زاد المعاد: و الأحسن أن لا يُصام اليوم التّاسع و العاشر فانّ بني أميّة كانت تصومها شماتة بالحسين (عليه السَّلام) و تبرّكاً بقتله، و قد افتروا على رسول الله (صلى الله عليه و آله) أحاديث كثيرة وضعوها في فضل هذين اليومين و فضل صيامهما، و قد روي من طريق أهل البيت (عليهم السلام) أحاديث كثيرة في ذمّ الصّوم فيهما لا سيّما في يوم عاشوراء.

7. لعن قاتلي الحسين (عليه السَّلام) ألف مرّة قائلاً : اَللّـهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام).

8. زيارة الحسين (عليه السَّلام) بالزيارة التالية : " اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صِفْوَةِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوح نَبِيِّ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ اِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُوسى كَليمِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عيسى رُوحِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّد حَبيبِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عَلِيٍّ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ وَلِيِّ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ الْحَسَنِ الشَّهيدِ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ الْبَشيرِ النَّذيرِ وَ ابْنَ سَيِّدِ الْوَصِيِّينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَابْنَ فاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِسآءِ الْعالَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا خِيَرَةَ اللهِ وَ ابْنَ خِيَرَتِهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا ثارَ اللهِ وَ ابْنَ ثارِهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الْوِتْرَ الْمَوْتُورَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الاِْمامُ الْهادِي الزَّكِيُّ وَ عَلى اَرْواح حَلَّتْ بِفِنآئِكَ وَ اَقامَتْ في جِوارِكَ وَ وَفَدَتْ مَعَ زُوّارِكَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ مِنِّي ما بَقيتُ وَ بَقِيَ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ، فَلَقَدْ عَظُمَتِ بِكَ الرَّزِيَّةُ، وَ جَلَّ الْمُصابُ فِي الْمُؤْمِنينَ وَ الْمُسْلِمينَ وَ في اَهْلِ السَّمواتِ اَجْمَعينَ، وَ فى سُكّـانِ الاَْرَضينَ، فَاِنّا للهِ وَ اِنّا اِلَيْهِ راجِعُونَ، وَ صَلَواتُ اللهِ وَ بَرَكاتُهُ وَ تَحِيّاتُهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آبآئِكَ الطّاهِرينَ الطَّيِّبينَ الْمُنْتَجَبَينَ، وَ عَلى ذَراريهِمُ الْهُداةِ الْمَهْدِيّينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مَوْلايَ وَ عَلَيْهِمْ وَ عَلى رُوحِكَ وَ عَلى اَرْواحِهِمْ وَ عَلى تُرْبَتِكَ وَ عَلى تُرْبَتِهِمْ، اَللّـهُمَّ لَقِّهِمْ رَحْمَةً وَ رِضْواناً وَ رَوْحاً وَ رَيْحاناً، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مَوْلاىَ يا اَبا عَبْدِ اللهِ، يَا بْنَ خاتَمِ النَّبِيّينَ، وَ يَا بْنَ سَيِّدِ الْوَصِيّينَ، وَيَا بْنَ سَيِّدَةَ نِسآءِ الْعالَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا شَهيدُ يَا بْنَ الشَّهيدِ يا اَخَ الشَّهيدِ يا اَبَا الشُّهَدآءِ، اَللّـهُمَّ بَلِّغْهُ عَنّي في هذِهِ السّاعَةِ وَ في هذَا الْيَوْمِ وَ في هذَا الْوَقْتِ وَ في كُلِّ وَقْت تَحِيَّةً كَثيرَةً وَ سَلاماً، سَلامُ اللهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكاتُهُ، يَا بْنَ سَيِّدِ الْعالَمينَ وَ عَلَى الْمُسْتَشْهَدينَ مَعَكَ سَلاماً مُتَّصِلاً مَا اتَّصَلَ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ، السَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِىّ الشَّهيدِ، السَّلامُ عَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهيدِ، اَلسَّلامُ عَلَى الْعَبّاسِ بْنِ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ الشَّهيدِ، السَّلامُ عَلَى الشُّهَدآءِ مِنْ وُلْدِ اَمِيرِ الْمُؤْمِنينَ، اَلسَّلامُ عَلَى الشُّهَدآءِ مِنْ وُلْدِ الْحَسَنِ، اَلسَّلامُ عَلَى الشُّهَدآءِ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ، السَّلامُ عَلَى الشُّهَدآءِ مِنْ وُلْدِ جَعْفَر وَ عَقِيل، اَلسَّلامُ عَلى كُلِّ مُسْتَشْهَد مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنينَ، اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَ آلِ مُحَمَّد وَ بَلِّغْهُمْ عَنّي تَحِيَّةً كَثيرَةً وَ سَلاماً، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ اَحْسَنَ اللهُ لَكَ الْعَزآءَ في وَلَدِكَ الْحُسَيْنِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ اَحْسَنَ اللهُ لَكِ الْعَزآءَ في وَلَدِكَ الْحُسَيْنِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَميرَ الْمُؤْمِنينَ اَحْسَنَ اللهُ لَكَ الْعَزآءَ فِي وَلَدِكَ الْحُسَيْنِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا مُحَمَّد الْحَسَنَ اَحْسَنَ اللهُ لَكَ الْعَزآءِ في اَخيكَ الْحُسَيْنِ، يا مَوْلاىَ يا اَبا عَبْدِ اللهِ اَنَا َضْيُف اِلله َو ضَيْفُكَ وَ جارُ اللهِ وَ جارُكَ، وَ لِكُلِّ ضَيْف وَ جار قِرىً، وَ قِرايَ في هذَا الْوَقْتِ اَنْ تَسْئَلَ اللهَ سُبْحانَهُ وَ تَعالى اَنْ يَرْزُقَني فَكاكَ رَقَبَتي مِنَ النّارِ اِنَّهُ سَميعُ الدُّعآءِ قَريبُ مُجيبُ.

الهوامش: 1. يوم عاشوراء بالمد و القصر و هو عاشر المحرم ، و هو اسم إسلامي ، و جاء عشوراء بالمد مع حذف الألف التي بعد العين ، راجع : مجمع البحرين : 3 / 405 . و هو اليوم الذي وقعت فيه واقعة الطَّف الأليمة التي قُتل فيها سبط النبي المصطفى (صلى الله عليه و آله) الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام) ، خامس أصحاب الكساء و ثالث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع جمع من خيرة أبنائه و أصحابه في أرض كربلاء دفاعاً عن الدين الاسلامي و قيمه . و كانت هذه الواقعة الأليمة في يوم الجمعة العاشر من شهر محرم من سنة 61 هجرية ، الموافق لـ 12 / 10 / 680 ميلادية. 2. وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة) : 14 / 504، للشيخ محمد بن الحسن بن علي، المعروف بالحُر العاملي، المولود سنة : 1033 هجرية بجبل عامل لبنان، و المتوفى سنة : 1104 هجرية بمشهد الإمام الرضا (عليه السَّلام) و المدفون بها، طبعة : مؤسسة آل البيت، سنة : 1409 هجرية، قم / إيران . 3. أنظر وسائل الشيعة: 14 / 509.
2023/07/28
بعد أن قتلوا رضيعه عطشاناً.. هل طلب الإمام الحسين (ع) الماء من أعدائه؟!
كيف طلب الحسين (عليه السلام) الماء؟ هل كان بالطريقة التي تُنقل بأنَّه طلب من القوم أن يسقوه!! لم نسمع أنَّ أحدًا من انصار الحسين (ع) شيوخًا أو شبانًا طلب الماء بالطريقة التي طلبها الحسين (ع)!!

الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

لم يثبتْ أنَّ الإمام الحسين (ع) قد طلبَ من المعسكر الأموي أنْ يسقوه شربةً من ماء، فما يتناقلُه البعضُ من أنَّه (ع) قد طلبَ من بعض أفراد الجيش الأُموي قُبيل قتله أنْ يسقوه جرعةً من ماء، وأنَّه قد تفتتْ كبدُه من الظمأ، وأنَّه كان يُقسم بحقِّ جدِّه (ص) أنَّه عطشان كأنَّه يَستعطفُهم، وكذلك ما يتناقلونَه من أنَّه (ع) طلبَ من الشمر أنْ يسقيَه الماء قبل أنْ يقتله ويُذكِّره بحسبِه ونسبِه كأنَّه يَستجديه، هذه النقولات لا أساسَ لها من الصحَّة بل هي لا تَخلو من الإساءة لمقام سيِّد الشهداء (ع) المعلوم من حاله أنَّه في أعلى درجات الإباء والعزَّة، وفي أعلى درجات الصبر والتجلُّد، وهو أجدرُ مَن على وجه الأرض بتمثُّل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾([1]) وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾([2]).

نعم لا محذور في أنْ يطلب الإمامُ الحسين (ع) الماءَ بنحوٍ لا يتنافى مع مقتضيات العزَّة والكرامة، ولهذا لا مانع من القبول بالنصوص التأريخيَّة التي أفادت أنَّ الإمام الحسين (ع) طلب الماء بمعنى أنَّه سعى من أجل الوصول إلى الفرات ليشربَ منه، وكذلك ما ورد من أنَّه (ع) طلبَ من أخيه العباس (ع) أنْ يأتيه بالماء، وكذلك لا مانع من القبول بما يُستظهَر من بعض النصوص أنَّه طلب من بعض فتيانه أنْ يأتيه بالماء، وأمَّا ما قيل من أنَّه طلب مِن المعسكر الأموي أو مِن بعض أفراد المعسكر الأموي أنْ يسقوه شربةً من ماء فلم نجدْ في ذلك نصًّا صريحًا ولو وُجد فإنَّه يتعيَّن طرحُه كما سيتَّضح إنْ شاء الله تعالى.

فالنصوص التي تحدَّثت عن طلب الحسين (ع) للماء يُمكنُ تصنيفُها إلى طوائفَ ثلاث:

طلبُ الماء كان بمعنى السعي للوصول إلى الفرات:

الطائفة الأولى: نصَّت على أنَّه (ع) طلب الماء بمعنى أنَّه سعى من أجل الوصول للفرات ليشربَ منه، ونذكرُ في ذلك عددًا من النصوص:

النص الأول: ما أورده ابنُ أعثم في الفتوح قال: "فَحَمَلَ عَلَيهِ القَومُ بِالحَربِ، فَلَم يَزَل يَحمِلُ عَلَيهِم ويَحمِلونَ عَلَيهِ وهُوَ في ذلِكَ يَطلُبُ الماءَ لِيَشرَبَ مِنهُ شَربَةً، فَكُلَّما حَمَلَ بِنَفسِهِ عَلَى الفُراتِ، حَمَلوا عَلَيهِ حَتّى أحالوهُ عَنِ الماءِ"([3]).

فقوله: "وهُوَ في ذلِكَ يَطلُبُ الماءَ لِيَشرَبَ مِنهُ شَربَةً" واضح في أنَّ طلبه يعني سعيه للوصول للفرات ليشربَ منه الماء بقرينة قوله بعد هذه الفقرة: فَكُلَّما حَمَلَ بِنَفسِهِ عَلَى الفُراتِ، حَمَلوا عَلَيهِ حَتّى أحالوهُ عَنِ الماءِ".

النص الثاني: ما أورده الخوارزمي في مقتل الحسين (ع) قال: "فقصدَه القوم بالحرب من كلِّ جانب فجعل يحملُ عليهم، ويحملون عليه، وهو في ذلك يطلبُ الماء ليشرب منه شربةً، فكلّما حمل بفرسِه على الفرات حملوا عليه حتّى أجلوه عنه"([4]).

فمرادُه من قوله: "وهو في ذلك يطلبُ الماءَ ليشرب" هو أنَّه يحملُ جهة الفرات ليصلَ إليه فكان كلَّما حملَ بفرسه على الفرات حملوا عليه حتّى أجلوه عنه، فطلبُه للماء يعني سعيه المتكرِّر للوصول إلى الفرات، وذلك بالحمل من جهته كما هو صريح النصِّ المذكور. فطلبُ الماء في مثل هذه النصوص يعني السعي بالنفس لتحصيل الماء تماماً كما هو المعنى المراد من طلب الرزق، وطلب العلم، وطلب النصر فإنَّه بمعنى السعي لتحصيل الرزق، والسعي لتحصيل العلم والنصر

وعلى ذلك تُحملُ عبارة السيد ابن طاووس في اللهوف قال: "وقَصَدوهُ بِالحَربِ، فَجَعَلَ يَحمِلُ عَلَيهِم ويَحمِلونَ عَلَيهِ، وهُوَ مَعَ ذلِكَ يَطلُبُ شَربَةً مِن ماءٍ فَلا يَجِدي" وفي نسخة "فلا يجد"([5]).

والواضح أنَّ عبارة السيد ابن طاووس مقتبسة من مقتل الخوارزمي والتي هي صريحة في أنَّ طلب الحسين (ع) للماء كان بمعنى السعي بالقتال للوصول لماء الفرات ليشربَ منه.

وكذلك ما أورده ابن نما في مثير الأحزان قال: "ثُمَّ قَصَدوهُ (عليه السلام) بِالحَربِ، وجَعَلوهُ شِلوًا مِن كَثرَةِ الطَّعنِ وَالضَّربِ، وهُوَ يَستَقي شَربَةً مِن ماءٍ فَلا يَجِدُ"([6]) فإن هذا النص مقتبسٌ من مقتل الخوارزمي.

