هل تعدد واختلاف فتاوى الفقهاء أمر سلبي أم إيجابي؟!

الاختلاف في المباني يعود تارة إلى التباين بين المناهج الاجتهادية المختلفة، وتارة يعود إلى التباين بين مقاربات المجتهدين داخل المنهج الواحد.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

فاختلاف المباني بين المجتهد الشيعي والمجتهد السني تعود إلى الاختلاف في أصل المنهج الاجتهادي، فالمجتهد الشيعي لا يقبل من الأساس الأصول والقواعد التي يرتكز عليها المجتهد السني، بينما يعود الاختلاف داخل المنهج الاجتهادي الشيعي إلى مقاربات كل فقيه للقواعد والمباني الأصولية المتفق عليها بين جميع فقهاء الشيعة، ومن هنا لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بالسلب أو الإيجاب دون الفصل بين أسباب الاختلاف حول المباني الاجتهادية.

ويبدو أن التباين في تعريف الاجتهاد اصطلاحاً يعود إلى التباين في المناهج الاجتهادية، فقد مر مصطلح الاجتهاد في الدائرة الإسلامية بتعاريف مختلفة، حيث كانت الدلالة الأولى للاجتهاد تعني استخدام الرأي والظن الشخصي سوى في تفسير القرآن أو معرفة الأحكام الشرعية، ومن هنا نفسر موقف الرافضين لشرعية الاجتهاد داخل الدائرة الشيعية أمثال الأخباريين، فقد فسر هذا الاتجاه الاجتهاد بإعمال الظنون والآراء الشخصية، وهذا ما حرمته النصوص ونهت عنه بشدة، فمثلاً في ما يخص تفسير القرآن يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وان أخطأ كان إثمه عليه، وفي رواية أخرى: وان اخطأ فهو ابعد من السماء) وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي حرمت تفسير القرآن بالرأي، أما في ما يخص استنباط الأحكام الشرعية فهناك الكثير من الروايات التي حذرت من الإفتاء بالرأي فمثلاً عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم ، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادَّ الله حيث أحلَّ، وحرَّم فيما لا يعلم)، وهذا ما وقعت فيه بعض المناهج الاجتهادية التي اعتمدت على مجموعة من الأصول الظنية مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع وغير ذلك من الأصول التي تجعل الرأي الشخصي للفقيه هو الحاكم على أحكام الله، وهذا النوع من الاجتهاد كما هو واضح حرام ولا يجوز العمل به، وبالتالي هو امر سلبي بالمطلق.

وقد أسس علماء الشيعة منهجاً اجتهادياً يجعل الفقيه أكثر موضوعية في استنباطه للحكم الشرعي، وقد عمل الأصوليين الشيعة في الأمر بحذر شديد لكثرة الأخبار الناهية عن العمل بالرأي، كما أن معارضة الأخباريين للاجتهاد ساعدت على جعل أصول الفقه أكثر دقة وانضباطاً، وبخاصة مدرسةِ الوحيد البهبهاني التي اهتمت بالرد على الأخبارية مما أدى إلى تطوير علم الأصول وتنقيحه، والمتابع للنقاش الأخباري الأصولي يقف على الدقة العلمية لعماء الأصول والمراقبة اللصيقة من الاخباريين، وقد أدى كل ذلك إلى تأسيس منهج اجتهادي أكثر انضباطاً وموضوعية.

وعليه فإن الفقيه الشيعي يكتفي في استنباطه للحكم الشرعي على القرآن والسنة من دون الاعتماد على القياس، أو الاستحسان، أو سد الذرائع، أو فقه الصاحبي، أو شرع من قبلنا، أو عمل أهل المدينة، أو غير ذلك من المباني الظنية والمحرمة شرعاً، وفي حال عدم توفر الحكم في القرآن والسنة يلجا الفقيه للأصول العملية أو القواعد الفقهية التي عبدتنا النصوص بالرجوع إليها في تلك الحالة، ومع أن الشيعة نصوا على أن العقل هو الأصل الثالث بعد القرآن والسنة، إلا أنهم لم يحتاجوا إليه عملياً في استنباط الأحكام الشرعية، وكل ما هو موجود هو مناقشته أصولياً في باب الملازمات العقلية، وقد أشار الشهيد الصدر لهذه الحقيقة في مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة، حيث قال: (ونرى من الضروري أن نشير أخيرا بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدنا بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة، وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة بامتدادها المتمثل في سنة الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام باعتبارهم أحد الثقلين الذين امر النبي (ص) بالتمسك بهما ولم نعتمد في شيء من هذه الفتاوى على غير هذين المصدرين، أما القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغا شرعيا للاعتماد عليها تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام. وأما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أو لا فنحن وان كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به ولكنا لم نجد حكما واحدا يتوقف اثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة وأما ما يسمى بالإجماع فهو ليس مصدرا إلى جانب الكتاب والسنة ولا يعتمد عليه إلا من اجل كونه وسيلة إثبات للسنة في بعض الحالات، وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة ونبتهل إلى الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بهما ومن استمسك بهما (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) (الفتاوى الواضحة، ج1، ص 15).

