بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 123]
صدق الله العلي العظيم
[اشترك]
هل أن اعتماد المسلمين على الأسباب الغيبية سبب في تخلف المسلمين؟
الثقافة الإسلامية زرعت في نفوس المسلمين الاعتماد على الأسباب الغيبية، تعلم المسلمون أن الصدقة وصلة الرحم والنافلة والدعاء أسباب لتحصيل الرزق، أسباب لدفع الأمراض والأخطار، أسباب للوقاية من الأخطار المحدقة، فتعلم المسلمون على مجموعة من الأسباب الغيبية، فهل حصلت هذه الآثار؟
الغرب بنى حضارة شامخة وتقدم في المجال التكنولوجي وسيطر على الفضاء ولم يعمل بهذه الأسباب الغيبية، بينما المسلمون الذين عملوا بهذه الأسباب وواظبوا على الصدقة والنافلة وصلة الرحم لم تتقدم حضارتهم، ولم يحصل لهم تقدم في المجال التكنولوجي أو في المجال التقني أو في المجال المهني، هل هذا يعني أن اتكاء المسلمين على الأسباب الغيبية كالصدقة وصلة الرحم والدعاء سبب في تخلفهم وتقهقر مسيرتهم الحضارية؟
لكي نتناول هذا الموضوع نتناول محاور ثلاثة:
إحاطة عالم الغيب بعالم المادة.
العوامل التي تمنع من الوصول إلى آثار الأسباب الغيبية.
المدد الغيبي للإنسان بمختلف أنواعه.
المحور الأول: إحاطة عالم الغيب بعالم المادة
إن عالمنا الذي نعيش فيه وهو عالم المادة هو عالم الحركة، كل شيء متحرك في هذا العالم، والحركة التي يعيشها هذا العالم هي حركة بين الوجود والعدم، بين الموت والحياة، لذلك هذه الحركة تحتاج إلى محرك في كل آن، حركة هذا العالم تحتاج إلى مدد ومصدر للحركة في كل لحظة وفي كل ثانية، لذلك لا يمكن أن يستغني عالم المادة لأنه عالم الحركة عن عالم الغيب الذي هو مصدر الحركة ومصدر المدد.
حتى نقرب هذه الفكرة، القرآن الكريم تارة يعبر بعالم الملك، وتارة يعبر بعالم الملكوت، القرآن الكريم يقول: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1] ثم يشرح الملك ما هو ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2] عالم الملك هو عالم الموت والحياة، أي مُلْك أعظم من أن يكون بيده الموت وبيده الحياة، عالم المُلْك هو عالم الموت والحياة هذا هو العالم الذي نعيش فيه.
وهناك عالم آخر عبَّر عنه القرآن بالملكوت، قال تبارك وتعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: 83] ما معنى ملكوت كل شيء؟ يعني عالم الغيب، عالم الغيب محيط بكل شيء، ومسيطر على كل شيء، لا يوجد شيء في عالمنا عالم المادة إلا ووراءه ملكوت؛ أي وراءه غيب مسيطر عليه، وراءه غيب محيط به ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 123]
إذن عالم الغيب محيط بعالمنا عالم المادة تماماً كإحاطة حركة اليد بحركة المفتاح، عندما تفتح الباب بالمفتاح تقوم بحركتين: حركة اليد، وحركة المفتاح، حركة اليد هي المسيطرة، وحركة المفتاح هي التابعة، حركة اليد محيطة بحركة المفتاح، تتحرك اليد فيتحرك المفتاح، هكذا نسبة عالمنا إلى عالم الغيب، عالمنا حركة ومصدر الحركة ومدبر الحركة هو عالم الغيب، فعالم الغيب محيط بعالم المادة كإحاطة حركة اليد بحركة المفتاح.