النص الثالث: ما أورده أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين قال:" وجعل الحسين يطلب الماء وشمر - لعنه الله - يقول له : والله لا ترده أو ترد النار فقال له رجل : الا ترى إلى الفرات يا حسين كأنه بطون الحياة ، والله لا تذوقُه أو تموتُ عطشا فقال الحسين " ع " اللهم أمتْه عطشا" .  ص ٩٤

والمراد من طلب الماء - كما هو واضح- هو السعي للوصول إلى الفرات بقرينة قول الشمر: والله لا ترده" أي لا تصل إليه إي إلى ماء الفرات فالورود بمعنى الوصول لموضع الماء كما هو مفاد قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} القصص : 33

والقرينة الأخرى قوله : "ألا ترى الفرات كأنه بطون حيَّات:  فإنَّ مقتضى ذلك هو أنَّ النص يوثِّقُ لمرحلة ما قبل ضعف الحسين(ع) عن القتال وأنَّه كان قريباً من الفرات يُجاهدُ من أجل الوصول إليه وأما حين مقتله فكان بعيداً عن الفرات ( المسنَّاة).

النص الرابع: ما أورده ابن قتيبة الدينوري في الأخبار الطوال قال: "ولَمّا رَأَى القَومَ قَد أحجَموا عَنهُ، قامَ يَتَمَشّى عَلَى المُسَنّاةِ نَحوَ الفُراتِ، فَحالوا بَينَهُ وبَينَ الماءِ، فَانصَرَفَ إلى مَوضِعِهِ الَّذي كانَ فيهِ"([7]).

والظاهر أنَّ النصَّ يُؤرِّخ لقُبيل مصرعه بوقتٍ يسير بعد أن أصبح الحسين (ع) راجلًا فكان -بحسب هذا النصِّ- قد قصد الفرات ليشرب منه لكنَّهم حالوا بينه وبين الماء فرجع قافلًا إلى مركزه.

النص الخامس: ما أورده ابن الأثير في الكامل في التاريخ قال: "واشتَدَّ عَطَشُ الحُسَينِ (عليه السلام) فَدَنا مِنَ الفُراتِ لِيَشرَبَ، فَرَماهُ حُصَينُ بنُ نُمَيرٍ بِسَهمٍ فَوَقَعَ في فَمِهِ، فَجَعَلَ يَتَلَقَّى الدَّمَ بِيَدِهِ ورَمى بِهِ إلَى السَّماءِ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ إنّي أشكو إلَيكَ ما يُصنَعُ بِابنِ بِنتِ نَبِيِّكَ، اللَّهُمَّ أحصِهِم عَدَدًا، وَاقتُلهُم بَدَدًا، ولا تُبقِ مِنهُم أحَدًا. وقيلَ: الَّذي رَماهُ رَجُلٌ مِن بَني أبانِ بنِ دارِمٍ"([8]).

فطلبه للماء -كما هو صريح النصِّ- هو بمعنى سعيه للوصول إلى الفرات ليشرب منه. كما هو مقتضى التعبير بقوله :" فَدَنا مِنَ الفُراتِ لِيَشرَبَ".

النصُّ السادس: ما أورده الشيخ المفيد في الإرشاد قال: "رَكِبَ الحُسَينُ (عليه السلام) المُسَنّاةَ يُريدُ الفُراتَ وبَينَ يَدَيهِ العَبّاسُ أخوهُ، فَاعتَرَضَتهُ خَيلُ ابنِ سَعدٍ، وفيهِم رَجُلٌ مِن بَني دارِمٍ، فَقالَ لَهُم: وَيلَكُم ! حولوا بَينَهُ وبَينَ الفُراتِ ولا تُمَكِّنوهُ مِنَ الماءِ.

فَقالَ الحُسَينُ (عليه السلام): اللَّهُمَّ أظمِئهُ ! فَغَضِبَ الدّارِمِيُّ ورَماهُ بِسَهمٍ فَأَثبَتَهُ في حَنَكِهِ، فَانتَزَعَ الحُسَينُ (عليه السلام) السَّهمَ، وبَسَطَ يَدَهُ تَحتَ حَنَكِهِ فَامتَلَأَت راحَتاهُ بِالدَّمِ، فَرَمى بِهِ ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ إنّي أشكو إلَيكَ ما يُفعَلُ بِابنِ بِنتِ نَبِيِّكَ. ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكانِهِ وقَدِ اشتَدَّ بِهِ العَطَشُ([9]).

فهذا النص كالنصوص السابقة الصريحة في أنَّ طلب الحسين (ع) للماء كان من طريق قصده للفرات ليشرب منه، فاجتهد جيشُ عمر بن سعد للحيلولة دون وصوله للفرات، وكان من وسائل الحيلولة دون تمكينه من شرب الماء أنْ صوَّب أحدُهم سهمًا إلى فم الحسين (ع) فأَثبَتَهُ في حَنَكِهِ ثم حرَّض الجيش على الاجتهاد في منعه وعدم تمكينه من الوصول للماء، فما كان من الحسين (ع) إلا أنْ رجع إلى مكانه وقَدِ اشتَدَّ بِهِ العَطَشُ.

طلبُ الماء كان بمعنى الأمر للعباس أنْ يأتيه بالماء:

الطائفة الثانية: نصَّت على أنَّ الإمام الحسين (ع) طلب من أخيه أن يأتيه بالماء من الفرات وقد ورد في ذلك العديد من النصوص نذكر منها:

النص الأول: ما أورده مصعب بن عبد الله الزبيري (ت: 236) في كتابه نسب قريش قال: "والعباس بن علي، ولده يسمَّونه "السقَّاء"، ويُكنونه أبا قِربة؛ شهِدَ مع الحسين كربلاء؛ فعطِش الحسينُ؛ فأخذ قربةً، واتَّبعه إخوتُه لأبيه وأمِّه بنو عليٍّ، وهم: عثمان، وجعفر، وعبد الله، فقُتل إخوتُه قبلَه، وجاء بالقِربةِ يحملُها إلى الحسين مملوءةً .."([10]).

النص الثاني: ما أورده ابن سيده (ت 458ه) في المخصص قال: ".. دَعوا العباس بن عليٍّ أبا قِربة وسَمَّوْهُ السَّقَّاء لأخْذِه القِربة حين عطش الحسين (عليه السّلام) وتوجهه إلى الفرات واتَّبعه أخوتُه لأمِّه بنو علي عثمان وجعفر وعبد الله فقُتل إخوتُه قبله وجاء بالقِربة يحملُها إلى الحسين .."([11]).

النص الثالث: ما أورده ابن حبَّان (ت: 353ه) في الثقات قال: "والعباس يُقال له السقَّاء، لأنَّ الحسينَ طلبَ الماء في عطشِه وهو يُقاتل فخرجَ العباسُ وأخوه واحتال حمل إداوةَ ماءٍ ودفعَها إلى الحسين، فلمَّا أراد الحسينُ أنْ يشربَ من تلك الإداوة جاء سهمٌ فدخل حلقَه فحال بينَه وبين ما أراد من الشُرب"([12]).