 والذي يرجع للموسوعات الاستدلالية لفقهاء الشيعة سوف يقف على حضور النصوص في كل بحوثهم الفقهية، وفي حال عدم وجود النص في المسألة فإن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بينوا الأصول التي يتم الرجوع إليها، وتسمى هذه الأصول بالأصول العملية لأنها تكشف عن الموقف العملي في حال لم يكن في الموضوع نص شرعي، مثل الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، وغيرها، وقد بين الأصوليون الشيعة أن حجية تلك الأصول ليس في كشفها عن الواقع وإنما في نفس طريقيتها المجعولة من قبل الشارع، فينحصر مؤداها في المنجزية والمعذرية، فاستنباط الأحكام الشرعية يجب أن يقوم على منهجيات يحددها الشرع بنفسه، فليست كل منهجية أبدعتها العقلية البشرية تكون صالحة في ذلك، وبخاصة الطرق ذات المؤدى الظني، لأن حجية الدليل إما أن تكون ذاتية، فلا تحتاج إلى جعل الجاعل، وهي تختص بخصوص العلم الكاشف عن الواقع، فليس بعد كشفه والتعرف عليه شيء، فتكون الحجية حينئذ من اللوازم العقلية التي لا تنفك عنه، وإما أن تكون الحجة مجعولة؛ وهي التي لا تنهض بنفسها في مقام الاحتجاج، بل تحتاج إلى من يسندها من دليل عقلي أو شرعي، يقول السيد محمد تقي الحكيم: (وهي إنما تتعلق فيما عدا العلم بالأمارات والأصول إحرازية أو غير احرازية، أي فيما ثبتت له الطريقية الناقصة التي لا تكشف عن الواقع إلا في حدودٍ ما، أو لم تثبت له لعدم كشفه عنه) (أصول الفقه المقارن ص 32)، ولعدم تمامية هذه الأصول لكشف الواقع لا يمكن أن تصلح طريقاً لمعرفة أحكام الله إلا في حالة وجود سند شرعي أو دليل عقلي قطعي أمر باتباعها، يقول السيد الحكيم: (ومع كون الأمارات أو الأصول لا تملك الحجية الذاتية بداهة، فهي محتاجة إلى الانتهاء إلى ما يملكها، وليس هناك غير القطع، بجعل الحجية لها من قبل من بيده أمر وضعها ورفعها) (أصول الفقه المقارن ص 32). وبهذا نرفع اليد عن العمل بأي طريق لا يكون حجة بذاته أو اكتسب الحجية بدعم الدليل القطعي بوجوب العمل به، وقد حذر الله سبحانه من العمل بالظن إلا ما أذن به، قال تعالى: ﴿آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.

وعليه فإن الضابط في الاجتهاد هو أن يكون قائماً على البحث عن الحكم الشرعي في الكتاب والسنة مستعيناً بالمناهج التي توجب أما القطع بحكم الله وأما الظن المعتمد شرعاً كما دلت عليه النصوص، وبعد الاتفاق على هذه الأصول والقواعد تبقى هناك مساحة للتباين بين الفقهاء في مقاربة كل أصل من هذه الأصول، والاختلاف من هذا النوع أمر طبيعي ومتصور في جميع التخصصات، فمثلاً علم الطب يقوم على أصول وقواعد أساسية تمثل مشتركاً بين جميع الأطباء، إلا أن تشخيص بعض الأمراض وتحديد العلاجات المناسبة قد يختلف من أخصائي لأخر، وكذلك الحال في عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فمع أنها عملية دقيقة وخاضعة لمجموعة من الشروط والضوابط إلا أن هناك مساحة لملكة الاستنباط بين فقيه وآخر، ومن هنا قد يختلف فقيهان في تقديرهم للمسألة أو في فهمهم للأدلة الخاصة بتلك المسألة أو في مقاربتهم للمباني الأصولية والفقهية، وكل ذلك امر إيجابي طالما يتحرك في إطار الأصول والقواعد المنضبطة علمياً ومنهجياً.