[اشترك]
محاور المحاضرة:
تاريخ علم نفس الأديان
قراءة سيكولوجية للشعائر
وقفة نقدية لهذه القراءة
المزيد في الفيديو أدناه لسماحة الشيخ أحمد سلمان حفظه الله:
[اشترك]
محاور المحاضرة:
تاريخ علم نفس الأديان
قراءة سيكولوجية للشعائر
وقفة نقدية لهذه القراءة
المزيد في الفيديو أدناه لسماحة الشيخ أحمد سلمان حفظه الله:
يشاع بين الناس من داخل الوسط الإيماني وخارجه تساؤلٌ إشكالي، مفاده:إنّ الأحاديث التي يرويها الشيعة بشأن زيارة الحسين، والبكاء عليه؛ تستلزم تهوين الذنوب، وتفتح باب التمادي على أحكام الله تعالى، وتقتضي عدم الاكتراث بالمعاصي، وتفتح شهية العصاة، وتجرؤهم على أفعالهم، وتزرع في نفوسهم الاستخفاف بالذنوب، والاستهانة بالمعاصي، والاستخفاف بالموبقات، ولكأنّها تقول: افعلوا ما شئتم ثمّ زوروا أو ابكوا الحسين وينتهي كل شيء!!، فهل يعقل أنّ مجرّد الدمعة أو الزيارة تدخل الانسان الجنة ؟!
[اشترك]
وجواباً عن ذلك، هنا ستة تعليقات:
أولاً- هذه الأحاديث الصحيحة، والنصوص الثابتة عن النبي وأهل بيته(صلوات الله عليهم أجمعين) لم يروها الشيعة فقط، وهي ليست خاصّة بهم، ولا من متفرداتهم، بل نقلها المسلمون طُرّاً بما فيهم أهل السنة والجماعة أيضاً..وعلى سبيل المثال دون الحصر: روى أحمد ابن حنبل(المتوفى: 241هـ) في فضائل الصحابة بإسناد متصل صحيح عن الإمام الحسين(عليه السلام) أنّه كان يقول: " مَنْ دَمَعَتَا عَيْنَاهُ فِينَا دَمْعَةً، أَوْ قَطَرَتْ عَيْنَاهُ فِينَا قَطْرَةً، أَثْوَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ "(فضائل الصحابة ج2ص675ح1154 ، مؤسسة الرسالة – بيروت ، الطبعة: الأولى، 1403 – 1983 ، تحقيق : د. وصي الله محمد عباس ).
ثانياً- ينقض على هذا الطرح بنصوص قطعيّة مشابهة، سواء من السنة النبويّةكـقوله(صلى الله عليه وآله) : " مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ " .بل و بآيات قرآنية مشابهة من قبيل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48]
ثالثاً- على أنّ أحاديث الزيارة ترهن ترتّب الأثر، وتقيّد الزيارة بعبارة " عارفاً بحقه" وقد ورد في الحديث ما يوضّح المقصود، فقد روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "من زار الحسين(عليه السلام) عارفا بحقه: يأتم به؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وظاهر قوله: "يأتمُّ به" هو اتباعه سلام الله عليه، والاقتداء به، و عدم كفاية الاعتقاد والزيارة وحسب في ترتيب الأثر، وهذا هو المسلك الحقّ في أنّ العمل جزءٌ من الإيمان، وأنّ الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان العقول، أو كما في الحديث المعروف: الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
رابعاً- إنّ الإخبار عن دخول الجنة، أو استحقاقها؛ لا ينفي وقوع العذاب قبله، على أنّ للعذاب أنواع، فمنه مثلاً: عذاب الحسرة، ولهذا ذكر القران من اسماء يوم القيامة " يوم الحسرة " لتحسر الكافر على كفره والمسيء على اساءته والمحسن لقلة بضاعته واحسانه . و كما أنّ للجنة درجات ، فللعذاب والنار دركات .
خامساً- إنّ البكاء والزيارة أمر اقتضائي للجزاء وترتّب الأثر(كدخول الجنة) لا علة تامة له ، بمعنى أنّ تأثير البكاء على الإمام الحسين في دخول الجنة كتأثير الوقود في المحرك ، وتأثير النار في إحراق الورقة، فلا يتم كلّ ذلك مالم تتوفر الشروط وتنتفي الموانع، بل حتى لو قبلنا أنّ البكاء علة تامة كافية لدخول الجنة فلن يترتب اللازم المذكور في الإشكال، أعني لا يترتب عليه الاستهانة بالمعاصي؛ لسبب واضح، وهو عدم ضمان العاصي لحياته حين المعصية وبعدها قبل البكاء !
سادساً- وأمّا الكلام عن عدم معقوليّة هذه الأحاديث فينجرّ في الحقيقة إلى جميع ما ورد عن الشارع المقدس بخصوص الجزاء على العمل، فهي جميعاً لا تخضع لمعيار المساواة بين عمل الانسان في الدنيا مهما بلغ، وبين الجنة التي عرضها السموات والارض وفيها ما لاعين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على بال احد ، ولهذا ندعو " اللهم لا تعاملنا بعدلك ".أضف إلى ذلك: اختلاف الهبات باختلاف كمال الواهب ومقامه، وترتقي وتتضاعف إلى أن نصل إلى أجود الأكرمين، وأكرم الأجودين، وعندها: نفقد معيار المقايسة بين الثواب و العمل، وينظر للعطايا بالقياس إلى المعطي ويلحظ فيه كرم الواهب، و وجود المعطي، وكما يقال في المثل : إنّ الهدايا على مقدار مُهديها، وفي غير أكثر من آية يؤكد القرآن ما نقول من أنّ الجزاء الإلهي عطاء غير محدود يفوق العمل بما لا يتناهى عمل الإنسان : منها : قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : 261]
هل ما يعتقد به المسلمون من عظمة الزهراء (ع) من الاساطير ونسج الخيال؟ أم هو واقع متجذر في كتب التاريخ؟
[اشترك]
هل حاول بعض المؤرخين دس أخبارٍ لتشويه صورة الزهراء (ع)؟ أم كانوا ينقلون التاريخ بأمانة كما وقع؟
هل كانت الزهراء (ع) تعيش علاقة زوجية مضطربة؟ أم أنها كانت أنموذجاً يحتذى به؟
الجواب ومواضيع أخرى في الفيديو أدناه لسماحة آية الله السيد منير الخباز حفظه الله:
وهيَ عبارةٌ عَن موكبٍ حُسينيّ ضخمٍ أو مواكبَ صغيرةٍ تنطلقُ نحوَ مرقدِ سيّدِ الشّهداءِ سلامُ اللهِ عليه بحالةٍ خاصّةٍ منَ النّداءِ واللطمِ والبكاء.. وخروجُ مواكبِ العزاءِ في الطرقاتِ ليسَ حادثاً في القرونِ الأخيرةِ، بل بزغَت شمسُها مِن عهدٍ يناهزُ الألفَ سنةٍ، في زمانِ الدّولةِ البويهيّةِ، ففي سنةِ [352هـ] أمرَ مُعزُّ الدّولةِ النّاسَ بخروجِ مواكبِ العزاءِ والندبةِ على سيّدِ الشّهداءِ عليه السّلام [ينظرُ: الكاملُ في التاريخِ ج8 ص549].
وقد كانَ ذلكَ بمرأى ومسمعٍ مِن كبارِ الفقهاءِ والعلماءِ ببغداد.. بل قد يُستفادُ أنّ خروجَ المواكبِ في حالةِ نوحٍ ولطمٍ وهتافٍ بالهرولةِ والعدوِ نحوَ الحائرِ المُقدّسِ ـ وهيَ تشبهُ عزاءَ طويريج ـ كانَ موجوداً قبلَ ألفِ سنةٍ، فقد ذكرَ العلّامةُ الشّيخُ محمّد الحسين كاشفُ الغطاءِ في [الآياتِ البيّناتِ ص18]: « وحسبُك ما شاعَ وأخذَ بمجامعِ الأسماعِ: مِن أنّ السيّدَ الرّضيّ وردَ لزيارةِ جدِّه الحُسينِ عليه السّلام يومَ عاشوراء في بعضِ السّنينِ، فرأى جماعةً منَ الأعرابِ يَعدُونَ، وهُم ينوحونَ ويلطمونَ مُتهافتينَ، للهجومِ على الحائرِ الحسينيّ، فدخلَ في زُمرتِهم، وأنشأ في ذلكَ الحالِ على البديهةِ قصيدتَه الغرّاءَ المشهورةَ التي يقولُ في براعتِها: (كربلا لا زلتِ كرباً وبلا * ما لقيَ عندَكِ آلُ المُصطفى)».
ثمّ ليسَ في هذهِ التّعزيةِ ولا غيرِها منَ التّعازي والشّعائرِ التي جرَت عليها سيرةُ الإماميّةِ غلوٌّ وتجاوزٌ للحدِّ؛ إذ واقعةُ الطّفِّ وما جرى فيها مِن فجائعَ قد خرقَت النواميسَ الطبيعيّةَ والغرائزَ البشريّةَ، وما رأت عينُ الدّهرِ ولا ترى واقعةً مثلَها أبداً، واقعةٌ بكَت لها السّماءُ والأرضُ وما فيهما وجميعُ ما خلقَ اللهُ تعالى، وقد دلَّت الرّواياتُ والأخبارُ أنّ السّماءَ أمطرَت دماً وتراباً أحمر، واسودت وأظلمَت واحمرت الشّمسُ وانكسفت، وتحوّلَ الورسُ رماداً والزّعفرانُ ناراً واللّحمُ علقماً والذّهبُ نحاساً، وتفجّرَت الأرضُ والحيطانُ دماً، وما رُفعَ حجرٌ إلّا وُجدَ تحتَه دمٌ عبيطٌ، وانقلب التّرابُ والحصى دماً، وبكَت الملائكةُ والجنُّ والوحوشُ والحيتانُ والطيرُ والشّمسُ والقمرُ والنّجومُ، بل بكى وفجعَ بهِ أشرفُ الخلقِ أجمعينَ خاتمُ الأنبياءِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأميرُ المؤمنينَ عليه السّلامُ والسيّدةُ الزّهراءُ عليها السّلام وسائرُ أهلِ البيتِ عليهم السّلام.
وقد نطقَت الأدلّةُ الشّرعيّةُ بجوازِ بل استحباب البُكاءِ والندبةِ على سيّدِ الشّهداءِ عليهِ السّلام، وبأن الجزعَ على كلِّ أحدٍ مكروهٌ إلّا على سيّدِ الشّهداءِ عليه السّلام، وغيرِ ذلكَ منَ الشّعائرِ الحُسينيّةِ المرسومةِ لدى الإماميّةِ، وقد كتبَ جملةٌ منَ الأعلامِ رضوانُ اللهِ عليهم كتباً ورسائلَ في الشعائرِ الحسينيّةِ، وذكروا براهينَها وأدلّتَها، فمَن شاءَ التّفصيلَ فيمكنُه مراجعتُها.
ومنَ الواضحِ أنّه معَ قيامِ الأدلّةِ على جوازِ الفعلِ أو رجحانِه في الشّرعِ، لا معنى لأن يُقالَ عنهُ بأنّهُ تجاوزٌ للحدِّ؛ لأنَّ المُرادَ منَ الحدِّ هوَ الحدُّ الشّرعيُّ الذي يقبحُ تجاوزُه، بينَما معَ قيامِ الدّليلِ الشّرعيّ على جوازِ الفعلِ فلا يكونُ الفعلُ تجاوزاً لفرضِ مشروعيّتِه.
إذن: التّعازي والشعائرُ الحُسينيّةُ المُتعارفةُ لدى الشّيعةِ ـ ومِن ضمنِها عزاءُ طويريج ـ، لها أدلّةٌ علميّةٌ وبراهينُ قويمةٌ، إستندَ لها الفقهاءُ رضوانُ اللهِ عليهم للحُكمِ بالجوازِ والرّجحانِ.. وحينئذٍ لا معنى لأن يُقالَ بأنّ فيها غلوّاً وتجاوزاً للحدِّ؛ لفرضِ مشروعيّتِه بالدّليلِ.
من عجائب موسم أربعينية ١٤٤٢ الذي يأتي وسط تحديات الجائحة العالمية أمرين:
١. تزايد حجم الزائرين القادمين من خارج كربلاء غير المحسوس كالأعوام القليلة السابقة.. مما جعل الزيارة سهلة نوعاً ما على الجميع.
ولولا ان ما بين يدي من أرقام عليها وثائق وأدلة، لشككت فيها.
فخلال ١٢ يوما من أصل ٢٠ يوما هي عمر الموسم - وليس ١٥ من اصل ٢١ يوما كالعام الماضي- سجلت منظومة العد الالكتروني في العتبة العباسية المقدسة أرقام عدد الزائرين العراقيين هذا العام، وهو اكثر من السابق بحوالي 1,553,308 زوار!!!
وانخفض عدد العرب والاجانب الى بضعة آلاف، وربما بضعة مئات فقط في هذا الموسم..
فعدد العراقيين القادمين الى كربلاء في موسم اربعينية عام ١٤٤١ حوالي 13,000,000 زائر.
وعدد العرب والاجانب في موسم عام ١٤٤١ (بضمنهم الايرانيين بحسب الأرقام الدقيقة الرسمية لوزارة الخارجية العراقية وبحسب التصريحات الحكومية الإيرانية) هو:
2,229,955 زائراً.
فلو كان هذا العام فيه نفس عدد العرب والاجانب للعام الماضي -- وكان متوقعاًً زيادة عددهم- لأصبح عدد الزوار الذين دخلوا كربلاء هو:
16,783,263 زائراً
طبعاً، هذا عدا عن أعداد الزائرين في باقي ايام صفر قبل ٩ صفر، وعدا عن زوار كربلاء!!!
اذاً... ما زال موسم الاربعين يزداد كل عام، وهو خلاف معظم التوقعات، ولم يتأثر عدداً بالجائحة، بل ان ما حصل كان أكبر تجربة في العالم بعد يوم عاشوراء في كربلاء، لكسر قواعد العدوى خصوصاً بعد قلة عدد الاصابات، وعدم حصول ما توقعته الجهات الصحية..
وربما هو اكبر تجمع لتحقيق مناعة جماعية او ما يسمى طبياً (مناعة القطيع)، بعد ان أصبح الوباء أمراً واقعا.
٢. بسبب الجائحة العالمية، انتفض المؤمنون تلبية لنداء المرجعية في فتوى التكافل الاجتماعي، فتبرعوا أفراداً ومواكب وجماعات بمواد غذائية وغيرها، ومليارات الدنانير منذ بدء الجائحة، مما قلل مواردهم التي يجمعونهم كل عام استعداداً لموسم الاربعين، وبان الامر في مواكب كثيرة، من حيث عدد السرادقات او مبلغ الصرف، واعرف بعضها.
ولكن العجيب في هذا الموسم، ورغم ازدياد الزائرين وقلة الموارد، ان توزيع الطعام، كان أكثر من حساباتهم في كربلاء!! رغم تدبير أهل الموكب وحسن ادارتهم التي أذهلت العالم.
حتى وصل الامر ببعض المواكب ان يطرقوا دور المواطنين ليوزعوا عليهم ما زاد في مواكبهم.
من الواضح البيّن انّ في زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة: بل في زيارة كلّ الأنبياء والأوصياء ومن يلوذ بهم، مقاصد وأهداف مقدّسة، فان المؤمن العاقل يندفع في حركاته وسكناته من منطلقات ايمانيّة وولائيّة تدعمها الأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة من كتاب الله والأحاديث الشريفة المعتبرة، والعقل السليم والفطرة الموحدة، فلم يصدر من العبد المؤمن فعلاً وقولاً من دون نوايا صادقة وعقلانيّة، بل من وراء الأعمال الصالحة، العلم النافع والمعرفة المتكاملة، فزيارته للقبور من الصالحين والصالحات كقبور الأنبياء والأوصياء: إنّما من ورائها فوائد مقصودة وعوائد مستهدفة.
فمن أبرزها، اجمالاً وكرؤوس أقلام لمن أراد الانطلاق منها في البيان والتبيين اللفظي والكتبي، فهي كما يلي:
1 ـ توحيد الله في ذاته وصفاته وأفعاله ومعرفته في أسمائه وصفاته الجلاليّة والجماليّة.
2 ـ تجديد العهد مع الإمام 7: فانّه ورد في الحديث الشريف عن الإمام الرضا 7 قال: «إنّ لكلّ إمامٍ عهد في عنق أوليائه وشيعته وانّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ».
3 ـ تربية الانسان بصالح العمال ومرضي الأفعال، كما كان المزور في حياته، فيتعلم منه كيف يعيش وكيف يموت.
4 ـ تحصيل الثواب الاخروي والدنيوي فان ذلك من سعادته، فيحصل على سعادته من خلال ما يترتّب على زيارته من الآثار المعنويّة والماديّة، الأُخرويّة والدنيويّة، كما ورد في زيارة الأئمّة: «وجبت له الجنّة ».
«كان في جواري يوم القيامة » «أخلّصه من أهوالها وشدائدها حتّى أصيّره معي في درجتي » «تعدل حجّة مع رسول الله مبرورة » «خرج من ذنوبه كيوم ولدته اُمّه ».
5 ـ اجتناب الفواحش والمعاصي والآثام والقبائح في الأفعال والصفات، ما ظهر منها وما بطن، والورع عن محارم الله فان الزيارة تعطى للزائر المخلص نوعآ من الحصانة والوقاية.
6 ـ تعالي الروح الانسانيّة ووصولها لقمّة الكمال المودع في وجوده، وتبلورها بصبغة الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ آللهِ صِبْغَةً ).
7 ـ رعاية حقوق المؤمنين والمؤمنات، وحفظ المواثيق والتعهدات، والقيام بالواجبات والمسؤوليات على مستوى العلم والمعرفة.
8 ـ التحفيز والاندفاع نحو القيم والمُثل وروح التضحية والشهادة والفداء والجهاد في سبيل الله عزّوجلّ.
9 ـ العلاقة الروحيّة والارتباط الوثيق والحميم بين الزائر وبين المزور من أولياء الله، والاستمداد الروحي والمعنوي والروحاني عند قبورهم من أرواحهم الطاهرة باذن الله سبحانه، كما أحبّ الله ذلك. (وابتغوا إليه الوسيلة).
10 ـ الاقتداء والتأسّي بهدي المزور، وإنّه النموذج الأوّل في السيرة الطيبة بموضوعيةً وعمق من حياته وسيرته.
11 ـ تسليط الضوء العرفاني على المقاصد والأهداف السامية التي حملها المزور في حياته في مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، العلمية والعمليّة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ آللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا آللهَ وَآلْيَوْمَ آلاْخِرَ وَذَكَرَ آللهَ كَثِيراً)[1].
12 ـ تعظيم وتكريم أولياء الله سبحانه، فان الزيارة شعيرة من شعائر الله (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ آللهَ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى آلْقُلُوبِ )[2] فيتفا عل الزائر مع مزوره في حياته الجهادية والعبادية «اَشْهَدُ اَنـَّك اَقَمْتَ الصَّلوةَ، وَ آتَيْتَ الزَّكوةَ، وَاَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَبَدْتَ اللهَ مُخْلِصاً، وَجاهَدْتَ فِى اللهِ حَقَّ جِهادِهِ حَتّى اَتيك الْيَقيüنُ » ـ أي الموت، فكانوا سبباً في هداية الناس، والزائر بزيارته يشكر امامه المزور، فمن يزور الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وكذلك العترة الطاهرة، فانّه ينزل في ساحة ملك عظيم لا يحلّ فيه إلّا الطيّبون والطاهرون والمقرّبون، كالملائكة والأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين.
13 ـ كسب الطهارة المعنويّة والروحيّة بالابتعاد عن المعاصي والآثام والصفات الذميمة، فان في زيارة المعصومين تأثير خاصّ على روح الانسان وطهارته وسلامته بغفران ذنوبه وتبديل حسنات وحسناته جنات عاليات، فيكون بعد الزيارة كيوم ولدته امّه، أي كالطفل المعصوم الذي لم يذنب، ومن ثم يستأنف العمل، ويكسب الفضائل والمكارم والاخلاق الفاضلة، ويتوجّه إلى الله سبحانه بالدعاء والصلاة وتلاوة القرآن الكريم والبكاء والزيارة، فيحل في عرصات من طهّرهم الله تطهيراً، وأذهب عنهم الرجس، فيتوب العبد الزائر ويستغفر ربّه ويعاهد رسوله ووصيه أن يكون على نهجه وخطاه ويبتعد عن الذنوب وارتكاب الموبقات والفواحش، بل ويجتنب عن اللغو ويعرض حتى عن المكروهات والمباحات.
قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرَوا آللهَ وَآسْتَغْفَرَ لَهُمُ آلرَّسُولُ لَوَجَدُوا آللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)[3].
14 ـ القرب من الله عزوجل فان الزيارات من أفضل القربات، فتكون أرضية مساعدة على نحو الاقتضائية لدخول الجنّة «وجبت له الجنّة » فيقرب من الله سبحانه بالتحلية من الرذائل والذنوب، والتحلّية بالفضائل ومرضى الأفعال والأقوال، فتتجلّى فيه صفات الله وأخلاقه، ويتحلّى بأسماء الله الحسنى، ويكون مرآة لجلال الله وجماله، وهذا لمن يطلب الكمال والجمال والخير الذي أودعه الله في فطرته، فانه خلق على ذلك مفطوراً، فانه يتقرّب بزيارته إلى ربّه، وانّه في الواقع
يزوره في عرشه «فإنّكم وسيلتي إلى الله وبحبّكم وبقربكم أرجو نجاة من الله» «وأتقرّب إلى الله بموالاتكم ».
فهؤلاء المعصومون: جعلهم الله سبحانه في الوسيلة التي يبتغيها الانسان المؤمن للوصول إلى ربّه في سيره وسلوكه، فانّهم: وسائط الفيض الأقدس والمقدّس.
15 ـ تعدّ الزيارة من أكبر آيات الولاء والمحبّة والمودّة لأهل البيت: سواء في حياتهم أو في مماتهم بزيارة قبورهم المقدّسة، وهذا من مصاديق قوله تعالى: (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ آلْمَوَدَّةَ فِي آلْقُرْبَى)[4] فمن أجل تحكيمه أو احر المودّة
بين الامة والأئمّة كان التركيز البليغ في مدرسة أهل البيت: على زيارة قبورهم حتّى عدّ ذلك من تمام الوفاء بعهد الامامة ـ كما مرّ ـ وبذلك يفوز المؤمن بسعادة الدارين. فزيارة الرسول الأعظم وأهل بيته مما عليه الاصول العامّة والخاصّة وكذلك النصوص المعتبرة والأدلّة القاطعة من إصالة (تكريم الرسول) وإصالة (مودّة أهل البيت: ) فليس من البدع الّتي يتذرع بها اتباع المدرسة الاُموية في تكفير المسلمين قاطبة بزيارتهم قبور الصالحين والصالحين كما رحجان زيارة القبور ثابت في محلّه عند جميع المذاهب الإسلاميّة.
الهوامش:
[1] الأحزاب (33): 21.
[2] الحجّ (22): 32.
[3] النساء (4): صلى الله عليه وآله4.
[4] الشورى (42): 23.
لا ريب في رجحان الزيارة الأربعينية في نفسها كما لاريب في أهميتها شرعًا، وذلك من خلال بيان عدة نقاط ترتبط بأهمية هذه الزيارة:
النقطة الأولى: إحياء أمر آل محمد
إن الزيارة المليونية اتصفت بعناوين جليلة، واكتسبت أوصافًا كبيرة أخرجتها عن كونها كسائر الزيارات المستحبة الأخرى، فقد اتسمت هذه الزيارة بما تضمنته من زحف الملايين من المسلمين لزيارة الحسين عليه السلام بتحولها مظهرًا من مظاهر عظمة الإمام الحسين وإعلانًا عالميًا لمبادئه وأهداف نهضته المباركة، فأصبحت - مضافًا لرجحانها في نفسها - من العناوين المؤكدة في الرجحان التي لا خلاف فيها.
وذلك بلحاظ أنها من أوضح مصاديق إحياء أمر آل محمد - صلوات الله عليهم - والذي ورد فيه في الحديث المعتبر: ”أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا“.
النقطة الثانية: عظمة المذهب
إن الزيارة الشريفة أضحت معلمًا من معالم مذهب أهل البيت - صلوات الله عليهم -، وسمة من سمات عزته وشموخه، فإن الباحث عن الحقيقة والمتأمل المنصف من أي ملة كان إذا رأى الملايين تترابط بشكل منظم كأنها أسرة واحدة، تعيش شؤونها وهمومها، وتبذل وتضحي بأقصى ما عندها من الوقت والجهد والمال تجاه بعضها البعض، وتتفقد أحوال الفقير وتسعف المحتاج وترفد اليتيم تفانيًا في حب آل محمد - صلوات الله عليهم -، والذين نادى القرآن بضرورة مودتهم وخدمة أتباعهم، وجميع تلك الصور من البذل عطاء من دون مقابل، فكان ذلك حاكيًا عن عظمة مذهب أهل البيت - صلوات الله عليهم -.
فإن المذهب الذي يستطيع بتعاليمه أن يربي أبناءه على هذه القيم والفضائل وبكل سلاسة وروح مطواعية، ويحولهم خلال أيام إلى مجتمع مترابط متآزر، هو مذهب ينبع من معين الحق تعالى، ومن كنز الفضيلة دوحة المصطفى محمد، والمرتضى أمير المؤمنين، والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
النقطة الثالثة: فرصة للوعظ والتبليغ
إن الزيارة المليونية العظيمة فرصة ثمينة لكثير من آلاف المؤمنين الوافدين من خارج العراق للقاء المراجع والعلماء، وتوجيه قضاياهم الشرعية، والاستقاء من نمير الحوزة العلمية، كما أنها مهرجان حسيني عظيم يجلب الإخوة من أهل السنة، والكثير من أهل الديانات الأخرى كالمسيحيين والصابئة وغيرهم.
النقطة الرابعة: حث الأحاديث المتواترة على الزيارة
إن هذه المسيرة الراجلة لم تحدث صدفة وبدون تخطيط، بل إن التتبع التاريخي لها يشهد بأنها انطلقت منذ زمان أهل البيت - صلوات الله عليه - بعد مصرع الإمام الحسين عليه السلام بفترة وجيزة، وكان الراجلون الحفاة أفرادًا قلائل من أنحاء الكوفة وأريافها، لكنها توسعت بمرأى ومسمع من الأئمة الطاهرين - صلوات الله عليهم -، وحظيت منهم بالإمضاء والدعم.
فإن الملاحظ للأحاديث المتواترة الواردة في الحث على زيارة الإمام الحسين عليه السلام يكتشف من خلال التركيز فيها على الزيارة بأشكالها وصورها أنها ناظرة لتلك المسيرات الزاحفة نحو قبر سيد الشهداء - صلوات الله عليه -، وهي ما أشار إليه الحديث الوارد عن الإمام العسكري عليه السلام بقوله: ”وزيارة الأربعين“ التي هي يوم معهود مشهور لدى الإمامية منذ تلك الأعصار، كما أشار إليه القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وامور الآخرة المتوفى عام 671 هـ وهو من مؤرخين أهل السنة وغيره.
وقد استمرت سيرة العلماء وفقهاء الحوزة العلمية بعد عصر الغيبة إلى يومنا هذا على دعم المسيرة والحث الشديد عليها، ومنهم المراجع المعاصرون كالسيد السيستاني والسيد الحكيم والشيخ الوحيد والشيخ الفياض - دامت ظلالهم الشريفة -.
النقطة الخامسة:
إن تضعيف الزيارة والتشكيك في قيمتها مع كونها وجهًا بارزًا من وجوه كيان التشيع بعيد
عن الصواب كما ان هذه الاشكالات لا أهمية لها بعد المفروغية عن محبوبية الزيارة في نفسها بالعناوين والملاكات المختلفة خصوصًا وقد اتسمت هذه الزيارة العظيمة بما أخرجها عن كونها زيارة مستحبة مثل سائر الزيارات في سائر الأيام إلى درجة المسيرة المعبرة عن عظمة الأئمة - صلوات الله عليهم - وترويج قيمهم وفضائلهم وإحياء أمرهم.
فإن الفقيه كل الفقيه كما يصرح سيدنا الأستاذ السيستاني دامت بركاته من يتأمل في كل قضية وظاهرة بمختلف عناوينها وملابساتها وآثارها الفعلية والمستقبلية، إذ الفقاهة المقصودة في النصوص الشريفة نحو قوله عز وجل: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، وما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: ”لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا“، ليست هي عبارة عن معرفة الحلال والحرام، وإنما هي الإحاطة بدقائق الفقه واكتشاف سائر النكات المختزنة في روايات أهل البيت عليهم السلام، والقدرة على ربط التعاليم الواردة في أحاديثهم مع الأهداف العليا للدين المتلقاة عنهم، وتوجيهها بإطارها، وقراءة كل حدث من خلال النصوص والمرتكزات وسائر الملابسات المكتنفة بها.
[اشترك]
إنَّ استحباب زيارة الامام الحسين (ع) ثابتٌ مطلقاً في تمام أيامِ السنة، وذلك لتواتُر الرواياتِ عن أهل البيتِ (ع) الدالَّةِ صريحاً على ذلك، فاستحبابُ زيارة الحسين (ع) في اليوم المصادفِ ليوم الأربعين من استشهاده داخلٌ في عموم ما دلَّ على استحباب زيارتِه في مُطلقِ أيام السنة، هذا مضافاً إلى ما ورد مِن استحباب زيارته في هذا اليوم بنحو الخصوص فيكون ذلك دليلاً ليس على استحباب زيارتِه في يوم الأربعين وحسب بل على تأكُّد استحبابِها في هذا اليوم.
والنصُّ الذي يُمكنُ اعتمادُه في ذلك هو ما أوردَه الشيخُ أبو جعفرٍ الطوسي (رحمه الله) في التهذيب قال: "أخبرنا جماعةٌ من أصحابنا عن أبي محمَّد هارون بن موسى بن أحمد التلعكبري قال: حدَّثنا محمَّد بن علي بن مَعْمر قال: حدَّثني أبو الحسن عليُّ بن محمد بن مسعدة والحسنُ بن عليٍّ بن فضال عن سعدان بن مسلم عن صفوان بن مهران الجمَّال قال: قال لي مولاي الصادقُ (صلوات الله عليه) في زيارة الأربعين: "تزورُ عند ارتفاعِ النهار وتقولُ: (السلامُ على وليِّ اللهِ وحبيبِه، السلامُ على خليلِ الله ونجيبِه، السلامُ على صفيِّ الله وابن صفيِّه، السلامُ على الحسينِ المظلومِ الشهيدِ، السلام على أسيرِ الكُربات وقتيلِ العبَرات .. وتُصلِّي ركعتين وتدعو بما أحببتَ وتنصرف"(1).
فهذه الرواية موثَّقة من طريق الحسن بن عليِّ بن فضَّال، فمحمَّد بنُ عليِّ بن مَعْمر هو أبو الحسين بن مَعْمر الكوفي ذكره الشيخُ الطوسي في الفهرست وأفاد أنَّ له كتباً منها كتاب قرب الإسناد(2) وذكره في الرجال تحت عنوان محمَّد بن عليِّ بن معمر الكوفي، قال: ويُكنى أبا الحسين صاحب الصبيحي، سمِع منه التلعكبري سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وله منه إجازة(3). وعنونه ابنُ النديم البغدادي (4) في فقهاء الشيعة ومحدِّثِيهم وعلمائهم بلفظ (أبو الحسين بن معمّر الكوفي) قائلاً: وله من الكتب كتابُ قرب الإسناد (5) فالرجل إذن من المعاريف ولم يرد فيه قدحٌ فهو ثقة.
وأمَّا سعدان بن مسلم فهو من المعاريف ومن أصحاب الأصول وهو من مشايخ صفوان بن يحيى البجليِّ الذي لا يروي ولا يُرسِلُ إلا عن ثقة، وقد وثَّقه عليُّ بن ابراهيم القميِّ في تفسيره ضِمن توثيقِه العام لرجال أسناده في التفسير، وأمَّا بقيةُ رجال السند فهم من الثقات الأجلاء، ولذلك فالرواية معتبرةٌ سنداً.
وهي من حيثُ الدلالة صريحةٌ في أنَّ ليوم الأربعين زيارةً خاصَّة يُزارُ بها الإمام الحسينُ (ع) عند ارتفاع النهار، وذلك يقتضي تأكُّد الاستحباب، إذ أنَّ أصلَ الاستحباب ثابتٌ في مطلق أيام السنة فإذا تمَّ النصُّ على يومٍ بالخصوص كيوم عرفة فإنَّ ذلك يكونُ ظاهراً ظهوراً بيِّناً في أنَّ لهذا اليوم خصوصيَّةً يتأكَّدُ بمقتضاها الاستحباب. كما هو الشأنُ في مثل الصوم فإنَّه مستحبٌ في مطلق أيام السنَّة فإذا تمَّ النصُّ على يومٍ مخصوص فإنَّ ذلك يقتضي تأكُّد استحبابِه، وهكذا هو الشأنُ في الصلاة فإنَّها خيرُ موضوعٍ -كما أفاد أهلُ البيت(ع)- فيُستحبُّ الإتيان بها في كلِّ وقت، فإذا تمَّ النصُّ على وقتٍ مخصوصٍ فإنَّ ذلك يكونُ مقتضياً لاستظهار تأكُّد استحبابِ الصلاة فيه.
هذا ويُمكن تأييد تأكُّد الاستحباب لزيارة الحسين (ع) يوم الأربعين بما رواه الشيخُ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) في المصباح والتهذيب مرسَلاً عن أبي محمدٍ الحسنِ العسكري (ع) أنَّه قال: "علاماتُ المؤمن خمس: صلاةُ الخمسين، وزيارةُ الأربعين، والتختُّم في اليمين، وتعفيرُ الجبين، والجهرُ ببسم الله الرحمن الرحيم"(6).
وأمّا زيارة الإمام الحسين (ع) مشياً على الأقدام ، فانّه يعدّ من أفضل القربات إلى الله عزّوجلّ ، كما أكّد ذلك ائمّتنا الأطهار، فانه من أبرز مصاديق هذه الفقرة في دعاء كميل عن أميرالمؤمنين علي (ع) عن الخضر سلام الله عليه (وليت شعري يا سيّدي ومولاي أتسلّط النار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة ... وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة ) فمن أوطان التعبّد وأبواب الإيمان : محمّد وآله الطاهرين ، شفعاء الخلق أجمعين .
ثم لمشينا على الأقدام لكلّ المراقد المطهّرة لأئمّتنا الأطهار، ولاسيّما لسيّد الشهداء (ع) وفي خصوص يوم الأربعين ، دلالات واضحة تعلن عن ولائنا الخالص لأهل البيت، وتجديد العهد والبيعة منّا له صغاراً وكباراً قلباً وقالباً، شعوراً وشعاراً، بالجوارح والجوانح، وكلّنا نصرخ ونهتف ليسمع العالم بأجمعه، إنّنا مع أئمّة أهل البيت، معهم معهم لا مع عدوّهم ، أجل مع الغائب منهم ومع الحاضر، ونلبّي صرخة الإمام الحسين (ع) التي ردّت يوم عاشوراء (هل من ناصر ينصرني) فنقول بكلّ وجودنا وحياتنا (لبّيك لبّيك يا حسين) مهما تباعدت الأزمنة والدهور، وإذا قال ولده المهدي المنتظر الطالب بثاره (يا لثارات الحسين) فانا نقول بكل اخلاص وفداء (لبّيك لبّيك يا داعي الله وداعي رسوله) (لبّيك يا حسين ان لم يجبك بدني عند استغاثتك ، ولساني عند استنصارك ، فقد أجابك قلبي وسمعي وعيني وبصري) يا قرّة عيني، عسى ان نؤدّي جزّء لا يتجزء من حقوقهم المهدورة بهذا المشي المليوني من كلّ أرجاء المعمورة، وفي كلّ عام في مثل زيارة الأربعين .
