فقهيات

أقسام فرعية

أقسام فرعية

هل يحق للمرأة التصدي لـ ’الاجتهاد والمرجعية’؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "تولي القضاء والمرجعية" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

تولي القضاء والمرجعية

السؤال: ما هو الفرق بين المفتي والقاضي؟

الجواب: القضاء هو الحكم بين الناس فيما يقع بينهم من التنازع في حق أو نحوه ويفترق عن الإفتاء في كونه انشاء الحكم في مورد التنازع بخلاف الإفتاء الذي هو إخبار عن الحكم في المسألة الشرعية. مضافاً إلى أن مورد القضاء إنما هو القضايا الشخصية بخلاف الإفتاء فأن مورده هو الأحكام الكلية دون نظر إلى تطبيقها على مصاديقها نعم قد يتصدى الفقيه لتطبيق الحكم الكلي على الواقعة الخاصة فيخبر بالحكم الجزئي تسهيلاً للأمر على المستفتي كما إذا سئل عن كيفية تقسيم تركة ميت فحدد المفتي حصة كل وأحد من ورثته حسب فتواه.

السؤال: إذا بلغت المرأة مرحلة الاجتهاد وتمكنت من استنباط الحكم الشرعي فهل يجوز لها التقليد وهل يقلدها الآخرون؟

الجواب: لا يجوز لها التقليد ولا يجوز تقليدها.

السؤال: ما هو رأي سماحتكم في تصدي المرأة لأمر القضاء أو ما يتقدمه من التحقيق في الدعاوي الحقوقية والجزائية والأمور الحسبية. أو ما يتعقبه من إبلاغ الحكم أو تنفيذه؟

الجواب: ليس لها الحكم في المنازعات ولكن لا مانع من تصديها لمقدماته وما يتعقبه من الأمور المذكورة.

2022/01/11

هل يجوز للمرأة أن تعتمد على زوجها في اختيار ’مرجع التقليد’؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "التقليد للمؤمنات" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

أحكام التقليد

السؤال: أرجو منكم إدلائي بمعلومات مفصلة حول التقليد لقلة معلوماتي في هذا الموضوع؟

الجواب: التقليد عملية طبيعية في حياة الإنسان وحقيقتها الرجوع إلى أهل الخبرة في كل فن لمن هو جاهل به، وتمشياً مع ذلك فقد أذنت الشريعة المقدسة لمن يجهل الأحكام الشرعية أن يرجع فيها إلى الخبير وهم المجتهدون في أحكام الله وبما أن السيرة جرت أيضاً في الملاكات الخطيرة جداً أن يراجع فيها الأكثر خبرة من الجميع في صورة الاختلاف فالشريعة أيضاً عينت رأي المجتهد الأعلم للعمل في صورة الاختلاف.

السؤال: بعض النساء لا يميزن في أمور التقليد هل يكتفين في الرجوع الى قول من يرشدهن اليه؟

الجواب: نعم مع حصول الاطمئنان لهن بذلك.

السؤال: ما حكم أعمال المرأة التي لم تقلد؟

الجواب: ما كانت أعمالها مطابقة لفتوى من يجب التقليد فعلاً فلا تجب الإعادة بل لا تجب مطلقاً إذا كانت جاهلة قاصرة إلاّ إذا كانت قد أخلت بركن من أركان الواجب.

السؤال: هل يجوز لفتاة في بداية تقليدها تقلد المجتهد المتوفى؟

الجواب: لا يجوز بل تقلد الأعلم الحي.

السؤال: هل يجوز للزوجة والتي تستصعب البحث عن الأعلم أن تعتمد على زوجها في ذلك فتفعل كما يفعل هو اعتماداً منها عليه؟ وكذلك الفتاة اعتماداً منها على أبويها؟

الجواب: يجوز إذا حصل لها الاطمئنان بذلك.

2022/01/10

متى يجب على ’المرأة’ ارتداء الحجاب؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "البلوغ للفتيات" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: ما هو السن الذي يجب على البنت الصلاة والصيام؟

الجواب: بعد إكمال تسع سنين هلالية.

السؤال: ما هو السن الذي يجب على المرأة فيه الالتزام بالحجاب وسائر التكاليف الشرعية؟

الجواب: إذا اكملت التاسعة القمرية وجب عليها ذلك.

السؤال: ماذا تعني المرأة البالغة الرشيدة المذكورة في الرسالة العملية؟

الجواب: البالغة هي التي أنهت تسع سنين هلالية والرشيدة التي تدرك خيرها وشرها ويعرف الرشد بملاحظة تعاملها مع الأخرين إذا لم تكن مالكة لأمرها ومستقلة في شؤون حياتها.

السؤال: كثير من النساء تبدأ الصوم عند سن الثانية عشر من عمرها لقصورها في فهم وظيفتها قبل هذه السنة أو لأخذها الأحكام الشرعية من والديها في الوقت الذي يعتقدان أن تكليف البنت يبدأ من هذه السن فما هو تكليف البنت الآن بعد أن فهمت وظيفتها؟

الجواب: إذا كانت آنذاك واثقة من غير تردد بأنها غير مكلفة بالصيام فعليها القضاء دون الكفارة.

السؤال: لو تقدمت علامات البلوغ او تأخرت عن موعدها المعتاد بعلاج كما لو استعمل دواءً أدى الى تقدم الاحتلام او تأخره او تقدم الحيض عن سن البلوغ او تأخره عن السن المعتاد فهل يكون الاعتبار هو الموعد المعتاد ام المتقدم؟

الجواب: اما الحيض فلا يتقدم على بلوغ المرأة تسع سنين فكل دم تراه الصبية قبل بلوغها هذا السن فليس دم حيض واما خروج المني فهو علامة البلوغ في الذكر متى تحقق وبأي سبب تحقق.

2022/01/09

هل يرفض القرآن «تقليد الفقهاء»؟!
التقليدُ الأعمى الذي ذمَّه القرآن.. مدلول آيات الذمِّ للتقليد، قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ / وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)([1]).

[اشترك]

الواضح مِن مساق الآية المباركة أنَّها بصدد الذمِّ للتقليد والتشنيعِ على مَن يتَّخذ التقليد ذريعةً يُبرِّر بها ما يعتمده من أفكار ورؤى ومعتقدات، وليست هذه الآية وحدها المتصدِّية لذمِّ التقليد بل إنَّ ثمة أياتٍ عديدة شنَّع فيها القرآنُ الكريم على مَن يتَّخذون التقليد منهجًا في مختلف شؤونهم الحياتية والاعتقادية، فمن ذلك قولُه تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)([2]) ويقول الله تعالى في سورة الأنبياء: (قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ / قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)([3]) فمثلُ هذه الآيات متصدِّية لتسفيه ما يُبرِّر به هؤلاء سلوكَهم ومعتقداتِهم، فهم يتذرَّعون في ذلك بتقليد الآباء، والقرآن يُجيبهم أنَّه كيف يصحُّ تقليد الآباء إذا كانوا لا يعقلون ولا يهتدون!! وهل ذلك إلا من اعتماد مَن يجهل الطريق إلى غايته على آخر مثله يجهل الطريق ألن يؤدِّي ذلك إلى المزيد من الضياع والضلال.

إنَّ القران بذمِّه للتقليد يدعو للتحرُّر من التعصُّب للآباء والقوميَّات والمورثات التي نسجتها الثقافات المبتنية على العادات والتقاليد المأنوسة على غير هدىً من الله تعالى، فهو يدعو للتعقُّل والتفكُّر والتأمُّل والتدبُّر والمراجعة لمجمل الأفكار والرؤى التي ليس لها منشأ سوى الانسياق والأنس بما كان عليه الأوَّلون.

الآيات تذمُّ تقليد الجاهلين

هذا هو مفاد الآيات المتصدِّية لذمِّ التقليد، فهي تذمُّ التقليد للجاهلين وتذمُّ إغفال العقل والانسياق وراء المأنوس والمألوف على غير هدىً وتأمُّل، فهي ليست بصدد الذمِّ لمطلق التقليد كما توهَّم البعض وتمسَّك بهذه الآيات المباركة للترويج لدعوى ان التقليد في الأحكام الشرعية منافٍ للقرآن الكريم وأنَّ على كلِّ أحدٍ من المكلَّفين أنْ يعتمد رأيه وجُهده للوصول إلى الأحكام الشرعيَّة دون أنْ يعتمد في ذلك على أحد أو يلتزم بفتوى أحد، فهو عاقل وهمْ عقلاء، ومصادر التشريع متاحة فله أنْ ينظر فيها ويستنبطَ منها حكمَ الله تعالى فيما يتَّصل بمختلفِ شؤونه.

فالجوابُ عن هذه الدعوى يتَّضح جليًّا بأدنى تأمُّلٍ في الآيات التي تلوناها، فهي إنَّما تذمُّ التقليد للجاهلين، والتقليدَ المبتني على التعصُّب للآباء والمورثات القوميَّة، وتذمُّ التقليد الناشئ عن الأنس بالمألوف المناسب للأهواء، وأما التفليد الذي يعتمدُه العقلاء بما هم عقلاء في شؤونهم الحياتية فإنَّ الآيات ليست متصدِّية لذمِّه، فتقليدُ غير المتخصِّص لذوي التخصُّص في موردِ تخصُّصهم ليس من التقليد المذموم بل هو الوسيلة المعتمدَة لدى العقلاء في تدبير شؤونهم، فالعقلاء على اختلاف مشاربهم وأديانهم لا يختلفون في أنَّ تقليد غير المتخصِّص للمتخصِّص أمرٌ ليس راجحًا وحسب بل هو ضرورة يقوم عليها نظامُ الحياة، ولولاه لما أمكن للحياة الانسانيَّة أنْ تنتظم أو تستمر، ولو استمرَّت فإنَّه لن يُتاح لها النمو والتكامل، إذ ليس في وسع كلِّ أحد الإحاطة بكلِّ العلوم والمعارف بل يتعسَّر على الإنسان الإحاطة بنوعين أو ثلاثة من العلوم، ولذلك جرت سيرةُ العقلاء على أنْ يتخصَّص كلُّ فريق في حقلٍ من حقول العلم والمعرفة، فإذا أتقنوه رجع الناسُ إليهم في ذلك العلم بما فيهم المتخصِّصون في علومٍ أخرى، فالمهندسون مثلًا وكذلك الفلاسفة والفقهاء وعلماء الفلك والفيزياء يرجعون كما يرجع سائر الناس إلى الأطباء في تشخيص أدوائهم واستفتائهم في وصف الدواءِ المناسب لهم، ويرجع الأطباءُ أنفسهم للمهندسين مثلًا وعلماء الفلك في الشؤون المتَّصلة بتخصُّصهم، فالطبيبُ الذي يجلس صباحًا في عيادته فيقصده الناسُ ويتحلَّقون حول مكتبه ينتظرون الإذن للدخول عليه واستفتائه فيما يجدونه من آلام، هذا الطبيب نفسُه يقصدُ مكتب المهندس عصرًا وينتظر الإذن للدخول عليه ليستفتيه ويستشيرُه فيما يتَّصل بتخصصه، بل إنَّ هذا الطبيب المتخصِّص في العظام مثلًا يرجع إلى طبيب القلب حين يجد ألمًا في قلبه، ويرجع طبيبُ القلب إليه حين تُكسر ساقُه أو يجد ألمًا في مفاصلِه، تلك هي سيرةُ العقلاء المنتِجة لانتظام الحياة وتكامل الإنسان، فلو كان البناء أن يتخصَّص الإنسان في كلِّ شيء لما وسِعه أن يُتقن شيئًا لسعةِ كلِّ حقل من حقول العلم وتشعُّبه ومحدودية الإنسان في سنين عمره وطاقته واستعداده الذهني، فالحياة لا تنتظم، والانسان لا يتكامل إلا حين يتم التقاسم للأدوار.

التقليد ضرورة عقلائية وعليه انتظام المعاش

ومن ذلك يتَّضح منشأ ضرورة الرجوع للفقيه الجامع للشرائط في التعرُّف على الأحكام الشرعية، فالعلم بالأحكام الشرعيَّة واستنباطها من مصادرها علمٌ واسع ومتشعِّب، شأنُه في ذلك شأنُ سائر العلوم، فلا يُتاح لكلِّ أحد الاستقلال في استنباط الاحكام من مصادرها، ليس لقصور الناس في عقولِهم واستعداداتِهم الذهنيَّة بل لأنَّهم في شغلٍ بشؤونهم وتخصُّصاتهم عن التمحُّض في تحصيل المقدِّمات المنتجة للقدرة على استنباط الأحكام وفق الضوابط العقلائيَّة. فكما أنَّ الفقيه الجامع للشرائط عاجزٌ لو انتابه ألمٌ عن تشخيص مرضِه وتشخيص الدواء المناسب له وذلك لتوقف التشخيص على مقدِّمات طويلةٍ وشاقَّة ليس له من الوقت ما يسع لتحصيلها واتقانها كذلك ليس وسع الطبيب وعالم الأحياء والفيزياء لضيق وقته واشتغاله بتخصُّصه ليس في وسعه الاحاطة بالمقدِّمات الطويلة والشاقة التي تُؤهِّله للقدرة على استنباط الاحكام الشرعية من مصادرها، ولذلك يرجع كلٌّ للآخر فيما يرتبط بتخصُّصه.

التقليد ليس مصادرة للعقول

وأمَّا القول بأنَّني عاقل وهم عقلاء، ومصادر التشريع متاحةٌ في الأسواق فهو قول انشائي ينطوي على مغالطة بيِّنة، فلا ريب أنَّك وهم من العقلاء، ولأنَّك من العقلاء لذلك ستُدرك بقليلٍ من التأمُّل والانصاف أنَّه لا يليق بالعاقل اقتحام حقلٍ من العلوم قبل الاتقان الكامل لأدواته ووسائله، ولو فعل فإنَّ العقلاء سوف تستهجنُ فعله ولن تثقَ بتشخيصه. فلو تصدَّى غير المتخصِّص في الطب لمعالجة المرضى ووصف الدواءَ لهم فإنَّ العقلاء سوف يستهجنون ذلك منه ولن يثقوا بتشخيصه، وسوف يرمون مَن يقصده ويعتمد قولَه من المرضى بالسفَه والحماقة، ذلك لأنَّهم يجازفون بأنفسهم لقبلوهم بعرضها على من لا خبرةَ له بالطب، وكذلك لو تصدَّى غير المهندس للإشراف على بناء جسر مثلًا فإنَّ العقلاء سوف يُعيبون على مَن يقبل بتصدِّيه لذلك، وسوف يحذرون من عبور هذا الجسر خشية انهياره بهم أو عليهم. وسوف يرمون هذا المتصدِّي بالتجاسر والحماقة، وهكذا هو الشأن في تصدِّي غير المتخصِّص في العلوم الدينية فإنَّ العلوم الشرعية لا تقلُّ شأنًا في عمقِها ودقَّتها وتشعُّبها عن سائر العلوم.

مصادر التشريع متاحة.. كذلك مصادر الطب والهندسة

ودعوى أنَّ مصادر التشريع مدوَّنة ومتاحة لكلِّ أحد كدعوى أنَّ كتب الطب والفلسفة والأحياء والفلك متاحة في الأسواق وعلى المواقع الإلكترونية، فهل يُصحِّح العقلاء مجرَّد النظر في كتب الطب التصدِّي لمعالجة المرضى وإجراء العمليات الجراحية؟! أم أنَّ ذلك يتوقَّف على أنْ يكون المتصدِّي واجدا لملكة الطبابة وأنَّ وصوله لهذه المرتبة لا يتمُّ إلا بعد جهدٍ مضنٍ يبذله في سبيل تحصيل هذه الملكة تحت رعاية ومتابعة ممن سبقوه في هذا التخصص فبعد أن يشرفوا على تعليمه سنين طوال ويمتحنوا اتقانه ويمارس تحت نظارتهم مهنة الطبابة ليتثبَّتوا من أهليَّته، حينذاك يعترفون له بالقدرة على مزاولة هذه المهنة، فيجد حينها العقلاء ما يُبرِّر رجوعَهم إليه واعتماد تشخيصه. فكما أنَّ مجرد النظر والمطالعة في كتب الطبِّ لا تُؤهِّل الناظر فيها لمزاولةِ مهنة الطبابة كذلك فإنَّ النظر في مصادر التشريع لا تُؤهل الناظر فيها لاستنباط الاحكام الشرعية.

فالقائل بأنَّ مصادر التشريع مُتاحة في الأسواق أشبه شيء بمَن يذهب للسوق فيشتري كلَّ أدوات النجارة ويحملُها إلى بيته فهل يتوهَّم عاقلٌ أنَّ ذلك وحده كافٍ لصيروته نجارًا؟!!.

وهنُ دعوى احتكار الفقهاء لفهم الدين

وممَّا ذكرناه يتَّضح وهنُ دعوى من يدَّعي انَّ الفقهاء يحتكرون فهمَ الدين لمجرَّد أنَّهم يفتون بعدم صلاحيَّة غير الفقيه لاستنباط الأحكام الشرعيَّة من مصادرها. فإنَّ ما يُفتي به الفقهاء يُفتي به الأطباءُ والمهندِّسون وعلماءُ الفيزياء والكيمياء والفلك، فكلُّ هؤلاء وأشباههِم لايحتكرون الفهم لعلومهم وإنَّما يُنبِّهون على شرطٍ مُدرَكٍ بالبداهة وهو أنَّ أحدًا لا يسعُه إبداء رأيٍ في علمٍ من العلوم ما لم يكن محيطًا بتفاصيله ودقائقه، فكلُّ مَن أراد أن يعطيَ رأيًا محترمًا في علمٍ من العلوم فإنَّ عليه أولًا أنْ يسلك الطريق الذي سلكَه العارفون بذلك العلم، فإذا بلغَ من ذلك العلم مبلغَ الاتقان ساغ له كما ساغ لغيره من العارفين بذلك العلم أنْ يُعطي رأيًا في أيِّ مسألةٍ من مسائلِه، وليس لأحدٍ أنْ يحجر عليه إبداء الرأي في مسائله بعد أنْ أصبح من ذوي الرأي في ذلك العلم.

ذلك هو منشأ ما يفتي به الفقهاء من عدم صلاحية كلِّ أحد لاستنباط الأحكام الشرعيَّة من مصادرها، فالفقاهة ليست حِكرًا على أحد بل هي متاحة لكلِّ أحدٍ سلك طريق الوصول إليها بقطع النظر عن جنسه وعِرقه، فإذا صرف في طريقها وقتَه وجهده واستجمعَ لتحصيل مقدِّماتها قواه وطاقته فأتقنَ علوم العربية بمختلف تشعُّباتها وأتقنَ علم المنطق وعلوم القرآن وقواعد التفسير، وصار من ذوي الرأي في علمِ الحديث والدراية وكلِّيات علم الرجال والطبقات، وأتقنَ علم الأصول وهو مِن أدقِّ هذه العلوم وأكثرها تشعُّبًا، فإذا صار من ذوي الرأي في هذا العلم وأحاط معها بالمهمِّ من فروع الفقه فحينذاك يتأهَّل لاستنباط الأحكام الشرعيَّة من مصادرها. وفيما عدا ذلك يتعيَّن عليه إمَّا الإحتياط إنْ كان قادرًا على تشخيص مواردِه أو التقليد كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)([4]) وكما قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([5]).

فالآية الأولى تُنِّبهُ على قضية كليَّةٍ مرتكزة في جبلَّة العقلاء، وهي أنَّ مَن لا يعلم يرجع إلى مَن يعلم، والآيةُ الثانية تُرشد إلى أنَّ المؤمنين لا يسعُهم كافَّة أن ينصرفوا إلى طلب العلم الديني وإلا لاختلَّ نظامُ معاشهم، لذلك يتعيَّن عليهم كفايةً أنْ ينفر من كلِّ فريقٍ منهم جماعةٌ لطلبِ العلم الديني، فإذا تفقَّهوا في الدين كان لهم التصدِّي للفتيا والانذار، وكان على المؤمنين الاستناد إليهم في الوقوف والتعرُّف على أحكام الدِّين لغرض التمثُّلِ لها، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

التقليد يخصُّ الفروع دون الأصول.. لماذا؟

ثم إنَّ هنا أمرًا يجدرُ بنا التذكير به رغم وضوحِه ممَّا تقدَّم، وهو أنَّ التقليد الذي يتعيَّن على المكلَّف سلوكَه إن لم يكن قد بلغَ رتبة الاجتهاد إنَّما يختصُّ بالفروع الشرعيَّة من الواجبات والمحرَّمات وسائر الأحكام، وأما أُصول الدين كالتوحيد والنبوَّة والامامة والمعاد فليست موردًا للتقليد بل يتعيَّن على كلِّ مكلَّف الوصول إليها بواسطة البرهان، وتحصيل اليقين بهذه الأصول اجمالًا لا يسترعي من المكلَّفين جهدًا مضنيًا ووقتًا طويلًا يختلُّ بصرفه نظامُ الحياة، فهي إمَّا أنْ تكون مُدرَكة بالفطرة التي لا يتوقَّف الإذعان بها على أكثر من التنبيه، وذلك مثل مسائل التوحيد الأساسيَّة أو تكون البرهنة عليها بحاجة إلى مقدِّمات بعضها بديهيَّة وبعضها ميسورة الفهم كمسائل النبوَّة وكذلك الإمامة، فإذا أذعَن المكلَّف بالنبوَّة أمكنَه الوصول للإمامة والمعاد بواسطة ما يثبتُ صدوره عن النبيِّ (ص) فالبرهان على صدق النبيِّ (ص) يكفي وحده للإيمان بما يخبر عنه من إمامة الأئمة (ع) والمعاد. وأمَّا تفاصيل المسائل الاعتقادية فيكفي الإيمان بها إجمالًا بمعنى أنْ يعتقد المكلف بأنَّ كل ما يثبت صدورُه عن النبيِّ (ص) فهو حقٌّ.

ومِن هنا لا يكون الإيمان اللازم بأُصول الدين بحاجةٍ إلى تخصُّص كما هو الشأن في الفروع التي يسترعي الوقوف على مدارِكها صرفَ العُمْر كلِّه في تحصيلها، فالإيمان بوجود الله تعالى أدركتْه تلك العجوز بفطرتِها حين سُئلت عنه فأجابت بقولها: البعرةُ تدل على البعير وأثرُ الأقدام يدلُّ على المسير أفسماءٌ ذات أبراج وأرض ذاتُ فِجاج ألا يدلَّان على الواحد القهار. والإيمان بالنبوَّة يثبتُ بمثل الإعجاز والآثار القطعيَّة على الصدق، فإذا ثبَتَ هذان الأصلان ثبتتْ بقية الأصول. وأمَّا الفروع الفقهيَّة فنظرًا لكثرتِها وسعتِها وتشعُّبها صارَ الوقوف على مداركِها وأدلتِها بحاجةٍ إلى تخصُّص، وذلك لا يُتاح لكلِّ أحد، فظروفُ الناس واستعداداتِهم متفاوتةٌ على أنَّ نظام الحياة يقومُ على تقاسم الأدوار.


الهوامش:

[1]- سورة الزخرف / 22، 23.

[2]- سورة البقرة / 170.

[3]- سورة الأنبياء / 53-54.

[4]- سورة النحل / 43، سورة الأنبياء / 7.

[5]- سورة التوبة / 122

2022/01/01

ما حكم بيع الملابس المطبوع عليها دعايات ’الخمور’؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "بيع الخمور والأعمال المرتبطة بها" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: هل يجوز استثمار الأموال في شركات بعض منتجاتها الخمور مع عدم إمكانيّة فرز ماله عن أموال غيره فيها؟

الجواب: لا تجوز المشاركة في إنتاج الخمور والتعامل بها.

السؤال: خطّاط مسلم يُعرض عليه بأن يخط قطعة لشرب الخمر أو لإحياء حفلة رقص أو لمطعم فيه لحم خنزير، فهل يجوز له ذلك؟

الجواب: لا يجوز له ذلك لما فيه من إشاعة الفاحشة وترويج الفساد.

السؤال: مسلم يشتري عمارة وهو لا يعلم بأنّ بها مشرب خمر ولا يستطيع إخراج مستأجره منه، ثمّ علم بعد ذلك بالأمر:

١ـ هل يحقّ له أخذ أجرة مشرب الخمر من المستأجر؟

٢ـ على فرض عدم الجواز فهل يجوز له أخذ الأجرة بإذن الحاكم الشرعي؟ وبأيّ عنوان؟

٣ـ لو فرضنا أنّه كان يعلم قبل شراء العمارة بوجود المشرب فيها، فهل يجوز له شراء العمارة مع عدم قدرته على إخراج مؤجر المشرب منها؟

الجواب: ١ـ لا يجوز له أخذ الأجرة بإزاء استغلاله للمكان مشرباً للخمر.

٢ـ حيث إنّه يستحقّ عليه أجرة مثل ذلك المكان للأعمال المحلّلة جاز له أن يأخذ بمقدار استحقاقه تقاصّاً ممّا يدفعه له بعنوان أجرة المشرب، كما يجوز له أخذه بعنوان الاستنقاذ إذا كان المعطي من غير المسلمين.

٣ـ يجوز شراؤه ولو مع العلم بوجود المستأجر المذكور وعدم تيسّر إخراجه.

السؤال: شخص يعمل في سوبر ماركت ومن ضمن عمله نقل صناديق الخمر، فهل يجوز له ذلك؟

الجواب: لا يجوز نقل الخمر.

السؤال: هل يجوز بيع ملابس توضع عليها صورة الخمر كدعاية لشربها؟

الجواب: يحرم لبسها والاتّجار بها.

السؤال: هل يجوز العمل كمضيّف طيران الذي يسمح بتناول وتقديم الخمور على متن الطائرة؟

الجواب: يجوز العمل ولا يجوز تقديم الخمر.

السؤال: هل يجوز للمسلم أن يعمل في محلّات البقالة التي يباع الخمر في زاوية منها وعمله هو استلام النقود فقط؟

الجواب: يجوز له تسلّم ثمن غير الخمر وكذا ثمن الخمر إذا كان المتبايعان من غير المسلمين.

السؤال: هل يجوز للمسلم إجارة نفسه لبيع الخمر أو تقديمه أو تنظيف أوانيه مقدّمة لشربه؟

الجواب: لا يجوز للمسلم تقديم الخمر لأيٍّ كان حتّى وإن كان مستحلّاً له، ولا يجوز له غَسل الصحون ولا تقديمها لغيره إذا كان ذلك الغَسل وهذا التقديم مقدّمة لشرب الخمر فيها.

كما لا يجوز للمسلم إجارة نفسه لبيع الخمر أو تقديمه أو تنظيف أوانيه مقدّمة لشربه، كما لا يجوز له أخذ الأجرة على عمل كهذا لأنّه حرام.

أمّا تبرير البعض لعملهم هذا بالاضطرار للحاجة الملحّة إلى المال فهو تبرير غير مقبول، قال الله سبحانه وتعالى: (ومَن يتّق الله يَجْعَل لَهُ مخرَجَاً وَيَرْزقه مِنْ حَيْثُ لا يحتسب وَمَنْ يَتَوَكَّل عَلَى الله فَهوَ حَسْبُهُ)، وقال عزّ من قائل: (إنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَة ظَالِمِي أَنْفُسِهِم قَالوا فِيْمَ كُنْتُم قالوا كُنّا مُسْتَضْعَفين فِي الأَرضِ قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَتُهَاجِروا فيها فأولئِكَ مأواهُم جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيراً إلّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنسَاءِ وَالولدان لا يَسْتَطِيعونَ حيلَةً وَلا يَهْتَدونَ سَبيلَاً).

وقد ورد عن النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) قوله في خطبة حجّة الوداع: (ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإنّ الله تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً، فمن اتّقى الله وصبر أتاه الله برزقه من حلّه، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حلّه قُصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة).

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله

2021/12/22

بالتفصيل.. لهذه الأسباب يلجأ الناس إلى ’تقليد الفقيه’

التقليد سيرة العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم

كتب الشيخ مفيد الفقيه:

التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل، بمعنى أن العامل يستند في عمله إلى قول الغير، ويجعله مسؤولاً عنه، وكأنه قلادة في رقبته، وهذا المعنى هو المفهوم من التقليد لغةً وعرفًا، ولذلك يقال في العرف العام: قلّدتك الدعاء والزيارة، فهو كذلك في العرف الخاص، وعلى هذا المعنى وردت الروايات في التقليد الشرعي.

[اشترك]

مسألة التقليد لا تقليد فيها

ومسألة التقليد ليست من المسائل التي يجب التقليد فيها، فإذا قيل بأنه يجب على المسلم أن يُقلّد، فمن الذي حكم عليه بهذا الوجوب؟ ومن الذي قال له يجب أن يقلد؟

لا يصح أن يقال: إن هناك شخصًا آمرًا، لأن هذا أيضًا تقليد يحتاج إلى تقليد آخر ليحقّ له الرجوع إليه، وهكذا، فيلزم التسلسل!

بل الصحيح: أن المكلف المعتقد بالله ورسوله واليوم الآخر وما جاء به الرسول، يعلم بأنه مكلّف بأحكام الشريعة الإسلامية المقدّسة، ويجب عليه الخروج عن عهدة هذه التكاليف بإطاعة أوامر الله تعالى والإقلاع عن المعاصي، لأن الأحكام التي جاءت بها الشريعة منجّزة على كل مكلف، حيث إنه يعلم إجمالاً بوجود كثير من هذه الأحكام في الشريعة، إلا أن أكثر هذه الأحكام مجهولة عنده، عدا ما هو بديهي ضروري كالصلاة وسائر الفرائض، ولكن تفاصيلها مجهولة عند المكلف، ولذلك يُدرك عقله بأنه لا بد من الخروج عن عهدتها، لأن غير العاقل لا يُكلَّف، وحيث إنه لا يعرفها، فلا بد له من معرفتها وتعلُّم تفاصيلها.

