فقهيات

أقسام فرعية

أقسام فرعية

عدّة للعقيمات؟!... عن فلسفة الأحكام وخضوعها لمصلحة الأغلبية

إنّ فلسفة الأحكام التي تقع في مدار المعرفة البشرية لا تكون شاملة وعامّة لمختلف الأفراد. وفي جميع الظَّروف والمتغيّرات، بل هي مبتنية على أساس مصلحة الأكثرية من الناس وهي جارية في الغالب من الأفراد لا الكل.

وتوضيح ذلك هو: أنّ فلسفة أيّ حكم من الأحكام لا تكون متجانسة مع خصوصيات كل الأفراد، كما أنّها ليست منسجمة مع خصوصيات الفرد الواحد على الدّوام وفي كل الحالات، وبتعبير آخر: ليس فيها عمومية إفرادية ولا عمومية حالاتية، بل هي مبتنية على أساس أغلب الحالات وأغلب الأفراد.

ولكن هذا الأمر لا يقدح بعمومية الحكم، أي أنّ هذا الحكم يجب أن يطبّق حتى على الأفراد والحالات الفاقدة لتلك الفلسفة والحكمة، ولا فرق في هذه المسألة بين الأحكام الشرعية والمقررات والقوانين الاجتماعية.

ولمزيد من التوضيح إليك الأمثلة التالية:

1 - من قوانين شرطة المرور أنّه يمنع مرور السّيارات إلَّا من جهة واحدة في بعض الشوارع.

وفلسفة ذلك هي الحدّ من حوادث المرور وتخفيف الزحام، ولكن هذه الفلسفة قد لا تصدق لكل الأفراد وفي كل الحالات، نعم هي صادقة في الأعم الأغلب من الأفراد والحالات، ولكن القانون لابدّ أن يطبّق على الجميع.

فلو أنّ سائقاً كان على درجة عالية من المهارة والانتباه بحيث يمكنه السّير في الاتجاه المعاكس في تلك الشّوارع بدون أن يتسبب في حادثة أو يعرقل المرور، ففلسفة ذلك القانون غير صادقة في حقّه، ومع ذلك لا يجوز له أن يخالف القانون، ولو فعل ذلك عوقب من قبل السلطات المختصة.

وهكذا مثال هذا القانون من قوانين المرور والسياقة كمنع اجتياز التّقاطعات في حالة الضوء الأحمر، والتوقف في الأماكن التي يمنع التّوقف فيها.

سؤال: إذا لم تكن فلسفة الأحكام دائمية وشاملة، فلماذا أضحت نفس الأحكام دائمية وشاملة؟ ففي المثال السابق لماذا لا يكون مرور الأشخاص الذين يمكن أن يؤدي مرورهم من تلك الشوارع إلى حدوث حوادث واصطدامات أو يؤدي إلى عرقلة السير ممنوعاً، ويكون مسموحاً للآخرين ؟

والإجابة على هذا السّؤال جليّة: فإن القانون إذا لم يكن عاماً وشاملا، كان ضعيفاً ومضطرباً ولا يمكن تطبيقه بالمرّة، إذ إنّ كل شخص حينئذ سيدعي أنّه مستثنى من ذلك القانون ولذا ينبغي أن تكون صياغة القانون بشكل يوفّر له الشمولية على الرغم من كون فلسفة هذا القانون تابعة للأعم الأغلب لا للكل.

2 - يعتبر اعتداد المرأة بعد طلاقها أحد القوانين الإسلامية، ومن فلسفة هذا الحكم هو معرفة ما إذا كانت الزوجة قد حملت من زوجها السابق، فلا تضيع الأنساب وإلَّا فقد يتداخل النسب ويشكل معرفة ذلك فيما لو تزوجت المرأة مباشرة بعد طلاقها ثم حملت، فلا يعلم من هو أب الولد هل هو الزوج الأول؟ أو الثاني؟ فهذه جزأين فلسفة الاعتداد، ولكن هذه الفلسفة قد لا تصدق في حقّ بعض النّساء، كالنّساء العقيمات اللائي نعلم بعدم إنجابهنّ، ومع ذلك فإنّ الاعتداد واجب عليهن في حال طلاقهنّ.

كما أنه يمكن أن لا يكون لهذا الغرض موردٌ في نساء أخريات في بعض الحالات، ومع ذلك يجب عليهنّ الاعتداد، ولكي لا يكون ذلك حجّة للفرار من الاعتداد وأن يقول كل شخص: إني أعلم بأنّ تلك المرأة ليست بحامل.

3 - المثال الثّالث: مسألة أسهم الإرث لكل من الذكر والأنثى - التي يتوجّه بالاعتراض إليها اليوم بعض الناس، وحتى بعض الهيئات الدولية وأثاروا حولها ضجّة دون أن يلتفتوا إلى فلسفتها - وعلَّة كون سهم الذكر ضعف سهم الأنثى هو أنّ النفقة تكون على عاتق الرّجل وليست على المرأة مسؤولية الإعاشة في الأسرة.

ولكن هذه الفلسفة أيضاً ليست متحققة دائماً وإنما هي غالبة ومع ذلك فالقانون كلي ويجب تطبيقه في كل الأحوال والموارد، فالطفل الصغير لا يتعهد بشيء من النفقة على عائلته، ومع ذلك فهو مشمول لهذا الحكم، وكذا لو كبر ربّ الأسرة وعجز عن العمل فأخذت زوجته تعمل وتصرف عليه، فإنّها مع ذلك لا تستثنى من هذا الحكم مع أنّ فلسفة الإرث مفقودة هنا.

ومن الواضح أنّ الأحكام لو خضعت لمثل هذه المتغيّرات لنشب الجدل العقيم بين النّساء والرجال فلا ينقطع أبداً.

4 - الإسلام يحكم بأن دية المرأة نصف دية الرّجل، أي لو قتل رجل وحكم على القاتل بدفع الدّية وجب عليه أن يدفع ألف دينار ذهب إلى أولياء المقتول، أما إذا كان المقتول امرأة وجب عليه دفع خمسمائة دينار ذهب فقط.

وفلسفة هذا الحكم أنّ الدّية ليست ثمناً للدم إذ أنّ دم الإنسان لا يقيم بثمن، وإنّما الدّية شرعت لتعويض الخسارة النّاشئة من فقدان القتيل، ومن المسلَّم أنّ الخلل الاقتصادي والخسارة المادية النّاشئة من فقد الرّجل أكبر من الفراغ النّاشئ من فقد المرأة من جهة مدلولاته الاقتصادية على العائلة، ولذا كانت دية الرّجل ضعف دية المرأة.

ولكن هذه الفلسفة قد لا تكون متحققة دائماً بل أخذت فيهما جهة الأغلبية فمثلا لو كان المقتول طفلا فلا تصدق هذه الغاية عليه، ومع ذلك فالحكم ثابت ولا يتغيّر بارتباك بعض الموارد.

ولو كان الفراغ الحاصل من فقد المرأة أكبر من الفراغ الاقتصادي الحاصل من فقد الرّجل في بعض الأسر، فالقانون يبقى عاماً وشاملًا لمثل هذه الموارد مع أنّ الغاية غير متحققة ظاهراً.

والنّتيجة، هي أنّ الحكم الشرعي والقانون الإلهي عام من حيث التطبيق، وأمّا فلسفة الحكم فهي مبتنية على الأعم الأغلب، وبالالتفات إلى هذه النكتة تتضح الكثير من الإشكالات التي يثيرها البعض حول الأحكام الإسلامية.

2020/07/25

معرّض للنقد: لا يجوز للطبيب التقصير في معالجة المريض

إنّ أي انسان لا يصحّ له أن يتصدى للطبّ والطبابة ما لم يكن ملمّاً بعلوم الطب المعتبرة التي تقرّها المؤسسات الطبيّة المعتبرة; وذلك لعدم اندراجه في عنوان «أهل الخبرة» حتى يسوغ له أن ينظر في أمر المريض ويكون الرجوع إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم الذي هو أمر بديهي وطبيعي في استقرار الحياة الإنسانية، بل يكون من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل الذي لا يقرّه العقلاء ولا الشرع، فلا يكون تصدّيه صحيحاً ولا مبرءً لذمّته إذا تضرر المريض بذلك التدخل الباطل.

ويؤيده ما روي من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من تطبّب ولم يُعلَم منه طبّ فهو ضامن»[1] .

ومع تقدم الطبّ وتطور الأبحاث والتكنولوجيا في العمليات الطبيّة الذي أدّى إلى ظهور الاختصاصات المتعددة، فلا يحلّ لمن كان ملمّاً بطب القلب - مثلا - ولم يكن ملمّاً بطبّ العيون أن يتصدى لطبّ العيون; حيث يصدق عليه أنّه تطبّب ولم يُعلم منه طبّ، فيكون ضامناً .

وبما أنّ الطبيب يكون وكيلا أو أجيراً للمريض في الاشراف على جسمه والتصرف فيه عند مراجعة المريض له، فهذا يعني أنّ الطبيب مسؤول عن معالجة مريضه بقصد الشفاء، ويعمل كل ما فيه المصلحة من أجل شفاء المريض، ولا يجوز له أن يهمل فيقصّر أو يتعدى على المريض وجسمه بما ليس فيه مصلحة للمريض .

وهكذا نعرف: أنّ الطبيب إذا عمل بوظيفته الطبيّة ورضي المريض بكونه أجيراً له ومعالجاً لمرضه، وقصد الطبيب بعمله هذا شفاء المريض ، ولم يقع الطبيب في إهمال المريض أو التعدي عليه، بأن عمل على حسب القواعد الفنيّة لعلم الطب، ولم يصدر منه خطأ أو إهمال لا تقرّه الأبحاث الطبيّة العلمية فقد عمل بوظيفته وخرج عن المسؤولية اتّجاه المريض، سواء كانت النتيجة مرضية للمريض أم غير مرضية.

وقد يستدل لهذا: بأنّ تطبيب المريض صار سائغاً، وإذا صار سائغاً لا يستتبع ضماناً، على أننا إذا شككنا في الضمان فالأصل عدمه.

وهذا على حسب القاعدة حيث يضمّن الفقهاء كل أجير قد أخلّ بعمله الذي استؤجر له; فكل من آجر نفسه لعمل في مال أو غيره إذا أفسد ذلك المال ضمن كالحجّام إذا جنى في حجامته. والختّان في ختانه، وهكذا الخياط والنجّار والحدّاد إذا أفسدوا.

هذا إذا تجاوز الحدّ المأذون فيه. أمّا إذا لم يتجاوز ففي الضمان إشكال، وكذا الطبيب المباشر للعلاج بنفسه إذا أفسد فهو ضامن.

إذاً، ما يُطلب من الطبيب هو أن يقدّم لمريضه العناية اللازمة حسب ما يقتضيه الوجدان والفن، ولا يُسأل إلاّ إذا أهمل أو تعدّى في ذلك .

ولكن مع هذا، فقد يتعرّض الطبيب إلى انتقادات، فقد يتّهم بالتقصير لأنّه لم يلجأ إلى الأساليب الحديثة التي ذكرها علم الطب الحديث، كما أنّه قد يتّهم بالتهور والتعدي فيما إذا لجأ إلى الأساليب الحديثة بحجة إذا لم يثبت بعدُ رواجها وفائدتها بلا ضرر بصورة أكيدة، وهكذا نرى أنّ الطبيب «المحافظ» كالطبيب «المتجدد» كلاهما عرضة للنقد والانتقاد من الناحية الفنية.

مقتطف من كتاب : بحوث في الفقه المعاصر، للشيخ حسن الجواهري.


[1] راجع : سنن أبي داود 2 : 387 . سنن النسائي 8 : 53 . مستدرك الحاكم 4 : 212 . والظاهر أنّ المراد من كلمة الضمان هنا هي المسؤولية الأعمّ من الضمان الاصطلاحي والعقاب الدنيوي والأُخروي .

2020/07/07

عن رأي «السيستاني» في التلقيح الصناعي: الفقيه يأخذ بالدليل ولا يفتي وفق المزاج

يتساءل البعض عن موقف بعض الفقهاء من تلقيح البويضة خارج الرحم بماء الاجنبي، ثم ادخال البويضة الملقحة في الرحم، حيث احتاط بعض الفقهاء، وحكم البعض الاخر بعدم لزوم الاحتياط استناداً إلى جريان البراءة، مع وجود روايات تدل على حرمة اهراق المني في رحم الاجنبية، وهنا أنقل جوابين لآية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله):

١- السؤال: هل يجوز تلقيح المرأة بالحويمن المستخرج من ماء رجل أجنبي؟ وما هو الفرق بينه وبين البويضة المخصّبة، حيث ذكرتم جواز نقلها إلى رحم امرأة أجنبيّة؟

الجواب: إدخال نطفة الرجل الاجنبي في رحم المرأة حرام، سواء أكان ذلك بإدخال مائه، أو بإدخال الحويمن المستخلص منه، وهو المستفاد من بعض النصوص المعتبرة، وأمّا البويضة المخصّبة خارج الرحم بحويمن الرجل الاجنبي فلا دليل على حرمة إدخاله في رحم المرأة.

٢- السؤال: اذا كان العقم بسبب الزوج فهل يجوز حقن المرأة بماء غير الزوج و قد يكون هذا الشخص من المحارم للزوجة؟

الجواب: لا يجوز، بل حتى إذا تمّ التخصيب في خارج الرحم ثمّ أرسلت البويضة المخصّبة في رحم الزوجة على الأحوط.

الرابط الإجابات على موقع سماحة السيد السيستاني:

https://www.sistani.org/arabic/qa/0394/#2524

وقد شنع البعض على هذا، وجعله سبباً للطعن في المراجع العظام!

وليس ثَم جواب أفضل من بيان أن هذا المشنع يدعي الغيرة على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهو في تشنيعه يلغي منهجهم ويتبع غير سبيلهم، وذلك  بأن يقال:

إن حقيقة جواب السيد السيستاني (حفظه الله) ومن وافقه بيان لحكم ظاهري للتلقيح خارج الرحم، وادخال شيء جديد متخلق من التلقيح وهو البويضة الملقحة، وهو غير المني ولا تشمله روايات حرمة اهراق الماء في رحم الاجنبية.

وهذا الحكم الظاهري نتيجة حتمية بعد عدم بيان النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة (عليهم السلام) مع سعة علمهم لحرمة وضع البويضة الملقحة في الرحم، بل قالوا: (رفع عن أمتي مالا يعلمون)، و (كل شيء لك حلال حتى يرد فيه نهي)، فما ذكرته الفتوى مأخوذ من قول المعصومين (عليهم السلام)، والله تعالى له الحكم المطلق، والمعصومون ناطقون عنه فلا ينبغي أن نكون ملكيّين أكثر من الملك، وندعي فطرة أنقى من فطرتهم جهلاً، فالراد عليهم راد على الله.

لا قيمة لما نراه بلا علم وبينة

وقد يقول قائل: لا نرى فرقاً بين تلقيح البويضة خارج الرحم وادخالها في الرحم وبين اهراق ماء الاجنبي مباشرة، فالعلة في التحريم واحدة.

والجواب: لا قيمة لما يراه العباد ويدعونه بلا علم وبينة، فنحن متدينون بما يحكم به رب العباد، وقد حدد لنا تعالى منهج الاستدلال، وما بينه هو المفرّق في مقام الافتاء، ولو كان للعباد أن يفرقوا وفقاً لأهوائهم لجعلت عدة المطلقة كعدة المتمتع بها، أو كعدة الوفاة، فأي فرق من جهة حصول النكاح و الفِراق؟!

ولجعل الطواف مع جعل الكعبة عن اليمين كالطواف مع جعلها على الشمال، فأي فرق فكلاهما طواف؟!

وكيف لنا أن نحيط بملاكات أحكام الله فنقيس وضع البويضة على اهراق المني، فنتبع منهج أبي حنيفة، و نقول كما قال أبان في دية اصابع المرأة: (إن هذا كان يبلغنا ونحن في العراق فنقول إن الذي جاء به شيطان)، فنهاه الامام (عليه السلام) وبين له أن السنة اذا قيست محق الدين، وليس ما يقوم به البعض من التشنيع استناداً إلى أوهام مع عدم مراعاة ما تقتضيه الأدلة المُلزم بها الفقيه في مقام الافتاء إلا من اتباع المزاج بلا آية بينة و دليل شرعي تام.

نعم، للفقيه أن يبحث الادلة بحثاً علمياً وينقد الاستدلال بنقد علمي، ويختار رأياً، وأين هذا من تشنيع من لم يعرف الاجتهاد ولا طرقه الاستدلالية؟

2020/06/29

2020/06/28

منها الوشم وزراعة الشعر.. ما حكم عمليات التجميل؟

يمكننا أن نعدّ أمثلةً للعلاج التجميلي لتكون مصاديق لهذا العنوان العام حتى إذا ما حكمنا على هذا العنوان العام بحكم شرعي يكون سارياً في المصاديق التي ذكرناها والتي لم نذكرها ممّا ينطبق عليها العنوان العام. فمن أمثلة العلاج التجميلي:

1 - الوشم: وهو النقش الأخضر أو الأزرق على الجسم بواسطة الإبر، فيتراءى بياض سائر البدن وصفاؤه أكثر ممّا كان يرى لولا هذا النقش.

2 - الوشر: وهو التحديد والتقصير، فوشر الأسنان هو تحديدها وتقصيرها.

3 - التفلّج: وهو الانفراج ما بين الأسنان.

4 - ترقيق الحواجب.

5 - تطويل الشعر بواسطة وصل الشعر بالشعر، أو وضع الشعر على الشعر (الباروكة).

6 - صبغ الشيب، أو صبغ الشعر.

7 - النمص: وهو الحف للمرأة التي تقلع شعر وجهها بواسطة الآلة.

8 - إنبات الشعر على الرأس لإزالة القرع، أو إنبات الشعر على الجسم لإزالة أثر الحرق.

والخلاصة: هو كل عمل في جسم الإنسان يُعدّ تجميلا له أو إزالة العيب عنه، ولا بدّ لنا من معرفة الحكم الشرعي للعلاج التجميلي، وذلك بمعرفة القاعدة الأولية أولا، ثم نعقب على ذلك بما ورد من النصوص الشرعية التي يظنّ أنّها واردة فيه.

القاعدة الأولية لعلاج التجميل

إنّ علاج التجميل إذا لم يقترن بأمر محرم - مثل نظر الرجل إلى المرأة أو مسها - ولم يكن القصد منه غش الآخرين المحرم الذي يُظهر المرأة التي يريد أن يخطبها الخاطب بمظهر الكمال عند خطبتها مع عدم وجود كمال فيها فهو حلال جائز، وذلك أنّ غاية ما يحصل من العلاج التجميلي عند عدم اقترانه مع الحرام هو الزينة واظهار الكمال واخفاء العيب، وهو أمر جائز، بل مرغوب فيه.

وحينئذ يكون الألم في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المطلوبة هو أمر جائز إذا لم يصل إلى حد التهلكة في النفس، وما أكبر ما يحصل عليه الإنسان حينما يزيل الألم النفسي أو يجلب المتعة النفسية التي تحصل من بعض عمليات التجميل.

ومن أمثلة هذا العمل هو أن تفعل الزوجة هذه العلاجات لأجل زوجها، أو الذهاب إلى حفل نسائي، فهو وإن انطبق عليه عنوان الغش إلاّ أنّه غش حلال كمن يخفي عيوب داره ويخلط السمن الجيد بالردئ لأجل غذائه الخاص.

وأمّا إذا اقترن علاج التجميل بأمر محرم - كنظر الرجل إلى المرأة المحرمة أو مسها أو كان القصد من العلاج هو غش الآخرين المحرم كمن يعمل هذه العلاجات في جاريته ليبيعها بثمن أكبر حيث يظهرها بمظهر الكمال مع عدم وجود الكمال فيها، أو كانت تعمله المرأة الحرّة لأجل أن توقع الخاطِب في خطبتها - فهو أمر محرّم لحرمة النظر واللمس، ولإنطباق عنوان الغشّ المحرّم على هذه الأفعال، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ليس منّا من غشّنا».

ما ورد من النصوص الشرعية التي يظن أنّها تمنع من العلاج التجميلي:

نقول: إنّ ما ورد من الروايات في منع بعض مصاديق العلاج التجميلي مثل :

1 - لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) «الواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة».

2 - لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) « المتفلّجات للحسن، والمغيرات خلق الله ».

3 - لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) « النامصة والمنتمصة ».

4 - لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) « الواصلة والمستوصلة » ([1]).

تحمل كلّها على اقتران هذه العلاجات بأمر محرّم مثل الغش المحرم أو ما شابه ذلك.

ودليلنا على ذلك: أنّ اللعن الوارد في الروايات ظاهر في الحرمة وليس صريحاً فيها، حيث إنّ اللعن لغةً من الإبعاد المطلق، وحينئذ إذا دلّت الأدلّة على جواز أو استحباب تزيين المرأة لزوجها، أو لأجل الذهاب إلى حفل نسائي مثلا، فيكون هذا قرينة على صرف الحرمة الظاهرة في الأحاديث إلى صورة الغش أو اقتران هذه الأعمال ببعض المحرّمات، أو نقول بكراهة التزيين في غير الموارد التي دلّ الجواز على استحبابها.

والذي دعانا إلى هذا الكلام ولم نقل: « إنّ التزيين إذا كان جائزاً بصورة مطلقة وقد ورد التحريم في بعض أفراده، فنخصّص الجواز بغير مورد التحريم » هو تذييل اللعن الوارد في المتفلّجات بقوله « المغيِّرات خلق الله » ونحن نعلم لما تقدّم: أنّ المراد من خلق الله في هذه الرواية هو دين الله، كما جاء في آية النساء (ولأضلنهم ولأُمنّينّهم ولآمرنهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله ومن يتّخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً) ([2]).  وقال تعالى: (فأقم وجهَك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) ([3]).