حتى أبين الموضوع بأكثر من هذا، لاحظ في موقع ساينس ديلي هناك دراسات علمية استغرقت أربع سنوات، وهذه الدراسات قامت على ألفين وستين مصاباً بسكتة قلبية، أقيمت هذه الدراسات برعاية جامعة ساوث هابتون في إنجلترا، والهدف من هذه الدراسات أن يكتشفوا هل هناك وعي بعد الموت، هل الإنسان بعد أن يموت يعي بما حوله أم لا، يقول الدكتور سام بارنيا وهو أحد القائمين على هذه الدراسات، يقول: اكتشف أن 39% ممن عادوا بعد توقف القلب والرئتان والدماغ أي أن الجسم عاطل ويمضي فترة ثم يرجع بعد عملية إنعاش قاسية يرجع إلى الحياة قالوا كان لنا وعي، ومجموعة من هؤلاء 39% وصفوا الأحداث التي حصلت بعد السكتة القلبية بوصف مطابق للواقع، مع العلم أنهم توقف جسمهم كله عن العمل، وكما هو معروف أن الدماغ يتوقف بعد توقف القلب بعد عشرين أو ثلاثين ثانية فقط، فالدماغ عاطل والقلب عاطل والرئتان عاطلتان ومع ذلك هذا الإنسان يعيش وعياً ويدرك ما حوله، ويدرك ما عند الناس، ويدرك ما يعيشه الناس وهو في هذه الحالة، هذا يعني أنه بعد الموت هناك حياة وهناك وعي، وأن هذا الوعي هو وعي متصل بعالم الدنيا وليس في عالم آخر، أي هذا الذي يموت يرى الناس ويرى أحوالهم وشؤونهم، ويرى جميع الحوادث التي تجري على الأرض، فهناك حياة وهناك وعي، وهناك وعي متصل بهذا العالم، كل ذلك يؤكد التمازج والتواصل بين عالم المادة وعالم الغيب.
عالم الغيب محيط بعالم المادة، إذا مات الإنسان وانتقل إلى عالم الغيب لا يعني أنه انتهى وعيه بعالم المادة بل ما زال واعياً ومدركاً ومحيطاً بعالم المادة، من هنا تقول الآية المباركة ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19] إلى أن قال تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]، إذن تواصل عالم المادة بعالم الغيب بحيث يبقى عالم الغيب «عالم الملكوت» مسيطراً ومهيمناً على عالم المادة هذا التواصل تؤكده الدراسات العلمية.
المحور الثاني: العوامل التي تمنع من الوصول إلى آثار الأسباب الغيبية
ما هي العوامل التي تمنع الوصول إلى آثار الأسباب الغيبية؟
كثير من الناس يقول المريض يتصدق ولا يشفى من مرضه، والسجين يبكي ويدعو ويصلي ولا يفرج عنه، وكثير من الأسباب الغيبية نحن نمارسها كالأدعية، والصدقات، والنوافل، والصلوات ولا نرى لها أثراً في حياتنا، لا نرى شفاء من مرض، ولا نرى إفراجاً من سجن، ولا نرى تخلصاً من خطر، ولا نرى نجاة من أخطار محدقة بنا، إذن أين تأثير هذه الأسباب الغيبية التي ورد في النصوص أن لها أثراً؟
ورد عن الرسول : ”الصدقة تدفع البلاء“ وقد أبرم إبراماً، وورد عنه أن صلة الرحم تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتنسئ الآجال، إذن أين آثار هذه الأسباب الغيبية التي زرعتها الثقافة الإسلامية فينا؟
نذكر عاملين لعدم الحصول على أثر الأسباب الغيبية:
العامل الأول:
اقتضاء السبب لا ينتفي بوجود الموانع، قد يكون هناك سبب مؤثر لكن هناك مانع يمنع من تأثيره، وهذا موجود في الأسباب المادية كذلك هو موجود في الأسباب الغيبية، هل الدواء سبب لشفاء المرض دائماً! كثير من المرضى يشرب الأدوية ويتناولها بدقة ومع ذلك لا يشفى من مرضه، كثير من الناس من يواظب على الدراسة بجد واجتهاد ومع ذلك لا يحصل على المعدل المطلوب والمنشود، كثير من الناس يدخل في وظيفة ويكدح ويتعب في وظيفته كي يحصل على ترقية مناسبة ولا يحصل عليها، إذن حتى الأسباب المادية تفشل وتتعثر أحياناً، شرب الدواء سبب مادي، الدراسة سبب مادي، الوظيفة سبب مادي، حتى الأسباب المادية تتعثر وتفشل لوجود مانع، كذلك الأسباب الغيبية، الصدقة سبب للشفاء وسبب لدفع البلاء لكن هذا السبب قد لا يؤثر لوجود مانع، والمانع هو إصرارنا على الذنوب وعلى المعاصي، إصرارنا على الظلم، إصرارنا على الاعتداء، كيف يطالب الإنسان ربه بأن يكون لصدقته أثر ولصلاته أثر ولدعائه أثر وهو مصر على الذنب والظلم وعلى الاعتداء، لا يجتمع الأمران، كما أن الأسباب المادية من شرب الدواء ومن الدراسة قد تفشل لوجود مانع، فالأسباب الغيبية أيضاً قد تفشل لوجود مانع من الظلم والذنب والاعتداء على الآخرين ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]
العامل الثاني:
عدم الإحاطة بمساحة التأثير، الإنسان سجين الحواس الخمس، يفكر أن الدنيا ينالها كلها بالحواس الخمس، ببصره، بسمعه، بلمسه، بذوقه، بشمه، يظن هذا الإنسان لقصور نظره ولقلة معرفته أن الدنيا بين حواسه الخمس، وما لا يناله بحواسه الخمس إذن لا وجود له في هذه الدنيا، هذا نتيجة قصر النظر وقلة المعرفة، وهذا ليس صحيحاً.