فهذا النصُّ -وكذلك الذي قبله- صريحٌ في أنَّ الحسين (ع) طلب الماء ولكنَّه طلبه من أخيه العباس وتمكَّن العباس (ع) من أن يأتيه بالماء ولكنَّه -بحسب هذا النص- حين أراد أن يشرب صوَّب أحدُهم سهمًا إلى حلقَه فحال بينَه وبين ما أراد من الشُرب.

وعلى هذا النص يُحمل ما أورده في أخبار الدول وآثار الأول: اشتَدَّ العَطَشُ بِهِ -أي بِالحُسَينِ (عليه السلام)- فَمَنَعوهُ، فَحَصَلَ لَهُ شَربَةُ ماءٍ، فَلَمّا أهوى لِيَشرَبَ رَماهُ حُصَينُ بنُ تَميمٍ بِسَهمٍ في حَنَكِهِ، فَصارَ الماءُ دَمًا"([13]).

فالشربة التي حصل عليها الحسين (ع) هي التي جاء بها العباس (ع) كما في نصِّ ابن حبَّان بقرينة اتِّحاد النصَّين في أنَّ الحسين (ع) حين أراد أنْ يشرب جاء سهمٌ فوقع في حلقة أو حنكه.

وكذلك يُحمل على نصِّ ابن حبان في الثقات ما أورده الدينوري في الأخبار الطوال قال: "عَطِشَ الحُسَينُ (عليه السلام) فَدَعا بِقَدَحٍ مِن ماءٍ، فَلَمّا وَضَعَهُ في فيهِ رَماهُ الحُصَينُ بنُ نُمَيرٍ بِسَهمٍ، فَدَخَلَ فَمَهُ، وحالَ بَينَهُ وبَينَ شُربِ الماءِ، فَوَضَعَ القَدَحَ مِن يَدِهِ"([14]).

فهذا النصُّ يؤرِّخ لذات الحادثة التي أرَّخ لها ابن حبَّان في الثقات بقرينة اتِّحاد هذا النص والنصِّ الذي ذكره ابن حبَّان في أنَّ الحسين (ع) حين أراد أن يشرب صوَّب أحدُهم سهمًا فدخل في فم الحسين (ع) فحالَ بينه وبين الشرب، فإنَّ من المستبعَد أن يتكرَّر هذا الحدث مرَّتين وفي كلِّ مرَّة يدخلُ السهم في حلقِه.

وعليه فقوله "فدعا بقدحٍ من ماء" معناه أنَّ الحسين(ع) دعا العباس وليس الأعداء، ومع عدم القبول بذلك فالنصُّ لا يدلُّ على أنَّه دعا أحدًا من الأعداء أنْ يعطيه قدحًا من ماء، فلعلَّه دعا أحد أنصاره أو فتيانه، فإنَّ احتمال أن يكون لدى بعض أنصاره شيءٌ من ماء واردٌ كما هي عادة المحاربين أنْ يحمل كلُّ واحدٍ منهم إداوة فيها ماء يضعُها في لامة حربِه، ولعلَّ أحد أنصاره أو فتيانه طلب له ماءً من بعض مَن التحق بأنصاره من جيش عمر بن سعد، فإنَّ ما لا يقلُّ عن عشرين وقيل ثلاثين رجلًا من صفوف عمر بن سعد التحقوا بصفوف الإمام الحسين (ع) بعد نشوب المعركة واشتدادها.

فقول الدينوري في الأخبار الطوال: أنَّ الحسين (ع) "دَعا بِقَدَحٍ مِن ماءٍ، فَلَمّا وَضَعَهُ في فيهِ رَماهُ الحُصَينُ بنُ نُمَيرٍ بِسَهمٍ" ليس فيه دلالة ولا إشعار بأنَّه (ع) طلب ذلك من أعدائه.

والذي يؤكِّد ذلك -مضافًا لما تقدَّم- اشتمال النص على أنَّه جيء إليه بقدحٍ ليشرب ومن الواضح من ملاحظة النصوص التاريخية المتوافرة أنَّ معسكر ابن سعد اجتهد ما وسعه أنْ لا يصل إلى الحسين(ع) شيءٌ من ماء، وأنَّ ثمة قرارًا رسميًا بالحيلولة دون وصول الماء للحسين (ع) فلا يمكَّن أنْ يشرب منه قطرة -كما سنشير لذلك- فكيف يقدِّم المعسكر الأموي أو بعض أفراده للحسين (ع) الماء بنفسه؟!

وممَّا ذكرناه يتبيَّن المراد ممَّا أورده ابنُ سعد في الطبقات الكبرى قال: عَطِشَ الحُسَينُ (عليه السلام) فَاستَقى، ولَيسَ مَعَهُم ماءٌ فَجاءَهُ رَجُلٌ بِماءٍ، فَتَناوَلَهُ لِيَشرَبَ، فَرَماهُ حُصَينُ بنُ تَميمٍ بِسَهمٍ، فَوَقَعَ في فيهِ، فَجَعَلَ يَتَلَقَّى الدَّمَ بِيَدِهِ ويَحمَدُ اللَّهَ"([15]).

فهذا النص يؤرِّخ لذات الحادثة التي يُؤرِّخ لها ابن حبَّان في الثقات بقرينة اتِّحاد النصين في إفادة أنَّه حين أراد أنْ يشرب صوَّب أحدُهم سهمًا فوقع في فيه أي دخل في حلقِه.

وعليه فقوله: "عَطِشَ الحُسَينُ (عليه السلام) فَاستَقى" معناه أنَّه طلب السقاء من أخيه العبَّاس (ع) والمراد من الرجل الذي جاءه بالماء هو العباس كما صرَّح بذلك ابن حبَّان في الثقات.

ومع عدم القبول بذلك فإنَّ نصَّ الطبقات لا يدلُّ بل وليس فيه إشعار أنَّ الإمام (ع) استقى من الأعداء، فإنَّ ما جاء في النصَّ هو أنَّ الحسين(ع) استقى ولم يبيِّن النصُّ مَن هو الذي كان يُخاطبه الحسين (ع) ثم قال: "فَجاءَهُ رَجُلٌ بِماءٍ" فلعلَّ هذا الرجل -إن لم يكن العباس- من بعض أنصاره الذين التحقوا بصفوفِه أو أنَّ أحد فتيانه طلب من أحدِهم الماء للإمام الحسين (ع)، فليس في النص المذكور ما يصحُّ الاستدلال به على أنَّه (ع) قد استقى من أعدائه.

ومن ذلك يتَّضح الجواب عن النصوص الأخرى التي ذكرت أنَّ الحسين استقى فجاءه سهمٌ فوقع في فمِه أو حنكه أو شدقه فإنَّ جميع هذه النصوص وشبهها تُؤرخ لحادثةٍ واحدة.