إذن المراد بتغيير خلق الله هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، وذلك بتحليل الحرام الذي حرمه الشارع المقدّس، وبما أن الحرام هو الغش وليس التزيين نفهم من الروايات المتقدّمة أن المراد بالمحرم هو الغش، والمراد باللعن هو خصوص حصول المحرم من هذه الأعمال، أمّا التزيين الذي يحصل من هذه الأعمال فهو ليس فيه تغيير لدين الله، حيث يكون جائزاً بأدلّته الكثيرة، فلا يكون مشمولا للروايات اللاعنة، كما أن الروايات اللاعنة لا تشمل التزيين.

ولو أصر إنسان على أن المراد من آية (ولآمرنّهم فليغيّرن خلق الله) هو حرمة تغيير ما خلق الله من أشياء، فلازم ذلك أن نحرّم حلق الرأس والشعر من الجسم، ونحرم فتح الجسور والطرقات وبناء الأسواق وشق الأنهار وما إلى ذلك، ويلزمنا أن نفتي بحرمة تعديل الشارب ولبس الثياب ; لأنّه تغيير لخلق الله سبحانه، وهذا ما لا يقول به أحد.

أضف إلى ذلك الروايات الواردة في تحسين الوجه وصبغ الشيب بالحنّاء والسواد، والحثّ عليه، وقد ورد « لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها » ففي رواية سعد الإسكاف قال: « سئل أبو جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن يصلن شعورهن ؟ قال: لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها، قال: فقلت بلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعن الواصلة والمستوصلة، فقال: ليس هنالك، إنّما لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الواصلة التي تزني في شبابها، فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة والموصولة» ([4]).

ثم إنّ هذه الروايات الواردة في اللعن للواشمة والنامصة والواصلة والمفلّجة بين مرسل ومسند لم تثبت حجيته لضعف السند، وحينئذ نبقى على أصالة الإباحة عند الشك في الحرمة، وهي التي اقتضتها القاعدة الأوليّة.

الهوامش:

[1] راجع وسائل الشيعة: ج 12، ب 19 ممّا يكتسب به، ح 7 وغيره .

[2] النساء: 119 .

[3] الروم: 30 .

[4] وسائل الشيعة: ج 12، ب 19 من أبواب ما يكتسب به، ح 3 .

2020/06/24

لماذا لا يخلص الله البشرية من الأمراض؟

الأمراض والبلايا والظلم في كلّ مكان، فأين هو الله من كلّ ذلك؟

والجواب:

1- كفاية قدرة الإنسان على دفع الأمراض والظلم: فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وأعطاه العقل والتدبير والعلم كما قال سبحانه: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: ٥]، وبيّن له أنّ كلّ ما حصل عليه من العلوم قليل، فقال: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: ٨٥]، وحثَّه على طلب المزيد من العلم، فقال سبحانه: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: ١١٤]، ووعد الإنسان بكشف آفاق العلم إليه، فقال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: ٥٣ ]، مع ما وهبه من القدرة على الاكتشاف والابتكار والاستنتاج والاختراع وغير ذلك.

مضافاً إلى كلّ هذا فإنّه سبحانه سخَّر للإنسان كلّ إمكانات الحياة الهائلة جدًّا، فقال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية: ١٢ - ١٣].

إذا عُلم ذلك نقول: إنّ الله لما أعطى الإنسان كلّ هذه الإمكانيات صار قادراً على اكتشاف الأدوية والعلاجات لجميع الأمراض وعلى مكافحة الأوبئة، ونحن نعتقد أنّه ما من داء في الأرض إلا وقد خلق الله له دواء.

فقد روى ابنا بسطام عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: أنزل الله الداء، وأنزل الشفاء، وما خلق الله داءً إلا جعل له دواء. (طب الأئمة: 63). 

ولهذا نجح الإنسان في معالجة كثير من الأمراض، وبقي عليه أن يبذل جهده في محاربة باقي الأمراض الأخرى، وقد استطاع الإنسان أخيراً أن يقضي على بعض الأمراض التي كان علاجها يُعَدُّ مستعصياً عليه، كمرض الجدري مثلاً الذي أعلنت منظمة الصحّة العالمية في عام 1980م عن استئصاله من العالم بالكامل. (http://www.who.int/topics/smallpox/ar).

وأمّا الظلم فإنّه بفعل الإنسان، والمظلومون قادرون على رفع الظلم عن أنفسهم إذا تضافرت جهودهم، ووحَّدوا صفوفهم، واتّحدوا ضدّ الظالم، فإنّ ذلك ربّما يكون من أسباب ارتفاع الظلم.

وبتعبير آخر: إنّ الله تعالى أعطى الإنسان القدرة على رفع الظلم عن نفسه، والله سبحانه لم يخلق ظالماً لا يُقهر، وحوادث التاريخ أدلّ دليل على صحّة ما قلناه، فكم من حاكم جائر اندحر وهلك لما ثار عليه المظلومون، وثأروا لأنفسهم.

2- جناية الإنسان على نفسه: فإنّ كثيراً من الأمراض ربّما يصاب بها الإنسان بسبب إهماله وتقصيره في العناية بنظافة جسمه وطعامه، مثل الطاعون وغيره من الأمراض المعدية.

كما أنّ عدم تنظيم الإنسان لطعامه كمًّا وكيفاً، بتناول الأطعمة غير الصحّية بكميات كبيرة، ربّما يصيبه بكثير من الأمراض الخطيرة التي لا يتمكّن الأطباء بعد ذلك من معالجتها، وربّما تودي بحياته في نهاية المطاف، مثل ضغط الدم، ومرض السكّري، والسرطان وغير ذلك.

مضافاً إلى أنّ سوء تصرّف الإنسان الذي لا يراعي القانون الإلهي قد يصيبه بكثير من الأمراض الفتّاكة، كالأيدز، والزُّهري، وغيرهما من الأمراض الجنسية التي تحدث عادة بسبب العلاقات غير المشروعة.

وبقول مختصر: إنّ إصابة الإنسان بالأمراض ناشئة في أكثر الأحيان من تقصيره وإهماله وعدم محافظته على صحّته.

فهل يحقّ للإنسان بعد ذلك أن يلقي باللوم على الله تعالى؛ لأنّه لم يعالجه من مرضه الذي تسبَّب هو فيه؟ مع أنّ الله تعالى بيَّن له بالتفصيل - قبل إصابته بالمرض - ما ينفعه وما يضرّه من المأكولات والمشروبات والأفعال القبيحة التي قد تودي بحياته، ثمّ حذّره من تناول تلك المأكولات والمشروبات وارتكاب تلك الأفعال الضارّة التي حرّمها عليه، حيث أباح للإنسان أكل الطيِّبات، ونهاه عن أكل الخبائث كما قال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف: ١٥٧]، ومع ذلك فإنّه سبحانه خلق له المواد التي يمكن أن يصنع منها الدواء لكلّ داء، وأمره بالاستفادة منها.

وكذلك الحال في الظلم الذي يقع على الناس، فإنّه في أكثر الأحيان بسببهم هم؛ لأنّ الناس عندما يبتعدون عن تعاليم الله تعالى التي تكفل لهم الحياة السعيدة، فيرتكبون المعاصي، ويعملون الفواحش والموبقات، ويظلم بعضهم بعضاً، ولا ينكرون على الظالم ظلمه، بل يجاملونه، ويصحّحون أعماله القبيحة، ويشجّعونه عليها، أو يكونون من أعوانه الذين يعينونه في ظلمه، فإنّ الظالم سيتمادى في ظلمه، والله تعالى حينئذ لا يرفع عنهم هذا الظلم الذي وقع عليهم؛ لأنّه أصابهم بجنايتهم على أنفسهم؛ ولأنّهم لا يستحقّون أن يغضب الله لهم بسبب كثرة معاصيهم.

 

قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: ٣٠].

3- ابتلاء الله تعالى لخلقه: فإنّ الله تعالى لم يجعل الدنيا دار قرار ونعيم، وإنّما جعلها دار بلاء وامتحان؛ ليثيب المحسن على إحسانه في جنّته، ويعاقب المسيء على إساءته في نار جهنّم، فشرع للنّاس الشرائع السماوية، وأرسل لهم الأنبياء والرسل، وأنزل لهم الكتب، وبيَّن لهم ما ينفعهم وما يضرّهم، ليحيا من حيَّ على بيِّنة، ويموت من مات على بيِّنة.

 والله تعالى نهى عباده عن ظلم بعضهم بعضاً، وتوعّدهم، وحذَّرهم من عواقب الظلم في الدنيا والآخرة، وآلى على نفسه ألّا يفوته ظلم ظالم، وأن ينتصف لكلّ مظلوم من ظالمه.

ولكنّ الله تعالى ابتلى بعض الخلق ببعض، فابتلى المظلوم بالظالم؛ ليرى هل يصبر أم يكفر، وابتلى الظالم بالمظلوم، فسلّطه عليه؛ ليرى هل يظلمه أم ينصفه.

والله تعالى وإن أمهل الظالم في الدنيا، فلم يعاجله بالعقوبة لحكمة سيأتي بيانها، إلا أنّه سبحانه سيعاقبه ولو بعد حين؛ لأنّه لا يفوته ظلم ظالم.

وأمّا الأمراض فمع أن المتسبِّب فيها كلّها هم الناس أنفسهم كما بيَّنا فيما تقدّم، إلا أنّها تدخل أيضاً فيما يبتلي الله تعالى به العباد، سواء كانوا مؤمنين أم كافرين.

4- معاجلة الظالمين بالهلاك: فإنّ الله تعالى عاقب كثيراً من الظالمين في الأرض، فعجَّل بإهلاكهم، ولم يُطِل أعمارهم كما كانوا يحبّون، وقضى مُدَدهم بأسرع ممّا كانوا يظنّون، وربّما أمرضهم بالأمراض الشديدة المؤلمة قبل أن يهلكهم كما حصل ذلك لكثير من العتاة والطواغيت: 

منهم: يزيد بن معاوية (25 أو 26، أو 27-64هـ)، مات وعمره 39 سنة أو 38، أو 37. (البداية والنهاية 8/239). 

ومنهم: الحجّاج بن يوسف الثقفي (40-95هـ)، الذي هلك وله من العمر 55 سنة لم يتجاوزها. (نفس المصدر 9/145).

ومنهم: أكثر الخلفاء الأمويين والعباسيين، فإنّهم كانوا ظالمين طواغيت، قد قصم الله أعمار أكثرهم بسبب ظلمهم وجورهم، كالوليد بن عبد الملك بن مروان (50-96هـ)، الذي مات وعمره 46 سنة، وقيل: 49، وقيل: 44. (نفس المصدر 9/168).

 

وسليمان بن عبد الملك بن مروان (54-99هـ)، مات وعمره خمس وأربعون سنة، وقيل: 43، وقيل: 39. (نفس المصدر 9/184).

 ويزيد بن عبد الملك بن مروان (72-105هـ)، مات وعمره 33 سنة، وقيل: 35، وقيل: 38، وقيل: 39، وقيل: 40 سنة. (نفس المصدر 9/242).

وهشام بن عبد الملك بن مروان (72-125هـ)، مات وعمره 53 سنة.

والوليد بن يزيد بن عبد الملك (90-126هـ)، قُتل بسبب فسقه واستهتاره وتجاهره بالمنكرات، وكان عمره حينئذ 36 سنة.

ويزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان (90-126هـ)، ولي الخلافة ستّة أشهر، ومات بالطاعون، وعمره 36 سنة.

قال ابن كثير: وأكثر ما قيل في عمره: ستّ وأربعون سنة، وقيل: ثلاثون سنة، وقيل غير ذلك، فالله أعلم. (نفس المصدر 10/18).

وأمّا خلفاء بني العباس فأوّلهم: أبو العباس عبد الله السفاح الذي مات في سنة 136هـ.

قال ابن كثير:

توفّي بالجدري بالأنبار يوم الأحد الحادي عشر، وقيل: الثالث عشر من ذي الحجّة سنة ستّ وثلاثين ومائة، وكان عمره ثلاثاً، وقيل: اثنتين، وقيل: إحدى وثلاثين سنة، وقيل: ثمان وعشرين سنة، قاله غير واحد. (نفس المصدر 10/60).

ومنهم: المهدي ابن المنصور: مات في سنة 169هـ، وكان مولده في سنة 126، أو 127، أو 121هـ، فيكون عمره عند موته 43، أو 42 سنة أو 48 سنة. (نفس المصدر 10/156).

ومنهم: موسى الهادي ابن المهدي العباسي (147-170هـ) ، مات وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، ومدّة خلافته ستة أشهر. (نفس المصدر 10/163).

ومنهم: هارون الرشيد: توفي في سنة 193هـ.

قال ابن كثير:

 

كان مولده في شوال سنة ست وقيل: سبع، وقيل: ثمان وأربعين ومائة، وقيل: إنّه ولد سنة خمسين ومائة، وبويع له بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي في ربيع الأول سنة سبعين ومائة، بعهد من أبيه المهدي. (نفس المصدر 10/222).

فعلى هذا يكون عمره عند موته:  47 سنة، أو 46، أو 45، أو 43 سنة.

ومنهم: محمد الأمين ابن هارون الرشيد، وُلد في سنة 170هـ، وقُتل في سنة 198هـ، وعمره عند قتله 28 سنة. (نفس المصدر 10/252).

ومنهم: عبد الله المأمون ابن هارون الرشيد: توفّي في سنة 218هـ، وله من العمر 48 سنة. (نفس المصدر 10/293).

ومنهم: محمد المعتصم ابن هارون الرشيد: ولد في سنة 180هـ، وتوفّي في سنة 227، وله من العمر 47 سنة. (نفس المصدر 10/309).

ومنهم: هارون الواثق ابن المعتصم: توفّي في سنة 232هـ، وكان عمره 36، وقيل: 32 عاماً. (نفس المصدر 10/323).

ومنهم: جعفر المتوكِّل ابن المعتصم: قَتله ابنه المنتصر في سنة 246هـ، وكان مولده سنة 207هـ، فيكون عمره عند قتله 39 سنة. (نفس المصدر 10/364).

وهكذا كثير منهم، كانت أعمارهم قصيرة.

وأمّا في العصر الحديث فمنهم: أدولف هتلر (1889- 1945م)، الذي انتهت حياته بالانتحار بعد أن هزمه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، واحتلّوا برلين، وكان عمره 56 سنة.

ومنهم: صدام حسين (1937-2003م) الذي انتهت حياته بالسجن، والمحاكمة المهينة له، ثمّ بالإعدام شنقاً، وكان عمره 66 سنة.

وغيرهم كثير، ولو أردنا أن نتتبّعهم لطال بنا المقام، وحال كثير من الحكّام الظلمة معروف، وسيرهم مشهورة ومدوّنة في الكتب، وأكثرهم قُصمت أعمارهم.

هذا ما يتعلّق بعقاب الظالمين في الدنيا، وأمّا الأمراض فإنّ الله تعالى أيضاً يعاقب بها الظالمين والعاصين، ويجعلها حجّة عليهم؛ لأنّه سبحانه لم يدفع عنهم الأمراض ليتوبوا، ويرعووا عن ظلمهم، فإذا لم يتوبوا قامت عليهم الحجّة.

 

كما أنّه سبحانه يثيب المؤمنين الموحّدين بما يصابون به من أمراض وعِلَل وأوجاع وما شاكل ذلك.

فقد روى الشيخ الكليني قدس سره بسنده عن أحدهما عليهما السلام قال: سَهَرُ ليلةٍ من مرض أو وجع أفضل وأعظم أجراً من عبادة سنة. (الكافي 3/114).

وبسنده عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: حُمَّىٰ ليلة تعدل عبادة سنة، وحمّىٰ ليلتين تعدل عبادة سنتين، وحمّىٰ ثلاث تعدل عبادة سبعين سنة.... (نفس المصدر).

وبسنده عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حُمّىٰ ليلةٍ كفارةٌ لما قبلها ولما بعدها. (نفس المصدر 3/115).

5- استدراج الظالمين: فإنّ الله تعالى ذكر في كتابه العزيز أنّه يملي للظالمين في هذه الدنيا، فلا يعاجلهم بالعقوبة، وإنّما يعطيهم ما شاءوا من الأموال والرجال والسلاح وغير ذلك ممّا يزدادون به عتوًّا وبَطَراً وطغياناً وظلماً؛ لكي يزدادوا إثماً، ثمّ يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما قال سبحانه: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران: ١٧٨].

وقال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: ٤٤، ٤٥].

وقال عزَّ من قائل: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)  [المدثر: ١١-١٧].

والله سبحانه وتعالى إنّما يمهلهم لأنّه لا يخشى فوتهم منه وهربهم من عدله، ولا يَعْجَل إلا من يخاف الفوت، فعدم معاجلة هؤلاء الظالمين الطغاة بالعقوبة في الدنيا ليس خيراً لأنفسهم، وإنّما هو شرٌّ لهم.

وأمّا المريض فإن كان صالحاً فإنّ مرضه كفّارة لذنوبه كما مرّ، وكلّما طال مرضه أعطاه الله من الثواب ما يعطي الصابرين على بلائهم، وأمّا إذا كان المريض عاصياً فإنّ مرضه إمّا عقوبة له، أو تذكيراً له لكي يتوب ويندم على ما اقترفت يداه؛ لكي يَفِدَ على الله تعالى - إن تاب - وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمُّه.

 

6- محبة الله لأصوات الداعين: فإنّ الله تعالى يحبُّ من عبده أن يجأر إليه بالدّعاء وطلب الحاجات، وأن يتوسّل إليه في قضائها، ومن تلك الحاجات طلب رفع الظلم عنه، وطلب شفائه من كلّ داء وسقم، وغير ذلك.

قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: ٦٠].

وقال سبحانه فيما حكاه عن نبيّه نوح عليه السلام: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر: ٩،١٠].

فلو أنّ الإنسان لا يمرض ولا يُظلم ولا تصيبه أي بليّه لانقطعت صِلَتُه بربّه، ولعلّ ذلك يؤدّي به إلى التمادي في فعل الآثام والذنوب، والانحدار سلوكيًّا وأخلاقيًّا.  

والحاصل أنّ عدم معاجلة الظالمين بالعذاب والهلاك، وعدم شفاء المرضى لا يدلّان على عدم وجود الله سبحانه كما توهّم السائل، بل كلّ واحد من هذين الأمرين وغيرهما من البلايا فيه مصالح كثيرة عرفنا بعضاً منها، ولعلّ ما خفي علينا أكثر ممّا عرفناه منها.

2020/06/23

2020/06/16

2020/06/15

2020/06/11

2020/06/10

لماذا خلق الله الفيروسات؟

1- إن الله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً: فإنّه سبحانه خلق جميع مخلوقاته، من الفيروس الضئيل الحجم، إلى المجرّة العظيمة التي لا يستطيع الإنسان الإحاطة بها، وخلق ما بينهما من المخلوقات الكثيرة، لحكمة مهمّة، وفائدة عظيمة ربّما لا نعلمها.

وعِلْمنا بأنّ الله تعالى خالق حكيم مدبِّر عالم بالمصالح والمفاسد، وأنّه لا يخلق شيئاً عبثاً، وإنّما يخلق الأشياء لحِكَم ومصالح، يجعلنا نعتقد أنّ لهذه المخلوقات منافع عظيمة ومهمّة تدعو إلى خلقها، ونحن وإن كنّا لا نعلمها كلّها إلا أنّ الله يعلمها، ولعلّ العلم الحديث يكشف لنا عن بعضها في المستقبل القريب كما كشف العلم كثيراً من فوائد المخلوقات التي لم تكن معروفة فيما سبق.

2- إنّ ما يُذكر من عِلَل الخلق مجرّد تخمين: فإنّ كلّ ما يجاب به عن هذا السؤال ونحوه ممّا يتعلّق بعلل خلق بعض المخلوقات، لا بدّ أن يُتلقَّى عن الله سبحانه بواسطة أنبيائه وحُجَجه عليهم السلام الذين ينقلون عنه؛ لأنّه سبحانه هو الخالق وحده، وهو العالم بالعلل الحقيقية التي من أجلها خلق الإنسان، أو الحيوان، أو اﻟفيروس، أو غير ذلك من المخلوقات، وكلّ ما يقال في بيان العلّة ممّا لم يُتلقَّ عن الله تعالى فلا يخرج عن كونه ظنوناً وتخمينات ربّما تكون صحيحة، وربّما تكون غير صحيحة، وقد يكون هذا المظنون الذي نتوقّع أنّه سببُ الخلق علّةً تامّة للخلق، وربّما يكون جزء علّة، فيكون أحد أسباب الخلق، لا كلّها، أو ربّما لا يكون علّة أصلاً.

3- إنّ الاعتقاد بألّا فائدة ﻟلفيروسات خطأ: فإنّ السائل قد جزم بأنّ الفيروسات لا فائدة فيها، اعتماداً على ما يراه من أضرار بعض الفيروسات الخطيرة، حيث صُنّفت بأنّها أحد أهمّ أسباب الإصابة بالأمراض الفتّاكة، وهذا دليل غير تامّ، فإنّ وجود أضرار كثيرة لبعض الفيروسات لا يستلزم بالضرورة عدم وجود أيّ فوائد أخرى لباقي الفيروسات الأخرى؛ لأنّ الفيروسات منها ما هو ضار، ومنها ما هو نافع، وكثير من الأمور التي نرى بعض مضارّها ربّما تكون لها فوائد أخرى من جهات أخرى، والله سبحانه وتعالى رغم أنّه حرّم الخمر والميْسِر وهو لعب القمار؛ لكثرة مضارّهما التي لا تخفى، إلّا أنّه سبحانه ذكر أنّ فيهما منافع للنّاس، ولكن ضررهما أكثر من نفعهما، حيث قال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: ٢١٩].