فما يعرفه بالوجدان والضرورة لا كلام فيه، وأما سائر الأحكام - وهي كثيرة جدًا تشمل جميع تقلّبات الإنسان وتصرّفاته وأعماله - فلا بد له من معرفتها وتعلّمها ممن يعرفها، ولا بد أن يكون قول هذا الغير حجة عليه، لأن العمل بلا حجة لا يُبرئ الذمة، فلا بد له من التقليد والرجوع إلى من يعلم بهذه الأحكام.

الأدلة

وأما ما هو الدليل على حجية قول هذا العالم في حق الجاهل بالأحكام، فالكلام فيه: (تارة) فيما يستفيده العالم الذي يفتي بوجوب التقليد من الأدلة الشرعية كالكتاب والسنة. (وأخرى) فيما يدعو المكلف - الجاهل بالحكم - للرجوع إلى العالم.

أ - أدلة المجتهد على مشروعية التقليد

أما بالنسبة للعالم، فعمدة ما يمكن ذكره من الأدلة على نحو الاختصار: كتاب الله وسُنّة نبيه (صلى الله عليه وآله) بالإضافة إلى حكم العقل، وسيرة العقلاء الراجعة إلى السنّة كما سنذكر.

(أما الكتاب العزيز): فعمدة ما يدل على ذلك من الآيات، آية النفر، وهي قوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [1].

حيث دلّت الآية الكريمة على وجوب النفر بمقتضى (لولا) التي هي أداة تحضيضية تبعث إلى الفعل، والغاية من النفر الواجب هو التفقّه، فتدل على وجوبه، والغاية من التفقه - بالإضافة إلى عمل الشخص المتعلّم - هي الإنذار بما تفقّه به وتعلّمه من الأحكام.

والإنذار لا موضوعية له، ولا هو واجب في نفسه، بل هو نفس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا إنما يجب لأجل ترتّب الحذر عليه والابتعاد عن المعاصي من قِبل من بلَغه هذا الإنذار.

فتدل الآية على وجوب الأخذ بأقوال هؤلاء الذين نفروا وتفقّهوا، ورجعوا فأنذروا، وهذا معناه التقليد، لأن الحذر الذي هو غاية الإنذار لا يراد به مجرد الخوف النفساني، بل هو التحفظ عن الوقوع فيما لا يريده الإنسان من المهالك لإحراز ما يراد الوصول إليه من المنافع.

فتدل على وجوب الحذر بالعمل على طبق ما أنذر به، وإن لم يكن واضحًا عند السامع، ما دام هو قد تفقّه لأجل ذلك، مع وثاقته وعدالته، فلو كان المفروض أن يتيقن السامع بعد الإنذار، لكان الأولى أن يعبّر بالفعل أو بالترك دون أن يعبّر بالحذر.

فتدل الآية على وجوب الإفتاء على من تفقه، كما تدل على وجوب التقليد، لأنه يجب الحذر والتحفّظ عند الإنذار والتعلّم.

(وأما السنّة): فهي الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة، الذين أمر الله والرسول (صلى الله عليه وآله) بالرجوع إليهم مع القرآن.

فقد دلت روايات كثيرة على حجية فتوى المفتي، كالتي دلّت على إرجاع الناس إلى أشخاص مخصوصين، أو إلى عناوين تنطبق على الفقهاء.

كقوله (عليه السلام) لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة، وأفتِ الناس، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك) [2].

وقوله (عليه السلام) في رواية أخرى لمعاذ بن مسلم: (بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم. وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم، فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه، ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك. قال: فقال لي: اصنع كذا، فإني كذا أصنع) [3].

وأظهر من الكل ما ورد عن إمام العصر الحجة بن الحسن المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) في رواية إسحاق بن يعقوب: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله) [4].

فإن الحوادث الواقعة قد لا تكون منصوصة بخصوصها، فلا يمكن معرفة حكمها إلا بالاجتهاد من قبل المفتي، بإعمال نظره، وتطبيق ما تعلّمه من الفقه على ضوء الكتاب والسنة.

والتعبير برواة الحديث في هذه الرواية إنما هو لأن الرواة في ذلك العصر هم الفقهاء، حيث إنهم اطّلعوا على الأحكام من مصادرها الأصيلة، فعرفوا ظواهرها وعامّها وخاصّها، وسائر ما يحتاج إليه فقهاء عصرنا للتوصّل إلى الحكم، فإنهم بالنظر إلى قرب عهدهم وكونهم من أهل اللسان لا يحتاجون إلى المقدمات التي احتاجها المتأخرون عنهم، هذا مع أن القرآن الكريم قد عبّر عن مثلهم بالتفقه في الدين في قوله تعالى (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).

بالإضافة إلى أن مصدر الفقاهة عند علماء الشيعة هو الأدلة والروايات التي وصلتهم عن أهل البيت (عليهم السلام)، وليس لهم رأي من قبل أنفسهم إلا بمقدار ما يستفيدونه من الروايات والكتاب العزيز بما يوافق العقل.

هذا فيما يرجع إلى استدلال المجتهد بشكل مختصر..

وأما ما يتبعه العامي فهو الارتكاز، وتوضيح المسألة:

ب - أدلة العامي على وجوب التقليد

(الارتكاز): ومما يدل على لزوم التقليد ووجوبه، هو الارتكاز الثابت عند عقلاء البشر قاطبةً، وسيرة العقلاء المبنية على هذا الارتكاز من رجوع الجاهل إلى العالم والعارف في كل ما يحتاج إليه الإنسان من سائر شؤون الحياة، من المعاش والمعاد وحفظ نظام حياتهم من جميع الجهات، فيرجعون في كل شيء إلى أهل الخبرة في ذلك الشيء، في كل حرفة وصنعة وعلم من العلوم، وسائر شؤون الحياة.

فالناس بفطرتهم وطبيعتهم التي تعوّدوا عليها وتلقّوها ممن كان قبلهم، يفعلون ذلك، فيرجع المريض إلى الطبيب لا إلى النجار، وهكذا سائر الأمثلة، يعني يرجعون إلى كل عالم بعنوانه الخاص، فالذي يريد السؤال عن مسألة شرعية من قبل الشريعة، يرجع إلى العالم بتلك الأحكام.

اتصال السيرة بزمن المعصوم

وهذه السيرة مستمرّة بين العقلاء، وهي حجة شرعية، لأن الشريعة قد أقرّتها في كل الشؤون، إلا إذا ورد نهي شرعي في بعض الموارد، كما ورد النهي عن كثير من تصرّفات الناس فيما تعارفوا عليه مما لم يرتضه الشارع، وهذا الوضع يعرفه كل الناس وإن لم يلتفتوا إلى الاستدلال به في الأحكام الشرعية، إلا أنه مرتكز في أذهانهم. لأنه بعدما أدرك عقل الإنسان وجوب الطاعة وحرمة المعصية، واعتقد بالعقاب على المخالفة، صار لزامًا عليه أن يبحث ويسأل ويرجع إلى الخبير!

وأيضًا لا بد من معرفة الخبير بالشريعة، ويتم ذلك عن طريق الرجوع إلى أهل الخبرة أنفسهم أيضًا.

وهذه السيرة حجة شرعية إذا أقرّها الشارع وأمضاها، أو لم يردع عنها، فإن عدم الردع في قوة إمضائها وإقرارها.

فلا بد من بيان معنى الإقرار والإمضاء، ومعنى الردع الذي يمنع الأخذ بها أو بغيرها، ثم بيان الوجه في حجية السيرة ثانيًا، فنقول:

إقرار السيرة وإمضاؤها يعني حجيتها

بعد الفراغ عن أن الشريعة الإسلامية لم تترك وضعًا وحالة وفعلاً من أفعال الإنسان بدون حكم، لأنها جاءت لتنظيم حياة الإنسان في جميع شؤونه، ولذا قلنا بأنه لا تخلو واقعة عن حكم شرعي على نحو الاقتضاء أو التخيير.

وهذه الأحكام - المُلزِم منها بالفعل أو الترك وكذلك غير المُلزم - على نوعين:

النوع الأول: ما هو أحكام تأسيسية، كالعبادات وغيرها مما لا يكون موجودًا عند الأعراف الاجتماعية ولا علاقة لهم به كأفراد وجماعات، لأنهم إنما يتعاملون مع ما يرون أنه لا بد منه في تنظيم شؤونهم دون ما أسّسته الشريعة وفرضته.

النوع الثاني: ما هو أحكام إمضائية، وهو المعاملات المتداولة بن الناس من سائر التقلبات كالمعاشرات والعقود والإيقاعات والصناعات والزراعات، حسبما يتطلبه نظام حياتهم من الناحية الاجتماعية والمعاشية وسائر الشؤون.

فكل حكم في الشريعة حول هذه الأمور يوافق ما تبانى عليه الناس وساروا عليه قبل الشريعة أو بغضّ النظر عنها، فهو حكم إمضائي بمعنى أن دور الشريعة بالنسبة إليه هو إمضاء وإقرار هذا الوضع المُعين، مثل قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) [5]، و(أوْفُوا بِالْعُقُودِ) [6]، ونحوهما.

عدم الردع عن السيرة وأثره

ففي مثل هذه الأمور قد نصّ الشارع على الإمضاء، ولكن لا يجب أن ينصّ على كل وضع موجود ليكون إمضاءً وشريعة، بل يكفي أن يكون الوضع معلومًا عند الشارع ولا يردع عنه، بل يسكت عنه، فإن هذا إمضاء وموافقة عليه ما دام بمرأى ومسمع منه، لأنه في مقام التشريع والبيان، فإذا حكم بحكم مخالف لسيرة الناس العقلاء وسلوكهم في أيّ شأن من شؤون تعايشهم وتعاملهم، فهذا ردع ونهي عن ذلك السلوك مطلقًا، فهو إبطال لذلك الوضع من الأساس، وأما في بعض الخصوصيات، فهو إمضاء لأصل الوضع مع تعديله في بعض خصوصياته إيجابًا أو سلبًا.

فالعقود كالبيع والإيجارات والزواج، والإيقاعات كالطلاق والهبة والإبراء والصدقات، وكذلك الحال في القصاص والديات في الجنايات، وغيرها، فهذه الأمور لها قواعد مقرّرة في المجتمع الإنساني، أمضاها الشارع إجمالاً من حيث الاعتراف بأصل مشروعيتها ولكنه أدخل عليها بعض التعديلات، فنهى في هذه المعاملات عن الربا والغشّ والعبث وسائر ما هو محرّم بنظر الشريعة وجعل المعاملة حينئذٍ أكلاً للمال بالباطل.

هذا الإمضاء في مقابل الأحكام التأسيسية التي لا يتداولها الناس في مقام التعايش بينهم كالعبادات، لأنهم من الناحية الاجتماعية والمعاشية لا يتبانون على هذا النوع من الممارسات التي هي علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه، لأنهم إنما يتبانون ويؤسّسون في الشؤون التي يتوقّف عليها نظام حياتهم كمجتمع يريد أن يعيش بحرية وأمان، والعبادات لا دخل لها بهذا الشأن من وجهة نظرهم، ولذلك استمرت حياتهم من هذه الناحية.

بينما تنظر الشريعة إلى الإنسان بجميع شؤونه العامة والخاصة في روحه وبدنه ومعنوياته ليعطي لكل حالة الحكم - المناسب - الذي يعلم الله بأنه يُصلح الإنسان، ولذلك لا تخلو واقعة فعلية أو مُفترضة عن حكم، إما بالنص على ذلك الحكم، أو بإمضائه، بالنص على خصوص الواقعة، أو بالنص على قاعدة عامة ينسحب حكمها على كل جزئياتها ومصاديقها.

وأما لماذا تكون هذه السيرة حجة، فلأنها تكشف عن رأي المعصوم كشفًا قطعيًا إذا علمنا باطلاعه عليها ووجودها في زمانه، حيث إن فعل المعصوم حجة، وإقراره وإمضاؤه حجة كقوله ونصّه على الشيء.

والسر في ذلك:

أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وأصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) قبلهم، من الرواة ونقلة الحديث، وسائر المسلمين، كانوا مكلفين من الناحية الشرعية بالالتزام بأحكام الشريعة والسؤال عنها، والمطّلع منهم على الحكم كان مكلفًا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كذلك كانوا مكلفين - بمقتضى تنصيب الأئمة للرواة والحافظين منهم - بحفظ الشريعة ونقلها إلى المسلمين المعاصرين والقادمين بعدهم، وهم بحكم سلوكهم وتديّنهم ووثاقتهم كانوا ملتزمين بالشريعة، وحيث إنهم من جملة العقلاء الملتزمين بالعرف العقلائي القائم في كل شأن من شؤون الحياة الاجتماعية عند العقلاء، فإنهم كانوا يسألون ويستفهمون، وكان من واجب الأئمة (عليهم السلام) أن يبلّغوا الشريعة، لذلك لم يكونوا ليسكتوا عن وضع سائد إذا كان مخالفًا للشريعة.

فإذا لم ينقل هؤلاء الرواة العقلاء ردعًا، لأن الأئمة لم يبلّغوهم الردع، كشف ذلك بصورة قاطعة عن كون هذا السلوك سلوكًا مشروعًا وغير مرفوض من قبل الشريعة، اقتضاءً أو تخييرًا، لأن السيرة المخالفة تُوثّر سلبًا على أحكام الشريعة، وتؤدّي إلى ضياعها، فلا يجوز إهمالها من قِبل صاحب الشريعة، وهو المعصوم، بل لا بد له من صيانتها مباشرة، أو من قبل أصحابه، لأنهم كما قلنا أُمناء وملتزمون بواجباتهم تجاه هذه الشريعة.

فإذا أقرّ وضعًا عقلائيًا عامًا، كرجوع الجاهل إلى أهل الخبرة في اختصاصهم أو إلى تشخيص ظهورات الكلام ومعانيه، كان ذلك نصًا في الإمضاء والإقرار على هذا الوضع، وإذا أحال الشارع المقدس المكلفين في أحكامهم الشرعية على الرواة والفقهاء، لأنهم أهل خبرة في الأحكام الشرعية، فهذا إمضاء للسيرة في هذا الأمر، وكذا في غير الفقه من الموارد التي أُمروا فيها بالرجوع إلى أهل الخبرة، وهذا إمضاء صريح، وهو من السنّة التي هي أحد الأدلة، لأن تقرير المعصوم وإقراره سنّة، بالإضافة إلى قوله وفعله (عليه السلام).

وإذا لم يكن هناك إقرار وإمضاء صريح، بل سكت عن وضع عقلائي عام سائد ولم يردع عنه، فإن ذلك يدل على إمضائه وإن لم يصرّح بالإمضاء، إذ مع الاهتمام الشديد بحفظ الشريعة، فإن عدم وجدان الردع يكشف عن عدم وجوده، خصوصًا مع وجود الدواعي لذلك، فإن الأصحاب كانوا يسألون عن الصغيرة والكبيرة، ونقلوا الأحكام التي يقلّ الابتلاء بها حتى بالنسبة للأفراد، بل ربما لم يبتلِ بها أحد من المسلمين مع أنه لم يكن هناك وضع عام يتعلّق بهذه الأحكام، فكيف يمكن السكوت عن وضع عام يبتلي به عامّة الناس ؟! ولا يصدر حكم ولا سؤال عنه مع الاطلاع عليه!! فإن ذلك السكوت من الإمام، سواء كان تصرفًا عامًا أو تصرّفَ شخص مع شخص آخر، هو إمضاء، وإقرار لهذا الوضع، أو لهذا التصرّف، فإن هذا السكوت إمضاء وسنّة، لأن السنّة - كما قلنا - هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره وإمضاؤه، والإمضاء قد يكون في مورد خاص مع الأشخاص وتصرّفاتهم الخاصة في عباداتهم أو في تعاملهم الخاص، وقد يكون إمضاء لوضع عام.

فالسنّة الممضاة وغير المردوع عنها، هي سنّة وحجّة شرعية.

هذا من حيث الكبرى، أعني أصل الحكم بحجيتها!

اتصال السيرة بزمن المعصوم!

وأما من حيث الصغرى، وهي تَحَقُّق هذه السيرة في زمن المعصومين، أو في زمن أصحابهم الذين عاصروهم، أو الذين عاصروا من عاصروهم من الفقهاء والرواة، فهذا يَثبت بالوجدان والنقل، ومع بُعد العهد - كما في عصرنا - فإننا ننظر إلى الأوضاع السائدة ونطّلع على ما أقرّوه في زمانهم وما لم يقرّوه.

الشك في اتصالها بزمانهم

فإذا لم نطلّع على وجود هذا الوضع في زمانهم أو الزمن القريب منهم، يحصل عندنا شك في حكم الشريعة في هذا الوضع، والمتّبع هو استمراره من ذلك الوقت، حيث إننا نشك في أنه وضع قديم، أو أنه مستحدَث وقد غيّر المجتمع الوضع القديم، فنُجري أصالة عدم النقل، بمعنى أنه عندما نشك في أنهم هل تلقّوا هذا الوضع ممن سبقهم، أو أنهم أحدثوه في زمن ما بعد زمن المعصومين، فإن القاعدة الشرعية التي تثبت حجيتها بالنص الشرعي تقتضي عدم الاستحداث، وهي أصالة عدم النقل، فإن أصالة عدم وجود الردع مع الاحتياج إليه في كل العصور، يكشف عن الإمضاء حتى لو لم يكن موجودًا في زمانهم، لأنهم لم يشيروا إليه في مجموع الروايات التي كانوا يسألون فيها عن جزئياتٍ ومصاديقَ من عناوين عامة.

وأما إذا لم يكن وضع معين في عصرنا، فلا دليل عندنا على المسألة، والحكم هو ما تقتضيه القواعد الشرعية، ولا علاقة للسيرة في هذا الأمر. كأن يرد النهي عن مصداق من عنوان عام، ولم يرد النهي عن مصاديقه الأخرى، فهذا يدلّ على عدم الردع عن هذا الوضع إلا في هذا المصداق، فقد ورد - من باب المثال - النهي عن بيع الغرَر، وبيع النجس، والبيع الربوي، والسفهي، وأما مطلق البيع بعنوانه في باقي المصاديق فلم يرد نهي عنه، بل أمضاه الشارع بنص القرآن الكريم، وبعنوانه العام {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}[7]، وكذا بقية العقود التي نصّ القرآن الكريم على حلّيتها مع النهي عن بعض مصاديقها، وأما بقية المصاديق فلم يرد نهي عنها، وهي بالعنوان العام وضع سائد أمضاه الشارع، وهكذا...

والحاصل: أن رجوع الجاهل إلى العالم في كل اختصاص، هو وضع لا يحتاج إلى أصل يُثبت وجوده في العصور السابقة، إن لم نقل بأنه موجود منذ بدء البشرية، فلا يحتاج إلى مزيد مؤونة، ولا تصل النوبة إلى الشك.

لذلك كان رجوع الجاهل إلى العالم - ومنه رجوع العامي إلى الفقيه - وضعاً مستمرًا لا يحتاج إلى وجدان خارجي أو أصل يُثبت عدم النقل إليه، ولذلك قلنا بأنه يجب على كل مسلم مكلّف أن يسأل الفقهاء، وهذا هو التقليد، هذا مضافًا إلى النصوص التي دلّت على ذلك من الكتاب والسنة.

صفات العالم

يبقى الكلام في صفات المجتهد الذي يكون تقليده مبرئًا للذمة، وفي كيفية الوصول إلى معرفته، فنقول:

أما من حيث صفاته العامة، فقد وردت بعض الروايات التي تدل على صفات من يُرجع إليه في عصر الغيبة - تلك الفترة التي كان الفقهاء نوّابًا ووكلاء من قِبل صاحب الأمر الحجة ابن الحسن المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)

منها: ما ورد عنه (عجل الله فرجه الشريف): (.. وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله) [8].

ومنها: قول أبي جعفر (عليه السلام): (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه) [9].

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكمًا، فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخفّ بحكم الله، وعليه ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله الحديث) [10].

وقد أشرنا فيما سبق إلى أن المقصود بالرواة هم الفقهاء.

ومنها: ما دل على أن الثقة المأمون يؤدّي عن الإمام ويقول عنه، وأنه يجب إطاعته والاستماع لنقله وفتواه [11].

ومنها: قوله (عليه السلام) في حديث: (فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه.. الحديث) [12].

وقد وردت بهذا المضمون روايات كثيرة، ومعنى الإطاعة لأمر مولاه أن لا ينظر في كل أقواله وأفعاله وتصرّفاته إلا من خلال الشريعة الإسلامية، فيكون ممثلاً ومجسّدًا لجوهر الشريعة بأعلى مرتبة مطلوبة من غير المعصوم، لأن مرتبة العصمة لا يصل إليها أحد من البشر، و هذا تختلف فيه مراتب العلماء، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [13].

تقليد الأعلم

فلو تعددوا يختار واحدًا منهم، وأما لو اختلفوا، وكان واحد منهم أعلم من الآخر، فالواجب هو الرجوع إلى الأعلم.

وتدل على ذلك السيرة المستمرّة، عند سائر البشر، عندما يختلف أهل الاختصاص، ويكون واحد منهم أكثر كفاءة ومعرفة من الآخر.

وأما كيف يعرف المجتهد والأعلم، فمرجعه إلى أهل الخبرة في هذا الاختصاص أيضًا، ويستدل عليه بنفس الدليل بتفاصيله، لأن الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص - بعد حجية السيرة - هو أمر من الإمام (عليه السلام)، فلا نعيد تكرار الاستدلال.

نعم يشترط التعدد في أهل الخبرة، وأقلّه اثنان من العلماء المجتهدين ولو بدرجة جزئية، ليميّزوا بين مراجع التقليد، فلو اختلف أهل الخبرة يرجع إلى الشهرة بين أهل العلم.

فالذي يرجع في التقليد إلى شخص لأنه يحبّه، أو لأنه من أرحامه وذويه أو لأن آراءه تعجبه، فإن تقليده لا يبرئ الذمة، ويكون مسؤولاً عن أعماله عند الله سبحانه.


الهوامش

[1] - سورة التوبة: من الآية122

[2] - الوسائل (آل البيت): 30/291؛ مستدرك الوسائل: 17/315، ب11 من أبواب صفات القاضي ح14

[3] - وسائل الشيعة (آل البيت): 16/233، ب30 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح2.

[4] - المصدر السابق: 27/140، ب11 من أبواب صفات القاضي ح9.

[5] - سورة البقرة، من الآية275.

[6] - سورة المائدة: من الآية1.

[7] - سورة البقرة من الآية275.

[8] - وهي مكاتبة إسحاق بن يعقوب إلى الناحية المقدسة، انظر: وسائل الشيعة (آل البيت): 27/14، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح9.

[9] - المصدر السابق: 27/20، ب4 من أبواب صفات القاضي ح4.

[10] - المصدر السابق: ب11 من أبواب صفات القاضي ح1.

[11] - انظر المصدر السابق: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ح 4 - 5 - 8 - 15، وغيرها، فإنها تضمنت الإرجاع إلى عبد الملك بن جريح وأبان بن تغلب ومحمد بن عثمان العمري وأبي بصير، وغيرهم من الرواة والفقهاء، فإن الإرجاع إلى هؤلاء الأشخاص بعناوينهم لا بأشخاصهم، ويفهم ذلك من مثل التعليل بقوله(ع): (فإنه الثقة المأمون) ونحوها.

[12] - المصدر السابق، ب10 من أبواب صفات القاضي ح20

[13] - سورة المجادلة، من الآية11.

مجلة رسالة النجف

2021/12/20

زواج القاصرات.. هل يمكن ضبط سن الزواج بالأرقام؟!
يطرح الماديون ما يعبّر عنه بـ "زواج القاصرات" كجريمة ‏مكتملة الأركان ‏تساهم في هدم المجتمع‏، ‏وهذه الجريمة هي "جريمة شرعية" كما يتم تسميتها لأن الشرع أجاز تزويج البنت في سن مبكرة.

وهذه السطور التي أمامكم، اقتطفها "الأئمة الاثنا عشر" من مقابلة متلفزة لسماحة الشيخ أحمد سلمان أجاب فيها عن عدد من التساؤلات المهمة في هذا الملف:

‏متى تخرج البنت ‏عن كونها طفلة عن كونها قاصر إلى كونها بالغة رشيدة؟

‏يقول صاحب الإشكال: إن سن (15) ‏هو الأقرب إلى الواقعية من حيث تكوين الأنثى، وكذلك وفقاً لتأكيدات العلوم الحديثة سيما وأن أغلب الزيجات في التاريخ في هذا العمر لم تفشل، وبذلك لا يكون سن الـ 9 أعوام مناسباً لتزويج البنت.

‏وفي الجواب:

في فرنسا ‏أو فنلندا -مثلا- ‏يحددون ‏أدنى سن للزواج هو 21 سنة، ‏وهذا الرأي الذي قدمه صاحب الإشكال -أي تزويج البنت في عمر 15 سنة- ‏بنظر ‏الفرنسيين هو جريمة!

وفي المقابل، ‏لو ذهبت إلى نيوزلندا ستجد أن أدنى سن للزواج هو ٢٠ سنة، وهي تجرّم تزويج البنت في عمر أقل، ‏ولو أن نيوزلندية عمرها 20 سنة ‏ذهبت الى فرنسا ‏تكون قد ارتكبت جريمة بحق ‏المجتمع الفرنسي، ‏كذلك في بعض الدول تعتبر سن الـ 19 سنة هو المناسب للأنثى للزواج و ‏17 سنة في دول أخرى وبعضها 16 و14 سنة.

في الولايات المتحدة ‏الأمريكية وهي دولة واحدة ‏لم تستطع ضبط سن الزواج، في الولايات ستة او سبعة أعمار مختلفة في حدود سن الزواج للأنثى، ‏بل هناك ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية ‏السن الأدنى للزواج فيها هو 12 سنة!

هذا الاختلاف الكبير في العالم في تحديد السن الأدنى للزواج، ‏سببه عدم إمكانية ضبط هذا الأمر بلغة الأرقام ‏بسن واحدة، واليوم في العالم ‏لا يوجد اتفاق على تحديد سن القصور ‏ومنه سن البلوغ، ‏الذي من خلاله تستطيع المرأة أن تتزوج فتحديد صاحب الإشكال لهذا السن في دول أخرى جريمة.

 لذلك السؤال ينبغي أن يكون هكذا: ما هو المعيار لزواج الأثنى؟ 

والإسلام لكونه يعلم أن هذا الأمر لا ينضبط بسن معين، حدد سناً أدنى لا من باب التشجيع وإنما ‏الإباحة. ‏ولكنه وضع قواعداً عامة ‏منها قاعدة ‏الإطاقة وعدم الضرر، فقد تتضرر المرأة في سن التسع والعشر سنوات فيسيولوجيا، فإذا ثبت هذا الضرر يحرم الزواج في هذا السن.

وعليه فإن ما ذكره الفقهاء في الرسائل العملية هو حكم أولي، ‏وإلا فإن الأحكام الثانوية حاكمة على الأحكام الأولية.

على سبيل المثال: في ‏الرسالة العملية يقول لك الفقيه يجب عليك أن تصوم في شهر رمضان ‏ولكن إذا ثبت طبياً أنك تتضرر ‏بالصيام ‏يحرم عليك الصوم!

الشارع المقدس يجوز العقد للبنت في سن 9 سنوات، ‏لكن اليوم ‏طبياً ثبت أن الميل للأطفال ‏هو "مرض البيدوفيليا" وهذا شرعاً يصبح محرّماً لأنه أمر خطير ‏ويهدم المجتمع.

‏وعليه لابد أن نفهم المسائل الشرعية ونعرف كيف نتعامل معها.

‏ومن هنا وضع الإسلام مجموعة من القواعد العامة ‏منها قاعدة لا ضرر وغيرها من القواعد ‏لعلمه بأن القضية لا يمكن ضبطها بالأرقام بهذه السهولة.

الأمر الآخر هو "قضية الرشد"، إذ أنها ليست قضية نوعية، ‏فلا توجد عندنا ‏نساء يصلن إلى مرحلة الرشد في نفس السن، فهي متفاوتة وتختلف من مجتمع إلى آخر، ‏ولعله من عائلة إلى أخرى ‏ومن قبيلة إلى أخرى، ‏ولذلك فإن قضية زواج القاصرات ‏لم تكن قضية فردية فقد ‏كان هذا الأمر منتشرا في كل العالم ‏ودونك موسوعة قصة الحضارة لـ " ويل ديورانت" ‏الذي ذكر ‏في كل حضارة سن الزواج عند ‏كل العالم تقريباً، وكان سن الزواج فيه يتراوح ما بين تسعة واثنا عشر سنة ‏فالقضية كانت مضطربة.

نعم اليوم في العصر الحديث ‏في ظل تغير نمط الحياة وتغير الاستعداد بالنسبة للمرأة أنا وأنت ‏وكل عاقل نتفق أن بنت تسع سنوات وبنت 10 سنوات وبنت 12 سنة وبنت ١٣ سنة تزويجها وتحميلها مسؤولية الأسرة خطر كبير جداً ‏نتفق في هذا، ‏لكنه لا يصطدم مع الشارع المقدس ‏لأنه كما قلنا حكم أولي ‏كان ينسجم ‏مع معطيات ذلك الزمن، أما ‏اليوم تغير الزمن فلابد أن نفهم الشارع وفق الأحكام الثانوية ‏التي تعطي للدين هذه المرونة.

إباحة الزواج في هذا السن ومنطقة الفراغ التشريعي ‏يمكن للحاكم الشرعي او الفقيه أن يحكم فيها ‏وأن يضبطها ‏بنوع ما، ‏فالحلول موجودة والمشكلة ليست ‏في المسائل الشرعية ‏بل في التطبيقات الاجتماعية التي تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض.