لاحظوا أن إحاطة الإنسان بمساحة التأثير إحاطة قاصرة، ربما صدقتك اليوم لا تؤثر إلا بعد سنة، ربما صلة الرحم اليوم لا تؤثر إلا بعد سنين، ربما دعاؤك اليوم لا يؤثر عليك ولكن يؤثر على جارك أو على أخيك أو على أبنائك، أنت لا تستطيع أن تحيط بمساحة التأثير، مثال: هناك نظرية في علم الرياضيات تسمى نظرية الفوضى أو تأثير الفراشة، هذه النظرية تقول أن الظواهر المفاجئة غير المتوقعة يمكن دراستها عبر معادلات رياضية لنكتشف أسبابها الخفية، كل شيء يمكن دراسته، سواء كانت ظواهر مفاجئة أو ظواهر غير مفاجئة، يمكن دراستها من خلال معادلات رياضية معينة، لا يوجد صدفة في هذا العالم، بل لكل مسبب سبب، والظواهر المفاجئة والظواهر غير المفاجئة يمكن دراستها، حتى الفوضى نستطيع أن ندرسها من خلال معادلات رياضية معينة.
قبل خمس وأربعين سنة وبعد مئة وتسع وثلاثين اجتماع للجمعية الأمريكية للتقدم العلمي، طرح الدكتور لوريتينز سؤال قال فيه: هل يمكن أن تؤثر رفرفة جناح الفراشة في البرازيل على إعصار في تكساس؟
في علم نظرية الفوضى ممكن أن يؤثر، ممكن لرفرفة جناح فراشة أن يكون مؤثراً في إعصار بعد فترة في مدينة تكساس لا بمعنى أنه السبب المباشر بل بمعنى أن هذه الرفرفة محفز لحصول عوامل متسلسلة تؤدي إلى وقوع إعصار في مدينة تكساس، وعلى هذا تأسس من هذه القصة فرع في الرياضيات مصطلح اسمه نظرية الفوضى أو تأثير الفراشة.
فالظواهر على قسمين: ظواهر متوقعة مثل الظواهر الناشئة عن الجاذبية، وعن الكهرباء، وعن التفاعلات الكيميائية، وهناك ظواهر غير متوقعة كسوق المال لا يمكنك أن تتوقع بنتائج سوق المال دائماً، والإضرابات الشعبية في كثير من البلدان، وكذلك عمل الدماغ البشري حيث لا يمكن توقع نتائجه دائماً، وهذه كلها ظواهر تسمى فوضى ومع ذلك يمكن دراستها عبر معادلات رياضية لنكتشف أسبابها الخفية، فليس كل ما تظن أنه عمل حقير معناه لا سببية له، قد تظن أن هذه الحشرة الصغيرة لا أثر لها، ربما هذه الحشرة الصغيرة تنشر وباء عالمياً، قد تظن أنت أن هذا الفيروس الميكروسكوبي لا أثر له وربما يكون هذا الفيروس منشأ لمرض خطير، والقرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: 26] فلا تحتقر شيئاً صغيراً أو قليلاً، فربما يكون محفزاً ومسبباً لآثار وحوادث خطيرة.