واليكم جملة من الروايات المعتبرة الدالّة على استحباب المشي مؤكّداً بنحو عام وآخر في خصوص زيارة الحسين (ع):
1 ـ روى العيّاشي بسنده عن معاوية العجلي قال: كنت عند أبي جعفر(ع) اذ دخل عليه قادم من خراسان ماشياً، فأخرج رجليه وقد تغلفتا ـ أي تشقّقتا ـ وقال : اما والله ما جاءني من حيث جئت إلّا حبّكم أهل البيت، فقال أبو جعفر(ع): والله لو احبّنا حجر حشره الله معنا، وهل الدين إلّا الحب، ان الله يقول : (قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ آللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ آللهُ) وقال : (يحبّون من هاجر اليهم ) وهل الدين إلّا الحبّ[1] .
2 ـ في زيارة أميرالمؤمنين (ع) مشياً: في فرحة الغري عن الإمام الصادق (ع) قال : من زار أميرالمؤمنين (ع) ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة حجّة وعمرة، فان رجع ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة حجتين وعمرتين.
وهذا يدلّ بوضوح أن الرجوع مشياً كذلك، فان له الأجر المضاعف، ومن باب (كلّهم نور واحد) وفي هذه الفضائل المتعلّقة بأصل الامامة بمنزلة واحدة ، ومن باب (تنقيح المناط الاطمئناني) الذي يفيد الظن المتاخم للعلم الواقعي، ويسمى بالعلم العادي، نجري الحكم في زيارة الإمام الحسين (ع) لوحدة الملاك ، فالذهاب إليه ماشياً له ماله من الأجر والثواب كما في الروايات الشريفة ، والإياب منه كذلك ماشياً له ضعف ما له في الذهاب، فاغتنم الفرصة الذهبيّة والعرفانيّة، ولا تحسّ بالتعب والنصب، فان الحبّ الحسيني يطغى على كل ألم وصعوبة ويسهل كل خطب وهول.
3 ـ عن الإمام الصادق (ع): يا بن مارد من زار جدّي عارفاً بحقّه كتب الله له بكلّ خطوة حجّة مقبولة وعمرة مبرورة، يابن مارد ما يطعم الله النار قدماً غبّرت في زيارة أمير المؤمنين، ماشياً كان أو راكباً، يا بن مارد اكتب هذا الحديث بماء الذهب.
بيان: غبرت أي علاها الغبار والتراب في طريقه إلى زيارة أمير المؤمنين، وكذلك إلى قبور الأئمّة المعصومين: ومنهم سيّد الشهداء الإمام الحسين (ع).
4 ـ وروى السيّد عبدالكريم بن طاووس عن صفوان الجمّال قال: لما وافيت مع جعفر الصادق (ع) الكوفة يريد أبا جعفر المنصور قال لي : يا صفوان أنخ الراحلة فهذا قبر جدّي أمير المؤمنين (ع) فأنختها ثمّ نزل فاغتسل وغيّر ثوبه وتحفّى ـ أي مشى حافياً من دون نعل أو حذاء ـ وقال لي : افعل مثلما أفعله ـ فقوله وفعله وتقريره حجّة ـ ثمّ أخذ نحو الذكوة (النجف ) وقال : قصّر خطاك وألقِ ذقنك نحو الأرض ـ أي أطأ رأسك علامة للتواضع والخشوع ـ فانّه يكتب لك بكلّ خطوة مائة حسنة ، ويمحى عنك مائة ألف سيّئة ، ويرفع لك مائة ألف درجة ، وتقضى لك مائة ألف حاجة ، ويكتب لك ثواب كلّ صدّيق وشهيد مات أو قتل . ثمّ مشى ومشيت معه على السكينة والوقار نسبّح ونقدّس ونهلّل إلى أن بلغنا الذكوات (التلول)، فوقف (ع) ونظر يمنة ويسرةً وخطّ بعكازته فقال لي : اطلب فطلبتُ، ثمّ أرسل دموعه على خديه ، وبدء بزيارة جدّه أميرالمؤمنين (ع).
هذا في زيارة أميرالمؤمنين علي (ع)، وكذلك الأمر في زيارة أولاده المعصومين : كزيارة سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي : كما ورد ذلك في الروايات عند الخاصّة والعامّة ، ويذكر العشرات من الأحاديث الشريفة التي تنصّ على فضل واستحباب الزيارة مشياً على الأقدام .
5 ـ منها: عن حمّاد بن ثابت عن عبدالله بن الحسن قال : من زار الحسين (ع) لا يريد به إلّا الله فتفطّرت قدماه في ذهابه إليه، كان كمن تفطّرت قدماه في سبيل الله.
6 ـ ومنها: عن الحسين بن ثويبر بن أبي فاختة عن أبي عبدالله(ع) قال في حديث :
إذا أتيت أبا عبدالله (ع) فاغتسل على شاطئ الفرات، ثمّ ألبس ثيابك الطاهرة، ثمّ امشي حافياً، فانّك في حرم من حرم الله وحرم رسوله ، وعليك بالتكبير والتهليل والتمجيد والتعظيم لله كثيراً، والصلاة على محمّد وأهل بيته حتّى تصير إلى باب الحائر (باب الحسين (ع)).
7 ـ عن صفوان بن مهران قال: ان أبا عبدالله جعفر بن محمّد (ع) لمّا قدم إلى الحيرة ، قال لي : هل لك في زيارة قبر الحسين وهل تزوره ؟ فقلت : جعلت فداك وكيف لا أزوره في ليلة الجمعة ، وقلت : يابن رسول الله هل تزوره يوم الجمعة حتّى ندرك زيارته ؟ قال : نعم يا صفوان ، فأتينا كربلاء، ونزل الصادق (ع) قرية الغاضريّة على ضفة الفرات فاغتسل ولبس ثياب الطهر، وتوجّه ماشياً نحو قبر جدّه أبي عبدالله الحسين (ع)، وعند وصوله إلى باب الحرم الشريف ، انكبّ على القبر وقال : السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله... إلى آخر الحديث.
فكان الإمام الصادق (ع) ولنا فيه اُسوة حسنة وقدوة صالحة ، من أوائل المشاة لزيارة قبر جدّه سيّد الشهداء(ع) وإنّ في زيارته مشياً من الأجر والثواب ، ومن الأسرار وفتح الأبواب ، وقضاء الحوائج والشفاعة ما لا يعلمه إلّا الله سبحانه وتعالى ، وان اللسان ليعجز، والقلم ليكلّ عن بيانه وإحصائه .
8 ـ عن علي بن ميمون الصائغ عن أبي عبدالله (ع) قال: يا علي زر الحسين ولا تدعه قال: قلت: ما لمن أتاه من الثواب؟ قال: من أتاه كتب الله له بكلّ خطوة حسنة ، ومحا عنه سيّئة ، ورفع له درجة ، فاذا أتاه وكّل الله به ملكين يكتبان ما خرج من (فمّه) من خير، ولا يكتب ما يخرج من فيه من شيء ولا غير ذلك ، فاذا انصرف ودّعوه وقالوا: يا وليّ الله مغفور لك ، أنت من حزب الله وحزب رسوله وحزب أهل بيت رسوله ، والله لا ترى النار بعينك أبداً، ولا تراك ولا تطعمك أبداً.
9 ـ عن سدير الصيرفي قال : كنّا عند أبي جعفر (ع) فذكر فتى قبر الحسين (ع) فقال له أبو جعفر (ع): ما أتاه عبد فخطا خطوة ، إلّا كتب له حسنة وحُطّت عنه سيّئة .
10 ـ عن أبي الصامت قال : سمعت أبا عبدالله (ع) وهو يقول : من أتى قبر الحسين (ع) ماشياً، كتب الله له بكلّ خطوة ألف حسنة ، ومحا عنه ألف سيّئة ، ورفع له ألف درجة ، فاذا أتيت الفرات فاغتسل وعلّق نعليك وامش حافياً، وامش مشي العبد الذليل ، فاذا أتيت باب الحير فكبّر أربعاً ثمّ امش قليلاً، ثمّ كبّر أربعاً، ثمّ ائت رأسه ، فقف عليه فكبّر أربعاً وصلّ عنده واسأل الله حاجتك[2] .
هذه جملة من الروايات المعتبرة الدالّة على فضيلة المشي على الأقدام لزيارة المعصومين، ولا سيّما سيّد شباب أهل الجنة ، ريحانة رسول الله (ص) وسبطه الثاني سيّد الشهداء الإمام الحسين (ع).
فسّلام الله وسلام ملائكته ورسله وانبيائه وأوصيائه وعباده الصالحين على تلك الأقدام الّتي مشيت باخلاص وبحبّ وولاء إلى حرم سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين (ع). وياليتنا كنا معهم فنفوز فوزآ عظيمآ. اللّهم انّك تعلّم إنا نحبّ ذلك ، فاشركنا في أعمالهم وثوابهم آمين ربّ العالمين.
أورد ذلك الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين (ع) قال: "ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحاتٌ كثيرة فقال: يا أبت! العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربةٍ من ماء سبيلٌ أتقوّى بها على الأعداء؟ فبكى الحسينُ (عليه السلام) وقال: يا بُنَيَّ! عَزَّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى عَليٍّ وَعَلى أَبيكَ، أَنْ تَدْعُوهُمْ فَلا يُجيبوُنَكَ، وَتَسْتَغيثَ بِهِمْ فَلا يُغيثُونَكَ، يا بُنَيَّ! هاتِ لِسانَكَ. فأخذ لسانَه، فمصّه، ودفع إليه خاتمه وقال له: خُذْ هذَا الْخاتَمَ في فيكَ وَارْجِعْ إلى قِتالِ عَدُوِّكَ، فَإِنّي أَرْجوُ أَنْ لا تُمْسي حَتّى يَسقيَكَ جَدُّكَ بِكَأسِهِ الأَوْفى، شَرْبَةً لا تَظْمَأُ بَعْدَها أَبَدًا"(1).
تفرُّد الخوارزمي بنقل الزيادة:
ولم أجد غيرَه -ممَّن تصدَّى لبيان تفاصيل مقتل عليِّ بن الحسين الأكبر(ع)- مَن ذكر ذلك، وهو ما يمنع مِن الوثوق بصحَّة ما أورده خصوصًا وأنَّ غيره قد تصدَّى لبيان الواقعة -كالشيخ الصدوق والقاضي النعمان في شرح الأخبار، وابن أعثم في الفتوح، وابن شهراشوب، وابن نما الحلِّي والسيد ابن طاووس(2)– إلا أنَّهم لم يذكروا سوى أنَّ الإمام الحسين (ع) قد أجابه بقوله: "صبرا يا بُني، يسقيك جدُّك بالكأس الأوفى"(3) أو ما يقربُ من هذا المعنى.
فعدمُ ذكرِهم للخصوصيَّة الزائدة في الواقعة وهي مصُّ اللسان والخاتم التي ذكرها الخوارزمي -رغم أنَّها الأكثرُ إثارةً في الواقعة ورغم عدم وجود ما يقتضي الإغفال لذكرها- يسلبُ الوثوق بصدق هذا المقدار من الواقعة المذكورة.
والمُلفت أنَّ النصَّ الذي نقلَه ابنُ نما الحلِّي والسيِّدُ ابن طاووس للواقعة يُطابق تقريبًا ما نقله الخوارزمي إلا أنَّهما لم ينقلا الخصوصيَّة الزائدة التي ذكرها الخوارزمي، فإمَّا أنْ يكونا قد نقلا الواقعة عن الخوارزمي فعدم نقلهما لهذه الخصوصيَّة الزائدة لا يخلو إمَّا لعدم ورودها في النسخة التي وصلتهما أو لعدم وثوقهما بصحَّتها وعلى كلا التقديرين يكون ذلك معزِّزًا للارتياب في صحَّة هذه الزيادة، وإمَّا أنْ يكون الجميع قد نقل الواقعة عن مصدرٍ واحد والأقرب أنَّه الفتوح لابن أعثم لتقارب ألفاظ النص، وهو خالٍ من الزيادة المذكورة، أو أنَّهم قد نقلوا من مصدرٍ آخر مشترك بين الجميع، فلماذا لم يذكر ابنُ نما والسيِّدُ ابن طاووس هذه الزيادة رغم أنَّها الأكثر إثارة، ورغم أنَّ الدواعي مقتضية للنقل، فعدمُ النقل لا يخلو إمَّا لعدم الوجود أو لعدم الوثوق.
ما هو الغرض من وضع لسانه على لسانه:
ثم إنَّه لم يتَّضح الغرضُ من وضع لسانِه على لسانه وإعطائه الخاتم ليضعَه في فمِه، فهل هو لغرض إطفاء عطش الأكبر (ع) من طريق الإعجاز؟ لو كان ذلك هو الغرض لارتوى عليٌّ الأكبر (ع) دون ريب، فالحسينُ (ع) أكرمُ مَن على وجه الأرض على الله تعالى إلا أنَّ من المُحرَز أنَّ الإمام الحسين (ع) لو فعلَ ذلك مع ابنه الأكبر لفعلَه مع القاسم وعبد الله وعون وجعفر وعبد الرحمن ومحمد وغيرهم من الشهداء خصوصًا مَن كان منهم في مقتبلِ العمر، فجميعُ هؤلاء الكِرام قد أخذَ العطشُ منهم مأخذًا عظيمًا، ولو كان قد فعلَ ذلك لتناقلته الرواة لتوافر الدواعي لنقلِه وانتفاء الموانع، فكيف لم يصلْ من ذلك عينٌ ولا أثر.
ولو كان الغرضُ من وضعِ لسانِه على لسانه هو تسلية الأكبر (ع) أو إقناعه بأنَّ الحسين (ع) مثله عطشان فإنَّ هذا الاحتمال في غاية البُعد، فإنَّ ذلك لو كان هو الغرض فما معنى إعطائه الخاتم ليضعَه في فمه؟!
على أنَّ توهُّم احتياج الأكبر لذلك ليقتنعَ أنَّ الحسين (ع) مثله عطشان وأنَّه لا سبيل إلى شيءٍ من الماء، توهُّمُ ذلك لا يخلو من إساءةٍ لمقام عليٍّ الأكبر (ع) الموصوف في الزيارة الناحية بأنَّه حجَّةُ الله وأمينُه(4) وبأنَّه الأشبهُ برسول الله (ص) سَمتًا كما في رواية الصدوق(5) وبأنَّه الأشبه برسوله (ص) في أخلاقه ومنطقه(6)، إنَّ مَن يحظى بهذا المقام السامي لا يحتاج للإذعان بالحالة التي عليها الحسين (ع) لغير الملاحظة لشاهد الحال.
الوجه في شكاية العطش للحسين (ع):
وأمَّا قوله لأبيه: العطش فهو من بثِّ الشجون الذي يتَّفق صدورُه من العطشان تلقائيًا، فلم يكن غرضُه من ذلك هو الطلب الجِّدي للماء من أبيه (ع) لعلمِه أنَّ ذلك غيرُ متاح. أو أنَّه أحبَّ أنْ يَسمعَ من أبيه المتَّصل بعالم الغيب بشارةً تُهوِّنُ عليه ما يجدُ، وتُحفِّزه وتشدُّ من عزمِه، فإنَّ المجاهدَ القادم على الموتِ المحتوم يُعجبُه السماع للحديث عن العاقبة الخيِّرة التي تنتظرُه.
ولعلَّه لذلك كان الإمام الحسين (ع) يُكثر من مخاطبة المجاهدين بمثل هذه البشائر كقوله (ع) –وهو الذي لا يُحجبُ له دعاء ولا تُردُّ له شفاعة- كقوله (ع) لابن المهاصر الكندي: "اللهمَّ سدِّد رميتَه واجعل ثوابَه الجنَّة"(7).
وكقوله (ع) لعمرو بن قرظة الأنصاري والذي كان يتلقَّى السهام بيده ومهجته كي لا تصل إلى الحسين (ع) فحين أثخنته الجراح قال: أوَفيتُ يابنَ رسول الله فقال (ع): "نعم أَنْتَ أَمامي فِي الْجَنَّةِ، فَاقْرَأْ رَسُولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) عَنّي السَّلامَ، وَأَعْلِمْهُ أَنّي فِي الأَثر"(8).
وكقوله (ع): لحنظلة الشبامي وقد خاطب الحسين بقوله: "أفلا نروحُ إلى ربِّنا ونلحقُ بإخواننا" فقال (ع): "بلى رُحْ إلى ما هو خيرٌ لك من الدنيا وما فيها، وإلى ملكٍ لا يَبلى"(9).
وكقوله (ع): للحرِّ بن يزيد ودمُه يشخب: "بخٍ بخٍ يا حرُّ، أنت حرٌّ كما سُمِّيت في الدنيا والآخرة"(10).
وكتلاوته (ع) عند مصرع مسلم بن عوسجة لقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)(11)(12).
كيف تطلبون الشفاء من تربة الحسين؟ أليس هذا من الشرك الذي لا يغفره الله؟ ما الفرق بينكم وبين كفار قريش الذين يعتقدون الشفاء والنفع والضر في الأصنام المصنوعة من تراب؟
الجواب:
أولا: إنّ الملاك في كون الشيء شركا أم لا هو أمرين إمّا صدق عنوان العبادة من دون الله عليه المتضمن اعتقاد الألوهية في المعبود، أو اعتقاد النفع أو الضر أم مطلق التأثير الذاتي في الشيء، فلو سجد الإنسان إلى جدار لا يكون عمله شركا إلّا إذا اعتقد ألوهية الجدار، ولو تناول الإنسان شيئا لاعتقاده أنّ فيه الشفاء فلا يكون عمله شركا ما لم يعتقد أنّ الشفاء من ذاتياته لا بإفاضة من الله عزّ وجل وهذا ما يعتقده الشيعة حيث يقولون أنّ هذه التربة قد جعل الله الشفاء من خصائصها كما جعل ذلك في الأدوية والأشجار والنباتات وبعض المياه فما المانع من ذلك؟
وسأسرد عليك بعض الأمور التي لم يختلف المسلمون في كونها ممّا يستشفى به من كلّ داء:
العسل: قال الله عزّ وجل في سورة النحل 68/69: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
الحبة السوداء: روى البخاري في صحيحه 7/13: أنّ أبا هريرة أخبرهما أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام (الموت).
ماء زمزم: روى الطبراني في المعجم الأوسط 4/179: عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام من الطعم وشفاء من السقم.
الحجامة: روى الطبراني في المعجم الأوسط 6/363: عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من احتجم صبيحة سبع عشرة كان له شفاء من كل داء.
ولو كان مجرّد الاعتقاد بأنّ في هذه الأمور شفاء شرك لحكمت به على كلّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وهذا باطل بالضرورة.
ثانيا: إنّ دعوى الشيعة كون تربة الحسين (ع) ممّا يستشفى به مبنيّة على نصوص صحيحة موجودة عندهم ومثبتة في مصادرهم عن أئمتهم الطاهرين عليهم السلام الذين افترض الله طاعتهم:
ما رواه الكليني 4/588 بسنده: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عند رأس الحسين عليه السلام لتربة حمراء فيها شفاء من كل داء إلا السام (الموت)
وما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي 319: عن الصادق عليه السلام قال: إن الله جعل تربة الحسين شفاء من كلّ داء، وأمانا من كل خوف، فإذا أخذها أحدكم فليقبلها وليضعها على عينه، وليمرّها على سائر جسده.
وما رواه في نفس المصدر بسنده: حدثنا سعد بن سعيد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: سألته عن الطين الذي يؤكل يأكله الناس، فقال: كل طين حرام كالميتة والدم وما أهل لغير الله به ما خلا طين قبر الحسين عليه السلام، فإنه شفاء من كل داء.
ثالثا: إنّ الاستشفاء بالتربة موجود ومثبت في كتب أهل السنة والجماعة، وقد نصّ الفقهاء والمحدثون على الاستشفاء بأكثر من صنف من التراب نذكر منها:
الطين الأرمني: نقل جملة من فقهاء العامة أنّه ممّا يتداوى به، والظاهر أنّ هذا الأمر محلّ تسالم بين قدمائهم، نقل ابن قدامة في الشرح الكبير 11/115 عن أحمد بن حنبل: قال أحمد أكره أكل الطين ولا يصح فيه حديث إلا أنه يضر بالبدن يقال إنه ردي وتركه خير من أكله وإنما كرهه أحمد من أجل مضرته فإن كان منه ما يتداوى به كالطين الأرمني فلا يكره.
الشافي في كتاب الأم 1/67: فأما الطين الأرمني والطين الطيب الذي يؤكل فإن دق فتيمم به أجزأه.
النووي في روضة الطالبين 1/222: فالتراب متعين (في التيمم)، ويدخل فيه جميع أنواعه، من الأحمر، والأسود، والأصفر، والأغبر، وطين الدواة، وطين الأرمني الذي يؤكل تداويا وسفها.
تراب المدينة: جلّ من كتب في فضائل المدينة نص على أنّ تربتها شفاء من كلّ داء تماما كما يعتقد الشيعة في تربة الإمام الحسين عليه السلام:
نقل ابن النجار البغدادي في كتابه تاريخ المدينة المنورة 82 بسنده عن ابراهيم بن الجهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أتى بني الحارث روبا فقال: مالكم يا بني الحارث روبا؟، قالوا نعم يا رسول الله أصابتنا هذه الحمى، قال: فأين أنتم عن صعيب؟ قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: باسم الله تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمرضنا بإذن ربنا، ففعلوا فتركتهم الحمى.
ثم علّق ابن النجار بقوله: ورأيت هذه الحفرة اليوم والناس يأخذون منها وذكروا أنهم جربوه فوجدوه صحيحا وأخذت أنا منها أيضا.
ذكر السمهودي في كتابه وفاء الوفا 1/221 بابا بعنوان (في الاستشفاء بترابها وثمرها وما جاء فيه) نقل فيه مجموعة من الأحاديث حول فضل تربة المدينة ثم ذكر سيرة علماء عصره في ذلك، قال: وقد رأينا من استشفى بغبارها من الجذام وكان قد أضرّ به كثيرا فصار يخرج إلى الكومة البيضاء ببطحان بطريق قباء ويتمرّغ بها ويتخذ منها مرقده فنفعه ذلك.
وقال في 1/224: وهذه الحفرة موجودة اليوم مشهورة خلفا عن سلف، يأخذ الناس منها وينقلونه للتداوي.
تربة قبر ابن تيمية: ذكر ابن ناصر الدمشقي أن تراب قبر ابن تيمية هو شفاء من كلّ داء أيضا، قال في كتابه الرد الوافر على من زعم أنّ ابن تيمية كافر 74: قال علي بن عبد الكريم ابن الشيخ سراج الدين البغدادي الاصل البطايحي المزي أخبرني بشيء غريب قال كنت شابا وكانت لي بنت حصل لها رمد وكان لنا اعتقاد في ابن تيمية وكان صاحب والدي ويأتي الينا ويزور والدي فقلت في نفسي لآخذن من تراب قبر ابن تيمية فلأكحلها به فانه طال رمدها ولم يفد فيها الكحل فجئت الى القبر فوجدت بغداديا قد جمع من التراب صررا فقلت ما تصنع بهذا قال أخذته لوجع الرمد أكحل به أولادا لي فقلت وهل ينفع ذلك فقال نعم وذكر أنه جربه فازددت يقينا فيما كنت قصدته فأخذت منه فكحلتها وهي نائمة فبرأت قال وحكيت ذلك لابن قاضي الجبل يعني الامام شرف الدين أبا العباس أحمد ابن الحسن بن عبد الله بن شيخ الاسلام أبي عمر المقدسي قال وكان يأتي الينا فأعجبه ذلك وكان يسألني ذلك بحضرة الناس فأحكيه ويعجبه ذلك!
فلا ندري لماذا يسكت عن كلّ هذا ولا نسمع اسطوانة الكفر والشرك إلّا إذا وصلت النوبة إلى سيدنا ومولانا الحسين الشهيد عليه السلام؟
ثم شكَّك في إمكانيَّة وصولِه إلى كربلاء واستبعدَ أنْ يتهيأَ له ذلك في هذا الوقت القصير، فمتى وصلَ خبرُ مقتل الحسين (ع) إلى المدينة؟! ومتى انطلقَ منها إلى كربلاء ومتى وصل؟!
أولاً: المستند في استحباب زيارة الأربعينليس المدركُ للحكم باستحباب زيارة الأربعين هو زيارة جابر الأنصاري (رحمه الله) فإنَّه لا أحدَ من فقهاء الإماميَّة على الإطلاق يقولُ بحجيَّة قول الصحابي فضلاً عن فعله، وعليه فسواءً ثبتَ أنَّ جابراً الأنصاري زار الحسين(ع) يوم الأربعين أو لم يثبت فإنَّه لا تأثيرَ لذلك في ثبوت الحكم بالاستحباب أو نفيه، فكما أنَّ استحباب زيارة يوم عرفة أو يوم عيد الفطر ليس منوطاً بصدور الزيارة من أحدٍ من الصحابة أو غيرهم كذلك هو الشأنُ في زيارة يوم الأربعين، فالحكمُ باستحباب الزيارة يوم الأربعين إنَّما نشأ عن الأمر المولوي بالزيارة الثابت بالروايات المتواترة عن أهل البيت(ع) بل التي تفوقُ حدَّ التواتر بمراتب، هذا فيما يتَّصل بأصل الإستحباب وأمَّا تأكُّد الإستحباب للزيارة في يوم الأربعين فمدركُه ومستندُه مثل معتبرة صفوان بن مهران الجمال(1) عن الإمام الصادق(ع) المؤيَّدة بما رواه الشيخ المفيد في المزار والشيخ الطوسي في التهذيب عن الإمام العسكري(ع)(2).وقد فصَّلنا ذلك في مقالٍ سابق بعنوان مستند زيارة الأربعين.
وبذلك يتَّضح فسادُ ما توهَّمه صاحبُ الدعوى من أنَّ الاستحباب لا أصلَ له لأنَّ زيارة جابر لا أصل لها بحسب زعمِه. هذا أولاً
وثانياً: زيارةُ جابر وثَّقَ لها أعلامُ الإماميَّةإنَّ ما ادَّعاه مِن أنَّ زيارة جابر يوم الأربعين لا أصلَ لها، هذه الدعوى لا تصحُّ، فإنَّ زيارة جابر(رحمه الله) للحسين(ع) يوم الأربعين قد أرَّخ لها الشيخُ المفيد، قال(رحمه الله) في كتابه مسار الشيعة مؤرِّخاً لِما وقع في يوم العشرين من صفر(الأربعين) قال: "وهو اليوم الذي ورَدَ فيه جابر بن عبد الله بن حزام الأنصاري -صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وآله ورضي اللهُ تعالى عنه- من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر سيِّدنا أبي عبد الله عليه السلام، فكان أوَّل من زاره من الناس"(3).
وأرَّخ كذلك لزيارة جابر للحسين(ع) يوم الأربعين شيخُ الطائفة أبو جعفر الطوسي(رحمه الله) في كتابه مصباح المتهجِّد، وأفاد أنَّ جابراً زارَ قبرَ الحسين(ع) يوم الأربعين من مقتله فكان أوَّلَ من زارَه من الناس(4). وأرَّخ أيضاً لزيارة جابر في هذا اليوم رضي الدين الحلِّي في كتابه العدد القوية(5).
والظاهرُ من مساق ما أفاده الشيخُ المفيد أنَّ قضية زيارة جابر في التأريخ المذكور من القضايا التأريخيَّة المُتثبَّت مِن وقوعها ولذلك أرسلها إرسال المسلَّمات عنده ولم يأتِ بما يُعبِّر عن تردِّده في وقوعها بل يظهرُ من مقدِّمته للكتاب أنَّ تواريخ الأيام التي رصدَها في كتابه مسار الشيعة كانت معروفةً ومتداولة في الوسط الشيعي جيلاً بعد جيل، قال (رحمه الله) في مقدِّمة كتابه مسار الشيعة: "فقد وقفتُ أيَّدك الله تعالى على ما ذكرتَ من الحاجة إلى مختصرٍ في تاريخ أيَّام مسار الشيعة وأعمالها... ليكون الإعتقاد بحسب مقتضاه، ولعمري إنَّ معرفة هذا الباب، من حِليةِ أهل الإيمان، وممَّا يقبحُ إغفاله بأهل الفضل والإيمان. ولم يزل الصالحون من هذه العصابة -حرسها الله- على مرور الأوقات يُراعون هذه التواريخ، لإقامة العبادات فيها، والقرب بالطاعات، واستعمال ما يلزمُ العمل به في الأيام، المذكورات، وإقامة حدود الدين في فرق ما بين أوقات المسارِّ والأحزان.." (6).
فإنَّ الظاهر من تصدِّيه لكتابة هذا الكتاب المختصر هو رصدُ تواريخ الأيام والتي منها يوم الأربعين ليتم الإعتقاد بمقتضاها ثم اعتبر المعرفة لهذه التواريخ لإقامة العبادات فيها من حِلية أهل الإيمان وأنَّه يقبح بالمؤمنين الإغفال لها، وهذا اللحنُ من القول يُعبِّر عن تثبُّته من صحَّة ما رصدَه من تواريخ في هذا الكتاب، وكذلك يظهرُ من قوله: "ولم يزل الصالحون من هذه العصابة -حرسها الله- على مرور الأوقات يُراعون هذه التواريخ"، أنَّ هذه التواريخ التي رصدَها في كتابه وأرَّخ لها كانت متداولةً ومرعيَّة من قِبَل هذه الفرقة المحقَّة على مرور الأوقات التي سبقتْ وقتَه وزمانه وكذلك هي متداولة ومرعيَّة في زمانه، فهم لم يزالوا يُقيمون ما تقتضيه هذه التواريخ من مسارَّ وأحزان، وهذا معناه أنَّ مقصوده غير متمحِّض في أنَّ المتداول بين الشيعة هو كيفيَّة العبادة في هذه التواريخ بل يشملُ الأحداث التي وقعتْ فيها والتي يقتضي بعضُها المسرَّة ويقتضي بعضُها الحزن كما أفاد رحمه الله.
وعلى أيِّ حال فدعوى أنَّ زيارة جابرٍ لقبر الحسين(ع) في يوم الأربعين من مقتله لا أصل لها هذه الدعوى منقوضةٌ بما أرَّخ له الشيخُ المفيد (رحمه الله) وشيخُ الطائفة الشيخ الطوسي وكذلك رضي الدين الحلِّي- وهو مؤيَّدٌ بما رواه عماد الدين بن أبي القاسم الطبري - من أعلام الإماميَّة - في كتابه بشارة المصطفى(7)-، ولعلَّ صاحبُ الدعوى لم يطَّلع على ما أفاده هؤلاءِ الأعلام فزعم أنَّ زيارة جابر لا أصلَ لها!!
وثالثاً: إمكانيَّة وصول جابر يوم الأربعينوأمَّا التشكيك في إمكانيَّة وصول جابر لكربلاء يوم الأربعين من مقتل الحسين(ع) فجوابُه إنَّ عبيد الله بن زياد بعثَ رسولاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة يُخبره بمقتل الحسين(ع) بعثه حين وصول رأس الحسين(ع) إلى الكوفة أي في اليوم الحادي عشر من المحرَّم وأوصاه أنْ يجدَّ في المسير إلى المدينة فلا يسبقُه بالخبر أحد وقال له: "لا تعتل وإنْ قامت بك راحلتُك فاشترِ راحلة"(8).
فإذا كانت المسافة بين الكوفة والمدينة المنورة عشرين مرحلة -كما ذكر أصحابُ المسافات-(9)، والمرحلةُ هي المسافة التي يقطعُها المسافرُ على الجِمال المثقلة بالأحمال في يومٍ واحد أي في نهارٍ واحد من الشروق إلى الغروب، فالمسافرُ من المدينة إلى الكوفة على الجِمال المثقلة يحتاج إلى عشرين يوماً ليصل، أما لو سارت الجمال المثقلة أكثر ساعاتِ الليل والنهار فإنَّ المدَّة سوف تتقلَّص إلى ما يقربُ من نصف المدَّة أي في وقتٍ لا يتجاوز الإثني عشر يوماً أو يزيد يوماً واحداً، ولو كان السفرُ بواسطة الخيل فإنَّ المدَّة التي يحتاجها المسافرُ للوصول من الكوفة الى المدينة لا تتجاوز العشرة أيام لو سار في النهار دون الليل أو العكس، ولو سار أكثر ليله ونهاره فإنَّه لا يحتاج للوصول إلى أكثر من سبعة أيام أو ثمانية على أبعد التقادير.
وعليه فإذا كان رسولُ عبيد الله بن زياد سافر في اليوم الحادي عشر أو حتى الثالث عشر فإنَّه سيصلُ الى المدينة على أبعد التقادير يوم العشرين من محرَّم لأنَّه كان خفيفاً وكان سيرُه حثيثاً كما أوصاه ابنُ زياد، وحيثُ إنَّ خبر مقتل الحسين(ع) قد شاع في المدينةِ وذاع فَورَ وصول الرسول -كما نصَّ على ذلك الطبري(10) وغيره- فإنَّ أمام جابرٍ بعد وصول الخبر بمقتل الحسين(ع) ثلاثين يوماً ليصل إلى كربلاء يوم الأربعين، فلو خرجَ جابرٌ مسافراً يوم الخامس والعشرين من محرَّم أي بعد وصول الخبر بخمسة أيام وسار نهاراً بواسطة الإبل المثقلة فإنَّه سيصلُ بعد عشرين أو واحدٍ وعشرين يوماً أي قبل يوم الأربعين بخمسة أو أربعة أيام، ولو جدَّ في المسير فإنَّه سيصلُ يوم العاشر أو الثاني عشر من صفر يعني قبل يوم الأربعين بثمانية أيام، ولو غُيَّرت الفروض التي ذكرناها زيادةً ونقصاً فإنَّ جابراً سيصلُ دون ريبٍ إلى كربلاء قبل أو يوم الأربعين.
وللإستئناس بما ذكرناه نُذكِّر بمسير قافلة الحسين(ع) من مكة إلى كربلاء، فقد كان خروج القافلة المُثقلة بالأحمال والنساء والأطفال في اليوم التاسع من ذي الحجَّة ووصلتْ إلى كربلاء يوم الثاني من محرَّم أي بعد اثنين وعشرين يوماً رغم أنَّ القافلة قد توقَّفت في أكثر منازل الطريق كما نصَّ على ذلك عموم المؤرِّخين الذين أرَّخوا لمقتل الحسين (ع)، فلو كانت رحلةُ جابرٍ إلى كربلاء قد استغرقت هذه المدَّة وكان وصول خبر مقتل الحسين(ع) يوم العشرين من محرَّم فإنَّ أمامه ثلاثين يوماً قبل يوم الأربعين فلو سار بعد يومين أو ثلاثة أيام من وصول الخبر فإنَّه سيصلُ قبل يوم الأربعين.
ولو فرضنا جدلاً أنَّ رسول عبيد الله بن زياد قد وصل بخبر قتل الحسين(ع) يوم الخامس والعشرين من محرَّم -وهو مستبعَد– فإنَّ أمام جابر للوصول يوم الأربعين إلى كربلاء خمساً وعشرين يوماً، فلو سار إلى كربلاء بعد يومين من وصول الخبر فإنَّه سيصلُ قبل يوم الأربعين بيومين أو سيصل على أبعد التقادير يوم الأربعين، هذا لو كان مسيرُه كمسير قافلة الحسين(ع) وإلا فسوف يصل قبل ذلك بأيام (11).
وبما ذكرناه يتَّضح بأنَّه لا وجه للتشكيك في إمكانيَّة وصول جابرٍ الأنصاري إلى كربلاء يوم الأربعين من مقتل الحسين(ع).