2021/12/20

ما الجذور الدينية لمقولة: ’حفظ النظام’ في الفقه الشيعي؟

تأصيل مقولة: "حفظ النظام"

قيل: إنّ النبي عقلٌ ظاهر، والعقل نبي باطن.. وفي المجرى نفسه قيل أيضاً: الشرع عقل من خارج، والعقل شرعٌ من داخل.. وغير بعيد عن ذلك القانون الأصولي: ما حكم به العقلُ حكم به الشرع.

[اشترك]

وتشير هذه الكلمات ذات اللفظ المختلف والمعنى المؤتلف إلى واحد من أهمّ المبادئ المكتنهة في منظومة المعرفة الدينية/الشيعية أصولاً وفروعاً. وهو مبدأ غائب عن شرائح واسعة من المؤمنين أو على الأقل لم يتجذّر بعدُ في أجواء المعرفة الدينيّة العامّة؛ بشهادة المطالبة المتكررة والدائمة بنصّ ديني من آية أو رواية على العديد من القضايا، مثل: المطالبة برواية تنصّ على تقليد الفقيه، أو على تسليم الخمس إلى الفقيه، أو على وجوب بل ضرورة حفظ النظام!، وغيرها من مسائل، وذلك يؤشّر بوضوح على انحصار تلك المنظومة فهماً وتوظيفاً بالنخبة من العلماء!

الأحكام كلّها تابعة للمصالح والمفاسد

والموضوع أوسع بكثير من تناوله في مدخل مقتضب وسريع ضمن مقال مختصر قد أفصح في عنوانه عن دواعيه: (تأصيل مقولة: حفظ النظام). بيد أنّ ما لابدّ من تناوله باقتضاب أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للملاكات، وخاضعة للمصالح والمفاسد. كذا ينصّ ويردد علماء الشيعة طُراً، مشيرين بذلك إلى الإيمان بوجود قيمة موضوعية حقيقية للأفعال جميعاً؛ ومن أجل هذا وبناءً عليه وحسب تلك القيم التي تنطوي عليها الأفعال تدور الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة وتثبت لها، فما من واقعة تخلو من إحدى حالات خمس: إمّا تنطوي خير شديد، أو شرّ كذلك، أو خيرها غالب على شرها، أو بالعكس، أو خيرها وشرها متساويان، ولك أن تستبدل هذا البيان بآخر فنّي: الأفعال إمّا تنطوي على مصلحة أو مفسدة أو تخلو منهما، وهذا أمرٌ واضح ومقطوع به؛ نظراً للثنائية الحاصرة والقسمة العقليّة الدائرة بين النفي والإثبات، لكن ما يحتاج إلى بسط في القول هو آلية اكتشاف الملاكات الكامنة في الموضوعات، وسبيل الوصول للمصالح والمفاسد في الأفعال، وطريقة الوقوف على قيم الخير والشر فيها؛ بغرض اعطاء الحكم الشرعي المناسب للحالة.

قدرة العقل على اكتشاف بعض الملاكات

وهنا تحديداً: تتميّز منظومة المعرفة الدينية/ الشيعية عن غيرها، بإعطاء مساحة للعقل بوصفه هبة إلهيّة لبني البشر في اكتشاف الملاكات، والإيمان بقدرته الجزئية على تحديد المصالح والمفاسد في الأفعال، وعند بلوغه هذه المرتبة من الإدراك فإنّه يحكم بالحسن على ما أدرك فيه مصلحته، وبالقبح على ما فيه مفسدة، والقاعدة المقرّرة في الأصول: أنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع؛ لأنّ مصدر الاثنين واحد، ومن أوضح ما استقل العقلُ بمعرفة ملاكه (العدل والأمانة، والظلم والخيانة)، وفي ضوء هذا ادراك المصلحة أو المفسدة فيها حكم بحسن العدل والأمانة، وبقبح الظلم والخيانة.. وعلى هذه المساحة ينطبق الشطر الثاني من العبارة في صدر المقال: العقلُ نبيٌّ باطن.!

إلا أنّ هذه القدرة على اكتشاف الملاكات في الأفعال ثمّ الحكم عليها ليست مطلقة، بل هي كما قلنا: قدرة جزئية ومحدودة ولا تطال كلّ شيء، فثمّة أفعال يتوقف العقل عن ادراك ملاكها، ولا يقول شيئاً عنها، وهي الغالبية العظمى من الواجبات العباديّة وتفاصيلها، كالصلاة والصيام، والحج.. وهكذا يصمت العقل البشري عن كثير من الأفعال المحرّمة في الشريعة، كالغناء والإجهاض وأكل الذبيحة غير المذكاة، وهكذا. وهنا يأتي دور العقل الظاهر: (الأنبياء والرسل والأئمة) لكشفوا وعبر النصّ الشرعي عن وجوه المصالح المفاسد التي عجز عنه العقل البشري عن ادراكها، فيعربوا عن وجوب ذي المصلحة وحرمة ذي المفسدة مما لم تتناوشه يد العقل ادراكاً.

الأحكام: أولية وثانوية

وسواء أكان المدرك والدليل هو النص أو العقل أو العقلاء أو غيرها؛ فإنّ الحكم الشرعي الواقعي ينقسم  إلى أولي وثانوي، والتسمية تفصح عن المعنى، فالحكم الأولي هو الحكم الثابت في الأوضاع الطبيعية والحالات الاعتيادية، إنّه حكم على الأشياء حسب حالتها الأولى ودون ملاحظة الحالات الطارئة التي قد تعتورها، فوصف الكذب مثلاً بالقبح عقلاً وبالحرمة شرعاً-إنّما يتحقق لعنوان الكذب في حالته الأولى المجرّدة عن الاضافات التي تؤثّر في الحكم، كما لو كانت تلك الاضافة الطارئة على الكذب هي: اصلاح ذات البين، فهذه من شأنها تغيير العنوان من مجرّد كذب إلى الكذب الاصلاحي، وبتغيّر العنوان الأوّلي (الكذب) فإنّ الحكم الأولي (الحرمة والقبح) أيضاً لا يبقى فاعلاً، بل تنشط حالة الحكم الثانوي، ليكون الحكم هو (الكذب الإصلاحي جائز، وغير محرّم ولا قبيح)، وهكذا الأمر في سائر الأحكام والموضوعات الأخرى.

العناوين الثانويّة: دورها وأهميّتها

وبالرغم من اشتراك النوعين في أنّهما واقعيان إلا أنّ المائز بينهما الأحكام الأوليّة تتصف بالشمولية والاستيعاب لجميع الناس، بينما الأحكام الثانوية تعالج حالاتٍ غير عاديّة، وأُنشئت لظروف استثنائية ومن ثمّ فالمستهدف في خطابها هم خصوص من واجههم العنوان الجديد، وحسب المثال: خصوص من رام الصلح بين المتخاصمين، ولم يجد بدّاً من الكذب، والذي يعنيه هذا الفارق أنّ الأهميّة أو التقديم والفاعليّة والهيمنة هو لصالح الأحكام الثانويّة، ولك أن تقول وبلغة معاصرة: إنّ الأحكام الثانوية موادٌ دستورية، بينما الأحكام الأوليّة موادٌ قانونيّة، وسيأتي الإسهاب أكثر في هذه النقطة تحديداً.

وتُعنى المدونات الفقهيّة، والرسائل العمليّة في غالبها ببيان الأحكام الشرعية الأوليّة، وأمّا الأحكام الثانويّة فحيث إنّها تعالج الحالات الاستثنائية؛ لذا كان بعضاً منها مبثوثة بين المسائل الشرعيّة، وموزعة على الأبواب الفقهيّة كما أنّ القواعد الفقهية والمسائل الأصوليّة كذلك، وكنت قد اقترحت على بعض الفضلاء بمهمة الاعتناء بها وابرازها عبر كتابة بحث أو دراسة خاصّة بها -على غرار ما كُتب بشأن القواعد الفقهية مثلاً- فيشتمل البحث مثلاً على بيان أهمية العناوين والأحكام الثانوية في الشريعة، ودورها في تعطيل الأحكام الأوليّة، وتأكيد واقعيتها كالأوّليّة، ويحصى فيه أيضاً أكبر قدر ممكن منها مع أدلتها، ونصوصها وشواهدها وتطبيقاتها، إلى غير ذلك من المسائل ذات الصلة، وهي كثيرة جدّاً، ومشتبكة ومتداخلة مع العديد من كبرى القضايا الشرعية، والمسائل الأصوليّة، والقواعد الفقهية:

فمن العناوين الثانوية المهمّة والمعروفة: عنوان الضرر، وعنوان العسر والحرج، وعنوان الاضطرار والإكراه، وهكذا اليمين والعهد والنذر..، وعنوان الأهم، و عنوان: التقية، وهكذا عنوان: حفظ النظام أيضاً وإلخ، وتشير هذه العناوين إلى مبادئ وقوانين عليا، فيمثّل كل واحد منها ويحيل إلى مبدأ أعلى، وقانون حاكم، وقضيّة نافذة، ومادة دستوريّة، فعنوان الضرر مثلاً، يشير لقاعدة فقهية عرفت بـقاعدة: نفي الضرر، أو قاعدة لا ضرر ولا ضرار، التي ينفى بموجبها كلّ حكم شرعي ينطوي على ضرر، وهكذا عنوان الأهمّ: يشير لقانون أصولي يحتّم تقديم الأهم على المهم عند تزاحم تكليفين، وتداخل واجبين في وقت واحد. وهكذا الكلام في البقية، ومثلما مرّ علينا: ليس هناك من كلام فيما لو تحقق العنوان الأولي وحده، وإنّما الكلام فيما إذا طرأ عليه عنوانٌ ثانويٌّ، فعندها يتضارب العنوانان، ويتعارضان، فيقدّم الثانوي، وهذا أدل دليل على فوقانيته وحاكميته على العنوان الأولي، كما في المثال الآتي:

ينص الحكم الأولي –مثلاً-على حرمة أكل لحم الميتة، لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : 3] الذي جاء مطلقاً وغير مقيد للحرمة بحالة دون أخرى، فيشمل لفظ الآية جميع الحالات، فحتى لو كان الإنسان مضطراً لأكل الميتة فإنّ الحرمة تشمله حسب اطلاق الآية!

وينص أحد بنود الأحكام الثانويّة العامة على نفي أي حكم ضرري وبقول مطلق أيضاً، لقوله (ص): لا ضرر. ومن ثمّ يقع التنافر في حالة أكل الميتة التي تحفظ للإنسان حياته، ويتضرر من ترك الأكل منها.

وفي هذه الحالة: هل الفاعلية لقانون: تحريم أكل الميتة، الشامل بلفظه لحالة الضرر، أو أنّ النفوذ لمبدأ: لا ضرر. المطلق حتى مع الميتة؟ يقدّم ويفعّل مبدأ عدم الضرر، ويلغى في تلك الحالة قانون حرمة أكل الميتة، ليصبح: جواز أكل الميتة؛ نظراً إلى أنّ (لا ضرر) هو أحد المبادئ الدستورية المقدّمة على القوانين والأحكام الشرعيّة العاديّة، وبعبارة أصولية: إنّ مبدأ عدم الضرر ناظر لأدلة الأحكام الأولية، وحاكم عليها، ومعنى النظر والتقديم هنا هو أنّ جميع الأحكام الأولية مقيدة به ضمناً: فتحرم أكل الميتة إلا لو كان في أكلها حفظ للنفس من الهلاك فلا يحرم أكلها، وهكذا: يجب الصيام إلا إذا كان مضّراً فلا يجب، ويحرم شرب الخمر إلا مع الاضطرار، ويجب الحج مع عدم التضرر، والأمر بالمعروف والغسل...إلخ.

تطبيق ذلك على مقولة: حفظ النظام

إنّ واحداً من أهمّ العناوين الثانوية الحاكمة والناظرة للأحكام الأوليّة هو عنوان "حفظ النظام، أو عدم الإخلال به"، تماماً كسائر العناوين الأخرى التي مرّت الإشارة إليها من قبيل: نفي الضرر والعسر والحرج والتقيّة.. إلخ، وكما أنّ هذه ليست مجرّد عناوين أو قوانين عابرة كذا: (ضرورة حفظ النظام، وعدم الاخلال به)، مثلها بل أهمّها، ولا أقول من أهمّها؛ للتقرير العقلي الآتي:

إنّ غاية الأحكام الشرعيّة/ القانونية هي إقامة العدل، ونفي الظلم، و الحديث عن مطلوبيّة العدل وحسنه، ومبغوضيّة الظلم وقبحه حديث عقلي في المقام الأوّل، ومثلما قد تمّت الإشارة من قبل إلى أنّ الحاكم بحسن بعض الأفعال وقبحها وعلى رأسها: حسن العدل وقبح الظلم؛ هو شرع الله الداخلي، و حجّته الباطنة على الناس (العقول)، ومن ناحيّة أخرى فإنّ الغاية الداعية للعقل والعقلاء الى تحسين العدل وتقبيح الظلم هو "كون العدل مما ينحفظ به النظام، وكون الظلم بعنوانه مما يختل به النظام، وانحفاظ النظام هي الفائدة المترقبة من العدل، واختلال النظام هي المفسدة المترتبة على الظلم. (الإصفهاني-نهاية الدراية، ج4،ص40)

ومثل هذا النوع من القضايا الثابتة لدى العقل أو العقلاء في المقام الأول، ثم يقررها الشرع ويمضيها، يقال لها: بالأحكام الإمضائية التي تشمل الحكم العقلي، وتشمل أيضاً الأحكام والسنن والقوانين التي يسير عليها العقلاء في المجتمعات البشرية عامة وأقرّها الإسلام وأمضاها، ويمكن أن تندرج ضرورة حفظ النظام أو عدم الإخلال به في النحوين معاً. ويرشد إلى المقولة أيضاً ما ورد من وصيّة لأمير المؤمنين لولديه (عليهم السلام): أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أمركم.. (نهج البلاغة،47، ت: صبحي الصالح).

وبما بدأنا نختم: ما حكم به العقلُ يحكم به الشرع، أو مثلما جاء في الحديث: إن لله على الناس حجّتين: حجةً ظاهرةً، وحجةً باطنةً، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة - عليهم السلام -، وأمّا الباطنة فالعقول.(الكافي،ج1، باب: العقل والجهل، ح12).

2021/12/15

الرجال قوامون على النساء: هل يرسّخ الإسلام ’الذكورية’ في المجتمعات؟!

عدالة أم مساواة

هذا هو الذي يتبناه الغرب، فالمرأة لابد لها أن تشارك الرجل في ميادين الحرب والقتال والسياسة والزعامة وميادين العمل والاستثمار ولا يترك میدان خاصة للمرأة أو الرجل إلا يسوقها إليه بدعوى المساواة.

[اشترك]

ولكن القرآن يتبنى العدالة بين الرجل والمرأة ويخالف المساواة، إذ ربما تكون المساواة ضد العدالة، وربما لا تنسجم مع طبيعتها، ومن يدعي المساواة، فكأنه ينكر الفوارق الموجودة في نفسياتها وغرائزهما، ويتعامل معها معاملة إنسان استلبت عنه الغرائز الفطرية ولم يبق فيه رمق إلا القيام بالأعمال المخولة له.

وهذا موضوع هام يحتاج إلى التشريح والتبيين حتى يتضح من خلاله موقف القرآن.

إن التساوي في الإنسانية لا تعني التساوي في جميع الجهات، وفي القدرات والغرائز والنفسيات، حتى يتجلى الجنسان، جنساً واحداً لا يختلفان إلا شكلياً، ومن يقول ذلك فإنه يقول في لسانه وينكره عقله ولبه.

لا شك أن بين الجنسين فوارق ذاتية وعرضية، فالأولى نابعة من خلقتها، والثانية تلازم وجودها حسب ظروفها وبيئتها، وبالتالي صارت تلك الفوارق مبدأ للاختلاف في المسؤوليات والأحكام.

جعل الإسلام فطرة المرأة وخلقتها المقياس الوحيد في تشريعه وتقنينه والتشريع المبني على الفطرة يتماشى معها عبر القرون، وهذا هو سر خلود تشريعه، وأما التشريع الذي لا يأخذ الفطرة بنظر الاعتبار، ويقنن لكل من الأنثى والذكر على حد سواء فربما لا ينسجم مع الفطرة والخلقة ويخلق تعارضاً بين القانون ومورده ويورث مضاعفات كثيرة کما نشاهده اليوم في الحضارة الغربية.

ويرد الإشكال، هل الرجال قوامون على النساء؟

وجوابه أن الله سبحانه أعطى إدارة شؤون الأسرة للرجال دون النساء، ومعنى ذلك أن الرجل هو الذي يترأس الجهات التي بها قوام العائلة، لأن الإدارة تتقوم بأمرين متحققين في الرجل دون المرأة وهما:

١. القوة وتحمل الشدائد.

 ٢. الإنفاق ورفع الحاجات المالية.

والرجل يتوفر فيه الأمر الأول أكثر من غيره.

وأما الإنفاق فقد فرض الإسلام إدارة أمور الأسرة المالية على الزوج، فهو الذي يتحمل المشاق ليدير دفة العائلة.

وقد أشار سبحانه إلى تلك الإدارة وأنها تدخل تحت صلاحيات الرجل بقوله: (الرجال قوامون على النساء)

كما أشار إلى الشرطين بقوله: (بما فضل الله بعضهم على بعض) (وبما أنفقوا من أموالهم).

وليس المراد الأفضلية عند الله وفي ميزان القرب منه سبحانه، بل المراد هو التفوق على الجنس الآخر في تحمل الصبر والاستقامة على الشدائد، وهو أمر تكويني لا يمكن إنكاره، ومن أنكر فانها أنكره بلسانه دون قلبه، وهذا هو المراد من الأفضلية.

وأما الشطر الثاني فهو حكم تكليفي وضعه سبحانه على عاتق الرجل، وبذلك صار أولى بإدارة شؤون الأسرة من المرأة، وعلى ذلك سارت الحياة، فلو كان هناك انتخاب طبيعي فقد اختير الرجل طبيعياً وأمضاه الشارع.

هذا هو معنى القوامية وليس فيه أي هدر لكرامتها، نعم تفسير القوامية بالسلطة على المرأة وإجحاف حقها والتدخل في شؤونها بما هو خارج عن إطار العلقة الزوجية أمر مرفوض ومن فسر الآية به فقد افترى على الله سبحانه.

فإدارة الأسرة والتخطيط لها نحو مستقبل أفضل حسب الاستطاعة شيء، وإنكار حق الزوجة والتسلط عليها وإجحاف حقوقها شيء آخر، ومن خلط بين الأمرين فقد انحرف عن جادة الصواب.

المصدر: كتاب رسائل ومقالات

2021/12/12

هل تجوز قراءة ’الدعاء’ من دون وضوء؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "الدعاء" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: ما هو رأي سماحتكم في دعاء السمات والعشرات والسيفي الصغير المرويّة في كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي؟

الجواب: هي أدعية مأثورة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فلا بأس بقراءتها، وقارئُها مأجور ومُثاب إن شاء الله تعالى.

السؤال: هل يجوز للحائض التقرب إلى الله بالدعاء من دون غُسل والاكتفاء بالوضوء؟

الجواب: يجوز لها ذلك، ويستحب لها أن تجلس في مصلّاها أوقات الصلوة وتذكر الله تعالى بمقدار الصلاة.

السؤال: هل يجوز للمؤمن الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى من دون أيّة وسيلة؟

الجواب: يجوز ذلك، إلّا أنّ اقتران الدعاء بالتوسّل بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ممّا يقرّب إجابته، كما ورد الحثّ للمذنب على أن يذهب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) ليستغفر له، حيث قال تعالى: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً)، وليس ذلك عن حاجة له سبحانه إلى تقديم الوسيلة في ذلك، ولكنّه ممّا اقتضته حكمته البالغة تقديراً منه لعباده الصالحين.

السؤال: هل تجوز قراءة الأدعية بدون وضوء؟

الجواب: نعم، تجوز.

السؤال: أريد التقرّب إلى الله (عزّ وجل) في الدعاء علماً أنّي مواظب على صلاتي ولله الحمد، فكيف أقرأ الدعاء ومتى؟

الجواب: يمكن لك قراءة بعض أدعية الصحيفة السجادية الواردة لطلب الحاجة، ومن الأوقات المفضّلة للدعاء وقت السحر ولا سيّما من ليلة الجمعة. نسأل الله تعالى تيسير أمورك وبالله التوفيق.

السؤال: هل الدعاء للأرحام يكفي كأقل واجب يقوم به الإنسان لأرحامه؟ وهل يعتبر صلة لهم؟ وهل يجزي ذلك؟

الجواب: لا تتحقّق به الصلة الواجبة.

السؤال: هل يجوز التضرّع إلى الله من دون وسيلة اعتقاداً بأنّ المنعم هو الله ولا يحتاج إلى وسيلة؟

الجواب: يجوز ذلك، إلّا أنّ اقتران الدعاء بالتوسّل بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ممّا يقرّب إجابته، كما ورد الحثّ للمذنب على أن يذهب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) ليستغفر له، حيث قال تعالى: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً)، وليس ذلك عن حاجة له سبحانه إلى تقديم الوسيلة في ذلك، ولكنّه ممّا اقتضته حكمته البالغة تقديراً منه لعباده الصالحين.

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله

2021/11/27

ما حكم المساعدة في ’تهريب المخدّرات’؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "المخدرات" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: هل يجوز استعمال الترياق (الترياك) ومشتقاته للضرورة؟

الجواب: يحرم استعمال الترياق ومشتقاته وسائر انواع المواد المخدرة اذا كان مستتبعاً للضرر البليغ بالشخص سواء أكان من جهة زيادة المقدار المستعمل منها ام جهة ادمانه عليه، بل الاحوط الاجتناب عنها مطلقاً الا في حال الضرورة فتستعمل بمقدار ما تدعو الضرورة اليه العلاجية.

السؤال: ما حكم الاعانة على تهريب المخدرات وبيعها؟

الجواب: حرام.

السؤال: هل يجب إخبار السلطات عن الذين يساهمون في عمليات تهريب المخدرات؟

الجواب: نعم.

السؤال: هل كل أنواع المخدرات محرمة أم إن هناك أنواع يحللها الشارع المقدس؟

الجواب: لا بأس بتناول بعض المخدّرات بأمر الطبيب للعلاج الطبي في حالة الضرورة وأما غيره فيحرم تناوله مطلقاً.

السؤال: راجت في السنين المتأخرة تجارة المخدرات بشكل كثير فما حكم الأموال التي يحصلون عليها وهم ينفقون منها في الأكل وغيره من الاحتياجات الحياتية؟

الجواب: هذه الأموال سحت ولا يجوز التصرف فيها بل يجب ارجاعها إلى أصحابها إن عرفهم وإلاّ تصدّق بها على المستحقين من الفقراء.

السؤال: هل يجوز الانخراط في سلك الجهاز المكلٌف بمكافحة المخدرات؟

الجواب: يجوز بل يجب ذلك كفاية.

السؤال: ما حكم حضانة مدمنة المخدرات لابنها؟

الجواب: لا ينتزع الولد من الام المدمنة.

السؤال: هل يحق للزوجة طلب الطلاق من الزوج المدمن؟

الجواب: الزوجة لا يحق لها طلب الطلاق إذا كان الزوج ينفق عليها ويعاشرها بالمعروف.

السؤال: ما هو حكم زراعة او تجارة القنب الهندي؟ هو نبات له تأثير مخدر وليس له تأثير قوي كالترياق او الكوكائين، ويستخدم ايضا في المجال الطبي؟

الجواب: زراعته والتجارة به لا اشكال فيه في حد نفسه مع كونه ذا منفعة محللة مقصودة عند العقلاء (إذ أن أليافه المغطية لسوقه تغزل وينسج منها الأقمشة، ويتخذ منه القرطاس، ويفتل منه الحبال) ولم يكن الغرض من زراعته تحضير المادة المخدرة.

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله

2021/11/25

ما الداعي لتقليد المراجع؟!

ليس عمل الفقيه في استنباط الحكم الشرعيّ لهواً من عنده كما يلهو الطفل بالكرة، أو عبثاً يأتيه غافلاً غير منتبه، بل هي مسؤوليَّةٌ شرعية تقع على عاتق فقيه الأمَّة ليتعبَّد النَّاسُ الله تعالى على فتواه.

[اشترك]

فمثلاً حين يُفتي الفقيه بحرمة الصلاة على الحائض فهو يستند إلى عدَّة رواياتٍ منها ما عن الإمام الرضا – عليه السلام – كما في كتاب علل الشرائع: إذا حاضت المرأة فلا تصوم ولا تصلي.

فهنا يُلاحظ الفقيه ثلاثة أمورٍ في الرواية:

سند الحديث وهو سلسلة الرواة بين علل الشرائع والإمام الرضا عليه السلام، فيحكم بصحته مثلاً.

وجهة الصدور، بمعنى إن كان الإمام الرضا – عليه السلام – أفتى تقيَّةً مثلاً خوفَ أحدٍ من عيون السلطان الغاشم في مجلسه فلا يردّه لتلك العلَّة (الخوف).

وكذلك ينظرُ في دلالة الحديث.

الآن قبل الفقيه الحديث، فسنده صحيح، ودلالته تامَّة، ولم يصدر تقيَّة، وليس له معارضٌ أو مخصص.

وقد خاض لإثبات ذلك الأمر في علومٍ عدَّة من الرجال والدراية، واستخدم ذائقته اللغوية وفهمه العرفيَّ للنَّص، ولربَّما راجع معاجم اللغة لمعالجة مفردةٍ واستنطاق لفظها لمعرفة معناها، وفحص عن المعارض فسبر الآيات والروايات وكتب التفسير وآيات الأحكام وأسفار الحديث والروايات.

هنا يتقدَّم خطوةً أخرى فيسلِّط أدواته الأصولية على الحديث، فها هو يرى أن صيغة (لا تفعل) ظاهرةٌ في النَّهي، وعليه إثبات أن الظهور حجَّة ليكون ظهور الحديث في نهي الحائض عن إتيان الصلاة حجة.

ثم عليه أن يعمل أدواته الفنَّية التي برهن عليها في رتبةٍ سابقةٍ في علم الأصول وهي مقدِّمتان:

نهي الشارع الحائض عن الصلاة. وهي مقدِّمة صغرى شرعية

والنَّهي عن العبادة  يقتضي الفساد. وهي مقدِّمة كبرى عقلية

فالنتيجة:

صلاة الحائض فاسدة

وهنا أيضاً خاض في علم المنطق لصياغة القياس المنطقي بأشكاله المتعددة، وفتح كتب آيات الأحكام، واستخدم مباحث الألفاظ والملازمات العقلية من علم الأصول.

وعليه لإثبات رأيه أن يصنع أمرين:

إبطال الرأي المقابل بالدليل الذي تقتضيه الصناعة الفقهية

وتشييد رأيه بالبرهان الذي ترتضيه تلك الصناعة نفسها.

وقد تستغرق هذه العملية أياماً وأسابيع طوالاً من الكدح العلمي والكدِّ الفكري حتى يفرغ ذمَّة مكلفه على نحو اليقين من الاشتغال اليقيني بالتكليف.

ويأتيك البعض ليستهزئ بهذه العملية ويقول: ما الدَّاعي للتقليد؟

 

2021/11/24

يفحص هواتفهم: هل يحق للأب مراقبة أولاده؟!

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "تربية الأولاد" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: هل تقع مسؤولية التربية من ناحية المسائل الشرعية وغيره من الأمور الحياتية في الشرع على الأم أو على الأب أو على الاثنين معاً؟ وإذا كان الوالدان منفصلين فعلى مَن تقع المسؤولية؟

الجواب: هذا من شؤون الحضانة وهي مشتركة بينهما إلى أن يبلغ الولد سنتين، ثمّ تختصّ بالأب سواء انفصلا أم لم ينفصلا.

السؤال: هل يجوز ضرب الأولاد؟

الجواب: إذا توقّف التأديب على إعمال القوّة والضرب جاز، والأحوط لزوماً أن لا يتجاوز في ذلك ثلاث جلدات وأن يكون برفق بحيث لا يوجب ذلك احمرار البدن أو اسوداده، وفي جوازه بالنسبة للبالغين إشكال فالأحوط لزوماً تركه.

السؤال: ما هي نوعيّة البرامج والأفلام التلفزيونيّة التي يحرم على الوالدين ترك أبنائهما يشاهدونها؟

الجواب: كلّ ما ينافي تنشأتهم نشأة دينية صالحة ممّا يتضمّن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونشر الأفكار الهدّامة والصور الخلاعيّة المثيرة للشهوات الشيطانية، وكلّ ما يوجب الانحطاط الفكري والخلقي للمشاهد.

السؤال: هل يجوز للأب مراقبة الولد أو البنت من خلال فحص موقعه أو هاتفه ليرى مع من يتحدّث صوناً له؟

الجواب: يجوز بمقدار الضرورة فيما تتوقّف عليه صيانته من المحرّمات.

السؤال: مدرسة أوربية في ملاكها مدرّسون لا يؤمنون بدين وينكرون أمام التلاميذ وجود الله تعالى، فهل يجوز إبقاء الطلّاب المسلمين فيها خصوصاً أنّ تأثّرهم بأساتذتهم محتمل جدّاً؟

الجواب: لا يجوز، ويتحمّل وليّ الطفل كامل المسؤولية عن ذلك.

 

2021/11/21

هل يجوز بيع العملة ’العراقية’ للدول المجاورة؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "البيع والشراء" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: أودّ الاستفسار عن الحكم الشرعي بخصوص شراء سيارة بالتقسيط، إذ أنّ هناك الكثير من شركات السيارات والوكلاء المحليّين والذين يقدّمون خدمات بيع السيارات الجديدة والمستعملة عن طريق الأقساط، فعندما يتقدّم المشتري لشراء سيارة بالأقساط تقوم هذه الشركات والوكلاء بتقديم طلب إلى المُقرِضين الذين يتعاملون معهم، والمُقرِضين بالدرجة الأولى هم البنوك واتّحادات الائتمان (Credit Unions) والذين يقومون بأخذ نسبة فائدة على القرض وحسب مدّة يتمّ تعيينها، وبالتأكيد توجد بعض العقوبات أو الغرامات في حال عدم التسديد في المدّة المعيّنة.