من هنا نريد أن نقول أيها الإنسان أنت لا قدرة لك على الإحاطة بمساحة الأسباب والمؤثرات فلا تحتقر الصدقة، ولا تحتقر صلة الرحم، ولا تحتقر الدعاء، فربما يكون لهذه الأسباب آثار مستقبلية كبيرة لا تدركها في الوقت الحاضر، وقد لا تشعر بتأثيرها في ظرفها ووقتها، كما عُبِّر عن هذه النظرية بتأثير الفراشة.
المحور الثالث: المدد الغيبي للإنسان بمختلف أنواعه
ما هي آثار المدد الغيبي على الإنسان؟
نذكر هنا:
أولاً: هل من أسباب تخلف الشرق الأوسط أو بلاد المسلمين عن الركب الحضاري أنه اعتمد على أسباب غيبية كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين أم لا؟
هناك فرق بين المسلمين والبلاد الإسلامية، كثير من المسلمين في الغرب مبدع، وكثير من الأبحاث العلمية في الغرب التي ساهمت في نظريات وساهمت في مخترعات وساهمت في إنتاجات عظيمة مصدرها علماء مسلمون، فليست المشكلة في المسلمين بل في البلاد الإسلامية، المسلمون مبدعون أينما كانوا، ليس السبب في تخلف بلاد المسلمين حضارياً اعتمادها على الإيمان أو اعتمادها على الأسباب الغيبية، السبب في تخلفها انشغالها بالصراعات والخلافات المذهبية والعرقية والسياسية وغيرها، إذا قرأت خارطة بلاد المسلمين لرأيتها منشغلة بالصراعات والخلافات والمشاحنات، ولأدركت أن سبب تخلفها هو هذه الصراعات وليس سبب تخلفها أنها تعلقت بالإيمان بالله وبالأسباب الغيبية.
ثانياً: عندما نقرأ آثار المدد الغيبي على الإنسان يتجلى لنا المدد الغيبي على الإنسان من خلال ثلاثة آثار:
1» الأثر الأول: الإلهام، هل تستطيع فقط بالتجربة والعقل أن تصل إلى النتائج! لا، أحياناً لا تستطيع أن تصل إلى النتائج إلا ببركة إلهام يصلك من الله تبارك وتعالى، لاحظوا آينشتاين صاحب النظرية النسبية الخاصة والعامة لديه تصريح معروف يقول فيه أنه توصل إلى نظريته بإلهام ولم يتوصل إليها عبر التجربة أو عبر الاستدلال العقلي، الوصول إلى النتائج المهمة لا ينحصر في التجربة والاستدلال العقلي قد يكون هناك سبب ثالث للوصول إلى النتائج، كثير من المخترعات التي نحن اليوم نمارسها وكثير من وسائل الحياة وكثير من النتائج العلمية المهمة وصل إليها العلماء عبر الإلهام وليس عبر التجربة والاستدلال العقلي، والإلهام صورة من صور المدد الغيبي من الله تبارك وتعالى.
2» الأثر الثاني: الاستقرار نتيجة تغذية الشعور بالانتماء، تقول نظرية ماسلو وهو أحد علماء الإدارة: الحاجات الأولية للإنسان بمجرد أن يخرج من بطن أمه هي الحاجة إلى الحب، والتقدير، والانتماء، قبل حاجته إلى الطعام والشراب، يحتاج الإنسان إلى أن يشعر بمحبة والديه ومحبة أسرته، يحتاج الإنسان إلى التقدير؛ أن تقدر جهوده وإنجازات واختراعاته، الحاجة إلى الانتماء؛ عندما يشعر الإنسان بأنه ينتمي إلى مصدر من المصادر، الشعور بالانتماء يضفي على الإنسان شعوراً بالهدوء والراحة والاستقرار، الطفل دائماً يلجأ إلى أمه مباشرة لأن وصوله إلى أمه يعطيه شعوره بالانتماء إلى أصله، وشعوره بذلك يضفي على الطفل حالة من الهدوء والاستقرار والاطمئنان، هذا ما تؤكده نظرية ماسلو، الشعور بالانتماء هو الذي يغذي الإنسان بالاستقرار والاطمئنان، ولذلك في مقارنة بين الغرب المتقدم تكنولوجيا وبين الشرق المتخلف تكنولوجياً أيهما تجده يعيش الشعور بالانتماء الذي يضفي حالة من الاستقرار والاطمئنان؟ التعلق بالله، التعلق بعالم الغيب، الارتباط بعالم الغيب يغذي الشعور بالانتماء، لأن الإنسان إذا تعلق بالله يشعر بالانتماء إلى مصدره الأول، وسببه الأول، وعلته الأولى، الشعور بالانتماء إلى الله يضفي على الإنسان حالة من الهدوء والاستقرار والاطمئنان، والقرآن الكريم يقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]