تعد المفاهيم بصورة عامة البناء التحتاني لكل فكر وثقافة إنسانية، ولها الدور المحوري والمؤثر في نظرة الإنسان وكذلك المجتمع لحسن الأفعال وقبحها، خصوصاً في الخطاب السياسي، حيث تكتسي المفاهيم أهمية خاصة لا بالنسبة لمنتجيها فحسب بل حتى لمستهلكيها، حيث تتحول بسبب كثرة استعمالها الى شعارات تبرر ممارسات السلطة وتشرعنها، وتغطي على حقيقتها لتكريس الوهم والتضليل وسوء الفهم الذي يقود الى سوء العمل بالضرورة.
وهذا عين ما قامت به السلطة الأموية، خاصة في بداياتها، ومن بين أهم تلك المفاهيم التي قامت السلطة الأموية بتزييفها كانت المفاهيم الثلاثة طاعة الإمام ولزوم الجماعة وحرمة نقض البيعة، من أكثر الاصطلاحات السياسية التي كان يستخدمها الحكام تداولاً. وربما يمكننا ان نقول: إنها كانت أساس الحكم، وكانت تكفل دوامه. وهذه الاصطلاحات الثلاثة مبادئ صحيحة كانت في عداد المفاهيم الدينية والسياسية، كما ان العقل يحكم بضرورة رعايتها من أجل المحافظة على المجتمع واستمراره، ومعنى طاعة الإمام اتباع النظام الحاكم، لكن ما يجب ان نسأله: الى أي مدى يجب اتباع الحاكم وإطاعته؟ فهل يجب إطاعة الحاكم حتى لو كان جائراً؟ هنا تظهر يد السلطة المتلاعبة والمزيفة لهذه المفاهيم، فالإسلام لا يمكن ان يرتضي ذلك، بأي وجه من الوجوه، وكيف يرضى تقوية سلطان الظالم، وهو من حرم الظلم والتسبيب له!
نعم الإسلام أوجب طاعة إمام الحق الذي يهدي الى الله تعالى، فبحسب منطق القرآن الأئمة على طائفتين، أئمة هدى، كما في قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الأنبياء: 73، وأئمة ضلال، كما في قوله عز من قائل: (وجعلناهم أئمة يدعون الى النار) القصص: 41. وقد حذر النبي الأكرم أشد التحذير من اتباع أئمة الضلال، كما روى الفريقان، فمما روى أحمد بن حنبل في مسنده قول النبي صلى الله عليه واله: واني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين[1]. وفي مسند احمد أيضا، عن ابي ذر، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه واله، فقال: لغير الدجال أخوفني على امتي، قالها ثلاثاً، قال: قلت يارسول الله، ماهذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك؟ قال أئمة مضلون[2]. وهكذا روايات كثيرة صحيحة أعرضنا عنها خوف التطويل. وقد روى اصحابنا من ضمن علامات هؤلاء سفكهم لدماء اهل البيت عليهم السلام، كما في رواية الطوسي عن عبد الله بن يحيى الحضرمي، قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه واله وهو نائم ورأسه في حجري فتذاكرنا الدجال، فاستيقظ النبي محمراً وجهه، فقال: غير الدجال أخوف عليكم من الدجال: الأئمة المضلون، وسفك دماء عترتي من بعدي، أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم[3].
ومعنى حفظ الجماعة هو ترك الشغب والتمرد، ومجانبة الأعمال التي تقضي على الوحدة، وتمهد لتضعضع الأمة الإسلامية. والسؤال المهم هو: هل يجب السكوت أمام السلطان المستبد والحاكم الفاسق في أي ظرف كان؟ وهل يمكن إدانة كل صوت معارض باعتباره مخلاً بالجماعة ومسبباً التفرقة؟
ومعنى حرمة نقض البيعة هو رعاية العهد، وهو امر أثنى عليه الإسلام، وذم نقض العهد والبيعة كثيراً، وحجم دوره الإيجابي في القضايا السياسية بين واضح. لكن أيجب ان تطرح هذه القضية بشكل حرمة نقض العهد أمام حاكم مثل يزيد إذا لم تبايع او نقضت البيعة وتبددت الجماعة، ام يجب استثناء هذه الحالات أساساً؟ وكما تقدم فإن ملوك بني أمية، ثم بني العباس كانوا يكرهون الناس على قبول حكومتهم من خلال استغلال هذه المفاهيم في شكل محرف لم يكن له أي قيد او شرط.
فحين أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، جاء للمدينة ليكره المعارضين على بيعته، وكانت عائشة في عدادهم، إذ كان معاوية قد قتل اخاها محمد بن ابي بكر.. ولما دار الحديث حول البيعة، قال معاوية لعائشة: ... لكني أخذت البيعة لابني يزيد وقد بايعه كافة المسلمين، افترين أنقض بيعة قد ثبتت وتأكدت، وان يخلع الناس عهودهم؟ فقالت عائشة: اني لا أرى ذلك، ولكن عليك بالرفق والتاني[4].
ويرينا هذا النموذج كيف رضيت عائشة بحكم يزيد في ظل ذلك المفهوم!
ولننظر الآن نموذجاً آخر من هذا الموضوع: كان شمر يصلي معنا ثم يقول: اللهم إنك تعلم إني شريف، فاغفرلي! قلت: كيف يغفر الله لك وقد اعنت على قتل ابن رسول الله صلة الله عليه واله؟! قال: ويحك! فكيف نصنع، إن هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفنهاهم كنّا شراً من هذه الحمر السقاة. قلت: إن هذا لعذر قبيح، فإنما الطاعة في المعروف[5].
وقال ابن زياد لمسلم بن عقيل بعد القبض عليه: ياشاق! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين[6]، فأجابه مسلم بكل شجاعة: كذبت يابن زياد! والله ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمة، بل تغلب على وصي النبي صلى الله عليه واله بالحيلة، واخذ منه الخلافة بالغصب!
وقال مبعوثو عمر بن سعيد بن العاص حاكم مكة للإمام الحسين عليه السلام عند خروجه منها: ألا تتقي الله تخرج عن الجماعة وتفرق بين هذه الأمة؟[7] وكان عمر بن الحجاج ، أحد قادة ابن زياد، يقول متفاخراً: هذه فرسان مذحج.. لم تخلع طاعة، ولم تفارق جماعة[8]. وكان ينصح عسكر ابن زياد ايضاً قائلاً لهم: إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام[9].
وكان رجال من أمثال عبد الله بن عمر الذي كان يعد من فقهاء اهل السنة ومحدثيهم، يظنون ان الناس إذا رضوا ببيعة يزيد، فأنهم سيرضون ايضاً، فقال عبد الله هذا لمعاوية: فإذا اجتمع الناس على ابنك لم أُخالف![10]
وهو الذي قال للإمام عليه السلام لا تشق عصا المسلمين[11].
وكتبت عمرة بننت عبد الرحمان بن عوف الى الإمام عليه السلام تعظم عليه ما يريد ان يصنع، وتدعوه الى الطاعة ولزوم الجماعة[12].
وهذا فيما يخص المفاهيم السابقة، كما كانت عقيدة الجبر من الانحرافات الدينية في الأمة الإسلامية، فاستغلت هذه العقيدة المنحرفة قبل واقعة كربلاء ايضاً، وكان معاوية مبتدعها في صدر الإسلام، وهو الذي عمل على بثها حسب ما قاله أبو هلال العسكري المعتزلي[13]. وللقاضي عبد الجبار المعتزلي تعبيرات رائعة في تأييد دعوى العسكري على لسان معاوية في اشارته الى أنه هو مؤسس الجبرية[14].
وكان معاوية يقول في بيعة يزيد: إن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم[15].
وقال عبيد الله بن زياد ايضاً للإمام السجاد عليه السلام: أولم يقتل الله علياً؟ فقال عليه السلام: كان لي أخ يقال له علي، أكبر مني، قتله الناس[16].وعندما انكر على عمر بن سعد قتله الإمام الحسين عليه السلام طمعاً في حكومة الري، قال: كانت أموراً قضيت من السماء[17]. وكان كعب الأحبار يتكهن في حياته بان الخلافة لا تصل الى بني هاشم! بيد ان العباسيين ثم العلويين في طبرستان قد حكموا وكلاهما من بني هاشم. ونقل هذا الأمر أيا عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: فإذا رأيت الهاشمي قد ملك الزمان، فقد هلك الزمان![18]
ونتيجة هذه الانجراف مع قراءة بني أمية لهذه المفاهيم وتسخيرها لخدمة سلطانهم، نجد أن كثيراً من اتباعهم لم ينظروا الى حركة الإمام الحسين عليه السلام كحركة ضد الفساد، بل نظروا اليها كتمرد غير قانوني[19].
الهوامش:
[1] مسند احمد: ج4، ص123. وصحيح مسلم: 4/2215
[2] مسند احمد: ج5، ص145.
[3] امالي الطوسي: ج2، ص126، الاحتجاج: ج1، ص265.
[4] الفتوح: ج4، ص237. والإمامة والسياسة: ج1، ص183.
[5] لسان الميزان: ج3، ص151.
[6] الفتوح: ج5، ص98.
[7] تاريخ الطبري: ج4، ص289.
[8] تاريخ الطبري، ج4، ص275.
[9] نفس المصدر: ج4، ص331.
[10] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام: 167.
[11] الكامل في التاريخ: ج4، ص17.
[12] ترجمة الإمام الحسين: ص58.
[13] الأوائل، للعسكري: ج2، 125.
[14] فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: 143.
[15] الإمامة والسياسة: 183.
[16] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام: 79.
[17]الطبقات الكبرى: ج5، ص184.
[18] ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ابن عساكر: 193.
[19] تاريخ اسلام، جامعة كمبرج: ج1، ص181.
مما جرت عليه عادة الشيعة في شهري محرم وصفر إظهار الحزن وعدم الضحك قدر المستطاع، ولكن توجد بعض الروايات التي تدل على أن من تبسم في وجه أخيه المؤمن كتبت له حسنة، وأن تبسم المؤمن في وجه أخيه المؤمن صدقة.
فهل يبقى هذا المستحب وهو التبسم على استحبابه في هذين الشهرين؟ وهل يجوز لنا أن نطلب من إخواننا المؤمنين أن يبتسموا إذا كانت نيتينا هي عمل هذا المستحب فقط؟
الجواب:
يجوز للمؤمن أن يتبسم في وجه أخيه المؤمن خلال شهري محرم وصفر، ما دام الغرض من التبسم هو إظهار البشاشة في وجه المؤمن، وإبداء السرور للقائه، والتعبير عن محبته ومودته.
أما لو كان الغرض من التبسم هو إظهار الفرح بقتل الحسين عليه السلام أو بقتل واحد من أهل بيته وأصحابه، أو فرحاً بما فعله به بعض أعدائه لعنهم الله، كما يصنعه بعض المخالفين، فإن هذا من أشد الكبائر وأعظم الذنوب، نعوذ بالله تعالى من ذلك.
نعم لا ينبغي للمؤمن أن يظهر الفرح في أيام عاشوراء لبعض الأمور الدنيوية التي لا مانع من الفرح بها في سائر الأيام، مثل ما لو كسب مالاً، أو حصل على أمر مهم كان يسعى للحصول عليه، وليجعل فرحه في قلبه؛ لأن أيام عاشوراء أيام حزن ومصيبة عند أهل البيت عليهم السلام أجمعين، وشيعتهم، وكانوا عليهم السلام يأمرون شيعتهم بأن يجعلوا هذه الأيام أيام حزن ومصيبة.
فقد جاء في الحديث أن أبا عبد الله عليه السلام سأل مسمع بن عبد الملك كرين البصري، فقال له: أفما تذكر ما صُنع به - يعني بالإمام الحسين عليه السلام -، قلت: نعم. قال: فتجزع؟ قلت: إي والله، واستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليَّ، فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يُعدُّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أمنا... (كامل الزيارات: 203).
وفي صحيحة الريان بن شبيب قال: دخلت على الرضا عليه السلام في أول يوم من المحرم، فقال لي: يا بن شبيب، أصائم أنت؟ فقلت: لا. فقال: إن هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا عليه السلام ربه عز وجل. فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء)، فاستجاب به، وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلي في المحراب: (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى)، فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله عزَّ وجل استجاب الله له، كما استجاب لزكريا عليه السلام.
إلى أن قال: يا بن شبيب، إن سرَّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أن رجلا تولى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة (أمالي الصدوق: 193).
وفي صحيحة إبراهيم بن أبي محمود عن الإمام الرضا عليه السلام قال: كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه، حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلوات الله عليه. (أمالي الصدوق: 191).
ومقتضى الحزن لحزنهم ألا يظهر الموالي لهم فرحاً وسروراً بأي أمر من أمور الدنيا، وليستشعر المصيبة، حتى ينال الأجر الكثير والثواب العظيم بمنه ولطفه وكرمه، إنه أكرم الأكرمين.
يتداول بعض خطباء المنابر روايةً حاصلها: أنَّ جابراً الانصاري جاء لمنزل الامام السجاد (ع) بعد رجوعهم للمدينة وأثناء دخوله المنزل رأى أمرأةً ومعها أبنتها جالستين تنوحان في شمس المنزل تأسِّياً وحزناً على ذبح الامام الحسين (ع)، ولمَّا سأله جابرٌ عن ذلك أجاب الإمام (ع) أنَّهما السيدة سكينة وأمُّها الرباب زوجة الإمام الحسين (ع) فهل يصحُّ ذلك بمرأى من الرجال؟! وهل هذه الرواية ثابتة؟
الجواب:
لم أجد لهذه الرواية في مصادرنا الروائيَّة وغيرِها عيناً ولا أثراً، والذي وجدتُه فيما يتَّصل بهذ الشأن هو ما رواه الكليني في الكافي بسنده عَنْ مَصْقَلَةَ الطَّحَّانِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ (ع) أَقَامَتِ امْرَأَتُه الْكَلْبِيَّةُ (الرباب) عَلَيْه مَأْتَماً وبَكَتْ وبَكَيْنَ النِّسَاءُ والْخَدَمُ حَتَّى جَفَّتْ دُمُوعُهُنَّ وذَهَبَتْ.."(1).
والرواية طويلة تضمَّنت الإخبار عن أنَّ الرباب زوجة الحسين (ع) كانت تُقدِّمُ الطعامَ للمشاركات معها في المأتم وتأكلُ معهن: " قَالَ: فَأَمَرَتْ بِالطَّعَامِ والأَسْوِقَةِ فَأَكَلَتْ وشَرِبَتْ وأَطْعَمَتْ وسَقَتْ"(2)، ولم تُشر الرواية إلى أنَّ المأتم الذي كانت تُقيمُه الرباب ومَن معها من النساء كان في الشمس أو في العراء أو أنَّه كان بمرأى من الرجال.
نعم ورد في بعضِ كتب التأريخ والأدب أنَّ الربابَ بنت امرئ القيس زوجةَ الحسين (ع) لم تستظل بعد مقتلِ الحسين (ع) تحت سقفِ بيت حتى ماتت كمَداً بعد سنةٍ من مقتلِ الحسين(ع).
هذا الخبر لم يرد من طرقنا ومَن أورده من علمائِنا في كتابه فقد أخذه عن بعض المؤرِّخين العامَّة كابن عساكر في تاريخ دمشق قال: "ولمَّا تُوفيَ الحسين خُطبت الرباب وأُلحَّ عليها فقالت: ما كنتُ لأتَّخذ حمواً بعد رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم تتزوج وعاشت بعده سنةً لم يُظلَّها سقفُ بيتٍ حتى بُليتْ وماتت كمَدا"(3).
وأورد هذا الخبر غيرُه، ولعلَّهم جميعاً نقلوه عن مخبرٍ واحد، وذلك لتقارب ألفاظ هذا الخبر، وعلى كلِّ تقديرٍ فهو خبرٌ غيرُ قابلٍ للتصديق، إذ من غير المعقول أن تظلَّ امرأةٌ سنةً كاملةً شتاءً وصيفاً في العراء تحت أشعَّة الشمس وصقيع البرد والأمطار دون أنْ يتدخَّل أهلُها وذووها من بني هاشم وغيرِهم لثنيها عن ذلك، ولو وقع ذلك لكثُر تناقل هذا الخبر من اللائمين والمعتذرين، فالوثوقُ بصدق مثل هذا الخبر غيرِ المألوف يحتاجُ إلى تظافرِ الإخبار عنه وتنوُّع المخبرين به.
نعم لو كان المرادُ من الخبر أنَّها لم تستظلَّ ببناءٍ من آجرٍ وجصٍّ وانَّها كانت تستظلُّ في فسطاطٍ أو عريشٍ لأمكنَ القبول بهذا الخبر، ولعلَّ ما يُؤيِّدُ ارادةَ هذا المعنى ما قِيل - كما في الإصابة لابن حجر(4)- من أنَّها عادت إلى كربلاء وأقامتْ عند قبر الحسين (ع) سنةً كاملةً ثم عادت إلى المدينة وماتت، فإذا كانتْ قد أقامت في كربلاء فلنْ تكونَ اقامتُها بمقتضى الحال تحت سقفٍ وبناء وإنَّما ستكونُ في فسطاطٍ أو عريش لأنَّ كربلاء حينذاك لم تكنْ مدينةً مأهولة وذات بناء، وإنَّما كانت أرضاً مفتوحة يَستطرقُها المسافرون ويقطنُها الأعراب.
وخلاصةُ القول: إنَّ ما قِيل من أنَّ الرباب لم تستظلَّ تحت سقفٍ سنةً كاملة خبرٌ لا يُوجدُ من القرائن ما يُصحِّحُ الظنَّ فضلاً عن الوثوق بصدقِه، ولا مانعَ من احتمال صدقِه لو كان المرادُ منه أنَّها لم تستظلَّ في بناءٍ مسقوفٍ وإنَّما كانت تُقيمُ في فسطاطٍ أو عريشٍ عند قبرِ الحسين (ع) أو في المدينة.
الهوامش:
1-الكافي - الشيخ الكليني- ج1 ص466.
2-الكافي - الشيخ الكليني- ج1 ص466.
3-تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج69 ص120.
4-الإصابة - ابن حجر - ج1 ص355.
إن الحسين (ع) قد عاصر معاوية مع أبيه وأخيه، وعاصره بعد أخيه نحوا من عشر سنوات كان الحسين (ع) وحده مهوى الأفئدة ومحط آمال المعذبين والمشردين والمضطهدين، ولم يترك معاوية خلال تلك المدة الطويلة من حكمه بابا من أبواب الظلم إلا وانطلق منه: فقتل المئات من الصلحاء، وعذب وشرد، واضطهد الملايين بلا جرم ارتكبوه، ولابيعة نقضوها، وكان ذنبهم الأول والأخير هو ولاؤهم لعلي وآل علي (ع)، وكان القدوة لجميع من جاء بعده من الأمويين فيما ارتكبوه من الجرائم والاستهتار بالقيم والمقدسات، وهو الذي كان يعمل ويضع الأسس لتحوير الإسلام وتحقيق ما كان يحلم به أبو جهل و أبو سفيان وغيرهما من طواغیت قريش، ولم يكن ولده يزيد إلا صنيعة من صنائعه و سيئة من سيئاته، فلماذا، والحالة هذه، ابتعد عن الثورة في عهد معاوية مع وجود جميع مبرراتها في حين أن المبررات التي دفعته للثورة على یزید کانت امتدادا لتلك التي كان يمارسها معاوية؟
والجواب:
كاد الحق أن يدال له من الباطل يوم صفين ، وأدرك الخصم ـ معاوية ـ أن المحاكمة إذا كانت كلها إلى السيف فستظهر كلمة الله ولاریب، وستكون نهاية الأحزاب الثانية عين نهايتهم الأولى، أدرك الباطل ذلك بدهائه: فجنح للمخاتلة.. وأعد القذيفة.. ورفع المصاحف.. وقذف النار !!.
أجل، انه قذف النار فهلعت قلوب، وعقدت ألسن، وأظلمت بصائر، ونقضت عهود، والتجأ الحق إلى اغماد السيف، وبدأ يعالج الحادث ويصد الغارة.
وطال الموقف، ولا محيد للموقف من أن يطول، واغتيل القائد الأعلى
للحق في حادث من حوادث الفتنة، فتأزم الموقف واشتدت حراجته.
وانتدب الإمام الحسن السبط (ع) للقيادة الكبرى بعد مقتل أبيه (ع)، فما تراه فاعلا؟ أيشهر السلاح؟.. ما الذي جد ياترى؟ هل تم علاج الموقف بعد قتل علي (ع) ليمتشق الحسين (ع) السيف؟ هل ثاب المخدوعون إلى رشدهم ليستعيد الحق موقفه الأول؟
لا. لا. ان الموقف لا يزال به بعد به على دقته وعلى شدة حراجته، وإذن، فلابد من اغماد السيف، وإتمام العلاج.
وأغمد الحسن (ع) السيف، فقال التاريخ والمؤرخون: صالح الحسن خصم أبيه، وتنازل له عن حقه.
لا. لا. لم يصالح الحسن (ع) خصمة، ولم يتنازل عن حق، ولكنه استضعف العقيدة في جنوده، و كيف يلقى عدوه بجند ليس لهم قلوب؟!.
أغمد الإمام الحسن (ع) السيف و أعلن الهدنة، فمكن بذلك للناس أن يروا الحكم الأموي على سجيته رأي عين، وأن يبرز أمامهم بخصائصه وأهدافه عارية مفضوحا دون طلاء ولا تزویق.. للناس كافة.. وليس للعراقيين فقط، ولا للمصريين والحجازيين و اليمانيين معهم، بل حتى لأهل الشام، فقد كانت المخادعات والمخاتلات الأموية تستر عليهم وجه الحقيقة طول أيام الحروب.
ومكّن للناس كلهم . شاميهم وعراقيهم . أن يستمعوا إلى الحاكم الأموي الأعلى في يوم . ساباط - ذاته وهو يفضح خطته، ويعلن هدفه، ويكذب دعاواه الطويلة العريضة التي خادع الناس بها طوال السنين.
أن يستمعوا إليه وهو يقول لهم: إنه لم يقاتلهم ليصوموا ولا ليصلوا ولا ليحجوا ولا ليزکوا، لم يقاتلهم ليقيم ركنا من أركان الإسلام هم تارکوه، إذن، فعلى ماذا أطلت الدماء؟ ولماذا رفعت المصاحف؟ بل ولماذا هتف بدم عثمان؟ إنه قاتلهم ليتأمر عليهم فأعطاه الله ذلك وهم كارهون.
هذه هي الغاية وكل ما سواها فوسيلة، حتى القرآن إذ رفعه يوم صفين، نعم، حتى القرآن فقد كان وسيلة لا غاية، وحتى دم عثمان، إنما هي القوة والإمرة على الناس وهم راغمون کارهون.
من الإمام الحسن (ع) للناس كلهم -شاميهم وعراقيهم- أن يستمعوا إلى معاوية يقول لهم هذا بصراحة لم تعهد له في يوم من الأيام، ولقد كان هذا وحده سببا كافيا للإتيان على بناء دولته من القواعد لو كان في البصائر والضمائر بقية من نور، وتلت الحوادث والأعمال والأقوال من معاوية و من عماله وبطانته تشرح المجمل وتضع النقاط وتكشف المستور من مناهج هذه الدولة.
ومواقف الحسن (ع) و أقواله وسيرته إلى جنب ذلك تعرف الناس سبيل الهدی الذي اجتنبوه، ومناهج العدل الذي خذلوه والناس تسمع وتبصر وتعي وتزن؛ بملء أسماعها وأبصارها و أذهانها و عقولها، فأي اجراء اسلامي يستطاع في تلك الظروف هو أكبر من ذلك و أجدى للأمة؟
وكان من أثر هذه التمهيدات التي قام بها السبط الأول (ع) أن ترنح بناء الدولة الطاغية عند الضربة التي سددها شقيقه وخليفته الإمام الحسين (ع) ثم هوى الصرح و تدكدك البناء.
ولم يكن الحسين (ع) أقل ادراكا لواقع المجتمع العراقي من أخيه الحسن (ع) فقد رأى من خيانته وتخاذله واستسلامه للضغوط والمغريات مثل مارأى أخوه وأبوه من قبله، لذلك كله فقد آثر التريث ريثما يتوفر لشهادته أن تعطي النتائج التي تخدم الإسلام وتبعث اليقظة والروح النضالية في نفوس المسلمين، وراح يعمل على تهيئة المجتمع العراقي للثورة وتعبئته لها بدل أن يحمله على القيام بها في عهد معاوية حتى لا تكون نتائجها لصالحه وحده.
لقد مضى على ذلك في حياة أخيه وبعد وفاته، ففي حياة أخيه حينما فاوضته وفود الكوفة في الثورة على معاوية بعد أن يئسوا من استجابة الحسن (ع).
قال لهم أبو عبد الله (ع): «صدق أخي أبو محمد فليكن كل رجل منكم حلسة من أحلاس بیته مادام معاوية حيا[1].
وبعد أخيه (ع) كتب له أهل العراق يسألونه: أن يوافقهم على الثورة،
فأصر على موقفه و کتب إليهم في جواب رسائلهم كتابة جاء فيه:
وأما أخي فأرجو أن يكون الله قد وفقه وسدده فيما فعل، وأما أنا فليس من رأيي أن تتحركوا في عهد معاوية فالصقوا بالأرض واكمنوا في البيوت واحترسوا من الظنة والتهمة مادام معاوية حيا.
إلى كثير من مواقفه التي تؤكد أنه كان يرى أن الثورة في عهده لا تخدم مصلحة الإسلام والمسلمين شيئا وأن الخلود إلى السكينة والابتعاد عن كل مايثير الشبهات وضغائن الأمويين عليه وعلى شيعته وأنصاره في حياة معاوية أجدی المصلحة الإسلام، وفي الوقت ذاته كان يعمل لإعداد المجتمع العراقي وتعبئته . بانتظار اليوم الذي يطمئن فيه لثورته وشهادته أن تعطي النتائج المرجوة.
وبالفعل فقد ازدادت الدعوة في عهد الحسين (ع) عنفا وشدة في أكثر المناطق الإسلامية وبخاصة بعد أن جعل معاوية ولاية العهد لولده الخليع المستهتر، وكان لكل حدث من أحداث معاوية صدى مدوي في أوساط المدينة حيث الإمام الحسين (ع) الرجل الأول الذي تتجه إليه الأنظار من كل حدب وصوب.
وقد أحس الأمويون في الحجاز بهذا الواقع ودب في نفوسهم الخوف من نتائجه، فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية يحذره من التغاضي عن الحسين (ع) وأنصاره.
وجاء في كتابه إليه: إن رجالا من أهل العراق ووجوه الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي (ع)، وإني لا آمن وثوبه بين لحظة وأخرى، وقد بلغني استعداده لذلك فاكتب إلي برأيك في أمره[2]).
ولم يكن معاوية في غفلة عن ذلك وكان قد أعد لكل أمر عدته بوسائله التي كان يهيمن بها على الجماهير المسلمة.
والحسين (ع) يعرف ذلك ويعرف أن ثورته ستنجلي عن استشهاده، والاستشهاد بنظره لا وزن له ولا قيمة إذا لم يترك على دروب الناس وفي قلوبهم وهجة ساطعة يسيرون على ضوئه في ثورتهم على الظلم والطغيان وفراعنة العصور في كل عصر وزمان.
إن معاوية يدرك ويعي ما للحسين (ع) من منزلة في القلوب، وبأن ثورته عليه ستزجه في حرب يعكر عليه بهاء انتصاراته التي أحرزها في معركة صفين،، وفي صلحه مع الإمام الحسن بن علی (ع)، ولو قدر لها أن تحدث يومذاك فسوف يعمل بكل ما لديه من الوسائل لكي يتخلص منه قبل استفحالها، وقبل أن يكون لها ذلك الصدى في الأوساط الإسلامية، ولو بواسطة - جنود العسل - التي كان يتباهى بها وقد استعملها للفتك بأخصامه السياسيين: كالحسن بن علي (ع)؛ وسعد بن أبي وقاص؛ ومحمد بن حذيفة؛ وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ والأشتر النخعي، بعد أن أحس بخطرهم على دولته وأمويته العنصرية الحاقدة.
ولو تعذر عليه ذلك، فسوف يمارس جميع أشكال الاحتيال والتضليل والمراوغة، حتى لا يكون لشهادته ذلك الوهج الساطع الذي ينفذ إلى الأعماق، ويحرك الضمائر والقلوب ضد دولته وأعوانها، ولكي يبقى أثرها محدودا لا يتجاوز قلوب أهله ومحبيه و شیعته إلى حين، ثم يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات والأحداث.
ولعل ذلك هو الذي اضطر الحسين (ع) إلى التريث وعدم مواجهة معاوية بالحرب، ودعوة أصحابه و شيعته الذين كانوا يراسلونه ويتوافدون عليه بين الحين والآخر إلى أن يلتصقوا بالأرض، ويكمنوا في بيوتهم، ويتحرسوا من كل ما يثير حولهم الظنون و الشبهات، ما دام معاوية حيا، كما جاء في بعض رسائله إليهم.
وكما كان يعرف معاوية وأساليبه، كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره، ينساق مع عواطفه و شهواته و تلبية رغباته إلى أبعد الحدود بارتكاب المحارم والآثام والتحلل من التقاليد الإسلامية والنزق في تصرفاته ومعاملته الأخصامه، ومن أجل ذلك وقف المسلمون من بيعته موقفا يتسم بالحذر والتخوف على الإسلام والمسلمين واعتبروها من أخطر الأحداث على مصير الأمة ومقدراتها.
ومن ثم لم يكن من خلقه ولا باستطاعته مواجهة شهادة الحسين (ع) وتغطيتها بالاساليب التي اعتاد أبوه تغطية جرائمه بها، وكان كما يصفه البلاذري: من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروي صغير العقل متهورة سطحي التفكير لا يهم بشيء إركبه[3]) .
فلقد كان من أبعد الناس عن أن يواجه ثورة الحسين (ع) باسلوب أبيه، ولا بد أن يواجهها بالاسلوب الذي يتفق مع شخصيته وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه، وكانت تربيته المسيحية أو نشأته في الوسط المسيحي مع أمه میسون تأبى عليه أن يلتزم اسلوب أبيه في الاحتفاظ بالغشاء الديني الذي كان يسد له على أفعاله وتصرفاته ويتستر به لدى العامة من الناس دجلا وتضليلا كما يدعي الكثير من الباحثين.
الهوامش:
[1] الأخبار الطوال: ۲۲۱، الإمامة والسياسة ۱۱۷
[2] رواه الكشي
[3] أنساب الأشراف..
[اشترك]
فالقدر المشترك بين هذه الروايات هو انَّ ثمة ملَكاً من الملائكة اسمه فطرس أبطأ في امتثال أمرٍ بُعث إليه من قِبل الله تعالى فكُسر جناحه، وحين وُلد الحسين (ع) استشفع به ولاذ بمهده فعافاه الله تعالى مما ألمَّ به (1).
وهذه المضامين ليس فيها ما هو منافٍ لأصول العقيدة، فلا مبرِّر لتكذيبها، وما يُمكن ان يكون منشأ للاستيحاش هو انَّ الملائكة معصومون فكيف صحَّ القبول بدعوى ارتكاب هذا الملَك للمعصية، وإذا لم يكن ما صدر عن هذا الملَك معصيةً فكيف صحَّت معاقبته، أليس من الظلم ان يُعاقب المكلَّف دون أن يرتكب معصية.
والجواب هو انَّه لا ريب عندنا نحن الامامية في عصمة الملائكة لقوله تعالى يصف الملائكة: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (2) إلا انَّ ما صدر عن فطرس الملَك لم يكن سوى الإبطاء عن امتثال الأمر الإلهي بحسب المقدار الثابت من الروايات، والإبطاء ليس معصية حتى يكون منافياً للعصمة، نعم الإبطاء في مقام الامتثال منافٍ لما هو الأولى، فكان ينبغي لفطرس المسارعة في الامتثال.
إلا انَّ عدم التزامه بما هو الأولى لا ينافي العصمة، إذ من المقطوع به انَّ مخالفة الأولى يمكن صدوره من المعصوم، فقد يترك المعصوم ما هو مستحب في حالاتٍ نادرة، وقد أفاد القرآن الكريم انَّ المخالفة للأولى قد صدرت عن بعض الأنبياء كنبيِّ الله آدم (ع) ونبيِّ الله يونس (ع).
وأما الأمر الثاني وهو انَّه إذا لم يكن الإبطاء معصيةً فلماذا عُوقب بكسر جناحه فجوابه هو انَّ كسر الجناح ليس بمعنى تهشيمه أو إعطابه، فإنَّ ذلك من شئون الجناح المادي والحال انَّ الملائكة ليسوا كذلك، فالتعبير بالكسر إنَّما هو لتقريب المعنى للذهن، فمعنى انه تعالى كسر جناحه هو انَّه سلبه القدرة على التحليق، وذلك ليس من العقوبة التي هي جزاءٌ على الذنب حتى يُقال انَّه ظلمٌ لأنه لم يرتكب ذنباً، فالتحليق منحةٌ إلهية أعطاها الله تعالى للملَك ثم سلبها منه لمخالفته الأولى، فلم يكن مستحقاً على الله انْ يهبه القدرة على التحليق حتى يكون سلبه إياها دون ذنب عقوبةً على غير استحقاق وإنَّما كانت منحةً ابتدائية منحها إياه ثم اقتضت حكمته البالغة انْ يسلبها منه لمخالفته للأولى.
وهذا هو شان الله تعالى في عباده، فقد يمنح أحداً من الناس رزقاً وافراً ثم يسلبه منه لأنه لم يتصدق مثلاً صدقةً مستحبة.
وأما الاستيحاش من جهة ما تقتضيه هذه الروايات من مشروعيَّة الاستشفاع والتوسُّل بأهل البيت (ع) فجوابه قد فصلناه في مشروعية التبرك وفلسفة التوسل فراجع إنْ شئت.
وأما ما ادَّعاه بعض الأخوة من أبناء السنَّة من انَّ قبول الشيعة لمثل هذه الروايات فيه إساءة لمقام الملائكة (ع) فهو غير سديد، وذلك لانَّ المقبول من هذه الروايات لا يُسيء إلى مقام الملائكة كما اتَّضح ذلك مما تقدم، فليس من محذورٍ في القبول بصدور المخالفة للأولى من الملائكة بعد ان كان ذلك جائزاً على الأنبياء (ع) كما افاد القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ أَبَقَ إلى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ / فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ / فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ / فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ / لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (3).
فالآية وصفته بالمُليم أي المستحق لِلَّوم ووصفت فعله بالإباق وهو الهرب، ولم يكن ذلك معصية قطعاً وإنما كان مخالفة للأولى.
ولو كنا بصدد المجادلة لاستعرضنا الروايات الواردة من طرق العامة والتي تشتمل على إساءات واضحة لمقام الملائكة (ع).
الهوامش:
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 43 ص 251, بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 44 ص 182, بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 50 ص 66.
2- سورة التحريم آية رقم/6.
3- الصافات آية رقم /139 ? 144.
الشعار والشعيرة تستعمل في اللغة بمعنى العَلامَة قال ابن منظور: " الإشعارُ: الإعلام، والشعارُ: العلامة، قال الأزهري: ولا أدري مشاعرَ الحجّ إلّا من هذا لأنها علامات" (لسان العرب: 8/ 91) ونص على ذلك غيره من اللغويين.
ومنه يتضح انّ هذه اللفظة ظاهرة لغةً في الإعلام فإذا أضيفت الى الدين (الشعيرة الدينية) تكون ظاهرة في كل ما هو إعلام بالله تعالى ورسالته من أوامره ونواهيه وهذا هو مذهب جمهور علماء الشيعة وبعض علماء السنة في معنى الشعائر.
ووفق ضوابط الاستنباط تُحمل اللفظة على معناها اللغوي ما لم يوجد ما يدل على نقلها من قبل الشارع الى معنى جديد، وكذلك تُحمَل على اطلاقها وعمومها ما لم يوجد مقّيِّد أو مخصص.