التعليق على ما ورد أنَّه استقى قُبيل مقتله:

الطائفة الثالثة: نصَّت على أنَّ الحسين (ع) استسقى ماءً قُبيل مقتله:

ولم أجد في ذلك سوى نصٍّ واحد أورده السيّد ابن طاووس قال: "وروى هلال بن نافع قال: إنِّي كنتُ واقفًا مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخٌ: أبشرْ أيّها الأمير! فهذا شمرٌ قتل الحسين، قال: فخرجتُ بين الصفّين، فوقفت عليه وإنّه ليجود بنفسِه، فوالله ما رأيتُ قطُّ قتيلًا مضمَّخًا بدمِه أحسن منه، ولا أنور وجهًا، ولقد شغلني نورُ وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتلِه، فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعتُ رجلًا يقول: لا تذوقُ الماء، حتّى ترد الحامية، فتشرب من حميمها. فسمعتُه يقول: يا وَيْلَكَ، أَنَا لا أَرِدُ الْحامِيَةَ، وَلا أَشْرَبُ مِنْ حَميمِها، بَلْ أَرِدُ عَلى جَدّي رَسُولِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) وَأَسْكُنُ مَعَهُ في دارِهِ في مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر، وَأَشْرَبُ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِن، وَأَشْكُو إِلَيْهِ مَا ارْتَكَبْتُمْ مِنّي وَفَعَلْتُمْ بي .."([16]).

وهذا النصُّ ليس صريحًا أيضًا في أنَّه استسقى الماء من أعدائه، فالراوي قال: "فاستسقى في تلك الحال ماءً" ولم يذكر من هو المخاطَب بالاستسقاء، فلعلَّه استسقى أحدَ فتيانه الذي كان يرافقه إلى حين مقتلِه، فبعض فتيان الحسين (ع) لم يُشاركوا في الحرب بل كان بعضهم يُرافقه ويخدمه إلى أنْ قُتل.

ويُؤكِّد ذلك ما أورده الشيخُ المفيد في الإرشاد وغيرُه قال: "ولمَّا رجع الحسين (عليه السلام) من المسنَّاة إلى فسطاطه تقدَّم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاطوا به، فأسرع منهم رجلٌ يُقال له مالك بن النسر الكندي، فشتم الحسين وضربه على رأسه بالسيف، وكان عليه قلنسوة فقطَعها حتى وصل إلى رأسِه فأدماه، فامتلأت القلنسوة دمًا، فقال له الحسين: "لا أكلت بيمينك ولا شربتَ بها، وحشرك اللهُ مع الظالمين" ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقةٍ فشدَّ بها رأسَه واستدعى قلنسوةً أخرى فلبسها واعتمَّ عليها"([17]).

فمفاد هذا النصَّ أنَّ الحسين (ع) حين رجع من جهة المسنَّاة وحيدًا بعد مقتل العباس -كما نصَّ على ذلك المفيد وغيره-"([18]). قصد الفسطاط فاعترضه الشمر في جماعةٍ من أصحابه وأحاطوا به وتحلَّقوا حوله فتقدَّم رجلٌ منهم فضرب الحسين (ع) على رأسِه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطَها فألقى الحسين (ع) القلنسوة، ودعا بخرقةٍ فشدَّ بها رأسَه واستدعى قلنسوةً أخرى فلبسها واعتمَّ عليها.

فمَن الذي طلب منه الحسين (ع) -وهو في قلب المعركة وقد صار وحيدا- أنْ يناوله خرقةً ليشدَّ بها رأسه وقلنسوةً ليلبسها ويعتمَّ عليها؟ فالمستظهَر هو أنَّ الحسين (ع) طلب ذلك من أحد غلمانه الذي كان يرافقه ويخدمُه.

وأصرحُ من ذلك ما رواه ابن عساكر بسنده عن مسلم بن رباح مولى عليِّ بن أبي طالب قال: كنتُ مع الحسين بن علي يوم قُتل فرُمي في وجهِه بنشابة فقال لي: يا مسلم أدنِ يديك من الدم فأدنيتهما فلمَّا امتلأتا قال اسكبه في يدي فسكبتُه في يدِه فنفخَ بهما إلى السماء وقال: اللهمَّ اطلبْ بدم ابنِ بنتِ نبيِّك قال مسلم: فما وقعَ منه إلى الأرض قطرة" تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14/ 223 هذا النصُّ أصرح من سابقه في أنَّه كان بعض موالي الحسين(ع) يرافقه ليخدمه.

وعليه فلعلَّه (ع) حين استسقى الماء قُبيل مقتله كان قد استسقاه من أحد مواليه -غلمانه- فلعلَّه حين أنهكه الظمأ قال لغلامه اذهب فأتني بماء فإنَّ الغلام قد يتمكَّن من الوصول إلى الفرات لجهلِهم بهويَّته فيُتاح له بذلك إيصال الماء إلى الحسين (ع).

فمع قيام هذا الاحتمال لا يكون النصُّ المذكور صالحًا للاستدلال به على أنَّ الحسين (ع) قد استسقى الماء من أعدائه، نعم أورد ابنُ نما الحلِّي في كتابه مثير الأحزان عينَ هذا النصِّ المروي عن هلال بن نافع إلا أنَّه ذكر بدلًا من عبارة: "فاستسقى في تلك الحال ماءً" عبارة أخرى وهي: "وطلب منهم ماء"([19]) فبناءً على هذه العبارة يكون الظاهر أنَّه (ع) طلب الماء من أعدائه.

إلا أنَّه مع قطع النظر عمَّا هو محرَزٌ من كون السيد ابن طاووس أدقَّ من ابن نما الحلِّي في النقل فإنَّه لا يُمكن التعويل على أيٍّ من النقلين في المقدار الذي اختلفا فيه لعدم احراز أيِّ العبارتين صدرتْ عن الراوي أعني هلال بن نافع، فاختلافُهما فيما هو المروي عن هلال بن نافع يُوجب سقوط النقلين عن الاعتبار كما هو محرَّرٌ في علم الأصول وكما هي طريقة العقلاء في التعاطي مع النصوص والأخبار.

خبر هلال بن نافع ساقط عن الاعتبار:

وعلى أيِّ تقدير فإنَّ هذا النص ساقطٌ عن الاعتبار من الأساس، وذلك لأنَّ الراوي كان من جيش عمر بن سعد فهو رجلٌ فاسق لا يُعوَّل على أيِّ خبرٍ يتفرَّدُ بنقله، وحيث إنَّ هذا المقدار من الخبر الذي رواه قد تفرَّد هو بنقله، فلم ينقله معه غيرُه ولم تقُم القرائن والشواهد على صدقِه لذلك فهو ساقطٌ عن الاعتبار، فلا يصحُّ الاستدلال به على أنَّ الإمام الحسين (ع) قد طلب الماءَ من أعدائه.