يتمّ احتساب هذه الفائدة على عدّة معطيات مهمّة مثل السجل المالي للشخص والدخل والتزامه بدفع الفواتير وهكذا، وبصورة عامّة تكون نسبة الفائدة لشخص موظف مع دخل ثابت (٤%) أو (٣.٧٥%) أو (٥%) أو أكثر أو أقل، فهل شراء السيارة بهذه الطريقة حلال أم حرام؟

الجواب: إذا كان المقصود بأنّ المُقرِضين هم من يقومون بشراء السيارة من شركة السيارات ومن ثمّ بيعها بالأقساط على أن تكون نسبة الفائدة جزء من الثمن فهذا لا بأس به، نعم فرضُ غرامةٍ أو عقوبةٍ في حال التأخير في التسديد هذا غير جائز.

وإن كان المقصود أنّ أصحاب الشركة هم من يقومون بالبيع مباشرةً للمشتري وتسديد الثمن إنّما يكون من المقرضين، وهم بدورهم يرجعون على المشتري بفائدة فهذا حرام.

السؤال: ما هو مقدار الربح الشرعي؟

الجواب: ليس الربح محدّداً بنسبة معيّنة، ولكن ينبغي مراعاة الإنصاف وعدم أخذ الربح من المؤمن زائداً على مقدار الحاجة.

السؤال: أنا صاحب محل موبايل وأودّ أن أسأل عن حكم بيع الأجهزة بالتقسيط مع إضافة مبلغ معيّن على الثمن السائد نقداً؟

الجواب: شراء البضاعة أو بيعها بثمن مؤجّل مع التقسيط أو بدونه بأزيد من ثمنه نقداً جائز، وأمّا مع اشتراط دفع الزيادة على الثمن المقرّر في البيع بإزاء التأجيل فحرام.

السؤال: اشتريت أرضاً وبعد الانتهاء من كتابة عقد المبايعة وتوقيع البائع والمشتري والشهود برضا الجميع اتّفقنا على موعد لإفراغ الصك في المحكمة، ولكنّي تفاجئت بأنّ البائع قد عدل عن رأيه، فهل تكون الأرض بحكم المغصوبة منّي؟

الجواب: إذا تمّ البيع فلا يجوز العدول إلّا إذا كان له خيار.

السؤال: هل يجوز البيع والشراء من محلّات تخصّص بعضاً من أرباحها لدعم إسرائيل؟

الجواب: لا ترخيص في التعامل بالمنتوجات الإسرائيليّة ومنتوجات الشركات التي يثبت بصورة مؤكّدة أنّها تدعم إسرائيل دعماً مؤثّراً.

السؤال: ما حكم البيع والشراء وفتح الأماكن التجاريّة في أيّام تاسوعاء وعاشوراء؟

الجواب: إذا عدّ ذلك نوعاً من عدم المبالاة بما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) في هذين اليومين الحزينين فلا بدّ من تركه.

السؤال: هل يجوز بيع وشراء فرشاة الأسنان إذا كانت خيوطها من شعر الخنزير؟

الجواب: يجوز شراؤها وبيعها واستعمالها، ولكن يتنجّس الفم باستخدامها.

السؤال: ما حكم بيع وشراء الألعاب الحاوية على أغاني الأطفال وموسيقي باللغة الأجنبيّة؟

الجواب: لا يجوز.

السؤال: هل يجوز لي الشراء في شهر محرّم وخاصّة مع الحاجة إلى شراء ملابس صيفيّة وحلي ذهبيّة؟

الجواب: لا ينبغي ذلك، ولا يحرم.

السؤال: هل يجوز التجارة بملابس الرقص علماً أنّنا نسكن في أوروبا؟

الجواب: لا يجوز على الأحوط إذا كان الاستعمال المتعارف لها مختصّاً بالرقص.

السؤال: تقوم الدولة بمصادرة بعض الآليات من الدراجات النارية أو السيارات من المواطنين المخالفين لبعض قوانين التسجيل لهذه الآليات بحيث يصار إلى حجزها في مآرب للدولة، وبعد مرور زمن معيّن عليها تقوم الدولة بوضعها ضمن المزاد العلني لبيعها لأيّ شخص، فهل يجوز شراؤها مع عدم رضا أصاحبها؟

الجواب: إذا كانت الحكومة مخوّلة من قِبَل مالكها الشرعي ببيعها بمقتضى شرط معاملي صريح أو مضمر أو نحوهما في البضائع التي تخزن في الموانيء حيث تشترط الحكومة لنفسها حقّ بيعها إذا لم يتمّ نقلها خلال مدّة محدودة فالبيع والشراء صحيحان، وإلّا فلا بدّ من مراجعة المالك الشرعي بشأن ذلك.

السؤال: أنا صاحب محل لبيع المواد الغذائيّة، وتعاملي كثير مع الأطفال الصغار الذين يرسلهم أهلهم للشراء، فهل يترتب إشكال على ذلك؟

الجواب: يجوز في الأشياء اليسيرة التي جرت العادة بتصدّي الصبي المميّز لمعاملتها.

السؤال: هل يجوز جمع القناني الفارغة للمشروبات المحرّمة وبيعها؟

الجواب: يجوز إلّا إذا كان ذلك لأجل أن تملأ خمراً ثانيةً.

السؤال: قلتم لو زال العيب قبل ظهوره للمشتري ففي بقاء الخيار إشكال، فهل يكون مقتضى الاحتياط هنا هو التصالح في إعمال الخيار وعدم إعماله أم ماذا؟

الجواب: يعدّ كلاهما من الاحتياط.

السؤال: كثير من المحلّات تضع عيّنات من منتجاتها لتذوّقها، فهل يجوز تذوّق تلك الأكلات من دون الرغبة في شراء شيء منها؟

الجواب: يجوز ما لم تعلم بأنّه مختصّ بمن يريد الشراء.

السؤال: إذا كان الإنسان لا يأمن على نفسه وعائلته من الوقوع في الحرام في حال شرائه لجهاز الستلايت فهل يحرم شراؤه؟ وإذا كان البائع يعلم بأنّ المشتري يقع في الحرام فهل يجوز بيعه له؟ وما حكم المال في هذه الصورة؟

الجواب: لا يجوز له شراؤه في هذا الفرض، وأمّا البائع فلا يحرم عليه بيعه ممّن يستخدمه في الحرام مادام للجهاز منافع محلّلة، فإنّ ترك استخدامه في ذلك في الفرض من وظيفة المشتري، وعليه يكون الثمن حلالاً.

السؤال: يقوم بعض التجّار ببيع العملة العراقية على الدول المجاورة، فهل يجوز ذلك؟

الجواب: يجوز في حدّ ذاته ما لم يكن مضرّاً بالاقتصاد الوطني أو مخالفاً للقوانين المعمولة.

السؤال: هل يجوز شراء مواد منزليّة أو كهربائيّة وغيرها من السوق دون السؤال عنها مسروقةً أم لا ولكن سعرها يوحي إلى أنّها مسروقة؟

الجواب: لا يجب السؤال عنها، أمّا مع العلم بكونها مسروقة ولو بقرينة انخفاض السعر فلا يجوز شراؤها.

السؤال: يكثر الآن في الأسواق والساحات بيع مواد غذائيّة كمساعدات، وكلّ بائع عنده كميّة كبيرة من تلك المواد، فهل يجوز شراءها؟

الجواب: لا بأس بذلك ما لم يحرز كونها مسروقة.

السؤال: نحن مجموعة أقارب ننوي شراء أو حجز قطعة من الأرض في مقبرة النجف الأشرف لغرض دفن أمواتنا فيها كي تسهل علينا زيارة قبورهم مجتمعة، فما رأيكم الشرعي في صحّة هذا الشراء؟

الجواب: لا مانع من ذلك إذا كان شراؤها وفق الضوابط المقرّرة من الجهات الرسميّة.

السؤال: ما حكم شراء مياه الشرب من أصحاب سيارات مسروقة من الدولة مع العلم بأنّها مسروقة؟

الجواب: لا مانع من ذلك إذا لم يستلزم تصرّفاً في نفس السيارة وإن كان صاحبها آثماً بما فعل.

السؤال: إذا اشترى شخص شيئاً بأموال محرّمة فهل تنتقل الحرمة إلى الشيء فلا يجوز التصرّف به؟

الجواب: يجوز التصرّف به إذا كان الثمن المدفوع بإزائه كلّيّاً كما هو الغالب، ولا يجوز التصرّف به إذا كان الثمن شخصيّاً.

السؤال: هل يجوز بيع الأملاك (العقارات) والأموال للرجل أو المرأة كبير السن أو الخرف أو المجنون أو السفيه من قبل الورثة حسب توجيهاتهم وتقسيم الأموال في حياته قبل مماته مع حفظ مبلغ منه للعلاج والدفن وما شاكلها بعد أخذ القيمومة الصحيّة عليه من قِبَل المحكمة للورثة، سواء كانت الأموال منقولة أو غير منقولة مع علم الحاكم الشرعي أو من دون علمه؟

الجواب: في مفروض السؤال بعد أن فقد الشخص المذكور أهليّة التصرّف في ماله بسبب السفه أو الجنون فليس لأحدٍ أن يتصرّف في ماله إلّا الولي المأذون من قِبَل الحاكم الشرعي، ويجب الاقتصار في التصرّف على ما يتعلّق بمصالحه وشؤونه من دون قسمة الأموال على الورثة أو ما شابه ذلك.

السؤال: إذا ذهب البائع مع المشتري إلى السوق واشترى الحاجات حسب طلب المشتري ثمّ باعها على المشتري بسعر أعلى من سعر الشراء بالتقسيط، فما حكم البيع؟

الجواب: إن كان المقصود أنّ الأوّل اشترى الحاجات لنفسه ــ ولو بحسب طلب الثاني ــ فلا إشكال في بيعها على الثاني بأزيد من سعرها الأوّل بالتقسيط.

السؤال: هل يجوز البيع أو الشراء أو المساطحة في مدينة الزائرين في النجف الأشرف؟

الجواب: نعم، يجوز ذلك مع العلم بعدم غصبيّة القطعة المطلوبة وإلّا فإنّ قسماً منها محكوم بالغصبيّة.

السؤال: في البيع والشراء يبتلي كثير من الناس بالشراء بهذه الكيفيّة وهي أن يدخل الدكّان ويأخذ ما يريد ويسجّل عليه الثمن في الورقة مع التراضي من دون تحديد الأجل، وفي بعض الصور يعلم المتعاقدان بأنّ الثمن مؤجّل ويسجّله من دون تحديد الأجل بالدقّة؟

الجواب: هذا البيع غير صحيح، ومع ذلك يحلّ للمشتري التصرّف في المبيع مع إحرازه رضا البايع بذلك حتّى على تقدير علمه بفساد المعاملة، ويضمن للمبايع بدله بالإتلاف له أي البايع، بدله ما لم تزد قيمته على الثمن المحدّد وإلّا فبمقداره.

السؤال: هل يجوز شراء الأقمشة ــ مثلاً ــ بالوزن ثمّ بيعها بالأمتار؟

الجواب: إذا كان المتعارف عند شرائها بالجملة تقديرها بالوزن وعند بيعها بالمفرد تقديرها بالأمتار جاز ذلك.

السؤال: اشتريت سيارة ودفعت عربوناً إلى البائع ثمّ حدّدت مدّة أسبوع لدفع بقيّة الثمن، ولكن لم أراجعه بعد الأسبوع ومضت مدّة شهر.

فهل يحقّ للبائع بيعها على غيري وإعادة العربون لي أم يحقّ له أخذ العربون إزاء مدّة التأخير، علماً بأنّه قد راجعه عليها خلال المدّة المتّفق عليها أشخاص آخرون ولكنّه لم يبعها لهم لالتزامه بالشرط، كما أنّه قد أوقف سيارته عن العمل بحسب الشرط المتّفق عليه بيننا؟

وهل أكون ملزماً بتعويضه فيه لعدم السماح له بالعمل بالسيارة خلال المدّة المتّفق عليها؟

الجواب: يحقّ له الفسخ مع تأخيرك في أداء بقيّة الثمن له وتملك العربون والفسخ ما لم يكن بينكما شرط في ذلك، كما لا يحقّ له مطالبتك بتعويض عدم استغلاله السيارة خلال المدّة.

السؤال: هل يجوز لمن يبيع الأكل أن يبيعه في نهار شهر رمضان لكلّ من يطلبه منه حتّى وإن علم أنّه غير معذور في إفطاره؟

الجواب: يصحّ البيع ولكن إذا كان لا يجوز تكليفاً إذا كان مستوجباً للإفطار العلني في هذا الشهر الكريم بحيث عدّ هتكاً لحرمته.

السؤال: شخص اشترى مقداراً من السكائر وبعد مدّة تبيّن أنّ البضاعة ناقصة والبائع مستعدّ للتعويض، ولكن البضاعة قد ارتفع سعرها، فهل يكون التعويض بالسعر الذي كان به البيع أم بالسعر الحالي حين التعويض؟

الجواب: إذا كان البيع كلّيّاً في الذمّة فتبيّن وجود النقص فيما دفعه البائع في مقام الوفاء فعليه جبران النقص من نفس المادّة، إلّا أن يرضى المشتري ببدله كالقيمة الفعليّة.

السؤال: يوجد عندي محل لبيع الأدوات الكهربائيّة وشرائها، أشتري تلفزيوناً بمائة دينار مثلاً وعندما يأتي شخص لشرائه ويقول: (أشتريه منك بمائة دينار) اضطرّ إلى أن أقول له: (اشتريته أنا بمائة وخمسين دينار) لرفع سعره فأبيعه فوق هذا السعر، فما حكمه؟

الجواب: لا يجوز الكذب إلّا بمسوّغ شرعي كضرورة دينيّة أو دنيويّة كإنقاذ نفس محترمة، وما ذكر في السؤال ليس من الضرورة ولا مسوّغ له، ولكن البيع المذكور صحيح غير أنّ للمشتري حقّ الفسخ إذا ظهر له الكذب.

السؤال: يأتي شخص يضع جهاز عندي في المحل لعرضه وبيعه له ويحدّد سعراً لهذا الجهاز، فيأتي شخص ويشتري هذا الجهاز بسعر يزيد عن السعر المحدّد فأعطي صاحب الجهاز المبلغ الذي حدّده للجهاز والباقي آخذه لي، فما حكمه؟

الجواب: فيه إشكال ولا يحلّ لك أخذ الباقي، نعم إذا علم صاحب الجهاز بذلك وجعله لك ــ ولو عوضاً من عملك ــ حلّ لك.

السؤال: العربون الذي يدفعه المشتري مسبقاً قبل استلام السلعة هل يجوز للبائع أخذه عند تراجع المشتري؟

الجواب: إذا كان العربون جزءاً من الثمن في البيع الواقع بينهما وقد اشترط المشتري لنفسه حقّ الفسخ مع الالتزام بتمليك العربون للبائع على تقدير إعمال هذا الحقّ لزمه الوفاء بهذا الالتزام.

السؤال: ما هو رأيكم في الشرط الجزائي بين المتبايعين؟

الجواب: إذا جعل الخيار للمتبايعين واشترط على من يعمل الخيار أن يهب للطرف الآخر مبلغاً من المال لزمه العمل بالشرط.

السؤال: كيف تصحّ المعاوضات التي تجري على الأمور الاعتباريّة كتراخيص المحلّات التجاريّة وحقوق الطبع والنشر وغيرها ممّا يكتسب ماليّته من جهة الاعتبار فقط؟ وفي أيّ باب من أبواب المعاملات الشرعيّة تكون؟

الجواب: إذا كان في موردها حقّ شرعي قابل للإسقاط أو النقل إلى الغير أمكن التوصّل إلى ذلك بالمصالحة والجعالة والهبة المشروطة ونحوها.

وأمّا مع كون الحقّ قانونيّاً ــ أي: بحسب القوانين المرعيّة في البلد ــ من دون أن يكون معتبراً شرعاً فيمكن التوصّل إلى المقصود بالهبة المشروطة بعدم المزاحمة أو الإذن في الاستفادة من بطاقة معيّنة ونحو ذلك.

السؤال: ما حكم المعاملة لو كان الثمن كلّيّاً في الذمّة فدفع المشتري مالاً مسروقاً في مقام الوفاء أو كانت المعاملة شخصيّة؟ وما حكم المعاملة لو دفع المال المذكور اُجرة؟

الجواب: إذا كان الثمن أو الأجرة كلّيّاً في الذمّة فالمعاملة صحيحة وإن كانت ذمّة المشتري أو المستأجر لا تبرأ بالدفع من المال المسروق.

وأمّا إذا كانت المعاملة شخصيّة فهي فضوليّة لا تصحّ من دون إمضاء المسروق منه.

السؤال: هل يجوز شراء جهاز التلفاز؟

الجواب: لا يجوز اقتناؤه لمن لا يأمن من انجرار نفسه أو بعض أهله إلى استخدامه في الحرام، ويجوز الشراء مع الأمن.

السؤال: ما حكم التعامل بلعب الأطفال أو ما نسمّيها (اللّعّابات) وكذلك بقيّة دمى الأطفال؟

الجواب: يجوز شراؤها واقتناؤها، وأمّا صنعها فالأحوط لزوماً الاجتناب عنه كما في غيرها من الصور المجسّمة لذوات الأرواح.

السؤال: ما حكم من يتّخذ تأجير الـ (CD) أو (DVD) مصدراً لرزقه، علماً أنّ أغلب الأفلام المؤجّر تحمل مشاهد جنسيّة ونزعات عدوانيّة؟

الجواب: لا يجوز إذا كانت تتضمّن ما يحرم نشره وإذاعته كالصور الخلاعيّة وسائر مشاهد الإغراء الجنسي وبطلت إجارتها وحرم أخذ الأجرة عليها.

السؤال: ما هو رأي سماحتكم في بيع صور المطربين واللاعبين؟

الجواب: يحرم بيع الصور التي تكون وسيلة لترويج الفساد وإشاعة الفحشاء بين المسلمين، وأمّا ما لا تكون كذلك فلا بأس ببيعه.

السؤال: هل يجوز أن يبيع صفحة مخطوطة من بعض آيات القرآن العزيز وموجودة في الإطار الذي ينصبّ على الجدار في البيوت لغير المسلمين ويشترونها لكونها قديمة ونادرة الوجود؟

الجواب: لا بأس مع عدم كونها في معرض الهتك والإهانة بأيّ نحو من الأنحاء.

السؤال: هنالك تعامل في الأسواق بالنسبة للساعات اليدويّة فهي تحتوي على جلد أجنبي (سير) مشكوك فيه بالتذكية أو متيقّن منه بأنّه غير مذكّى، فما حكم التعامل به من البيع والشراء بالنسبة للساعات التي تحتوي على السير المشكوك أو المتيقّن من عدم تذكيته؟

الجواب: إذا كان مشكوك التذكية جاز اعتباره جزءاً من المبيع، أمّا إذا كان متيقّن العدم فهو ميتة ولا يجوز إدخاله في المعاملة على الأحوط.

السؤال: إذا كانت العطور تحتوي على الكحول فهل يجوز بيعها وشراؤها؟ وهل تعتبر الكحول نجساً؟

الجواب: لا مانع من بيعها وشرائها، والكحول المستعملة فيها غير نجسة على الأظهر.

السؤال: إذا كان سائل الصابون (الذي يستعمل بعض أنواعه لغَسل الرأس وبعضها لغَسل البدن وبعضها لغَسل الملابس) حاوياً على دهن الخنزير فهل يجوز بيعه وشراؤه؟ وهل يجوز استعماله للغَسل ثمّ تطهير المغسول به؟

الجواب: إذا كان دهن الخنزير بنسبة قليلة مستهلكة فيه فلا بأس ببيعه وشرائه، ولا بأس باستعماله ثمّ تطهير المغسول به ــ ممّا يشترط فيه الطهارة ــ على كلّ حال.

السؤال: هل يجوز عرض الملابس النسائيّة وتعليقها ونشرها لغرض بيعها على مرأى من الرجال والنساء وخصوصاً الشباب ممّا يثير الغريزة الجنسيّة وخاصّةً بالنسبة للملابس الداخليّة؟

الجواب: إذا كان عرضها موجباً لإثارة الفتنة النوعيّة لم يجز.

السؤال: هل يصحّ الشراء من المأخوذ بالقمار أو السرقة؟

الجواب: لا يصحّ شراء المأخوذ بالقمار أو السرقة أو المعاملات الباطلة، وان تسلّمه المشتري وجب عليه أن يردّه إلى مالكه.

السؤال: هل يحرم بيع المكيل و الموزون بأكثر منه؟

الجواب: يحرم بيع المكيل والموزون بأكثر منه، كأن يبيع كيلو غرام من الحنطة بكيلو غرامين منها، ويعمّ هذا الحكم ما إذا كان أحد العوضين صحيحاً والآخر معيباً أو كان أحدهما جيّداً والآخر رديئاً أو كانت قيمتهما مختلفة لأمر آخر، فلو أعطى الذهب المصوغ وأخذ أكثر منه من غير المصوغ فهو رباً وحرام.

السؤال: هل يجوز شراء تماثيل مجسّمة منحوتة لإنسان عارٍ تماماً ذكراً كان أو أنثى؟ وهل يجوز شراء صور مجسّمة منحوته للحيوانات وتعليقها للزينة؟

الجواب: لا بأس بالثاني، أمّا الأوّل فإن كان فيه ترويج للفساد لم يجز.

السؤال: هل يجوز لنا بيع أدوات البيت فقط من طابوق وسمنت وحديد وجص وغيرها من دون بيع الأرض وأخذ ثمن الأدوات وشراء قطعة أرض وإعلام الطرف المقابل أنّ هذه الأرض هي ليست ملكنا؟

الجواب: لا يجوز.

السؤال: تمنع الحكومة في بلدنا بيع السجل التجاري من شخص لآخر، فإذا خالف البعض وباعه لغيره فهل تصحّ هذه المعاملة أم لا؟

الجواب: سماحة السيد (دام ظلّه) لا يجيز المخالفة إن كان القانون لصالح المجتمع، ولكن المعاملة صحيحة.

السؤال: هناك بعض الأعيان النجسة لا يجوز بيعها ولا المعاوضة عليها (كالخمر والميتة و ...) ولكن هل يجوز أخذ مقدار من المال بعنوان حقّ الاختصاص بإزائها، فمثلاً لو صار الخلّ خمراً أو ماتت الشاة عند صاحبها فهل يثبت له حقّ الاختصاص أم لا؟

الجواب: نعم، يثبت له ويجوز أخذ المال.

السؤال: شخص ساهم في شركة تبيع أموراً محلّلة وأخرى محرّمة كالميتة، تمّ أخذ نصيبه من أرباح هذه الشركة، فما هو تكليفه تجاه هذا النصيب؟

الجواب: يتصدّق بما يقابل الأموال المحرّمة.

السؤال: الأحذية المصنوعة من جلد الميتة أو جلد الخنزير هل يصحّ بيعها وشراؤها؟

الجواب: لا يصحّ بيع جلد الخنزير وكذا الميتة على الأحوط.

السؤال: لو كان عندي تمر مخلوط بالمقطوع من عذق النخلة ومن الملتقط من الأرض حيث يكون عليه بعض الرمل، هل يجب عليّ حال بيعه أن أعلم المشتري بذلك أم لا؟

الجواب: يجب إذا كان ظاهر الحال كونه بأجمعه مقطوعاً.

السؤال: اتّفقت مع شخص على تجهيزي ببضاعة ودفعت له عربون قدره (٥١٠٠) درهماً، وبعد فترة ارتفعت أسعار البضاعة في السوق ولم يستطع الالتزام، وبالاتّفاق حينها عرض مبلغاً قدره (٦٠٠٠) درهماً بدلاً للعربون الذي دفعته له، ما هو الموقف الشرعي من الزيادة في المبلغ؟

الجواب: يجوز أن يعطيك ذلك في مقابل فسخ العقد، وليعلم أنّ العقد لم يكن صحيحاً إلّا بمقدار ما دفعت من المال.

السؤال: هل يجوز بيع الأوراق النقديّة من جنس واحد مع التفاضل نقداً أو مؤجّلاً؟

الجواب: يجوز نقداً ولا يجوز على الأحوط مؤجّلاً إلّا إذا كانا مختلفين.

السؤال: هناك ظاهرة البيع الأخضر، أي: بيع المحصول بسعر متدنّي جدّاً يصل إلى ٣٠% من سعره عند الحصاد، على فرض البيع الأخضر علماً بأنّه إذا حصل حريق أو تلف للمحصول لأيّ سببٍ كان يتحمّله البائع وليس المشتري، فهل هذا حلال؟

الجواب: إذا كان البيع واقعاً على شخصِ المحصول من الزرع قبل ظهوره فهو باطل على الأحوط.

السؤال: سيّدة كانت تملك محلّين مشيّدين على عقار مشترك مع مالك آخر، قامت بتأجير المحلّين لشخص ثالث، وقام هذا الشخص الثالث المستأجر بشراء المحلّين فدفع جزءاً من الثمن ثمّ توقّف عن الدفع بحجّة عدم تسلّمه سند الملكيّة، فطالبته البائعة بإكمال الثمن فرفض ولم يكمل باقي الثمن، فقامت بعد ذلك ببيع المحلّين إلى شخص آخر وقبضت كامل الثمن بعد خصم ما كان قد دفع المشتري الأوّل ونظّمت عقد بيع ممسوح للمشتري الثاني، وبعد فترة توفّيت، فقام المشتري الثاني بمطالبة المشتري الأوّل بتسليمه المحلّات مع ضمان ما كان قد دفعه كجزء من الثمن فرفض، فهل يحقّ للمشتري الأوّل الامتناع عن تسليم المحلّات للشاري الثاني؟

الجواب: إذا كان للبائعة حقّ الفسخ عند امتناع المشتري الأوّل عن دفع باقي الثمن فقامت بالفسخ ثمّ باعت الملك للشخص الثاني فهو للثاني وعلى الأوّل تسليمه إليه.

وأمّا إذا لم يكن لها حقّ الفسخ ولو من جهة كون المتعارف ــ تعارفاً يبنى عليه العرف ولا حاجة إلى التصريح به ــ هو عدم تسليم كامل الثمن إلى البائع إلّا مع تحويل ملكيّة العقار إلى المشتري في الدائرة الرسميّة فالبيع الثاني باطل والملك للمشتري الأوّل، والله العالم.

السؤال: هناك ملاحظة تكتب على علب المبيدات مفادها أنّ فترة الأمان تكون بعد عشرة أيّام من رشّ المبيد، إلّا أنّه يتمّ حصد الحاصل قبل هذه الفترة، فهل يلزم إشكال شرعي من ذلك؟

الجواب: إذا كان المشتري جاهلاً بالحال ويحتمل تضرّره بتناولها يحرم بيعها إلّا مع إعلامه بالحال، وكذلك يحرم على المشتري تناولها مع علمه بالحال وكون الضرر بليغاً.

السؤال: هل يجوز لي أن أبيع طفلي مع إبقاء الطفل على اسم والده الحقيقي؟

الجواب: لا يجوز ولا يصحّ.

السؤال: اشتريت حاجة معيّنة من معرض معيّن، فهل يجوز لي إرجاعها إلى البائع لأسباب مقنعة أو غير مقنعة؟ وهل يجب على البائع أن يرجعها؟

الجواب: إن لم يكن لك خيار من الخيارات كخيار الغبن أو الشرط أو العيب فلا يجوز لك إرجاعها إلى البائع من دون رضاه، ولا يجب عليه القبول.

السؤال: كانت عندي ماكنة تحسب الأموال النقديّة فعرضتها للبيع، وبعد أيّام جاءني مشتري فسألني عمّا إذا كانت هذه الماكنة أثناء عدّها للأموال تكشف الأموال المزوّرة أو لا، فقلت له كذباً أنّها تكشف الأموال المزوّرة وهي في الواقع لا تكشف، فاشتراها منّي بناءً على ذلك، فهل يقع هذا البيع صحيحاً؟

الجواب: البيع صحيح ولكن له خيار الفسخ، وأنت غاش ومرتكب إثماً كبيراً، ويجب عليك أن تخبره بالحقيقة ولو بدعوى الخطأ.

السؤال: ما حكم المعاملة لو كان المبيع كلّيّاً في الذمّة ودفع البائع المغصوب في مقام الوفاء بالمبيع؟

الجواب: البيع صحيح، وعلى البائع دفع فرد آخر وإعادة المغصوب إلى مالكه.

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله

2021/11/20

ما هي حدود وصلاحيات ’آية الله الفقيه’؟

حدودنا وحدود: آية الله الفقيه

أهمُّ معرفة عمليّة يكسبها الإنسان هي معرفة الحدود؛ لا فرق بين أن يبدأ بمعرفة حدوده أولاً، أو أن يبدأ بمعرفة حدود غيره، فمعرفة أحد الحدين يستدعي معرفة الآخر.

[اشترك]

 وقد نُقل أنّ أحد الحكماء الذين خبرتهم رحلة الحياة الطويلة مصحوبة بتأملات عميقة، وخوض واسع في ميادين المعرفة.. سُئل هذا الحكيم: ما الذي استفدتَه من ذلك كلّه؟ فأجاب: معرفة حدودي! وكان له أن يقول: معرفة حدود غيري! فالمسألة ذات طرفين: الأنا والآخر عموماً، وفيما نحن فيه بالخصوص فالطرفان هما: المقلِّد، والمقلَّد، فمعرفة حدود الفقيه وصلاحياته تعرّفنا حدود رجوعنا إليه أيضاً.