وكما أنّ القول بأنّ الفيروسات لها فوائد يحتاج إلى دليل، كذلك نفي جميع الفوائد عنها يحتاج أيضاً إلى دليل، والسائل لم يذكر لذلك دليلاً، وإنّما أرسله إرسال المسلَّمات، وهذا خطأ منهجي واضح.

وعليه، فإنّه ينبغي للسائل أن يسأل عن العلّة التي من أجلها خلق الله اﻟفيروسات، لا أن يجزم بأنّ الفيروسات لا فائدة لها أصلاً، من دون أن يكون عنده دليل يدلّ على ذلك، ثمّ يرتِّب على ذلك سؤاله المشعر ضمناً بالاعتراض على الخالق أو إنكاره!

4- إنّ الفيروسات لها فوائد مهمّة: فإنّ جزم السائل بأنّ الفيروسات لا فائدة فيها، جعله يستنتج بأنّه ليس هناك أيّ سبب يدعو إلى خلقها كما يُفهَم من فحوى سؤاله، وفي الحقيقة أنّ كثيراً من النّاس لا يعلمون بأنّ اﻟفيروسات لها فوائد مهمّة تقتضي خلقها، والنّاس أعداء ما جهلوا.

ومن فوائد الفيروسات هذه اللِّقاحات التي تُعطى في هذا العصر للأطفال الصغار والبالغين الكبار بواسطة الحقن في الشرايين أو الأوردة، التي تحتوي على فيروسات ميّتة، مشابهة في تركيبها ﻟﻠفيروسات الضارّة التي يمكن أن تنقل الأمراض للإنسان، وفائدة حقن تلك اﻟفيروسات الميّتة في الجسم هو أنّها تحفِّز الجسم للتعرّف على الفيروسات الحيّة المشابهة بمجرد دخولها فيه، فيقاومها ويقضي عليها، وبهذا تمكّن الإنسان من الاستفادة من الفيروسات في الوقاية من الأمراض بواسطة التطعيمات التي أصبحت ضرورية في هذا العصر لمختلف الأفراد في جميع البلدان.

وقد كشفت بعض الدراسات والأبحاث عن وجود أنواع من الأحياء الدقيقة لها منافع متبادلة مع الكائنات الحيّة التي تعيش فيها، بالإضافة إلى العديد من الفوائد الصناعية والزراعية، وفيما يختص بالفيروسات تحديداً فقد كشفت دراسة حديثة للدكتورة ماريلين روسينك Marilyn J. Roossinck من جامعة بين ستيت الأمريكية نُشرت في مجلة علم الفيروسات التابعة للجمعية الأمريكية للأحياء الدقيقة تفيد بأنّ الفيروسات تحقّق هذا النوع من الفوائد. وهذه الدراسة ليست فريدة في نوعها، بل إنّها استندت إلى العديد من الدراسات الأخرى التي تؤكّد هذه الفوائد ﻟﻠفيروسات، بل إنّ بعض هذه البحوث وصفت الفيروسات بأنّها ضرورية للحياة، وجزمت بأنّ هناك العديد من الفوائد التي ستُكتشف لهذه الفيروسات في المستقبل[1].

والإنسان وإن تطوّر كثيراً في الجانب العلمي والتقني إلا أنّه لا يزال يجهل كثيراً من الأمور، ولا يزال عاجزاً عن فهم كثير من الحقائق العلمية، كما قال سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: ٨٥].

والإنسان عبر مسيرته العلمية قفز قفزات واسعة في شتّى المجالات، خصوصاً بعد التطوّر التكنولوجي الكبير الذي أعانه على اكتشاف كثير من الأمور المحيطة به، إلّا أنّه لحدّ الآن لم يكتشف كلّ شيء، وبقيت مجهولاته في كلّ العلوم أكثر من معلوماته.

وعليه، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو: «أنّنا لا نعرف في هذا الوقت إلا فوائد قليلة ﻟﻠفيروسات»، وربّما نتعرّف على كثير من فوائدها في المستقبل، وربّما تحصل عندنا بعد سنين قليلة قناعةٌ مستندة إلى حقائق علمية مؤكّدة بأنّ وجود الفيروسات ضروري في هذه الحياة، وأنّ حياة الإنسان على الأرض ربّما لا تستقيم بدونها.

5- دلالة وجود الفيروسات على عظمة الخالق: فإنّ الفيروسات والميكروبات ونحوها من الكائنات الدقيقة التي لا تُرى بالعين المجرّدة تدلّ على عظمة الله سبحانه وإبداعه في الخلق، وأنّه سبحانه قادر على أن يخلق ما يشاء كيف يشاء، فكما أنّه سبحانه خلق الحيوانات الضخمة كالديناصورات والفيلة، خلق أيضاً كائنات متناهية في الصغر، لا يمكن رؤيتها إلا بالمجاهر المتطوّرة كاﻟفيروسات والميكروبات وكائنات أخرى دقيقة صغيرة الحجم جدًّا، وكما أنّ الخلق كلّهم عاجزون عن خلق أيّ حيوان ضخم مثل الفيل، فإنّهم أيضاً عاجزون عن خلق حيوان واحد ضئيل الحجم جدًّا مثل اﻟفيروس أو الميكروب أو النملة أو البعوضة أو الذبابة رغم ضآلة أحجامها، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: ٧٣].

6- فائدة الفيروسات في إهلاك الطواغيت: فإنّ الله تعالى ربّما خلق الفيروسات والميكروبات ونحوها ليعاقب بها من يشاء من عتاة خلقه، ممّن يتجبّرون ويتكبّرون ويظلمون بغير حقّ، فإنّه سبحانه يعاقبهم بأصغر خلقه وهو الفيروس؛ من أجل بيان ضعف هذا الإنسان الذي يصرعه فيروس ضئيل جدًّا؛ لكي يعرف الإنسان قدر نفسه، ويعرف عظيم قدرة الله عليه؛ لكيلا يطغى ويتكبّر في الأرض وهو بهذه الحالة من الضعف الشديد.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: مسكينٌ ابنُ آدم، مكتوم الأجل، مكنون العِلَل، محفوظ العمل، تؤلمه البَقَّة، وتقتله الشرقة، وتُنْتِنُه العَرْقة. (نهج البلاغة: 555).

وقد ورد في علّة خلق الذُّباب ما يشبه ما احتملناه في الفيروسات، فقد روى الشيخ الصدوق قدس سره في كتابه (عِلَل الشرائع)، بسنده عن الربيع صاحب [أبي جعفر] المنصور، قال: قال المنصور يوماً لأبي عبد الله عليه السلام وقد وقع على المنصور ذبابٌ، فذبَّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبَّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبَّه عنه، فقال: يا أبا عبد الله لأيّ شيء خلق الله تعالى الذباب؟ قال: ليذلّ به الجبَّارين. (علل الشرائع 2/209. وذكر ذلك أيضاً: المزّي في تهذيب الكمال 5/93، والذهبي في سير أعلام النبلاء 6/264).

7- فائدة نظافة الأبدان والطعام وغيرها: فإنّ الله تعالى ربّما خلق الفيروسات ونحوها لكي يعتني الناس بنظافة أبدانهم وطعامهم وآنيتهم وملابسهم وبيوتهم وما يتعلّق بهم، فإنّ عِلْمهم بوجود الفيروسات وبشدّة فتكها، وعظم مخاطرها، وأنّها يمكن تجنّبها بغسل الطعام، وغسل الأواني والأيدي، وتجنّب القذارات والأوساخ التي ينتقل اﻟفيروس من خلالها - يحثّهم على مزيد العناية بنظافة أبدانهم وطعامهم وسائر متعلَّقاتهم، بخلاف ما لو لم يكن هناك فيروسات في الوجود، فإنّهم ربّما لا يعتنون بالنظافة أصلاً؛ لأنّهم لا يشعرون بأيّ دافع يدفعهم لذلك، وهو أمر غير محمود عقلاً وعرفاً وشرعاً.

8- دور المختبرات في إعداد أشدّ الفيروسات فتكاً: فإنّ الفيروسات يمكن إعدادها في المختبرات، وهي مكونة من:

(1) المادة الوراثية المصنوعة من DNA أو RNA، والجزيئات الطويلة التي تحمل المعلومات الوراثية.

(2) طبقة بروتينية تحيط بالمادة الوراثية وتحميها.

(3) مظروف من الدهون التي تحيط بطبقة البروتين عندما تكون خارج الخلية.[2]

والمتتبّع لتاريخ الفيروسات يجد أنّ أوّل فيروس اكتُشف هو فيروس مرض فسيفساء التبغ  tobacco mosaic disease الذي اكتشفه العالم الهولندي مارتينوس بيجيرينك Martinus Beijerinck في عام 1898م.[3]

 

وهناك من يذكر أن جملة من الفيروسات التي انتشرت في السنين المتأخّرة ولم يكن لها وجود سابق كفيروسات مرض الإيدز الذي اكتشف في 5 حزيران 1981م، وانفلونزا الطيور، وانفلونزا الخنازير، والأيبولا، وغيرها كلّها تمّت صناعتها في المختبرات.[4]

وعليه، فلعلّ الله تعالى لم يخلق فيروسات خطيرة، وإنّما صنعها الإنسان قديماً وحديثاً؛ لاستخدامها في الحروب البيولوجية، أو لأغراض أخرى.

 


[1] راجع: https://jvi.asm.org/content/89/13/6532.full?sid=776dbcbf-bfa6-43d3-8450-fffdf42279ad#ref-1).

[2] راجع: https://en.wikipedia.org/wiki/Virus

[3] https://en.wikipedia.org/wiki/Martinus_Beijerinck

[4] http://www.nbcnews.com/health/health-news/scientist-makes-mutant-infectious-flu-virus-lab-n128936.

https://www.theatlantic.com/health/archive/2014/05/when-viruses-escape-the-lab/371202/

     https://www.lifesitenews.com/news/african-nobel-prize-winner-says-hiv-created-in-lab-for-biological-warfare

     http://www.snopes.com/medical/disease/aids.asp).

 

2020/05/28

مكتب السيد السيستاني يصدر توضيحاً حول رؤية الهلال بالأدوات المقرّبة

بسم الله الرحمن الرحيم

 سؤال: يفتي معظم الفقهاء بأنه (لا عبرة برؤية الهلال بالعين المسلّحة سواء بالنسبة إلى الرائي وغيره). ويسأل البعض عن وجه هذه الفتوى مع أن (الرؤية) المذكورة في النصوص (صم للرؤية وأفطر للرؤية) تعمّ بإطلاقها الرؤية بالعين المجرّدة والعين المسلّحة، ومجرّد عدم كون الرؤية بالعين المسلّحة متيسرة في عصر المعصومين عليهم السلام لا يمنع من شمول الإطلاق لها، فأي وجه لعدم الاعتماد على الأجهزة الحديثة في رؤية الهلال مع أنه تتم الاستعانة بها في تشخيص سائر الموضوعات الشرعية؟

 الجواب: هذا بحث تخصصي وليس متاحاً في بعض جوانبه الا لأهل الاختصاص ولكن نذكر ما ربما يسع استيعابه لغيرهم أيضاً فنقول: إن القرآن الكريم قد دلّ على أن أهلة الشهور إنما جعلت مواقيت يعتمد عليها الناس في أمور دينهم ودنياهم، قال تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] وما يصلح أن يكون ميقاتاً لعامة الناس هو الهلال الذي يظهر على الأفق المحلي بنحوٍ قابلٍ للرؤية بالعين المجرّدة، وأما ما لا يرى إلا بالأدوات المقربة فهو لا يصلح أن يكون ميقاتاً للناس عامة.

وبعبارة أخرى: حكم الهلال في الليلة الاولى والليالي اللاحقة من الشهر حكم عقارب الساعة، فكما أن عقاربها تحكي بحركتها الدورية عن أوقات الليل والنهار، كذلك القمر بأوضاعه المختلفة ــ حيث يزداد جزؤه المضيء ليلة بعد أخرى ثم يبدأ بالتناقص حتى يدخل في المحاق ــ تحكي عن عدد الليالي في الشهر القمري، ومعنى جعل الأهلة مواقيت للناس هو أن ظهورها بمراحلها المختلفة بمثابة عدّاد سماوي مشهود لعامة الناس يمكنهم الرجوع اليه لمعرفة ايام الشهر القمري لتنظيم شؤون دينهم ودنياهم، وهذا يقتضي أن تكون العبرة في رؤيته بما يتيسر التأكد منه لعامة الناس لا لخصوص من يمتلك جهازاً صناعياً يكشف عن وجود الهلال في الأفق في الوقت الذي لا يتيسر التحقق من ذلك لغيره. فان هذا لا ينسجم مع كون الأهلة مواقيت للناس عامة.

ومن هنا يعلم أن عدم الأخذ بالرؤية بالتلسكوب ونحوه في اثبات الهلال ليس من جهة الاحجام عن الاستعانة بالأجهزة الحديثة في تشخيص موضوع الحكم الشرعي، بل من جهة أن ما جعل موضوعاً له إنما هو من قبيل ما يعتبر أن يكون قابلاً للتحقق من وجوده لعامة الناس ممن يملك عيناً سليمة حتى أهل الارياف وسكنة البراري والجبال ممن لا طريق لهم للتحقق من ظهور الهلال في الأفق الا أعينهم.   

ونظير المقام ــ من وجه ــ أن من موجبات الجنابة هو خروج السائل المنوي من الرجل، وعندما تجرى له عملية استئصال غدة البروستات يؤدي ذلك عند المقاربة الى رجوع المني الى المثانة وخروجه مستهلكاً في البول، فاذا أخذت عيّنة من بوله واكتشف في المختبر بالمجهر اشتمالها على بعض الحيوانات المنوية لم يحكم على صاحبها بوجوب الغسل، لان ما يوجبه هو خروج المني وهو ما لم يحصل، وأما احراز وجود حيوانات منوية فيما يخرج من البول بالأجهزة الحديثة فهو مما لا أثر له، لعدم تحقق موضوع وجوب الغسل بذلك. 

ونظيره أيضاً ما اذا خرج من وطنه وابتعد عنه بحيث لا يراه من يسكن فيه الا بالمنظار ونحوه، أو لا يسمع هو صوت الأذان المرفوع فيه الا ببعض الآلات المعدّة لالتقاط الاصوات من الامكنة البعيدة، فانه لا يتأخر وصوله الى حد الترخص بهذا المقدار بل يصل اليه اذا لم يكن يراه أهل بلده بالعين المجردة، وعلى رأي اذا لم يكن يسمع الأذان المرفوع فيه بأذُنه المتعارفة، لأن ما هو موضوع الحكم بوجوب التقصير في الصلاة والترخيص في الافطار في شهر رمضان هو الابتعاد عن الوطن بهذا المقدار وليس عدم الرؤية أو عدم السماع بعنوانهما.

وهكذا أيضاً ما اذا نظّف السمكة مما فيها من الدم ــ وهو ما يحرم أكله وإن كان طاهراً ــ ولكن لاحظ بالمجهر بقاء جزيئات صغيرة جداً من الدم فيها بحيث لا ترى بالعين المجردة، فانه لا يضر ذلك بجواز أكلها، لأن موضوع حرمة الأكل  هو ما يعدّ دماً بالنظر العرفي، وتلك الجزيئات لا تعدّ كذلك.

فهذه الموارد تختلف عن موارد أخرى يمكن أن يكون للأجهزة الحديثة دور في تحقق موضوع الحكم الشرعي أو احراز تحققه، ومن أمثلته:

1 ـ ما اذا شك في وقوع شيء من النجاسة في كأس من الماء فنظر بعينه المجردة فلم يجد شيئاً ثم نظر بالمجهر فوجد فيه ذرة من النجاسة لا ترى بالعين المجردة، فانه يحكم فيه بتنجس الماء لان موضوع الحكم بالتنجس هو الملاقاة مع النجاسة ولو بمقدار ذرة منها وقد أمكن احرازها ولو بالمجهر.

2 ـ ما اذا نظر الى ما يحرم النظر اليه ــ كبدن غير المحارم من النساء ــ بالمنظار أو نحوه، فانه يحكم بكونه آثماً لأن موضوع الحرمة هو النظر وقد تحقق ولو بالآلة.

3 ـ ما اذا تجسس على الغير بآلات التنصت الحديثة، فانه يكون مرتكباً للحرام لصدق التجسس الذي هو موضوع الحكم بالحرمة ولا خصوصية للتنصت بلا واسطة.

4 ـ ما اذا مات زوج الحامل واريد تقسيم تركته على سائر الورثة بعد عزل مقدار نصيب الحمل، فان استعين بالسونار ـ مثلاً ـ للتعرف على حاله من أنه واحد أو متعدد ذكر أو أنثى أخذ بمقتضاه، لأن موضوع الحكم بوجوب عزل مقدار نصيب الحمل من تركة المتوفى قبل تقسيمها هو ما يحتمل أن يكون عليه من الوحدة والتعدد والذكورة والأنوثة فإن تيسر تشخيص ذلك بالأجهزة الحديثة لزم العمل بذلك.

5 ـ ما اذا شُك في مولود أنه ابن فلان أو لا فأجري عليه فحص الحمض النووي ( DNA ) فكشف عن التطابق بينهما في الجينات الوراثية، فانه يؤخذ بمقتضاه، لأن موضوع الحكم ببنوة المولود لرجل هو تكونه من حيمنه وهو ما أمكن احرازه بالفحص المذكور حسب الفرض، فتترتب عليه أحكامها.

والحاصل: إن التفريق بين الموارد بإمكان الاستعانة في بعضها بالأجهزة الحديثة للرؤية أو الاستماع أو نحوها وعدم العبرة بها في البعض الآخر إنما هو من حيث اختلاف الموارد فيما هو موضوع الحكم الشرعي، وليس للفقيه الا التقيد بذلك حسب ما يستفيده من الادلة.

وفي مورد الهلال استفاد معظم الفقهاء من جعل الأهلة مواقيت للناس ـ كما نصت عليه الآية المباركة ـ أنها مقياس زمني يتاح لعامة الناس الرجوع اليه وتنظيم أمورهم المعيشية والدينية بذلك، لا أنه مقياس لا يتسنى الا للبعض منهم خاصة بحيث لا يستفيد منه الآخرون الا بالرجوع الى ذلك البعض الذي يملك الآلة المقربة لرؤية الهلال.

وبذلك يعرف أنه لو كان العلماء قد توصلوا الى صنع التلسكوبات في عصر المعصومين لما كانوا (عليهم السلام) يأخذون برؤية الهلال بها، ليس استنكافاً عن الاستعانة بالأجهزة الحديثة، بل لأن الهلال الذي لا يكون ظاهراً لعامة الناس لم يجعل ميقاتاً لهم.

وبهذه القرينة يتعين أن تكون الرؤية المذكورة في نصوص الصيام والإفطار طريقاً الى ظهور الهلال في الأفق المحلي بحيث يكون قابلاً للرؤية بالعين المجردة لعامة الناس، ولا اطلاق لها لتشمل الرؤية بالأدوات المقربة.     

مضافاً إلى أنه لو بني على كون المناط في دخول الشهر بظهور الهلال في الأفق بنحوٍ قابلٍ للرؤية ولو بأقوى التلسكوبات والأدوات المقرّبة لاقتضى ذلك أن صيام النبي (ص) والأئمة (ع) وفطرهم وحجهم وسائر أعمالهم التي لها أيام خاصة من الشهور لم تكن تقع في كثير من الحالات في أيامها الحقيقية، لوضوح أنهم (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على الرؤية المتعارفة في تعيين بدايات الأشهر الهلالية، مع أنهم ــ وكذلك كثير من أهل النباهة في عصرهم ــ كانوا على علمٍ بأنه قلّما يرى الهلال بالعين المجرّدة واضحاً ومرتفعاً في ليلة الا ويكون في الليلة السابقة عليها قابلاً للرؤية بأداة مقرّبة قوية لو كانت متوفرة، فلماذا لم يعهد منهم ولا من غيرهم التعويل على ذلك في عدّ الهلال لليلتين عندما يرى لأول مرة واضحاً ومرتفعاً؟!

 

 والحمدلله رب العالمين.

 

                                                         مكتب السيد السيستاني (دام ظله) ـ النجف الأشرف

2020/05/26

هل الأمراض والظواهر الكونية تحدث بسبب الذنوب؟!

كثيراً ما يطرح عليَّ هذا السؤال، وهو أنَّ الدين كان يعتمد على الخرافة، ومن الخرافات الموجودة في الدين تفسير الدينين لبعض الظواهر الكونية، كتفسير ظاهرتي الخسوف والكسوف بأنهما بسبب الذنوب والمعاصي ونحو ذلك، أو تفسير الأمراض، كأن يقال إصابة شخص بمرضٍ بسبب ارتكابه ذنبًا، ومع تطور العلم في يومنا هذا وبيانه أنَّ سبب المرض هو دخول بعض البكتيريا أو الفيروسات إلى البدن، انكشف أن هذه خرافة.

لا يقول بهذا عالم يعتد به!

وفي الحقيقة فإنني لم أجد عالم دينٍ يعتد به وبرأيه يقول بأنَّ ظاهرتي الخسوف والكسوب سببهما ذنوب الناس، وضعوا خطاً تحت كلمة (يعتد به)، فليس كل من يدعي أنه عالمٌ هو عالمٌ، يقول الإمام العسكري (صلوات الله وسلامه عليه): "سيأتي زمان على الناس وجوهم ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة متكدرة... كل جاهل عندهم خبير"، فأي شخصٍ يتكلم عند هؤلاء فهو خبيرٌ ومتخصصٌ، وهذا ما هو موجودٌ في زماننا الحاضر، وخاصةً إذا كان المتكلم لديه ثروة في المفردات وقدرة على سبك العبارات فيظن الناس بأنه خبيرٌ، فإذا قلتُ بأنَّه لا يوجد شخصٌ معتدٌ به، فأقصد بذلك شخصًا متخصصًا يعترف بأنَّه عالمٌ متخصصٌ في الحوزة العلمية، والتي يعبر عنها بعض الحداثيين بالمؤسسة الدينية.