والعنوان المأخوذ في أي دليل شرعي إذا كان يمكن تطبيقه بأكثر من كيفية وأردنا تطبيقه على أرض الواقع نطبقه على مصاديقه المألوفة عند العرف او العقلاء او المتشرعة ما لم يثبت تدخل المشرّع في تحديده بخصوص كيفية خاصة.
فإذا أخذنا مثلا عنوان الصلاة وعنوان بر الوالدين، فما من شك في أنهما مطلوبان عند المشرّع وقد أمر بهما نصوص كثيرة ولكن نلاحظ أن المشرِّع قد تدخل في تحديد أدق تفاصيل ما ينطبق عليه عنوان الصلاة بحيث لا يمكن اضافة او حذف او تغيير شيء من هيئتها مهما تغيرت الأعراف والأزمان والأمكنة، بينما نلاحظ أنه ترك تحديد مصاديق بر الوالدين الى العرف فإذا كان فعلٌ من الأفعال يُعد عرفا في مكان او زمان معينين من أفعال البرِّ بالوالدين وكان الفعل ذاته يُعد عرفا في مكان او زمان آخر من أفعال الهتك لهما كان الفعل نفسه مطلوبا في ظرفه الأول ومحرما في ظرفه الثاني لأن مصاديق البرِّ والهتك تركهما الشارع للعرف.
ومن كل ذلك نخلص الى أن الشعائر عنوان عام يشمل كل ما فيه إشعار وإعلام بالله تعالى ودينه ومن ثم هي على صنفين، فمنها ما أخذ المشرع في أدلته عناوين حدد مصاديقها بنفسه كما في الحج مثلا ومنها ما أخذ في أدلتها عناوين ترك تشخيص مصاديقها للعرف كالشعائر الحسينية، فالعناوين التي أخذها المشرع في أدلتها هي من قبيل: (إحياء أمر أهل البيت، ندبتهم ومواساتهم في مظلوميتهم، وكل ما يكون مظهرا للجزع على الامام الحسين ع) فالنصوص ندبت الى هذه العناوين وهي عناوين عامة يمكن إيجادها في الخارج بوجوه وكيفيات تختلف من عرف الى آخر ولم يتدخل المشرع في تحديد نحو خاص من أنحاء وجودها، فإذا كان كذلك تنطبق القاعدة الثالثة المذكورة آنفا فنحمل هذه العناوين على مصاديقها المألوفة عند العرف فكل عرف يحزنون ويحيون ويواسون بما ينسجم مع منظومتهم.. نعم لا شك في وجود مصاديق مشتركة كمجالس الندبة والبكاء ولكن ليس في الادلة ما يشير الى الاقتصار على هذا القدر ومن هنا جاز ان تختلف الشعائر الحسينية في مصاديقها من مكان لآخر ومن زمان لآخر.
ومن كل ذلك يتضح جواب السؤال بشقيه..
أمّا شقه الأول: فقد اتضح ان الغاية من الشعائر عموما بما فيه الشعائر الحسينية هي الإعلام والإشعار بالله تعالى وكل ما يمت لرسالته بصلة وما من شكٍّ في أنه من وراء ذلك التقرب منه جلَّ جلاله.
وأما شقه الثاني: فنعم يمكن تعدية عنوان الشعائر الى كل ما توفرت فيه الغاية - الإعلام بالله والدين - شريطة مراعاة النصوص لأن ثبوت كونها شعيرة فرع ثبوت تعلقها بأمر ديني تكون إعلاما له وإشعارا به ولا تثبت نسبة شيء للدين إلا بدليل معتبر شرعا، لذا في الشعائر الحسينية مثلا احتجنا الى توسط النصوص التي ندبت الى عناوين الإحياء والمواساة وما الى ذلك وعلى ضوء هذه العناوين وتلك الغاية معا يمكن تحديد ما هو شعيرة مما هو ليس كذلك.
بقي أنه قد يخطر في الذهن السؤال عن دور الفقيه في خضم كل ذلك، فإذا كانت النصوص قد تركت للعرف مساحة تحديد المصاديق فهل للفقيه ان يتخذ موقفا مغايرا لما يرتئيه العرف مثلا؟
في مقام الجواب أشير إجمالا إلى ثلاثة أمور - قد أعود للكلام عنها في مقال آخر من هذه السلسلة لأن بعض الأسئلة الأخرى التي وصلتني تتعلق بها - وكيف كان فإن دور الفقيه هنا يتمثل بـ :
1- استنباط الأحكام من الروايات، إذ قبل الوصول الى مرحلة تشخيص العرف لمصاديق الجزع مثلا نحتاج أولا الى معرفة حكم الجزع، فهل هو على مصاب الامام الحسين ع حلال ام حرام، وإذا كان حلالاً فهل هو مباح ام مستحب وهكذا.. فبعد ان يستنبط الفقيه حكم الجزع يأتي في المرتبة الثانية دور العرف في تحديد المصاديق.
2- ليس للعرف الكلمة المطلقة في تحديد المصاديق المشروعة بل ذلك مشروط بأن يكون تحديدها ضمن الأطر العامة للشريعة وان لا يحلل حراما ثابتا ولا يحرم حلالاً كذلك وفي كل هذا لابد من الرجوع الى الفقيه لفهم أطراف القضية ومقدار المساحة المتاحة للعرف.
3- المصاديق التي يحددها العرف على فرض انطباق جميع الضوابط السابقة عليها يبقى الحكم بجوازها او استحبابها حكما أوليا، ومن ثم قد يطرؤ عليها عنوان ثانوي يسحبها الى حكم ثانوي مغاير للحكم الأول مثلا إذا كان ما شخصه العرف يوجب الضرر أو كان موهنا للإسلام او المذهب... ففي كل ذلك ننتقل من الحكم الأولي الى حكم ثانوي يتناسب مع العنوان الثانوي كالحرمة مثلا، وتحديد الاحكام الثانوية مسألة اجتهادية من اختصاص الفقيه أيضا.
قد تتعالى بين الحين والآخر بعض الأصوات التي تطالب بالتجديد في الشعائر الحسينية، وتدعو إلى ضرورة إخراج المنبر الحسيني من حالته الحاضرة إلى وضع آخر أفضل، لتكون فائدته أكثر ومنفعته أعم.
ومن الواضح أن كلمة (التجديد) لها معنى غير محدد المعالم، ويمكن أن تحمل في طياتها كثيراً من الأمور الصحيحة وغير الصحيحة في نفس الوقت، وعلى كل من ينادي بالتجديد في الشعائر الحسينية أو المنبر الحسيني أن يضع النقاط على الحروف حتى لا يكون في كلامه أي غموض يمكن أن يساء فهمه بسببه.
ولا يخفى أن عامة الشعائر لا يمكن أن يتحقق فيها التجديد مطلقاً؛ لأن الشعائر توقيفية تتلقى من الشارع المقدس، ونتعبد بها كما وردت بلا أي تغيير أو تبديل، وليس لأحد أن يُدخل فيها ما ليس منها بأي حال من الأحوال وبأي عنوان من العناوين، وكل زيادة في أي شعيرة أو تغيير يعد بدعة محرمة في الدين.
ومن هذا البيان يتضح أن أصوات الذين ينادون بالكف ـ مثلاً ـ عن البكاء على الحسين عليه السلام لا يمكن سماعها أو الالتفات إليها مع حث الأئمة الأطهار عليهم السلام وتأكيدهم في كل مناسبة على أهمية البكاء والتباكي على الحسين عليه السلام وعظم ثوابهما.
وأما التجديد في المنبر الحسيني فلا محذور فيه إذا كان التجديد تغييراً نحو الأصلح والأنفع، فإنا مع التغيير للأفضل لا مع مجرد التجديد حتى لو كان للسيئ، فليس كل جديد حسناً، كما أنه ليس كل قديم سيئاً، فلسنا مع تسييس واقعة الطف، وإخراجها عن إطارها الديني، وتضييقها في حدود موقف سياسي لثائر من الثوار.
نعم نحن ندعو إلى التجديد في طرح واقعة الطف، والاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة في هذا الجانب، فلا محذور في بيان حوادث عاشوراء بواسطة الأفلام السينمائية، والبرامج التلفزيونية، التي لا يخفى أنها تؤثر في شريحة واسعة جدا ومختلفة من الناس، ما لا تؤثره أية وسيلة أخرى.
وتدل النصوص الواردة عن عصر الغيبة الصغرى (260 ـ 329)، على إقامة المأتم في مزار الحسين عليه السلام، كما ذكر أبن الأثير عن مشاهداته بكاء الشيعة ونواحهم عند زيارة قبر الحسين عندما نقل أحداث نهاية القرن الثالث (296هـ) حيث رأى شيعياً يمنياً على تلك الحال[5]، وذكر القاضي أبو علي محسن بن علي التنوخي (384هـ)، أن أحد النعاة واسمه (ابن أصدق) كان ينعى الحسين في أيام حكم الحنابلة ببغداد، ويقول الراوي انه أراد تكليف ابن اصدق برثاء الحسين، فذهب للبحث عنه في مزاره ليلة النصف من شعبان حيث يتوافد الشيعة للزيارة فيها، فوجده هناك وعلى الرغم من خطورة ذلك قضى تلك الليلة بقراءة المراثي، وأبكى الحاضرين[6]، وورد ان (بربهاري) زعيم حنابلة بغداد 329 هـ، أمر بقتل ناعي يدعى (خلب) متخفاً في بيوت الشيعة، وذلك في نهاية الغيبة الصغرى[7]، ويقول ابن حجر عند الحديث عن الشاعر الشيعي (الناشئ الصغير)، ابى الحسن الحلا علي بن عبد الله، المولود (271ه): عن أشعاره كانت تقرا في رثاء الحسين عام 346هـ وقد بكى هو ومن حوله الى الظهر ذلك اليوم[8].
ذلك كله يدل على ان الشيعة لم يكفوا عن البكاء وإقامة المأتم الحسيني، وسعوا الى إعلان ذلك ما وجدوا الى ذلك سبيل وسمحت به الظروف، ويؤيد ذلك ما ورد عن إقامة أهل مصر المأتم عند قبور بنات الإمام الحسين عليه السلام، أم كلثوم ونفيسة، عليهما السلام، في يوم عاشوراء أيام الحُكام السنة أخشيد وكافور (323 ـ 358هـ) حيث أمر كافور جنوده بمراقبة الصحراء (طريق المعزين) لمنع الناس من الذهاب الى تلك القبور[9].
فلو لم يصبح المأتم الحسيني شعيرة رسمية في بغداد ومصر، لما ذكر المؤرخون شيئاً عن تلك المآتم، فحين قامت الحكومات الشيعية وتسلمت مراكز القرار، أضطر المؤرخون لنقل أخبارهم، ومنها المأتم الحسيني، وتبعاً لذلك جاؤوا على ذكر المآتم الحسينية السابقة.
ويمكن عد أمر الحاكم البويهي معز الدولة الديلمي بإقامة العزاء الحسيني عام (325هـ) الانطلاقة الحقيقية لاعتبار المأتم تقليداً رسمياً ترعاه الدولة، كما أصبحت إقامة المآتم الحسينية تقليداً رسمياً في مصر بعد عقد من الزمن في عهد الدولة الفاطمية[10]، وقد ذكر أبو الريحان البيروني[11] وعبد الجبار المعتزلي[12] إقامة مجالس العزاء في مختلف مدن العالم الإسلامي لا سيما الكبرى منها، وذلك ابان قيام حكومات شيعية في القرن الرابع والخامس الهجري.
وأما في بغداد فقد ترافق إقامتها بصورة علنية حفيظة باقي المذاهب الأمر الذي جر الى حدوث بعض الاشتباكات، فبعد أن أمر معز الدولة البويهي بإقامة مجالس العزاء العامة في يوم عاشوراء، أصبح ذلك شعيرة وتقليد رسمي حيث ينزل الشيعة الى الطرقات يرثون الحسين ويبكونه[13]، وقد زادت هذه الاعتراضات والاشتباكات أبان ضعف البويهيين، فلم تتمكن الدولة من حفظ الأمن، لذلك طلب بعض وزراء الدولة البويهية عدم إقامة المآتم وتم منعها لأعوام في العقود الأخيرة من عمر الدولة البويهية حفظاً للأمن وحقناً للدماء[14].
على الرغم من كل هذه الصعوبات استمرت إقامة المجالس الحسينية في بغداد حتى نهاية حكم البويهيين، ثم منعت إقامة الشعائر الحسينية في بغداد من قبل حكومة السلاجقة المتعصبيين عام (447هـ)، ومع ذلك هناك روايات عن إقامة المآتم الحسينية يوم عاشوراء عام (458هـ)، بعد عقد من سقوط البويهيين[15]، يقول الشيخ المفيد عن عاشوراء وهو أحد المعاصرين لهذه الفترة: يتجدد في هذا اليوم حزن أهل بيت النبي وشيعتهم، وعلى الشيعة الامتناع عن الملذات فيه، كما أوصى بذلك أئمتهم، وأن يقيموا المآتم، ويأكلوا كما يأكل أهل العزاء[16].
وأما في مصر فقد ذكرنا دأب المصريين على إقامتها منذ ما قبل الحكومات الفاطمية، وأن أخشيد وكافور (323 ـ 358هـ)، كانا يمنعان الزائرين لمقام السيدة نفيسة وأم كلثوم من إقامة العزاء على سيد الشهداء عليه السلام، وأصبح هذا المأتم تقليداً رسمياً بعد حكم الفاطميين لمصر سنة (335ه)، وكانت تصحبها ترتيبات حكومية خاصة[17]، واستمر ذلك حتى سقوط الدولة الفاطمية عام 567هـ.
وبعد الإطاحة بالفاطميين، أخذت الدولة الأيوبية بزمام الأمور وسعت الى طمس الثقافة الشيعية[18]، بكل قسوة فقاموا بمنع إقامة المآتم الحسينية وعاقبوا عليها بأشد العقاب، إلا ان الشيعة استمروا بإقامة شعائرهم متى سمحت لهم الظروف بذلك، فحين أرسل الأيوبيون جيوشهم لقمع أهل حلب، استنجد حاكمها بالناس، فاشترط الشيعة حرية ممارسة شعائرهم الدينية، كإقامة العزاء الحسيني، وذكر (حي على خير العمل) في الآذان، في مقابل مساعدته في رد جيوش الأيوبيين، ووافق حاكم حلب على ذلك.
ومع بداية القرن السادس ورغم سيطرة السلاجقة على ايران والعراق، استمر الشيعة في إقامة شعائرهم ومنها المأتم الحسيني، مما يكشف عن ترسخ هذه الشعيرة في ضمير الشيعة، بل الأمر تعدى ذلك الى إقامة أهل السنة عزاء سيد الشهداء، ولم يكن ذلك من باب المجاملة بين طوائف المجتمع الواحد، وإنما وجود غياب التشدد عند بعض علماء اهل السنة جعلوهم يتفاعلون مع مظلومية سيد الشهداء عليه السلام، فقد نقل الرازي القزويني في كتابه (النقض) الذي ألفه رداً على كاتب سني متعصب: يبدي الشيعة في يوم عاشوراء الجزع والفزع، ويقيمون المأتم، ويذكرون مصائب سيد الشهداء في كربلاء على المنابر، ويسردون في ذلك القصص، فيخلع علمائهم عمائمهم، ويشق العوام جيوبهم، وتنتحب نسائهم ويلطمن الخدود، واعتبره (يقصد الكاتب السني المتعصب)، اتهاماً وبدعة مرفوضة، وما ذلك إلا لبغضه آل الرسول صلى الله عليه واله، وعداوته لأولاد البتول؛ إذ بعلم العالمين أن عظماء علماء الفريقين: الشافعية والحنفية، وعلماء سائر الفرق وفقهائهم قد عملوا بهذه السنة وتمسكوا بها، وللشافعي الذي نسبت له الفرقة مراثي كثيرة في الحسين وشهداء كربلاء... ولا تحصى المراثي التي جاء بها هو وابو حنيفة في شهداء كربلاء، إذ لو كان هناك إشكال في الأمر لوقع على ابي حنيفة والشافعي أولاً، ثم ورد علينا، وإذا تتبعنا الأمر وجدنا أن الخواجة بو منصور مشادة ـ من عظماء السنة في وقته ـ كان يحي ذكرى هذا اليوم بالحزن والنواح والبكاء في اصفهان، ولم يستنكر ذلك أحد، وهل تعلم كيف كان يقيم الخواجة علي الغزنوي الحنفي المآتم في بغداد مدينة السلام ودار الخلافة؟ فقد كان يبالغ في لعن السفيانيين، ... كما كانت تقام المآتم الحسينية كل عام في يوم عاشوراء ببغداد، فيعلو فيها البكاء والنواح، وكان مجد الدين مذكر الهمداني يقيم المآتم الحسينية بهمدان في ذكرى عاشوراء على نحو أدهش اهل قم، على الرغم من سلطة المشبهة عليها وحضور الجيش التركي فيها. وكان الخواجة إمام نجم ابو المعالي ابن ابي القاسم البزاري يقيم المأتم الحسيني بنيسابور، على الرغم من كونه حنفي المذهب، فيقوم بالنواح والصراخ ونثر التراب على رأسه، ويعلم الجميع ما كان يفعل الشيخ أبو الفتوح نصر آبادي والخواجة محمود الحدادي الحنفي وآخرون في مساجد الري وخان كوشك في يوم عاشوراء، من إقامة المآتم الحسينية ولعن الظلمة. وكان الخواجة إمام شرف الأئمة أبو منصور الهسنجاني يروي واقعة عاشوراء كل عام على نحو لا يأتي بمثله احد، وذلك في حضور أمراء الأتراك وقادتهم وكبار الحنفيين، ويحظى في ذلك بدعمهم وتأييدهم جميعاً.
وقد رأى الجميع كيف روى الخواجة إمام بومنصور حفدة، من كبار اتباع الشافعي، الواقعة بيوم عاشوراء في جامع سرهنك حين حضوره في جامع سرهنك حين حضوره في مدينة الري، حيث فضّل الحسين على عثمان، ووصف معاوية بالطاغوت، كما روى الواقعة الساوي الحنفي ـ من الوعاظ المشهورين ـ في جامع طغرل بحضور عشرين الف شخص، بنحو لم يأت بمثله أحد، حيث خلع عمامته وشق جيبه. ورأى الناس ما قام به الخواجة تاج شعري الحنفي النيسابوري في يوم عاشوراء بعد الصلاة بالجامع العتيق عام 555 ه، وذلك بإذن من القاضي وبحضور العظماء والأمراء، فلو كان في الأمر بدعة كما يقول الخواجة مجبر الانتقالي، لم يأذن به اهل الفتيا، ولم يسمح به أئمة المذاهب.
وإن لم يذهب الخواجة الانتقالي الى مجالس الحنفيين والشيعة، فلابد انه ذهب الى مجلس شهاب المشاط، الذي يبدأ كل عام بحلول محرم بمقتل عثمان وعلي وينتهي بيوم عاشوراء بمقتل الحسين، وقد قام بالنعي في المأتم عند حرم الامراء قبل عامين على نحو شق الناس جيوبهم ونثروا التراب على رؤوسهم وخلع الرجال عمائمهم وعلا بكائهم ونواحهم[19].
تزامن القرن السابع مع ظهور دولة الخوارزمشاهيين في الشرق، وسقوط السلاجقة في بغداد، وانتعاش الخلافة العباسية مجدداً، وما ورد من تقارير تاريخية عن هذا القرن، يبين استمرار المآتم الحسينية كما في القرون السابقة، بل تشير الى اتساعها احياناً؛ فقد جاء في تقرير عن العقد الأول من هذا القرن، وقبل استيلاء المغول على بغداد، إن المآتم الحسينية كانت تقام في عاصمة الدولة العباسية، وكان المستعصم العباسي قد أمر محتسب بغداد جمال الدين عبد الرحمان بن الجوزي عام 641هـ بمنع الناس عن قراءة المقتل يوم عاشوراء، لكنه سمح لهم بقرائته عند مرقد الإمام الكاظم عليه السلام[20].
ولدينا خبر آخر عن ابن النديم، يقول: إن شيعة المدينة كانوا يجتمعون في قبة عباس في البقيع يوم عاشوراء، ويقرؤون مقتل الحسين عليه السلام[21]، كما يشير جلال الدين الرومي في أحد تشبيهاته في منظومته المثنوي المعنوي الى مآتم علنية في حلب[22].
وأخيراً يذكر السيد ابن طاووس تخصيص العشرة الأولى من محرم للمآتم والمراثي، ويدافع عن هذه الفكرة[23]، ويدل على سنة قراءة المقتل وإقامة المآتم في محرم آنذاك، إذن لم يختص يوم عاشوراء بمآتم، بل العشرة الأولى من محرم كلها أيام عزاء وحداد.
والمستفاد من هذه الأخبار والروايات أن المآتم الحسينية أخذت بالتطور والاتساع كماً وكيفاً في القرن السابع، واستمرت هذه الشعيرة لتأصلها في نفوس الناس وارتباطهم بالحسين عليه السلام.
د. محمد صالح الجويني ترجمة فرقد الجزائري الهوامش:المشهور بين مؤرِّخي السنَّة أنَّ مَن دفن الحسين (ع) والشهداء الذين قُتلوا معه هم أهل الغاضريَّة من بني أسد، فقد ذكروا أنَّ عمر بن سعد جمع قتلى المعسكر الأموي وصلّى عليهم ثم دفنهم وترك الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء دون تجهيز ثم إنَّه رحل عن أرض كربلاء في زوال يوم الحادي عشر من شهر محرم مصطحباً معه عائلة الحسين (ع) على هيئة الأسرى، وحينئذٍ خرج أهلُ الغاضرية من بني أسد وقاموا بتجهيز الشهداء ودفنهم بعد الصلاة عليهم(1).
وقد تبنَّى هذا القول عددٌ من العلماء ومؤرِّخي الشيعة مثل الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس وابن شهراشوب(2).
وفي مقابل هذا القول ثمة قولٌ آخر لا يبعد أنَّه الأقرب للواقع على أنَّه غير منافٍ للقول الأول وهو أنَّ الذي تصدَّى لتجهيز جسد الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء هو الإمامُ السجَّاد (ع) وأعانَه على ذلك أهلً الغاضرية من بني أسد.
ويُمكن الاستدلال على ذلك بالروايات التي أفادت أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمامٌ مثله، وهي روايات متعدِّدة بل ومستفيضة بل لا يُجازف من يدّعي القطع بصدورها في الجملة نظراً لكثرتها واختلاف طرقِها واشتمالها على ما هو معتبرٌ سنداً.
فمِن هذه الروايات ما رواه الشيخُ الكليني في الكافي بسندٍ معتبر إلى أحمد بن عمر الحلال أو غيره عن الرضا (ع) قال: قلتُ له: إنَّهم يُحاجّونا يقولون: إنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام. قال: فقال (ع): فما يدريُهم من غسَّله، فما قلتَ لهم؟ فقلتُ: جُعلت فداك قلتُ لهم: إنْ قال إنَّه غسَّله تحت عرش ربّي فقد صدق وإنْ قال: غسَّله في تخوم الأرض فقد صدق قال (ع): لا هكذا فقلت: فما أقول لهم؟ قال: قل لهم: إنِّي غسلتُه، فقلتُ: أقول لهم إنّك غسّلته؟ فقال: نعم"(3).
مفاد هذه الرواية الشريفة هو أنَّ -رجالاً والظاهر أنّهم من الواقفة- كانوا يحتجُّون على دعواهم بعدم إمامة الإمام الرضا (ع) بأنَّه لم يكن قد تصدَّى لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع) نظراً لكونه في المدينة والإمام الكاظم (ع) قد استُشهد في بغداد، ولأنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام، فعدمُ تغسيل الإمام الرضا (ع) للإمام موسى بن جعفر (ع) يسلبُه بزعمِهم واحداً من أمارات الإمامة.
ولأنّ الراوي المتلقِّي للاحتجاج مؤمنٌ بقضيَّة أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام لذلك التمس جواباً نظريَّاً، وحين راجع الإمام الرضا (ع) بعد ذلك أقرَّه على ما يُؤمن به وأفاد أنّه(ع) هو من تصدَّى لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع)، ولو كانت القضيَّة مورد الاحتجاج باطلة لكان على الإمام (ع) بيان ذلك كيف ولحن حديثِه (ع) صريحٌ في تقرير هذه القضية، وليس لمتلقِّي الخطاب من الإمام (ع) أنْ يُنكر عليه الذهاب إلى بغداد وهو في المدينة يوم استشهاد الإمام الكاظم (ع) بعد التسليم بصدقِه وإمكانيَّة حصول ذلك بنحو الإعجاز.
وعليه فتقريبُ الاستدلال بهذه الرواية هو أنَّها ظاهرةٌ في مركوزيَّة هذه القضيَّة عند الشيعة وإقرار الإمام(ع) لهذا الارتكاز.
ومنها: ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن المفضَّل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع) من غسَّل فاطمة ؟ قال: ذاك أميرُ المؤمنين (ع) وكأنِّي استعظمتُ ذلك من قولِه فقال: كأنَّك ضقت بما أخبرتُك به؟ فقلتُ: قد كان ذلك جُعِلتُ فداك، فقال: لا تضيقنَّ فإنّها صدِّيقة ولم يكن يُغسِّلها إلا صدِّيق، أما علمتَ أنَّ مريم لم يُغسِّلها إلا عيسى"(4).
ومنها: ما رُوي مسنداً في إثبات الوصية وغيره عن أبي بصير قال: قال الإمام موسى بن جعفر (ع): فيما أوصاني به أبي قال: يا بنيَّ إذا أنا متُّ فلا يُغسِّلني أحدٌ غيرك فإنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام(5).
ومنها: ما رواه الشيخُ الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بسنده عن هرثمة بن أعين في حديثٍ طويل كان بينه وبين الإمام الرضا (ع) قُبيل استشهاده ورد فيه:"فإذا أنا متُّ سيقول -يعني المأمون- أنا أُغسِّلُه بيدي، فإذا قال ذلك فقل له عنِّي بينك وبينه أنَّه قال لي: لا تتعرَّض لغسلي ولا لتكفيني ولا لدفني فإنَّك إنْ فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخّر عنك وحلَّ بك أليمُ ما تحذر فإنَّه سينتهي... إلى أن قال: فإنَّه سيُشرف عليك ويقول : يا هرثمة أليس زعمتم أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام مثله، فمَن يُغسِّل أبا الحسن عليَّ بن موسى وابنه محمد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بطوس؟
فإذا قال لك ذلك فأجبه وقل له: إنّا نقول : إنَّ الإمام لا يجب أن ُيغسِّله إلا إمام فإنْ تعدَّى متعدٍ وغسَّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدِّي غاسله ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بأن غُلِب على غسل أبيه، ولو تُرك أبو الحسن عليُّ بن موسى بالمدينة لغسَّله ابنُه محمد ظاهراً مكشوفاً ولا يُغسِّله الآن إلا هو من حيثُ يخفى"(6).
وثمَّة رواياتٌ أخرى أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة.
وتقريبُ الاستدلال بالروايات هو أنَّ مفادها امتناع وقوع تغسيل الإمام المطلوب شرعاً من قبل غير الإمام، وكذلك امتناع تغسيل الصدِّيق من قبل غير الصدِّيق.
وذلك لا يعني انَّه لا يتَّفق تصدِّي غير الإمام لتغسيل الإمام إلا أنَّ ذلك يكون في الظاهر ويكون من المحتَّم تصدِّي الإمام في الواقع لتغسيل الإمام الذي سبقه، فالرواياتُ ليست متصدِّية لبيان الوظيفة الشرعية فحسب وأنَّ على الإمام تكليفاً شرعيَّاً هو تغسيل الإمام الذي سبقه بل هي متصدِّية للحكاية عن قضية واقعية حتميَّة الوقوع، فإنَّ ذلك هو المستفاد من رواية هرثمة صريحاً وممَّا هو مركوز في فهم الشيعة كما هو ظاهر معتبرة أحمد بن عمر الحلال حيثُ إنَّ المنكرين لإمامة الإمام الرضا (ع) احتجُّوا على نفي إمامته بعدم تصدِّيه لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع) والراوي لم يُنكر عليهم الاحتجاج بأصل القضيَّة رغم انَّه كان من الأيسر عليه ذلك لو كانت باطلةً وإنَّما أنكر عليهم دعواهم الجزم بعدم تصَدِّي الإمام لتغسيل والده ثم إنَّ الإمام الرضا (ع) أقرَّه على إيمانه بلزوم وقوع تغسيل الإمام من قبل الإمام الذي بعده وعالج الشبهة بواسطة إخباره أنَّه هو مَن تصدَّى لتغسيل الإمام موسى بن جعفر (ع) واقعاً، فلو كان تغسيل الإمام من قِبل الإمام الذي يليه مجرَّد وظيفة شرعيَّة لما ساغ الاحتجاج بذلك على عدم الإمامة لأنَّ من الواضح أنَّ الوظائف الشرعية إنَّما تكون مُلزمة في ظرف القدرة ولا يُتصور غفلة المنكرين عن ذلك.
وأما معتبرة المفضَّل ورواية أبي بصير فهما غير منافيتين لما استظهرناه فإنَّ قول الإمام (ع) (ولم يكن يُغسِّلها إلا صدِّيق) يناسب جداً الحكاية عن أمرٍ واقعي وأنَّه لم يكن ليقع تغسيل فاطمة الصِّديقة(ع) إلا من قبل صدِّيق وأنَّ ذلك مقامٌ منحَه اللهُ تعالى للصدِّيق المتوفَّى بأن يُهيئ له صدِّيقاً يقوم بشأن تغسيله، لذلك هيئ للسيِّدة مريم صِدِّيقاً يقوم بتغسيلها وهو المسيح عيسى (ع).
فإخبار الإمام الصادق (ع) للمفضَّل عن تغسيل المسيح عيسى لإمه مشعرٌ إذا لم يكن ظاهراً في أنَّ الإمام(ع) أراد أنْ يُعبِّر عن أنَّ ثمة سنَّة إلهيَّة أجراها الله تعالى مع الصدِّيقين، ويُؤكِّد ذلك ما ورد في رواية أبي معمَّر عن الإمام الرضا (ع) قال: سألتُ الرضا (ع) عن الإمام يُغسِّله الإمام؟ قال (ع) سنة موسى بن عمران (ع)(7).
وأما رواية أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) فهي أيضاً مناسبة لما استظهرناه وأنَّ الإمام(ع) كان في مقام الحكاية عن قضية واقعيَّة وليس في مقام بيان الوظيفة الشرعيَّة فحسب، إذْ لو كانت وظيفة شرعيَّة لما كان لأبي بصير شأنٌ بها حتى يُخبره الإمام (ع) بها ابتداءً.
ثمَّ إنَّه قد يُقال إنَّ أقصى ما أفادته الروايات المذكورة هو لزوم وقوع تغسيل الإمام من قِبَل الإمام الذي يليه والإمام الحسين (ع) كان شهيداً لا يُغسَّل بل يُدفن كما هو في ثيابه، نعم لو كان في الروايات ما يدلُّ على لزوم وقوع الصلاة على الإمام من قِبَل إمامٍ مثله لكانت صالحة للاستدلال بها على حضور الإمام السجَّاد (ع) لتجهيز أبيه (ع) لكنَّها خالية عن الدلالة على ذلك.
والجواب عن هذا الإشكال:
هو أنَّه من غير المحتمل وجود خصوصيَّة في التغسيل تقتضي لزوم وقوعه من الإمام دون سائر مراسم التجهيز فإنَّ الظاهر عرفاً من الروايات المذكورة أنَّ ذلك كان وِساماً للإمام المتوفَّى ومنصباً للإمام الذي يليه ولا نحتمل خصوصيَّة للتغسيل دون الصلاة مثلاً خصوصاً وأنَّ الصلاة أجلُّ شأناً في مرتكز المتشرَّعة من التغسيل.
لذلك يتقدَّم لإمامتها -عندما يكون المتوفَّى وجيهاً- الأُمراء وكبار العلماء، وعليه فالمستظهَر عرفاً من الروايات المذكورة هو أنَّه لا يلي أمر الإمام إلا إمامٌ مثله وأنَّ القاعدة لا تختصُّ بالتغسيل فحسب.
ويمكن تأكيد هذا الاستظهار ببعض من القرائن:
القرينة الأولى: دعوى الإجماع على أنَّه لا يلي أمر الإمام إلا إمام مثله رغم أنَّ أكثر الروايات لم تتحدَّث إلا عن التغسيل، وذلك يُعبِّر عن أنَّ المتشرعة فهموا من الروايات المذكورة المعنى الذي استظهرناه (8).
القرينة الثانية: تصريح بعض الروايات بذلك.
منها: رواية الكشي حيث ورد فيها أنَّ عليَّ بن أبي حمزة البطائني قال للإمام الرضا (ع) إنَّا روينا عن آبائك أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله فقال له أبو الحسن الرضا (ع) فأخبرني عن الحسين بن علي (ع) كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال (ع): فمن وليَ أمره؟ قال: عليُّ بن الحسين (ع). قال كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد. قال: خرج وهم لا يعلمون حتى وَليَ أمر أبيه ثمَّ انصرف. فقال أبو الحسن (ع): إنَّ هذا أمكن عليَّ بن الحسين (ع) أنْ يأتي إلى كربلاء فيلي أمر أبيه فهو يُمكِّن صاحب هذا الأمر أنْ يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثمَّ ينصرف وليس في حبسٍ ولا أسر(9).
فالرواية المذكورة صريحةٌ في أنَّ التغسيل ليس وحده الذي يجب وقوعه من الإمام وإلا كان أيسر على البطائني أنْ يُجيب الإمام الرضا (ع) بأنَّ الإمام الحسين (ع) لم يكن قد غُسِّل فلا يجب حضور السجاد (ع) في تجهيزه.
فالرواية وإنْ كان في سندها اشكال إلا أنَّها تصلح قرينةً وشاهداً على ما استظهرناه، وسنقف عندها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ومنها: ما رواه الكليني في روضة الكافي بسنده عن عبد الله بن القاسم البطل عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)(10) ورد في ذيلها (ولا يلي الوصي إلا الوصي)(11).
واشتملت هذه الرواية على أنَّ الذي يليه الإمام من الإمام ليس هو التغسيل فحسب بل هو مضافاً إلى التكفين والتحنيط والإيداع في اللحد، وهو يؤكِّد ما استظهرناه من الروايات موردَ الاستدلال.
ومنها: ما رواه ابن شهراشوب في المناقب قال: وقد روي أنَّا أهل بيت النبوة والرسالة والإمامة... وإنَّ الإمام لا يتولَّى ولادته وتغميضه وغسله ودفنه إلا إمام مثله".(12).
وبما ذكرناه نخلصُ إلى هذه النتيجة وهي إمكانيَّة التمسُّك بإطلاق ما دلَّ على أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلا إمام مثله لإثبات أنَّ من تولَّى شأنَ تجهيز الإمام الحسين (ع) ودفنِه هو الإمام السجاد (ع).
وثمة دليلٌ آخر يُمكن التمسُّك به لإثبات هذه الدعوى، وهو مكوَّن من عدة أمور يحصل بمجموعها الوثوق بأنَّ الذي كان قد تصدَّى لتجهيز الإمام الحسين (ع) ودفنه هو نجلُه الإمام السجاد (ع).
الأمر الأول: ما ورد من رواياتٍ خاصَّة تنصُّ على تصدِّي الإمام السجاد (ع) لتجهيز والده الحسين الشهيد (ع)، وما وقفنا عليه في ذلك روايتان.
الأولى: رواية الكشي والتي ذكرناها سابقاً وتقريب دلالتها على الدعوى هو أنَّ الإمام الرضا (ع) أقرَّ البطائني على دعواه وأنَّ الذي وليَ أمر الإمام الحسين (ع) هو السجاد (ع)، ولو كان الواقع على خلاف ما ادَّعاه البطائني لكان المناسب تفنيد الإمام لدعواه.