القرينة على فساد دعوى طلبه الماء من الأعداء:

هذا مضافًا إلى منافاة دعوى طلب الحسين (ع) الماءَ من أعدائه مع ما هو المعلوم المقطوع به من حال الإمام الحسين (ع) وأنَّه في أعلى درجات العزَّة والأنفة والإباء والكرامة، فلا يُقدِم مثله على طلب الماء من أمثال هؤلاء القُساة الجُفاة الذين قتلوا قبل قليلٍ إخوته وأبناءه وأبناء أخوته وأطفاله عطاشى دون أنْ يخفقَ لهم قلب أو يَرُفَّ لهم جفن، فكيف يطلبُ من هؤلاء ماءً وهو يعلمُ لؤمَهم ودناءَتهم وخسَّة طباعِهم، ويعلم من حالِهِم أنَّهم لن يستجيبوا لطلبِه وأنَّهم سيُقابلون طلبَه بالسخرية والتهكُّم وألفاظ التشفِّي؟!! فهل يُعرِّض الحسينُ (ع) -بل مَن هو دونه في المروءةِ والشرف- نفسَه لتوهين الأنذال حرصاً على حاجةٍ يعلمُ أنَّه لن يطول الصبرُ عليها، وسوف يردُ على جدِّه المصطفى (ص) فيسقيه من كأسِه الأوفى كما كان يُبشِّر بذلك أبناءه وأنصاره.

دعوى أنَّه (ع) أراد أنْ يُقيمَ الحجَّةَ عليهم لا تصحُّ:

ودعوى أنَّه (ع) أراد أنْ يُقيمَ الحجَّةَ عليهم لا تصحُّ، فإنَّ الحجَّةَ قائمةٌ عليهم أبلغَ قيام، فإنَّهم قد منَعوه من الماء ثلاثة أيام، وقد رأوه (روحي فداه) يُجالدُهم من أجل الوصول إلى الفرات ليشربَ شيئًا من الماء، فكان كلَّما قصدَ الفرات تآزروا للحيلولة بينه وبين الوصول إليه، وقد صوَّب أحدُهم سهمًا إلى فمِه ليمنعَه من تناول الماء، وقد استمات إخوتُه سعيًا منهم للوصول إلى الفرات علَّهم يتمكنون من إيصال شيءٍ من ماء إلى الحسين (ع) وأطفاله فقُتلوا عن آخرهم، فأيُّ حجَّةٍ -بعد كلِّ ذلك- يحتاجُ الحسينُ (ع) أنْ يُقيمَها عليهم؟!! ألم يكونوا يشاهدون -وقد تحلَّقوا حولَه- ما ظهَرَ على محيَّاه من الإعياء والنَصَب حتى أقعدَه عن القتال؟ ألا يُشاهدون الجراحات البليغة وقد أثخنتْ جسدَه الشريف والدماء تنزفُ من جميع جوانبه؟ فهل يحتاجُ مَن في مثل حالِه أنْ يطلبَ الماءَ ليُقيم عليهم الحجَّة؟!

إنَّ الحجَّة قائمةٌ عليهم وإنَّ قتلَه (ع) وهو ظامئ قد صدر به قرارٌ ملزِم لا يسعُ ابنُ سعدٍ الذليل الخانع ولا معسكره أنْ يتجاوزوه، فقد ذكر المؤرِّخون أنَّ ابنَ زيادٍ بعث برسالةٍ إلى عمر بن سعد فقال: "فحُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة"([20]) وفي الأخبار الطوال: "أن أمنع الحسين وأصحابه الماء، فلا يذوقوا منه حُسوة"([21]) فالقرار ليس هو منعُ الحسين (ع) من التزوُّد بالماء بل منعُه من أنْ يذوق منه قطرة وكان الحسين (ع) يعلم بذلك، وقد لاقى هذا القرار هوًى في نفوسِهم المُحتقِنة بالحقد الدفين على البيت النبويِّ فتمثَّلوه على أكمل وجه.

فهل يجسرُ بعد ذلك من أحدٍ يعرفُ الحسين -وشموخَه وأنَفَته وعلوَّ همته وبصيرته وصبره- أنْ يُحدِّثَ نفسه أنَّ الحسين (ع) قد التمسَ من هؤلاء الأجلاف ماءً ليشربه وهو يعلمُ أنَّهم لن يستجيبوا لطلبه بل سيقابلونه بالتهكُّم والمزيد من التشفِّي. ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾([22]).

وخلاصة القول:

هو أنَّه لو كان ثمة من خبرٍ يَظهرُ منه أنَّ الحسين (ع) قد التمس من هذه الطغمة الفاجرة أنْ يسقوه شيئًا من ماء لكان علينا طرحُ هذا الخبر لمنافاته مع ما هو المعلوم والمقطوع به من حال الحسين (ع) وما انطوت عليه نفسُه الأبيَّة من كرامة وأنفة يعزُّ على الدهرِ أن يجد لها شبيهًا، ومنافاته مع سيرته معهم وخطاباته ومشاهد العزَّة التي تجلَّت في مواقفه يوم عاشوراء، ومنافاته مع سيرتهم معه فلو كان ثمة من خبرٍ يظهَرُ منه أنَّه التمس من هؤلاء الأجلاف شيئًا من ماء لكان علينا طرحُه، فكيف وليس في البين شيءٌ من ذلك سوى نقولات لا أصلَ لها ولا أساس تَستندُ إليه، ولا يبعد -إنْ أحسنَّا الظن- أنَّ العواطف الخائرة هي التي نسجَتْ هذه النقولات المُسيئة لمقام أبيِّ الضيم وسيِّد الشهداء (عليه السلام).

ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

أختم بما أورده الصدوق في كتابه كمال الدين وتمام النعمة روى بسندٍ متصلٍ عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله أنَّه قال: " .. وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ نَبِيّاً، إنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ فِي السَّماءِ أكبَرُ مِنهُ فِي الأَرضِ؛ فَإِنَّهُ مَكتوبٌ عَن يَمينِ العَرشِ: مِصباحٌ هادٍ، وسَفينَةُ نَجاةٍ، وإمامٌ غَيرُ وَهِنٍ، وعِزٌّ وفَخرٌ، وبَحرُ عِلمٍ، وذُخرٌ" .(23)

جواب آخر لسماحة السيد جعفر مرتضى العاملي (ره):

إن فهم استسقاء الحسين على أساس أنه استجداء، غير دقيق.. وذلك لما يلي:

أولاً: لوجود وجوه أخرى تظهر قرائن الأحوال أنها هي المقصودة، ونذكر منها ما يلي:

أ ـ إنه [عليه السلام]، كان يريد أن يقيم الحجة عليهم وعلينا، حتى في مثل هذه اللحظات، لكي لا يحتمل أحد أنهم في زحمة الأحداث قد غفلوا عن هذا الأمر، أو ذهلوا عنه.

فيكون [عليه السلام] بذلك قد نبه الغافل منهم ـ إن كان ـ ويكون قد عرّفنا بأنهم يأتون ما يأتونه عن سابق تصميم، وعلم ودراية، وأنهم غير معذورين أبداً في شيء من ذلك..

ب ـ إنه [عليه السلام]، يريد أن يعرفنا مدى مظلوميته مع أناس يبكي ويتحسر عليهم حتى وهم يقتلونه.