دعوة إلى الخوف لا التحليل

في تراثنا عدة من الروايات تدل على أنَّه إذا رأى المرء ظاهرتي الخسوف والكسوف ينبغي أن يخاف، وهذا أمرٌ طبيعيٌ، فإنَّه إذا فعل الله (تبارك وتعالى) أمراً استثنائيًا في كوكبين عظيمين لا قدر للإنسان أمامهما، فإنَّ هذا ينبه إلى أنَّ كل شيءٍ بقدرة الله (تبارك وتعالى) وأنه مقهورٌ بهذه القدرة، فعليه أن يخشى ويخاف من هذه القدرة القادرة على أن تغير حاله كما غيرت حال الشمس والقمر. هذا ما يطرحه العلماء، وليس العلماء في مقام طرح أن ظاهرتي الخسوف والكسوف لا تحصل بسبب حركةٍ معينةٍ للشمس والقمر والأرض وإنما تحصل بسبب الذنوب والمعاصي، وهنا لست أدعي أنَّ كل عالمٍ في الحوزة العلمية أو كل منتسبٍ للحوزة العلمية هو من أهل العصمة ولا يمكن أن يقع في الخطأ، ولكن ما أدعيه بأنَّ التوجه العام لعلماء الدين ليس هو الدعوة إلى هذا الأمر، وإنما يدعون إلى الخوف من الله (تبارك وتعالى) كلما أعمل الله (جلَّ شأنه) قدرته بإظهار عظيم صنعه. و من المفيد جداً أن نلاحظ بعض الروايات في هذا وذكرها الحر العاملي(رحمه الله) في وسائل الشيعة في (أبواب صلاة الكسوف والآيات) ومنها:

1ـ بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) قال: إنما جعلت للكسوف صلاة لأنه من آيات الله، لا يدري الرحمة ظهرت أم لعذاب؟ فأحب النبي (صلى الله عليه وآله) أن تفزع أمته إلى خالقها وراحمها عند ذلك ليصرف عنهم شرها ويقيهم مكروهها كما صرف عن قوم يونس (عليه السلام) حين تضرعوا إلى الله عزّ وجلّ، الحديث .

2ـ محمد بن محمد بن المفيد في (المقنعة) قال: روي عن الصادقين (عليهم السلام)، أن الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس وخسف القمر، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله تعالى بالصلاة .

3ـ محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن علي بن عبدالله قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: إنه لما قبض إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جرت فيه ثلاث سنن: أما واحدة فانه لما مات انكسفت الشمس، فقال الناس: انكسفت الشمس لفقد ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الكسوف.

4ـ محمد بن الحسن بإسناده عن حماد، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر (عليه السلام) هذه الرياح والظلم التي تكون، هل يصلى لها ؟ فقال: كل أخاويف السماء من ظلمة أو ريح أو فزع فصل له صلاة الكسوف حتى يسكن .

5 ـ وفي (المجالس): عن أحمد بن الحسن القطان، عن الحسن بن علي السكري، عن محمد بن زكريا البصري، عن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن الصادق، عن أبيه (عليهما السلام) قال: إن الزلازل والكسوفين والرياح الهائلة من علامات الساعة، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فتذكروا قيام الساعة وافزعوا إلى مساجدكم.

6 ـ محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن عاصم، عن أبي بصير قال: انكسف القمر وأنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) في شهر رمضان، فوثب وقال: إنه كان يقال: إذا انكسف القمر والشمس فافزعوا إلى مساجدكم .

7ـ محمد بن علي بن الحسين قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بتقديره وينتهيان إلى أمره، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياة أحد، فإن انكسف أحدهما فبادروا إلى مساجدكم .

فإن هذه الروايات بمجموعها تدل على أن الكسوف والخسوف من آيات الله التي توجب الخوف، فإن تقدير الله تعالى من الأزل لحكمة، وقد قدر الآيات الكونية لحكمة، ولا مانع أن يكون منها كسر حالة الجمود بإحداث ظاهرة ترجع العبد إلى خالقه و توجب أن يلتفت إلى عظيم قدرته، وهذا ما يظهر من (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بتقديره وينتهيان إلى أمره)، فإن حركة الشمس والقمر وفق تقدير إلهي كوني دقيق، والحدث ينبغي أن يذكر بالله تعالى: (فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فتذكروا قيام الساعة وافزعوا إلى مساجدكم).

لكن هذه الآيات للتخويف لا لوجود نظام كوني!

وقد تقول: في الروايات (إن الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس وخسف القمر، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله تعالى بالصلاة) و هذا يدل على أن الله يحدث الخسوف والكسوف للتخويف، وليس هذا لوجود قانون كوني حاكم كما هو مقرر في العلم الحديث.

والجواب: إن كونه تعالى أراد التخويف لا ينافي أن يكون سير الكواكب وفق نظام دقيق، فهو تعالى أراد ذلك من أول الخلقة بإيجاد نظام كوني دقيق يحدث ظاهرة الخسوف والكسوف، على أن الرواية مرسلة في كتاب المقنعة للشيخ المفيد (رحمه الله) ص 208 .

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى شيء، وهو أن آيات الله تعالى التي توجد صلاة لها لا تنحصر في الخسوف والكسوف، فمنها الريح والظلمة، وفي الرواية (كل أخاويف السماء من ظلمة أو ريح أو فزع فصل له صلاة الكسوف حتى يسكن)، وكثير من هذه الظواهر لا يمنع العلم أن تكون بتدبير من الله تعالى بسبب الذنوب والمعاصي، فخضوعها لقانون عام لا يعني خروجها عن سلطان الله تعالى.

2020/05/24

2020/05/24

عوَق فكري: من المسؤول عن زواج القاصرات؟!

لأجل أن يتّضح الحال في هذه المسألة التي استغل الحديثَ عنها بعضُ المعوّقين فكرياً، لا بدّ أن نتحدّثَ عن بعض الأُسس العامّة توطئةً لإدراك الحقيقة في هذه المسألة.

المبدأ الأساس للتشريعات

هل إنّ التشريعات - السماويّة أو الأرضيّة - حين تقنين الأحكام، تنظر إلى المصالح والمفاسد، أو إلى المنافع والمضار ؟!

و بعبارةٍ أُخرى

حينما يريد المشرّع أن يسنَّ حكماً أو قانوناً، فلا بدّ أنْ يضع نصبَ عينيه أساساً ليبني عليه تلك الأحكام ويجعله المدار لتشريعاته.

وعليه... فهل الأساس للتشريعات هو المصلحة والمفسدة ؟ فما كان فيه مصلحة يُجيزه، وإن كانَ فيه ضررٌ على الفرد (كالزكاة)، وما كان فيه مفسدة يُحرّمه، وإن كان فيه نفعٌ للفرد (كالربا).

أو أنّ الأساس هو النفع والضرر ؟ فما كان فيه منفعة... أجازه، وما كان فيه ضررٌ... حرّمهُ !!

والصحيح... إنّ الأساس في التشريعات والقوانين هو ملاحظة المصلحة، للحكم بالجواز (وإن كان هناك ضرر) و ملاحظة المفسدة للحكم بالتحريم (وإن كان هناك نفع).

لذلك أوجب الله تعالى الزكاة لما فيها من مصلحة المجتمع وإن كان فيها ضررٌ ظاهريٌ وهو نقصان المال.

وحرّم الربا لما فيه من المفسدة على المجتمع وإن كان فيه نفعُ زيادةِ المال.[1]

إذا اتضح ما تقدّم... سيتّضح معه أمرٌ آخر، وهو إنَّ الأحكام والقوانين جاءت لملاحظة مصلحة المجموع (المجتمع) لا لملاحظة مصلحة الجميع (كل فرد فرد)، إذ لا يمكن لأي قانون أن يراعي مصلحة كل فردٍ فرد، لا لقصور في المشرّع، بل لأنّ الطبائع والظروف للأفراد متفاوتة ومختلفة.

و من هنا، فإنّ الحكم بصحة عقد تزويج الصغيرة - مع ملاحظة الحرص الفطري للولي على ابنته، وتحكيم عقله - يكون بنظر الشرع بمصلحة النوع، وإنْ تضرّرت فلانة أو فلانة بسوء تصرّف الولي، أو لظرفها الخاص.

قصور العقل البشري عن إدراك المبادئ الحقيقية للأحكام الشرعية

وليكن معلوماً أنّ الأحكام الشرعية (الوجوب والحرمة والاستحباب.. الخ) لم تأتِ عبثاً، بل هي ناتجة عن عللٍ جعلت من الواجب واجباً ومن الحرام حراماً وهكذا.. وتسمّى هذه العلل ب (مبادئ الحكم).

والمبادئ الحقيقيّة للأحكام الشرعة غالباً ما تكون مجهولة لدى غير المعصوم، وما ورد في علل الشرائع لا يعدو كونه من حِكَم الأحكام لا علَلِها الحقيقيّة.

فنحن نجهل العلّة الحقيقية لكون عدد رمي الجمار في الحج سبع حصيات لا أكثر ولا أقل، ومع كون هذا الحكم بسيطاً في نظر البعض، فإننا نجهل علّته، فكيف بالأحكام الكبرى ؟!

والنتيجة، إنّ علل (مبادئ) الأحكام الشرعية التي على أساسها كان الواجب واجباً والحرام حراماً.. وهكذا.. مجهولة لدى المكلّفين.

وعليه..

فحين تجهل العلّة الحقيقية التي دعت الشرع إلى الحكم بجواز عقد الزواج من الصغيرة هذا لا يعني عدم حقّانيّة هذا الحكم، بل يعني قصور عقلك عن إدراك العلل.

الإباحة تقتضي إيكال تحديد مصلحة البنت لوليّها العاقل

لا يعني - أبداً - صحّة الزواج من الصغيرة إلزامَ الولي بأنْ يزوّج ابنته في هذه السّن، بل يعني أنّ الشرع قد أعطى للولي العاقل مساحةً واسعة من الحريّة يمكنه أنْ يفكّرَ في مصلحتها، فإن وجدَ من المصلحة عدم التزويج، فهذا شأنه ولم يكن معاتَباً من قِبَلِ الشارع.

وعليه.. فتكون الكرة في ملعب الولي العاقل في هذه الحالة.

ثم.. يشترط في صحّة التزويج من قِبَلِ الولي عدم المفسدة، فلو كانت هناك مفسدة بالنسبة للصغيرة فسوف يكون العقدُ فضولياً.. المنهاج ج٣ م٥٩ السيد السيستاني.

 مستند الفقهاء في الحكم بصحة زواج الصغيرة

لم يكن الفقهاء قد جاءوا بجواز زواج الصغيرة من وحي أفكارهم، بل هو حكمٌ قرآني وارد في كتاب الله العزيز، فإن القرآن حين بيّن عدّة الطلاق لأصناف النساء، ذكر عدّة الصغيرة التي لم يطرأ عليها الحيض بعدُ (واللائي لم يحضنَ) قال عزّ اسمه (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق ٤ وهذا يعني صحّة زواجها، لذلك تسمّى مطلّقة عند الانفصال وعليها أن تعتدّ.

وهو حكم صادرُ عن أهل البيت (ع) أيضاً وقد تصل الروايات التي وردت في هذا الباب إلى حد التواتر، ومن ذلك ما ورد في الوسائل ج ٢٠ باب ٤٥ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، فراجع.

ثبوت صدور الحكم من المعصوم يقتضي التسليم من المسلم

وبعد أن عرفنا من خلال ما تقدّم، كون الحكم بجواز الزواج من الصغيرة صادراً عن المعصوم، فقد وجب التسليم له عملاً بقوله تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء ٦٥

فمن يعترض على الأحكام الثابتة عن المعصوم بنصوص ثابتةٍ حُجّيتُها فإنه يؤدي إلى الخلل في إيمانه حسب ما جاء في الآية الكريمة.

صحة عقد النكاح لا يقتضي جواز المقاربة مطلقاً

قد يخلط البعض بين صحة عقد الزواج وبين جواز الوطئ !

والصحيح هو:

إذا كانت البنت لم تُكمل تسع سنين، فلا يجوز وطئُها شرعاً.

وأما من تجاوزت هذه السن، فإن كان الوطئ يسبب لها ضرراً، فعلى القاعدة، وأنه لا يجوز إيقاع الضرر بالآخر، وإن لم يسبب ضرراً معتدّاً به، فهي زوجته، وهذا تابع لبُنية الزوجة الجسميّة، بعد إذن الولي بتزويجها الذي افترضناه عاقلاً ومهتماً بمصلحة ابنته.

هذا لمن آمن بالغَيْب.. ولا شأن لنا بالمهرّجين

لعلّ هذا المنطق العلمي الذي سقنا الكلام وفقَه لا ينسجم مع ذائقة بعض المهرّجين الذين ادّعوا - كذباً - أنّ الفقهاء أجازوا الاستمتاع بالبنت ذات الشهر !

فيا هذا... هل هناك عاقل يرى في ذات الشهر استمتاعاً ؟ حتى يُناقَش في مرحلة الجواز وعدمه ؟!.. هل مُسخ عقلُك إلى حدٍ مابات يميّز بين الموضوعات ؟ وأنّى لعقلك الفكرة ولم يُمهله مُذهبُه ؟!

هذا والحمد لله أولاً وخراً.. وصلى الله على محمد وعلى آله الطاهرين.


[1] ١) ذكر هذا المبحث الشيخ الآخوند (رض) في كفاية الأصول في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة. ص ٣٤٨.

توضيح / المقصود بالمنفعة والضرر والمصلحة والمفسدة :

قد يتناول المريض دواءً مركّزاً قد ترتفع درجة حرارته ليوم أو يومين جرّاء تناول هذا الدواء، ولكنّه سيشفيه من مرضٍ عُضال.

فيقال : إنّ الدواء وإن أضرّ به نسبياً ولكنّه كان بمصلحته.

وقد يظلم الإنسان فيحصل على منافع مادية نتيجةً لظلمه، ولكنّه يُعدّ مفسداً في نظر العقلاء.

وبهذا يتبيّن أنّ المصلحة تختلف عن المنفعة. والمفسدة تختلف عن الضرر.

2020/05/19

بالأدلة: لماذا يعتبر المسلمون «الكلب» نجساً؟

مع انتشار ظاهرة تربية الكلاب في المنازل، يكثر السؤال التالي: "لماذا يعتبر المسلمون بأنّ الكلب نجس حين لمسه، أو تربيته في المنزل؟ ما الدليل على ذلك؟

وهنا في هذه المقالة القصيرة نشير إلى بعض النقاط التالية:

أ ـ الطهارة والنجاسة من الأحكام التعبّدية التي تدور مدار قول الشارع، فلا مجال للعقل استقلالاً للتحكّم في مواردها.

ب ـ نعلم إجمالاً بأنّ حكمة الأحكام ـ بما فيها الطهارة والنجاسة ـ لا تنكر إذ مع العلم بصدورها من الحكيم ـ والحال هذه ـ لا ينبغي التأمّل بوجود الحكم والمصالح فيها، ولو أنّنا لم نصل إلى كنه كُلّ منها، وهذا لا يضرّ في تعبّدنا بعد علمنا المسبق بوجود المنافع والمضار فيها.

نعم، لابأس بالتحرّي واستكشاف هذه المصالح والحكم بمعونة العلم الجديد وغيره.

ج ـ الذي عليه كافّة علماء الشيعة، وأكثر علماء السنّة نجاسة الكلب عيناً ولعاباً، فهو من الأعيان النجسة بعينه وولوغه، فيحكم عليه بقاعدة النجاسات، وعليه فلا يضرّ لمسه أو وجوده في البيت ـ كما هو الحال عند رعاة الغنم ـ إذا لم تتعدّ النجاسة منه إلى الموارد التي يجب طهارتها ـ مثل موارد الأكل والشرب ولباس المصلّي ـ برطوبة مسرية، ولو أنّ اقتناءه وحفظه في المنزل يعدّ مكروهاً إن لم تكن ضرورة في البين.

د ـ الروايات الواردة في المقام كثيرة من الفريقين، ففي بعضها:  « رجس نجس »[1]، وفي بعضها الآخر: « لا والله إنّه نجس »[2]، وأيضاً: « طهر إناء أحدكم إذ ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرّات »[3].

هـ ـ قد ثبت علميّاً اختزان بعض الجراثيم الفتّاكة على جلد الكلب وشعره، ممّا يؤدّي إلى نقلها داخل المجتمع ؛ وهذا ما أكّدته بعض النظريات العلمية المختصّة، وأنّ هذه الجراثيم لا يمكن القضاء عليها إلاّ بالتراب، فلابأس بالمراجعة إلى تلك الجهات للوقوف على هذه المعلومات.

الهوامش:


[1] الاستبصار 1 / 19 ، تهذيب الأحكام 1 / 225.

[2] نفس المصدرين السابقين.

[3] مسند أحمد 2 / 314 و 427 ، صحيح مسلم 1 / 162 ، المصنّف للصنعاني 1 / 96.

2020/05/09

عزيمة أم رخصة: لماذا يفطر الشيعة في السفر؟​

قال تعالى: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[1]

اتّفقت كلمة الفقهاء من الفريقين على مشروعية الإفطار في السفر تبعاً للذكر الحكيم، والسنّة المتواترة، إلاّ أنَّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزاً أو واجباً.

ذهبت الإمامية ـ تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام ـ والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة، واختاره من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف، وعمر وابنه عبد الله، وأبو هريرة، وعائشة، وابن عباس، ومن التابعين: سعيد بن المسيّب، وعطاء، وعروة بن الزبير، وشعبة، والزهري، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، ويونس ابن عبيد وأصحابه[2].

وذهب جمهور أهل السنّة ـ وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة ـ إلى كون الإفطار رخصة، وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم.

ويدلّ على كون الإفطار في السفر عزيمة: الكتاب والسنّة ثمّ إجماع الإمامية والظاهرية، أمّا الكتاب فيدلّ عليه قوله سبحانه: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )[3].

استثنى سبحانه صنفين: المريض والمسافر، والفاء للتفريع، والجملة متفرّعة على قوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) وعلى قوله: ( أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) فنبّه بالاستثناء على أنّه لو عرض عارض ـ من مرض أو سفر ـ فهو يوجب ارتفاع حكم الصوم، وقضاءه بعد شهر رمضان ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

وعلى هذا المعنى فالآية بدلالتها المطابقية تفرض عليهما القضاء الذي هو يلازم عدم فرض الصيام عليهما، وهذا يدلّ على أنّ الإفطار عزيمة، إذ المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو القضاء.

هذا وتظافرت السنّة المتواترة الواردة من طرق الشيعة والسنّة على أنّ الإفطار في السفر عزيمة، ونذكر من كُلّ من الفريقين حديثين للاختصار، وإذا أردت المزيد فعليك بكتاب البدعة للشيخ السبحاني:

1 ـ عن الزهري عن علي بن الحسين عليهما ‌السلام قال: « وأمّا صوم السفر والمرض، فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك، فقال: يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يُفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فإنّ الله تعالى يقول: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهذا تفسير الصيام »[4].

2 ـ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: « سمّى رسول الله صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله قوماً صاموا حين أفطر وقصّر: عُصاة، وقال: هُم العصاة إلى يوم القيامة، وإنّا لنعرف أبناء أبنائهم إلى يومنا هذا »[5].

وأمّا ما رواه أهل السنّة في مجال الإفطار :

1 ـ عن جابر بن عبد الله: أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان، فصام حتّى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إنّ بعض الناس قد صام؟ فقال: « أُولئك العصاة، أُولئك العصاة » (1).

وهذا الحديث صريح في أنّ الصوم في السفر معصية لا يجوز.

2 ـ عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله: « صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر »[6].

هذا وإن استدلّ القائلون بكون الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة بقوله تعالى: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) فالآية راجعة إلى المسافر، فهو يدلّ مضافاً إلى جواز الصيام في السفر، يدلّ على أفضليته فيه، وينتج أنّ الإفطار رخصة والصيام أفضل.

ولكن يلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو لم نقل بأنّ الآية الثانية ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... )[7] ناسخة للآية المتقدّمة برمّتها، ومنها قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ )، وإلاّ فعلى القول بالنسخ ـ كما رواه البخاري ـ يسقط الاستدلال، وإليك ما روى: قال: باب ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ )[8] قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... )[9].

وثانياً: إنّ الاستدلال مبنيّ على أن لا يكون قوله سبحانه: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ناسخاً لقوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ له ) كما رواه البخاري عن ابن أبي ليلى، أنّه حدّثه أصحاب محمّد صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله: نزل رمضان فشقّ عليهم، فكان من أطعم كُلّ يوم مسكيناً ترك الصوم ممّن يطيقه ورخّص لهم في ذلك، فنسختها: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) فأمروا بالصوم[10].

إذ على هذا التفسير لا صلة بالمنسوخ والناسخ بالمسافر، بل كلاهما ناظران إلى الحاضر، فقد كان من يطيقه تاركاً للصوم مقدّماً للفدية، فنزل الوحي وأمرهم بالصوم، فأيّ صلة له بالموضوع.

وثالثاً: مع غضّ النظر عمّا سبق من الأمرين، وتسليم أنّ الآية ليس فيها نسخ ـ كما هو الحقّ ـ نقول: إنّ قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) حضّ على الصيام ودعوة إلى تلك العبادة، من غير نظر إلى المريض والمسافر والمطيق، وإنّما هو خروج عن الآية بإعطاء بيان حكم كُلّي، وهو أنّ الصيام خير للمؤمنين، وليس عليهم أن يتخلّوا عنه لأجل تعبه، ولأجل ذلك يقول: ( إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).