وبكل بوضوح، وإيجاز: يمكن تحديد النطاقات التي يُرجع فيها إلى الفقيه، وترسيم العلاقة بين الطرفين: بين الفقيه المرجع، وبين العامي الراجع إليه، عبر قسمة ثنائية أساسها الحكم (ما يجب فيه الرجوع، وما لا يجب):

القسم الأوّل- في حدود العامي/المقلِّد، وهي النطاقات والمجالات التي لا يجب عليه الرجوع فيها للفقيه، وعدم وجوب الرجوع هنا يشمل حالتين: حرمة الرجوع، وجواز الرجوع، ويدخل في هذا القسم ثلاثة عناوين رئيسة: (الأصول من الاعتقادات، والمسائل الضروريات، وتشخيص الموضوعات) وتفصيل الحديث عنها كالآتي:

  1.  لا تدخل أصول الدين- التي يطلب فيها حصول اليقين للمكلّف نفسه- ضمن الصلاحيات والحدود التي يلزم المكلّف الرجوع فيها إلى الفقيه، بل لا يجوز له التقليد فيها.. والتقليد هنا يختلف عن مراجعة ما يكتبه أو يقوله العالم كوسيلة يراد منها الوصول للهدف، وهو النظر في البراهين مقدمة للاعتقاد واليقين، فإن وقع ذلك وحصل اليقين فهو المطلوب، وإلا بحث ونقّب وفتّش وراجع حتى يحصل منه المطلوب!؛ لذا قال الأعلام اجماعاً: إنّ أصول الدين ليست محلّاً للتقليد، ومرادهم من التقليد هنا هو اتباع الغير والأخذ بقوله تعبّداً وبلا دليل؛ لأنّ التقليد لا يحقّق مناط وجوب معرفة أصول الدين وسببه، وهو الأمن التامّ من الحساب يوم القيامة الذي يجب على المكلّف دفعه بالقطع واليقين.
  2. والضروريات من المسائل، والواضحات من الأحكام الشرعيّة خارجة عن حدود الرجوع للفقيه، فلا حاجة إلى التقليد فيها، سواء كانت المحرّمات: مثل: حرمة الربا، وشرب الخمر، والزنا، واللواط.. أو الواجبات كوجوب الحج والصيام والصلاة والأمر بالمعروف.. إلخ، أو المستحبات كالتصدّق، وزيارة مشاهد الأئمة والصيام في غير شهر رمضان، أو المكروهات: كالصلاة في الحمام، والنوم بين الطلوعين.. أو المباحات كالمشي.. وتشير بعض النصوص للضروريات بعنوان (البيّن)، فمن ذلك مثلاً: ما خطب به أمير المؤمنين يوماً فيما يروى عنه: حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك.. (وسائل الشيعة، ح33531 ج27، ص175)، وما أشرنا له أمثلة من الأحكام البديهية، والمسائل الضروريّة، لذا فالسؤال الذي قد يعلق في الأذهان: من يشخّص تلك الضروريات؟! يستظهر بعض الفقهاء، ومنهم السيد السيستاني: جواز الاعتماد في تشخيص (الضروريات) على قول من يوثق بقوله في ذلك، ولا تعتبر فيه الشرائط المعتبرة في مرجع التقليد. (التعليقة على العروة الوثقى،ج1،ص10).
  3. في موضوعات الأحكام

درج معظم المتشرعة والمتدينين على مقولة: معرفة الموضوعات وتشخيصها بيد المكلف، ولا تقليد فيها.. وهي مقولة صحيحة وتامّة في الموضوعات الصرفة، والعناوين البديهية الواضحة، والبيّنة: مفهوماً ومصداقاً.. تعريفاً.. وتشخيصاً.. ذهناً.. وخارجاً.. وطبيعة وأفراداً.. التي لا تحتاج إنعام الفكر واطالة النظر، ويتساوى فيها الفقيه و العامي، والعالم والجاهل؛ لأنّها بيّنة المفهوم، وجليّة المصاديق حسّاً؛ وحينئذٍ لا معنى للتقليد فيها، فهي من هذه الناحية لا تختلف عن سابقتها: أعني الأحكام الشرعيّة الضروريّة، فقضيّة: الغيبة حرام، واضحة موضوعاً (الغيبة) وحكماً (حرام)، كما أنّ ذكرك لجارك فلان بن فلان بسوء يكرهه؛ واضح التشخيص عندك وعند الجميع أنّه من أفراد الغيبة ومظاهرها، كلُّ ذلك مفهوم وواضح ولا تقليد فيه ولا رجوع للفقيه، أمّا ما عدا ذلك مما يصطلح عليه بالموضوعات المستنبطة (غير بديهية ولا واضحة) ففيه تفصيل لا يسعه المقال، وصفوة القول فيها إنّها على قسمين:

  • موضوعات شرعيّة: وهي الماهيّات والحقائق التي تدخّل الشارع في صياغة حقائقها، إمّا بشكل كامل، كما في العبادات كالحج، والصيام، والصلاة.. وإلخ مما له في اللغة حقيقة ومعنى مختلف عن معناها وحقيقتها في الشرع، أو بنحو جزئي، بإضافة شيء عليها بعد أن كان لها معنى عرفي أو لغوي، كالاستطاعة، أو السفر الشرعي. ولا شكّ أنّ هذا القسم من الموضوعات كالأحكام، وتحديد ماهيته وبيان ما يدخل فيه، وما يخرج عنه؛ يدخل ضمن حدود الفقيه ومجاله، لتنتهي وظيفة الفقيه بتعريف الموضوعات، وبيان أحكمها الكليّة.
  • موضوعات غير شرعيّة -عرفيّة كالغناء، أو لغوية كالصعيد- وهي التي بيّن الشارع حكمها، لكنّه لم يتدخل في صياغة تعريفها، وبيان مفهومها، اعتماداً على معناها العرفي أو اللغوي، وهذه لا تقليد فيها، قال صاحب العروة في المسألة (67): لا (تقليد) في الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية، ولا في الموضوعات الصرفة، فلو شك المقلِّد في مائع أنّه خمر أو خل - مثلا - وقال المجتهد: إنّه خمر لا يجوز له تقليده. نعم، من حيث أنّه مُخبر عادل يقبل قوله، كما في إخبار العامي العادل.. وأمّا الموضوعات المستنبطة الشرعية - كالصلاة والصوم ونحوهما - فيجري التقليد فيها كالأحكام العمليّة.

القسم الثاني- في حدود الفقيه المقلَّد، وصلاحايته، وما يجب فيه الرجوع إليه، والمساحة العامّة لحدود الفقيه التي يشتغل فيها، وتدخل ضمن شؤونه وصلاحياته، وقبل كل شيء: يجب أولاً: التعريف بمصطلح الفقيه.

الفقيه: المصطلح والمفهوم

المصطلح الدارج والرديف للفظ "الفقيه" هو مصطلح "المجتهد"، وهو كلّ من كان قادراً على بيان الحكم الشرعي بالحجّة، والتعريف المشهور والمتداول للاجتهاد هو استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقرّرة: القرآن، والحديث، والعقل والاجماع، والأمر واضح، لكن بالرغم من ترادف الكلمتين في الفقه الشيعي المعاصر، إلا أنّنا نرجّح استعمال مصطلح "الفقيه والفقاهة" لسببين:

الأوّل: هو التخلّص من عبئ النزاع التاريخي، وتجاوز الاختلاف الشكلي الذي لا مرّر له بين المدرستين: الأصوليّة، والأخبارية حول مسألة "الاجتهاد والتقليد" والذي ينتهي في الأخير إلى أنّ ما أُنكر على الأصوليين لا يثبتوه، وما أثبتوه لا ينكره الأخباريون؛ لذا نصّ الأعلام المعاصرون: إنّ النزاع بين الفريقين لفظيٌّ، وهو راجعٌ إلى التسمية، فإنّ المحدّث لا يرضى بتسمية تحصيل الحجّة اجتهاداً، وأمّا واقعه فكلتا الطائفتين تعترف به. (الخوئي-التنقيح،ج1 ص11).

والثاني: هو أنّ الروايات الشريفة قد استعملتْ كلمة الفقه والفقيه والفقاهة دون المجتهد والاجتهاد، قال السيد السيستاني: إنّ كلمة (الفقه) واردة في الروايات، فلابدّ من الاهتمام بـهذا المعنى بدلاً عن الاجتهاد الذي لم يستعمل في الروايات بالمعنى الثاني-وهو المعنى الذي يريده علماء الشيعة اجماعاً وهو: معرفة فروع الشريعة من الحلال والحرام.. (تقريرات بحوث السيد السيستاني،ج5،ص24)، والزبدة، فالفقيه في الفقه هو المجتهد في الاصطلاح الأصولي، وهو من له القدرة على النظر في الأدلة لاستخراج الأحكام منها، ويجب على من ليس هذه القدرة الرجوع إليه.

الرجوع للفقيه.. حدوده ودليله

وأصل وجوب الرجوع للفقيه بالمعنى آنفاً؛ قد أرشدت إليه الآيات، كآية النفر والسؤال، والأحاديث، كمقبولة عمر بن حنظلة، و كقول الصادق (ع) لأبان: اجلس في المسجد وأفت الناس..، كما دلّت عليه السيرتان: سيرة العقلاء في الرجوع لذوي الاختصاص، وسيرة المتشرعة المتصلة بزمان المعصومين في ارجاع الشيعة إلى الفقهاء، وقبل ذلك كلّه: قد دلّ عليه العقل أيضاً، وهو الدليل المبني على قاعدة: لزوم دفع الضرر المحتمل، بتحصيل المؤمّن من العقاب الذي يحتمله فيما لو أهمل التكليف المتعلّق به جزماً على تفصيل مذكور في المطولات الفقيه والأصوليّة، على أنّنا قد أشرنا إلى طرف منه في ثنايا الحديث عن القسم الأوّل.

هذا في أصل الرجوع، وأمّا حدود الرجوع ومساحته، واطاره العام: فيما عدا أصول الدين، وتشخيص الموضوعات، والأحكام الضروريات! هو القضايا غير اليقينيّة، فيدخل فيها ما يجهله العامي، أو يحصل له الظن فيها فضلاّ عن التوهم والشك، مما يتوقف عيه حفظ مصالحهم الدينية والدنيوية في العبادات والمعاملات، لكنّه يبقى إطار عام وعائم، وغير واضح الحدود والمعالم؛ وبسطه كالآتي:

إنّ وظيفة الفقيه في عصر الغيبة الكبرى التي يحتاجه المؤمنون فيها تتلخّص في عنوانين:

 1- بيان واجباتهم الدينية 2- وحفظ مصالحهم الدنيوية.

والعنوان الأول، يتمثّل بالإفتاء والقضاء، أو الفتوى والحكم، وكلاهما ينتميان إلى المسائل الفرعيّة، والقضايا الشرعية، إلا أنّ هناك فارقان مهمّان: الأوّل- هو كليّة الفتوى، وجزئيّة الحكم، فالإفتاء هو بيان الأحكام الشرعيّة العامّة والكليّة من الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب والكراهة.. والصحة والفساد، مثل: الغصب حرّام، وبيان موضوعها أيضاً فيما لو كان الموضوع شرعياً على ما بيّناه في القسم الأوّل، وأمّا القضاء والحكم ففرقه عن الفتوى هو أنّه حكم خاص وشخصي خارجي، مثل أن يقول: هذه الأرض التي يسكنها زيد هي ملكُ عمرو. والفرق الثاني هو أنّ الفتوى لا تُلزم إلا لصاحبها ومن يقلّده، بينما الحكم القضائي نافذ على الجميع فيما لو ملك زمام السلطة القضائية.

والمساحة الثانيّة للفقيه: حفظ المصالح الضرورية التي يتوقف عليها حفظ أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم، وهو ما يصطلح عليه في الفقه بالأمور الحسبيّة، فهي من مهمات الفقيه  و إحدى الوظائف المناطة به، ويمكن لغيره أن يؤديها ويتصدّى لها بعد إذن الفقيه، ومع فقدان الفقيه يجب على المكلّفين أداؤها وجوباً كفائياً، وإنّما قيدنا المصالح بالضرورية؛ لأنّ الأصل  هو عدم ولاية أحد من البشر على أحد، فالولاية المطلقة وما يتفرع عنها من الطاعة المطلقة والتصرّف في النفوس والأموال.. هي منصب ثابتٌ لمن نصّ الله على ولايتهم أعني النبي وأهل بيته(ص) وبموجبه تمّ التنازل عن أصالة عدم الولاية، وحيث أنّ الولاية للفقيه -على ما هو المشهور- غير ثابتة، فيقتصر جواز تصرّف الفقيه في الحسبيات على ما كان بمقدار الضرورة لا غير، فلو كان الأمر الحسبي أمراً كمالياً أو فيه مصلحة للناس دون أن يبلغ الضرورة كتوسعة الطرق أو المراقد أو غير ذلك، فإنّما يجوز اجراؤها على خلاف رضا أصحابها بمقدار ما تتأمن به الضرورات ، وأمّا الزائد على ذلك من الكماليات والمصالح الثانوية فلا يجوز اجراؤها.(للتفصيل: انظر مقال للكاتب بعنوان: دور الفقيه في الأمور الحسبية ولاية أم حِسْبة؟).

أختم:

 بكلمة شاهدة على ما قرّرناه، و موجِزة لجميع ما فصّلناه، لمعلّم الفقهاء وأستاذهم، كتب يقول: الثابت [للفقيه] حسبما يُستفاد من الروايات أمران : 1- نفوذ قضائه. 2- وحجيّة فتواه، وليس له التصرّف.. إلاّ في الأمر الحِسبي فإن الفقيه له الولاية في ذلك، لا بالمعنى المدعى، بل بمعنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته، وذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن لعدم جواز التصرف في مال أحد إلاّ بإذنه، كما أن الأصل عدم نفوذ بيعه لمال القصّر أو الغيّب أو تزويجه في حق الصغير أو الصغيرة ، إلاّ أنه لما كان من الاُمور الحِسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله (جلّت عظمته) وأنه جعل ذلك التصرف نافذاً حقيقة ، والقدر المتيقن ممن رضى بتصرفاته المالك الحقيقي ، هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرّف دون الولاية. )المصدر السابق،ص361).


*السيد علي الحسيني: أستاذ الفقه والأصول في الحوزة العلمية بكربلاء المقدسة.. كاتب وباحث في موقع الأئمة الاثني عشر

2021/11/18

ما حكم استثمار الأموال في البنوك؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن استثمار الأموال وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: ما حكم استثمار الأموال في البنوك علماً أنّ الاستثمار على قسمين:

القسم الأوّل: أن لا يضمن لي الربح ولا رأس المال في حال الخسارة.

القسم الثاني: لا يضمن لي الربح أيضاً ولكن في حال الخسارة يقوم البنك بتسليمي مقداراً مساوياً لرأس المال الذي دفعته؟

الجواب: يجوز إذا كان ضمن معاملة صحيحة شرعية كالمضاربة أو الشراكة أو الجعالة، فلا بدّ من ذكر كيفية الاستثمار والمعاملة التي يتمّ على أساسها وشروطها.

السؤال: هل يجوز الاستثمار بالعملات الأجنبيّة النقديّة؟

الجواب: إذا كان الاستثمار بأن تشتري العملة بسعرٍ معيّن حين الرخص ثمّ تبيعها حين الغلاء فلا مانع منه في نفسه.

السؤال: هل يجوز استثمار الأموال في معمل للسكائر؟

الجواب: لا مانع منه في نفسه.

السؤال: هل يجوز أخذ قرض من بنكٍ أو شركة لغرض استثماره ويرجع بدخل لي يساعدني في حياتي؟

الجواب: يجوز إذا كان من دون فائدةٍ.

وأمّا إذا كان بفائدةٍ فإن كان من بنكٍ أو شركة فيهما نسبة للحكومة جاز أخذ القرض بإذن المرجع، وسماحة السيد (دام ظلّه) يأذن بذلك لعامّة المؤمنين، وأمّا إذا كان القرض من شركةٍ أهليّة فلا يجوز.

السؤال: لديّ مبلغ من المال وأريد استثماره في القروض وذلك بالطريقة التالية:

أن يشتري المقترض سلعةً معيّنة موجودة لديّ بمبلغ ٦٠٠٠ ريال ولمدّة سنة بحيث يدفع لي كلّ شهر ٥٠٠ ريال، وبعد أن يمتلكها ونكتب عقد البيع يبدأ بيعها بمبلغ ٥٠٠٠ ريال نقداً، وبذلك أكون قد استفدت ألف ريال، فهل يجوز ذلك؟

وفي حالة عدم الجواز هل توجد طريقة جائزة شرعاً في مثل تلك الاستثمارات؟

الجواب: يجوز ذلك بشرطين:

١ـ أن يكون البيع واقعيّاً لا صوريّاً بحيث لو اشترى منك ثمّ رفض البيع أو رفضت أنت الشراء تكونان ملتزمين بالبيع الأوّل.

٢ـ أن لا يشترط البيع الثاني في البيع الأوّل، فلا تقول له: (أبيعك بشرط أن تشتريها منّي) ولا هو يشترط عليك ذلك.

السؤال: ماحكم الصناديق الاستثمارية في البنوك؟

الجواب: يجوز ما لم يكن من ضمن الشركات الموقّع عليها بين الطرفين شركة معاملاتها محرّمة كما لوكانت تتعامل بالربا أوتتاجر بالخمور.

السؤال: كنت أعمل كوسيط بين مستثمرين وشركة استثمارية تستثمر في التجارة بالعملات مقابل نسبة من أرباح الاستثمار، وقد عملت وساطة بين أحد الأشخاص وهذه الشركة وبعد إتمام العملية اتّضح لي أنّ هذا الشخص يتكسّب بالحرام، ما حكم العمولة المأخوذة من تلك الوساطة؟

الجواب: لا شيء عليك بالنسبة لما مضى.

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله

2021/11/17

هل يعاقب الإسلام المتحرّش؟!

التحرش في الإسلام من المحرمات والكبائر التي نهى عنها الشرع وجعلها من الآثام التي يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة.

[اشترك]

ولحماية المجتمع من التحرش وضع الإسلام مجموعة من الأحكام التي تحافظ على عفة المجتمع وطهارته، مثل منع النظر وفرض الحجاب وتحريم الخلوة والاختلاط وكل ما يثير الشهوة والغريزة الجنسية، مضافاً إلى أنه أمر بالزواج ورغب فيه وسهل شروطه، ومن المؤكد أن التحرش مضافاً إلى أنه فعل غير أخلاقي يعد من الجرائم الخطيرة التي تعبث بأمن المجتمع ككل.

 ومع أن النصوص الإسلامية نصت على عقوبة الزاني إلا أنها لم تنص على عقوبة جنائية للمتحرش، فمن المعلوم أن الإسلام لم يضع خريطة تفصيلية لكل الجنح الجنائية، فلو نظرنا مثلاً لقوانين العقوبات المعمول بها في عالم اليوم لأدهشتنا كثرة الجرائم التي نصت عليها القوانين، وهي مع ذلك في حالة من التوسع الدائم بحسب تطور الحياة وكثرة المتغيرات فيها، فلا يمكن أن نتوقع أن يضع الإسلام قانون وعقوبة أمام كل مخالفة جنائية، ولبيان فلسفة ذلك لابد من توضيح بعض الأمور التي لها علاقة برؤية الإسلام الكلية، فغياب هذه الرؤية يمنعنا من فهم المسار الذي أراده الله للإنسان.

فمن المؤكد أن الإسلام في غايته النهائية يستهدف بناء مجتمع يتمتع بالطهارة والعفة، وللوصول إلى ذلك يعمل على تهيئة الإنسان روحياً ونفسياً ليكون هو المسؤول عن بناء ذلك المجتمع، فمسؤولية الإسلام كرسالة هي تهيئة الإنسان في المجال الفكري والعقائدي، وفي المجال الروحي والأخلاقي، وفي المجال النفسي والسلوكي، ثم بعد ذلك يصبح الإنسان هو المسؤول عن بناء حضارة إنسانية قوامها قيم الحق والفضيلة، وإذا صح لنا المثال يمكننا أن نقول إن مهمة المدرب الرياضي هي العمل على تدريب الفريق وتهيئته لأخذ البطولة، أما تحقيق البطولة في الواقع فهي مسؤولية الفريق داخل ميدان المنافسة، ومن الطبيعي أن يلتزم اللاعب بالخطة العامة للمدرب إلا أن ذلك لا يمنعه من المناورة داخل الملعب بحسب ظروف اللعب وبحسب مهاراته الشخصية، فهناك ثوابت في أي خطة وهناك مساحات فارغة لها علاقة بالمتغيرات الميدانية يجب على اللاعب استدراكها.

ويبدو أن حال الإنسان في الحياة شبيه بحال اللاعب في الميدان، فبين ثوابت الحياة ومتغيراتها يؤدي الإنسان وظيفته الوجودية، فهو بحاجة إلى الخطة التي تضعه على المسار الصحيح ومن ثم استثمار إمكاناته وقدراته الخاصة، فقد خلق الله الإنسان بالكيفية التي تمكنه من معرفة الحق والسير على وفقه، فهو ليس بحاجة إلى أكثر من تذكيره بالحقائق وتنبيه من المخاطر، ومن هنا كان القرآن الكريم كتاب للتذكير، قال تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، وبذلك يمكن تلخيص مهمة الإسلام في هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم، ومن ثم تعزيز عوامل قوته ومعالجة عوامل ضعفه، وبعدها يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام مسؤوليته في الحياة، والله من وراء ذلك شاهد ورغيب، فضمير الإنسان ووجدانه يكون بمثابة الحكم الذي يراقب مسيره وتصرفاته، فليس في الإسلام سلطة تنفيذية أو شرط تلاحق الإنسان لتنفيذ ما عليه من مسؤوليات، فجزاء الإنسان وحسابه ليس في عالم الدنيا وإنما هو في يوم القيامة، وفي ذلك اليوم تبلى السرائر وتنكشف الحقائق، ومن هنا كانت الحدود العقابية في الإسلام محدودة، وفيها من الشروط ما يتعذر معها في العادة اقامتها.

فقد حصرت الشريعة الحدود في سبعة وهي (حد السرقة، والزنا، والقذف، وشرب المسكر، والبغي، والردة، والحرابة والفساد في الأرض) ولو نظرنا لهذه العقوبات لوجدنا أنها من المفترض ألا تحدث في المجتمع الإيماني الذي أراد الإسلام اقامته، قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) فإذا كان المجتمع الإيماني ينفر من الجهل والجاهلون كيف نتصور فيه حدوث السرقة والزنا وشرب المسكر والبغي والردة والفساد في الأرض؟ وإذا كان المجتمع الإيماني لا يشهد الزور ويتعفف عن مجالس اللغو كيف يمكن أن تصدر منه مثل تلك الأفعال؟ قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) 

وعليه وضعت تلك الحدود لكونها تمثل جرائم كبيرة تهدد صفاء المجتمع الإيماني، ومع ذلك نجد أن الإسلام يتحرز كثيراً في أثبات وقوع تلك الجرائم، فشرط لأثباتها شروط تكاد تكون مستحيلة، فمع أنه يستهدف حماية المجتمع من مثل تلك الجرائم إلا أنه في نفس الوقت لا يجبره وإنما يريد منه أن يرتقي إلى مستوى يطهر فيها ذاته بذاته، فعندما يستشعر الجميع قيمة الصلاح والإصلاح ستكون حركة الجميع بقناعة وإيمان حقيقي.

ولم يفوض الله عموم المجتمع لإقامة تلك الحدود وإنما جعلها خاصة لمن يمثل إرادة الله بشكل مباشر سواء كان رسول أو أمام معصوم، ومع غياب الإمام وغياب المجتمع المثالي الذي دعاء له الإسلام لا توجد جهة تمتلك حق تنفيذ هذه الحدود.

وعليه فالإنسان في نظر القرآن كائن عاقل بإمكانه التمييز بين ما فيه صلاحه وما فيه فساده، ولذا تكرر تذكير القرآن للإنسان بالعقل وبضرورة التعقل، وعندما يصبح الإنسان عاقلاً لا يحتاج لأن تسن له القوانين العقابية، وما يقع في الحياة من أخطاء وجنح جنائية بإمكان العقلاء تقدير ما يناسبها من عقوبة، فمثلاً البيت الذي يربي فيه الأب الأبناء على قيم الحق والفضيلة ويرشدهم إلى طريق الخير والصلاح لا يحتاج أن يضع فيه سلسلة من القوانين العقابية وإنما يجعل ذلك رهين الظروف، والإسلام ربى الإنسان وحمله مسؤولية تقدير القوانين العقابية للمخالفات الجنائية، فالإسلام لم يصادر عقل الإنسان وقدراته على عمل ما هو مناسب لحياته، وإنما وضع له الخطة العامة والاتجاه الذي يجب أن يلتزم به.

 وعليه وضع القوانين العقابية من مسؤوليات المجتمع من غير أن يكون فيها ظلم أو تعدي، فمن حق العقلاء وأهل الخبرة والاختصاص التوافق على الأنظمة التي تحافظ على حياتهم آمنة ومستقرة.

وفي المحصلة؛ الإسلام في المبدأ لا يعارض القوانين الوضعية فيما يتعلق بالجنح والجنايات، وعلى الفقهاء المجتهدين أو حتى أهل الخبرة من علماء القانون والمجتمع أن يتوافقوا على وضع العقوبة المناسبة للتحرش، وقد تختلف هذه العقوبة من مجتمع لمجتمع آخر بحسب ما يراه المشرع.

2021/11/16

أنا مضطرّ.. ما حكم ممارسة العادة السرّية؟!

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "العادة السرية" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: أنا مصاب بمرض تضخّم البروستات الحميد وأستخدم الأدوية لعلاج المرض، وكذلك نصحني الطبيب بزيادة عدد مرّات المعاشرة الزوجية لتخفيف الآلام والاحتقان.

في الوقت الحالي زوجتي سافرت لزيارة أهلها لمدّة شهرين وأنا أعاني من هذه الحالة المرضيّة، فهل يجوز الاستمناء لغرض تخفيف الآلام والاحتقان وكثرة التبوّل الذي أعاني منهما ويـؤثران على عملي اليومي؟

الجواب: الاستمناء بفعل ما يثير الشهوة الجنسية مع غير الزوجة حرام، ولا ترتفع حرمته إلاّ في حال الاضطرار، وما ذُكِرَ لا يمثّل حالة الاضطرار فيما يبدو، فإنّ هناك ـ كما يُقال ـ طرقاً أخرى لإخراج المني من دون إثارة الشهوة الجنسية كالضغط على غدّة البروستات ودلكها لغرض إغلاق القسم العلوي من الإحليل حتّى يخرج المني، وكاستعمال بعض العقارات التي تؤدّي إلى تقلّص الألياف العضليّة للبروستات وانقباضها بشدّة بحيث يتسبّب في إغلاق مجرى البول وبقاء طريق المني مفتوحاً إلى أن يخرج.

ويمكن أيضاً معالجة الأعراض المذكورة من الآلام والاحتقان وكثرة التبوّل باستعمال بعض الأدوية.

والحاصل: إنّه لا يبدو انحصار تفادي الأضرار المذكورة في ممارسة الاستمناء المحرّم، هذا إذا كانت تلك الأضرار بحدٍّ يُعتدّ بها، وإلاّ فلا يجوز في كلّ الأحوال.

السؤال: ما هي كفارة العادة السرية؟

الجواب: لا كفارة فيها سوى التوبة النصوح.

السؤال: هل يجوز استمناء الرجل بيد زوجته؟

الجواب: يجوز.

السؤال: هل عرق الجنب من الاستمناء طاهر؟

الجواب: طاهر وتجوز الصلاة فيه.

السؤال: ما حكم من يستمني في نهار شهر رمضان وما هي كفارته؟

الجواب: إذا كان عالماً بمفطريّة الاستمناء أو كان متردّداً في مفطريّته فصومه باطل، وإذا كان عالماً بل وجاهلاً مقصّراً على الأحوط لزوماً تجب الكفارة مع القضاء.

ويكفيه في الكفارة أن يتصدّق على ستين مسكيناً كلّ واحدٍ ٧٥٠ غراماً حنطة أو خبزاً.

وأمّا إذا كان واثقاً بعدم المفطريّة عن جهل قصوري أو كان واثقاً من نفسه بعدم الانجرار إلى الإمناء ولكن اتّفق ذلك من دون قصدٍ مسبق فصومه صحيح.

السؤال: ما جزاء من يمارس العادة السرية؟

الجواب: فعل حراماً ويستحق التعزير، ويجب أن يتوب ويستغفر الله مع العزم على عدم العود.

السؤال: لو ثبت أنّ المرأة لا تمني فهل يجوز لها عمل العادة السرية؟

الجواب: ليس للمرأة مني كمني الرجل المشتمل على الحويمنات، ولكن ثبت بموجب النصوص الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) أنّ السائل الذي يخرج منها عند بلوغ الذروة في التهيّج الجنسي بحكم المني في الرجل، فيوجب نزوله منها الجنابة وكذا على الأحوط ما يخرج منها قبل ذلك إذا كان كثيراً، والعادة السرية كما هي محرّمة في حقّ الرجل فكذلك محرّمة في حقّ المرأة.

السؤال: ما حكم العادة السرية ولكن من غير خروج المني، أي: مجرّد استرخاء الجسم، وهل يجب الغُسل؟

الجواب: لا يجوز على الأحوط وجوباً ولا يجب الغُسل.

السؤال: إذا أراد الشخص أن يختبر مدى قدرته على الإنجاب، فطلب منه الطبيب أن يخرج السائل المنوي ليفحصه، فهل يجوز له الاستمناء؟

الجواب: مادام غير مضطر لذلك فلا يجوز له الاستمناء.