ثانياً: إن طلبه شربة الماء هو الحق الطبيعي له، فهل من يطالب بحقه يكون مستجدياً؟! فكيف إذا كان حقه هذا قد حفظته له الشريعة، وأكدته له الأعراف، وفوق ذلك كله، إنه حق الإمامة، وحقه الإنساني..

ثالثاً: إنه لا بد له من أن يستنفد جميع الوسائل التي ربما تفيد في هداية بعض من بقي في قلبه ذرة من عاطفة، وبقية من إنصاف، وحد أدنى من إنسانية.. لأنه مسؤول عن هداية الناس كلهم، ولا بد أن يفتح لهم أبواب الهداية.

وهذا النداء الإنساني المتوافق مع المشاعر، والمنسجم مع الأعراف والمتناغم مع الفطرة هو أحد هذه الأبواب..

الهوامش: [1]- سورة التوبة / 120. [2]- سورة المنافقون / 8. [3]- الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص117. [4]- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي-. [5]- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص71. [6]- مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص55. [7]- الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص258. [8]- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص76. [9]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص109. [10]- نسب قريش -مصعب بن عبد الله الزبيري- ج2 / ص43. [11]- المخصص -ابن سِيده- ج4 / ص174. [12]- الثقات -ابن حبَّان- ج2 / ص310. [13]- أخبار الدول وآثار الأول ج1 / ص322. [14]- الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص258. [15]- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ترجمة الإمام الحسين (ع) ص74. [16]- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص76. [17]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص110. [18]- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص109. [19]- مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص57 [20]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص311. [21]- الأخبار الطوال -الدينوري- ص255. [22]- سورة النّور / 16. [23] - كمال الدين وتمام النعمة -الصدوق- ص265.
2023/07/27
لماذا استجاب الإمام الحسين (ع) لأهل الكوفة؟!
لماذا استجاب الحسين (ع) لأهل الكوفة وأرسل إليهم سفيره مسلمَ بن عقيل مع علمه بحالهم ومع نصح بعض أصحابه له بعدم التوجُّه إلى هناك؟

الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:

لو لم يستجب الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة لأدانه التاريخ ولقال إنَّ الحسين -والعياذ بالله- قد فرَّط في المسئوليّة الإلهيَّة المُناطة به، وذلك لأنَّ الظروف قد تهيَّأت له بعد أنْ راسله الآلاف مِن أهل الكوفة وجمع كبير مِن الوجهاء ورؤساء العشائر(1)، وأكّدوا له أنّهم على استعدادٍ تامٍّ لمناصرته وأنَّ الكوفة متهيِّئةٌ لاحتضان ثورته، وأنَّه ليس مِن العسير عليهم طردُ الوالي الأموي مِنها، وحينئذٍ وعندما تسقط الكوفة فإنَّ ذلك يُنتج سقوط القرى والمدن المجاورة لها نظرًا لارتباطها سياسيًّا وأمنيًّا بأمارة الكوفة بل وحتّى بلاد فارس والأهواز وبعض المدن الإيرانيَّة وقراها كانت تابعة سياسيًّا لإمارة الكوفة بل إنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار يُنتج سهولة الهيمنة على مدينة البصرة والمدن المجاورة لها، وذلك لأنَّ الثقل العسكري والسياسي في العراق آنذاك كان في مدينة الكوفة، وكلُّ مَن له معرفة بالتاريخ يُدرك هذه النتيجة.

ومِن هنا يكون إهمال الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة يعدُّ تفريطاً وتفويتاً لفرصةٍ استثنائيّة خصوصًا وأنَّ الحسين(ع) يُدرك أنَّ الأمّة ما كانت لتستجيب ليزيد لولا قوَّتُه وسطوته، فإذا ما استطاع أنْ يُوهن هذه القوّة فإنَّ الحواضر الإسلاميّة سوف تتداعى واحدة تلوَ الأخرى، إذ ليس ثمّة حاضرة مِن الحواضر الإسلاميّة تكنُّ الولاء الحقيقي ليزيد وللنظام الأموي إذا ما استثنَيْنا بلاد الشام، هذا بالإضافة إلى عنصرٍ آخر يُؤكّد المسئوليَّة التاريخيَّة على الحسين (ع) وهو احترام وتقدير الأمّة له نظراً لقرابته مِن رسول الله (ص) ونظرًا لإيمانها بنزاهته وكفاءته وليس مِن عائق يحول دون مؤازرته سوى بطش السلطة الأمويّة الذي أصاب الأمّة بالإحباط واليأس، فلو أنَّ الحسين (ع) استطاع إدخال الوهن على النظام الأموي فإنَّ الأمّة ستهبُّ لا محالة لمؤازرته.

مِن هنا كان سقوط الكوفة مع ملاحظة الاعتبارات الأخرى مساوقاً لضعف النظام الأموي وعجزه عن بسط هيمنته على الحواضر الإسلاميّة. ذلك لأنَّ مركز القوّة للنظام الأموي متمثِّلًا في بلادَيِ الشام والكوفة، لهذا تمكّن الثوّار في المدينة المنوّرة وكذلك مكّة الشريفة مِن طرد بني أميّة بكلّ سهولة أيّام يزيد بن معاوية، ولولا أنْ بعث إليهم يزيدُ بن معاوية جيشَ الشام بعد أنْ رفض ابن زياد واليه على الكوفة الذهاب إليهم لما تمكّن مِن استرجاع هاتَيْن المدينتَيْن مِن يد الثوّار.

وهو ما يُعبِّر عن أنَّ الكوفة والشام هما مركز القوّة للنظام الأموي، وأنَّ سرَّ هيمنته وانبساط سلطته هو ما يُدركه الناس مِن أنَّ عاقبة التمرُّد هو أنْ يُسلّط عليهم النظامُ الأموي جيشَ الشام أو الكوفة.

ومِن هنا نُؤكّد أنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار معناه أنَّ النظام الأموي يٌصبح أمام قوّةٍ مكافئة لقوّته، وهو ما كنّا نقصده مِن دخول الوهن على النظام الأموي المستوجب لتداعي الحواضر الإسلاميّة بعد أنْ لم يكن خضوعها له ناشئاً عن ولائها وإيمانها بجدارته واستحقاقه، وإنّما كان ناشئاً عن خوفها مِن بطشه وشدَّة بأسه.

وبما ذكرناه اتَّضح المنشأُ لاستجابة الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة فقد تواترت عليه كتبُهم حتّى تجاوزت الاثني عشر ألف كتاب، كلُّ كتاب مختوم مِن اثنين أو ثلاثة أو أكثر(2)، وكتب إليه رؤساءُ العشائر والوجهاء وأوفدوا إليه الرسل، ورغم كلِّ ذلك بعث إليهم مسلم بن عقيل ليقف على واقع حالهم، فجاءه كتابُ مسلم بن عقيل أنْ أقدِم فإنَّ الكوفة مهيّأة(3) لاحتضان نهضتك، فما كان يسعُه التخلُّف ولم يكن يسعه الاعتذار عن المصير إليهم بدعوى أنَّ لهم سوابقَ تُوجبُ عدم الوثوق بجدّيّة دعواتهم بعد أن بايعوا مسلم بن عقيل وعبَّروا له عن استعدادهم وصدق نواياهم.