قال العلاّمة الطباطبائي: « قوله تعالى: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) جملة متمّمة لسابقتها، والمعنى بحسب التقدير: تطوّعوا بالصوم المكتوب عليكم، فإنّ التطوّع بالخير خير، والصوم خير لكم، فالتطوّع به خير على خير.

وربما يقال: إنّ قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة، فإنّ ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك، فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر، فيستحبّ عليهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء.

ويرد عليه: عدم الدليل عليه أوّلاً، واختلاف الجملتين، أعني قوله: ( فَمَن كَانَ مِنكُم... )، وقوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) بالغيبة والخطاب ثانياً، وأنّ الجملة الأُولى ليست مسوقة لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) تعيّن الصوم في أيّام أُخر كما مرّ ثالثاً.

وأنّ الجملة الأُولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حقّ المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتّى يكون قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) بياناً لأحد طرفي التخيير، بل إنّما ذكرت صوم شهر رمضان، وصوم عدّة من أيّام أُخر، وحينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره، من مجرد قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) من غير قرينة ظاهرة رابعاً.

وأنّ المقام ليس مقام بيان الحكم حتّى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبياً، بل المقام ـ كما مرّ سابقاً ـ مقام بيان ملاك التشريع، وإنّ الحكم المشرّع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن، كما في قوله تعالى: ( فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ )[11]، وقوله تعالى: ( فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ )[12]، وقوله تعالى: ( تُؤْمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[13]، والآيات من ذلك كثيرة »[14].

الهوامش:


[1] ـ البقرة: 184.

[2] أُنظر: المحلّى 6 / 258، المصنّف للصنعاني 2 / 567.

[3] البقرة: 184.

[4] وسائل الشيعة 10 / 174.

[5] 3 ـ الكافي 4 / 128، من لا يحضره الفقيه 1 / 435 و 2 / 141، تهذيب الأحكام 4 / 217.

[6] صحيح مسلم 3 / 141، مسند أبي يعلى 3 / 400، صحيح ابن خزيمة 3 / 255، صحيح ابن حبّان 6 / 423.

[7] البقرة: 185.

[8] البقرة: 184.

[9] صحيح البخاري 2 / 238.

[10] المصدر السابق 2 / 239.

[11] البقرة: 54.

[12] الجمعة: 9.

[13] الصف: 11.

[14] الميزان في تفسير القرآن 2 / 14.

2020/05/09

أين عدل الله: آدم يعصي ويتوب وإبليس يُطرد!

طلب آدم وزوجه من ربهما التوبة حين قالا: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، الأعراف: 23، فوهب لهما ذلك: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 36 ـ 37.

 وطلب إبليس من الله سبحانه وتعالى أن ينظره إلى يوم يبعثون، عاصياً ومتكبراً، مؤثراً ألا يتوب، ومتوعداً بأن يغوي عباد الله عن الطريق القويم ويزين لهم طريق السوء ليدخلوا النار بدلاً من الجنة، قال تعالى يحكي عنه في سورة الحجر: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ)، ولم يسأل الله التوبة، من هنا، يتضح جواب من سأل عن عدل الله تبارك وتعالى في التوبة على آدم وزوجته، بينما يطرد ابليس ويلعنه، وكلهم عاصٍ له تعالى، فآدم وزوجه طلبا التوبة منه تعالى، بخلاف الملعون، الذي لم يطلبها وطلب أموراً اخرى، وقد أجيبت دعوتهما، فمن طلب التوبة نالها، ومن دعا بغيرها، هذا أولاً.

إما التوبة أو التكبر!

ثم ان التوبة توفيق لا يناله من تكبر وعاند الحق سبحانه، وهذا ما يحتاج الى بسط في الكلام:

قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي: التلقي هو التلقن، و هو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام) توبته.

ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.

وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: "ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 119. الميزان: ج1، ص75.

هل للتوبة قانون.. أم أنها تشمل الجميع؟

فالتوبة إذن هي توفيق ابتدائي من الله تعالى لعباده، لكن هل يوفق لها الجميع أو ان لها قانونها الخاص، الخاضع لقوانين العدل الإلهي؟ 

باختصار ان المعصية اذا كانت صادرة عن جهل بمعنى صدورها من طغيان قوى الشهوة او الغضب، فإنها أي المعصية تزول بزوال منشأها، فمنشأ المعصية غير راسخ لدرجة يمتنع زوالها من غير جبر؛ لذا قال تعالى في وصف هؤلاء: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)، النساء: 17.

 بخلاف ما لو صدرت مما يعرف بخبث السريرة، فإن مثل هذا العبد لا يوفق للتوبة؛ لأن منشأ المعصية ذاتي لا يزول إلا بالجبر وهو مخالف لسنة الله في خلقه، وهي صدور الفعل عن اختيار، من هنا قال تعالى: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)، النساء: 18.

  وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي: فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى و ظهور الشهوة و الغضب من غير عناد مع الحق، و من خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى و خمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم و زالت الجهالة، و بانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد و تعمد و نحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى و العواطف و الأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات و رداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى و الأميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. الميزان: ج4، ص59.

والخلاصة ان الله تبارك وتعالى تاب على آدم وزوجته؛ لأنهما طلبا التوبة، بخلاف ابليس الذي طلب أموراً أخرى وقد استجاب له تعالى ايضاً، ولو كان طلب التوبة لم يبعد ان يتوب الله عليه، لكنه لم يطلبها، هذا اولاً، وثانياً ان التوبة توفيق لا يناله إلا من عمل المعصية عن جهل، كآدم وزوجه، لا عناد وكبر، كأبليس لعنه الله.

ملاحظة: ان وصفنا لفعل آدم بالمعصية تماشياً مع قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، طه: 121، ومن المعلوم قطعاً في مذهب الحق يؤمن بعصمة الانبياء عن الصغائر والكبائر، وإنما هي مجرد مخالفات للأولى من الفعل الذي يليق بهم.

2020/04/29

جهنم بانتظار المذنبين: لماذا يجبرنا الله على أداء الواجبات؟
لم يعط الله للإنسان حرية مطلقة! وهذا ما يفكر به البعض انطلاقاً من جملة من الأسئلة: فلماذا يعذب الله الانسان التارك للواجبات العالم بوجوبها مع كونه خلوقا مثلا وصاحب يد خير ولا يفعل ما يضر الناس ولا يظلمهم، إذ أنه خلقنا بلا اختيار منا واذا وصلتنا رسالة الاسلام فنحن مجبورون بالواجبات والا عُذّبنا. نعم اعلم أن لي الحرية ولست بمجبور ولكنها ليست حرية مطلقة فإني مجبور بشكل غير مباشر.

وكمثال كأن شخصاً لديه سلاح ويقول لك الحرية في أن لا تعمل بالواجبات ولكن تتحمل نتيجة ذلك بأن اعذبك فهي ليست حرية مطلقة.

اعلم ان الله خلقنا للسعادة ورحمته وسعت كل شيء ولكن الشبهة لماذا خلقنا بالإجبار ونجبر على هذه الطاعة حتى لا نعذب حتى لو لم نكن نحمل صفات سيئة اتجاه الناس؟

نقول، إن الجواب من أمور:

الأمر الأول: لماذا خلقنا الله؟

إن الهدف من خلق الله للإنسان هو وصول الإنسان إلى الكمال، والمقصود بالكمال هو الكمال الروحي، ولذلك قال تبارك وتعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وخلق الإنسان وإن لم يكن خاضعاً لإرادة الإنسان واختياره إلا أنه ليس ظلماً للإنسان وليس تعدياً عليه؛ لأن الهدف من هذا الخلق أن يحصل الإنسان على الكمال، وهذه غاية يميل إليها الإنسان بفطرته وبطبعه الإنساني.

الأمر الثاني: الإثم لا يجبره حسن الخلق

 إن حسن الخلق وقضاء حوائج الناس من الأمور التي يثاب عليها الإنسان فلا يذهب حسن خلقه ولا تكافله الاجتماعي في مهب الريح وإنما يرصد له ثواب أعماله، وقد قال الله تبارك وتعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) فلو كان عليه إثم من طرف آخر وهو فعله للمعاصي فإن ثواب حسن خلقه يبقى وقد يكون مكافئاً أو أثقل في ميزان الأعمال من العقاب المترتب على المعاصي.

الأمر الثالث: العقاب أثر وضعي لا إجباري

 إن حصول العقاب من الآثار الوضعية للمعصية وليس إجباراً وقسراً من قبل الخالق عز وجل، فكما أن الإنسان لو وضع يده في النار لاحترق جلده، واحتراق الجلد هنا ليس قسراً من الله عز وجل ولا إجباراً منه، وإنما هو أثر تكويني وضعي لوضع اليد في النار، وكما أن الإنسان إذا شرب عصيراً ملوثاً فإنه يوجب حدوث مرض في بدنه، وحدوث هذا المرض ليس إجباراً من الله ولا قسرا وإنما هو أثر تكويني لشرب العصير الملوث، فكذلك المعاصي، فإن كشرب الخمر والكذب وعقوق الوالدين لها آثار تكوينية وضعية، لا أن الله يجبرنا على العقوبة على تلك الأعمال بل لهذه الأعمال في نفسها آثار وضعية تكوينية، ومن آثارها الوضعية التكوينية لهيب الجحيم فإن الجنة والنار صورتان لأعمالنا؛ حيث قال تبارك وتعالى (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والمقصود بالآية هو أن الطاعة والمعصية كليهما له آثار وضعية تكوينية، فالطاعات كالصلاة والصوم وبر الوالدين تتحول يوم القيامة إلى نهر وشجرة وجنان، وهذا التحول من الآثار الوضعية التكوينية للطاعة كما أن الاحتراق أثر وضعي للنار، كذلك المعاصي تتحول يوم القيامة إلى جمرات ملتهبة، وهذا التحول من الآثار الوضعية لها، لا أن الله يجبرنا عليها عن طريق العقوبة، والله تبارك وتعالى خلقنا لنصل إلى الكمال وأعطانا إرادة قوية تجعلنا صامدين وتمكننا من الوصول إلى الكمال فإذا نحن  باختيارنا  خضعنا للمعصية فإن الأثر التكويني للمعصية سوف يرد علينا ويحيط بنا لا أن الله يجبرنا على ذلك ما دام قد أعطانا الإرادة وسهل لنا السبيل للوصول إلى الكمال وبعث لنا أنبياء ورسل وكتب توضح لنا طريق الوصل إلى الكمال.

نعم فعل المعصية ليس سبباً تاماً قهرياً للتحول إلى عذاب وجحيم بل من الممكن أن يرتفع هذا لأثر الوضعي التكويني عن طريق عفو الله عز وجل أو عن طريق شفاعة محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين، فالشخص الموالي لأهل البيت صاحب الخلق الحسن الذي يقوم بالمبرات والخيرات قد تكون هذه الأعمال الصادرة منه سبباً لنيل العفو والشفاعة من دون أن يترتب الأثر الوضعي على المعصية.

2020/04/28

العدل: لماذا يعاقبنا الله يوم القيامة؟

لقد وقعت العقوبات الأُخروية ذريعة لإنكار عدله، حيث يقولون ما هو الغرض من العقوبة، فهل هو التشفّي الذي جاء في قوله سبحانه: ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا )[1]والله سبحانه منزّه من هذا الغرض لاستلزامه طروء الانفعال على ذاته.

أو الغرض من العقوبة الأُخروية هو اعتبار الآخرين، الذي يشير إليه سبحانه في قوله: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ).[2]

ومن المعلوم أنّ تلك الغاية تختص بالدنيا التي هي دار التكليف ولا توجد في دار الجزاء، أعني: الآخرة.

والجواب: انّ السؤال عن الغاية وانّها هل هي التشفِّي أو اعتبار غيره، إنّما يتوجه إلى العقوبات المفروضة عن طريق التقنين والتشريع، فالتعذيب في ذلك المجال رهن إحدى الغايتين: التشفّي أو الاعتبار.

وأمّا إذا كانت العقوبة أثراً وضعيّاً للعمل فيسقط السؤال، لأنّ هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم والعقوبة التي تلابس وجودَه في الحياة الأُخروية، فعند ذلك لا يصحّ السؤال عن حكمة التعذيب، وإنّما هي تتوجه إلى التعذيب الذي يمكن التفكيك بينه وبين المجرم كالعقوبات الوضعية.

وأمّا إذا كانت العقوبة من لوازم وجود الإنسان الأُخروي، فالسؤال عن التعذيب، ساقط جداً.

توضيح ذلك: انّ الإنسان إنّما يحشر بذاته وعمله، وعمله لازم وجوده وكلّ ما اقترف من الأفعال فله وجود دنيوي، يتجلّىٰ باسم الكذب والنميمة، وله وجود أُخروي يتجلّىٰ بالوجود المناسب له، فهكذا أعماله الصالحة فلها صورة دنيوية، باسم الأذكار، وصورة أُخروية تناسب وجود الإنسان في هذا الظرف.

فالصوم هنا إمساك، وفي الحياة الأُخروية جُنَّة من النار، وهكذا سائر الأعمال من صالحها وطالحها، فلها وجودان: دنيوي وأُخروي، وإليك ما يدلُّ على ذلك في القرآن الكريم.

يقول سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ).[3]

ويقول سبحانه: ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).[4]

 

وقال سبحانه: ( يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ).[5]

علىٰ أنّ تعذيب المجرم وإثابة المحسن مظهر من مظاهر عدله، فلو لم يعاقب المجرم تلزم تسوية المؤمن والكافر، يقول سبحانه: ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).[6]

ويقول أيضاً: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ).[7]

عدم التعادل بين الجريمة والعقوبة

وربما يقال كيف يصحّ الخلود الدائم مع كون الذنب منقطعاً، وهل هذا إلّا نقض للمساواة المفروضة بين الجريمة والعقوبة ؟!

والجواب عن الشبهة بوجهين:

الأوّل: انّه لم يدل دليل على وجوب المساواة بين الجرم والعقوبة من حيث الكمِّية، بل المراد المساواة في الكيفية أي عظمة الجرم، فربما يكون الجرم آناً واحداً وتتبعه عقوبة دائمة، كما إذا قتل إنساناً وحكم عليه بالحبس المؤبد.

فالإنسان المقترف للذنوب وإن خالف ربّه في زمن محدّد، لكن آثار تلك الذنوب ربما تنتشر في العالم.

الثاني: قد عرفت أنّ العذاب الأُخروي تجسيد للعمل الدنيوي وهو المسؤول عمّا اقترفه.

وقد عرّفه سبحانه نتيجة عمله في الآخرة وانّ أعماله المقطعيّة سوف تورث حسرة طويلة أو دائمة، وأنّ عمله هنا سيتجسَّد له في الآخرة، أشواكاً تؤاذيه أو وروداً تطيبه، وقد أقدم على العمل عن علم واختيار، فلو كان هناك لوم فاللوم متوجه إليه، قال سبحانه حاكياً عن الشيطان: ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).[8]

وفيما مرّ من الآيات التي تعد الجزاء الأُخروي حرثاً للإنسان تأييد لهذا النظر، على أنّ من المحتمل أنّ الخلود في العذاب مختص بما إذا بطل استعداد الرحمة وإمكان الإفاضة، قال تعالى: ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).[9]

ولعلّ المراد من قوله: ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) إحاطتها به إحاطة توجب زوال أيَّة قابلية واستعداد لنزول الرحمة، والخروج عن النقمة.

وكيف كان فتظهر صحّة ما ذكرنا إذا أمعنت النظر فيما تقدم في الجواب عن السؤال الأوّل وهو أنّ الجزاء إمّا مخلوق للنفس أو يلازم وجود الإنسان وفي مثله لا تجري شبهة التعادل بين الجريمة والعقوبة كما هو واضح.

الهوامش:


[1] الإسراء: 33.

[2] النور: 2.

[3] النساء: 10.         

[4] آل عمران: 180.

[5] التوبة: 35.

[6] القلم: 35 - 36.

[7] المؤمنون: 115.

[8] . إبراهيم: 22.

[9] البقره: 81.

2020/04/20

البلايا والمصائب تحاصر الإنسان: إين عدل الله؟!

المصائب والبلايا في حياة الإنسان من المسائل الشائكة التي شغلت بال المتكلمين والحكماء، فراحوا يبحثون عنها في الأبواب الأربعة التالية:

1. التوحيد في الخالقية.

2. النظام الأحسن.

3. حكمته سبحانه.

4. عدله سبحانه.

زعموا أنَّ وجود البلايا والمصائب تخلُّ بالتوحيد في الخالقيَّة لأنَّه خير محض فكيف صار مصدراً للشر المطلق ؟!، ربما زلّت أقدام بعضهم إلى الثنوية، وزعموا أنّ خالق الخير غير خالق الشر وأنّ هناك خالقين مختلفين.

كما زعموا أنّ المصائب والبلايا تخل بالنظام الأحسن الذي يجب أن يخلو عن كلّ شر.

كما انّها أيضاً لا تلائم حكمته سبحانه فإذا كان حكيماً فما معنى قتل النفوس بالنوازل والحوادث.

وأخيراً انّها تضاد عدله سبحانه.

وعلى كلّ تقدير فبما أنّ هذه المسألة من المسائل العويصة لها صلة بالأبواب الأربعة المذكورة سالفاً، ووقعت محطَّ اهتمام الحكماء الإسلاميين.

إنّ من يظن أنّ البلايا والمصائب تخالف عدله فإنّما ينظر إليها من منظار ضيّق محدود، فلو نظر إليها في إطار النظام الكوني العام، لأذعن انّها خير برمّتها، أو انّها خير يلازم شراً قليلاً، وتكون المسألة كما يصفه الشاعر في البيت التالي:

ما ليس موزوناً لبعض من نغم       ففي نظام الكلِّ كل منتظم

إنّ من ينظر إلى هذه الظواهر من منظار خاص ويتجاهل غير نفسه في العالم، ففي نظره تتجلىٰ هذه الحوادث أمامه شرّاً وبليّة، وأمّا إذا نظر إليها من منظار خارج عن إطار الأنانيّة والمصالح الشخصية الضيِّقة، تنقلب هذه الحوادث عنده إلى الخير والصلاح، وتكتسي ثوبَ العدل، ولبيان ذلك نضرب مثالاً:

إنّ الإنسان يرى أنّ الطوفان الجارف يكتسح مزرعته والسيل العارم يهدم منزله، والزلزلة الشديدة تقتلع بنيانه، ولأجل ذلك يصفها بالبلاء، دون أن يرى ما تنطوي عليه هذه الحوادث والظواهر من نتائج إيجابية في مجالات أُخرى من الحياة البشرية.

وما أشبه حال هذا الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر يرى جرَّافة تحفر الأرض وتهدم بناءً وتثير الغبار والتراب في الهواء، فيقضي من فوره بأنّه ضارّ وسيّء، ولكن المسكين لا يدري بأنّ ذلك يتم تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ للمحتاجين للعلاج، وسائل المعالجة والتمريض ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى، ولوصف ذلك التهديم بأنّه خير.

إذا علمت ذلك، فنحن نذكر مثالاً من نفس ما نحن بصدده.

إذا هبّت عاصفة هوجاء على السواحل، فبما أنها تقطع الأشجار وتدمّر المنازل القريبة من الساحل، حينها توصف بالشرِّ والبلية، ولكنّها من جهة أُخرى خير محض حيث توجب حركة السفن الشراعية المتوقفة في عرض البحر بسبب سكون الرياح وبذلك تنقذ حياة المئات من ركّابها اليائسين من النجاة.

إنّ هذه العاصفة وإن كان يُكمن فيها الشر لكنها في نفس الوقت وسيلة فعّالة في عملية تلقيح الأزهار، وإثارة السحب للمطر، وتبيد الأدخنة الضارة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل، إلى غير ذلك من الآثار المفيدة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيئة.

إنّ السبب لوصف بعض الحوادث بالشرور والبلايا هو ضيق علم الإنسان وضآلته ولو وقف على أسرارها التي ربما تظهر بعد سنين لرجع عن قضائه، ويُرتّل قوله سبحانه: ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ).[1]ولأذعن بقوله سبحانه: ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ).[2]

الآثار التربوية للبلايا والمصائب

إنّ للبلايا والمصائب آثاراً تربوية تُضفي على العمل وصفَ الخير الكثير في مقابل الشر القليل، وهذه الآثار عبارة عمّا يلي:

أ: تفجير الطاقات:

إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدم العلوم ورقي الحياة، فانّ الحضارات لم تزدهر إلّا في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات، ففي مثل هذه الظروف تتفتح القابليات إلى جبران ما فات وتتميم ما نقص. فإذا لم يتعرض الإنسان إلى ضروب من المحن فانّ طاقاته تبقى كامنة، وإنّما تتفتح في خضمِّ المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه: ( فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )[3].

ب: المصائب والبلايا جرس إنذار

كلّ ما ازداد الإنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية، وهذه حقيقة يلمسها كلّ إنسان في حياته فلابدّ من انتباه الإنسان من الغفلة، من خلال جرس إنذار يذكّر ويوقظ فطرته وينبّهه من غفلته، وليس هو إلاّ بعض الحوادث التي تقطع وتيرة الحياة الرغيدة، حتى يتخلّى عن غروره ويخفّف من حدّة طغيانه، وإلى هذا الجانب يشير قوله سبحانه: ( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ).[4]

وبذلك يعلّل قوله سبحانه نزول الحوادث، ويقول: ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ).[5]

إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى أن الهدف من وراء نزول البلايا هو تخلّي الإنسان عن غروره.

ج: تقاعس الإنسان عن تحمل مسؤوليته

إنّ ما يسمّيه الإنسان بالبلايا والشرور لم يكتب عليها الشرُّ على وجه الإطلاق بل تتَّبع الظروف، فالسيل الجارف يُعد شراً في البلاد المتخلِّفة عن ركب الحضارة، وأمّا في البلاد المتقدمة فيعد خيراً، لأنّها تقوم بمشاريع بناء السدود بغية جمع مياه تلك السيول واستثمارها في انتاج الطاقة الكهربائية، ولذلك قلنا إنّه لم يكتب على السيل أنَّه شرٌّ أو خير وانّما هو يتَّبع همة الإنسان وقيامه بمسؤوليته في إعمار البلاد.