هذا ما يتَّصل بالدلالة -ولنا عودة للرواية- وأما ما يتصل بالسند فهي ضعيفة السند بالإرسال واشتمالها على أحمد بن سليمان وإسماعيل بن سهل إلا أنَّ ذلك لا يمنع من اعتبارها شاهداً على الدعوى.
الثانية: ما رواه العلامة المجلسي في البحار عن بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد وأحمد بن إسحاق عن القاسم بن يحيى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) قال: لما قُبض رسول الله (ص) هبط جبرئيلُ ومعه الملائكة والروح الذين يهبطون ليلة القدر قال: ففُتح لأمير المؤمنين بصرُه فرآهم في منتهى السماوات إلى الأرض يُغسِّلون النبيَّ معه ويُصلُّون معه عليه ويحفرون له، واللهِ ما حفر له غيرُهم حتى إذا وُضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه، فتكلَّم، وفُتح لأمير المؤمنين على سمعِه فسمعه يُوصيهم به فبكا، وسمعهم يقولون: لا نألوه جهداً وإنَّما هو صاحبنا بعدك إلا أنَّه ليس يُعايننا ببصره بعد مرَّتنا هذه، حتى إذا مات أميرُ المؤمنين (ع) رأى الحسنُ والحسينُ مثلَ ذلك الذي رأى ورأيا النبيَّ (ص) أيضاً يُعيين الملائكة مثل الذي صنعوا بالنبيِّ حتى إذا مات الحسنُ رأى منه الحسينُ مثل ذلك ورأى النبيَّ (ص) وعليَّاً (ع) يُعيينان الملائكة، حتى إذا مات الحسينُ رأى عليُّ بن الحسين منه مثل ذلك ورأى النبيَّ وعليَّاً والحسن يعينون الملائكة، حتى إذا مات عليُّ بن الحسين (ع) رأى محمَّدُ بن عليٍّ مثل ذلك ورأى النبيَّ وعليَّاً والحسن والحسين يُعينون الملائكة، حتى إذا مات محمد بن عليٍّ رأى جعفرٌ مثل ذلك ورأى النبيَّ وعليَّاً و الحسنَ والحسين و عليَّ بن الحسين يُعينون الملائكة حتى إذا مات جعفر رأى موسى منه مثل ذلك، هكذا يجري إلى آخرنا(13).
هذه الرواية كما تلاحظون صريحة في تصدِّي الإمام عليِّ بن الحسين (ع) لتجهيز والده الشهيد الحسين بن علي (ع) إلا أنَّها ضعيفة السند، فلتكن مؤيِّداً آخر على الدعوى.
الأمر الثالث: ما ورد من أنَّ الإمام الحسين (ع) دُفن في قبرٍ مستقلٍّ ودُفن ابنُه عليُّ ابن الحسين الأكبر (ع) ممَّا يلي رجليه، ودُفن الشهداء من بني هاشم في قبرٍ واحد ودُفن الشهداء من غير بني هاشم في قبورٍ جماعيَّة أو في قبرٍ واحد ممَّا يلي رجلي الحسين (ع) وأمَّا العباس بن علي (ع) فدُفن في الموضع الذي قُتل فيه على طريق الغاضرية(14).
وهذا التفصيل والذي هو موردٌ لتسالم العلماء ومؤرِّخي الشيعة لا يتناسبُ مع دعوى تصدِّي أهلِ الغاضرية من بني أسد بنحو الاستقلال لتجهيز الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء خصوصاً مع الالتفات إلى أنَّ رؤوس الشهداء قد فُصلت عن أجسادهم، فمن أين لبني أسد العلم بهويَّات الشهداء، وهم من أهل البادية ولم يشهدوا المعركة، وقد لا يكون منهم من تشرَّف برؤية الإمام الحسين (ع) فضلاً عن بقية الشهداء (ع).
فحينئذٍ كيف يُقال إنَّهم أفردوا للحسين (ع) قبراً ودُفن الأكبر قريباً منه ممَّا يلي رجليه، ولو تجاوزنا ذلك فكيف نتجاوز عن سبب دفنهم للعباس (ع) وحده، وهم لا يعرفونه قطعاً وقد كان أيسر عليهم أنْ يضعوه مع سائر الشهداء في القبر الجماعي الذي حفروه لهم، فليس ثمة ما يقتضي دفنه مستقلاً بعد افتراض جهلهم بهويَّته، فلم يكن من البُعد بحيث يكون دفنُه مستقلاً أيسر عليهم من حمله ووضعه مع سائر الشهداء.
إنَّ كلَّ ذلك يُعبِّر عن أنَّ الدفن بالكيفيَّة المذكورة لم يكن اتفاقيَّاً وجزافيَّاً بل كان عن تخطيط لا يناسب واقع أهل الغاضريَّة من بني أسد، وذلك ما يُؤكِّد ما ادَّعيناه من أنَّ الإمام السجاد (ع) هو الذي كان قد باشر الإشراف على تجهيز الإمام الحسين (ع).
ثمَّ إنَّ هنا رواية ينقلها السيِّد ابن طاووس في كتابه مصباح الزائر ورد فيها أنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري جاء لزيارة قبر الإمام الحسين (ع) يوم العشرين من صفر بصحبة (عطا) عطية العوفي وبعد أن اغتسل وتطيَّب وقف على قبر الحسين (ع) وكبَّر ثلاثاً ثمَّ خرَّ مغشياً عليه، ولمَّا أفاق سلَّم على الحسين (ع) ولمَّا انتهى من السلام عليه وصلَّى ركعات جاء إلى قبر عليِّ بن الحسين (ع) فقال السلام عليك يا مولاي وابن مولاي لعن الله قاتلك لعن الله ظالمك أتقرب إلى الله بمحبتك..) ثمَّ قبَّله وصلَّى ركعتين والتفت إلى قبور الشهداء وقال: (السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبد الله، السلام عليكم يا شيعة الله وشيعة رسوله..)(15).
ثمَّ جاء إلى قبر العباس بن أمير المؤمنين (ع) فوقف عليه وقال: " السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا عباس بن علي، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين...".
هذه الرواية صريحةٌ في أنَّ قبر الحسين (ع) وقبر عليِّ بن الحسين الأكبر (ع) والعباس بن علي (ع) كانت مشخَّصة عند جابر بن عبد الله الأنصاري رغم أنَّ الزيارة كانت قبل الالتقاء بالركب الحسيني العائد من الشام -هذا لو تمَّ الالتقاء بهم- فمن أين لجابرٍ العلم بموضع قبر الحسين (ع) والأكبر والعباس (ع)؟
إنَّ هنا احتمالين لا ثالث لهما، فإمَّا أن تكون القبور المذكورة قد كُتِب عليها أسماء أصحابها، وإمَّا أنْ يكون تشخيصها قد تمَّ بواسطة مَن حضر مراسيم الدفن، وعلى كلا الاحتمالين يتعيَّن حضور الإمام السَّجاد (ع) لمراسيم الدَّفن، وذلك لأنَّه من غير المتاح لأهل الغاضرية القدرة على تشخيص هويَّات الشهداء بعد أنْ لم يكونوا عارفين بمشخَّصاتهم قبل القتل ولم يكونوا ممَّن شهد المعركة، ولأنَّ الشهداء قد فُصِلت عنهم رؤوسهم، وإذا كان من الممكن تشخيص جسد الحسين (ع) فإنَّ تشخيص جسد العباس وكذلك عليٍّ الأكبر مستبعدٌ جداً نظراً لما ذكرناه.
وعليه فالمتعيَّن هو أنَّ منشأ تشخيصهم لمواضع القبور كان بسبب إرشاد الإمام السجاد (ع) وتعريفه لهم بهويَّات الشهداء حين كان يُشرف على تجهيزهم ودفنهم.
الأمر الرابع: ما ورد في الروايات من أنَّ الإمام الرضا (ع) كان قد ولي أمر الإمام موسى بن جعفر (ع) فقد روى الشيخ الصدوق وغيره أنَّ الإمام الرضا حضر إلى بغداد وغسَّل والده وكفَّنه ودفنه، وقد نقلنا فيما سبق ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن أحمد بن عمر الخلال وما رواه عن أبي معمر، فرغم أنَّ الإمام الرضا (ع) كان حين استشهاد والده في المدينة إلا أنَّ الروايات أكَّدت حضوره إلى بغداد لتجهيز والده (ع).
وورد في الروايات أنَّ الإمام الجواد (ع) كان قد وليَ أمر أبيه الرضا (ع) كما في رواية هرثمة المتقدِّمة ومعتبرة أبي الصلت الهروي وقد جاء فيها: " فبينا أنا كذلك إذ دخل عليَّ شابٌّ حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا (ع)، فبادرتُ إليه وقلتُ له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق، فقلت له: ومَن أنت؟ فقال لي: أنا حجَّة الله عليك يا أبا الصلت أنا محمد بن عليٍّ ثم مضى نحو أبيه... ومضى الرضا (ع) فقال أبو جعفر (ع) يا أبا الصلت قم ائتني بالمغتسل والماء من الخزانة... فقال لي تنحَّ يا أبا الصلت فإنَّ لي مَن يُعينني غيرُك فغسَّله ثم قال لي: ادخل الخزانة فاخرج السفط الذي فيه كفنُه وحنوطه... فحملتُه إليه فكفَّنه وصلَّى عليه.."(16)
فرغم انَّ الإمام الجواد (ع) حين استشهاد والده كان في المدينة وكان الإمام الرضا (ع) في خراسان إلا أنَّ الروايات أكَّدت حضوره وتولِّيه شأنَ تجهيز والده (ع).
وورد أيضا في الروايات المأثورة عن أهل البيت (ع) أنَّ الإمام الصادق (ع) أوصى ابنه الإمام الكاظم (ع) بأنْ يليَ شأن تغسيله كما في رواية أبي بصير وأفاد أنَّ الإمام لا يُغسِّلُه إلا إمام، ولهذا تولَّى الإمامُ الكاظم (ع) شأن تجهيز والده الإمام الصادق (ع) كما أفادت ذلك الروايات، فرغم أنْ الإمام الكاظم (ع) لم يكن الولد الأكبر للإمام الصادق (ع) إلا أنَّه ونظراً لكونه الإمام بعد أبيه تصدَّى هو دون غيره لتولِّي شأن تجهيزه(17).
وهكذا الحال بالنسبة للإمام المهدي (عج) فرغم ظروف الغيبة تصدَّى هو للصلاة على أبيه كما أفادت ذلك بعض الروايات والتي جاء فيها: "فلما صرنا في الدار إذ أنا بالحسن بن عليٍّ (ع) على نعشه مكفَّناً فتقدَّم جعفر بن عليٍّ ليصلِّي على أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سمرة، شعره قَطَط بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليٍّ وقال: تأخَّر يا عم فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي، فتأخَّر جعفر وقد أربدَّ وجهُه واصفرَّ فتقدَّم الصبيُّ وصلَّى على أبيه.."(18)
وقد نقلنا لك قريباً معتبرة عبد الرحمن بن سالم والتي أفادت أنَّ الإمام أمير المؤمنين غسَّل فاطمة (ع) وذلك لأنَّها صدِّيقة ولم يكن يُغسِّلها إلا صدِّيق وورد ذلك في رواياتٍ أخرى أيضاً، فرغم أنَّ مذاق العرف يستوحش من تصدِّي الرجل لتغسيل زوجته خصوصاً مع وجود المماثل إلا أنَّ الإرادة الإلهيَّة المُلزمة قد اقتضت ذلك نظراً لكون فاطمة صدِّيقة، والذي هو أكثر استيحاشاً من ذلك أن يتصدى الابن لتغسيل والدته إلا أنَّه ورغم ذلك تصدَّى السيدُ المسيح لتغسيل والدته السيدة مريم كما أفاد الإمامُ الصادق (ع) في معتبرة عبد الرحمن بن سالم مبرِّراً ذلك بأنَّه لم يكن لغير الصدِّيق أن يتصدَّى لتغسيل الصدِّيق.
وبهذا الذي ذكرناه هنا تتأكد صوابيَّة ما ادَّعيناه من تصدِّي الإمام السجاد (ع) لتولِّي شأن تجهيز والده الحسين الشهيد (ع) إذ أنَّ ما تمَّ بيانُه يُعبِّر عن أنَّ ثمة سنَّةً إلهيَّة أجراها المولى جلَّ وعلا في أوليائه المعصومين (ع) فليس اتَّفاقاً أن يُناط هذا المنصب بمَن سبق الإمام السجاد (ع) ومن لحقه من المعصومين (ع) ولا نتعقل مانعاً يحول دون جريان هذه السنَّة الإلهيَّة في سيد الشهداء، فلو كانت العوائق الظاهريَّة مانعاً لمنعت دون وصول الإمام الرضا (ع) إلى بغداد ولمنعت دون حضور الإمام الجواد (ع) إلى خراسان كيف وقد تواترت الروايات تحكي كراماتٍ أظهرها الله جلَّ وعلا على يد وليِّه ونجيبه زين العابدين (ع).
إذا اتَّضح ما ذكرناه وتبيَّن أنَّ مجموع الأمور الأربعة مُنتجة للاطمئنان بصحَّة ما ادَّعيناه نشير إجمالا واستكمالاً للبحث لما قد يرد من إشكال حول بعض الأمور المتصلة بالبحث:
الإشكال الأول: وهو يرتبط برواية الكشي التي نقلناها فيما سبق، وحاصل الإشكال أنَّه قد يقال إنَّ الرواية لا ظهور لها في أنَّ الإمام السجاد (ع) كان قد وَليَ شأن تجهيز والده الحسين (ع)، وذلك لأنَّ الإمام الرضا (ع) كان في مقام الاحتجاج على ابن أبي حمزة البطائني، فأقصى ما يظهر من الرواية هو أنَّ الإمام الرضا (ع) أراد القول بأنَّ افتراض تمكُّن عليِّ بن الحسين (ع) من العودة إلى كربلاء وتجهيز والده (ع) يقتضي إمكانيَّة حضوره إلى بغداد لتجهيز والده الإمام موسى بن جعفر (ع) أي أنَّه إذا جاز عقلاً صحَّة الفرضيَّة الأولى فلماذا يمتنع افتراض صحَّة الثانية، فليس في الرواية ما يقتضي ظهورها في إقرار الإمام(ع) بوقوع القضيَّة الأولى وهي تصدِّي السجاد(ع) لتجهيز والده الحسين (ع).
والجواب عن هذا الإشكال:
أنه لو تمَّ القول بعدم ظهورها فيما ادعيناه فإنَّ ذلك لا يؤثر على النتيجة التي خلصنا إليها، ذلك لأنَّها لم تكن وحدها الذي تمسَّكنا به حتى يكون إسقاطها منتجاً لسقوط الدعوى، على أنَّ القول بعدم ظهورها في المطلوب ساقط جداً، وذلك يتَّضح بالوقوف على ما هو الشيء الذي كان يُنكره عليُّ بن أبي حمزة على الإمام الرضا (ع) فالذي يظهر من الرواية وما هو المعلوم قطعاً من غيرها أيضاً أنَّ عليَّ بن أبي حمزة كان يُنكر إمامة الإمام الرضا (ع) ويدَّعي عدم موت الكاظم (ع) وقد جاء ومَن كان معه إلى الإمام الرضا (ع) لغرض البرهنة على صوابيَّة إنكارهم لإمامته، لذلك سألوه أولاً كما في الرواية "ما فعل أبوك قال: مضى، قال: مضى موتاً قال: (ع) نعم، قال: فقال: إلى مَن عهِد؟ قال (ع): إليَّ، قال: فأنت إمامٌ مفترضُ الطاعة من الله. قال (ع): نعم.
قال ابن السراج وابن المكاري: قد والله أمكنك من نفسه.." (19)
ثم بدأ ابنُ أبي حمزة بالاحتجاج عليه.. قال: إنَّا روينا عن أبائك أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله.." (20).
فأراد أن يقول أنَّك لم تحضر لتجهيز والدك الذي تدَّعي خلافته، فلو كنتَ إماماً لكنت مَن تولَّى تجهيزه لأنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، وهذه القضيَّة بصغراها وكبراها تقتضي هذه النتيجة وهي أنَّ الإمام الرضا (ع) لم يكن إماماً.
ويكفي لإسقاط هذه النتيجة اعتماد أحد الطرق الآتية:
الطريق الأول: إنكار الكبرى وهي أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، فحيثُ أنَّه (ع) لم ينكرها فذلك تعبيرٌ عن إقراره لها وتأكيده على صدقها، وما قد يقال إنه لم يكن يسعه إنكارها لأنَّهم لن يقبلوا ذلك منه نظراً لعدم إيمانِهم بإمامته فيكون إنكارُه بغير حجَّة بنظرهم، إذ لهم أنْ يردُّوا على إنكاره لو أنكر بأنَّ هذه الكبرى مستندة إلى حجَّة وهي ما نرويه عن آبائك الذين تُؤمن أنت بإمامتهم، فلأنه لم يكن يسعُه الإنكار لذلك اتَّخذ طريق المجاراة معهم ليخصمهم بعد ذلك بقولهم.
لو قيل ذلك فإنَّه يُجاب عنه بأنَّه لو لم يكن يُصحِّح الإمام هذه الكبرى لوسعه أنْ يُكذِّبهم ويُنكر عليهم روايتهم ذلك عن آبائه، بأنْ يؤكد أنَّ قول آبائه وانْ كان حجَّة إلا أنَّ دعواكم أنَّ ذلك ممَّا قد صدر عنهم كذبٌ وافتراء، وحينئذٍ تسقط الكبرى التي أرادوا التمسُّك بها للوصول إلى غرضهم نظراً لكونها غير مبرهَنة ولا مسلَّمة للخصم، فتكذيبُهم لو لم تكن القضية واقعيَّة كان هو الأيسر على الإمام لإسقاط دليلهم.
على أنَّ الإمام لو أنكر عليهم هذه القضية لم يكن من الصعب عليه البرهنة على إنكاره كما فعل ذلك في الحجَّة الأخرى التي احتجُّوا بها على الإمام (ع).
فقد ورد في نفس الرواية أنَّ عليَّ بن أبي حمزة قال للإمام (ع) لقد أظهرت شيئاً ما كان يُظهره أحد من آبائك ولا يتكلَّم به فقال الإمام (ع): بلى والله لقد تكلَّم به خير آبائي رسول الله (ص) لما أمره أن يُنذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم إنِّي رسولُ الله إليكم، وكان أشدَّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمُّه أبو لهب فقال لهم النبيُّ (ص).. إنْ خدشني خدشٌ فلستُ بنبيٍّ، فهذا أول ما أُبدِعُ لكم من آية النبوَّة، وأنا أقول إنْ خدشني من هارون خدشاً فلستُ بإمام فهذا ما أُبدع لكم من آية الإمامة.(21)
فابنُ أبي حمزة في هذه الفقرة احتجَّ على عدم إمامة الإمام بدعوى أنَّ السيرة القطعية للأئمة (ع) كانت جارية على إخفاء إمامتِهم وعدم البوح بها إلى مستوىً يؤدِّي إلى علم السلطان، فلأنَّ الإمام الرضا (ع) قد أظهر إمامته فذلك يُنافي ما عليه سيرة الأئمة (ع)، وهو دليل على عدم إمامته بزعمه.
فكان جواب الإمام (ع) هو إنكاره للكبرى التي تمسَّك بها عليُّ بن أبي حمزة ثم أنَّه تصدَّى للبرهنة على إنكاره بأمرين أحدهما الإشارة إلى الآية وأنذر عشيرتك الأقربين والثانية أنَّه تحدَّاه أنْ يتمكَّن هارون من أنْ يمسَّه بسوء وهو إخبارٌ عن الغيب.
ثم إنَّ من غير المناسب أن يُفترى على آبائه الطاهرين في محضره وفي قضيةٍ هي من الخطورة بحيث يكون عدم تفنيدها موجباً لضلال الكثير من الناس، من غير المناسب أنْ يكون الأمر كذلك ثم لا يتصدَّى لتكذيب هذه الفِرية، خصوصاً وأنَّ واحداً من أهمِّ وظائف الإمام هو ردُّ الشبهات الاعتقاديَّة بنحوٍ ينتفي أثرُها في التضليل، ودعوى عدم ظهور جواب الإمام في التسليم بالقضية لا ينهض لمستوى الإنكار لصدقها وهو خلفُ وظيفته من جهة وإهمالٌ لخطورة الأثر المترتِّب على عدم التصريح بالإنكار من جهةٍ أخرى.
إذن فعدمُ تصدِّي الإمام(ع) صريحاً لإنكار الكبرى وهي أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله يساوقُ الإقرار بها والتصديق بصوابيَّتها.
الطريق الثاني: لإسقاط النتيجة التي يروم البطائني الوصولَ إليها وهي البرهنة على عدم إمامة الإمام الرضا (ع) هو أنْ يتصدى الإمام الرضا (ع) لنفي إطلاق الكبرى بأنْ ينفي أن تكون هذه القضية مطَّردة مع كلِّ إمام، وهو (ع) لم يفعل ذلك فلم ينفِ إطلاق أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، وذلك يقضي الإقرار بتماميَّة إطلاقها.
ولو قيل إنَّ الإمام نفى الإطلاق بواسطة التمثيل بما وقع للإمام الحسين (ع) فكأنَّه أراد القول أنَّ هذه القضية غير مطَّردة بدليل أنَّ الإمام الحسين (ع) كان إماماً باعترافكم ومع ذلك لم يتصدَّ لتولِّي شأنه الإمامُ السجاد (ع) رغم أنَّه الإمام باعترافكم، فتمثيله بالإمام الحسين(ع) تعبيرٌ آخر عن عدم قبوله باطِّراد القضية.
والجواب: إنَّ الإمام الرضا (ع) لو أراد من تمثيله بالإمام الحسين (ع) الطعن في إطلاق الكبرى لأنكر على البطائني دعواه أنَّ الإمام السجاد (ع) كان قد خرج من الحبس من حيث لا يعلمون وتولَّى شأن أبيه ثم عاد إلى الكوفة، فعدمُ إنكاره عليه ذلك يُظهر البطائني في مظهر الغلبة وأنَّ ما أراد الإمام (ع) أنْ يتمسَّك به لإثبات عدم اطِّراد الكبرى لم يكن تامَّاً.
فكان على الإمام (ع) لو أراد نفي الإطِّراد للكبرى أنْ يؤكِّد عدم وقوع ما أدَّعاه من تولَّي السجَّاد (ع) لشأن الحسين (ع) لا أنَّه يُجاريه ليثبت له بعد ذلك إمكانيَّة حضوره إلى بغداد لتجهيز والده الإمام موسى بن جعفر (ع).
إذ أنَّ هذه المجاراة لو كانت كذلك لانتهت إلى نفس الإشكال والذي ذكرناه أولاً وهو التسليم بالكبرى وإطرادِّها أو على الأقل عدم الظهور في الإنكار الموجب لاحتمال التضليل إذ أنَّ الإمام لم ينفِ الكبرى بذلك ولم ينفِ اطَّرادها بعد أنْ لم يُنكر على البطائني دعواه بأنَّ السجاد (ع) خرج من الحبس وتولَّى شأن والده، وكلُّ ما فعله الإمام بناءً على ذلك هو إثبات إمكانيَّة حضوره بعد أنْ أمكن للسجَّاد الحضور إلى كربلاء وهو في الحبس، وهذا المقدار لا يُلغي البحث ولا يُوجب خصم البطائني، لأنَّ من المُستبعَد جداً أنَّ البطائني لا يُدرك إمكانيَّة حضور الإمام إلى بغداد وهو الذي يُؤمن بإمامة الأئمة السبعة واعترف بإمكانيَّة حضور السجاد إلى كربلاء وقد كان في الحبس.
فالمتعيَّن أنَّ الإمام الرضا لم يقصد من تمثيله بالإمام الحسين (ع) النقض على اطَّراد الكبرى بل قصد استدراج البطائني من خلال قضيَّة واضحة ومسَلَّمة.
والذي يُؤكِّد أنَّ الإمام (ع) لم يكن بصدد الطعن في إطلاق الكبرى ما ورد في نفس المناظرة من إنكاره على البطائني دعواه أنَّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه، فالإمامُ (ع) هنا أجابه أنَّ هذا الخبر ليس على إطلاقه وتصدَّى لتأكيد ذلك بما يُوجب اندفاع الشبهة التي أراد البطائني تمريرها.
"قال له عليُّ البطائني: إنا روينا أنَّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه؟
قال فقال أبو الحسن (ع): أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟
قال: لا، قال: بلى والله لقد رويتم فيه إلا القائم وأنتم لا تدرون ما معناه ولِمَ قيل، قال له عليٌّ: بلى والله إنَّ هذا لفي الحديث، قال له أبو الحسن (ع) ويلك كيف اجترأتَ عليَّ بشيءٍ تَدعُ بعضه"(22).
هذه الفقرة من المناظرة تصدَّى فيها الإمام (ع) لنفي دعوى الإطلاق بصورةٍ واضحة لا تدعُ مجالاً لتمرير الشبهة، وذلك ما يُؤكِّد أنَّ الإمام (ع) في الفقرة موردَ البحث لم يكن بصدد نفي الإطلاق.
الطريق الثالث: لإسقاط النتيجة التي يريد البطائني الوصول إليها هو أنْ يدَّعي الإمام أنَّه حضر إلى بغداد وتولَّى شأنَ أبيه الإمام موسى بن جعفر(ع)، إذ أنَّه بذلك يُسقط الحجَّة التي أراد أنْ يعتمدها البطائني، لأنَّها تتقوَّم بمقدمتين، الأولى هي قضية أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، والثانية أنَّ عليَّ بن موسى (ع) لم يتولَّ أمر والده الإمام موسى بن جعفر (ع)، فإذا لم يتمكَّن البطائني من إثبات ذلك تكون حجَّتُه ساقطة، فحيث أنَّ المقدمة الأولى كانت تامَّة فالمتعيَّن هو عدم تماميَّة المقدمة الثانية.
والواضح من الرواية أنَّ البطائني لم يستطع إثبات عدم حضور الإمام الرضا (ع) إلى بغداد إذ لو كان عنده من حجَّة على ذلك لذكرها ولما انتقل إلى محورٍ آخر.
قد يُقال إنَّ الإمام لم يذكر في المناظرة أنَّه حضر إلى بغداد وقام بتجهيز والده، فكأنَّه سلَّم بالمقدمة الثانية فالمتعيَّن أنَّ المنفي هو المقدمة الأولى أو إطلاقها، قلنا إنَّه اتَّضح ممَّا تقدَّم إقرار الإمام بتماميَّة المقدِّمة الأولى إذ أنَّ عدم إنكارها صريحاً لو كانت فاسدة يقتضي الإيقاع في التضليل وذلك مناف لوظيفته الشرعية كما أنَّه غير مناسبٍ لما وقع منه في الفقرات الأخرى من المناظرة.
وبذلك يتعيَّن أنَّ نفس الإقرار بالكبرى يُساوق إخباره بالحضور إلى بغداد، لأنَّ من غير المعقول أنَّه كان بصدد الدفاع عن إمامته وفي ذات الوقت يسلِّم بما هو نقيض غرضه إلا أنْ يكون إقراره بالكبرى عيَّن إخباره بالحضور وهو المطلوب.
قد يقال إنَّ مجرد إخبار الإمام بحضوره إلى بغداد لا يُثبت الحضور واقعاً عند الخصم لأنَّه غير مسلِّم بإمامته.
فإنه يقال لا يحتاج الإمام إلى إثبات ذلك لأنَّه كان بصدد دفع الحجَّة التي أراد أن يتمسَّك بها البطائني، فكان يكفي في سقوطِها عدم التسليم بالصغرى وحينئذ يلزم البطائني كما هو مقتضى المنطق العقلي أن يُبرهن على صحَّة الصغرى، وهي عدم حضور الإمام إلى بغداد وإلا لم تكن ثمة من قيمة لبرهانِه.
فلو جاءك أحد وقال: إنَّه لا يكون الشيء حيواناً إلا أنْ يكون حساساً، والسمك غير حسَّاس إذن هو ليس بحيوان، فإنَّه يكفي لإسقاط هذه النتيجة وهي أنَّ السمك ليس بحيوان عدم التسليم بالصغرى وهي أن السمك غير حساس، وحينئذ يكون على المؤلف للقياس أن يُبرهن على صدق الصغرى وليس على الطرف الآخر أن يُبرهن على كذب الصغرى.
قد يقال إنَّه إذا كان التسليم بكبرى أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام يُساوق إخبار الإمام بأنَّه كان قد حضر إلى بغداد فلماذا لم يُبرهن الإمام على حضوره تأكيداً لفساد دعوى البطائني.
فإنَّه يقال لا سبيل لإثبات ذلك إلا بأحد أمرين، إما بإيمانهم بصدق الإمام (ع) وهم لا يؤمنون بصدقه فضلاً عن صدق شهودِه لو جاءهم بشهود فإنَّهم سيدَّعون ممالئتهم للإمام (ع)، وهم قد كذَّبوه في أول المناظرة عندما أخبرهم أنَّ أباه قد عهِد إليه وانَّه قد مضى وانَّه إمام مفترض الطاعة.
والسبيل الثاني لإثبات حضوره هو الإعجاز، وذلك لن يجدي معهم أيضاً نظراً لتعنُّتهم، وقد أعطاهم أمارة إعجازيَّة في المحاجَّة الأولى حيثُ أفاد جازماً أنَّ هارون لن ينال منه خدشاً فلم يقنعوا منه بذلك، فلو كانوا يبحثون عن الحقيقة لكان عليهم الصبر والتربُّص ليتبيَّنوا صدق دعواه العلم بالغيب من عدم صدقه، فرغم أنَّ احتمال أنْ يناله السلطان هارون بسوء كان قريباً جداً ومع ذلك أفاد جازماً انَّه لن يصل إليه بسوء، فما اكترثوا بما أفاده الإمام (ع).
على أنَّه لا حاجة كما ذكرنا إلى أنْ يُثبت الإمام لهم انَّه قد حضر إلى بغداد بعد أن كان مجرَّد الإخبار بالحضور كافٍ لإسقاط حجَّتهم.
وبما ذكرناه يتبيَّن أنَّ ذكر الإمام الرضا (ع) لما وقع للإمام الحسين (ع) كان لغرض رفع الاستيحاش عن دعواه الحضور إلى بغداد ولغرض استدراج البطائني ليظهر بعد ذلك في مظهر المتعنِّت، إذ أنَّه لمَّا أن قبل بتولِّي السجاد لشأن أبيه (ع) رغم أنَّه كان محبوساً في الكوفة يكون إنكاره دون برهان لحضور الإمام الرضا (ع) إلى بغداد ناشئاً عن تعنُّتٍ وعناد.
فالإمام الرضا (ع) لم يقصد من التنظير بالإمام الحسين (ع) البرهنة على الحضور إلى بغداد إذ أنَّ ذلك لا يُثبت الحضور كما هو واضح وكذلك لم يقصد البرهنة على إمكانيَّة الحضور، إذ لا حاجة لإثبات ذلك بعد أن كانت الإمكانيَّة واضحة وهي ليست مورداً لإنكار الطرف الآخر، نعم قصد الإمام القول بأنَّ البطائني لمّا كان يقبل بدعوى أنَّ الإمام السجاد قد وليَ شأن أبيه الحسين (ع) رغم أنَّه لم يعلم بذلك وجداناً وإنَّما علم به بواسطة الأخبار فلماذا يُنكر حضور الإمام الرضا (ع) إلى بغداد رغم إخباره بذلك، والظاهر أنَّ البطائني لم يتلقَ خبر تولِّي السجاد لشأن أبيه من الأئمة مباشرة وإنَّما تلقَّى ذلك من الرواة، إذ لو كان قد تلقَّاه من الأئمة لقال روينا ذلك عن آبائك كما كان يردِّد ذلك في كلِّ خبرٍ يرويه عن الأئمة (ع) في هذه المناظرة.
وبذلك يتأكد أنَّ الإمام قصد من تنظيره بالحسين (ع) استدراج البطائني لإظهاره في مظهر المتعنِّت المعاند، إذ من غير المنطقي أنْ يقبل بالأمر الأول لمجرَّد الإخبار ويُنكر الأمر الثاني دون أنْ يكون له برهانٌ على إنكاره، وكان عليه إذا لم يكن يثق بصدق الإمام أن يبقى محتمِلاً لصدقه لا أن يُظهر تكذيبه له كما هو واضح من لحن حديثه مع الإمام، لذلك أفاد الإمام (ع) بما معناه أنَّ تصديقك لخبر تولِّي السجاد لأمر الحسين (ع) يقتضي إمكانيَّة صدق خبري، وكان المناسب منطقيَّاً وذوقياً عند عدم الوثوق بالصدق المطالبة بإمارة الصدق لا المجابهة بالتكذيب المعبِّر عن العناد، فهو لم يُطالب بالبرهان على الصدق وإنَّما انتقل إلى محورٍ آخر، وذلك ما يُعزِّز أنَّه كان ينكر على الإمام لمجرَّد الإنكار وبدافع العناد، وهذا ما كان الإمام يقصد إظهاره من حال البطائني، وذلك هو ما تحقَّق.
وبما ذكرناه يتبيَّن ظهور الرواية في إقرار الإمام الرضا (ع) بكبرى أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله وبأنَّ الإمام السجاد (ع) هو من ولي أمر الحسين (ع)، وبه يثبت المطلوب وهو صلاحية الرواية لأنْ تكون شاهدًا على دعوى أنَّ من تصدَّى لتجهيز الحسين (ع) ودفنه هو الإمام السجاد (ع).
الإشكال الثاني:
إنَّ من الثابت الذي لا ريب فيه أنَّ الإمام السجاد (ع) كان في الأسر ضمن عائلة الحسين (ع) إبتداءً من مساء يوم العاشر إلى ما يربو على الشهر فكيف تسنَّى له الإفلات من قبضة الأمويين والعودة إلى كربلاء لمواراة والده الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء.
والجواب: إن هذا الإشكال لا يسترعي الكثير من العناء بعد الإيمان بإمامة السجَّاد (ع) وموقعه السامي عند الله تعالى، وقديماً تجلَّت قدرةُ الله تعالى على أيدي أوليائه اللذين اصطفاهم أدلاءَ عليه في خلقه، فليس بمستغربٍ أو مُستوحَش أو يُهيء اللهُ لوليِّه سيِّد الساجدين ما يتمكَّن به من التخلُّص من أسر أعداء الله والوصول إلى كربلاء لمواراة صفيِّه ونجيبه الذي بذل كلَّ ما لديه من أجل أنْ تكون كلمةُ الله هي العليا.
فهو تعالى مَن خلَّص يونس من بطن الحوت وقد كان قد مكث فيه دهراً (وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(23) ولولا أنَّه كان من المسبحين للبث في بطنِه إلى يوم يبعثون.
وهو تعالى مَن هيءَ لجليس نبيِّ الله سليمان ما يتمكَّن به من أنْ يأتي بعرش بلقيس قبل أنْ يقوم سليمانُ من مقامه، وهيأ لآصف بن برخيا أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يرتدَّ لسليمانَ طرفهُ(24)، فلم يكن الأول نبيَّاً ولا كان الآخر نبيَّاً نعم كانا من أولياء الله وخالصة خلقه الذين منحهم من قدرته وأفاض عليهم من جلال عظمته.
فإذا جاز أن يتجلَّى شيءٌ من قدرته تعالى على أيدي مَن سبق من أوليائه فلماذا يمتنع ذلك على من لحق من نجبائه وأصفيائه اللذين ارتضاهم لدينه وجعلهم الذريعةَ إليه والوسيلةَ إلى رضوانه، ولو كنّا بصدد الحديث حول الإمام زين العابدين (ع) لأفضنا في نقل ما تواتر عن الثقاة من عجيب ما كان يجري على يديه من كراماتٍ إلا أنَّ من شاء الوقوف على ذلك فلن يجد عناءً يُذكر.
الإشكال الثالث: إنَّ ثمة روايات أفادت أنَّ النبي الكريم (ص) هو من تصدَّى لدفن الحسين الشهيد (ع)(25).