وأمَّا عدم رجوع الحسين (ع) بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل فلأنَّ الخيار الذي اتَّخذه الإمامُ الحسين (ع) هو الاستشهاد وذلك حينما ينكشف للأمّة وللتاريخ أنَّ المسلمين لم يكونوا حينذاك مؤهّلين للجهاد ولمقارعة النظام الأموي، فقد عقد العزم على أنْ يقدِّم نفسه قرباناً لله مِن أجل أنْ تستفيق الأمّةُ مِن سُباتها، وتُدرك أنَّ النظام الأموي مريدٌ لتقويض بُنَى الإسلام، وأنّه لا يرعى حرمةً لرسول لله (ص) وأنّه على استعدادٍ لفعل كلِّ عظيم مِن أجل أن يبقى سلطانه وتبقى هيمنتُه، وأنّه لا يهمُّه كثيراً أنْ يُعصى الله في الأرض بل يمارس هو دور التضليل والإفساد.

وإذا ما أدركت الأمّةُ كلَّ ذلك واستفاقت على وقع فاجعةٍ هي بحجم قتل الحسين (ع)، وقتل ذرِّيّته وسبي بنات رسول الله (ص) فإنَّ مِن المفترض أنْ تنبعث فيها روحٌ جديدة قادرة ولو بعد حين على أنْ تُجهز على هذا النظام الفاسد.

أراد الحسين (ع) بنهضته وتضحيته أنْ يكسر حاجز الخوف وأنْ يُبدِّد حالة اليأس والخنوع الذي أصاب الأمَّة نتيجة البطش والتعسُّف اللذَين مارستهما السلطة الأمويّة معها، وأراد أنْ يُؤسِّس لفهم إسلامي أصيل هو شرعيَّة المواجهة للسلطان الجائر، وشرعيَّة السعي لتقويض سلطانه، ذلك لأنَّ النظام الأموي عمِل وفي غضون عقدَيْن مِن الزمن على ترويج دعوى هي حرمة الخروج على النظام الحاكم حتّى ولو كان فاسدًا جائرًا(4)، وسخّر لذلك المأجورين ممَّن يُنسبون لصحابة رسول الله وغيرهم ليضعوا مِن عند أنفسهم رواياتٍ تؤكِّد على عدم شرعيَّة الخروج والثورة على السلطان(5) وإنْ كان فاسقًا مستحلًّا لحرمات الله، وأنَّ وظيفة المسلم هي النصيحة والدعاء له بالهداية(6)، فإن ثابَ إلى رشده وإلاّ فعلى كلِّ مكلّفٍ الصبر، وإنْ جلَدَ السلطانُ ظهره وأخذ مالَه(7).

وهذه الثقافة الخطيرة التي سادتْ وتجذّرت بفعل السياسة الأمويَّة لم يكن مِن الممكن تصحيحها لو لم يتصدَّ لذلك رجلٌ هو بحجم الحسين (ع) ولم يكن التصدّي بمستوى التضحية، فالحسين(ع) قدّم نفسه قرباناً لله مِن أجل أنْ يُعيد الأمّة إلى المسار الصحيح، يقول (ع): "أيُّها الناس إنَّ رسول الله (ص) يقول: مَنْ رأى منكم سلطانًا جائرًا مستحلًّا لِحُرَمِ الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنَّة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقًّا على الله أنْ يُدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزِموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر .."(8).

وأمّا نصيحةُ بعض أصحابه له بعدم الخروج على يزيد أو بعدم التوجُّه إلى الكوفة فلأنَّ حساباتهم كانت سياسيَّة، ولأنّهم أنفسهم ممَّن شملهم الداء وأصابهم الوهنُ واستبدَّ بهم اليأس والإحباط، لذلك فهم لا يفهمون لغة الحسين (ع) ولا يُدركون أبعاد خروجه ونهضته.

فهذا ابن عبّاس الذي لا نشكّ في إخلاصه للإمام الحسين (ع) يتمنَّى لو كان يتمكّن مِن حبس الحسين (ع) والحيلولة دون خروجه(9)، ذلك لأنّه لم يكن قادرًا على استيعاب معنى التضحية والاستشهاد، إذ هي لغةٌ لا يفهمها إلاّ أهل البصائر ولا يقف على أبعادها إلاّ مَن تجرَّدت روحه عن كلِّ علائق الدنيا، فكم هو غريبٌ قول الحسين (ع): "إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما"(10) فهو يأنسُ بالموت والآخرون تُؤنسهم الحياة.

وقد تمكّن الإمام الحسين (ع) مِن تحقيق غايته ولم يتمكّن النظام الأموي مِن إرغام الحسين(ع) على خياره رغم ما بذله مِن وسع، وما اعتمده مِن وسائل لا تصمد أمامها أقوى الإرادات، وهذا هو معنى انتصار الدمِ على السيف.

وهكذا تبخَّر النظامُ الأموي وتلاشت أطروحتُه الرامية لتقويض بُنَى الإسلام وخَلُد الحسين وخلُدت مبادؤه.

الهوامش: 1- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص36، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص436، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص16، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج11 / ص43، كتاب الفتوح -أحمد بن أعثم الكوفي- ج5 / ص27، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص163. 2- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص38، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص172، اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص24، تاريخ الطبر ج4 / ص294، أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص158 وغيرها. 3- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص167، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص297، مقتل الحسين (ع) -أبو مخنف الأزدي- ص72، تجارب الأمم -ابن مسكويه الرازي- ج2 ص60، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص181. 4- صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص87، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج6 / ص22، عمدة القاري -العيني- ج24 / ص178، رياض الصالحين -يحيى بن شرف النووي- ص339، نيل الأوطار -الشوكاني- ج7 / ص356. 5- نفس المصدر. 6- نفس المصدر. 7- نفس المصدر. 8- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص304، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 ص48، مقتل الحسين (ع) -أبو مخنف الأزدي- ص85، الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص81. 9- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص172، الدر النظيم -إبن حاتم العاملي- ص546، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص192، أمالي المحاملي -الحسين بن إسماعيل المحاملي- ص226، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص119، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص200، ترجمة الإمام الحسين (ع) -من طبقات ابن سعد- ص61. 10- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص245، شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص150، مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص224، ذوب النضار -ابن نما الحلي- ص8، ذخائر العقبى -احمد بن عبد الله الطبري- ص150، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص115، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص218، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص305.
2023/07/26