وهكذا الزلازل الأرضية فقد تُسبّب أضراراً فادحة في البلاد النائية المتخلّفة وتؤدّي إلى إزهاق أرواح كثيرة، وهذا بخلاف البلاد المتطورة فقد اتخذت التدابير اللازمة للوقاية من دمار الزلازل من خلال تشييد المدن والقرى على دعائم متينة لا تتأثر بالزلازل إلّا القليل.

وبذلك تبيَّن أنّ ما يسميه البشر بالبلايا والمصائب ليس على إطلاقها بلاءً بل لها فوائد وآثار اجتماعية وأخلاقية مهمة.

*مقتطف من كتاب مفاهيم القرآن ج 10

موقع الأئمة الاثني عشر

الهوامش:


[1] آل عمران: 191.

[2] الإسراء: 85.

[3] النساء: 19

[4] العلق: 6 - 7.               

[5] الأعراف: 94.

2020/04/16

لماذا يتداوى فقهاء الشيعة بالطب ولا يستشفون بـ «التربة الحسينية»؟!

الصورة: تربة الإمام الحسين (ع) في قاروة داخل المتحف الحسيني في العتبة الحسينية المقدسة احمرّت في العاشر من شهر محرم عام 2012 

ذكر علماء العقيدة من ضمن فوائد النبوة رفد الإنسان الأول بما يحتاجه في شؤون دنياه الضرورية من علوم وصناعات، كما في قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) ([1])، وقوله ايضاً: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ([2]) ومن ذلك علم الطب، فقد ورد عنهم عليهم السلام، انه مما علمه الأنبياء للأممهم، ليدفعوا به عنهم غائلة الأمراض والأوبئة.

ضرورة ان تعلم مثل هذه العلوم الدقيقة يحتاج قروناً من التعلم والتجربة، الأمر الذي قد يؤدي الى هلاك البشرية قبل ان تحصل عليه، ويؤيده ما نقله السيد رضي الدين علي بن طاووس (قدس سره) عن بعض الكتب: "إن الله - تبارك وتعالى - أهبط آدم من الجنة، وعرفه علم كل شيء، فكان مما عرفه النجوم والطب"([3]).  من هنا، يمكننا أن نقول: إن بداية علم الطب كانت عن طريق الوحي، ثم زادته تجربة العلماء فاتسع تدريجياً، ويتسع على تواتر الأيام.

وبسبب هذا العلم الجم كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يكرر خطابه للناس قائلا: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بين جنبي علوما كثيرة كالبحار الزواخر"([4]). وكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قاطبة زاخرين بهذا العلم، ولم يتلكؤوا في جواب أي مسألة علمية قط، وقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) في هذا الشأن: "إن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب"([5]). من هنا، لا ريب في أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا ملمين بعلم الطب، وإذا ثبت أنهم قالوا شيئا يتعلق بمسألة من مسائله، فإن كلامهم مطابق للواقع حتما، إلا اننا لابد أولاً من التعرف على ماهية الأحاديث التي يمكن الأخذ فيها في مقام التداوي، فإنها على أقسام ثلاثة:

 القسم الأول: الأحاديث التي تمثل معجزة أئمة الدين في علاج الأمراض، كما ورد في القرآن الكريم إذ نقل لنا معجزة عيسى (عليه السلام). قال تعالى: (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله) ([6]).

القسم الثاني: الأحاديث المأثورة في الوقاية من الأمراض.

القسم الثالث: الأحاديث الواردة في علاج الأمراض، وتنقسم إلى قسمين أيضا:

الأول: الاستشفاء بواسطة الدواء، اي انهم (عليهم السلام) وصفوا أدوية خاصة للمرضى، كما يفعل الأطباء.

الثاني: الاستشفاء بالقرآن والدعاء.

أما الأحاديث التي تتناول الإعجاز في الموضوعات الطبية فهي خارجة في الحقيقة عن نطاق بحثنا؛ كونها من قبيل الخوارق المختصة بزمان صدورها، وبوجود شخص المعصوم عليه السلام.

وما القسم الثاني، وهي الأحاديث الوقائية، فمما لا اشكال فيه قطعاً، ضرورة انها من قبيل ما يصفه الأطباء ومختصي الأغذية في عصرنا هذا، وأن الالتزام بسلوك غذائي معين يقي الأنسان ويمنع عنه العديد من الأمراض.

وأما القسم الأول من أحاديث القسم الثالث، وهي التي وصف بها الأئمة دواء خاصاً، فهي بحكم شيخ المحدثين محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالصدوق (رحمه الله) مما لا يمكن الركون إليه إلا في حالات خاصة، يقول (رحمه الله): " اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب أنها على وجوه:

منها: ما قيل على هواء مكة والمدينة فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية.

ومنها: ما أخبر به العالم (عليه السلام) على ما عرف من طبع السائل ولم يتعد موضعه؛ إذ كان أعرف بطبعه منه.

ومنها: ما دلسه المخالفون في الكتب لتقبيح صورة المذهب عند الناس.

ومنها: ما وقع فيه سهو من ناقله.

ومنها: ما حفظ بعضه ونسي بعضه. وما روي في العسل أنه شفاء من كل داء فهو صحيح، ومعناه أنه شفاء من كل داء بارد.

وما روي في الاستنجاء بالماء البارد لصاحب البواسير؛ فإن ذلك إذا كان بواسيره من حرارة.

وما روي في الباذنجان من الشفاء؛ فإنه في وقت إدراك الرطب لمن يأكل الرطب، دون غيره من سائر الأوقات.

وأما أدوية العلل الصحيحة عن الأئمة (عليهم السلام) فهي آيات القرآن وسوره، والأدعية على حسب ما وردت به الآثار بالأسانيد القوية والطرق الصحيحة "([7]).  وفي ضوء هذا التقويم يتسنى لنا أن نضع قسما من الأحاديث الطبية في متناول أشخاص معينين ترتبط بهم هذه الأحاديث، ونضرب عن سائر الأحاديث صفحاً. وذهب غير واحد من الفقهاء الى ان المدار في صحة هذه الأحاديث موافقتها لنتائج المختبر، يقول الشيخ محمد الريشهري في موسوعة الاحاديث الطبية: إن التحليل أفضل طريق لتقويم الأحاديث الطبية تقويما دقيقا، والاستهداء بها استهداء تاما، فالتحليل والمختبر في الحقيقة هما أمثل قرينة عقلية لإثبات صحة الأحاديث الطبية وسقمها، ومن حسن الحظ أن إمكانية الإفادة منهما في العصر الحالي متوفرة أكثر من أي وقت آخر([8]).

الدعاء أم الطب؟

والأحاديث الوحيدة التي يتيسر وضعها في متناول العامة من الناس بحسب تقييم الشيخ الصدوق هي الأحاديث الصحيحة التي تدعو الناس إلى العلاج بواسطة الدعاء والاستشفاء بالآيات القرآنية، ولكن هذا يجرنا الى سؤال مهم: فهل يتنافى ذلك والتطبب عند الطبيب وأخذ العلاج؟

بالقطع، لا، ضرورة وجوب التداوي لدفع الضرر او للأوامر الشرعية الصادرة عنهم عليهم السلام، كموثّقة الحسين ابن علوان المروي في قرب الاِسناد عن جعفر عن أبيه عن جابر، قال: قيل يارسول الله أنتداوى؟ قال : نعم ، فتداووا فإن الله لم ينزل داءً إلاّ وقد أنزل له دواء([9]).

وربما يتخيّل البعض عدم وجوب التداوي مطلقاً حتى من الاَمراض المهلكة لاستبداله بالدعاء والتوكل، قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللهِ فَهُوَ حَسْبُه ) ([10])، وقال تعالى : ( ادْعُونِيَ أسْتَجِبْ لَكُمْ ) ([11]). بل ان البعض تندر وأشكل على علماء الطائفة حين ذهابهم للعلاج وعدم اكتفائهم بتناول التربة الحسينية مثلاً!!

ويمكن الجواب عن ذلك نقضاً وحلاً، أما النقض فإن الإشكال لو تم لم يقتصر على التداوي بل يشمل كلّ أمر متوقّف على أسبابه كالتكسب وتحصيل المعاش، وحتّى تحصيل العلم أيضاً! بل لازم هذا التخيّل عدم وجوب حفظ النفس! وهو كما ترى.

وهل يمكن أنْ يفتي عاقل بجواز ترك شرب الماء أو أكل الطعام للمضطّر الذي يشرف على الهلاك؟

وأما حلاً فلأنّ التوكّل لا ينافي السعي إلى تحصيل الاَسباب ولا هي تنافيه (وأعقل راحلتك وتوكّل على الله) ([12])، اي حقق السبب الطبيعي ومن ثم توكل على الله، والدعاء لم يشرّع لإبطال الاَسباب الطبيعية قطعاً ، والاَئمة عليهم السلام تداووا وأمروا أتباعهم بالتداوي كما في الاَحاديث الكثيرة. بل ورد في بعض الاَحاديث ان من يترك أموراً لا يستجاب دعاءه.

فعن الإمام الصادق (عليه السلام): إن نبيا من الأنبياء مرض، فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني. فأوحى الله عز وجل: لا أشفيك حتى تتداوى؛ فإن الشفاء مني([13]).

وفي إحياء علوم الدين: ذكر بعض العلماء في الإسرائيليات أن موسى (عليه السلام) اعتل بعلة، فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علته.

فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرأت. فقال: لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء، فطالت علته. فقالوا له: إن دواء هذه العلة معروف مجرب، وإنا نتداوى به فنبرأ.

فقال: لا أتداوى، وأقامت علته، فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي وجلالي، لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك.

فقال لهم: داووني بما ذكرتم، فداووه فبرأ، فأوجس في نفسه من ذلك. فأوحى الله تعالى إليه: أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك علي؛ من أودع العقاقير منافع الأشياء غيري؟([14]).

وتوضيح ذلك: ان الله تبارك وتعالى وبحسب حكمته في تدبير الكون جعله وفق نظام الأسباب، فعن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الحسين بن صغير، عمن حدثه، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله انه قال: "ابى الله ان يجري الاشياء إلا بأسباب فجعل لكل شيء سببا" ([15])، ولكن هل تختص السببية بالمادة والماديات، هذا ما لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.

وعليه فكما ان دواء الطبيب يمكن ان يعالج المرض، كذلك الأدعية وسائر ما ورد عنهم عليهم السلام، فلا ينحصر السبب بالدواء وإن كان هو السبب الطبيعي الذي أمرنا الشارع باتباعه، من هنا فالإنسان الكيس هو من يحوز على أكبر قدر ممكن من الاسباب المؤدية الى النتيجة المطلوبة، فيسعى لتحصيل العلاج من الطبيب الحاذق، كما يدعو الله تبارك وتعالى، ويتوكل عليه.   

الهوامش:


1- الانبياء: 80.

2- البقرة: 151.

3- انظر: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ج ١، ص ٣٠٦ (الباب العاشر).

4- الكافي، ج ١، ص ٢٠٢، ح ١، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج ١، ص ٢٢١، ح ١.

5- آل عمران: 49.

6- الاعتقادات للصدوق، ص 115، بحار الأنوار، ج 62، ص 74.

7- موسوعة الاحاديث الطبية، ج1، ص21.

8- وسائل الشيعة: ج17، ص179.

9- الطلاق: ٣.

10- غافر: ٦٠.

11- بحار الأنوار: ج ٧١ ص ،١٣٧.

12- مكارم الأخلاق، ج 2، ص 180، ح 2465، بحار الأنوار، ج 81، ص 211، ح 30.

13- إحياء علوم الدين، ج 4، ص 413؛ المحجة البيضاء، ج 7، ص 432.

14- الحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ص487.

2020/04/15

مكتب السيد السيستاني في استفتاء جديد: كورونا لا يسقط وجوب صيام شهر رمضان

أصدر مكتب المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، يوم السبت، استفتاءً حول صيام شهر رمضان المبارك مع انتشار فيروس كورونا.

وفيما يلي النص الكامل للاستفتاء كما ورد من مكتبه:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مكتب سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

  يقترب شهر رمضان المبارك و فيروس كورونا لا يزال يواصل الانتشار في مختلف المناطق، والاطباء يوصون بشرب الماء في فترات متقاربة لتقليل احتمال الاصابة بهذا الفيروس الخطر، لأن قلة الماء في الجسم تقلل من مناعته، وجفاف الحلق لو وصل اليه الفيروس يفسح له المجال للانتقال الى الجهاز التنفسي، في حين أن شرب الماء يساعد في نزوله الى المعدة والقضاء عليه فيها، فهل يسقط صيام شهر رمضان عن المسلمين في هذه السنة بهذا السبب؟


بسم الله الرحمن الرحيـم

   انّ وجوب صيام شهر رمضان تكليف فردي، فكل شخص توفرت فيه شروط الوجوب لزمه الصيام بغض النظر عن وجوبه على الآخرين أو عدم وجوبه عليهم. فاذا حلّ شهر رمضان القادم على مسلم وخاف من أن يصاب بالكورونا إن صام ولو اتخذ كافة الاجراءات الاحتياطية سقط عنه وجوبه بالنسبة الى كل يوم يخشى إن صامه أن يصاب بالمرض. واذا امكنه تضعيف درجة احتمال الاصابة حتى يصبح مما لا يعتد به عند العقلاء ـ ولو من خلال البقاء في البيت وعدم الاختلاط بالآخرين عن قرب واستخدام الكمامة والكفوف الطبية ورعاية التعقيم المستمر ونحو ذلك ـ ولم يكن عليه في ذلك حرج بالغ لا يتحمل عادة لم يسقط عنه وجوب الصيام.

واما ما ذكر من ان بعض الأطباء يوصون بشرب الماء في فترات متقاربة تفادياً لقلة الماء في الجسم وجفاف الحلق ــ  لانهما يرفعان من احتمال الاصابة بفيروس كورونا ــ  فهو ــ إن صحّ عنهم ــ لا يمنع من وجوب الصوم الا بالنسبة الى من بلغه ذلك فخاف من الاصابة بالمرض إن صام ولم يجد طريقاً لتقليل احتمالها بحيث لا يصدق معه الخوف ـ ولو بالبقاء في المنزل واتخاذ سائر السبل الاحتياطية المتقدمة ـ وأما غيره فلا بد من أن يصوم. علماً انه ربما يمكن تفادي قلة الماء في الجسم في حال الصيام من خلال أكل الخضروات والفواكه الغنية بالمياه كالخيار والبطيخ الاحمر قبل الفجر ،كما يمكن تفادي جفاف الحلق بمضغ العلك الخالي من السكر ــ  بشرط عدم تفتت اجزائه في الفم ونزوله الى الجوف ــ  فان مضغ العلك يؤدي الى زيادة افراز لعاب الفم ولا مانع من بلعه في حال الصيام. وبذلك يظهر ان الذين يسعهم ترك العمل في شهر رمضان والبقاء في المنزل بحيث يأمنون الاصابة بالمرض لا يسقط عنهم وجوب الصيام، وأما الذين لا يسعهم ترك أعمالهم ـ لأي سبب كان ـ فإن خافوا من الاصابة بالفيروس مع ترك شرب الماء في فترات متقاربة في النهار ولم يمكنهم اتخاذ اجراء آخر يأمنون معه من الاصابة به لم يجب عليهم الصيام، وإن لم يجز لهم التجاهر بالإفطار في الملأ العام. ومن المعلوم ان صيام شهر رمضان من أهم الفرائض الشرعية ولا يجوز تركه الا لعذر حقيقي، وكل انسان أعرف بحال نفسه في أن له عذراً حقيقياً في ترك الصيام أو لا.

ومختصر القول: ان وجوب الصيام في نهار شهر رمضان انما يسقط عمن له عذر شرعي كالمريض ومن يخاف - لنصيحة طبية مثلاً - أن يصاب بالمرض إن صام ولم يتيسر له اتخاذ الاجراء الاحتياطي المؤمِّن له عن الاصابة، والا لزمه ذلك ولم يجز له ترك الصيام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

17/ شعبان المعظم /1441 هـ

مكتب السيد السيستاني (دام ظله) / النجف الأشرف

المصدر: الموقع الرسمي لمكتب السيد السيستاني

 

2020/04/11

لماذا خلق الله الشیطان؟

لماذا خلق الله الشیطان ابلیس اللعین؟

دعوني أفصل في الإجابة عن هذا السؤال بالقول:

أوّلاً: للاختبار والامتحان حتّی یتبیّن الخبیث من الطیّب، والكافر من المؤمن.

وثانیاً: إنّ الله حكیم علیم لطیف خبیر، یفعل ما یُرید، ولایفعل القبیح، فإنّه منزّه عن ذلك، سبحان الله عمّا یصفون، ویسأل ولایُسئل، وإنّ الشیطان إبلیس اللعین سأل ربّه هذا السؤال: إنك یا رب تعلم أنّي أعصیك فقال الرّب: بلی، فقال لماذا خلقتني، فأجابه الرّب جلّ جلاله: حكمتي اقتضت ذلك، فسكت الشیطان إذ یعلم أنّ الله حكیم، والحكیم یضع الأشیاء في مواضعها، فلایفعل عبثاً ولا لغواً ولاسهواً ولانسیاناً ولاخطأً، بل یفعل ما فیه الحكمة التّامة فما خلق الشیطان إلّا لحكمة إلهیة، وإلهّ یسأل عباده ولایُسئل عن فعله، فهو القهار ذو الكبریاء والجلال یفعل ما یرید، ولیس للعبد إلّا التّسلیم والرّضا بالقضاء والقدر.

وثالثاً: وإن تسلّط الشیطان علی الإنسان في الجملة -أي إجمالاً- إلّا أنّه لا تكون سلطنة تامّة بحیث یسلب اختیار الإنسان وحرّیته، بل مساحة إبلیس هي الوسوسة فقط، بأن یوسوس ویزیّن الفحشاء والمنكرات للإنسان كما دلت الأخبار والآیات علی ذلك.

ورابعاً: مهما كان للشیطان من سُلطة فإن كیده كان ضعیفاً، فلا یقدر علی المؤمن الذي یتوكل علی ربّه فعلی الله توكلوا أیّها المؤمنون (إن كید الشیطان كان ضعیفاً).

وخامساً: لیس لإبلیس وجنوده من الجنّ والإنس السّلطة علی العباد الصالحین والمؤمنین والمتوكلّین علی ربّهم القدیر، فإنّ الشیطان وإن قال (لأغوینّهم أجمعین) الا إنّ الله أجابه (إن عبادي لیس لك علیهم سلطان) وقال عزّوجلّ: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

ومن ثم قال إبلیس اللعین( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فتدبّر.

سادساً: إنّ إبلیس اللّعین إنّما یتسلط بوساوسه علی الغافل والذي ینسي نفسه، فلابد للإنسان أن یكون ذاكراً لله، فأذكروا الله كثیراً، ولا ینسی نفسه فینسی ربّه، قال سبحانه: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). وقال عزّوجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ).

وسابعاً: إنّ الله سبحانه أنذر العباد وأخبرهم وصرّح في كتابه الكریم وفي مواطن عدیدة، إنّ الشیطان هو العدو الأوّل للإنسان، فاحذروه غایة الحذر (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).

فالإنسان هو المسوؤل عن نفسه في إتباع الشیطان، فلایلوم الا نفسه، فإنّه مع هذا التّحذیر الإلهي علی لسان رُسله وأنبیاءه وفي كتبه ومع علم الإنسان بذلك، ویعلم أنّ الشیطان عدوّه اللدود ویرید شقاءه واضلاله وأن یدخله النار معه، مع ذلك یتبعه ویطیعه، فالإنسان الغافل هو الذي یسلّط الشیطان علی نفسه بكل اختیاره وحُریّته.

وثامناً وأخیراً: لیس للإنسان إلا ما سعی وأن سعیه سوف یُری، وإنّ الله سلّحه بالفطرة الموحدة، والعقل السلیمه. والأنبیاء والرُّسل وكتب السّماء والآیات الافاقیة والأنفسیّة (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) فإذا اختار الضلال والشقاء والنار باتباع عدوه الشیطان فلا یلومنّ الا نفسه، (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) فكيف لا نلوم أنفسنا بعد علمنا بعداوة الشیطان، وبعد عهد الله أن لا نعیده وأن نكفر به، فإنّه لا سلطان له علینا، وأنّ كیده كان ضعیفاً، فلماذا صرنا أضعف منه؟ وأقل إرادة ولنا ربّ یحمینا ویدافع عنّا إن آمنا به وتوكلنا علیه (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فنحن في جبهة الحق ضد جبهات الباطل، إن تنصروا الله ینصركم ویثبت أقدامكم والعاقبة للمتقین.

ذكر لتجنّب الشيطان

وعلیكم بهذا الذكر العظیم للاستعاذة من شرّ الشیطان الرّجیم

في مفاتیح الجنان في تعقیبات صلاة الصبح: روی بطرق معتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام تقول قبل طلوع الشمس وقبل غروبها عشر مرات: (أعوذبالله السمیع العلیم من همزات الشیاطین وأعوذ بالله أن یحضرون إنّ الله هو السمیع العلیم).

لو اطاع الانسان عدوه الشیطان وفسح له المجال یتسلط علیه فلا یلومن حینئذ الا نفسه.

قال سبحانه: (وقال الشیطان لما قضی الامر.... الا ان دعوتكم فاستجبتم لی فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).

و كیف لانلوم انفسنا المذنبة والعاصیة بعد العلم بعداوة الشیطان ومخاطره وقد عاهدنا الله سبحانه ان لا نعبده ولا نسلطه علینا طرفة عین.