والجواب: عن ذلك إنَّ هذه الروايات غير منافية لما ذكرناه، إذ من الممكن جداً أنْ يُشارك النبيُّ الكريم? من وراء الغيب في تجهيز سيِّد الشهداء (ع) بل نحن لا نشكُّ في ذلك، وقد نقلنا ما رُوي في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله الصادق (ع) من أنَّ الإمام عليَّ بن الحسين حين يتولَّى شأن أبيه يُعينه على ذلك النبيُّ الكريم (ص) وعليُّ بن أبي طالب والحسنُ بن عليٍّ والملائكةُ اللذين ينزلون في ليلة القدر وفيهم جبرائيل وأنَّه (ع) يراهم من وراء الغيب، لأنَّ الله تعالى يكشفُ عن بصره كما كشف عن بصر مَن كان قبله من الأئمة (ع) حين يتولَّون أمر مَن سبقهم.
وليس ذلك بمُستغرَب إلا عند من يجحدُ بالغيب، فقد ثبت عن الفريقين أنَّ ملائكةً يحضرون في تشييع ومواراة بعض المؤمنين(26)، نعم نحن لا نُدرك حقيقة هذا الحضور وكنهه نظراً لقصورنا إلا أنَّ ذلك لا يمنع من التسليم بالصدق بعد الإذعان بقصور عقولنا عن الإدراك للكثير من الحقائق وبعد أنْ كان المخبِر عنها هو من آمنَّا برسالته التي جاء بها من ظهر الغيب.
وبمجموع ما ذكرناه نكون قد خلصنا إلى هذه النتيجة وهي أنَّ الذي تصدَّى لدفن الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء هو الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (ع) نعم قد كان أعانه على ذلك ظاهراً رجالٌ من أهل الغاضرية من بني أسد.
الهوامش:
1- تاريخ الطبري ? الطبري- ج3 ص 335/ أنساب الإشراف ? البلاذري ? ج 3 ض 5411/ مقتل الحسين ? لخوارزمي ج 2 ص 44، الأخبار الطوال - الدينوري - ص 260/ الكامل في التاريخ - ابن الأثير - ج 4 ص 80/ البداية والنهاية - ابن كثير - ج 8 ص 205/ مقتل الحسين (ع) - أبو مخنف الأزدي - ص 200.
2- الإرشاد - الشيخ المفيد - ج2 ص5114/ مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 ص 259/ اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس ص 85 /العوالم، الإمام الحسين(ع) - الشيخ عبد الله البحراني - ص 306/
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 385، باب أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة(ع)./ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 27 ص 290/ مسند الإمام الرضا(ع) - الشيخ عزيز الله عطاردي - ج 1 ص 93.
4- الدعوات - قطب الدين الراوندي - ص 255/ الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 459/ تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 1 ص 440.
5- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 ص 351/ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 46 ص 269.
6- عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 276/ دلائل الامامة - محمد بن جرير الطبري ( الشيعي) - ص 352/ مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 ص 481/ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 49 ص 294/ مسند الإمام الرضا(ع)- الشيخ عزيز الله عطاردي - ج 1 ص 197
7- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 385 باب: أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة(ع)/ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 13 ص 364/ مسند الإمام الرضا(ع) - الشيخ عزيز الله عطاردي - ج 1 ص 93.
8- اختيار معرفة الرجال- الطوسي- ج2 حديث رقم 883.
9- روضة الكافي - الشيخ الكليني ج8 ص206 حديث رقم 250/ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 48 ص 270/ مسند الإمام الرضا(ع) - الشيخ عزيز الله عطاردي - ج 2 ص 441/ اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 ص 764.
10- الاسراء: من الاية 4.
11- الكافي - الشيخ الكليني - ج 8 ص 206 / مختصر بصائر الدرجات ? الحسن بن سليمان الحلي - ص 48 / مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 1 ص398.
12- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 1 ص 398 / بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار- ص245.
13- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 245/ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 22 ص 513.
14- الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 ص 114/ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 ص 108/ العوالم، الإمام الحسين (ع) - الشيخ عبد الله البحراني - ص 368.
15- مصباح الزائر - السيد ابن طاووس ? ص 286.
16- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 760/ عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 272/ روضة الواعظين - الفتال النيسابوري - ص 230/ مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 ص 482.
17- كمال الدين وتمام النعمة ? الشيخ الصدوق -ص475-476/ عيون أخبار الرضا(ع) - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 97.
18- اختيار معرفة الرجال ? الشيخ الطوسي - ج2 حديث رقم 883.
19- نفس المصدر.
20- نفس المصدر.
21- نفس المصدر.
22- نفس المصدر.
23- الأنبياء: 88.
24- (قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) النمل: 39-40.
25- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 ص 213/ الأمالي - الشيخ الطوسي - ص 315/ العوالم، الإمام الحسين(ع) - الشيخ عبد الله البحراني - ص 507.
26- مسند أبي يعلى - أبو يعلى الموصلي - ج 11 ص 231/ تفسير القرطبي - القرطبي - ج15 ص262/ الكامل - عبدالله بن عدي - ج7 ص265/ ميزان.
وهذه المرحلة تبدأ بعد مقتل سيد الشهداء عليه السلام الى فترة الغيبة الصغرى ورغم ان التقاليد العربية السائدة في ذلك الزمان تقضي بعدم إقامة اهل المقتول المآتم عليه إلا بعد الأخذ بثأره، خوفاً من أن الحزن يطفئ نائرة الغضب والرغبة في الانتقام، وفي هذا يقول المؤرخ جواد علي: وكانت العرب لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قُتل قاتل القتيل بكت عليه وناحت[1]. وكلامه حق، شاهده قيام مشركي قريش بالامتناع على بكاء قتلاهم ببدر، إلا ان اهل البيت عليهم السلام خالفوا هذه السنة وأقيمت المآتم على سيد الشهداء من قبل اهل بيته عليه السلام وباقي المسلمين خصوصاً في المدينة، واليك أهمها:
أولاًـ أول هذه المآتم ما قام به أهل بيت الحسين عليهم السلام في كربلاء ليلة الحادي عشر من المحرم في ساحة المعركة بعدما وجدوا الحسين ـ بأبي هو وأمي ـ وأصحابه مضرجين بدمائهم الطاهرة. وقد ذكر هذا المأتم السيد ابن طاووس في كتابه الملهوف على قتلى الطفوف: 180، وابن نما الحلي في مثير الاحزان ومنير سبل الاشجان: 87، وأمالي الصدوق: 236، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين: 209، ومقتل الحسين لابن عساكر: 2/37، وتاريخ الطبري: 5/456، وابن كثير في البداية والنهاية: 8/193.
ثانياً ـ أثناء خطبة السيدة زينب عليها السلام في الكوفة، وبكاء الناس حتى ضجوا، فالحال وإن لم يقصد منه إقامة مأتم إلا ان ما حدث تنطبق عليه جميع خصائص المأتم الحسيني، من بكاء وحزن شديدين.
وقد ذكر هذا المأتم كل من الشيخ الطوسي في أماليه: 91، والطبرسي في الاحتجاج: 2/104، وابن طيفور في بلاغات النساء: 29، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 76.
ثالثاً ـ ما قامت به عائلة الحسين عليهم السلام عند قبره أثناء عودتهم من الشام الى المدينة، كما عن السيد ابن طاووس في الملهوف: 225، والمجلسي في البحار: 45/146.
رابعاً ـ ما قام به اهل المدينة من مآتم عند سماعهم خبر استشهاده عليه السلام من أم سلمة، والتي رأته في المنام قبل رجوع عائلة الإمام الى المدينة، وقد ذكرها كل من الشيخ المفيد في أماليه: 319، والطوسي في أماليه: 90، والمجلسي في البحار: 45/230.
خامساً ـ المآتم التي أقامتها أم سلمة رضوان الله عليها وأهل المدينة بعد اعلان الحكومة نبا استشهاده صلوات الله عليه. وقد ذكر ذلك ابن طاووس في الملهوف: 207، والمفيد: 319، والطوسي: 89، في أماليهما.
سادساً ـ المآتم التي أقامها بنو هاشم في المدينة، كمأتم ابن عباس ومحمد بن الحنفية، ونساء بني هاشم. وقد فصلها المفيد في الارشاد: 2/123، والأربلي في كشف الغمة في معرفة الأئمة: 280، والطبري في تاريخه: 5/ 465.
سابعاً ـ المآتم التي أقامها اهل المدينة عند عودة عائلة الحسين عليهم السلام. ذكرها السيد ابن طاووس في الملهوف: 236، والمجلسي في البحار: 45/ 148.
ثامناً ـ المآتم التي أقامتها زوجات الإمام عليه وعليهن السلام. ذكرها أبو الفرج الاصفهاني في الأغاني: 16/149، والذهبي في تاريخ دمشق: 69، وابن كثير في البداية والنهاية: 8/210، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 265، وأبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: 90، والكليني في الكافي: 1/466، والمجلسي في البحار: 45/170.
تاسعاً ـ المأتم الذي أقامته السيدة ام البنين سلام الله عليها في البقيع، ذكره كل من: أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: 90، والمجلسي في البحار: 45/40.
عاشراً ـ بكاء آل عبد المطلب ونواحهم يومياً في العام الذي استشهد فيه الإمام عليه السلام، وكذلك بكائهم في ذكرى استشهاده لمدة ثلاث سنوات، ومشاركة بعض الصحابة والتابعين في تلك المجالس، حتى سمي ذلك العام بعام الحزن. ذكره كل من الشجيري في أماليه: 175، والقاضي النعمان في المجالس والمسايرات: 103.
حادي عشر ـ ما كان يقوم به التوابون خصوصاً المأتم الذي أقاموه على قبر الحسين عليه السلام في طريقهم الى قتال اهل الشام[2].
وقد كانت طبيعة هذه المآتم مشابهة لما يقوم به العرب، من البكاء وإطعام المعزين، ولم تتخذ بعد هذه المآتم صفة الشعيرة، والطقس الديني، لقلة عدد اتباعه عليه السلام في هذه الفترة، بسبب تتبع السلطة لهم وقتلهم على الظنة، إلا انه عليه السلام ابتدأ الإعداد لسنها كشعيرة من شعائر الدين، فكان عليه السلام ينتهز الفرصة لتذكير الناس بما جرى على الحسين وعياله في كربلاء، فكان يبكي كلما شرب الماء[3]، واستمر بذلك حتى مقتل ابن زياد لعته الله حتى عُد من البكائين الخمسة في التاريخ[4]، كما كان يدعو الآخرين للبكاء على الحسين عليه السلام[5]، واستمر بهذا النهج الى آخر حياته الشريفة، وكان قد حضي في العقد الأخير من عمره المبارك بمكانة اجتماعية مرموقة، كما دلت عليه رواية ابيات شعر الفرزدق، وأصبح محط أنظار المسلمين.
واستمر الإمام الباقر عليه السلام بنهج والده في التذكير بما جرى بكربلاء، إلا نه عليه السلام قد اتيحت له الفرصة أكثر من سلفه الإمام زين العابدين، بسبب كثرة شيعته وتوافد طلبة العلوم الدينية للاستفادة من نمير علمه عليه السلام، فشرع في سن إقامة المآتم على الحسين شريعة دينية خالصة، فكان يقيم المأتم في بيته[6]، وبيان ما للبكاء على الحسين من أجر وفضل[7]، وحث الشيعة على إقامة المآتم في بيوتهم، مالم يعرضهم ذلك للخطر من قبل السلطة[8]، كما في رواية الجهني عنه عليه السلام: من زار الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حتى يظل عنده باكيا .... قلت: جعلت فداك فما لمن كان في بعد البلاد وأقاصيها ولم يمكنه المصير إليه في ذلك اليوم، قال: إذا كان ذلك اليوم برز الى الصحراء أو صعد سطحا مرتفعا في داره، وأومأ إليه بالسلام واجتهد على قاتله بالدعاء، وصلى بعده ركعتين، يفعل ذلك في صدر النهار قبل الزوال، ثم ليندب الحسين (عليه السلام) ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضا بمصاب الحسين (عليه السلام)، فانا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك علي الله عزوجل جميع هذا الثواب.
لم يكن من الممكن فعل أكثر من ذلك أيام الحكم الأموي، بسبب مضايقتهم للشيعة آنذاك، وقد تبينت آداب إقامة وحضور المجالس الحسينية، كما في الرواية السابقة، وكذلك قيامه بجعل يوم عاشوراء عطلة رسمية كيوم عزاء عام، لقوله في رواية الجهني السابقة: فان استطعت ان لا تنتشر يومك في حاجة فافعل، فانه يوم نحس لا تقضى فيه حاجة وان قضيت لم يبارك له فيها ولم ير رشدا، ولا تدخرن لمنزلك شيئا، فانه من ادخر لمنزله شيئا في ذلك اليوم لم يبارك له فيما يدخره ولا يبارك له في اهله.
كما قام عليه السلام بحث الشعراء على رثاء الحسين عليه السلام، كما في رواية الكميت الشاعر عن الباقر عليه السلام: الكميت بن أبي المس تهل قال: دخلت على سيدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام فقلت: يا ابن رسول الله إني قد قلت فيكم أبياتا أفتأذن لي في إنشادها؟ فقال: إنها أيام البيض، قلت: فهو فيكم خاصة قال: هات، فأنشأت أقول: أضحكني الدهر وأبكاني * والدهر ذو صرف وألوان. لتسعة بالطف قد غودروا * صاروا جميعا رهن أكفان. فبكى عليه السلام وبكى أبو عبد الله عليه السلام وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء، فلما بلغت إلى قولي: وستة لا يتجازى بهم * بنو عقيل خير فرسان. ثم علي الخير مولاهم * ذكرهم هيج أحزاني. فبكى ثم قال عليه السلام: ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده يخرج من عينيه ماء ولو مثل جناح البعوضة إلى بنى الله له بيتا في الجنة، وجعل ذلك الدمع حجابا بينه وبين النار، فلما بلغت إلى قولي: من كان مسرورا بما مسكم * أو شامتا يوما من الآن ؟ فقد ذللتم بعد عز فما *أدفع ضيما حين يغشاني. أخذ بيدي ثم قال: اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر... الحديث[9].
ثم يأتي دور الإمام ابي عبد الله الصادق عليه السلام لترسيخ شعائرية المأتم الحسيني وتبيين أسسه ووضع الإطار العام له، لما أُتيح له من فسحة تاريخية أثناء فترة ضعف الأمويين وبداية عصر العباسيين، وما وصلنا من كلام الصادق في هذا المجال، يرسم لنا بوضوح هيكلية المأتم الحسيني، وهو المعيار المعتمد الذي انبنت عليه مجالس التعزية ليومنا هذا، كما سنوضح ذلك قريباً، هذا بالإضافة الى ما قام به الإمامان الكاظم والرضا عليهما السلام، وإن كانت فترة إمامة الأول عليه السلام تتصف بعودة التضييق على الشيعة، وشطراً من إمامة الثاني ايضاً عليه السلام.
وقد ابدى الإمام الصادق عليه السلام اهتماماً بالغاً بإقامة المآتم يوم عاشوراء، وزيارة الحسين فيه، والتذكير بعظمة المصاب، وما لهذا اليوم من أهمية، وضرورة أحياء ذكراه[10]، والامتناع عن الملذات فيه، والإمساك فيه عن الطعام والشراب حتى الغروب[11]، وارتداء السواد، وإقامة المأتم وإن كان الشخص بمفرده[12].
ويمكن تلخيص ما تقدم: ان الإمام السجاد عليه السلام قام بالتمهيد لجعل المأتم الحسيني شعيرة دينية، وأن الإمام الباقر عليه السلام قام بتأسيسها بنحو جلي وواضح، ثم جاء دور الإمام الصادق عليه السلام ليرسخ هذه الشعيرة ويبين أطارها العام، لليتم إكمال العمل على المأتم في أيام الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام.
ومن مجموع ما تقدم يمكن رصد أهم ملامح المآتم الحسينية التي أقامها أهل البيت عليهم السلام، وهي:
وقد كان ليوم عاشوراء في ذلك خصوصية، فبالإضافة الى الحث على ما تقدم، حث الأئمة عليهم السلام على:
متابعة - غرفة الأخبار
نعم أقام أهل البيت (ع) مأتماً على الإمام الحسين ولمرات عديدة وفي أزمنة مختلفة بل أمروا الناس بالبكاء وإقامة المآتم على الإمام الحسين (ع) وقد ذكرنا في مقالنا السابق بكاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأميرالمؤمنين (عليه السلام) على الإمام الحسين (ع)(١) وإنّ أول من نعى الإمام الحسين بعد قتله أخته العقيلة زينب(عليها السلام) والنساء من بني هاشم وزوجاته وزوج الرسول أم سلمة(٢) والأئمة من آل البيت (عليهم السلام)، فقد جاءت الروايات وبكثرة في ذلك ومما عثرنا عليه ماجاء عن:
١-الإمام السجاد (عليه السلام)
فقد ذكرتْ الروايات أن الإمام السجاد (ع) كان يقيم الطعام للمآتم بنفسه سلام الله عليه وذكرت منها إقامته (ع) للمأتم حين رجوعه إلى المدينة فقد روى إبن طاووس (قده) عن بشر بن حذلم أنه قال: "فلما قربنا منها (أي المدينة) أنزل علي بن الحسين عليه السلام فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نسائه وقال: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شئ منه فقال بلى يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني شاعر فقال عليه السلام أدخل المدينة وانعَ أباعبدالله عليه السلام قال بشير فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة فلما بلغت مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها * قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج * والرأس منع على القناة يُدار
قال ثم قلت هذا علي بن الحسين عليهما السلام مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه، قال: فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن مكشوفة شعورهن مخمشة وجوههن ضاربات خدودهن يدعون بالويل والثبور فلم أرَ باكيا أكثر من ذلك اليوم ولا يوما أمر
على المسلمين منه...(وقالت إمرأة) فمن أنت رحمك الله فقلت:أنا بشر بن حذلم وجهني مولاي علي بن الحسين عليه السلام وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبى عبدالله الحسين عليه السلام ونسائه قال فتركوني مكاني وبادروني فضربت فرسي حتى رجعت إليهم فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فنزلت عن فرسي وتخطيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط وكان علي بن الحسين عليه السلام داخلا فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه وخلفه خادم معه كرسي فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك عن العبرة وارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين النسوان والجواري والناس يعزونه من كل ناحية فضجت تلك البقعة ضجة شديدة)(٣)
بل جاء أكثر من ذلك فقد كانت نساء بني هاشم يقمن المأتم والعزاء والإمام السجاد يقيم الطعام للمأتم فقد روى البرقي عن عمر بن علي بن الحسين(ع)، قال: لما قتل الحسين بن علي (ع) لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح وكن لا يشتكين من حر ولا برد وكان علي بن الحسين (ع) يعمل لهن الطعام للمأتم .(٤)
٢- الإمام الباقر(عليه السلام)
رُوِي عن الكميت بن أبي المستهل قال: دخلت على سيدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام فقلت: يا ابن رسول الله إني قد قلت فيكم أبياتا أفتأذن لي في إنشادها. فقال: إنها أيام البيض. قلت: فهو فيكم خاصة. قال: هات، فأنشأت أقول:
أضحكني الدهر وأبكاني * والدهر ذو صرف وألوان
لتسعة بالطف قد غودروا * صاروا جميعا رهن أكفان
فبكى عليه السلام وبكى أبوعبد الله وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء، فلما بلغت إلى قولي:
وستة لا يُتجارَى بهم * بنو عقيل خير فتيان
ثم علي الخير مولاكم * ذكرهم هيج أحزاني
فبكى ثم قال عليه السلام: ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة...)(٥).
٣- الإمام الصادق (عليه السلام)
كان الإمام الصادق(ع) يقيم مآتم النعي والرثاء بصورة أكبر وأوضح لضعف ملاحقة السلطة له في فترة من الفترات فقد كان يطلب من الشعراء والمنشدين الرثاء لجده الإمام الحسين (ع) بل كان يأمر بضرب الستار ويجلس نساءه وأهل بيته خلفه كي تستمع لعزاء جده الإمام الحسين(ع)
فقد جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
قال وذكر التميمى و هو علي بن اسماعيل عن أبيه قال كنت عند أبي عبداللّه جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) إذ استأذن ، اذنه للسيّد ، فأمره بايصاله و أقعد حرمه خلف ستر و دخل فسلّم و جلس فأستنشده فأنشد قوله
امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزّكية
أأعظما لا زلت من وطفاء ساكبة رويّة
واذا مررت بقبره فأطل به وقف المطيّة
وابكِ المطهّر للمطهر و المطهرة النّقية
كبكاء معولة أتت يوما لواحدها المنيّة
قال فرأيت دموع جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) تنحدر على خدّيه و أرتفع الصراخ و البكاء من داره حتّى امره بالإمساك ، فأمسك .(٦)
وروى إبن قولويه عن أبي هارون المكفوف، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي:
أنشدني فأنشدته، فقال: لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره،
قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين * فقل لاعظمه الزكية
قال: فلما بكى أمسكت انا، فقال: مر، فمررت، قال: ثم قال: زدني زدني، قال: فأنشدته:
يا مريم قومي فاندبي مولاك * وعلى الحسين فاسعدي ببكاك
قال: فبكى وتهايج النساء، قال: فلما ان سكتن قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنة ثم جعل ينقص واحدا واحدا حتى بلغ الواحد فقال من أنشد في الحسين فأبكى واحدا فله الجنة، ثم قال: من ذكره فبكى فله الجنة.(٧)
وجاء في الأخبار إن الإمام الصادق (ع) يحمد الله تعالى لوجود من ينعى ويرثي جده الإمام الحسين (ع) فقد روى إبن قولويه عن عبد الله بن حماد البصري، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: قال لي: ان عندكم - أو قال: في قربكم - لفضيلة ما أوتي أحد مثلها، وما أحسبكم تعرفونها كنه معرفتها...ولا تحافظون عليها ولا على القيام بها، وان لها لاهلا خاصة قد سموا لها، وأعطوها بلا حول منهم ولا قوة، الا ما كان من صنع الله لهم وسعادة حباهم الله بها ورحمة ورأفة وتقدم.
قلت: جعلت فداك وما هذا الذي وصفت ولم تسمه، قال: زيارة جدي الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنه غريب بأرض غربة، يبكيه من زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحترق له من لم يشهده...ثم قال: بلغني أن قوما يأتونه من نواحي الكوفة وناسا من غيرهم، ونسأ يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ، وقاص يقص، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي، فقلت له: نعم جعلت فداك قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدونا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدرونهم ويقبحون ما يصنعون .(٨)
٤- الإمام الكاظم (عليه السلام)
كان الإمام الكاظم (ع) يجعل يوم العاشر يوم عزائه ومصيبته فقد روى الصدوق عن الإمام الرضا (عليه السلام) كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (صلوات الله عليه).(٩)
٥- الإمام الرضا (عليه السلام)
كان الإمام الرضا (ع) يقيم مأتماً على جده الإمام الحسين (ع) ويطلب من الشعراء رثاء جده سلام الله عليه فقد روى المجلسي عن دعبل الخزاعي قال: دخلت على سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا عليه السلام في مثل هذه الأيام فرأيته جالسا جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلما رآني مقبلا قال لي: مرحبا بك يا دعبل مرحبا بناصرنا بيده ولسانه، ثم إنه وسع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه، ثم قال لي: يا دعبل أحب أن تنشدني شعرا فان هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيام سرور كانت على أعدائنا خصوصا بني أمية، يا دعبل من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحدا كان أجره على الله يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا، يا دعبل من بكى على مصاب جدي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة ثم إنه عليه السلام نهض، وضرب سترا بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدهم الحسين عليه السلام ثم التفت إلي وقال لي:
يا دعبل ارث الحسين فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيا، فلا تقصر عن نصرنا ما استطعت قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي وأنشأت أقول:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلا * وقد مات عطشانا بشط فرات
إذا للطمت الخد فاطم عنده * وأجريت دمع العين في الوجنات (١٠)
وكما ذكرنا الروايات كثيرة جداً في هذا المجال ولو جُمِعتْ لأصبحتْ كتاباً كبيراً وكلها تثبت الوثوق والإطمئنان على صدور إقامة أهل البيت (ع) المآتم على الإمام الحسين (ع).
الهوامش:
١-مقتل الإمام الحسين رواية عن جده.
٢-موسوعة الإمام الحسين(ع) للريشهري:ج٦ ، من ص١٥٧ الى ص١٦٥.
٣-اللهوف على قتلى الطفوف.
٤-المحاسن:ج٢.
٥-كفاية الأثر.
٦-كتاب الأغاني:ج٧.
٧-كامل الزيارات.
٨-كامل الزيارات.
٩-أمالي الصدوق.
١٠-بحارالأنوار:ج٤٥.
قامت المرأة بدور هام في وقعة الطّفّ، وكان لها أبعد الأثر في الكشف عن مخازي الأمويّين، وانهيار حكمهم، وتألّب النّاس عليهم، فمن النّساء من دفعت بابنها أو زوّجها إلى القتل بين يدي الحسين تقربا إلى الله، والرّسول، كما فعلت أمّ وهب وزوّجته، ومنهنّ من حملنّ السّلاح للدّفاع عن نساء النّبيّ وأطفاله، ومنهنّ من تظاهرنّ ضدّ حكّام الجور الّذين قتلوا ابن بنت رسول الله، ورشقنّ جيش الطّغاة بالحجارة هاتفات بسب يزيد وابن زياد.
أرسل الحسين رسولا إلى زهير بن القين ليأتيه، ولمّا دخل عليه الرّسول وجده مع قومه يتغذون، وحين أبلغه رسالة الحسين طرح على كلّ إنسان ما في يده، وجمد حتّى كأنّ على رأسه الطّير، فالتفتت امرأة زهير، وقالت: يا سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله، ثمّ لا تأتيه؟! فذهب زهير إلى الحسين، وما لبث أن جاء مستبشرا مشرق الوجه، وقال: قد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بنفسي، واقيه بروحي، ثمّ التفت إلى زوّجته، وقال لها: أنت طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير، وأعطاها ما لها، وسلّمها إلى بعض أهلها. فقامت إليه، وبكت وودعته قائلة: «كان الله عونا ومعينا لك، خار الله لك، أسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين» 1.
لقد دفعت هذه الحرّة المصونة المؤمنة بزوّجها إلى سعادة الدّارين ونالت الدّرجات العلى عند الله والنّاس، فما زال اسمها يعلن على المنابر ويدوّن في الكتب مقرونا بالحمد والثّناء إلى يوم يبعثون، وهي في الآخرة مع جدّ الحسين وأبيه وأمّه، وحسن أولئك رفيقا، وهكذا المرأة العاقلة المؤمنة تدفع بزوّجها إلى الخير، وتردعه عن الشّر ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وكانت امرأة من بني بكر بن وائل مع زوّجها في أصحاب عمر بن سعد، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على أطفال الحسين، ونساؤه هاربات حاسرات، يستغثنّ ويندبنّ، ولا مغيث، اسودّ الكون في وجهها، وفار الدّم في قلبها وعروقها، وأخذت سيفا، وأقبلت نحو الفسطاط منادية: يا آل بكر أتسلب بنات رسول الله؟! لا حكم إلا لله! يا لثارات رسول الله! فأخذها زوّجها، وردها إلى رحله 2.
وليس من شك أنّ ثورة هذه السّيّدة النّبيلة قد بعثت الإستياء والنّقمة على الأمويّين، وملأت النّفوس عليهم وعلى سلطانهم حقدا وغيظا، وكلّ ما حدث في كربلاء، وفي الكوفة، وفي مسير السّبايا إلى الشّام كان من أجدى الدّعايات وأنفعها ضدّ الأمويّين.
أمر ابن زياد أن يطاف بالرّأس الشّريف في أزقّة الكوفة يهدد به كلّ من تحدّثه نفسه بالخروج عن طاعته، وطاعة أسياده، فكان هذا التّطوّف خير وسيلة لنشر الدّعوة العلوية، ومبدأ التّشيّع لأهل البيت، ولعن من شايع، وبايع، وتابع على قتل الحسين، وسلام الله على السّيّدة الحوراء حيث قالت ليزيد: «فو الله ما فريت إلّا جلدك، وما حززت إلّا لحمك» 3.
وبعد الطّواف بالرّأس أرسله ابن زياد وسائر الرّؤوس إلى يزيد مع أبي بردة، وطارق بن ضبّان في جماعة من أهل الكوفة، ثمّ أمر بنساء الحسين وصبيانه فشدّوا بالحبال على أقتاب الجمال مكشوفات الوجوه، ومعهم الإمام زين العابدين قد وضعت الأغلال في عنقه، وسرّح بهم ابن زياد مع مخفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن 4، فأسرعا حتّى لحقا بالقوم الّذين معهم الرّؤوس، وكانوا إذا مرّوا ببلد استقبلهم أهله بالمظاهرات، والهتافات المعادية، ورشقتهم النّساء والأطفال بالحجارة يصرخون بهم: يا فجرة، يا قتلة أولاد الأنبياء.
سبوا الأطفال، والنّساء، وطافوا بهنّ وبالرّؤوس ليقضوا على مبدأ عليّ وأبناء عليّ، فكان السّبي، والتّطوّاف، ضربة مميتة لهم ولسطانهم، ووسيلة حقّقت الغاية الّتي أرادها الحسين من نهضته، فلقد أثار السّبي الأحزان، والأشجان في كلّ نفس، وزاد من فجائع الواقعة المؤلمة، وكشف أسرار الأمويّين للقاصي والدّاني، وظهرت قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل، واستبان للمسلمين في كلّ مكان وزمان إلّا الأمويّين أعدى أعداء الإسلام يبطنون الكفر، ويظهرون الإيمان رياء ونفاقا.
وبذلك نجد الجواب عن هذا السّؤال: لماذا صحب الحسين معه النّساء والأطفال إلى كربلاء؟! وما كان أغناه عن تعرضهم للسّبي والتّنكيل؟!.
لقد صحبهم معه الحسين ليطوفوا بهم في البلدان، ويراهم كلّ إنسان مكشّفات الوجوه، يقولون للنّاس ـ وفي أيديهم الأغلال والسّلاسل ـ: «أيّها النّاس انظروا ما فعلت أميّة الّتي تدّعي الإسلام بآل نبّيكم».
نقل عن السّبط ابن الجوزي عن جدّه أنّه قال: «ليس العجب أن يقتل ابن زياد حسينا، وإنّما العجب كل العجب أن يضرب يزيد ثناياه بالقضيب، ويحمل نساءه، سبايا على أقتاب الجمال!.. .» 5. لقد رأى النّاس في السّبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا في قتل الحسين، وهذا بعينه ما أراده الحسين من الخروج بالنّساء والصّبيان، ولو لم يخرج بهنّ لما حصل السّبي والتّنكيل، وبالتالي لم يتحقّق الهدف الّذي آراه الحسين من نهضته، وهو إنهيار دولة الظّلم، والطّغيان.
ولو افترض أن السّيّدة زينب بقيت في المدينة، وقتل أخوها في كربلاء فماذا تصنع؟! وأي عمل تستطيع القيام به غير البكاء وإقامة العزاء؟!.
وهل ترضى لنفسها، أو يرضى لها مسلم أن تركب جملا مكشوفة الوجه تنتقل من بلد إلى بلد تؤلّب النّاس على يزيد، وابن زياد؟! وهل كان يتسنى لها الدّخول على ابن زياد في قصر الإمارة، وتقول له في حشد من النّاس: «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد، وطهرنا من الرّجس تطهيرا، إنّما يفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله» 6 ؟! وهل كان بإمكانها أن تدخل على يزيد في مجلسه وسلطانه، وتلقي تلك الخطب الّتي أعلنت بها فسقه، وفجوره، ولعن آبائه، وأجداده على رؤوس الأشهاد؟!.
أنّ السّيّدة زينب لا تخرج من بيتها مختارة، ولا يرضى المسلمون لها بالخروج مهما كان السّبب، حتّى ولو قطّع النّاس يزيد بأسنانهم، ولكن الأمويّين هم الّذين أخرجوها، وهم الّذين ساروا بها، وهم الّذين أدخلوها في مجالسهم، ومهدوا لها طريق سبّهم ولعنهم، والدّعاية ضدّهم وضدّ سلطانهم.
ومرّة ثانية نقول: هذه هي المصلحة في خروج الحسين بنسائه وأطفاله إلى كربلاء، وما كان لأحد أن يدركها في بدء الأمر إلّا الحسين وأخته زينب، عهد إلى الحسين من أبيه عليّ عن جدّه محمّد عن جبريل عن ربّ العالمين. سرّ لا يعلمه إلّا الله، ومن ارتضاه لعلمه ورسالته 7.
الهوامش:
1. انظر، تأريخ الطّبري: ٤ / ٢٩٨، مقتل الحسين عليهالسلام، لأبي مخنف: ٧٤ و ١١٣، روضة الواعظين: ١٧٨، مقتل الحسين للخوارزمي: ٢ / ٤، و: ٤ / ٣٢٠، إعلام الورى: ١ / ٤٥٧، الإرشاد للشّيخ المفيد: ٢ / ٩٥، مناقب آل أبي طالب: ٣ / ٢٥٠، البداية والنّهاية: ٨ / ١٩٣، الأخبار الطّوال: ٢٥٦، تأريخ الطّبري: ٥ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧.
2. انظر، اللهوف في قتلى الطّفوف: ٧٨.
3. انظر، الإحتجاج: ٢ / ٣٦، مثير الأحزان لابن نما: ٨١، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي: ٢٢٧.
4. انظر، الكامل لابن الأثير: ٤ / ٩٢، ميزان الإعتدال: ١ / ٤٤٩، لسان الميزان: ٣ / ١٥٢، تأريخ علماء الأندلس: ١ / ١٦٦، جمهرة الأنساب: ٢٧٠، اللّباب: ٢ / ٦٩، المحبّر: ٣٠١، تأريخ الطّبري: ٤ / ٣٤٩ و: ٥ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦، مثير الأحزان: ٦٥، اللهوف في قتلى الطّفوف: ٦٠، الإرشاد للشّيخ المفيد: ٢ / ١٦٣، الأخبار الطّوال: ٢٥٩، مقتل الحسين لأبي مخنف: ٢٠٤.
5. انظر، تذكرة الخواصّ: ١٤٨ طبعة لكنهو، صورة الأرض لابن حوقل: ١٦١، الكامل لابن الأثير: ٤ / ٣٥، مروج الذّهب للمسعودي: ٢ / ٩١، والعقد الفريد: ٢ / ٣١٣، أعلام النّساء: ١ / ٥٠٤، ومجمع الزّوائد: ٩ / ١٩٨، الشّعر والشّعراء: ١٥١، الأشباه والنّظائر: ٤، الأغاني: ١٢ / ١٢٠، الفتوح لابن أعثم: ٥ / ٢٤١، شرح مقامات الحريري: ١ / ١٩٣، البداية والنّهاية: ٨ / ١٩٧، الطّبري في تأريخه: ٦ / ٢٦٧، و: ٤ / ٣٥٢، الآثار الباقية للبيروني: ٣٣١ طبعة اوفسيت، قريب منه.
6. انظر، الإرشاد: ٢ / ١١٥، إعلام الورى بأعلام الهدى: ١ / ٤٧١، ينابيع المودّة لذوي القربى: ٣ / ٨٧.
7. المصدر: كتاب الحسين و بطلة كربلاء: 53، للعلامة الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله.
يُطرح هذه الأيام السؤال التالي:
(هل جاء الإمام إلى الكوفة بناءً على رسائل اهل العراق لتولي ولاية الكوفة ام هو في الاصل كان خروجه ضد الدولة، لان اغلب المشككين يستشكلون ان الامام قد خُدِع؟).