هذا كلام علمي وليس كلام خطابي، اقرأ التقارير تجد أن أكثر العيادات النفسية انتشاراً في العالم موجودة في الغرب، وأكثر العيادات رواجاً وانتشاراً في الغرب هي العيادات النفسية لانتشار مرض القلق والاضطراب النفسي، لانتشار مرض التأرجح والتذبذب، لانتشار مرض عدم الاستقرار ولذلك يعيش الغرب أكبر معدلات الانتحار من الشرق، الغرب يعيش ألوان وأشكال من الأمراض النفسية أضعاف وأضعاف ما يعيشه الشرق المتخلف تكنولوجياً، لأن كثيراً من أبناء الغرب فقد الإيمان ففقد الشعور بالانتماء، ولأنه فقد الشعور بالانتماء فقد حالة الاطمئنان والهدوء والاستقرار، العبادة تضفي عليك اطمئناناً، الدعاء يضفي عليك استقراراً، الصدقة وصلة الرحم تضفي عليك هدوء واستقراراً وتخلصك من براثن مرض القلق والتأرجح.
إذن أصبح لعالم الغيب أثر، ليس عالم الغيب منحصر في أن نخترع قنبلة نووية وإلا ما لعلم أثر، ليست الآثار منحصرة في عالم المادة، الإنسان يحتاج إلى السعادة الروحية أكثر من السعادة المادية، السعادة في نظر الغربي أن يملك حساباً في البنك معروفاً، أن يملك سيارة فارهة، أن يملك فيلا فخمة، أما السعادة الحقيقة فهي أن تعيش هدوءً واستقراراً واطمئناناً وأن تكون متخلصاً من حالة القلق والتأرجح والكآبة والعزلة، هذه هي السعادة الحقيقة، والطريق إلى السعادة الحقيقية الارتباط بعالم الغيب، والارتباط بالله تبارك وتعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]
3» الأثر الثالث: أن لهذه الأسباب الغيبية أثراً اجتماعياً وإن لم يكن لها أثر مادي، صلة الرحم توثق الروابط الأسرية، بر الوالدين يمنح الأسرة استقراراً واطمئناناً، حتى الدعاء عندما أدعو لأخي المؤمن بظهر الغيب يصنع علاقة روحية بيني وبين أخي المؤمن ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] فهذه الأسباب الغيبية إن لم يكن لها أثر مادي فلها أثر اجتماعي واضح في توثيق الروابط الاجتماعية بين أبناء المجتمع.
ثالثاً: الابتلاء، أحيانا يكون الهدف هو الابتلاء، لماذا لا أثر للصدقة ولا أثر للدعاء؟ لأنك محط الابتلاء، والابتلاء هدف من الأهداف، عندما نقرأ آيات القرآن الكريم نجد أنها تركز على الابتلاء كهدف من الأهداف يقول تبارك وتعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا «1» إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا «2»﴾ [الإنسان: 1 - 2]
ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ «155» الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ «156» أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «157»﴾ [البقرة: 155 - 157]
ويقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]
الابتلاء يصنع شخصيتك ويصقلها، الابتلاء يجعلك أكمل الناس عملاً، وورد عن الرسول : ”أكثر الناس بلاء هم الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأولياء، ثم الناس برتبهم المختلفة“ الأنبياء والأولياء معرضون للابتلاء من هنا نرى أن النبي عاش ابتلاء وأذى ما عاشه نبي آخر، وقال: ”ما أوذي نبي مثل ما أوذيت“ والإمام أمير المؤمنين قاسى من مناوئيه بلاء شديداً، وخاض حروباً طاحنة من أجل الخلاص من شر مناوئيه، وهذا الإمام الحسن وهذا الإمام الحسين كلهم كانوا رموز في مجال الابتلاء، ابتلوا بما لم يبتلي به أحد غيرهم.