جاء في خطبة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في منی: قال: الا و ان الشيطان قد يئس ان يعبد بارضكم هذه، ولكنه راض بما تحتقرون من اعمالكم، الا انه اذا اطيع فقد عبد. (تفسیر القمي: 1: 172)

وعن ابي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بینما موسی بن عمران عليه السلام جالس اذ اقبل علیه ابلیس وعلیه برنس ذو الوان (اشارة الی شهوات الدنیا وزینتها وآلات اضلاله للناس) فلما دنا من موسی خلع البرنس واقبل علیه فسلم علیه فقال موسی من انت قال انا ابلیس، قال موسی فلا قرب الله دارك فبم جئت؟ قال انما جئت لأسلم علیك لمكانك من الله عزوجل فقال له موسی فما هذا البرنس؟ قال: اختطف به قلوب بنى آدم. فقال موسى عليه السلام: أخبرني بالذنب الذي إذا اذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: ذلك إذا اعجبته نفسه، واستكثر عمله وصغر في نفسه ذنبه.

ثم قال له أوصیك بثلاث خصال یا موسى: لا تخل بامرأة و لا تخل بك، فإنه لا یخلو رجل بامرأة و لا تخلو به إلا كنت صاحبه دون أصحابي (ای انا اتولی اضلاله وایقاعه في الذنب كالزنا) وایاك ان تعاهد الله عهداً فانه ما عهد الله احداً الا كنت صاحبه دون اصحابي حتی احول بینه وبین الوفاء به، واذا هممت بصدقة فامضها (ای ادفع الصدقة عاجلا من دون تراخي) فانة اذا هم العبد بصدقة‌ كنت صاحبه دون اصحابي احول بینه و بینها حتی لا یدفعه الی الفقیر ثم ولی ابلیس ویقول يا ويلة و يا عولة علمت موسى ما يعلمه بني آدم (امالی المفید: 192-193 ح 7).


المصدر: موقع السيد عادل العلوي

موقع الأئمة الاثني عشر

2020/04/11

الخلوة بين الجنسين: ما حدودها وحكمها؟

من القضايا التي يدور النقاش حولها في هذه الأيام خصوصا في بلادنا، العلاقة بين الجنسين وحدودها أو ما يعبر عنه احيانا بالاختلاط والخلوة، والمقصود من الخلوة المحرمة: ألا يكون معهما ثالث من ذكر أو أنثى بحيث يحتشم جانبه، وأن يكونا بحيث يأمنان من دخول أحد عليهما، فإذا خيف وقوع الحرام حرمت.

وقد استدل بعض على حرمة الخلوة مطلقاً (أي عنوان الخلوة بغض النظر عن أدائها إلى الحرام) بما روي عن النبي أنه أخذ على النساء ألا يقعدن مع الرجال في الخلاء، وما ورد من أن: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم، وأنه: لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان.

وقد ضعّف غير واحد من الفقهاء الاستدلال المذكور بضعف أسانيد الروايات وبعدم دلالتها على حرمة نفس الخلوة بما هي موضوع، وإنما لكونها مقدمة لوقوع الحرام (من النظرة المحرمة إلى ما بعدها).

وقد ذكر السيد الخوئي ذلك قائلا: "بأنه يمكن أن يقال: إنه (حتى) لو ورد نص صريح في النهي عن الخلوة مع الأجنبية فلا موضوعية لها أيضاً، وإنما نهى عنها لكونها من المقدمات القريبة للزنا، فإن أهمية حفظ الأعراض في نظر الشارع المقدس تقتضي النهي عن الزنا وعن كل ما يؤدي إليه عرفا.

وأما الروايات المشتملة على أن إبليس لا يغيب عن الإنسان في مواضع منها موضع خلوة الرجل مع امرأة أجنبية، فإن المستفاد منها أن الشيطان يقظان في تلك المواضع يجر الناس إلى الحرام، فلا دلالة فيها على المدعى.

وعلى الجملة فلا دليل على حرمة الخلوة بما هي خلوة، وإنما النهي عنها للمقدمية فقط "[1]. وانتهى إلى حرمة الاختلاء بالأجنبية إذا لم يؤمن الوقوع في الحرام . ومثله فقهاء[2]آخرون[3]، بينما ذهب غيره إلى حرمة الخلوة مطلقا[4] ـ أو هكذا يظهر من فتاواهم[5] ـ .

إن الظروف المحيطة بالخلوة تعين أنها مما يحتمل معه وقوع الحرام، أو يسعى فيها أحد الطرفين إلى الحرام، أو لا.

ولعل قصة النبي يوسف التي فصلها القرآن الكريم، فيها إشارة إلى هذا المعنى حيث أن زليخا قد ( َغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ )[6] ، وكان الغرض من وراء هذه الخلوة معلوما من جهة زليخا، إلا أن النبي الكريم يوسف قد استعصم، ولا فرق في مضمون اللقاء بين غير المتماثلين واختلائهما، فما يقوم به بعض من تدريس خصوصي للمواد الدراسية، أو تدريس ديني للعقائد والمسائل الشرعية إذا تحقق فيه عنوان الخلوة، وكان لا يؤمن معها الوقوع في الحرام، فلا يجوز ذلك، ولا يبرره أننا نقوم بهذا العمل خيريا كان أو تجاريا، وأن مضمونه ديني أو غير ديني.

ومما سبق يعلم أن بعض الحالات لا ينطبق عليها عنوان الخلوة، مثل كون رجل وامرأة في سيارة في وسط المدينة أو في الشوارع المزدحمة، فهذه ليست محرمة لأنها لا تعتبر خلوة.

ومثل ذلك ما إذا كانا في مكتب عمل وقت الدوام الرسمي، وكانا بحيث يمكن أن يدخل عليهما المراجعون، فهذه لا يصدق عليها عنوان الخلوة.

وقد يكونان في صف دراسي أو مكتب عمل، أو في منزل ولا يكون معهما أحد ولكنهما يأمنان على نفسيهما من الوقوع في الحرام، إما لجهة شخصية في نفسيهما، أو لجهة أخرى.

فهذه وإن صدق عليها عنوان الخلوة، إلا أنهما لما كانا مأمونين من الوقوع في الحرام (ولو بمقدار النظرة المحرمة) فإنها غير محرمة[7] لهذه الجهة.

ولعل الفتاوى المجوزة في الهامش تشير إلى إحدى الجهتين هاتين. وربما يكون المانعون عن الخلوة مطلقاً ناظرين إلى الحالات الاجتماعية الكثيرة التي تسببت فيها الخلوات بمشاكل ومآس.

الهوامش:


[1] مصباح الفقاهة - السيد الخوئي - ج 1 - ص 345 - 350

[2] كالسيد صادق الروحاني في فقه الصادق ج 14

[3] كالسيد السيستاني الذي أجيب في موقعه sistani.org على الأسئلة التالية بأجوبة تناسب ما في المتن : 1 السؤال: هل الخلوة في البيت مع أجنبية مثل الخادمة أو زوجة الأخ، الخال و... حرام؟ الجواب: يجوز مع اليقين بعدم الوقوع في الحرام 2 السؤال: ما الحكم إذا كانت الخلوة مع الاطمئنان بعدم الوقوع في الحرام؟ الجواب: يجوز 3 السؤال: أنا رجل متزوج و أملك سيارة ولدي سائق خاص فهل تستطيع زوجتي الذهاب لوحدها مع السائق؟ الجواب: لا بأس مع الأمن من الوقوع في الحرام والأولی ان ی?ون معهما ثالث . 4 السؤال: هل یجوز للمرأة ان تتعلم قیادة السیارة عند الرجل الأجنبي بحیث یذهبان معاً منفردین بالسیارة في الأماكن الصالحة لتدریب والتعلیم؟ الجواب: لا یجوز ذلك مع عدم الأمن من الفساد. 5 السؤال: أنا موظف في شركة وتوجد معي موظفة في نفس المكتب وفي كثير من الأحيان لا يوجد احد فهل يجوز ذلك ؟ الجواب: لا يجوز إذا لم تأمن الوقوع في الحرام . 6 السؤال: هل یجوز جلوس المرأة في المقعد الأمامي بجانب اخ الزوج لغرض توصیلها لمكان ما ؟ الجواب: لا یجوز مع عدم الأمن من الحرام .

[4] كما يظهر من استدلال الشيخ المنتظري في كتابه : دراسات في المكاسب المحرمة ج 2 .

[5] كالسيد صادق الشيرازي ـ كما يظهر من إجابات أسئلة في موقعه ـ : ـ هل يجوز دخول المرأة الأجنبية على طبيب الأطفال في غرفته مع طفلها، وهل يعتبر من الخلوة المحرمة؟ * إذا كان الطفل مميّزاً، أو أمكن دخول شخص ثالث في الغرفة بدون علم الاثنين جاز، وليس من الخلوة المحرّمة، وإلاّ كانت محرّمة. ـ هل يجوز السكن مع الأجنبية في منزلها مع وجود ابنها من أجل تعلّم اللغة معهم؟ * يجوز إذا لم تحدث خلوة ولو للحظة بنوم الابن، أو خروجه ونحوهما. ـ هل يجوز لأخت زوجتي بأن تجلس بالمقعد الأمامي في السيارة أي بجانبي بدون وجود شخص آخر؟ * إذا صدق الخلوة بالأجنبية فلا يجوز، نعم في مثل المدن مما لا تصدق الخلوة يجوز إذا لم يحصل تماس وملامسة بينكم، ولا تهيّج ولا إثارة عندكم. ـ هل يجوز للفتاة أن تدخل وحدها أي منفردة على أستاذها في مكتبه للسؤال عن الدراسة وما شابه. أيجب أن تكون معها رفيقة؟ * إن كان يوجد مع الأستاذ غيره، أو كان الباب مفتوحاً بحيث يستطيع أحد الدخول بلا إذن عليه، جاز. وإلاّ وجب أن يكون معها غيرها من الطالبات أيضاً.

[6] يوسف: من الآية 23

[7] على الرأي القائل بعدم حرمة الخلوة مع الأمن من الوقوع في الحرام.

2020/04/05

موسى والعبد الصالح: هل كلف الله الخضر بـ «قتل الغلام»؟!

قيل لبهلول: عِد لنا المجانين. فقال: هذا يطول، ولكني أعِد العقلاء. وقيل: ان رجلا كتب كتاباً وعرضه على آخر، فقال الاخر: فيه خطأ كثير. فقال الكاتب: علّم على الخطأ فأُصلِحه. فقال الاخر: بل أُعلِّم على الصواب فهو أسهل.

اتصور ان معنى القصتين ينطبق تماماً على مقال الملحد العراقي رياض العصري، والذي أثار فيه جملة من الاشكالات على قصة النبي موسى والخضر عليهما السلام في القران الكريم، واليك نص كلامه، وإن اشتمل على بعض الأخطاء النحوية والإملائية؛ رعاية للأمانة:

"جميع الاديان في العالم صناعة بشرية ... ليس هناك اله في السماء يرسل انبياء الى البشر وينزل كتب من السماء ... ليس هناك اله في السماء يهتم لشؤون البشر ويتألم لمصيرهم، ليس هناك اله يتدخل لمنع وقوع الكوارث على البشر ، أو يتدخل لمساعدتهم في ازالة آثار الكوارث التي وقعت عليهم ، مقالنا هذا يشتمل على نقد لنصوص مختارة من القرآن اثباتا لبشرية هذا الكتاب :

نصوص من القرآن:

1ـ (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا).

2ـ (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).

ـ نقد النصوص:

النصوص تتعلق بقصة (العبد الصالح !!! ) الذي ارتكب جريمة قتل غلام يافع بريء غدراً بناءاً على توجيهات من ربه بحجة ( الخشية ! ) من ان يرهق والديه في الكبر ، نتسائل: 1) اذا كان هذا الاله يهدي من يشاء لماذا لم يهدي الغلام لرعاية والديه بدلا من قتله ؟ .. 2) اذا كان هذا الاله يعلم بالغيب ألم يكن الاجدر به عدم خلق الغلام لكي لا يضطر الى قتله لاحقا ؟ ... 3) اذا كان هذا الاله حريص على راحة والدي الغلام المغدور فلماذا لم يمتد حرصه الى الاخرين من الاباء والامهات تعبيرا عن عدالته تجاه جميع البشر ؟ 4) سلوك الانسان غالبا ما يتغير مع تقدمه بالعمر وتجاربه في الحياة .. فكيف يحاسب الغلام على فعل لم يرتكبه بعد وانما بناءا على توقعات مستقبلية لسلوكه ؟ ... فان كان حسابه بناءا على العلم بالغيب فان هذا يعني ان الانسان يتصرف وفقا لتخطيط معد مسبقا ، اي ان الانسان مسير وليس مخير وبالتالي سقطت المسؤولية عن الانسان ، القصة تفتقر الى قيم الحق والعدل والرحمة والمنطق". انتهى.

اقول: كان يكفي الكاتب مراجعة بعض كتب التفسير ليجد جواب ما سأل، ولوجد ان العبد الصالح وهو الخضر عليه السلام كما صرحت بذلك الروايات، كان مكلفاً بتكاليف ليست من سنخ التكاليف الظاهرية، وهو واضح لمن تمعن في الآيات محل الذكر، فالآية تخبر بانه (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً )([1])، فهو سنخ علم موهوب من دون اكتساب ووسائط، وهو من نفس طبيعة علوم الملائكة عليهم السلام؛ وهذا سبب اصرار موسى عليه السلام على ايجاد الخضر ولو افنى حياته في البحث عنه، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)([2]).  فموسى عليه السلام أعلم أهل زمانه بالعلم الظاهري الذي يحتاج اليه البشر، وعليه مدار النبوات، كما في حديث الإمام الصادق عليه السلام: "كان موسى أعلم من الخضر" ([3]). أي أعلم منه في علم الشرع.

ومما يؤكد ما قدمناه حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والذي بينّ فيه أن مهمة ووظيفة كل من موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر، فقد كتب أحدهم إلى الإمام الرضا عليه السلام يسأله عن العالم الذي أتاه موسى، أيهما كان أعلم؟ فكان مما أجاب به الإمام قوله عليه السلام: "أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إما جالسا وإما متكئا فسلم عليه موسى، فأنكر السلام، إذ كانت الأرض ليس بها سلام. قال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه"([4]).

فثمة نظامان في هذا العالم، الأول هو النظام التكويني، والأخر هو النظام التشريعي، فعلى سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ـ بتوسط الملائكة او بعض الأولياء كالخضر عليه السلام ـ ومن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزة وفقدانهم حتى يتبين الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.

ونرى أن الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر، أو يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربه على نعمة السلامة... هذا كله بحسب النظام التكويني، ولكنّا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنف الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية.

على سبيل المثال نرى أن الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجة عدم سراية السم إلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إصبع شخص آخر بحجة تربيته على الصبر أو عقابا له على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتما لأنه يلائم النظام الأحسن).

والآن بعد أن ثبت وتوضح أن في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأن الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.

ومن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثم يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأن أخطارا كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أن وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتم لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك.

وأيضا لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأن خروجي من البيت لو تم فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني منها ([5]).

ثم إن التصرف في عالم التكوين يخضع لقوانين العدل الإلهي، فقد يكون العبد مستحقاً لأمر معين، ثم يتغير استحقاقه نتيجة اختياراته فتتغير أقدار الله تعالى له، وهوما يعرف بعقيدة البداء، ومن ذلك إجماع الفريقين - سنّة وشيعة - في تفسير قوله تعالى: )وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(([6]).

فلقد أجمع علماء الفريقين في تفسيرها، أنّه إذا ظهر لله من أهل القرى الإيمان والتقوى، فإنّ الله تعالى سيظهر لهم بركات السماء والأرض، وبالعكس فإذا أظهر أهل القرى التكذيب؛ فإنّ الله تعالى سيظهر لهم عقاباً ونقمة.

ومن خلال ما تقدم يتضح جواب العصري، فقد يكون العبد مستحقاً لولد يرهقه ظلماً وكفراً، فيعمل عملاً صالحاً فيغير الله أقداره، توضيح ذلك أكثر: ان الله تعالى أخذ على نفسه ايصال كل انسان الى ما يختاره، قال تعالى:  (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)([7])، والآية صريحة في أنه تعالى يوصل من يختار الدنيا الى اختياره، ومن يختار الآخرة الى اختياره، فلو فرضنا إنساناً كان مريداً للدنيا، فقدر الله تعالى له ما يوصله الى ذلك، ثم تاب واختار طريق الاخرة، فإنه تعالى يغير أقداره تبعاً لذلك.

والخلاصة ان القصة مسوقة لبيان عناية الله سبحانه بالمؤمنين، وان يد الغيب ترعاهم وهم لا يشعرون، فالقصة تحكي عن ثلاث حوادث تخص المؤمنين، الاولى هم اصحاب السفينة المساكين، والثانية للوالدين المؤمنين، والثالثة لغلامين كان ابوهما مؤمناً، بل في وصفه تعالى لأصحاب السفينة بأنهم مساكين ما يشعر لتدخله تعالى لدفع البلاء عن مطلق المستضعفين، وان لم يكونوا مؤمنين. 

فالقصة برمتها تُكذب وتناقض قول الكاتب: ليس هناك اله في السماء يهتم لشؤون البشر ويتألم لمصيرهم، ليس هناك اله يتدخل لمنع وقوع الكوارث على البشر، أو يتدخل لمساعدتهم في ازالة آثار الكوارث التي وقعت عليهم). 

الهوامش:


([1])  الكهف: 65.

([2])  الكهف: 60.

([3])  تفسير الميزان، ج 13، ص 356.

([4])  مجمع البيان، ج 6، ص 480. والميزان، ج 13، ص 356.

([5])  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج9، ص333.

([6])  سورة الأعراف: 96.

([7])  سورة الأعراف: 96.

2020/03/29

«كورونا» يفتك بالعالم: نواجهه بـ «الدعاء» أم بـ «الأسباب الطبيعية»؟!

​يحكى عن أحدهم أنه التقى صديقه فسلم عليه وسأله متعجباً: يقولون إنك ميت؟ فأجابه: كذبوا وها أنا واقف أمامك حي أكلمك. فقال: لكن الناقل ثقة.

من محاسن فيروس كورونا (أجارنا الله وأياكم منه)، أنه كشف جهل الكثير من المدعين، لدرجة مخالفتهم الأمور القطعية التي لا نقاش فيها، فبالرغم من أن هذا المرض من أشد الأمراض عدوى وفتكاً بالناس، نجد هؤلاء يصرون على مخالفة متطلبات السلامة الصحية ومنع تفشي الوباء، وليس لهم على ذلك دليل إلا فهم سقيم، ضرورة أن سُنة الله في الكون هي سنة الأسباب([1])، وهذا ما أكدته عليه النصوص الدينية، فعن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الحسين بن صغير، عمن حدثه، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله انه قال: ابى الله ان يجري الاشياء إلا بأسباب فجعل لكل شيء سببا([2]). والقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سبباً من الأسباب إذا تحقق مع ما يلزمه و يكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتباً عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة([3]). لذا فإن هذا الوباء نتيجة ومسبب طبيعي لسوء استخدام البشر لموارد الطبيعة، وهذا ما اعترف به القاصي والداني والمؤالف والمخالف، «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»([4])،  وعليه فإذا توفرت أسباب ظهور الوباء حصل لا محالة، وهو جريرة من أساء استخدام الطبيعة، كما في قوله تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»([5]).

لكن هل هذا يعني ان الله تبارك وتعالى فوض الأمر الى هذه الأسباب، بمعنى انه لا يقدر على منع تأثيرها لو أراد؟ وبعبارة أخرى: هل يقدر تعالى على منع انتشار عدوى الفيروس حتى مع وجوده؟

هذا السؤال يجرنا الى بحث (الاستطاعة) كما هو معنون في علم الكلام الإسلامي، وخلاصة القول فيه: إن وجود السبب وكل ما يملك من تأثير هو من الله تعالى، فلله ان يفيض عليه وجوداً يجعله ذا تأثير، وله ان يسلبه تأثيره بل حتى وجوده، ففي الاحتجاج،: فيما سأله عباية بن ربعي الأسدي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك.. الحديث([6]).

وعليه فلله تبارك وتعالى أن يمنع من تأثير هذا الفيروس فهو المالك لما ملكه من تأثير والقادر على ما عليه أقدره.

والخلاصة: أن الله تعالى أجرى سُنة الكون على الأسباب، فإذا صدر من البشرية ما يوجب وجود هذا الفيروس صدر وأثر أثره، لكن هذا لا يعني ان الفيروس مستقل بتأثيره، بل يتوقف على إذنه تعالى وإرادته، فله منع ذلك كما له إمضائه وسريانه.  ومن هنا تأتي أهمية التوجه الى الله تعالى بالتضرع والدعاء، «قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ»([7])، وهو القائل: «فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»[8]).

والقرآن الكريم صريح في إثبات الارتباط بين فعل الانسان والحوادث الخارجية، فالأمة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى: «أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ»([9])، وقال تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً»([10])، هذا كله في الأمة الطالحة، والأمة الصالحة على خلاف ذلك. ويجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»([11]) ، و قوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ([12]).

يقول العلامة الطباطبائي في المقام مانصه: "فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية، فجرى النوع الإنساني على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، وانفتاح أبواب البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية، وتماديه في الغي والضلالة، وفساد النيات، وشناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الأمم بفشو الظلم وارتفاع الأمن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الإنسان وأعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل"([13]).

ومن هذه الحوادث المبيدة ما نجده اليوم من أوبئة تفتك بالبشر، فهي اولاً نتاج سلوك الإنسان الطائش في الطبيعة، وإنه تعالى سمح بتفشيه ولم يعصم هذه الأقوام منه نتيجة عصيانهم وجحودهم له، فأخطئوا مرتين، الأولى في فعل سلوكيات نتج منها الفيروس، والثانية في عدم اللجوء الى الله تعالى ليرحمهم ويجنبهم آثاره، فعن علي بن إبراهيم، عن ابيه ; وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، جميعا عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "خمس إن أدركتموهن فتعوذوا بالله منهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والاوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا..". الحديث([14]). والطاعون هو الموت المسبب عن الوباء، كما عن الجوهري([15]). فلاحظ قوله عليه السلام (حتى يعلنوها)، ليتضح لك ان سبب الطاعون وهو الموت الناتج عن الوباء هو شيوع والتجاهر بالفاحشة كالزنا واللواط ونحوهما.

وبحسب ما تقدم فإنه تعالى يسمح بتفشي الأوبئة والتي هي اصلاً نتجت عن عدم مراعاة الإنسان للطبيعة، متى ما فشت فيهم الفاحشة. فلا سبيل لنا بعد الاستعانة بكل الوسائل والأسباب الطبية إلا الالتجاء الى الله تعالى بالاستغفار والتوبة، والتوسل اليه بأحب خلقه عليه، محمد واله صلوات الله عليهم أجمعين، عملاً بقوله صلى الله عليه وآله: "اعقلها وتوكل"، وهذا ما صرحت به كلماتهم عليهم السلام ، وهنا يعجبني ان اقتبس بعض كلمات الأخ العزيز والفاضل جناب الشيخ حيدر السندي (دام توفيقه)، حيث قال: وهذا المعنى نجده فيما رواه ثقة الإسلام الكليني(رحمه الله) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) قَالَ: قَالَ لِي إِنِّي لَمَوْعُوكٌ‏ مُنْذُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَ لَقَدْ وُعِكَ ابْنِي اثْنَيْ عَشَرَ شَهْراً وَ هِيَ تَضَاعَفُ عَلَيْنَا أَ شَعَرْتَ‏ أَنَّهَا لَا تَأْخُذُ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ وَ رُبَّمَا أَخَذَتْ فِي أَعْلَى الْجَسَدِ وَ لَمْ تَأْخُذْ فِي أَسْفَلِهِ وَ رُبَّمَا أَخَذَتْ فِي أَسْفَلِهِ وَ لَمْ تَأْخُذْ فِي أَعْلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنْ أَذِنْتَ لِي حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ جَدِّكَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وُعِكَ‏ اسْتَعَانَ‏ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَيَكُونُ لَهُ ثَوْبَانِ ثَوْبٌ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَ ثَوْبٌ عَلَى جَسَدِهِ يُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُنَادِي حَتَّى يُسْمَعَ صَوْتُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ صَدَقْتَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا وَجَدْتُمْ لِلْحُمَّى عِنْدَكُمْ دَوَاءً فَقَالَ مَا وَجَدْنَا لَهَا عِنْدَنَا دَوَاءً إِلَّا الدُّعَاءَ وَ الْمَاءَ الْبَارِدَ إِنِّي اشْتَكَيْتُ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِطَبِيبٍ لَهُ فَجَاءَنِي بِدَوَاءٍ فِيهِ قَيْ‏ءٌ فَأَبَيْتُ أَنْ أَشْرَبَهُ لِأَنِّي إِذَا قُيِّئْتُ زَالَ كُلُّ مَفْصِلٍ مِنِّي.

فإن هذه الرواية تدل على أمور:

الأول: أن الإمام الباقر (عليه السلام ) كان يستغيث بالصديقة الزهراء (عليها السلام) ، ويسمع ذلك الناس (ثُمَّ يُنَادِي حَتَّى يُسْمَعَ صَوْتُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ).

الثاني: أن هذا كان منه على نحو الاستمرار ، فقد كان تعبير الرواية : (بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ جَدِّكَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وُعِكَ‏ اسْتَعَانَ)وهذا يدل على أن هذا ديدنه وسيرته كلما توعك.

الثالث: هو أن الطريقة المثلى لطلب العلاج والشفاء الجمع بين السبب المتعارف و السبب الغيبي من الدعاء والاستغاثة ، وهذا ما بينته الرواية بعبارة (اسْتَعَانَ‏ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَيَكُونُ لَهُ ثَوْبَانِ ثَوْبٌ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَ ثَوْبٌ عَلَى جَسَدِهِ يُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُنَادِي حَتَّى يُسْمَعَ صَوْتُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ) و عبارة : (مَا وَجَدْنَا لَهَا عِنْدَنَا دَوَاءً إِلَّا الدُّعَاءَ وَ الْمَاءَ الْبَارِدَ) ([16]).

وفي الختام نسأل الله تبارك وتعالى أن يمن على سائر المسلمين بالحفظ والسلامة بجاه محمد واله الأطهار.

الهوامش:


([1])  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص17.

([2])  الحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ص487.

([3])  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص39.

([4])  الروم: 41.

([5])  الشورى: 30.

([6])  محمد باقر، المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص26.

([7])  الفرقان: 77.

([8])  الانعام: 42 ـ 43.

([9])  المؤمن: 21.

([10])  الأسراء: 16.

([11])  الأعراف: 96.

([12])  الروم: 41.

([13])  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص104.

([14])  الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، باب في عقوبات المعاصى العاجلة، ص373.

([15])  شرح أصول الكافي، ص47.

([16])  الكافي (ط - الإسلامية) ؛ ج‏8 ؛ ص109.

2020/03/27

السيد السيستاني: من تسبب بنقل المرض إلى الآخرين يكون ضامناً وعليه دية من مات بسببه

افتى سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)، يوم الإثنين، 23 آذار، 2020، بوجوب دفع دية من يتسبب بموت شخص بعد نقل عدوى فيروس كورونا له.

جاء ذلك في معرض رده على مجموعة من الأسئلة حول تفشي فيروس كورونا نشرتها مكتب سماحته وحصل «موقع الأئمة الإثني عشر» على نسخة منها.

وكان نص السؤال: "المصاب بهذا المرض ومن عنده بعض العلامات المحتملة للإصابة به هل يجوز له أن يختلط بالآخرين ممن لا يعلمون بحاله، واذا قام بذلك وانتقلت العدوى اليهم فما هو مسؤوليته تجاههم؟"

وجاء جواب سماحته: "لا يجوز له أن يختلط بالآخرين بحيث يحتمل انتقال العدوى اليهم، ولو فعل وتسـبب فـي اصابة غيـره ممن لا يعـلم بحاله كان ضامناً لما يلـحق به من الضـرر، ولو مات جراء الاصابة لزمته ديته".


من: مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني (دام ظله)

موقع الأئمة الإثني عشر

2020/03/23

السيد السيستاني: من لم يتقيد بالإجراءات الاحترازية فلن يكون معذوراً شرعاً

اعتبر سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني، دام ظله، يوم الإثنين، 23 آذار، 2020، من لم يتقيد بالإجراءات الصحية الاحترازية "لن يكون معذوراً (...) شرعاً".

جاء ذلك في معرض رده على مجموعة من الأسئلة حول تفشي فيروس كورونا نشرتها مكتب سماحته وحصل «موقع الأئمة الإثني عشر» على نسخة منها.

وفي السؤال، بحسب ما ورد، "هل يلزم التجنب عن المماسة مع الآخرين ـ ممن يحتمل اصابتهم بالمرض ـ بالمصافحة أو المعانقة أو التقبيل أو ما ماثل ذلك، وهل تجوز المخالطة معهم من دون اتخاذ الاجراءات الاحتياطية كلبس الكمامات الطبية ونحو ذلك؟".

وجاء جواب سماحته: "بسم الله الرحمن الرحيـم  من يخـشى أن تنتقل اليه العدوى نتيجة للمماسة أو الاختلاط فيتضرر به ضرراً بليغاً ولو دون الموت يلزمه التجنب عن ذلك، الا مع اتخاذ الاجراءات الاحترازية اللازمة ـ كالتعقيم واستخدام الكمامة المناسبة والكفوف الطبية ـ بحيث يطمئن معها بعدم اصابته بالمرض، واذا لم يتقيد برعاية ما ذكر واصابه ما كان يخاف منه فلن يكون معذوراً في ذلك شرعاً".


من: مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني (دام ظله)

موقع الأئمة الإثني عشر

2020/03/23

السيد السيستاني يرد على أسئلة حول انتشار فيروس كورونا

أجاب مكتب المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)، يوم الاثنين، على أسئلة جديدة حول فيروس كورونا.

وفي ما يلي نص الإجابة كما وردت من مكتب سماحته:

 

 

مكتب سماحة المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني دام ظله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

   يتسع انتشار فيروس كورونا في الكثير من بلدان العالم وتزداد اعداد المصابين به يوماً بعد يوم وقد علمنا بموقف المرجعية الدينية العليا من (وجوب إتّباع التعليمات الصادرة من الجهات المعنيّة بهدف الحدّ من انتشار هذا الوباء الخطير ومن ذلك المنع من اقامة التجمعات والحضور فيها لأيّ هدف كان) ولدينا عدد من الاسئلة نتوجه الى سيدنا المرجع الأعلى دام ظله بطلب الاجابة عليها:

  1 ـ هل يلزم التجنب عن المماسة مع الآخرين ـ ممن يحتمل اصابتهم بالمرض ـ بالمصافحة أو المعانقة أو التقبيل أو ما ماثل ذلك، وهل تجوز المخالطة معهم من دون اتخاذ الاجراءات الاحتياطية كلبس الكمامات الطبية ونحو ذلك؟

  ج: بسم الله الرحمن الرحيـم  من يخـشى أن تنتقل اليه العدوى نتيجة للمماسة أو الاختلاط فيتضرر به ضرراً بليغاً ولو دون الموت يلزمه التجنب عن ذلك، الا مع اتخاذ الاجراءات الاحترازية اللازمة ـ كالتعقيم واستخدام الكمامة المناسبة والكفوف الطبية ـ بحيث يطمئن معها بعدم اصابته بالمرض، واذا لم يتقيد برعاية ما ذكر واصابه ما كان يخاف منه فلن يكون معذوراً في ذلك شرعاً.

  2 ـ المصاب بهذا المرض ومن عنده بعض العلامات المحتملة للإصابة به هل يجوز له أن يختلط بالآخرين ممن لا يعلمون بحاله، واذا قام بذلك وانتقلت العدوى اليهم فما هو مسؤوليته تجاههم؟

  ج: لا يجوز له أن يختلط بالآخرين بحيث يحتمل انتقال العدوى اليهم، ولو فعل وتسـبب فـي اصابة غيـره ممن لا يعـلم بحاله كان ضامناً لما يلـحق به من الضـرر، ولو مات جراء الاصابة لزمته ديته.

  3 ـ من يقدم الى البلد من بلد آخر انتشر فيه الفيروس او اختلط ببعض المصابين به هل يجب عليه أن يلتزم بالحجر المنزلي او عرض نفسه للفحص الطبي للتأكد من سلامته من هذا المرض أو لا؟

  ج: نعم يلزمه ذلك مراعياً التعليمات الصادرة من الجهات ذات العلاقة بهذا الشأن.

    4ـ هل يجوز صرف الحقوق الشرعية من الزكاة والخمس في توفير الادوات الضرورية للحماية من انتقال العدوى من المصابين كالكفوف والكمامات الطبية والمواد المنظفة والمعقمة وكذلك الادوية والمستلزمات الأخرى مما تمس الحاجة اليها في مكافحة هذا الوباء؟

  ج: لا مانع من أن يصرف من سهم سبيل الله من الزكاة ومن سهم الامام (ع) من الخمس في ذلك مع رعاية الضوابط الشرعية. 

  5 ـ بماذا تنصحون المؤمنين في هذا الظرف العصيب الذي يواجهون فيه هذا الوباء خطير؟                                                          جمع من المؤمنين

   ج: نوصي المؤمنين الكرام (اعزّهم الله تعالى) بأمور:

 أ ـ الالتجاء الى الله عزّ وجل والتضرع اليه لدفع هذا البلاء، والاكثار من الاعمال الصالحة كالتصدق على الفقراء واعانة الضعفاء وقراءة القرآن المجيد والادعية المأثورة عن النبي (ص) واهل بيته الاطهار عليهم السلام.

 ب ـ الحذر اللائق بحجم هذا الوباء من غير هلع واضطراب والأخذ بأتمّ اسباب الوقاية والعلاج منه وفق ما يقرره اهل الاختصاص بعيداً عن الاساليب غير العلمية.

 ج ـ العمل على توعيه الآخرين بمخاطر الاستهانة بهذا الفيروس وحثّهم على الالتزام بالتوجيهات الصادرة من الجهات المعنيّة وعدم التخلّف عنها.

 د ـ مساعدة العوائل المتضررة من الوضع الراهن بسبب تعطّل الاعمال وتقييد حركة الناس.

هـ ـ رعاية المصابين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والسعي في التخفيف عنهم واعانتهم فيما يحتاجون اليه. 

   أبعد الله عن الجميع كل سوء وبلاء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

          27/ رجب /1441هـ   مكتب السيد السيستاني دام ظله ـ النجف الأشرف

 

الصورة الرئيسية

2020/03/23

2020/03/21

حجاب المرأة فريضة أم عادة؟!.. رداً على قناة «الحرة الأمريكية»

يروى ان الأعشى خرج الى رسول الله (ص) يريد الإسلام، فقيل له انه يحرم الزنا. فقال: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب. فقيل له: انه يحرم الخمر: فقال: انها مذهبة للعقل، فقيل: هل لك ان تترك الإسلام ولك مائة ناقة، فقال: اما هذه فنعم. فأخذها وسار بها، إلا انه قبل ان يصل الى داره وقع من على ظهر الناقة ومات، فأضاع المشيتين مثل الغراب، فهو لم يُسلم ولم ينتفع بالأبل. وهذا حال الكثير من مثقفينا ـ مع الأسف ـ فتراهم يحاولون الجمع بين سلوكيات الغربيين والتراث الديني والاجتماعي، رغبة في اللحوق بركبهم والتقدم مثلهم من خلال تحديث الفقه الإسلامي! إلا انهم لم يحصلوا لا على بلح الشام ولا على عنب اليمن، فلا هم ساروا بسيرة الغرب وانفصلوا عن هويتهم تماماً، ولا هم التزموا بها وأخذوا بمسلماتها، ومن هؤلاء المقدم المصري ابراهيم عيسى الذي طرح مسألة حجاب المرأة في الإسلام من خلال برنامجه (مختلف عليه) عبر قناة الحرة، واعتبره زياً اجتماعياً ليس له منشأ ديني، فقد كانت النساء قبل الإسلام تلتزم بتغطية الرأس ـ حسب قوله ـ بل هو من ثقافات الشعوب الأخرى، وإن الآيات التي تحدثت عنه مختصة بنساء النبي (ص) وايضاً ليس المراد منه في هذه الآيات ستر الرأس والبدن، وإنما وضع حاجز مكاني كستارة او باب ونحوه، والخلاصة ليس للحجاب ـ الذي يعده الفقهاء فرضاً ـ منشئاً دينياً.

حجاب المرأة قبل الإسلام

وإذا رجعنا الى كتب المؤرخين وجدناها  تكذب الدعوى المتقدمة، فكانت النساء في الجاهلية لا يلتزمن بزيهن بالتستر الكامل. وكن يختلطن بالرجال ويجالسنهم، ويحضرن المجالس العامة، ويرتدن الأماكن العامة كالأسواق. وكانت ثيابهن لا تستر جميع البدن، بل يبقى بعض الرأس والأذنان والعنق والصدر مكشوفة، وكذلك الذراعان والقدمان.

قال الزمخشري: «كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يستدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة.. وكانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل انها كانت تضرب إحدى رجليها الأخرى ليعلم انها ذات خلخالين». الكشاف، ج3، ص62 ـ 63.

وقال السيوطي: «عن سعيد بن جبير، قال: إن المرأة كانت يكون في رجلها الخلخال فيه الجلاجل، فإذا دخل عليها غريب تُحَرِّكُ رجلها عمداً ليسمع صوت الخلخال». الدر المنثور، ج6، ص186.

وقال الغرناطي: «كن في ذلك الزمان يلبسن ثياباً واسعات الجيوب يظهر منها صدورهن. وكن إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة يُسدلنها من وراء الظهر فيبقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر عليها..». التسهيل في علوم التنزيل.

وأورد الطبري في ذلك مثل ما ذكرناه. وقد استمر الوضع على ذلك بعد الإسلام الى ما بعد الهجرة، حيث نزل تشريع الحجاب في سورة النور، وتدل الروايات الواردة في ظروف نزول آية الحجاب على ذلك وسيأتي ذكر بعضها. من هنا يتضح الخطأ في قول ابراهيم عيسى في ان الحجاب كان هو الحالة السائدة بين نساء العرب قبل الإسلام. بل ان قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الأحزاب: 59، يكشف بوضوح ان الحالة السابقة هي عدم ارتدائهن الحجاب، وأنه صار علامة على ان المرأة التي ترتديه مسلمة حرة فلا تؤذى (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).

وقد يعتمد القائلون بوجود الحجاب قبل الإسلام على ما ذكره (وول ديورانت)، حيث قال: «كان للمرأة مقام رفيع على عهد زرادشت، فكانت تخرج بين الناس بكل حرية وبوجه مكشوف...وبعد داريوش انخفضت منزلة المرأة، وخاصة في طبقة الأثرياء. إلا أن المرأة الفقيرة ظلت محافظة على حريتها بالنظر الى اضطرارها الى الاختلاط بالناس للحصول على عمل، ولكن بالنسبة للطبقات الأخرى، فإن فترة الحيض التي كانت تقضيها المرأة محتجبة عن الناس، بحسب القانون، قد امتدت بالتدريج لتشمل فترة حياتها الاجتماعية كلها وهذا يعتبر اساس ارتداء الحجاب عند المسلمين». قصة الحضارة، ج1، ص552. ويقول في موضع آخر: تسبب عن اتصال العرب بإيران انتشار الحجاب واللواط في البلدان الإسلامية». نفس المصدر، ج11، ص112.

ولكن ماذا يقصد بقوله: «وهذا يعتبر اساس ارتداء الحجاب عند المسلمين»؟

فالظاهر انه يقصد ان الحجاب الرائج بين المسلمين يعتبر من العادات التي اقتبسها المسلمون من الايرانيين بعد اعتناقهم الإسلام.

لكنه مردود، لأن آيات الحجاب قد نزلت قبل دخول الايرانيين للإسلام، أضف الى ذلك ان ويل ديورانت هذا يتكلم بشكل يتصور معه المرء أنه لم يكن على عهد النبي (ص)اي قانون يخص الحجاب، وإن المرأة كانت خلال القرن الأول تروح وتغدي بغير حجاب مطلقاً، لا شك ان الأمر ليس كذلك، والتاريخ يشهد بخلاف ذلك شهادة قاطعة.

فقد كانت المرأة في الجاهلية فعلاً مكشوفات الشعر، وإنما يسدلن الخمار وراء ظهورهن، الا ان الإسلام غير ذلك، فقد كانت عائشة تثني على نساء الأنصار بقولها: «ما رأيت خيراً من نساء الأنصار لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن الى مرطها المرحل فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن وكأن على رؤوسهن الغربان». الكشاف: ذيل الآية 31 من سورة النور. وروى ابو داوود في سننه عن أم سلمة أنها قالت: «بعد نزول آية (يدنين عليهن من جلابيبهن)، من سورة الأحزاب فعلت نساء الأنصار ذلك».  سنن ابي داوود: ج2، ص382.

حجاب المرأة بعد الإسلام

لا ريب في وجوب الحجاب على المرأة البالغة سن التكليف. وهذا التستر هو ما اشتهر الاصطلاح عليه بـ(الحجاب) وهو تسامح في التعبير عن موضوع الحكم الشرعي، فإن الحجاب في الشرع الإسلامي، حكم خاص بنساء النبي (ص) ولا يشمل سائر النساء المسلمات. وقد دل عليه قوله تعالى في سورة الأحزاب المدنية:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) الأحزاب: 53. إن هذه الآية حددت علاقة رجال المسلمين بنساء النبي (ص) خاصة، فمنعت من دخول بيوت النبي (ص) ـ وهي بيوت نسائه ـ من غير إذن، وأجاز لهم الدخول إذا دعاهم النبي (ص) الى تناول الطعام، ومنعت من المكث فيها بعد ذلك، كما منعت من الاتصال المباشر بنساء النبي (ص) إذا قضت الحاجة بالحديث معهن، وأمرت بأن يكون الحديث معهن في هذه الحالة ( مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ )، باب او جدار او ستر.

وهذه الأحكام لا تسري على سائر النساء المسلمات اللاتي يجوز لهن الاتصال المباشر بالرجال الأجانب واتصال الرجال بهن في الحياة العملية والسياسية والاجتماعية، ويجوز لهن ولهم الحديث بصورة مباشرة.

هذا هو الحجاب بالنسبة الى نساء النبي (ص) خاصة. وأما ما اصطلح عليه بـ (الحجاب) بالنسبة الى سائر النساء المسلمات، فهو ستر بشرة بدن المرأة عن الأجنبي البالغ، فدليله القرآني قوله تعالى: (َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الاحزاب: 59، والآية صريحة في وجوب ارتداء الجلباب ـ وهو قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر ـ على جميع نساء المسلمين بما فيهن نساء وبنات النبي (ص). «والمراد من (يُدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهنّ، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهنّ ويحافظن على حجابهنّ». تفسير الأمثل ج13، ص349.

وكذلك قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: 31. والآية صريحة في حرمة إبداء الزينة لكافة المسلمات، وليس المراد حرمة إظهار الزينة بما هي هي وإنما حرمة ما تحتها من البدن، وكذا هي صريحة في وجوب تغطية الرأس والصدر لقوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ).

وفي الختام نسأل: هل كانت هذه الآيات غائبة عن مقدم البرنامج، أم انه يأخذ ببعض القرآن دون بعض، وجعل القرآن عضين.

2019/10/10