قبل كل شيء يجدر التنبيه على أن طلب إقامة حكومة عادلة هو في نفسه هدف نبيل، وثورة الإمام الحسين عليه السلام ما قامت إلا لأجل مواجهة الحكومة الجائرة التي أفسدت البلاد والعباد ومحقت تعاليم الدين، ولكن هذا المقدار لا يفي بإثبات أنه عليه السلام خرج طالبا للحكم لأنَّ هذه الفكرة إنَّما تصح إذا ثبت أمران معاً أحدهما تاريخيٌ والآخر عقدي، أما التاريخي فيجب اثبات أن حركة الإمام ضد السلطة الأموية بدأت بعد وصول الرسائل، وأمّا العقدي فيجب تبني عدم علم الإمام المسبَق بشهادته، يجب اثبات كلا الأمرين معاً حتى تصح فكرة خروجه لطلب ولاية الكوفة، ويكفي في نقضها انتقاض أحد الأمرين كما هو واضح، والبحث فيهما كما يلي:
أولاً: تاريخ انطلاق ثورة الإمام
اتفق المؤرخون على أن رسائل أهل الكوفة كان اول وصولها للإمام عليه السلام في مكة المكرمة(1) أما تاريخ بدء الإمام عليه السلام حركته المناهضة للسلطة فيعود الى ما قبل ذلك بفترة ليست بقليلة إذ اتفق المؤرخون أيضا على انه عليه السلام امتنع عن البيعة ليزيد مذ كان في المدينة المنورة وإنما خرج منها بعد إعلان امتناعه عن البيعة، بل بلغت الأمور أبعد من ذلك إذ أمَرَ الإمام عليه السلام أهل بيته ومواليه في المدينة بحمل السلاح والوقوف على باب قصر الوالي عندما طَلبَ الإمامَ لأخذ البيعة منه وأمرهم باقتحام القصر ما إن يسمعوا صوته قد ارتفع(2)، وكان هذا أول تحرك عسكري للإمام دفاعا عن نفسه وقبل وصول رسائل أهل الكوفة علما أن الإمام على طول الخط وحتى في كربلاء عمل بمبدأ (لا تَبدَؤوهُم بِقِتال) .
وبهذا يكون من الوضوح بمكان انه لا يصح تعليل ثورة الإمام برسائل أهل الكوفة لأنها قد بدأت فعلاً قبل وصول الرسائل، فالإمام عليه السلام كان قد مضى فيها بغض النظر عن رأي أهل الكوفة وهل هم معارضون او موافقون له .
ويؤكد هذا ما جاء في خطبة سليمان بن صرد الخزاعي في الكوفة قبل أن يكتبوا الرسائل حيث من جملة ما قاله: " إنَّ معاوية قد هلك وإنَّ حسيناً قد تقبَّض على القوم ببيعة وقد خرج الى مكة... فاكتبوا إليه..."(3)، فهذا نص صريح بأن ما وقع كان على عكس ما صوّره صاحب الشبهة تماما فالصحيح أن أهل الكوفة قد كتبوا للامام الحسين عليه السلام بعد علمهم بثورته وخروجه على السلطة لا ان الإمام ثار بسبب رسائلهم .
ومما يؤكد هذا أيضا أنه عليه السلام في أول ثورته لم يتوجه الى الكوفة بل توجه الى مكة المكرمة وبقي فيها ثائراً معلنا عدم البيعة ما يقرب من أربعة أشهر (ظ: الارشاد: 273) ولو كانت الثورة تستند الى رسائلهم لتوجه إليهم من أول الأمر.
ومن كل ما سبق يثبت انه من الناحية التاريخية كانت ثورة الإمام عليه السلام بدأت قبل أن تصله رسائل الكوفة بل هم كتبوا إليه بعد أن علموا بثورته، وهذا كاف لنقض شبهة طلبه لولاية الكوفة أو اغتراره برسائل أهلها .
ثانيا: علم الامام المسبق بشهادته
وعلم الامام هذا يمكن إثباته عن طريق ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: علم الأئمة بالغيب وهي من عقائدنا التي قامت عليها الأدلة الكثيرة حتى صنفوا فيها الكتب المطوَّلة، ولكن لا يخفى أن صاحب الإشكال لا يُتَوَقَع منه أن يتشرف بحمل مثل هذه العقيدة فيكون الاحتجاج بها مبنائيا وسرد أدلتها لا يحتمله المقال لذا أتجاوزه الى المسلكين الآخرين وإن كان هو في نفسه يفي بالغرض.
المسلك الثاني: إخبار النبي ص وسائر الأئمة السابقين بشهادته عليه السلام
يدل على هذا أحاديث كثيرة صحيحة متواترة في كتب السنة والشيعة جمع بعض الأعلام بعضها في مصنفاتهم وأكتفي هنا بذكر روايتين من طرق الإمامية ومثلها من طرق العامة :
فمن طرق الإمامية:
1- روى ابن قولويه باسناده عن الامام الصادق (ع) أن النبي ص أخذ الامام الحسين من أمه وبكى فسألته عن بكائه فأخبرها بأمر استشهاده وقال: " في موضع يقال له كربلاء .. يخرج عليه شرار أمتي" (كامل الزيارات:145).
2- وروى الشيخ الصدوق باسناده عن ابن عباس أن الامام علي (ع) لما نزل في نينوى عند خروجه الى صفين أخذ يبكي عند شط الفرات ويقول: " مالي ولآل أبي سفيان؟!.. صبراً يا أبا عبد الله فقد لقى أبوك مثل الذي تلقى منهم .." ثم أخبرهم الامام بحديث حدثه إياه النبي ص بأن الحسين ع يقتل في هذه الأرض . (كمال الدين: 532) وهذا خبر مشهور ذكره كثير ممن أرخوا لمعركة صفين .
وأما من طرق العامة:
1- عن أم سلمة أنها رأت في يد النبي ص تربة يقبلها فسألته عنها فقال ص: "أخبرني جبريل ان هذا يقتل بأرض العراق للحسين فقلت لجبريل أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها" قال الحاكم في المستدرك (4/ 398): "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وذكر الصفدي أنَّ هذه التربة هي نفسها التي أعطاها النبي ص لأم سلمه (الوافي بالوفيات: 12/ 2
63)
2- قال النبي ص "دخل علَيَّ البيت ملَك لم يدخل علَيَّ قبلها ، فقال لي إن ابنك هذا حسيناً مقتول ، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها" قال الذهبي في تاريخ الإسلام (5/ 104): "إسناده صحيح" وكذلك صححه شعيب الأرنؤوط في هامش سير أعلام النبلاء (3/ 290) وأقول لا يبعد دعوى تواتر هذا الحديث لكثرة طرقه عندهم .
وغير هذه الأربعة يوجد عشرات الأحاديث في كتب الفريقين تدل على المطلوب وكثير منها صحيح فهذا المعنى متواتر عن النبي ص ومن هنا نفهم ما رُوي عن ابن عباس رحمه الله انه قال: "ما كنَّا نشك وأهل البيت متوافرون ان الحسين بن علي يقتل بالطف" (مستدرك الحاكم: 3/ 179) فبسبب كثرة إخبارات النبي ص والأئمة قبل الحسين ع بأنه يُقتل في الطف كان الجميع جازمين بذلك قبل استشهاده عليه السلام.
المسلك الثالث: التحليل الواقعي للمعطيات
إذ كان من الواضح جدا بلحاظ معطيات الواقع السياسي والاجتماعي لعام 60هـ عدم توفر الظروف الملائمة لتأسيس دولة جديدة بعد اسقاط الدولة الأموية ومن أهم تلك المعطيات حالة القنوط التي عاشها المجتمع أيام خلافة معاوية فضلا عن تفشي أخلاقية الهزيمة وتميّع الإرادة هذا بصورة عامة وأما بالنسبة للكوفة خاصة فلم يكن أحد يشك في أن هذه المدينة ذات الأغلبية غير الشيعية لا يمكن الاعتماد عليها في إقامة دولة عادلة.. ومما يزيد في الطين بلة أن الكثير من أولئك الذين كتبوا للامام الحسين عليه السلام يستنهضونه في الواقع لم يكونوا من الشيعة كشبث وحجَّار ومحمد بن الأشعث وغيرهم من أعيان الكوفة لذا خاطبهم الإمام يوم الطف بقوله (ياشيعة آل أبي سفيان..) وهذا لم يكن خافٍ على عموم الناس وقد صرح به عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس وغيرهما عند محاولة ثني الإمام عن الخروج ولم يُجبهم الإمام بأنهم متوهمون في اتهامهم للكوفيين بل كان يؤكد لهم أنه خارج للشهادة، فهو عليه السلام غير بعيد عن أجواء الكوفة حتى يخفى عليه مثل هذه المعطيات التي أذعن لها الجميع، كيف وقد كان الى جانب والده عندما ارتقى المنبر في الكوفة وهو يقول لهم: "ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجَرَّعْتُموني نغب التهام أنفاساً" وقال لهم مرةً " لا أصدِّق قولكم ولا أطمع في نصركم.."، ثم كان الى جانب أخيه الحسن ع عندما أحرق الكوفيون فسطاطه ونهبوا رحله .. الإمام كان عالما ان كوفة الجند هي الكوفة لم تغير طباعها بعدُ، لذا لم يعترض على من طعن في الكوفيين أمامه بل أجابه انه مكلف بالثورة بغض النظر عن موقف الكوفيين .
ومن هنا نجده عليه السلام صرح أكثر من مرة وهو في المدينة وفي مكة وفي الطريق أيضا بأنه يُقدم على الشهادة وليس على الحكومة ففي مكة كان يقول: " والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقة من جوفي" (الطبري 4/ 296) وفي الطريق كان يقول: "القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم" (الارشاد 283) وفي الطريق أيضا قال له أحد سكان المنطقة "و اللَّه ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف" فأجابه الإمام: " إنّه لا يخفى عليَّ ما ذكرتَ" (الكامل: 4/ 43) وفي كربلاء كتب رسالته الشهيرة: "من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح" (كامل الزيارات: 157) والأهم من كل هذا عندما بلغه خبر انقلاب اهل الكوفة واستشهاد سفراءه مسلم وعبد الله وقيس كان بإمكانه الرجوع لكنه قرر المضي وهكذا ثمة عشرات الأدلة غير هذه نقلها المؤرخون وهي صريحة في أنه عليه السلام كان يعلم مسبقا أنه إنما يُقدِمُ على الشهادة، فبالله من كان هذا حاله كيف يُقال أنه خرج لطلب السلطة؟!!
الهوامش:
* سلسلة المقالات هذه أجيب فيها على أسئلة الأصدقاء التي سجلوها في المنشور الذي اعددته لهذا الغرض سابقا . #أسئلة_الأصدقاء_محرم1442
(1) ظ: تاريخ اليعقوبي: 2/ 168، الإرشاد: 253، إعلام الورى: 229، تاريخ الطبري: 4/ 258و 261، أنساب الأشراف: 3/ 157، وغيرهم إذ لم أجدُ مخالفا في هذا .
(2) ظ: الارشاد: 253، إعلام الورى 229، تاريخ الطبري: 4/ 251 وغيرهم فهي الأخرى موضع اتفاق بينهم.
(3) : الارشاد: 253، إعلام الورى: 229، تاريخ الطبري: 4/ 261. وغيرها .
حقا هو سؤال جميل، فالعادة أن يتم السؤال عن أنه لماذا ثار الحسين عليه السلام ضد يزيد، وهذا السؤال يتناول القضية من طرفها الآخر.. ما هي الآثار التي يمكن أن تحصل لو لم يخرج الإمام الحسين ولم يقم بثورته؟ ويمكن تصور الآثار في عدة مستويات:
المستوى الأول:
في حدود الفكر الإسلامي ـ في حدوده الزمنية في تلك الفترة وللمستقبل ـ: فلو لم يقم الحسين عليه السلام بثورته تلك، لكان لدينا معضلة في كيفية التعامل مع الحاكم الجائر الذي يصل به الأمر إلى حدود التصريح بمخالفة العقائد الدينية كما صدر من يزيد بن معاوية. فكيف يتعامل المسلمون مع مثل هذا الحاكم؟ هل يخضعون له ويتبعونه؟ أو أنهم ينهضون ضده؟ لقد سعى الأمويون وأتباعهم إلى إشاعة الفكرة الأولى ودعموها بروايات نسبوها للرسول حاصلها أنه عليهم السمع والطاعة مهما بلغ الأمر، وأن خروجهم عليه فيه من المفاسد ما هو أكثر من ولايته. ولقد سُخر لهذه الفكرة من الأموال والرجال، لتكون الفكرة العامة السائدة بين المسلمين ما يفوق الوصف والعد. وكان كل حاكم يأتي يحلم بأمة الإسلام وهي خائرة العزيمة مقيدة الحركة، لا تستطيع غير الصبر الذليل، والخنوع الدائم سبيلا. ولولا خروج الحسين عليه السلام وتضحيته بالغالي والنفيس لما أمكن للمسلمين أن ينطلقوا من أسر ذلك الجبت الفكري.
بينما الفكرة الثانية تصطدم بسلوك الإمام الحسين عليه السلام فيما لو لم يخرج، فلو كان الخروج والثورة مشروعة لما تركها الإمام الحسين عليه السلام.
المستوى الثاني:
في حدود الوضع التاريخي الذي كان يعيشه الإمام الحسين عليه السلام، فإن تشخيص الإمام للوضع الإسلامي آنئذ هو ما قاله: " وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد ". إن وجود شخص مثل يزيد وهو ( رجل فاجر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق ) على رأس الحكم والقيادة، يشبه أن تعطي قيادة حافلة مليئة بالركاب في طريق جبلي إلى سائق ثمل، لا يعرف من السكر موضع قدميه! بل هو أعظم.
إن ما رآه المسلمون في السنوات العجاف الثلاث التي تسلط فيها يزيد على الأمة، وما ارتكب من مخاز ومآثم حيث قتل الحسين عليه السلام وصحبه في الأولى، وأباح المدينة في الثانية وهدم الكعبة في الثالثة، ولو مُد له في العمر لمد حبل الموبقات. ليشير بالصراحة إلى أنه لم يكن هناك مجال آخر أمام الحسين عليه السلام من الناحية الدينية حفاظا منه على مسيرة الأمة، إلا الخروج والثورة.
المستوى الثالث:
انسجام العمل الثوري الذي قام به الحسين مع الأصول الدينية التي يؤمن بها: فهو من جهة روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله ) من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا بقول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ) وقد طبق هذا على الوضع الموجود آنئذ " ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيّر ".
ولو لم يفعل ما فعله لكان متناقضا ـ والعياذ بالله ـ، فكيف يقول من جهة أن يزيد هكذا ثم يسالمه ويبايعه ويترك الأمر له؟
إن مبايعة الحسين ليزيد وسكوته عنه، يعني إمضاء الخطأ الذي ارتكبه معاوية بتولية ابنه يزيد شؤون الخلافة، وهو الخطأ الذي وقف أمامه الحسين عليه السلام في أيام معاوية عندما قال له: لعلك تصف غائبا أو تنعت محجوبا، فخل بين يزيد وبين الكلاب المهارشة عند التهارش والحمام السبق لأترابهن ودع عنه ما تحاول من الخلافة!! فهل يمضي اليوم ما رفضه بالأمس؟ وهل يمضي ببيعته ليزيد أعماله المخالفة للدين؟ إنه حينئذ يفقد صفات الإمام. .
قد يقول قائل: إن الحسين لو ترك يزيدا وشأنه، فلا هو يثور عليه، ولا يبايعه. . ألم يكن ذلك مخرجا مناسبا؟
وجوابه: أننا لا نفتش عن مخارج للحسين عليه السلام!! ولم يكن يزيد بالذي يترك الحسين عليه السلام، فإن هؤلاء الظالمين لا يحتملون أحدا يكون إلى جانبهم، وهو أضعف منهم شأنا فكيف إذا كان أعلى منهم منزلة، وأرفع شأنا عند الخلائق؟ وقد بين الإمام عليه السلام أن الأمر قد انتهى بقوله: " ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة 1 والذلة وهيهات منا الذلة " وفي ذلك إشارة إلى سياسة يزيد، وإلى رسالته لواليه على المدينة، فإن يزيد قد أرسل رسالة ليقرأها على الناس وأرسل إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة أما بعد: فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة اخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام 2 3.
الهوامش:
1. أي استلال السيوف.
2. مقتل الحسين للأزدي.
3. من قضايا النهضة الحسينية ( أسئلة وحوارات ): الجزء الأول.
نعم قد جاءت روايات كثيرة ومستفيضة في بكاء النبي صلى الله عليه وآله على الإمام الحسين عليه السلام فقد عثرنا على أكثر من خمسة وعشرين طريقاً من مصادر أهل السنة وفيها الصحيح والحسن والقوي على مبانيهم وقد ذكر هذه الروايات والطرق الشيخ الجليل قيس بهجت العطار في كتابه (مقتل الإمام الحسين رواية عن جده) وأقام الأدلة على وثاقة رواتها واعتبارها وصحتها على مباني أهل السنة ومن أراد التفصيل عليه بمراجعة ذلك الكتاب...
وروايات بكاء النبي صلوات الله عليه وآله أكثر من ذلك بكثير فلو ضممنا لها روايات الشيعة لأمكن الحصول على تواتر من جميع روايات الفريقين .
وقد تنوعت الروايات في كيفية بكاء النبي صلى الله عليه وآله لأنه حسب الظاهر حصل منه ذلك مرات عديدة وفي أزمنة مختلفة فمنها ما ذكرت أنه صلى الله عليه وآله بكى أو يبكي على الحسين ومنها أنه ذرفت عيناه الدمع على الحسين سلام الله عليه ومنها أن رسول الله صلوات الله عليه وآله يبكي وينحب على الحسين ومنها أنه له نشيج وبكاء على الحسين ومنها أن دموع عيناه تفيض وتسيل على الحسين ومنها أنه حكى مايحصل للحسين للصحابة فبكى وأبكى أصحابه في المسجد على الحسين وإليك هذه الروايات كالتالي:
١.عن عبد الله بن نجى عن أبيه
انه سار مع علي رضي الله عنه وكان صاحب مطهرته فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي رضي الله عنه اصبر أبا عبد الله اصبر أبا عبد الله بشط الفرات قلت وماذا قال دخلت علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان قلت يا نبي الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان قال بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني ان الحسين يقتل بشط الفرات قال فقال هل لك إلى أن أشمك من تربته قال قلت نعم فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا(١)
وقال عن أسانيده الشيخ قيس بهجت العطار سند أحمد وإبن أبي شيبة صحيحان وسند الطبراني صحيح وسند أبي يعلى صحيح وسند إبن عساكر صحيح .
ولزيادة التوضيح نذكر ماقاله علماء أهل السنة في سنده
فقال الهيثمي : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله ثقات ولم ينفرد نجى بهذا (٢)
وقال الداراني : اسناده حسن(٣)
وقال احمد شاكر : اسناده صحيح .(٤)
وقال البوصيري : رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وأبو يعلى بسند صحيح.(٥)
وقال الالباني : صحيح بمجموع هذه الطرق(٦)
٢. عن الحاكم النيسابوري بسنده عن شداد بن عبد الله
عن أم الفضل بنت الحارث (...ولدت فاطمة الحسين فكان(الحسين) في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فدخلت يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فوضعنه في حجره ثم حانت مني إلتفاتة فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وآله تهريقان من الدموع قالت فقلت يا نبي الله بابي أنت وأمي مالك قال اتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني ان أمتي ستقتل ابني هذا فقلت هذا فقال نعم وأتاني بتربة من تربته حمراء)(٧)
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
وقال عن أسانيده الشيخ قيس العطار سند الحاكم بروايته الكاملة صحيح وسنده بروايته المختصرة صحيح وسند إبن عساكر حسن أو قوي
٣ . عن معاذ بن جبل
(...قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال أنا محمد أوتيت فواتح الكلام وخواتمه...أمسك يا معاذ واحص قال فلما بلغت خمسا قال يزيد لا بارك الله في يزيد ثم ذرفت عيناه صلى الله عليه (وآله)وسلم ثم قال نعى إلى حسين وأتيت بتربته وأخبرت بقاتله والذي نفسي بيده لا يقتلوه بين ظهراني قوم لا يمنعونه إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا قال واها لفراخ آل محمد من خليفة يستخلف مترف يقتل خلفي وخلف الخلف...)(٨)
وذرفت عيناه أي سال دمعها
وقال عن أسانيده الشيخ قيس بهجت العطار سند الطبراني الأول حسن وسند الطبراني الثاني منجبر وسند أبي الشيخ حسن وسند أبي الخطاب حسن
٤-عن صالح بن أربد عن أم سلمة
رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم اجلسي بالباب ولا يلجن علي أحد فقمت بالباب إذ جاء الحسين رضي الله عنه فذهبت أتناوله فسبقني الغلام فدخل على جده فقلت يا نبي الله جعلني الله فداك أمرتني أن لا يلج عليك أحد وإن ابنك جاء فذهبت أتناوله فسبقني طال ذلك تطلعت من الباب فوجدتك تقلب بكفيك شيئا ودموعك تسيل والصبي على بطنك قال نعم أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي يقتلونه وأتاني بالتربة التي يقتل عليها فهي التي أقلب بكفي.(٩)
وقال عن أسانيده الشيخ قيس بهجت العطار له ثلاثة أسانيد صحيحة
٥. عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أُم سلمة
قالت(كان رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم جالسا ذات يوم في بيتي
فقال لا يدخل على أحد فانتظرت فدخل الحسين رضي الله عنه فسمعت نشيج رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم يبكي فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي صلى الله عليه(وآله) وسلم يمسح جبينه وهو يبكي فقلت والله ما علمت حين دخل فقال إن جبريل عليه السلام كان معنا في البيت فقال تحبه قلت أما من الدنيا فنعم قال إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلا فتناول جبريل عليه السلام من تربتها فأراها النبي صلى الله عليه وسلم فلما أحيط بحسين حين قتل قال ما اسم هذه الأرض قالوا كربلاء قال صدق الله ورسوله أر ض كرب وبلاء)(١٠)
والنشيج أي الصوت مع توجع وبكاء
وقال عن سنده الشيخ قيس بهجت العطار سنده حسن
٦. عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أم سلمة
قالت (كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بين يدي النبي صلى الله عليه(وآله) وسلم في بيتي فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك فأومأ بيده إلى الحسين فبكى رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم وضمه إلى صدره ثم قال رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم وديعة عندك هذه التربة فشمها رسول الله
صلى الله عليه(وآله) وسلم وقال ويح كرب وبلاء قالت وقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن مشهور قد قتل قال فجعلتها أم سلمة في قارورة ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول إن يوما تحولين دما ليوم عظيم)(١١)
وقال عن سنده الشيخ قيس بهجت العطار سنده حسن
٧. عن سعيد بن أبي هند الفزاري عن أم سلمة
قالت كان النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم نائما في بيتي فجاء حسين يدرج قالت فقعدت على الباب فأمسكته مخافة أن يدخل فيوقظه قالت ثم غفلت في شئ فدب فدخل فقعد على بطنه قالت فسمعت نحيب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فجئت فقلت يا رسول الله والله ما علمت به فقال إنما جاءني جبريل عليه السلام وهو على بطني قاعد فقال لي أتحبه فقلت نعم قال إن أمتك ستقتله ألا أريك التربة التي يقتل بها قال فقلت بلى قال فضرب بجناحه فأتاني بهذه التربة قالت فإذا في يده تربة حمراء وهو يبكي ويقول يا ليت شعري من يقتلك بعدي.(١٢)
والنحيب رفع الصوت بالبكاء
وقال عن سنده الشيخ قيس بهجت العطار سنده صحيح
٨. عن أبي سلمةعن عائشة
إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أجلس حسينا على فخذه فجاءه جبريل عليه السلام فقال هذا ابنك قال نعم قال أمتك ستقتله بعدك فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن شئت أريتك تربة الأرض التي يقتل بها قال نعم فأتاه جبريل بتراب من تراب الطف.(١٣)
وقال عن أسانيده الشيخ قيس بهجت العطار سند الطبراني حسن بل صحيح وسند الخوارزمي حسن وسند البيهقي الطريق الأول حسن والطريق الثاني صحيح وسند ابن سعد ضعيف بنفسه ولكنه صحيح بغيره
٩. عن عروة بن الزبير عن عائشة
قالت دخل الحسين بن علي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم وهو يوحى إليه فنزا على رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم وهو منكب ولعب على ظهره فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم أتحبه يا محمد قال يا جبريل وما لي لا أحب مشهور قال فإن أمتك ستقتله من بعدك فمد جبريل عليه السلام يده فأتاه بتربة بيضاء فقال في هذه الأرض يقتل ابنك هذا يا محمد واسمها الطف فلما ذهب جبريل عليه السلام من عند رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم والتربة في يده يبكي فقال يا عائشة إن جبريل عليه السلام أخبرني أن الحسين مشهور مقتول في أرض الطف وإن أمتي ستفتتن بعدي ثم خرج إلى أصحابه فيهم علي وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبو ذر رضي الله عنهم وهو يبكي فقالوا ما يبكيك يا رسول الله فقال أخبرني جبريل أن مشهور الحسين يقتل بعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه.(١٤)
وقال عن سنده الشيخ قيس بهجت العطار سند الطبراني حسن
١٠- المقبري:
عن عائشة قالت: بينا رسول الله صلى الله عليه (وآله)وسلم راقد إذ جاء الحسين يحبو إليه فنحيته عنه ثم قمت لبعض أمري فدنا منه، فاستيقظ [رسول الله وهو] يبكي!!! فقلت: ما يبكيك؟ قال: إن جبريل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين، فاشتد غضب الله على من يسفك دمه. [قالت:] وبسط [النبي] يده فإذا فيها قبضة من بطحاء فقال: يا عائشة والذي نفسي بيده انه ليحزنني فمن هذا من أمتي [الذي] يقتل حسينا بعدي؟!!(١٥)
وقال عن سنده الشيخ قيس بهجت العطار سند الطبراني حسن
١٢- عن مولى لزينب عن زينب بن جحش
قالت: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وحسين عندي حين درج، فغفلت عنه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على بطنه، قالت:
[فبال عليه] فانطلقت لآخذه فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: دعيه. فتركته حتى فرغ، ثم دعا [رسول الله] بماء فقال: إنه يصب من الغلام ويغسل من الجارية، فصبوا صبا. ثم توضأ [رسول الله] ثم قام يصلي فلما قام احتضنه إليه، فإذا ركع أو جلس وضعه، ثم جلس فبكى ثم مد يده [فدعا الله تعالى] فقلت حين قضى الصلاة: يا رسول الله اني رأيتك اليوم صنعت شيئا ما رأيتك تصنعه [قبل اليوم]؟! قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن هذا تقتله أمتي!! فقلت: [يا جبريل] أرني [تربة مصرعه] فأراني تربة حمراء.(١٦)
١٣- شرحبيل بن أبي عون
(...قال: ثم أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك القبضة التي أتاه بها الملك فجعل يشمها وهو يبكي ويقول في بكائه: اللهم لا تبارك في قاتل ولدي وأصله نار جهنم! ثم دفع القبضة إلى أم سلمة وأخبرها بقتل الحسين بشاطىء الفرات وقال: يا أم سلمة!
خذي هذه التربة إليك فإنها إذا تغيرت واستحالت دما عبيطا سيقتل ولدي الحسين...)(١٧)
١٤- عن مسور بن مخرمة
(...قال: فلما أتت على الحسين من مولده سنتان كاملتان خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر له، فلما كان في بعض الطريق وقف فاسترجع ودمعت عيناه، فسئل عن ذلك، فقال: هذا جبريل يخبرني عن أرض بشاطىء الفرات يقال لها كربلا، يقتل بها ولدي الحسين ابن فاطمة، فقيل: من يقتله يا رسول الله؟ فقال: رجل يقال له يزيد، لا بارك الله له في نفسه! وكأني أنظر إلى مصرعه ومدفنه بها، وقد أهدي برأسه، وو الله ما ينظر أحد إلى رأس ولدي الحسين فيفرع إلا خالف الله بين قلبه ولسانه.
قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سفره ذلك مغموما ثم صعد المنبر فخطب ووعظ والحسين بن علي بين يديه مع الحسن، قال: فلما فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن واليسرى على رأس الحسين ثم رفع رأسه إلى السماء فقال:
اللهم! إني محمد عبدك ونبيك وهذان أطايب عترتي وخيار ذريتي وأرومتي ومن أخلفهم في أمتي، اللهم! وقد أخبرني جبريل بأن ولدي هذا مقتول مخذول، اللهم! فبارك له في قتله واجعله من سادات الشهداء، إنك على كل شيء قدير، اللهم! ولا تبارك في قاتله وخاذله. قال: وضج الناس في المسجد بالبكاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتبكون ولا تنصرونه! اللهم! فكن أنت له وليا وناصرا.(١٨)
١٤- عن عامر الشعبي، قال: قال علي (ع)
وهو على شاطئ الفرات: صبرا أبا عبد الله، ثم قال:
دخلت على رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم وعيناه تفيضان، فقلت:
أحدث حدث؟
فقال: أخبرني جبريل أن حسينا يقتل بشاطئ الفرات، ثم قال: أتحب أن أريك من تربته؟ قلت: نعم، فقبض قبضة من تربتها فوضعها في كفي، فما ملكت عيني أن فاضتا.(١٩)
ومن خلال ماتقدم من تعدد الروايات وكثرتها واختلاف الرواة واختلاف كيفيات بكاء النبي صلى الله عليه وآله يكفي في ثبوت الإطمئنان بصدور ذلك منه صلوات الله عليه وآله.
١- مسند أحمد بن حنبل:ج١ ، والمصنف لإبن أبي شيبة:ج٨ ، مسند أبي يعلى:ج١ ، والمعجم الكبير:ج٣ ، وتاريخ دمشق:ج١٤.
٢-مجمع الزوائد ج9 ص187 .
٣- مسند أبي يعلى ج1 ص298 بتحقيق الداراني .
٤- مسند أحمد ج1 ص445 رقم 647 تحقيق أحمد شاكر .
٥- اتحاف الخيرة المهرة ج7 ص90 ( نسخة الشاملة ) .
٦- السلسلة الصحيحة رقم ( 1171 ) .
٧-المستدرك على الصحيحين: ج٣ ، وتاريخ دمشق:ج١٤.
٨-المعجم الكبير:ج٣ و ج٢٠ ، ومقتل الخوارزمي:ج١ و كنز العمال:ج١١ .
٩-المعجم الكبير:ج٣ والمصنف لإبن أبي شيبة:ج٨ ، وترجمة الإمام الحسين من طبقات إبن سعد:ج٤٤و٤٥ح٢٦٩ ، وكنز العمال:ج١٣ ، ومسند ابن راهويه.
١٠-المعجم الكبير:ج٣ ، ومجمع الزواؤد:ج٩ وقال عنه رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات ، وكنز العمال:ج١٣.
١١-المعجم الكبير:ج٣ ، وتاريخ دمشق:ج١٤ .
١٢-المنتخب من مسند عبد حميد:ح١٥٣٣ ، وتاريخ دمشق:ج١٤.
١٣-المعجم الأوسط للطبراني:ج٦ ، ومقتل الخوارزمي:ج١ ، ودلائل النبوة للبيهقي:ج٦ ، وترجمة الامام الحسينمن طبقات إبن سعد.
١٤-المعجم الكبير:ج٣ ، ومجمع الزوائد:ج٩.
١٥-ترجمة الإمام الحسين من طبقات إبن سعد:ج٤٤ ، وتاريخ دمشق:ج١٤، وكنز العمال:ج١٢.
١٦-تاريخ دمشق:ج١٤.
١٧-فتوح البلدان:ج٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي:ج١.
١٨-فتوح البلدان:ج٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي:ج١.
١٩-ترجمة الامام الحسين من طبقات ابن سعد:ج٤٨-٤٨ ، وتاريخ دمشق:ج١٤.
ثم تتراوح آراء غير المشهور والتي يمكن وضعها في دائرة احتمال الصحة بن عدة أعداد الأدنى منها 61 والأعلى 145 ويمكن حصرها(2) بالآتي:
1- أن عددهم كان 60 أو 61 حكى الأول الدميري في (حياة الحيوان) وهو متأخر جدا (عاش في القرن الثامن) ولم يذكر مصدره فلا يُعتد بقوله. فضلا عن أن هذا الرأي مخالف لما سيأتي من أن أقل رأي في الرؤوس الطاهرة التي حملت على الرماح انها كانت اثنين وسبعين رأسا . وحكى المسعودي في (اثبات الوصية) الثاني وهو من تفرداته فضلا عن أنه خالفه في كتابه الآخر مروج الذهب كما سيأتي .
2- أن عددهم 78 أو 82 أو 87 إذ روى الأول الطبري عن زحر بن قيس، وذكر الثاني ابن شهر آشوب في (مناقب أل ابي طالب) وأما الثالث فذكره المسعودي في مروج الذهب (3 /61) وابن العنبري في (تاريخ مختصر الدول) أمّا ابن شهر آشوب وابن العنبري فكلاهما من المتأخرين إذ عاش الأول في القرن السادس والثاني في السابع فلا تقوى منقولاتهما المرسلة على معارضة مشهور المؤرخين المتقدمين عليهما وأما المسعودي فلم يبين مصدره وسيأتي عنه ما يناقض ذلك. ولا يبعد أن يكون هذا الرأي على ترديده بين الأعداد الثلاثة هو الرأي الثالث الآتي نفسه مع حذف الموالي والصبية كما يأتي.
3- أن عددهم كان 100 يزيدون او ينقصون قليلا رواه الطبري عن أحد شهود العيان وهو سعد بن عبيدة - وكان من جيش عمر بن سعد - قال: "وإنّي لأنظر إليهم وانهم لقريب من مائة رجل فيهم لصلب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خمسة ومن بني هاشم ستة عشر" (تاريخ الطبري: 14/ 295) .
ومما يقوي هذا الرأي أن أقدم مصدر وصلنا وفيه توثيق لعدد وأسماء من استشهد أو قاتل مع الامام الحسين عليه السلام هو كتاب (تسمية من قُتل مع الحسين) من تأليف الفُضَيل بن الزبير الكوفي الأسدي عاصر الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وروى عنهما وشارك في ثورة الشهيد زيد ولم يستشهد .
والفضيل أحصى في كتابه هذا غير الامام الحسين عليه السلام 106 شهيدا يتألفون من 19 هاشميا و الباقي من غير الهواشم ولكن يُلاحظ أنه أحصى ضمنهم هانئ بن عروة وسفراء الإمام الأربعة: مسلم بن عقيل وقيس بن المسهّر وعبد الله بن يقطر وسليمان بن رزين الذي ضبطه المصنف بأنه (بن ربيعة) وأكاد اقطع انه من خطأ النساخ إذ ليس في أصحاب الإمام من اسمه سليمان غير سفيره الى البصرة وهو ابن (رزين) وهؤلاء الخمسة الأطايب وإن كانوا قد استشهدوا في سبيل ثورة الامام الحسين عليه السلام ولكن ليس في كربلاء فإذا طرحناهم من العدد المذكور يكون المتبقي 101، وإذا أخرجنا الطفل الرضيع أيضا باعتباره لم يكن في عداد الجيش وانما كان ضحية لطغيان جيش السلطة تكون النتيجة 100 مناصر، بين هاشمي وعاميٍ.
وهذا النص وإن كان يختلف اختلافا يسيرا مع ما ذكره سعد بن عبيدة في عدد الهواشم هو يتفق معه في العدد العام لانصار الامام وانه حوالي مائة شخص، ولا يضر فيه الاختلاف في خصوص عدد الهواشم لأن رواية بن عبيدة مبنية على التقدير وليس الاحصاء .