السؤال: ممارسة العادة السرية حرام، هل أنّ الرجل والمرأة في ذلك سواء؟

الجواب: نعم، فكما لا يجوز للرجل أن يداعب عضوه التناسلي حتى يقذف فكذلك لا يجوز للمرأة أن تداعب عضوها التناسلي حتى تنزل.

السؤال: هل يجوز الاستمناء للأغراض الطبية؟ وما هي الضابطة في ذلك؟

الجواب: الاستمناء حرام، لكن إذا اضطرّ المكلّف إلى ذلك وتعذّر إخراجه بالطريق الشرعي جاز له إخراجه بطريقٍ آخر.

السؤال: إنّي أحد طلبة الدكتوراه، أروم البحث في موضوع علميّ يتناول بعض الوظائف التي تخصّ الجهاز الهرموني الجنسي للرياضيّين الذكور، وهو يستدعي تحليل السائل المنوي لعيّنة البحث.

والسؤال:

١ـ لإتمام متطلّبات البحث ينبغي الحصول على السائل المنوي، وقد يستدعي ذلك استخدام طرق صناعية غير الطرق الطبيعية.

٢ـ في حال حرمة استخدام الطرق الصناعية فهل يمكن تغيير العيّنة لتكون من غير المسلمين وتتميم الإجراءات خارج البلد؟

يرجى اقتراح أيّ حلٍّ بديل من قِبَلكم.

الجواب: لا يجوز الاستمناء شرعاً، وذلك بمعنى إخراج المكلّف المني بدلك العضو التناسلي لنفسه مثلاً، كما لا يجوز أن يلي ذلك أيّ شخص غيره عدا الزوجة، كما لا يجوز حثّ الآخرين على الاستمناء المحرّم لا سيّما إن كانوا مسلمين، ولكن لا مانع من استقبال تبرّع المتبرّعين بالسائل المنوي سواء كان استحصالهم إيّاه بطريق سائغ أو لا، ولو توقفت على الاستمناء غاية طبية تؤول إلى إنقاذ نفس محترمة ولو في المستقبل جاز حينئذٍ بمقدار الضرورة.

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله

2021/11/15

مشاهد مثيرة وخلاعية.. ما حكم مشاهدة الأفلام والمسلسلات؟

يعيد موقع "الأئمة الاثني عشر" نشر باقة من الاستفتاءات بشأن "مشاهدة الأفلام والمسلسلات" وذلك طبقاً لفتوى المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف:

[اشترك]

السؤال: هل يجوز مشاهدة الأفلام الأجنبية؟

الجواب: يجوز إن لم تكن خلاعيّة أو إباحيّة.

السؤال: في بعض الأفلام أو المسرحيّات هناك مشاهد مثيرة للغرائز كالتقبيل مثلاً، فهل يجوز استنساخ مثل هذه الأفلام مقابل أجرٍ إذا كان الشخص الذي يقوم بالنسخ لا يعلم باحتواء الفلم على مثل هذه الأشياء؟

وإذا كان الفلم خالياً من ذلك إلّا أنّ الممثّلات فيه يظهرن شعرهنّ وأيديهنّ، فماذا يكون الحكم في هذه الحالة؟

الجواب: إذا كان الفلم يتضمّن مشاهد خلاعيّة أو كان يؤثّر سلباً على المُشاهد من حيث العقيدة أو الأخلاق فلا يجوز المساهمة في ترويجه بالاستنساخ أو غيره.

السؤال: كثرت في الآونة الأخيرة قيام بعض المحلّات والباعة المتجوّلين وبشكل علني عن بيع نسخ وإيجار أقراص الفيديو والتي لا تحتوي على الخُلق الإسلامي والعفّة وما تسمّى لديهم بالثقافيّة، فما رأي سماحتكم بذلك؟ وما هو حكم المال الوارد من هذه المعاملات؟

الجواب: إذا كانت هذه الأقراص تشتمل على الأفلام المنافية للآداب والأخلاق وتنشر الفساد بين المجتمع ونحو ذلك فلا يجوز التعامل بها وثمنها سحت.

السؤال: بعض الأفلام الدراسيّة والتمثيليّة يُسمع في أثنائها صوت الموسيقى لكن مع ذلك لا توجد مظاهر أخرى خلاف الشريعة الإسلاميّة، فهل يجوز مشاهدتها؟

الجواب: إذا كان ما يتخلّلها من الموسيقى التصويريّة لا تناسب مجالس اللهو واللعب والرقص فلا مانع من الاستماع إليها.

السؤال: هل يجوز النظر إلى المسلسلات والأفلام المدبلجة؟

الجواب: تحرم مشاهدة الأفلام المذكورة ونحوها إذا كانت تؤثّر على المُشاهد وتوجب انحرافه أو إثارته، بل الأحوط لزوماً ترك مشاهدتها مطلقاً إن كانت تتضمّن مشاهد خلاعيّة.

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)

2021/11/13

رجل لا تكفيه كل نساء العالم والحجاب حائل جذّاب.. هكذا ’ندّمن الشهوة’!

التعامل بين الجنسين

إن عصرنا هذا أسوأ عصر في تاريخ البشرية، من حيث الإغراءات والسهام الشيطانية. وعليه، لا بد من أن نقف موقفاً متأملا في هذا العصر، وما فيه من صور الإغراء.

[اشترك]

إن المرأة التي لا تريد أن تكون مقاومة في حركة الحياة، وكذلك الرجل؛ هما أضعف ما يكون في مقابل موجة الشهوات العارمة. فمسألة الشهوات ليست قضية أخلاقية محضة، وهذه الأيام تُصنف الشهوات المعاصرة في خانة الإدمان. فدولياً وعالمياً صنفوا الجلوس أمام التلفاز، وأمام الإنترنت لفترات غير متعارفة، بأنه داء ويحتاج إلى علاج نفسي. وكذلك الذين يدمنون الجلوس على الجهاز، فكيف إذا كان الجلوس محرماً؟!.

إن هذه الانحرافات النظرية والصورية والسمعية، تُغير من تركيبة الإنسان الباطنية. فالإنسان الذي لا يُراقب نظره، ولا يُراقب سمعه، ولا يُراقب خياله. هذا الإنسان له حالة من حالات الانقلاب في الذات، وحالة من حالات الخروج عن الحالة السوية. والفرد الذي لا يُراعي الحدود الإلهية في هذا المجال، يصل إلى درجة أنه عندما يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، يقول: بأن الأمر ليس بيدي.

منافذ الشيطان إلى قلب بني آدم

أولا: مسألة النظر: لقد صنف القرآن الكريم مسألة النظر إلى شعب، هنالك نظرة للحقيقة الخارجية، كنظرة الرجل بريبة إلى امرأة لا تحل له. وهنالك نظرة إلى الصور المنعكسة: سواء في الفضائيات، أو في الأقراص المُدمجة، أو على صفحات الإنترنت.

إن النظرة ليست عملية كاميرا تلتقط الصور فحسب! فالبعض يعتقد أن النظر إلى هذه الصور المحرمة لإنسان متزوج ومتحصن، وخاصة إذا كان مع وجود الزوجة، ليس جريمة، فهو معه زوجته ولا يُخاف عليه من الحرام؛ لأنه ليس شاباً مراهقاً أعزباً. ولكن القضية أعمق من هذه النظرة الساذجة البسيطة.

النظرة هي صور في الخلايا الحساسة في المخ. إن هنالك -حسب التحقيقات الطبية- خلايا في الذهن البشري، وهذه الخلايا مسؤوليتها الاهتمام بالملفات الساخنة. فالشاب الذي يتابع المباريات -مثلا- هذا الإنسان شاب، ذهنه متأقلم مع هذا الأمر الشاغل له. وبالتالي، فإنه يبدع في التكهن والمتابعة، ويذهب للنوادي؛ لأن الملف الحاكم على ذهنه هو الرياضة مثلاً. والإنسان الشهواني الذي ينظر إلى هذه الصور المحرمة -فالقضية ليست قضية صور في شبكية العين، إنما هي صور في هذه الخلايا الحساسة في المخ- فهذا الرجل يتحول إلى موجود بهيمي، ينظر إلى نساء الغير، وهو يعتقد بأن له مجوزا شرعيا، وأنه في أمنٍ من الانحراف. وينظر إلى النساء في الشارع وكأنهن عاريات، وينظر إلى زوجة الصديق فيتمناها لنفسه، فيصلي بين يدي الله -عز وجل- وهو يفكر في خطة من الخطط، للوصول إلى مآربه.

النظرة تغير التكوين الباطني للفرد. إن المرأة التي تجد زوجها عاكفاً على هذا الحرام، لابد وأن تلتفت إلى أن هذه النار سوف تصل إلى عشها الزوجي. فالذي يفكر بهذه الطريقة، والذي ينظر إلى أجمل الوجوه في الأرض، وإلى هذا الكم الهائل من الصور المحرمة - فالذهن البشري هبة إلهية فالذي يكثر من النظر، هنالك ألبوم في داخل وجوده، يُسجل هذه الصور أولا- وبعد ذلك ينظر إلى زوجته، فيجعلها صورة من هذه الصور، وإذا به يراها باهتة جداً، عندما يقيس هذه الزوجة المؤمنة العادية، إلى ملكات جمال العالم التي رآها بأية كيفية من خلال المواقع والفضائيات. وبالتالي، فإنه من الطبيعي أن هذا الإنسان، سوف لن ينظر إلى هذه الزوجة بوصفها الإيماني، بل بوصفها المادي والجسدي، والتي لا يمكن أن تدخل في سباق مع هذه الوجوه.

إن الخطوة الأولى في هذا المجال، هو أن نقطع الفساد من مادته. فهذا الجدول من الحبر الأسود، عندما صب في حوض النفس، هذا الحوض الزُلال البريء الهادئ النقي، من الصعب جداً إرجاع ماء الحوض إلى الماء المطلق، بعد أن تكدر بكل أجزائه. فزجاجة صغيرة من الحبر الأسود، بإمكانها أن تلوث حوض سباحة كبير، والتنقية بعد ذلك تكون صعبة. وإذا تلوث الذهن بهذه الصور، فإنها تغير التركيبة الفسيولوجية والسيكولوجية لهذا الإنسان. ورب العالمين له عقوبات في هذا المجال. ففي القرآن الكريم وروايات أهل البيت -عليهم السلام- هنالك تشبيه جميل للدنيا. فهناك دنيا مذمومة، هنالك دنيا محمودة، فالقرآن الكريم يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)، وكذلك قال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ). وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): (مثل الدنيا مثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان؛ ازداد عطشا حتى يقتله). فالذين يدمنون النظر إلى الحرام، ينتقلون من حرامٍ إلى حرام، ويصلون إلى مرحلة لا يجدون لذة في الحرام أبداً.

إن الآباء والأمهات -هذه الأيام- يقتلون بأيديهم فلذات أكبادهم، ويلقونهم في غيابات الجب. وذلك عندما يقومون بشراء أجهزة الاتصالات الحديثة والسريعة، والقنوات الفضائية. وبما أن الوالدين ليسا في المنزل دائماً، والأحداث هذه الأيام تعلموا طرقاً لتجاوز الشفرة أيضاً. وإذا في جوف الليل، والأبوان نائمان، وقد يكون الأب مشغولا في صلاة الليل. وإذا بهذا الشاب المراهق، يتسلل من فراشه كاللصوص، ليفتح الجهاز إلى ما يشيب الرأس من الصور، التي لم تكن تخطر على بال أحد قبل سنوات ماضية.

ثانيا: مسألة الهروب: إن قضايا الهروب من المنزل، والعقد خارج البلاد، ثم الرجوع بالعريس رغم أنف الأبوين. هذه قضايا متكررة. وقد يكون للأب عنوان اجتماعي رسالي، وله تاريخ في خدمة الدين والشريعة، وقد تكون الأم ممن تقيم عزاء أهل البيت. وإذا بهما في ليلة واحدة، يسقطا في المجتمع، ويقول الناس: لو كانت هذه الأم مربية، ولو كان الرجل مربياً، لما خرجت ابنته بهذه الكيفية. إنه سقوط في الدنيا، وسقوط في الآخرة. والشيطان شيطان بكل معنى الكلمة، إذا أراد أن يوقع الإنسان في الرذيلة الكبرى، فإنه من الطبيعي ألا يأتيه بعنوان تلك الرذيلة، وإنما هنالك المراحل المتدرجة في هذا المجال.

إن على الزوجة أن تكون واقعية، فتتدارك البقية الباقية في العش الزوجي. هب أن الزوج لا أمل فيه، وأنه بنى على أن يستمر في طريق المنكر. فإن على الأخت أن تُبقي البقية الباقية من أولادها من هذا العش الزوجي، الذي انهار نصفه. مثلا: لو أن هنالك زلزالا ضرب البيت، وانهارت بعض غرف المنزل، فإذا كان هناك بديل، فإن المرأة تنتقل إلى منزل آخر. وإذا لم يكن هناك بديل، تلملم أثاثها وأولادها للسكن في الجانب المبني من المنزل. وكذلك فلو أن الرجل انهار وانجرف، فلتعتبره مات وهو حي. وبالتالي، عليها أن تعتبر نفسها أرملة هذا الرجل، وعليها أن ترضى بالأمر الواقع (إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون)!

ثالثا: مسألة الحجاب: إن هنالك انحسارا تدريجيا لأجل نزع حجابية الحجاب. إذ ليس المراد من الحجاب وضع ساتر على البدن فقط، بل المراد هو وضع الساتر الذي يجعل المرأة في أمن من النظر المريب. وإلا فما الفائدة من وضع الحجاب، إذا تحول الحجاب إلى زينة في حد نفسه. أو أن الحجاب الذي يراد منه أن يكون حائلاً، وإذا بالحائل يكون جاذباً؟!. وهذه الأيام المحلات والشركات تتفنن في هذا المجال، والحجاب الذي يفصل الجسم تفصيلاً، لا يعد حجاباً بكل معنى الكلمة. والمرأة السافرة هل تريد أن تعرض هذا الجمال في الأسواق؟ فإذا كانت متزوجة، فإن هذا الجمال وهذه المفاتن خاصة للمحرم (للزوج)، وإلا فإنه ينطبق عليه مبدأ الاشتراكية والشيوعية لكل أحد. فإذن، ما وزن الزوج، وما قيمة محرميته، إذا كان لكل الناس؟ فالبنت التي تبرز للشارع بهذا الشكل الفاتن، كأنها تريد أن تقول للمؤمنين بلسان الحال: أنا لست كفؤاً لكم. ويا فسقة الناس!. هلموا إلي أنا الذي أصلح لكم! والمرأة التي تخرج إلى بعض الأماكن المشبوهة، وأماكن تواجد الشباب المعاكسين، فهذه المرأة بلسان الحال تقول: أنني أنا صيد لكم، هلموا إلي!. والمرأة ضعيفة جداً أمام الكلام المعسول.

إن الإنسان عليه أن يكون هادفاً في حجابه، لا إرضاءً: للناس، وللأبوين، ولإمام المسجد، أو لعرف اجتماعي. فالحجاب يجب أن يكون كاملا، والاختلاف فقط في الوجه والكفين: بين مانع، ومجيز. أما الرجل فإنها تُستر بشكل كامل، وكشفها يكون في الصلاة فقط. لذا على المرأة أن لا تستهين بخصلة من شعرها، فالذي يتعدى حدود الدولة، ويخطو خطوة واحدة خلاف الخطوط المرسومة، فإنه يُرمى ويُقتل بعنوان المتسلل. والمرأة التي تكشف عن قسم من صدرها، أو من شعرها، أو من يديها؛ تكون قد تعدت الحدود الإلهية وانتهكت الحكم. وبذلك يكون الحُكم اُنتهك جزئياً في الحجاب غير الشرعي، أو اُنتهك كُلياً في مسألة السفور. (لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت)!

رابعا: مسألة المحادثة عبر الإنترنت:

أولاً: إن المؤمن إذا أراد أن يُراسل، أو أن يكتب، أو أن يتكلم، لا بد أن يُعين الهدف من ذلك، فنحن عبيد لله عز وجل. انظر إلى التكليف الشرعي، إذا كنت لست مأموراً، بل منهياً في هذا الأمر. فلماذا الدخول في هذا المجال؟

ثانياً: إن طبيعة المرأة عندما تُعجب برجل عبر الأثير من خلال: شعره، ومن خلال كتاباته الأدبية، ومن خلال نصائحه. فإن الخطوة الأولى أنها تحب أن ترى هذا الرجل الذي أُعجبت به، وهي لن تكتفي بهذا المقدار من المشاعر، التي قد تكتمها عن البشر، ولكن الله -عز وجل- مطلع على السرائر. بعد ذلك وبالتدريج، يتم اللقاء وتقع فريسة لهذا المحتال. وأغلب الزواجات التي تتم عبر هذه المحادثات، هي في معرض الانهدام. لأن الرجل يبقى شاكاً في هذه الزوجة التي راسلته، ولعلها راسلت الكثيرين غيره، وبعد أن شبعت من هذا الرجل من الممكن أن تعيد الاتصالات القديمة التي لديها. وعليه، فلنذكر أنفسنا بمسألة الفضيحة الإلهية، فرب العالمين يمهل ولا يهمل!. كم قرأنا في أدعية أهل البيت (ع): (اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم)!. فرب العالمين رؤوف بعبده، لا يهتك عصمته، ويبقيه في غلاف بينه وبين الناس، ولكن عند التمادي بالمنكر، فإن رب العالمين يعرف كيف يهتك هذه العصمة (إلهي!. قد سترت علي ذنوباً في الدنيا، وأنا أحوج إلى سترها علي منك في الأخرى.).

فسياسة الدفع أولى من سياسة الرفع، وسياسة الوقاية خير من سياسة العلاج. ومن نوت بينها وبين ربها أن تكون مستقيمة في سلوكها، ينطبق عليها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ).

إن على الزوجة أن لا تصلح نفسها بنحو المقايضة والمبادلة. أي تصلح نفسها كي يصلح الزوج نفسه، فإذا ما أصلح نفسه، ترجع إلى ما كانت عليه من العصبية والمواجهة وطلب الانفصال. بل ليكن التغيير لوجه الله عز وجل؛ أي عليها أن تكون أمة لله، وليكن الرجل عاصياً ليس عبداً!. فإذا كانت أمة، فإن رب العالمين سيحول الرجل في يوم من الأيام إلى خاتم في أصبعها. وهذا هو المجرب وليس شعاراً، فالقرآن الكريم في آية صريحة، يعد بأن يجعل في قلوب الناس الود لهذا الإنسان (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًًّ). ولليائسات من حياتهن الزوجية نقول: بأن الله -عز وجل- (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا). وفي الحديث الشريف: (أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، فهو تعالى يحيي العظام وهي رميم.

2021/11/11

الفقيه والحُكم: ما هي الأمور الحسبية.. وما علاقتها بنظام البلاد؟

دور الفقيه في الأمور الحسبية ولاية أم حِسْبة؟

يتفق العلماء تقريباً على أنّ للفقيه ولاية في الأمور الحسبية، وأنّ القيام بها هي إحدى الوظائف الموكلة إليه.

[اشترك]

فما الأمور الحسبية؟ وما الولاية في الحسبة؟ وهل هي ثابتة للفقيه؟ ومن أين جاء هذا المصطلح وما سبب تسميته بذلك؟ وما حدود الأمور الحسبية؟ وهل تشمل شؤون الحكم؟ وهل هي منصب شرعي؟ وما الفرق بين جواز تصرّف الفقيه في الأمور الحسبية وبين ولاية الفقيه في الأمور الحسبية؟ وما علاقتها بحكم البلاد، والشأن السياسي؟

الحسبيّة- صياغة المصدر، ودلالة المفردة:

ربما تبدو مفردة "الحسبيّة" غريبة على ذائقتنا العربيّة بل على نصوصنا الدينيّة أيضاً، فيستفهم الكثير عن أساسها وأصل مادتها اللغوي، ومن جانب آخر فإنّي لا أعرف أحداً لفت لهذا الجانب، وهو أنّ هذه الكلمة في الحقيقة من المصدر الصناعي/ الجعلي المصاغ من كلمة أخرى وهي: الحِسْبة، والمصدر الصناعي ببساطة ووضوح هو: كلّ كلمة أُضيف في آخرها ياء النسبة، والتاء المربوطة (يـــة) مثل: إنسان-إنسانية/ وطن-وطنيّة/ سياسة-سياسية، وهكذا: الحسبة-الحسبيّة، فالكلمة العربية بالأصالة هي الحسبة، وأّما الحسبية فهي من المولّد المقيس على الكلام العربي، والهدف من هذه الصياغة والتحويل من الكلمة العاديّة إلى مصدر صناعي هو جعلها متمحضة المعنى وخالصة الدلالة في الحالة و الصفات التي تحملها قبل زيادة الياء والتاء، فلو أخذنا كلمة (الإنسان) مثالاً و بما تعنيه من معنى (حيوان ناطق) ثمّ أضفنا عليه الياء والتاء لتكون (إنسانيّة) فإنّنا بهذا الاجراء محّضنا الكلمة في معناها، وجرّدناها عن الجانب الشخصاني، وجعلناها مدلولها خالصاً في الصفات والقيم الخاصّة بالإنسان، وصارت تدل على القيم التي يتفرد بها الإنسان، مثل: الرحمة، والإيثار، والعطف...والأمر ذاته ينطبق على ما نحن فيه (الأمور الحسبية) وهو ما يستدعي أولاً وقبل كلّ شيء معرفة أساس هذا المصدر الجعلي (الحسبيّة) وأصله الذي صيغ منه أعني: (الحِسْبةُ)، وهي كما يجمع أئمة اللغة تعني الأجر والثواب، والاحتساب هو طلب ذلك الأجر والثواب، تقول عند موت قريب: احتسبه عند الله، وفي الحديث: مَن صامَ رمضانَ إِيماناً واحْتِساباً أَي طلَباً لوجهِ اللّهِ تعالى وثَوابِه ... والاحتِسابُ في الأَعمال الصالحاتِ وعند المكْرُوهاتِ هو البِدارُ إِلى طَلَبِ الأَجْرِ وتَحْصِيله بالتسليم والصبر أَو باستعمال أَنواعِ البِرِّ والقِيامِ بها على الوَجْهِ المَرْسُوم فيها طلَباً للثواب المَرْجُوِّ منها (انظر: لسان العرب مثلاً-مادة حسب). وبالنظر لهذا المعنى للحسبة، فإنّ مصدرها الصناعي (الحسبيّة) المسبوق بالأمور يعني بشكل عام: الأعمال التي يتم انجازها بنيّة تحصيل الأجر والثواب لا غير.. وهذه هي مناسبة النقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي الآتي، فكما لا يخفى فإنّ أي عمليّة نقل من اللغة إلى الاصطلاح تستدعي وجود مناسبة والرابطة بين المنقول منه والمنقول إليه.

العلاقة بين الحسبة في فقه أهل السنيّة، والحسبيّة الشيعية

والذي يظهر أنّ مصطلح "الأمور الحسبية" لا يعود إلى "الحسبة" في جذره اللفظي واللغوي فقط، بل حتى من ناحيّة اصطلاحيّة وتاريخية، فإنّ مصطلح الحسبة يعود لما يعرف في أدبيات الفقه عند أهل السنة بنظام وإدارة الحسبة، وهو عبارة عن مؤسسة عرفت في نظام الخلافة بديوان الحسبة أو ولاية الحسبة و يوكل إليها مهمّة اجرائية تتمثل بتطبيق ومتابعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقال لمن يتولى هذه المؤسسة: المحتسب، وقد أُسس علم الاحتساب ودونت فيه كتب مطوّلة.يقول ابن خلدون (ت 808هـ): الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ويحمل النّاس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطّرقات ومنع الحمّالين وأهل السّفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسّقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السّابلة والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصّبيان المتعلّمين ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النّظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدّعاوي مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ والتّدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة ولا إنفاذ حكم وكأنّها أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدّول الإسلاميّة مثل العبيديّين بمصر والمغرب والأمويّين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولّي فيها باختياره ثمّ لمّا انفردت وظيفة السّلطان عن الخلافة وصار نظره عامّا في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية.(تاريخ ابن خلدون،ج1،ص280).

إنّ مصطلح الأمور الحسبيّة في الفقه الشيعي قريب المضمون من نظام الحسبة آنفاً، ولا أقل من اشتراك المصطلحين في جوهر المعنى وروح المدلول وهو ضرورة حفظ النظام ووجوب رعاية مصالح العباد والبلاد، سيّما إذا قارنّا بين ما يرد مكرراً على لسان فقهاء الشيعة: "ما لا يرضى الشارع بتركه" الذي يشير إلى الواجبات التنظيمية ولو لم ينصّ الشارع عليها من جهة، و وسّعنا من مفهوم المعروف والمنكر المأخوذ في ولاية الحسبة من جهة أخرى، وقلنا إنّ المراد بالمعروف في هذا الباب مطلق ما يستحسنه العقل أو الشرع من الواجب والمندوب بل وبعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات الراجعة إلى مصالح المجتمع. والمراد بالمنكر مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع، محرما كان أو مكروها أو مباحا له حزازة عرفية لجهة من الجهات، إذ ربّ أمر لا يكون بالذات محرماً ولكن مصالح المجتمع والبلاد تقتضي تحديد حريات الأفراد بالنسبة إليه، كما لا يخفى على أهله." (منتظري-دراسات في ولاية الفقيه،ج2،ص270).

اصطلاح الأمور الحسبيّة في الفقه الشيعي

وأيا يكن فالكلام فيما يلي في الأمور الحسبيّة حسب منظور الفقه الشيعي، فقد تعددت تعريفات الفقهاء وتنوّعت كلماتهم واختلفت في صياغة التعريف لكنّه اختلاف على قاعدة: تعددت الألفاظ وحسنك واحد، وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشير، وخلاصة ما يذكر في تحديد المفهوم الفقهي للأمور الحسبيّة أنّه عبارة عن مصالح العباد المطلوب تحقيقها شرعاً ويتوقف تحقيقها على وجود من يتصدى لها، ولم يجعل لها الشارع شخصاً بعينه وليّاً عليها، فيكون زمام أمرها بيد الفقيه. ويشتمل هذا المفهوم بالتحليل على ثلاثة عناصر:

الأول: أنّ الأمور الحسبية من مصالح العباد العامّة والخاصة، فهي أولاً وقبل كل شيء أمورٌ حتميّة التحقق، وضرورية الحدوث، وما يقتضي حدوثها هي الحياة الطبيعة أو الاجتماعية للمؤمنين كبشر، وما  يستدعيه ذلك علاوة على الموقف الشرعي والديني منهم كمؤمنين من وجود نظام ينظّم حياتهم، و يرعى شؤونهم، ويحفظ مصالحهم حسب القوانين العامة للدين الذي يؤمنون به.خذ على سبيل المثال: ظاهرة الموت التي لا يستثنى منها أحدٌ من البشر طراً، فإنّها وبلا شك تتطلب هذه الظاهرة منهم باعتبارهم مؤمنين جملة أشياء فصّلها الشارع تحت عنوان: تجهيز الميت، من تغسيل الميت، وتكفينه، وتحنيطه، والصلاة عليه ودفنه، كما أنّ من تداعيات هذه الظاهرة وافرازاتها هو أن يترك الميت أطفالاً صغاراً (يتامى) يحتاجون إلى من يؤدي دور أبيهم من حفظهم وحفظ أموالهم ورعايتهم وتربيتهم.. إلخ.

وهذا القيد الأول ليس أكثر من توصيف للواقع، وإخبار عن الواقع الخارجي؛ تمهيداً لبيان ما يتطلبه من موقف حسب المنظور الشرعي.

ثانياً: ولا شك أن الموقف الشرعي إزاء ذلك هو المطلوبيّة وضرورة التصدي لها، من حيث أنّها من جملة مطالب الشرع وضروراته، وأهدافه القصوى وغاياته، فمن المعلوم أنّ أولى أولويات الشرع: حفظ النفوس، والأموال، والأعراض، ومن ثمّ يُلزم الشرعُ المكلفين ويأمرهم، ويطلب منهم طلباً حثيثاً بالتصدي لكل ما يحفظ تلك الضرورات ويصونها، بل لا يرضى الشارع أي إهمال من شأنه إحداث الضرر والنقص فيها، وعلى هذا الأساس، وبالعودة للمثال آنفاً: يجب شرعاً حفظ (نفوس، وأموال) اليتامى الذين فقدوا أبائهم، ولكن مَن المخاطب بهذا الوجوب الذي لا تتأمن تلكم المصالح ولا تتحقق على أرض الواقع إلا به؟!!

الثالث: ومن القيود المأخوذة في مفهوم الأمور الحسبيّة فقهياً أنّ الشارع المقدّس لم يعيّن لها في عصر الغيبة الكبرى شخصاً بعينه للقيام بها على غرار ما فعله في عصر حضور الإمام مع بسط يده وتمكين الأمة له، وعندها فإذا كان ولابدّ من وجود شخص متصدي لإنجاز تلك المصالح من ناحية، ولم يعيّن الشارع شخصاً لها من ناحية أخرى فإن من نقطع بأهليته ورضا الشرع في تولي الأمور الحسبية هو الفقيه. وفي ضوء هذا الضابط فإنّ شيئاً واحداً كالقيام بشؤون اليتامى مثلاً يخرج عن الأمور الحسبية فيما لو كان جدّهم من أبيهم حيّاً؛ لأنّ ولاية الجدّ ثابتة من قبل الشارع المقدّس، ويدخل في الحسبيات ويكون ضمن مسؤوليات الفقيه في حال فقد الجدّ أيضاً؛ إذ لم يسمّ لنا الشارع أشخاصاً بأعيانهم للقيام برعاية الصغار الذين فقدوا أباهم وجدّهم من أبيهم.

الأمور الحسبية: وحدة الضابطة واختلاف المصاديق

والأمر ذاته ينطبق على تولي شؤون القاصرين والمجانين وحفظ أموالهم ونفوسهم، وهكذا تجهيز الميت الذي لا ولي له ولا وارث، والوقف الذي لم يحدّد له الواقف متوليّاً.. إلى غير ذلك من الواجبات التنظيمية للمجتمع، وما ذكرناه آنفاً مجرّد أمثلة، لذا ذكر الفقهاء ضابطة عامّة تتسع للعديد من الأمثلة والمصاديق وهي ما عُلم أن الشارع المقدّس يطلبه، ولا يرضى بتركه لكنّه لم يعيّن له شخصاً بعينه لإدارته، أو كلّ ما لا بدّ من حصوله في الخارج، ولم يعين من يتوجه إليه التكليف بالخصوص، لكن هذا لا يستدعي بالضرورة أن يتصدى الفقيه بنفسه لها، بل قد يأذن لوكلائه كما في التولية على الأوقاف وغيرها،  أو يأذن لأي أحد آخر يقوم بها كما في المجالس النيابية والبرلمانات ومجالس المحافظات وغيرها مما يتعلق بتدبير شؤون المجتمع ومصالحه، وحفظ نظام البلاد (انظر-صراط النجاة،ج1،ص 10، وج3،ص358)، وصفوة القول في التعريف: إنّ الأمور الحسبية هي كل ما يحفظ النفوس والأموال والأعراض، وتصان به مصالح العباد والبلاد بحيث يؤدي تركه وإهماله إلى اختلال النظام، ويتعيّن على الفقيه القيام بها إمّا لأنّه القدر المتيقن للقيام بهذه الوظيفة، أو ولايةً على ما سيأتي بيانه.

فرق الأمور الحسبية عن الواجبات الكفائية

الأصل في الأمور الحسبية أنّها واجبة على جميع الناس وجوبا كفائياً، لكنّها متميزة عن غيرها من الواجبات الكفائية بأنّ الواجب الكفائي التصرف في غير الحسبيات لا يتوقف القيام به على إذن أحد، بل يمكن لأي مكلّف القيام به وعندها يسقط على الباقين، فيما الحسبيات تتوقف مشروعية القيام بها على إذن من ثبتت ولايته فيها، ومن ثمّ فوجوب الحسبيات الكفائي لا يتنافى مع وقوعها تحت ولاية الفقيه أو تصرّفه، بأن يقال: إنّ مطلوبيتها أول ما توجهت إليه ابتداءً، ثمّ إلى غيره بنحو الترتيب الطولي و يكون تصدي غيره منوطا بإذنه.. (للتفصيل انظر: المشكيني-مصطلحات الفقه، ص136)

أقسام الأمور الحسبيّة

 وفي ضوء ما تقدّم من فرق بين الحسبيات والواجبات الكفائية؛ ذكر الفقهاء أنّ الامور التي يقع لها وصف الحسبية على قسمين:

  • ما كان الأصل في التصرّف فيها هو الجواز، و لا حاجة إلى إذن الحاكم أو غيره، كالصلاة على الميت وتغسيله وتكفينه ودفنه؛ وذلك لانّ مقتضى اطلاق أدلة وجوبها أنّها أمور واجبة على كل واحد من المكلفين -أذن فيها الحاكم أم لم يأذن فيها-، فلا دليل على ثبوت الولاية للحاكم فضلا عن غيره فيجوز التصدي لتلك الامور من غير حاجة إلى الاستئذان من الحاكم الشرعي.
  • ما كان الأصل في التصرّف فيها هو الحرمة وعدم جواز التصرّف، وموردها الأموال والنفوس والأعراض، ومن ثّمّ يتوقف القيام بها، والتصرّف فيها على الإذن كما في التصرف في مال الصغير والمجنون والغائب والاوقاف التي لا متولي لها وغير ذلك من الاموال؛ لأنّ القاعدة الشرعيّة في هذه العناوين الثلاثة هي عدم جواز التصرف فيها، فلا يجوز التصرّف بمال الغير إلا بإذنه، وكذا التزويج.. لكن بما أنّ التصرف في تلك الأمور أمر لابد منه؛ إذ لولاه لتلف مال الصغير وغيره أو لتلفت نفس الصغير لأنه لو لم يبع داره -مثلا- ويعالج الصغير أو المجنون لتلف ومات -فنعلم في مثل ذلك جواز التصرف فيها شرعاً، إلا أنّ القدر المتيقن من جوازه أن يكون التصرف بإذن الحاكم الشرعي؛ لأنّه القدر المتيقن من جواز التصرف في تلك الموارد. (الخوئي-التنقيح،ج8،ص299، بتصرّف).

ولاية الفقيه في الأمور الحسبيّة

وفي القسم الثاني آنفاً من الأمور الحسبيّة (ما كان الأصل فيه عدم جواز التصرّف) ثمّة مسألة رئيسة، وفي غاية الأهميّة نظراً للآثار المترتبة عليها، والمسألة هي: هل تصدّي الفقيه للأمور الحسبية –منصبٌ ثابت للفقيه وولاية له أم أنّه تصرّف مجاز و مأذون به لا أكثر؟؛ ذلك أنّ مبدأ هذا القسم هو عدم الجواز، فتصدّي الفقيه أو أي أحد آخر يحتاج إلى مبرّر وأساس شرعي يتيح له  التصرّف في أموال الآخرين –مثلاً- دون إذنهم ورضاهم، مع أنّ القاعدة الشرعيّة المسلّمة تنصّ على عدم حليّة التصرّف بمال الغير دون رضاه.. وبكلمة أوضح: الأصل القطعي والثابت لدى الجميع هو عدم ولاية أحد من البشر على أحد، فالولاية المطلقة وما يتفرع عنها من الطاعة المطلقة والتصرّف في النفوس والأموال.. هي منصب ثابتٌ لمن نصّ الله على ولايتهم أعني النبي وأهل بيته(ص)، فكيف ساغ اعطاؤها للفقيه في عصر الغيبة الكبرى بخصوص الأمور الحسبيّة؟!

وجواباً عن هذا:

جنح بعض الفقهاء إلى أنّ هذا التسويغ مردّه ومستنده هو الدليل الشرعي والروائي (اللفظي)، وبموجبه تمّ الخروج عن أصالة عدم الولاية، وبنفس المعيار الذي اعتبرنا فيه ولاية أئمة أهل البيت امتداد لولاية الله، فهكذا الحال بالنسبة لولاية الفقيه الجامع للشرائط فإنّها امتداد لولاية الأئمة، فالولاية للفقيه منصب شرعي كما أنّ ولاية أهل البيت منصب ثابت بالنصّ والدليل الشرعي، ويقابل هذا تماماً رأي المشهور الأعظم من علمائنا الذي ينفي وجود دليل شرعي لفظي يعطي الولاية للفقيه، لكنّ نفي الدليل لا يعني بأي حال نفي المدلول، بمعنى أنّهم نفوا وجود نصوص شرعيّة تثبت الولاية للفقيه بيد أنّهم أثبتوها بدليل آخر غير لفظي وهو ما يعبّر عنه بالدليل اللبي الذي يقتصر فيه على القدر المتيقن.

وبيان ذلك كالآتي:

الفرق بين الدليل اللفظي والدليل اللُّبي:

إنّ ثبوت (الولاية) للفقيه في الأمور الحسبيّة، هي محل اتفاق بين الفقهاء، لكنّهم اختلفوا في مدركها ومستندها الذي يثبتها، وهذا الاختلاف في المدرك هو الأساس للاختلافات الأخرى في هذا الإطار، لذا نحن بحاجة إلى مدخل مهمّ جدّاً يوضّح الفرق بين نوعين من الأدلة لدى علماء الأصول، فقد قسّموا أدلة الأحكام إلى لفظيّة، ولُبيّة.

والأدلة اللفظيّة بكل وضوح هي عبارة عن الآيات والروايات الثابتة التي يمكن النظر في ألفاظها ومديات مدلولها من جهة الاطلاق والتقييد، والعموم والخصوص.. وهلمّ جراً.. ويقابله الدليل اللُّبي (نسبة إلى اللُّب) وهو الدليل الذي لا لسان له تعرف بواسطته سعة دائرة مدلوله أو ضيقها. فالدليل اللبّي هو ما يكون من قبيل الإجماعات والسير العقلائيّة والمتشرعيّة، فهي جميعا تشترك من جهة عدم امكان التعرّف على سعة مدلولها بأكثر ممّا هو القدر المتيقّن من مدلولها، فحينما يقع الشك في اتّساع السيرة لمورد من الموارد فإنّه لا مجال لاستظهار شمولها له. فدليليّة الدليل اللبّي متمحّض في المقدار المتيقّن من مدلوله.

مثلا: قاعدة الصحّة في عمل الغير من القواعد المستندة حجيّتها الى السيرة العقلائيّة الممضاة، والقدر المتيقّن من هذه السيرة هي موارد امكان صدور العمل الصحيح من الغير بنحو الإمكان العرفي، وحينئذ لو وقع الشك في صحّة قراءة الأعجمي فإنّه لا يمكن التمسّك بأصالة الصّحة للبناء على صحّة قراءته، وذلك لأنّ المقدار المتيقّن من مورد القاعدة هو إمكان صدور العمل الصحيح من الغير، ومن الواضح انّ صدور القراءة الصحيحة من الأعجمي غير ممكن عرفا، وعندئذ يقع الشك في شمول القاعدة لهذا المورد، وباعتبار انّ مستند القاعدة هو السيرة والتي هي دليل لبّي تكون النتيجة هي عدم امكان التمسك بالقاعدة للبناء على صحّة قراءة الأعجمي رغم اننا نحتمل شمول(انظر- صنقور: المعجم الأصولي ج2،ص136)،

وزبدة المدخل: إذا كان الدليل لفظيّاً أمكننا استفادة الاطلاق والعموم والسعة والشمول منه، بينما إذا كان الدليل لُبّياً وقفنا في الاستفادة منه على القدر المتيقن، ولا نوسّعه ليشمل ما نشك فيه، فإذا تجلّى المدخل سهل علينا فهم جوهر اختلاف الرأيين بشأن ولاية الفقيه وتصرّفه في الأمور الحسبية الذي كان أساساً لجملة من الاختلافات الأخرى:

الرأي الأوّل: الفقيه نائب الإمام ومعيّن بالنصّ على الحسبيات

يذهب هذا الرأي إلى أن مقام الولاية الثابت للأئمة في زمن الحضور قد انتقل في عصر غيبة الإمام المهدي (ع) إلى الفقيه بصفته نائب الإمام، فتثبت له أدوار الإمام ومسؤولياته ووظائفه وأهمها هي ولايته في الأمور الحسبية، والفقيه في ضوء هذه الرؤية قد تمّ تعيينه وتنصيبه من قِبَل الشرع، وأوجب على المسلمين أتّباعه وطاعته، ويترجم ذلك بأنّ الفقيه هو رأس للحكم الإسلامي والسلطة التنفيذية، ويجب عليه التصدّي لرئاسة وإدارة نظام الحكم في عصر الغيبة، ولا يتمّ هذا الرأي إلا إذا استند إلى أدلّة نصّية/ لفظيّة كما أسلفنا، لذا اعتمد على جملة من الروايات، فمن ذلك مثلاً: مقبولة عمر بن حنظلة التي ورد فيها نقلاً عن الإمام الصادق: " فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً.." فاعتبروا هذه المقبولة حكماً سياسياً يحمل المسلمين على ترك مراجعة السلطات الجائرة وأجهزتها القضائية، حتى تتعطل دوائرهم، إذا هجرها الناس، ويفتح السبيل للأئمة «ع» ومن نصبهم الأئمة للحكم بين الناس.." (الخميني-الحكومة الإسلامية، ص88).

وثمّة نصوص أخرى لا تقل أهميّة عن الحديث السابق من قبيل: الحديث المعروف بـ"توقيع اسحاق بن يعوب" عن الإمام المهدي (ع)، بل يمكن القول إنّه أهم النصوص في المسألة حتى أكتفى به بعضٌ لإثبات ولاية الفقيه بحسب النصوص..(الحائري-ولاية الفقيه في عصر الغيبة، ص101)! وفي التوقيع يسأل ابن يعقوب عن مسائل أشكلتْ عليه، فجاءه الجواب عن الإمام ومما جاء فيه: "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله "، وسيأتي البيان أكثر لاحقاً..

الرأي الثاني:

يرى أصحاب هذا الرأي وفي طليعتهم السيد الخوئي الذي يؤكد على الدوام على أنّ الأخبار المستدل بها على مرجعيّة الفقيه، وولايته المطلقة؛ قاصرة السند أو الدلالة "(الاجتهاد والتقليد،ص419). فلا يرى الولاية المطلقة للفقيه، فضلا عن أنّه لا يرى في الفقيه نائباً عن الإمام و منصّباً من قِبَله، ويناقش هو وجملة من تلامذته جميع الأدلة الروائية المساقة في هذا الإطار، ففي تعليقه على توقيع إسحاق بن يعقوب كتب السيد السيستاني يقول: إنّ التوقيع مخدوش سنداً، وغير قابلٍ للاستدلال به.. وينص على وجه الخدش: بأنّا لا نعرف من هو إسحاق بن يعقوب.. ولم يذكر في غير هذه الرواية!. كما أنّه يرد محاولة توثيقه بدعوى أن أسئلته تدل على وثاقته بالقول: إن من جملة أسئلته: السؤال عن أمر المنكرين والفقاع ووقت ظهور الفرج وعمّن زعم أنّ الحسين (ع) لم يقتل.. إلى غير ذلك من الأسئلة التي لعلّها واضحة لكثير من عوام الشيعة فكيف بالعلماء، فأسئلته لا تدل على جلالته.. (السيستاني: الاجتهاد والتقليد،ص84)، وهكذا يناقش أنصار هذه المدرسة سائر أدلة ولاية الفقيه النصّية واللفظيّة، ويحصرونها بالنبي وأهل بيته (ع)، ومقصودهم من الولاية المنفية هي المعنى المعهود والمتبادر، وهي أولوية التصرّف و السلطنة على الأموال والنفوس.. على حدّ ولاية النبي وأهل بيته، لكنّهم في الوقت نفسه يثبتون للفقيه نحوا آخر من الولاية، وفي ضوء ذلك يكتب السيد الخوئي قائلاً: الأصل عدم نفوذ بيع الفقيه لمال القصّر أو الغيّب أو تزويجه في حق الصغير أو الصغيرة، إلاّ أنه لما كان من الاُمور الحِسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله (جلّت عظمته) وأنه جعل ذلك التصرف نافذاً حقيقة، والقدر المتيقن ممن رضى بتصرفاته المالك الحقيقي، هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية .(التنقيح: كتاب الاجتهاد والتقليد،ص361)، ومن ثمّ فما يقوم به الفقيه خارج نطاق الفتوى والقضاء فإنّما يقع منه على سبيل الحسبة وطلب الأجر والثواب، فإن قام به أحدٌ غير الفقيه بعد الرجوع إليه وأخذ الإذن منه؛ سقط عن الفقيه القيام به.

أثر اختلاف الدليل على دور في الأمور الحسبية

وقد يبدو للقارئ أنّ الاتفاق على النتيجة والمدلول (الأمور الحسبية بيد الفقيه) مع الاختلاف في الدليل (هل هو لفظي أم لبي) هو أمرٌّ هينٌ لا يترتّب عليه أثرٌ عملي!، وأنّ اختلاف الرأيين شكلي غير حقيقي، إلا أنّ الواقع ليس كذلك، فثمّة آثار وتبعات، وفوارق وتداعيات ليست قليلة ولا هينة، كلّها تبتني على الاختلاف في طبيعة الدليل الدال على ولاية الفقيه في الأمور الحسبية، فدونك ثلاثة من الفوارق والآثار المهمّة:

  • تعدّد مفهوم الفقيه، والولاية

بمعنى أن الولاية ذات مدلولين مختلفين عند الفقهاء، بل يلقي بضلاله حتى على مفهوم الفقيه الجامع للشرائط وتعريفه: فهل ولاية الفقيه تعبير عن منصب ديني/شرعي، وسلطة متفرعة عن ولاية الله وولاية الأولياء وامتداد شرعي لها قد دلّت الروايات عليها بحيث تقرأ الفقاهة وتفهم على أنّها نيابة عن الإمام المعصوم وأن الفقيه قد تمّ تعيينه وتنصيبه من قبل الأئمة في عصر الغيبة ؟!أم أنّها مجرّد تصرّف مأذون به قد سمحت به الضرورة ودلّ عليه الدليل اللبّي الذي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وليس منصباً دينياً قد أثبتته النصوص الشرعيّة؟،  فيتحدّد المعنى المختار في ضوء الرأيين السالفين، ومن هنا نلاحظ وبشكل واضح أنّ السيد الخوئي وفي الوقت الذي ينفي الولاية عن الفقيه، فإنّه يثبتها له بمعنى آخر مع النصّ على اختلاف المعنيين، فيقول من جهة: الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل.. لكنّه ينبّه من جهة أخرى على: أنّ الفقيه له الولاية  في الأمور الحسبية، لكن لا بالمعنى المدعى،  وقد اتضح ذلك في كلامه السالف فلا نطيل.

ثانياً: في نطاقها سعة وضيقاً، واطلاقاً وتقييداً

  • من التداعيات المهمّة لاختلاف الفقهاء في الدليل الدال على ولاية الفقيه وتصرفه في الأمور الحسبية؛ هو اختلافهم في نطاقها ودائرتها، فالذي يرى أنّها ثابتة بالدليل أي بالنصوص والروايات فعندها يكون له فسحة ومجال للنظر في لسانها ومدلولها ليرى هل جاءت مطلقة أم مقيّدة؟ والرأي عنده أنّها جاءت بلسان الاطلاق، فعلى سبيل المثال: مما استدل القائلون بالنيابة المطلقة للفقيه؛ هو توقيع اسحاق بن يعقوب الذي مرّت الإشارة إليه، فقد اعتمدوا على الاطلاق الذي توفّر عليه هذا الدليل اللفظي. فقالوا: إنّ مقتضى اطلاق كلمة: (الحوادث الواقعة) وكذا: (فإنّهم حجتي عليكم) هي الوكالة المطلقة في كل ما للإمام، فتثبت الولاية المطلقة للفقيه في جميع الحوادث على أساس هذا النصّ.. (الحائري-المصدر السابق،ص101).
  • ، إنّما وسّعوا الولاية وأطلقوها في جميع الاتجاهات والشؤون؛ لأنّ النصّ الدال عليها مطلق، ولم يحدّد الرجوع للفقيه بالفتوى فقط، وفي المقابل، فإنّ من نفى الأدلّة الروائية ورأى عدم تماميتها من جهة الصدور والدلالة قد اعتمد على دليل الحسبة/اللّبي الذي لا نصّ فيه ولا لسان له لكي يتمسك بإطلاقه؛ لذا يقتصر فيه على القدر المتيقن ولا يتوسع بشأنه كما لاحظنا في كلامه آنفاً، وبموجبه يقتصر دور الفقيه وتدخله على مقدار الضرورة.

ثالثاً: في القاعدة والأصل عند الشك

وفي هذا المجال يقول السيد الخوئي: إنّ ثمرة ثبوت الولاية بالأصل أو بالدليل؛ هو أنّه إذا كان شيءٌ واجباً، وشُك في كون صحته مشروطاً بإذن الفقيه، فبناءً على ثبوت ولايته بالدليل لا يجوز لغيره أن يمتثل بدون اذنه لعموم الدليل عليه لكونه مثلاً من "الحوادث الواقعة" فلا بدّ فيه وأن يرجع إلى الفقيه أو يتصدى به بإذنه وذلك كصلاة الميت إذا شك في اعتبار اذن الفقيه فيه. وإن كان ثابتا بمقتضى الأصل فلابد أن ينفى احتمال اعتبار اذنه بأصل البراءة (مصباح الفقاهة،ج3،ص299).

ختاماً:

إنّ الفروق أعلاه ليست فروقاً نظريّة مجرّدة  بحيث لا يكون لها أثر عمليّ، بل تترتب عليها جملة من الآثار العمليّة الكبيرة والمهمّة، فمن جملة آثار هذا التفاوت هو أنّ الولاية في الحسبيات لو كانت ثابتة بدليل لّبي وكانت بمعنى جواز التصرّف؛ فعندها لا ثبت للفقيه إلا فيما وصل لمرتبة الضرورة، فحتى لو كان الأمر الحسبي أمراً كمالياً أو فيه مصلحة للناس دون أن يبلغ الضرورة كفتح شارع، أو توسعة المراقد أو غير ذلك، فإنّما يجوز اجراؤها على خلاف رضا أصحابها بمقدار ما تتأمن به الضرورات لا غير، وأمّا الزائد على ذلك من الكماليات والمصالح الثانوية فلا يجوز اجراؤها.. ولو وقع الخلاف بين السلطة وبين شخص من الأشخاص في ثبوت الضرورة وعدمها، فأرادتْ السلطة اعمال ولايتها لكن الشخص لم يكن مقتنعاً بذلك فلا يجب عليه الطاعة؛ لأنّه لا يعتقد بدخول ذلك في الأمور الحسبية (انظر: ولاية الفقيه في عصر الغيبة،ص76). وعلى النقيض من ذلك تماماً فيما لو كان البناء على ثبوت الولاية المطلقة للفقيه بالروايات، وأنّه نائب الإمام المعصوم في غيبته، وولايته امتداد لولاية النبي وأهل البيت، وقوله مسموع، وأمره مطاع مطلقاً، وسلطته فاعلة على النفوس والأموال والأعراض.

*السيد علي الحسيني: أستاذ الفقه والأصول في الحوزة العلمية بكربلاء المقدسة.. كاتب وباحث في موقع الأئمة الاثني عشر

 

2021/11/09

عش النفاق ورقية الزنا.. لماذا حرّم الله تعالى ’الغناء’؟!

تحريم الغناء، أدلته وفلسفته

تُعدُّ مسألة حرمة الغناء من بديهيات مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إذ وردت فيها روايات صحيحة كثيرة ربما تبلغ حدّ التواتر، وإن كان ثمة مجال للمناقشة فإنما هو في هامش المصاديق لا في أصل حرمة الغناء إذ قام الإجماع عليها بلا مخالف من فقهاء الإمامية، وفي هذا المقال نستقصي أهمّ تلك الأدلّة بعد التعريف بمفهوم الغناء وضابطته ثمّ نقف على بعض وجوه الحكمة من تحريمه.

[اشترك]

أوّلاً: تعريف الغناء

الغناء في اللغة هو ما أوجب الطرب من الصوت قال الفيروز آبادي: "الغناء ككساء من الصوت ما طُرِّب به "(1) .

وأمّا في اصطلاح الفقهاء فهو: " الكلام اللهوي - شعراً كان أو نثراً - الذي يؤتى به بالألحان المتعارفة عند أهل اللهو واللعب، وفي مقوميّة الترجيع والمدّ له إشكال، والعبرة بالصدق العرفي " (2) .

ونلاحظ هنا أنّ مفهوم (الطرب) قد أُخِذ قيداً في المعنى اللغوي للغناء وأخذوا مفهوم (اللهو) قيداً في معناه الاصطلاحي لذا سنتوقف قليلاً لمعرفة المراد بهاتين المفردتين..

ما هو الطرب؟

الطرب لغةً هو خفة تصيب الإنسان بسبب الفرح (3) ويقال طرب في صوته إذا مدَّه (4)، وقد يُستعمل الطرب لغة في الخفة التي تصيب الإنسان بسبب الحزن أيضاً، ويقال: طرب إذا تغنّى (5).

ولم يبتعد المعنى الاصطلاحي لهذه المفردة عن معناها اللغوي فقد استعملوها في المعنى نفسه أي الخفّة التي تصيب الإنسان بسبب الغناء (6).

ما هو اللهو؟

قال الخليل الفراهيدي: " اللهو: ما شغلك من هوىً أو طربٍ " (7) و قال في الفروق اللغوية: "اللهو لعب لا يَعقِبُ نفعاً وسُمّيَ لهواً لأنّه يُشغِلُ عمَّا يعني، من قولهم ألهاني الشيء أي شغلني ومنه قوله تعالى: ( ألهاكم التكاثر) " (8)، وقيل " أصل اللهو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة " (9).

وقد استُعمِلَت مفردة اللهو في المدونات الفقهية بمعناها اللغوي نفسه قال صاحب الجواهر: "(قال الأزهري في التهذيب: .. اللهو ما يُشغِلُكَ من هوىً وطرَبٍ) يريد من عشقٍ وخفَّة من فرحٍ أو حزنٍ، فإنّ ذلك ممّا يُشغل ... والظاهر أنّ هذا هو المراد باللهو هنا.." (10) .

ثانيا: أدلّة حرمة الغناء

لا خلاف بين فقهاء الإمامية في حرمة الغناء إذ وردت فيه مجموعة كبيرة من النصوص الصحيحة جاءت في الغالب تفسيرا أو تطبيقاً لبعض آيات الكتاب الكريم نذكر ههنا بعضها:

أوّلاً: صحيحة أبي الصباح الكناني، عن الإمام الصادق (ع) قال في قوله عزَّ وجلّ (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: هو الغناء (11). وهذا من باب التطبيق، أي انّ مراد الإمام (ع) أنّ الغناء مصداق من مصاديق قول الزور الذي أمر القرآن باجتنابه ومثله قل فيما يأتي من تفسير اللهو بأنه الغناء فهو من باب التطبيق على أحد المصاديق أيضاً.

ثانياً: صحيحة زيد الشحّام قال سألتُ أبا عبد الله (ع) عن قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) قال (ع): " قول الزور: الغناء " (12).

ثالثاً: صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) قال: " الغناء ممّا وعد الله عزّ وجلّ عليه النار وتلا هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) " (13).

رابعاً: صحيحة زيد الشحّام عن الإمام الصادق (ع) قال: "بيت الغناء لا تؤمَن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله المَلَك" (14) .

خامساً: رواية الحسن بن هارون عن الإمام الصادق (ع) قال: " الغناء مجلسٌ لا ينظر الله إلى أهله "(15).

ويدلّ على ذلك روايات كثيرة متضافرة وحسبكَ أنّ الحرّ العاملي قد ذكر منها 32 روايةً في الوسائل في الباب المعنون بـ (تحريم الغناء ..) في الجزء 17 من الكتاب فراجع.

ثالثاً: فلسفة تحريم الغناء

من بديهيات المنظومة التشريعية في الإسلام أنّ الأحكام فيها قائمة على أساس إحراز المصالح وتجنُّب المفاسد الواقعية، غاية ما في الأمر أنّ العقل البشري قد يعجز عن إدراك ذلك، وقد توصّل العلم الحديث في كثير من مفاصل الحياة الى وجهات نظر متقاربة مع الفقه الشرعي، والغناء ليس بدعاً من ذلك فما من شكٍ في أنّ الشارع المقدس لم يحرِّمه إلا مراعاة لمصلحة الإنسان ولدفع المفاسد عنه، لذا أشارت النصوص الدينية وكذلك العلوم الحديثة الى بعض المضار المعنوية والماديّة التي يعود بها الغناء والطرب على الانسان نذكر في هذه التدوينة بعضها:

أولا: أهم الأضرار المعنويّة والروحيّة للغناء

1- فساد الاخلاق، ويكفيك في إثبات ذلك ما يصاحب حفلات الغناء من خلاعة وأوضاعٍ مخجلة وفاضحة من رقصٍ وميوعة واختلاط مشبوه بين الجنسين ممّا يؤدي الى تفسخ الأخلاق وانتشار الرذيلة.

2- عدم استجابة الدعاء، فقد مرّ في صحيحة زيد الشحّام ان الإمام الصادق (ع) قال: " بيت الغناء ..لا تُجابُ فيه الدعوة "، وفي رواية أخرى سُئل الإمام الصادق (ع) عن الغناء فقال: " لا تدخلوا بيوتاً الله مُعرِضٌ عن أهلها " (16) .

3- يسبب النفاق، ففي رواية أبي أسامة عن الإمام الصادق (ع) قال: " الغناء عشّ النفاق " (17) .

4- يسبب قسوة القلب، فإنّ إدمان الغناء والطرب يُبعِد الإنسان عن الخشوع وعن ذكر الله تعالى بل وعن جميع القيم التي تقربه من الله تعالى، لذا ورد في وصية النبي (ص) للإمام علي (ع): " يا علي ثلاث يقسين القلب " وعدّ من الثلاثة "استماع اللهو" (18) .

5- قلة الحياء ونقصان المروءة، فمن آثار الغناء نقصان الحياء لأنّ الطرب والغناء ليس إلا لونٌ من ألوان الخفة والميوعة التي تقود صاحبها إلى حركات غير متزنة (الرقص) وتصرفات وألفاظ غير متوازنة وما ذلك إلا لخفة تخامر عقله تفقده حياءه ومروءته.

6- إنّ نقصان الحياء والميوعة والتسيّب الأخلاقي ومجمل الآثار الأخرى التي يسببها إدمان الغناء تصب في نهاية المطاف باتجاه الاستخفاف بارتكاب الفواحش لذا ورد في الأثر: " الغناء رقية الزنا " (19)، وهو المراد من قول الإمام الصادق (ع) في الصحيحة المذكورة سابقاً: " بيت الغناء لا تؤمَن فيه الفجيعة " أي الفجيعة في الدين، أي ارتكاب الفاحشة وما شابهها .

ثانياً: أهمّ الأضرار الماديّة للغناء

تشير بعض الدراسات الطبية الحديثة الى تسبب الغناء والطرب بأضرار كثيرة على صحة الانسان ذكر بعضها الدكتور يحيى الدوخي في كتابه الموسوم (حكم الغناء في الشريعة الإسلامية دراسة فقهية مقارنة) نقتبس منها ما يلي (20):

1- الغناء ومرض الأعصاب، يقول الدكتور لوتر: " إنّ مفعول الغناء والموسيقى في تخدير الأعصاب أقوى من مفعول المخدرات " ويقول الدكتور " ولف آدلر": " إنّ الموسيقى تُتعب وتُجهد أعصاب الإنسان " .

2- الغناء وصداع الرأس، يقول البروفسور " هنري أوكدن" الأستاذ بجامعة "لويز يانا" إنّ التجارب التي أجريت على الألوف من المرضى أثبتت أنّ من أهم عوامل ضعف الأعصاب والأتعاب النفسية والصداع هو الاستماع إلى الموسيقى والغناء خصوصاً إذا كان الاستماع بتوجّه وإذعان .

3- الغناء وإزعاج الجنين، يقول الدكتور البريطاني "روبرت": لقد ثبت علمياً أنّ الجنين ينزعج من الموسيقى وهو في بطن أمّه .. وعندما تستمع الأمّ الحامل إلى الغناء يخفق قلب الجنين ويضطرب وهو في الرحم .. .

وللغناء مضار معنوية ومادية أخرى كثيرة على الانسان مسطورة في مضانها وإنمّا اقتصرنا في هذه التدوينة على قَبَسٍ يفي بتنبيه من كان له قلب سليم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

  1. القاموس المحيط، الفيروز آبادي: 4/ 372، مادة (غنى) .
  2. منهاج الصالحين، السيد السيستاني: 2/ 7-8 .
  3. الصحاح، الجوهري: 1/ 171 .
  4. معجم مقاييس اللغة، ابن فارس: 3/ 454 .
  5. المخصص، ابن سيده: 4/ 11 .
  6. يُنظر: مفتاح الكرامة، السيد العاملي: 12/ 168 .
  7. العين، الخليل الفراهيدي: 4/ 87 .
  8. الفروق اللغوية، العسكري، الجزائري: 470 .
  9. تاج العروس، الزبيدي: 20/ 170 .
  10. الشيخ الجواهري، جواهر الكلام: 14/ 264 .
  11. الكافي، الشيخ الكليني: 6/ 431.
  12. وسائل الشيعة، الحر العاملي: 17/ 303 .
  13. الكافي: 6/ 431 .
  14. وسائل الشيعة: 17/ 303.
  15. المصدر نفسه: 17/ 307.
  16. وسائل الشيعة: 17 / 306 .
  17. وسائل الشيعة: 17/ 305 .
  18. بحار الأنوار، المجلسي: 62/ 282 .
  19. المصدر نفسه: 76/ 247 .
  20. للاطلاع على مصادر هذه الاقتباسات العلمية يُنظر: حكم الغناء، يحيى الدوخي: ص 150 وما بعدها .
2021/11/06

إيمان أكثر.. مصائب أقل: الدين يواجه ’الانتحار’

الإيمان بالله تعالى يخفف وقع الأزمات والمصائب

يحسن التنبيه لأمر له أهميته، وهو أن الأزمات والمشاكل والمآسي والمصائب التي يمرّ بها الفرد والمجتمع في هذه الحياة الفانية يخفّ وقعها على المتدين المؤمن بقدرة الله تعالى وعدله وحكمته، وحسن اختيارهلعبده المؤمن.

[اشترك]

حيث يرى أنه مرعيّ من قبل الله عز وجل، وأن ذلك ـ في علم الله عز اسمه ـ صالح له في الدنيا والآخرة، ولا يذهب هدراً، ولا يكون خسارة بل هو في عاقبة الأمر ربح له.

فهو نظير الآلام التي يعاني منها الإنسان نتيجة عملية جراحية تحت إشراف طبيب حاذق، حيث يكون وقعها أخفّ في نفس صاحبها من الآلام الطارئة من دون رعاية مأمونة.

وهذا يزيد المبتلى مناعة وطاقة إزاء الأزمات والمصائب والمصاعب المذكورة، ويخففها عليه كثيراً، ويرفع معنوياته، ويقوي نفسه.

على أن الأمل يبقى أمامه مفتوحاً بالتوجه إلى الله تعالى والتوكل عليه ودعائه واللجأ إليه، والاستشفاع بأوليائه وأصفيائه صلوات الله عليهم.

كما أن للنهي الشديد دينياً عن الإغراق في الجزع والحث المؤكد على الصبر واحتساب المصائب مهام عظمت، بانتظار الخلف في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة، والتأسي بمصائب النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وشيعتهم، كل ذلك له أعظم الأثر في تخفيف وقع المصائب والحد من ردود الفعل العنيفة التي يتعرض لها المصاب والمبتلى.

ولذا لا تبدو ظاهرة الانتحار في المجتمع المتدين مهما عظمت المشاكل، واكفهرت الأجواء، وتواترت المصائب والمتاعب.

ولاسيما مع النهي الشديد عنه في الكتاب المجيد والسنة الشريفة. قال الله عز وجل (تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (2)، وقال تعالى: (أَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (3)، الى غير ذلك.

بينما تبدو هذه الظاهرة في المجتمعات غير المتدينة لأتفه الأسباب، ومنها الملل والشعور بتفاهة الحياة.

وهنا تبدو أهمية الدين والعقيدة وفاعليتهما في حفظ نظام المجتمع، وفي تخطي المشاكل ومواجهة المصاعب والمصائب.


الهوامش:

(1) سورة هود الآية: ٣٨.

(2) سورة النساء - الآية 29.

(3) سورة البقرة - الآية 195.

المصدر: خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله)، المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، ص441-443. 

2021/11/03

هل للتاريخ علاقة في استنباط الأحكام الشرعية؟

من الطبيعي أن تكون هناك وشائج صلة وثيقة بين التاريخ وبين الحاضر والمستقبل، فلولا الرصيد المعرفي والانساني الذي تستمده المجتمعات من التاريخ لما تقدمت خطوة واحدة في أي علم او فن.

[اشترك]

وعليه يمكننا أن نقول إن هنالك حيثيات كثيرة يمكن رصدها في علاقة التاريخ بكثير من العلوم والمعارف الإسلامية؛ وذلك لوجود رابط حيوي بين التجربة على مستوى الواقع والتجربة على مستوى التاريخ، فكثير من المسائل الراهنة يمكن فهمها إذا تم مراجعة مسارها تاريخياً، وبذلك يمكن أن يكتسب التاريخ حيوية فاعلة بما يحتويه من تراكم في الأحداث والتجارب.

وإذا نظرنا كمسلمين إلى أنواع العلاقة التي تربطنا بالتاريخ نجدها تتجلى في أكثر من رابط، فكل التعاليم التي أمرنا بها الدين تاريخية على مستوى التنزيل والتكليف كما أنها خضعت لتجربة قد مضت، فعلى مستوى الحكم الشرعي نرتبط بالتاريخ ونعتمد على الأحكام الشرعية التي نزلت ودونت قبل ألف واربعمائة سنة، فلابد أن نبحث عن تلك الأحكام في بطون الكتب، وعندما نفعل ذلك فإننا كثيراً ما نجد روايات مختلفة اختلافاً كبيراً في الأحكام، ولذلك يتحتم أن نعرف بشكل دقيق الظروف التاريخية التي جاءت تلك الأحكام فيها. ومن دون معرفة تلك الظروف المتغيرة، لا يمكننا أن نعرف كيف اختلفت الأحكام والتوجيهات التي صدرت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع أنهم جميعاً على نهج واحد وهو نهج الرسل الأعظم (صلى الله عليه وآله).

وعليه فإن الدراسة الواعية للتاريخ، وتتبع الحوادث التاريخية التي كانت تكتنف حياة كل إمام، هي الكفيلة بحل هذا التناقض على مستوى الظاهر، وحينها نكتشف أن هذا الاختلاف هو نتاج طبيعي لاختلاف الظروف التاريخية التي كانوا فيها، مما يجعل من الضروري اعطاء هذه الظروف أهميتها وموقعها الطبيعي في دراسة الأحكام الشرعية.

وعليه فإن الفقهاء في حاجة ماسة لدراسة التاريخ من جميع النواحي السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ليتمكنوا من معرفة أسباب بعض الاختلافات بين الأخبار.

وفي المحصلة أن دراسة التاريخ لها علاقة بالفقه على مستوى معرفة الظروف التاريخية والسياقات التي جاءت فيها الاحكام؛ وذلك من أجل التمييز بين الاحكام الشرعية التي كانت على نحو القضية الخارجية أي الاحكام التي كانت تراعي ظرفاً خاصاً وبين الأحكام التي كانت على نحو القضية الحقيقية أي الأحكام العامة غير المحددة بزمن صدورها، وبذلك يمكن حل كثير من الاختلافات في الروايات الشرعية ورفع التناقض الظاهر بينها، ومن خلال ذلك يمتلك الفقيه بصيرة وذائقة فقهية تمكنه من معرفة المسار الطبيعي للأحكام الشرعية بين الثابت منها والمتغير.

2021/11/01

يسبب ’الهيجان’.. إليك ما لا تعرفه عن تأثير ’الغناء’ على الإنسان!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

 

لقد ثبت علميا أن الموسيقى تسبب الهيجان فتسبب ضعف الأعصاب والقروح وإمراض القلب بل وحتى الجنون، وقد أتضح في الوقت القريب أن الموسيقى تقضى على الاتزان العصبي بصورة فادحة.

[اشترك]

لأن الاختلال التوازني التي تسببه يضر بالكريات الدموية وعندها يؤدي إلى خفقان القلب هذه الصلة بين الدوران الدموي وخفقان القلب والتفارتات المفرطة وقد اكتشف عام 1957 في فرنسا راجع كتاب فلسفة التحريم الموسيقى.

وأجرى البروفيسور سيلاى تجربة على قرد بالإبر الطبية فأصيب جلد القرد بالفالج بعد أن أصيب بخفقان القلب.

والدكتور جارلس ليبو طبيب المركز الصحي الأطلسي أجرى معادلة بآلة قياسية في معرضين بقاعة رقص في فرنسسكو كان (فيهما المعرضين) عدم تناسق النغم واختلاف الآلات الموسيقية فوجد الصوت الواحد يتضارب بين 100 إلى 119 دقة أو نغمة مختلفة، وقدر الدكتور ليبو إن 80% من الحاضرين قد أضاعوا حاسة سمعهم لمدة معينة بمقدار 5:30 دقة نغمية و(10%) تأثروا بمقدار 40: 100 بالتلف السمعي وتعطل سمعهم لسبب العطب الذي أحدثته الموسيقى، أما البقية المذكورة فقد اصيبوا بالصمم المستديم.

 إن الاكثار من الاستماع إلى الموسيقى يحدث الأرق والسهر، بل يحدث الانفعال والقلق الفكري، ومرض (مينا الجنوني) عند خفقان أعصاب المتاثرين بالموسيقى وتصاب قلوبهم بقروح وقد تقدم القول بان ذلك يحدث مرض المفاصل ومرض البول السكري والصمم الموقت وربما المستمر والى غير ذلك.

فضلا عن ذلك فان الموسيقى تسبب هيجان الغريزة الجنسية وتؤدي إلى الزنا والشذوذ والفجور وتميت القلب وتبعد العبد عن ذكر الله ويزيد ارتباطه بملذات الدنيا وشهواتها وتعمي القلب.

قال الله تعالى: "وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَنِ نُقَيِّض لَهُ شَيطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُم لَيَصُدُّونَهُم عَنِ السَّبِيلِ وَيَحسَبُونَ أَنَّهُم مُهتَدُونَ" (الزخرف:36-37). وقال عز من قائل: "قُل مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَليَمدُد لَهُ الرَّحمَنُ مَدًّا". (مريم:75).

2021/10/30

التشكيك بـ ’المرجعية’ و ’التقليد’.. عندما يتصدّى الجهل لفهم الدين!

في البدءْ ينبغي على هؤلاء المشككين بالمراجع والتقليد أنْ يعرفوا أمراً مهماً وهو أنه لا يحق لأي إنسان أنْ يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية بمجرد أنْ يفهم شيئاً من الرواية، بلْ عليه أنْ يحيط بجملة كبيرة من العلوم حتى يصل إلى درجة الاستنباط.

[اشترك]

فعليه من الناحية النظرية أنْ يدرس علوم اللغة العربية والمنطق والصرف والبلاغة والرجال والحديث والأصول والعقائد والتفسير وغيرها، فالمسألة ليستْ بهذه السهولة كما يتصورها البعض، وأما من الناحية التطبيقية فالرواية الحجة التي تكون محلاً للاستنباط هي الرواية المعتبرة السند والتي لا تخالف القرآن الكريم، ولا تخالف العقل القطعي، ولا تخالف الحقائق العلمية الثابتة، ولا تخالف المسلمات في الشريعة، ولا تخالف ثوابت المذهب، ولا تكون صادرةً للتقية، ولا تكون معارضةً لرواية أخرى منْ مروياتنا، وإذا كان لها معارض هلْ هو من النوع المستقر أو غير المستقر؟ وإذا كان منْ نوع غير المستقر، هلْ يمكن جمعها جمعاً عرفياً أو لا؟، والمستقر هل توجد له مرجحات في المقام أو لا؟ فهذه المراحل كلها على الرواية اجتيازها حتى تكون حجةً ويأخذ بها الفقيه ويستنبط الحكم الشرعي منها .

هذا كله من الناحية الفنية لمنْ أراد الأخذ من المعصومين (عليهم السلام) مباشرةً.. أما من ناحية عقلائية، فالسيرة العقلائية قائمة بالرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص، فقدْ كان الناس يرجعون إلى أهل الخبرة والاختصاص منْ أيام المعصومين (عليهم السلام)، بلْ قبل زمانهمْ، وكان هذا الرجوع على مرأىً ومسمع منهمْ (عليهم السلام)، ولمْ يثبتْ صدور ردع عنهمْ (عليهم السلام) للناس في الرجوع المذكور، فتثبت حجية الرجوع إلى الفقهاء والمراجع لأنهمْ أهل اختصاص في فنهمْ كأي جهة أخرى.

مع إشارة أخرى نذكرها هنا بأن الأئمة (عليهم السلام) أنفسهمْ أرجعوا شيعتهمْ إلى جملة كبيرة منْ أصحابهمْ في أخذ علوم الدين عنهمْ، وقدْ كانوا (عليهم السلام) يعلمون أصحابهمْ كيفية الاستنباط واستخراج الأحكام الشرعية منْ أدلتها التفصيلية.

2021/10/30

ما هي حدود الاختلاط بين الرجل والمرأة؟

إن الاختلاط بشكل عام هو أرض خصبة لها قابلية للوقوع في الكثير من الانحرافات السلوكية والنفسية، التي قد تستدرج الإنسان على هذين المستويين ليجد نفسه في لحظة ما قد فقد كل الدفاعات النفسية التي تقف في وجه وسوسات الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

[اشترك]

من هنا كان للاختلاط خطورته الخاصة التي تحتم معرفة الحدود الشرعية التي تمنع الإنسان من الوقوع في شرك إبليس وجنوده.

ما معنى الاختلاط؟

المقصود من الاختلاط هو اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد، سواء في بيت أو سوق أو طريق وقد يكون في وقتنا الحاضر عبر الانترنت فكل لقاء لأحد الجنسين مع الاخر هو نوع من أنواع الاختلاط.

والاختلاط إذا فسرناه بهذا المعنى الواسع إذا أمكن اجتنابه لشخص أو شخصين فهو بالتأكيد متعسر بالنسبة للمجتمع عموماً، لأن الإنسان يعيش عادة في مجتمع مختلط ولأفراده حاجات متبادلة يتعسر معها فرض عزلة الرجال عن النساء بشكل كامل، بل نجد الاختلاط موجوداً حتى في بعض الأمور الشرعية الأساسية كالحج، وكذلك الجهاد كما يستفاد من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله حيث كان يخرج معه النساء لمداواة الجرحى ولسقي الماء ونحو ذلك.

الخلوة المحرمة

حرمت الشريعة المقدسة نوعاً من الاختلاط وهو الاختلاط الذي يصل إلى حدّ الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبيين، ويقول الفقهاء إنه إذا اجتمع الرجل والمرأة في محلة خلوة، بحيث لم يوجد أحد هناك، ولا يتمكن الغير من الدخول، فإن كانا يخافان الوقوع في الحرام فيجب أن يتركا المكان.

ويكفي أن يكون الحرام بمقدار النظرة المحرمة، فمثل هذه الخلوة محرمة بنفسها، وفي الرواية عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام ) : "لا يخلو بامرأة رجل، فما من رجل خلا بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" .

ضوابط الاختلاط الحلال‏

إذا لم تحصل الخلوة، فالاختلاط ليس محرماً بنفسه ولكن هذا لا يعني عدم وجود حواجز شرعية.

وهناك العديد من الحدود التي يجب أو ينبغي الالتفات إليها ومراعاتها عند اختلاط الرجل بالمرأة نشير إلى بعضها:

1- التبرج والزينة: إن التبرج والزينة من الأمور التي يحرم على المرأة إظهارها للرجل الأجنبي، وفي حديث المناهي عن النبي صلى الله عليه وآله :

"ونهى أن تتزين لغير زوجها فإن فعلت كان حقا على الله أن يحرقها بالنار".

2- الرائحة والطيب: إن الطيب والرائحة هي شبيهة بالتبرج أيضاً ولكن التبرج تدركه حاسة البصر وأما الطيب فتدركه حاسة الشم، لذلك فمع وجود المفسدة يحرم الخروج بالطيب والاختلاط فيه، وعن جابر بن يزيد قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام يقول: " ولا يجوز لها أن تتطيب إذا خرجت من بيتها".

2021/10/24

لدفع ’الجنيّ والجنيّة’.. ما صحة ما يعرف بـ ’حرز التاج’؟!

هل يصح حرز التاج أو دعاء التاج؟ وهل الأحراز ورودها صحيح عن الأئمّة (ع)

[اشترك] 

بعد البحث والتدقيق في كتب الحديث والأدعية المأثورة، لم نجد لـما يسمّى بدعاء التاج أصلاً، ويظهر من صياغته أنّه من تأليف بعض الناس، وفي بعض تراكيبه ومضامينه ما لا يتناسب مع ما هو المأثور من الأدعية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام). فمثلاً جاء

في هذا الدعاء مثل هذه العبارات: واحفظ حامل كتابي هذا من شرّ كلّ جنّي وجنّيّة وغول وغوليّة ومارد ومارديّة وإبليس وإبليسيّة، وكذلك عبارة:  اصرف عن حامل كتابي هذا شرّ البلاء والبليّة والسيوف الهنديّة والرماح الخطّيّة والقسيّ المحنيّة والسهام المرميّة والحربات الجلموديّة والساعات الرديّة. ونحو ذلك، فينبغي للمؤمن الأخذ بالأدعية المأثورة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) التي دوّنها علماؤنا في كتبهم المعروفة المتداولة ككتاب مفاتيح الجنان وغيره.

إن الأحراز بشكل عامٍّ عبارة عن مجموعة من الأدعية ، فيها الصحيح والضعيف، وفيها غير ذلك من الضعيف المعتبر الذي يتسامح في إسناده كما بيّنه أهل العلم وفيها ما لا يصحّ  كما هو الحال في حرز التاج وما شاكله، وعلى المؤمن أنْ يرجع إلى أهل العلم إذا واجه إشكال ما أو أراد معرفة مسألة ما، حتى لا يقع في إشكالات هو في غنىً عنها. 

2021/10/12

رخاء العيش في ’دول الغرب’.. هل له علاقة بـ ’التخلي عن الدين’؟

هل الكفر يحرم الإنسان من متاع الدنيا؟

[اشترك] 

يبدو أن الأمر في ظاهره معقد ويحتاج إلى تفسير إذا فهمنا الابتعاد عن الله يتسبب حتماً في حرمان الإنسان من متاع الحياة، وهذا خلاف ما عليه بعض المجتمعات غير المؤمنة والتي تعيش متاع الحياة كأفضل ما تعيشه المجتمعات المؤمنة، والظاهر أن هذا ما وقع فيه السائل فاشكل عليه الأمر، أما إذا فهمنا الابتعاد عن الله يتسبب في خسارة الحياة الأبدية في الآخرة فحينها لا يكون هناك أي تناقض، فالمقصود هو تكريس الإنسان حياته للدنيا بعيداً عن مصيره المحتوم في الآخرة، فعندما يعيش الإنسان بلا غاية ومن دون هدف ويتصرف في الدنيا بلا قيم تضبط سلوكه فسوف يكون في حالة من الغي والضلال، فمن البديهي أن يكون مصير الإنسان مجهولاً إذا تحرك في مسار لا يعرف منتهاه، ومن هنا كل من يبني حياته على الشهوات والملذات ولا يكترث لعاقبة أمره فسوف يكون مصيره الخسران، وهذا ما اشارت له الآية بكل وضوح في قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، فقوله (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) المقصود منها يوم القيامة أي أن مصيرهم إلى النار، ولا علاقة لذلك بالحياة الدنيا حيث اشارت الآية إلى استمتاعهم بشهواتها في قوله (وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ).

والخلاصة أن القوانين التي بينتها آيات القرآن الكريم في ما يتعلق بالحياة الدنيا هو تساوي الفرص امام المؤمن والكافر وكل يكسب منها بقدر جهده وعمله، قال تعالى: (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، والفرق بين المؤمن والكافر هو أن المؤمن يعمل في الدنيا ونظره في الآخرة بينما يكرس الكافر كل حياته للدنيا، فيحصل فيها على ما يريد ولا نصيب له في الآخرة، قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) وقال تعالى: (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)

ومضافاً إلى ذلك فإن المؤمن يعيش في حالة من الاستقرار النفسي والاطمئنان الروحي بعكس الكافر الذي تجعله الشهوات والمحرمات في حالة من الخواء الروحي والاضطراب النفسي والسقوط الأخلاقي.

2021/09/20

2021/09/19

روحانيات من دون فقه.. ضياع للروح!

نلاحظ أن البعض من الذين يعشقون الجو العبادي والمناجاة مع رب العالمين، يهملون الجانب العلمي إلى درجة ازدراء العلميات، والبعض حتى لا يتفقه في الدين، ويعتبر كأن الرسالة العملية، إنما هي لعوام الناس، ولا قيمة لها، وهو صاحب التخشع والسير!

[اشترك]

وهذه ظاهرة خطيرة في هذا المجال! فلابد من وجود برنامج علمي للمؤمن، ليقوي بنيته العلمية، يتضمن عدة مواد، تعينه في تقوية بصيرته، وتجعل سيره إلى الله تعالى على هدى والمواد هي: الفقه، والقرآن الكريم، وسيرة أهل البيت (ع) ورواياتهم، والعقائد.

وعلى رأس هذه المواد، ما يتعلق بهيكل العبادات، وهي: الرسالة العملية، فضروري جداً التفقه في الدين، وخصوصا في المسائل الابتلائية، وإلا فكيف للسالك أن يحرز رضا المولى تعالى، وهو حتى لا يؤدي تكليفه بشكل صحيح؟

 ولهذا لو أنك رأيت إنساناً متميزا في بعض الجهات الروحية، وسألته: من تقلد، فقال: لا أقلد أحدا، فوراً تعلم أن هذا الإنسان ليس على شيء، ما دام لا يرجع إلى أهل الخبرة في ظاهر عباداته.

ومن المواد أيضا: تعلم القرآن الكريم تلاوة وتفسيراً، فإن الإنسان الذي لا يعلم المعاني الظاهرية لهذا الكتاب العظيم، بعيد عن هذا العالم.

وأيضا: الاطلاع على سيرة النبي (ص) وآله، ومن المناسب قراءة الكتب التي تتناول السيرة مع شيء من التحقيق والتحليل -لأن هناك سيرة سردية تنقل السيرة، كما هي من دون تحليل- فالقراءة التحليلية بليغة ومؤثرة في استلهام الدروس والعبر، وهذه الأيام -بحمد الله تعالى- عندنا كتب كثيرة في هذه المجال.

ومن الملاحظ أن البعض يركز على جانب من جوانب حياة المعصومين (ع)، فيهتم بجانب المصائب أو الفضائل أو الكرامات، ويهمل الجانب العملي! وإلا ماذا تقول عن إنسان يعشق أمير المؤمنين (ع)، وهو عديم الصلة بنهج البلاغة، فكيف تفسر عشقه هذا؟!.. أليس هذا يعني أنه فقط يهتم بشجاعة أمير المؤمنين (ع)، ويعول -مثلا- على شفاعته يوم القيامة، وهذه مسألة مسلّمة؟ فأين نحن من نهج البلاغة، هذا الكتاب الذي يمثل تراث علي في هذه الأمة؟! أو كيف تفسر أن إنساناً يتألم لمصائب الإمام زين العابدين (ع)، ولكنه لم يقرأ في حياته مرة واحدة صحيفته السجادية.

ومن المعلوم أن الإنسان كلما زاد علما، زاد تفاعلا روحيا، ومن هنا نقول: إن من المناسب جدا للذي يريد زيارة المعصوم أن يأخذ معه إلى جانب كتاب الدعاء والزيارة، كتابا عن سيرة ذلك المعصوم، ويقرأ عن حياة الإمام وكرمه ولطفه، وكيف كان تعامله مع الناس ومع من معه من الخدم، ويقرأ الكلمات الأخلاقية ووصايا الإمام؛ حتى يمتلك رصيدا فكريا معرفيا، مما يجعله يتفاعل بشكل متميز في الزيارة.

إلا أن بعض الناس يضع الجانب العلمي في مقابل الجانب الروحي، فلا يهتم إلا بالقضايا الروحية، فهو روحيا متألق، ولكن مستواه العلمي ضعيف.

 ولأن هذا نقص، ومن هنا فهو حتى يبرر نقصه هذا في الجانب العلمي، وعدم امتلاكه ثقافة عالية، فإنه ينتقد العلميات إلى درجة الازدراء، فيقول: إن هذا علم صوري، هذا علم في الكتب، ونحن علومنا مستقاة من عالم الغيب!

ولكن أي غيب هذا؟! وهذه سيرة الذين بلغوا أعلى درجات الكمال في هذا المجال، ويقول عليها كذلك.

فعليه، لابد أن نؤكد على أن هذه البنية العلمية لابد من تحقيقها، لكن بشكل متوازن ومعقول.

2021/09/15

أسطوانة ’ذكورية الفقه’.. لماذا يميّز الذكر على الأنثى في الميراث؟!

س: قد يعدّ الميراث من أبرز مظاهر تفضيل الدين للذكر على الأنثى حيث جعل سهم الذكر ضعف سهم الأنثى، كما جاء في القرآن الكريم: [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ]، فما هو مغزى هذا التفضيل؟ وهل السبب فيه تفضيل جنس الذكر على الأنثى حقاً أم ماذا؟

[اشترك]

ج: ينبغي الالتفات أوّلاً إلى أنّ السؤال عن مدى انسجام زيادة سهم الرجل على سهم المرأة في الإرث مع العدالة ليس سؤالاً أثير في العصر الحديث، بل هو سؤال قديم طرح في أوساط المسلمين منذ القرن الثاني الهجري على ما يظهر مما ورد من سؤال الإمام الصادق (ع) (ت 148هـ) وبعض مَن بعده من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن الوجه في هذه الزيادة، بل يبدو من سياق بعض الآيات القرآنية التي تضمنت النهي عن أن يتمنى كل من الرجال والنساء ما فضل الله بعضهم على بعض أنّها كانت ناظرة إلى الميراث بشكل خاص والباعث على إثارة هذا السؤال في أوساط الناس رغم اعتياد الناس في المجتمع العربي -بل مجتمعات أخرى آنذاك- على مزايا للرجال، وتقبلهم عموماً لذلك، هو الدعوة الصريحة والواضحة من الإسلام إلى العدل بين الناس وتأكيده على أنّ التشريع الصائب هو ما ابتنى على الأسس الفطرية والوجدانية كالعدل والإنصاف وتأكيده على انطلاق تشريعاته كلها من ذلك.

وأياً كان: فإنّ الانطباع المذكور ليس دقيقاً ولا صائباً كما يظهر بالالتفات إلى عدة نقاط وهي على الإجمال:

 

١- أنّ هذا العنوان -زيادة حصة الذكر من الميراث على الأنثى في الدين- غير دقيق بعمومه فإنّ الزيادة المطردة لم تقع لمطلق الذكر على مطلق الأنثى، بل في خصوص ما إذا كان الورثة أولاداً أو من صنف واحد مع كونهما من جهة الأب.

٢- أنّ التشريع الإسلامي في الميراث غيّر تغييرات جوهرية في التشريع العرفي السابق عليه لصالح توريث المرأة كانت مهمة جداً ومصادمة للعرف السائد قبله.

منها: أصل اشتراك النساء في الميراث.

ومنها: اشتراك القرابة من جهة المرأة في الميراث.

ومنها: تخصيص المرأة بالميراث إذا كانت أقرب من الرجل، فالبنت مثلاً تقدم على الأخوة وأبناء الأخوة والأعمام وأبنائهم بالرغم من أنّ هؤلاء هم عصبة الميت ورجال عشيرته.

ومنها: توريث الزوجة من تركة الزوج، وكانت محرومة من الميراث.

وهذا ينبه على أنّ المبدأ الذي انطلق منه الإسلام هو العدالة.

وإذا زاد ميراث الذكر أحياناً على صنوه الأنثى في حالات فلأنّ العدالة لا تقتضي التساوي بالضرورة في جميع الأحوال.

٣- أنّ زيادة سهم الذكر على الأنثى لا تنطلق في الدين من تفضيل جنس الذكر على الأنثى بتاتاً، بل تنشأ عن تقدير الواجبات والوظائف الإضافية التي فرضت على الرجل في ماله ونفسه في الدين بالمقارنة مع المرأة، ومن الطبيعي أن يكون في مقابل زيادة التكليف مزيد من الاستحقاق كما ورد ذلك في بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) .

وفيما يلي توضيح هذه النقاط الثلاثة:

تتمة الجواب في الملف أدناه.. للتحميل اضغط هنا

 

2021/09/12