4- جاء في رواية عمار الدهني للمقتل عن الامام الباقر عليه السلام أن عدد أصحاب الامام الذين كانوا معه يوم نزوله كربلاء 145 رجلاً ورواية عمار للمقتل وإن كانت عن الامام الباقر عليه السلام لكنها مروية في مصادر العامة وبطرقهم ولا ذكر لها في مصادرنا وأقدم مصدر لها هو تاريخ الطبري وهذا المقدار لا يسلب قيمتها التاريخية كما لا يخفى ولكن هذه الرواية عموما لا يمكن الاطمئنان بصدورها من جهة تضمنها نصوص كثيرة فيها تشويه للاحداث انفردت بها وقد يكون ذلك من تلاعب الرواة الذين رووها عن عمار إذ في سندها زكريا ابن يحيى الضرير وخالد بن يزيد القسري وكلاهما من ابناء العامة الذين طعن في صدقهم ووثاقتهم علماء العامة نفسهم .
وهناك قول خامس ذكره المسعودي في (مروج الذهب) (3/60) ان عدد من كان مع الامام الحسين عليه السلام هو نحو 600 شخص ولكن هذا الرأي لا يُعتد به اطلاقا من جهة تفرد المسعودي به من دون ذكر مصدره فلا يقوى على معارضة ما نقله شهود العيان كما سبق في الآراء المتقدمة، هذا أولا وأما ثانيا فهو لا ينسجم ابدا مع جميع تفاصيل واقعة كربلاء تقريبا، فمثلا لا ينسجم مع عدد الرؤوس الشريفة التي حُملت الى الكوفة حيث كانت تتراوح ما بين 72 الى 87 على اختلاف الآراء، وأيضا لا تنسجم مع عدد اسماء الشهداء التي نقلها لنا التاريخ كما سيأتي .
ومن كل ما سبق يتضح أن ما يمكن الاطمئنان له من هذه الآراء هو الرأيين الأول والثالث وكلاهما منقول عن شهود عيان حضروا في كربلاء يوم العاشر، أما الرأي الأول (أن عددهم 72 شخصا) فإنما يقوى ويصعب التفصي منه بسبب شهرته الكبيرة بين المؤرخين سنة وشيعة، وأما الرأي الثالث (ان عددهم حوالي 100 شخصٍ) فمن أسباب قوته انه بالاضافة الى نقله عن شاهد عيان قد ورد أيضا في أقدم وثيقة تاريخية وصلتنا فيها جرْدٌ لعِدة وأسماء شهداء يوم عاشوراء والحق أن هذا الرأي هو الراجح والوجهُ في رجحانه قدرته على الانسجام مع سائر تفاصيل واقعة كربلاء خلافا للرأي الأول ومن مظاهر هذا الانسجام:
1- انسجامه مع روايات الرؤوس الشريفة التي قُطعت وأرسلت الى الشام فقد ذكر الطبري في تاريخه والشيخ المفيد في الارشاد والدينوري في الأخبار الطوال وغيرهم أن عدد الرؤوس الشريفة غير رأس الامام الحسين كان 72 رأسا فإذا علمنا أن بعض من حضر الواقعة لم يُقطع رأسه كالحر بن يزيد الرياحي وبضعة نفر ممن قاتلوا مع الامام ولم يستشهدوا كالحسن بن الامام الحسن عليه السلام والضحاك المشرقي وغيرهما يكون بموجب هذا ان أصحاب الامام يوم عاشوراء أكثر من 72.
وروى البلاذري في أنساب الأشراف أن عدد الرؤوس التي حُملت الى الكوفة كان 82 بينما روى السيد ابن طاووس وغيره انها سبعة وثمانون وهكذا نرى ان روايات قطع الرؤوس الشريفة بأجمعها لا تنسجم مع الرأي القائل ان عدد الأصحاب 72 فقط بينما تنسجم مع الرواية القائلة أن عددهم حوالي 100 ببيان أن الأعداد المذكورة في الروايات يضاف لها مَن لم تقطع رؤوسهم ومن قاتل ولم يستشهد فنكون قد اقتربنا من العدد 100 ولا سيما إذا قلنا بأنهم لم يقطعوا رؤوس الموالي الذين استشهدوا مع الامام عليه السلام وكان عددهم في حدود 15 شخصا لأنهم انما يقطعون الرؤوس للتفاخر بها بين القبائل وهذا لا يتحقق بقطع رؤوس الموالي.
2- تنسجم رواية المائة مع قائمة اسماء شهداء الطف التي وثقها كثير من المؤرخين وممن تصدى للتحقيق فيها من العلماء وانتهى الى جمع حوالي مائة اسم من اسماء الشهداء العلامة السيد محسن الأمين رحمه الله في كتاب (الأعيان) والمحقق الشيخ محمد طاهر السماوي رحمه الله في كتاب (إبصار العين) والحجة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله في كتاب (أنصار الحسين عليه السلام) .
وهكذا فإن رواية المائة هي الأقدر على تفسير سائر تفاصيل واقعة الطف والأكثر انسجاما مع سائر الروايات وتحفها قرائن كثيرة توجب الاطمئنان لها بل يمكنني القول انها تنسجم حتى مع الرواية المشهورة من ان عددهم رضوان الله عليهم 72 شخصا إذ يمكن الجمع بينهما وذلك من جهة أن من تبنى هذا العدد من المؤرخين ارتكز على أحد أمرين إما رواية الضحاك المشرقي السابقة كما هي الحال مع الطبري وآخرين او الروايات التي تنص على ان عدد الرؤوس الشريفة التي حُملت الى الكوفة كان 72 كما يبدو من عبارة الشيخ المفيد، أما الأول منهما فإن رواية الضحاك صريحة في أنه يتكلم عمّن استعدوا للقتال عند صلاة الفجر من يوم عاشوراء وهذا يعني أنه لم يحتسب الحر الرياحي وولده رضوان الله عليهما لأنهما التحقا بالامام عليه السلام في نهار عاشوراء ويبدو انه لم يحتسب الصبية الثلاثة الذين لم يبلغوا الحلم أعني عبد الله والقاسم ولدا الامام الحسن عليه السلام بالاضافة الى عمرو بن جنادة الانصاري فنظرا الى صغر أعمارهم التي تتراوح بين الحادية عشر والثالثة عشر من المستبعد جدا ان الضحاك عدهم في عداد الجيش عند فجر عاشوراء قبل ان يبرزوا للقتال كما يمكن القول انه لم يعد الموالي الذين هم حوالي 15 شخصا وبهذا نكون قد اقتربنا من المائة وهناك وجه آخر للجمع بينهما بأن نأخذ برواية التحاق 30 شخصا بالامام من جيش عمر في يوم العاشر والتي ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد وغيره من المتأخرين على أن الأخذ بهذه الروايه يحتاج الى تتبع وتفصيل لا يسعه هذا المقال .
وأما على الارتكاز الثاني من كون الرأي القائل بان عدد الأصحاب 72 يرتكز على روايات عدد الرؤوس فيُجمع بينه وبين رواية المائة بأن يقال انه ليس كل من قاتل مع الإمام قُطع رأسه وقد سبق التعرض لذلك .
وكيف كان فإن رواية المائة هي الراجحة سواء تمكنا من الجمع بينها وبين رواية الـ 72 وفق ما تقدم او لم نتمكن .
بقي ان بعضهم يحاول تمتين كثرة أصحاب الامام بالقول بعدم معقولية تخلي شيعته عنه سواء شيعة الكوفة او البصرة او اليمن وهذا في الواقع استبعاد ليس له منشأ تاريخي بل لا يتماشى مع مجريات التاريخ والخوض في تفاصيله وأدلتها لا يحتمله هذا المقال ولكن إجمالا أقول: كانت الكوفة مغلقة بالكامل لا يمكن لأحد دخولها كما لا يمكن الخروج منها منذ أواخر شهر ذي الحجة وقد ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين فكانت معزولة عن الخارج بالكامل لا دراية لأهلها بما يجري فعلا .. وأما البصرة فقد جرى فيها سيناريو مختلف إذ غدر المنذر بسفير الامام مما أدى الى تأخرهم في الخروج وبعد تلافي المشكلة والخروج وصلهم نبأ شهادة الامام .. وأما اليمن فكانت معلوماتهم تقتصر على ظرف وجود الامام في مكة المكرمة حيث عرفوا ان أهل العراق قد مهدوا الطريق للامام وأما بعد خروجه من مكة فمن الصعب جدا ان يحيطوا بتقلبات الأحداث التي تسارعت في غضون أيام لبُعد ديارهم فضلا عن وسائل التواصل البدائية .
هذا ما تيسر تتبعه والله العالم .
ذكر أكثر المؤرّخين 1 أنّ طفلاً رضيعاً للحسين (ع) قُتِل وهو في يده أو في حجره، وهذا المقدار ليس فيه ريب، نعم وقع الخلاف بين المؤرّخين في اسمه فقد ذكر الشيخ المفيد في الإرشاد 2 أنّ اسمه عبد الله، وذكر ذلك أيضاً ابن الاثير في االكامل 3 وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيّين 4 والطبري في تاريخه 5 وابن كثير في البداية والنهاية 6، هذا وقد ورد في زيارة الناحية المنسوبة للإمام الحُجّة(عج) "السلام على عبد الله الرضيع المرمي الصريع المتشحِّط دماً المذبوح بالسهم في حجر أبيه" 7
وفي مقابل ذلك ذكر ابنُ شهر آشوب في المناقب 8 أنَّ الرضيع المقتول في يد أبيه يوم العاشر اسمه عليٌّ الأصغر، وذكر ذلك أيضاً ابنُ أعثم في كتاب الفتوح 9، ومحمد بن سعد في طبقاته 10والطبري في تاريخه 5.
ولا بأس في المقام بذكر كيفيّة قتل هذا الرضيع، ونذكر في ذلك مجموعة مِن النصوص:
النص الأوّل: ذكر ابن أعثم في كتاب الفتوح قال: "فبقيَ الحسين فريداً وحيداً وليس معه ثانٍ إلاّ ابنه عليٌّ رضي الله عنه... وله ابن آخر يُقال له عليٌّ في الرضاع فتقدّم إلى باب الخيمة فقال: ناولوني ذلك الطفل حتّى أودّعه، فناولوه الصبي فجعل يُقبِّله وهو يقول: "يا بنيّ ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كان غداً خصمهم جدّك محمّد (ص)، قال: " وإذا بسهمٍ قد أقبل حتى وقع في لبَّةِ الصبيّ قتله فنزل الحسين رضي الله عنه عن فرسه وحفرَ له بطرف السيف ورمَّله بدمه وصلَّى عليه ودفنه..." 9.
وذكر الطبرسي في الاحتجاج قريباً مِن هذا النصّ إلاّ أنّه أفاد أنَّ اسم الرضيع المقتول عبد الله 11.
النص الثاني: ما رواه الطبري عن أبي جعفر الباقر (ع) أنّه قال: " فُقتل أصحاب الحسين (ع) كلُّهم وفيهم بضعة عشر شابّاً مِن أهل بيته، وجاء سهمٌ فأصاب ابناً له معه في حجره، فجعل يمسحُ الدم عنه ويقول: "اللهمَّ احكم بيننا وبين قومٍ دعَوْنا لينصرونا فقتلونا..." 5.
وعن الشيخ المفيد أنّه قال: فتلقَّى الحسينُ(ع) دمَه حتّى امتلأتْ كفُّه ثمّ رمى به إلى السماء 12.
وذكر ذلك ابنُ كثير في البداية والنهاية 6.
وأضاف السيِّدُ ابن طاووس في كتابه الملهوف: أنَّ الحسين (ع) عندما رمى بالدم إلى السماء قال: "هوَّن عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله"، قال الباقر (ع): فلم يسقط مِن ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض. وروى ابنُ شهر آشوب ذلك إلاّ أنّه قال: "لم يرجع مِنه شيء"13.
وروى ذلك ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين 14.
النص الثالث: ما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد: "ثمّ جلس الحسينُ أمام الفسطاط فأُتي بابنه عبد الله بن الحسين (ع) وهو طفلٌ فأجلسه في حجره فرماه رجلٌ مِن بني أسد بسهمٍ فذبحه فتلقّى الحسينُ (ع) دمَه في كفِّه فلمَّا امتلأ كفُّه، صبَّه في الأرض ثمّ قال: "يا ربِّ إنْ حبستَ عنّا النصر مِن السماء فاجعل ذلك لِما هو خيرٌ مِنه، وانتقم لنا مِن هؤلاءِ القوم الظالمين ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته" 12.
ونقل ذلك أيضاً العلاّمة المجلسي في البحار 15.
النص الرابع: ما ذكره سبط بن الجوزي في التذكرة عن هشام بن محمّد الكلبي قال: لمَّا رآهم الحسين (ع) مصرِّين على قتله أخذ المصحف ونشره وجعله على رأسه ونادى: "بيني وبينكم كتابُ الله وجدِّي محمَّدٌ رسول الله (ص) يا قوم بمَ تستحلُّون دمي... إلى أنْ قال: فالتفتَ الحسين (ع) فإذا بطفلٍ له يبكي عطشاً فأخذه على يده وقال: يا قوم إنْ لم ترحموني فارحموا هذا الطفل فرماه رجلٌ مِنهم بسهمٍ فذبحه ، فجعل الحسينُ يبكي ويقول: " اللهمَّ احكُم بيننا وبين قوم دعَوْنا لينصرونا فقتلونا..." 16.
وهناك نصوص أخرى قريبةٌ ممّا ذكرنا أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة.
راجع تاريخ اليعقوبي 17، وتاريخ الطبري 18، والأخبار الطوال 19، وغيرها مِن كتب التأريخ التي تصدَّت لبيان مقتل الحسين (ع).
والحمد لله ربِّ العالمين20.
الهوامش:
1. مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص 91 ، تاريخ الطبري ج 4 ص 293 ، المنتظم في تاريخ الأمم ج5 ص 340 ، مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 ص 257/ بيع المودة لذوي القربى - القندوزي - ج 3 ص 78/ مقاتل الطالبيين - أبو الفرج الأصفهانى - ص 60.
2. الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 ص 108 وصرّح بذلك ايضا في كتابه الاختصاص - الشيخ المفيد - ص 83.
3. الكامل في التاريخ - ابن الأثير - ج 4 ص 92.
4. مقاتل الطالبيين - أبو الفرج الأصفهانى - ص 59.
5. a. b. c. تاريخ الطبري - الطبري - ج 4 ص 359.
6. a. b. البداية والنهاية - ابن كثير- ج8 ص186.
7. المزار - محمد بن المشهدي - ص 488/ إقبال الأعمال - السيد ابن طاووس - ج 3 ص 74/ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 ص 66/ العوالم، الإمام الحسين (ع) - الشيخ عبد الله البحراني - ص 336.
8. مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 ص 257.
9. a. b. كتاب الفتوح - أحمد بن أعثم الكوفي - ج 6 ص 15.
10. الطبقات الكبرى - محمد بن سعد - ج 5 ص 211.
11. الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 ص 25.
12. a. b. الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 ص 108.
13. اللهوف في قتلى الطفوف - السيد ابن طاووس - ص 69.
14. مقاتل الطالبيين - أبو الفرج الأصفهانى - ص 60.
15. بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 45 ص 47.
16. تذكرة الخواص - ابن الجوزي -ص252.
17. تاريخ اليعقوبي - اليعقوبي - ج 2 ص218.
18. تاريخ الطبري - الطبري- ج6 ص259.
19. الأخبار الطوال - الدينوري - ص318.
20. المصدر: موقع سماحة الشيخ محمد صنقور حفظه الله.
قد يتساءل: كيف تحدّى إبراهيم الخليل عليه السلام شعور قومه، وأهانهم في آلهتهم وأعظم مقدّساتهم، ولم يعبأ بالنّمرود صاحب الحول والطّول؟! هذا، وهو أعزل من السّلاح، والمال لا ناصر له، حتّى أبويه لم يجرءا على مناصرته والذّب عنه.
حطّم الخليل آلهة قومه، وداسها بقدميه، وقال للألوف المؤلّفة: ( أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) 1، ولم يخش سطوتهم، ونارهم الّتي أو قدوها لحرقة حيّا.
وموسى الكليم عليهالسلام الشّريد الطّريد الّذي أكل بقلة الأرض حتّى بانت خضرتها من شفيف بطنه لهزاله، وحتّى سأل ربّه قطعة خبز، وتضرّع إليه بقوله: (... رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) 2. هذا الفقر إلى لقمة الخبز يصرخ في وجه فرعون المتألّه، صاحب النّيل، والملك العريض الطّويل، ويقول له: «أنت الضّال المضّل!...
ومحمّد اليتيم صلى الله عليه وآله 3 الّذي لا يملك شيئا من حطام الدّنيا 4 كيف سفّه أحلام قريش سادة العرب، وسبّ آلهتهم؟! وبأيّة قوّة هدّد كسرى ملك الشّرق، وقيصر ملك الغرب، وكتب إلى كل أسلم تسلم 5 ؟!.
وبكلمة واحدة، ما هي القوّة؟ وما هو الدّافع الّذي بعث الأنبياء والرّسل على تلك المغامرات الّتي لا يقدم عليها إلّا معتوه لا يدري ما يقول، أو رسول لا ينطق بلسانه، بل لسان قوّة خارقة، وفوق القوى جميعا؟!.
وليس من شك أنّ الأنبياء حين يدعون الجبابرة الطّغاة، وأهل الجاه والسّلطان دعوة الحقّ إنّما يدعونهم مدفوعين بقوّة لا تقاوم، ويخاطبونهم باسم الله الّذي يؤمنون به أكثر من إيمانهم بأنفسهم، وباسم الوحي الّذي يسمعونه بعقولهم وآذانهم.
يقدم الجيش أو يحجم بأمر قائده ورئيسه، ويبرز الفرسان إلى الميدان فيقتلون أو يقتلون، ومن يقتل فهو شهيد تقام له حفلات التّكريم والتّعظيم، وترفع له في السّاحات العامّة النّصب والتّماثيل، وتوضع على قبره أكاليل الأوراد والزّهور. وهكذا الأنبياء يقدمون بدافع من الله وقيادته، ويتّحدون أهل القوّة والسّلطان بأمر الله وإرادته، فينتصرون أو يقتلون، وهم في الحالين عظماء يمتثلون أمر الله، وبه يعملون، فإذا استشهدوا فإنّما يستشهدون، وهم يبلغون كلمة الله إلى خلقه، ويمثلون الإنسان في أسمى حالات الإخلاص والتّضحية.
هذا هو منطق أهل الدّين والعقل، وهذي هي عقيدة أصحاب الإيمان والوجدان، أمّا الملحدون الّذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر من شباب هذا العصر، ومثلهم السّذّج المغفلون من قبل ومن بعد، أمّا هؤلاء فيقولون: لقد جازف الحسين بخروجه إلى العراق، لأنّ أهله أهل الغدر، والنّفاق، وأصحاب أبيه وأخيه، وإذا خرج، وخدعته كتبهم ورسلهم فكان عليه أن يستسلم، بعد أن رأى ما رأى، من عزمهم وتصميمهم على قتله، وعجزه عن الذّب والدّفاع عن نفسه وأهله. قالوا هذا، وهم يعتقدون أنّ الإستشهاد فضيلة ممّن استشهد مع قائد يملك العدّة والعدد. أمّا الحسين في نظرهم فقد خاطر وجازف، لأنّه استشهد ولا قوّة تدعمه، وسلطان يناصره 6.
إنّ الّذين يقولون هذا القول يخطئون الفهم، ولا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، أنّ الحسين لم ينهض من تلقاء نفسه، ولم يخرج إلى العراق رغبة في شيء من أشياء هذه الحياة، وإنّما خرج بأمر الله، وقاتل بإرادة الله، واستشهد بين يدي الله، فكما أنّ الجندي لا مناص له من البراز والنّزال حين صدرت أوامر رئيسه وقائده، كذلك الحسين لا ندحة له إلى التّخلص، والفرار بعد أن أمره الله... ممّا كان وفعل، ويؤكد هذه الحقيقة قول الحسين لمن نهاه عن الخروج، فلقد أتاه فيمن أتاه جابر بن عبد الله الأنصاري، وقال له: أنت ولد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأحد سبطيه لا أرى إلّا أن تصالح كما صالح أخوك، فأنّه كان موقفا رشيدا.
فقال له الحسين، يا جابر! قد فعل ذلك أخي بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، وأنا أيضا أفعل بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله 7.
وهذا الجواب يحدّد لنا سلوك الحسين في حياته كلّها، ولا يدع قولا لقائل، وإنّه يسير بأمر الله، وعلى سنّة جدّه محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلقد أوقع النّبيّ صلى الله عليه وآله صلح الحديبية مع مشركي مكّة بأمر الله، ومحا كلمة بسم الله الرّحمن الرّحيم، ومحمّد رسول الله من كتاب الصّلح بأمر الله 8، ورضي أبوه بالتّحكيم يوم صفّين بأمر الله 9، وصالح أخوه الحسن معاوية بأمر الله 10، ونهض هو نهضته المباركة بأمر الله، إنّ الّذين يعترضون على نهضة الحسين لا يفسرون الأشياء تفسيرا واقعيّا، ولا تفسيرا دينيّا، وإنّما يفسرونها تفسيرا ذاتيّا وشخصيّا محضا لا يمت إلى العلم والدّين بسبب، ولا ينظرون إلى حكمة الله، وحجته البالغة: (... لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ... ) 11.
لقد بيّن سيّد الشّهداء كلمة الله، ودعا إلى الحقّ، وحذّر المخالفين من عاقبة الظّلم، والطّغيان، فمن خذطبة له يوم الطّفّ :
«فسحقا لكم يا عبيد الأمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونقثة الشّيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب، ومطفئي السّنن، ويحكم هؤلاء...!، وعنّا تخاذلون، أجل والله، الخذل فيكم معروف، وشجت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، وثبتت عليه قلوبكم. وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث ثمرة: شجي للناظر، وأكلة للغاصب.
ألا وإنّ الدعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين بين السّلّة والذّلّة، وهيهات منّا الذّلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام.. 12.
أما والله لا تلبثون بعدها إلّا كريثّما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرّحي، وتقلق قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله: (... فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) 13 ؛ ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) 14.
وقال الحسين، حين بلغه مقتل ابن عمّه مسلم: «وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسنّهم الله ذلا شاملا، وسيفا قاطعا» 15.
ليس هذا القول تنبأ بالصّدفة، وأخذا من مجرى الحوادث. كلّا، وإنّما هو كما قال الإمام عهد من الله سبحانه إلى نبيّه محمّد، ومنه إلى أمير المؤمنين، ومنه إلى الإمام الشّهيد، وقد صدق التّأريخ ذلك، وما نقص منه شيء، فلم يلبث قاتلو الحسين عليه السلام حتّى دار الزّمن بهم دوراته، وضربهم بضرباته.
لقد دعا نبيّ الله يحيى إلى الواحد الأحد، فقتله جبّار أثيم، وأهدى رأسه بطست إلى بغي 16، ودعا الحسين إلى الحقّ والعدل، فقتله الطّغاة، وأهدوا رأسه إلى يزيد اللّعين، وقتل زكريّا وغيره من الأنبياء، وهم يبشرون وينذرون، فإذا كان الحسين قد أخطأ في استشهاده من أجل الحقّ، والعدل فقد أخطأ إذن الأنبياء، والأولياء، والمصلحون الّذين قتلوا، وشردوا في سبيل الله، وإعلاء كلمة الحقّ، وإلقاء الحجّة على المبطلين.
قال عليّ بن الحسين: «ما نزل أبي منزلا، أو ارتحل عنه في مسيره إلى العراق إلّا وذكر يحيى بن زكريا». وقال يوما، «من هوان الدّنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل... 17.
ذكر الحسين يحيى للشّبه بين الإثنين، فلقد أهديّ رأس الحسين إلى بغي من بغايا الأمويّين الّذين كانوا أشرّ، وأضرّ على العرب، والمسلمين من صهاينة هذا العصر. نكث يزيد رأس الحسين بالخيزران عنادا لله ورسوله 18، ولأنّ في هذا الرّأس الشّريف علوم القرآن الكريم، والرّسول العظيم.
أيهدى إلى الشّامات رأس ابن فاطم *** ويقرعه بالخيزرانة كاشحه
وتسبى كريمات النّبيّ حواسرا *** تفادي الجوا من ثكلها وتراوحه
يلوح لها رأس الحسين على القنا *** فتبكي وينهاها عن الصّبر لائحه 19
الهوامش:
1. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 67، الصفحة: 327.
2. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 24، الصفحة: 388.
3. ماتت أمّه، وله ست سنين. انظر، الخصائص الكبرى: ١ / ٨٠. الحاوي للفتاوي: ٢ / ٢٢، السّيرة ـ لزيني دحلان بهامش السّيرة الحلبيّة: ١ / ٥٧. السّيرة لابن هشام: ١ / ١٦٨، مروج الذّهب: ٢ / ٢٧٥، الطّبقات الكبرى لابن سعد: ١ / ١١٦، البداية والنّهاية لابن كثير: ٢ / ٢٥٥، تأريخ الطّبريّ: ٢ / ٢٧٢، الرّوض الأنف للسّهيلي: ١ / ٨، تأريخ اليعقوبيّ: ٢ / ٦، حاشية البجيرميّ: ٢ / ٢٤٩، مسالك الحنفا: ٦٣، دلائل النّبوّة للبيهقي: ١ / ١٨٨.
4. كلّ ما ورثه النّبيّ صلىاللهعليهوآله من أبويه أمة، وهي أمّ أيمن، وخمسة جمال، وقطيعة غنم، وقد أعتق أمّ أيمن حين تزوّج بخديجة. (منه قدسسره). انظر، تركة النّبي: ١ / ١٠١.
5. انظر، صحيح البخاري: ١ / ٩، صحيح مسلم: ٣ / ١٣٩٦، مسند أحمد: ١ / ٢٦٢، صحيح ابن حبّان: ١٤ / ٤٩٥، مسند أبي عوانه: ٤ / ٢٦٨، السّنن الكبرى للبيهقي: ٩ / ١٧٦، معتصر المختصر: ١ / ٢٠٧، المعجم الكبير: ٨ / ١٥، تفسير ابن كثير: ٣ / ٣٩٥، تفسير البيضاويّ: ٤ / ٩، أسباب النّزول: ١٦٩.
6. انظر، العواصم من القواصم، تحقّيق: محبّ الدّين الخطيب ـ طبع سنة (١٣٧١ ه): ٢٣٢. مثل هذه الأكاذيث والمقولات الموضوعة، أو الّتي لا تفسّر بشكلها الصّحيح هي الّتي شلّت حركة الأمّة، وجعلتها قابعة تحت سيطرة الحاكم المستبد، وأطفأت الرّوح الجهاديّة في الأمّة. هذا أوّلا.
وثانيّا: ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي نقرأ فيها الزّور، والبهتان على الشّيعة، فلقد عودنا بعض الكتّاب المستأجرين من المستعمرين، والوهابيّين على شحنائهم، وأسوائهم الّتي استفاده منها أعداء الإسلام والمسلمين، ولم تضر الشّيعة شيئا، ولكن الشّيء الجديد هو هذا الكذب الصّراح على الله والرّسول، وتحريف آي الذّكر الحكيم، والدّس في سنّة الرّسول العظيم...
ووليس من شكّ أنّ السّكوت عن الجبهان، ومحبّ الدّين الخطيب، وغيرهما ممّن كتب ونشر، وحمل ـ وتحامل على الشّيعة والتّشيّع لآل الرّسول قد أدّى كنتيجة طبيعيّة إلى الكذب والإفتراء على الله وآياته، والنّبيّ وعترته، والإسلام وحماته.
وثالثا: وهذه «رسالة العقيدة الواسطية» لابن تيميّة الّذي يقدّسه الوهابيون «فصل في سنّة رسول الله» جاء فيه: «ينزل ربّنا إلى سماء الدّنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول: من يدعوني استجب له؟ من يسألني أعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟» ثمّ قال ابن تيمية: هذا متفق عليه... وأيضا جاء فيه: «لا تزال جهنّم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتّى يضع ربّ العزّة فيها رجله فتقول: قطّ قطّ» وقال أيضا: متفق عليه. انظر، الفصل في الأهواء والملل والنّحل: ١ / ١٦٧. ورابعا: لقد وجد معاوية أبا هريرة، وسمرة بن جندب يضعان الأحاديث الكاذبة على لسان الرّسول في مدح معاوية، والطّعن على عليّ ؛ كما وجد ولده يزيد شيخا يقول: أنّ الحسين قتل بسيف جدّه!... لم توجد هذه الكلمة في تأريخ ابن خلدون الموجود الآن، وكأنّه ذكرها في النّسخة الّتي رجع عنها كما قال بعض المؤرّخين. انظر، الضّوء اللّامع: ٤ / ١٤٧، فيض القدير شرح الجامع الصّغير: ١ / ٢٦٥ ح ٢٨١ و: ٥ / ٣١٣ ح ٧١٦٣.
7. انظر، الثّاقب في المناقب: ٣٢٢ ح ٢٦٦، معالم السّبطين: ١ / ٢١٦.
8. في سنة خمس للهجرة خرج النّبيّ من المدينة إلى مكّة في ناس من أصحابه يريد العمرة، فمنعه المشركون من دخولها، ثمّ وقع الصّلح بينه وبينهم على أن يترك العمرة هذه السّنة إلى السّنة القادمة فيدخل مكّة بلا سلاح، وأمر النّبيّ عليّا أن يكتب كتاب الصّلح، فكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم: هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله، فأبى المشركون إلّا محو البسملة والشّهادة لمحمّد بالرّسالة، فقال النّبيّ للإمام: أمح. فقال الإمام: إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النّبوّة، والتفت إلى مندوب المشركين، وقال له: أنّه رسول الله رغم أنفك، فتولى النّبيّ صلىاللهعليهوآله المحو بنفسه. (منه قدسسره).
انظر، سنن التّرمذي: ٥ / ٢٩٨ ح ٣٧٩٩، الفضائل لأحمد: ٢ / ٦٤٩، مسند أحمد: ١ / ١٥٥، المستدرك للحاكم: ٢ / ١٣٧، تأريخ الطّبري: ٤ / ٤٨، مروج الذّهب: ٢ / ٤٠٤.
9. لقد تكلّم الشّارحون عن حرب الخوارج، ومروقهم، وأطال المؤرخون الحديث عن أحوالهم، ووضع فيهم العديد من المؤلفات، ومن أحبّ معرفة التّفاصيل فليرجع إليها، وإلى أقوال شارحي النّهج... وغرضنا الآن أن نشير إلى موقف أمير المؤمنين عليهالسلام منهم، ويتلخص بأنّه حاول جهد المستطاع أن لا يهيجهم في شيء. ومن جملة ما قال لهم: «ألم أقل عند رفع المصاحف: إنّ معاوية ورهطه ليسوا بأصحاب دين، ولا قرآن، وإنّما هم يكيدون، ويخدعون، ويتّقون حرّ السّيف؟. فأبيتم إلّا إيقاف القتال، والكف عنه، وإلّا التّحكيم، وإلّا الأشعريّ.. فرضيت مكرها خوف الفتنة، ورضوخا لأهون الشّرين.. وأيضا قلت لكم بعد التّحكيم: أخذنا عليهما ألّا يتعدّيا القرآن فتاها عنه، وتركا الحقّ، وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما فمضيا عليه»؟.
انظر، نهج البلاغة من كلام له عليهالسلام رقم (١٢٧)، البداية والنّهاية: ٩ / ٣٣٩، الإحتجاج: ٢ / ٥٨، الإرشاد: ٢ / ١٦٥، أنساب الأشراف: ٢ / ٣٥٧، الأخبار الطّوال: ٢٠٩، تأريخ ابن خلدون: ق ٢ / ج ٢ / ١٧٧، ينابيع المودّة: ٢ / ٢٠ ـ ٢١، وقعة صفّين: ٥١٧، الإمامة والسّياسة: ١ / ١٦٨، الكامل لابن الأثير: ٢ / ٤٠٤.
10. اختلف المؤرّخون اختلافا كثيرا فيمن بدر لطلب الصّلح، فابن خلدون في تأريخه: ٢ / ١٨٦ ذهب إلى أنّ المبادر لذلك هو الإمام الحسن عليهالسلام حين دعا عمرو بن سلمة الأرحبي وأرسله إلى معاوية يشترط عليه بعد ما آل آمره إلى الإنحلال، وقال ابن الأثير في الكامل: ٣ / ٢٠٥ مثل ذلك ؛ لأنّ الإمام الحسن عليهالسلام رأى تفرّق الأمر عنه، وجاء مثله في شرح النّهج لابن أبي الحديد: ٤ / ٨.
وأمّا ابن أعثم في الفتوح: ٢ / ٢٩٢ قال: ثمّ دعا الحسن بن عليّ بعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم وهو ابن اخت معاوية فقال له: صرّ إلى معاوية فقل له عنّي: إنّك إن أمنت النّاس على أنفسهم... وقريب من هذا في تأريخ الطّبري: ٦ / ٩٢، والبداية والنّهاية: ٨ / ١٥، وابن خلدون: ٢ / ١٨٦، وتأريخ الخلفاء: ٧٤، والأخبار الطّوال: ٢٠٠، وتأريخ اليعقوبي: ٢ / ١٩٢.
أمّا الفريق الآخر فقد ذكر أنّ معاوية هو الّذي طلب وبادر إلى الصّلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمّنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد، كما ذكر الشّيخ المفيد في الإرشاد: ٢ / ١٣ و ١٤ وصاحب كشف الغمّة: ١٥٤، ومقاتل الطّالبيّين: ٧٤، وتذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: ٢٠٦ ولكننا نعتقد أنّ معاوية هو الّذي طلب الصّلح، وممّا يدل على ذلك خطاب الإمام الحسن عليهالسلام الّذي ألقاه في المدائن وجاء فيه: ألا وإنّ معاوية دعانا لأمر ليس فيه عزّ ولا نصفه...
انظر، الكامل في التّاريخ: ٣ / ٢٠٥، وتأريخ الطّبري: ٦ / ٩٣.
11. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 42، الصفحة: 182.
12. انظر، تأريخ الطّبري: ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م، الكامل في التّأريخ: ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.
13. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 71، الصفحة: 217.
14. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 56، الصفحة: 228.
15. انظر، الفتوح لابن أعثم: ٥ / ٧٩، مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي: ١ / ٢٢٦، مثير الأحزان: ٤٦، أعيان الشّيعة: ١ / ٥٩٥، اللهوف في قتلى الطّفوف: ٢٩.
16. انظر، الفتوح لابن أعثم: ٥ / ٤٢ مقتل الإمام الحسين: ١ / ١٩٢، اللهوف في قتلى الطّفوف: ١٢.
17. انظر، مستدرك الحاكم: ٢ / ٢٩٠ و: ٣ / ١٧٨، كنز العمّال: ١٢ / ١٢٧ ح ٣٤٣٢٠، فيض القدير: ١ / ٢٦٥، تفسير القرطبي: ١٠ / ٢١٩، الدّر المنثور: ٤ / ٢٦٤، تأريخ ابن عساكر: ١٤ / ٢٢٥ و: ٦٤ / ٢١٦، بغية الطّلب في تأريخ حلب: ١ / ٩٣، تأريخ بغداد: ١ / ١٥٢.
18. انظر، سنن التّرمذي: ٥ / ٦٥٩، موارد الظّمآن: ١ / ٥٥٤، مسند أبي يعلى: ٥ / ٢٢٨، المعجم الكبير: ٣ / ١٢٥ و: ٥ / ٢٠٦ و ٢١٠، تحفة الأحوذي: ١٠ / ١٩١ و ٣٠٧، سير أعلام النّبلاء: ٣ / ٢٦١ و ٣١٥ و ٣٢٠، تهذيب الكمال: ٦ / ٤٣٤، تأريخ واسط: ١ / ٢٢٠، فضائل الصّحابة لأحمد: ٢ / ٧٨٣، تأريخ الطّبري: ٣ / ٣٠٠، الإتحاف بحبّ الأشراف الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عامر الشّبراوي: ١٥٢، بتحقّيقنا.
19. المصدر: كتاب الحسين و بطلة كربلاء: 33، للعلامة الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله.