فقهيات

أقسام فرعية

أقسام فرعية

أشد الناس بلاءً الأنبياء: هل للمصائب والابتلاءات فوائد؟!

إن الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما لمصلحة الإنسان وانتفاعه بها في معيشته، مع أن المصائب والبلايا تنافي هذه الغاية وتضادها، والفاعل الحكيم لا يصنع ما يضاد غرضه.

أضف إلى ذلك أن مقتضى رحمة الله الواسعة رفع المصائب ودفع الشرور الواقعة في عالم الطبيعة كي لا تصعب المعيشة على الإنسان وتكون له هنيئة مريئة بلا جزع ومصيبة.

والإجابة عن هذه الشبهة تبتني على بيان أمور:

 الأول: المصالح النوعية راجحة على المصالح الفردية

لا شك أن الحياة الإنسانية حياة اجتماعية، فهناك مصالح ومنافع فردية، وأخرى نوعية اجتماعية، والعقل الصريح يرجح المصالح النوعية على المنافع الفردية، وعلى هذا فما يتجلى من الظواهر الطبيعية لبعض الأفراد في صورة المصيبة والشر، هو في عين الوقت تكون متضمنة لمصلحة النوع والاجتماع، فالحكم بأن هذه الظواهر شرور، تنافي مصلحة الإنسان، ينشأ من التفات الإنسان إليها من منظار خاص والتجاهل عن غير نفسه في العالم، من غير فرق بين من مضى في غابر الزمان ومن يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي ويعيش فيها.

وما أشبه الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر سبيل يرى جرافة تحفر الأرض، أو تهدم بناء مثيرة الغبار والتراب في الهواء، فيقضي من فوره بأنه عمل ضار وشر، وهو لا يدري بأن ذلك يتم تمهيدا لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيئ للمحتاجين إلى العلاج وسائل المعالجة والتمريض.

ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى، ولوصف ذلك التهديم بأنه خير وأنه لا ضير فيما يحصل من ضوضاء الجرافة وتصاعد الغبار.

الثاني: آلة علم الإنسان ومحدوديته

إن علم الإنسان المحدود هو الذي يدفعه إلى أن يقضي في الحوادث بتلك الأقضية الشاذة، ولو وقف على علمه الضئيل ونسبة علمه إلى ما لا يعلمه لرجع القهقرى قائلا: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك).(1) ولأذعن بقوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).(2)  ولذلك ترى كبار المفكرين وأعاظم الفلاسفة يعترفون بجهلهم وعجزهم عن الوقوف على أسرار الطبيعة وهذا هو المخ الكبير في عالم البشرية الشيخ الرئيس يقول: " بلغ علمي إلى حد علمت أني لست بعالم ".

الثالث: الغفلة عن القيم الإنسانية العليا

 ليست الحياة الإنسانية حياة مادية فقط، بل للإنسان حياة روحية معنوية، ولا شك أن الفلاح والسعادة في هذه الحياة، هي الغاية القصوى من خلق الإنسان، ومفتاح الوصول إلى تلك الغاية هو العبادة والخضوع لله سبحانه، وعلى هذا الأساس فالحوادث التي توجب اختلالا ما في بعض شؤون الحياة المادية ربما تكون عاملا أساسيا لاتجاه الإنسان إلى الله سبحانه كما قال سبحانه: (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا).(3) كما سيوافيك بيان ذلك.

الرابع: المصائب وليدة الذنوب والمعاصي

 القرآن الكريم يعد الإنسان مسؤولا عن كثير من الحوادث المؤلمة والوقائع الموجعة في عالم الكون، قال سبحانه: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس).(4) وقال سبحانه:  (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).(5) وقال سبحانه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).(6) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن لأعمال الإنسان دورا واقعيا في البلايا والشرور الطبيعية والاجتماعية، ولكن الإنسان إذا أصابته مصيبة وكارثة يعجل من فوره، وبدل أن يرجع إلى نفسه ويتفحص عن العوامل البشرية لتلك الحوادث ويقوم بإصلاح نفسه، يعدها مخالفة لحكمة الصانع أو عدله ورحمته.

الفوائد التربوية للمصائب

إذا عرفت هذه الأصول فلنرجع إلى تحليل فوائد المصائب والشرور، فنقول:

  1. المصائب وسيلة لتفجير الطاقات

 إن البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدم العلوم ورقي الحياة البشرية، فإن الإنسان إذا لم يواجه المشاكل في حياته لا تنفتح طاقاته ولا تنمو، بل نموها وخروجها من القوة إلى الفعل رهن وقوع الإنسان في مهب المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى:  (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب).(7)

  1. البلايا جرس إنذار وسبب للعودة إلى الحق

 إن التمتع بالمواهب المادية والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقية وكلما ازداد الإنسان توغلا في اللذائذ والنعم، ازداد ابتعادا عن الجوانب المعنوية.

وهذه حقيقة يلمسها كل إنسان في حياته وحياة غيره، ويقف عليها في صفحات التاريخ، ونحن نجد في الكتاب العزيز التصريح بصلة الطغيان بإحساس الغنى، إذ يقول عز وجل: (إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى).(8) فإذا لا بد لانتباه الإنسان من هذه الغفلة من هزة وجرس إنذار يذكره ويرجعه إلى الطريق الوسطى، وليس هناك ما هو أنفع في هذا المجال من بعض الحوادث التي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتى يدرك عجزه ويتنبه من نوم الغفلة.

ولأجل هذا يعلل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنها تنزل لأجل الذكرى والرجوع إلى الله، يقول سبحانه: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون).(9)

ويقول أيضا: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون).(10)

ويقول أيضا: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).(11)

ويقول تعالى: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).(12)

  1. حكمة البلايا في حياة الأولياء

يظهر من القرآن الكريم والأحاديث المتضافرة أن البلايا والمحن ألطاف إلهية في حياة الأولياء والصالحين من عباد الله وشرط لوصولهم إلى المقامات العالية في الآخرة.

قال سبحانه: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا...).(13)

وقال أيضا:  (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).(14)

وروى هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: " إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل ".(15)

وروى سليمان بن خالد عنه (ع) أنه قال: " وأنه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلا بإحدى خصلتين، إما بذهاب ماله أو ببلية في جسده ".(16)

وقد شكا عبد الله بن أبي يعفور إلى أبي عبد الله الصادق (ع) مما أصابته من الأوجاع - وكان مسقاما - فقال (ع): " يا عبد الله لو يعلم المؤمن ماله من الأجر في المصائب لتمنى أنه قرض بالمقاريض ".(17)

حاصل المقال إن المصائب على قسمين: فردية ونوعية، وإن شئت فقل: محدودة  ومطلقة، ولأعمال الإنسان دور في وقوع المصائب والبلايا، وهي جميعا موافقة للحكمة وغاية الخلقة، فإن الغرض من خلقة الإنسان وصوله إلى الكمالات المعنوية الخالدة، وتلك المصائب جرس الإنذار للغافلين و كفارة لذنوب المذنبين وأسباب الارتقاء والتعالي للصالحين.

هذا في جانب الغرض الأخروي، وأما في ناحية الحياة الدنيوية فيجب إلفات النظر إلى أمرين:

1. ملاحظة منافع نوع البشر المتوطنين في نواحي العالم، بلا قصر النظر إلى منافع الفرد أو طائفة من الناس.

2. ملاحظة ما يتوصل إليه الإنسان عند مواجهته للمشاكل والشدائد من الاختراعات والاكتشافات الجديدة المؤدية إلى صلاح الإنسان في حياته المادية.


1- 1. آل عمران: 191.

2- 2. الإسراء: 85.

3- 1. النساء: 19.

4- 2. الروم: 41.

5- 1. الأعراف: 96.

6- 2. الشورى: 30.

 

7- 1. الانشراح: 5 - 8.

8- 2. العلق: 6 - 7.

9- 3. الأعراف: 94.

10- 1. الأعراف: 130.

11- 2. الروم: 41.

12- 3. الأعراف: 168.

13- 4. البقرة: 214.

14- 1. البقرة: 155 - 157.

15- 2. الكافي: ج 2، باب شدة ابتلاء المؤمن، الحديث 1.

16- 3. نفس المصدر: الحديث 23.

17- 4. نفس المصدر: الحديث 15.

2019/08/19

2019/08/01

كيف نميّز الأعلم بين مراجع التقليد؟

ذكرنا في مقال سابق أن الإنسان بطبعه إذا احتاج للعمل فيما يجهله يرجع للعالم به، وعلى ذلك جرت سيرة الناس في جميع أمور معاشهم ومعادهم، كالطب والهندسة وعلم الدين وغيرها، وبيّنا أدلة وجوب الرجوع إلى الفقيه الأعلم.

والسؤال المطروح الآن هو: كيف نستطيع تمييز الأعلم من بين المجتهدين؟

إن العاجز عن الفحص بنفسه ليس له إلا الرجوع إلى أهل الخبرة، فإن الشيعة في عصور حضور الأئمة (عليهم السلام) كانوا كثيراً ما يرجعون إليهم (عليهم السلام) لتعيين من يرجعون إليه في أمر دينهم ، كما أشرنا إلى ذلك في (مقال: تقليد الفقهاء كان موجوداً في زمن الأئمة).

أما في عصر الغيبة وتعذر الرجوع لهم (عليهم السلام) فليس هناك شيء أقرب وأوصل من الرجوع لأهل الخبرة، وهم الذين بلغوا من العلم مرتبة تؤهلهم للتمييز بين المجتهدين، بعد الاطلاع على آرائهم العلمية في الأصول والفقه، وعلى طريقة كل منهم في الاستدلال، ومدى فهمه للأدلة، حيث قد يتضح لهم الأعلم حينئذ، فتجوز لهم الشهادة في ذلك، ويقبل قولهم.

نعم لابد من ابتناء شهادتهم على إحاطتهم بآراء أطراف التفاضل ومبانيهم العلمية وطرائقهم في الاستدلال ونحو ذلك، ولا تكفي القناعات والظنون غير المبتنية على ذلك، فضلاً عن المؤهلات الأخرى للمرجع غير العلمية.

الاعتماد على الحدس في تعيين الأعلم

لا يجوز للإنسان الاعتماد على حدسه لعمل نفسه بأن يقلد اعتماداً على الحدس، لأنه من أتباع الظن والعمل به الذي تظافرت الآيات والأحاديث بالمنع منه، وأنه لا يغني من الحق شيئاً. إلا أن يبلغ مرتبة القطع واليقين، فيجوز.

كما لا يجوز له الاعتماد على حدسه من دون فحص عن حال الآخرين في الشهادة للغير بأعلمية شخص ليقلده، إذ لابد في الشهادة من اليقين عن حس وممارسة، قال تعالى: (أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) (الزخرف – ١٩).

وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: «هل ترى الشمس؟! على مثلها فاشهد أو دع»  (وسائل الشيعة: 18 / 251.)

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك» (وسائل الشيعة: 18 / 235.).

بل لا يجوز للغير الاعتماد على الشهادة الحدسية حتى لو كان الشاهد ـ من أهل الخبرة ـ قاطعاً في حدسه متيقناً، بل يشترط في حجية الشهادة الحسّ.

2019/07/30

2019/07/30

2019/07/24

الاختلاف بين الفقهاء: هل «التقليد» باطل؟!

قد يتوهم البعض فساد التقليد لشبهة وقوع الاختلاف بين الفقهاء، واستدل البعض عليه بما روى الصدوق (ره) في معاني الأخبار وفي العلل عن علي بن أحمد الدقاق، عن محمد بن جعفر الاسدي، عن صالح بن أبي حماد، عن أحمد بن هلال، عن ابن ابي عمير، عن عبد المؤمن الانصاري قال: قلت لابي عبد الله (ع): ان قوماً يروون عن رسول الله (ص) قال: اختلاف أُمتي رحمة، فقال: صدقوا، فقلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، فقال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد، قول الله عزوجل: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ...)، فأمرهم ان ينفروا إلى رسول الله (ص) فيتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد، إنما الدين واحد([1]).

وأيضاً ما رواه السيد محمد بن الحسين الرضي في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين (ع) انه قال في ذم اختلاف العلماء في الفتيا: ترد على أحدهم القضية فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم يجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. أ فأمرهم الله بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله ديناً تاماً فقصّر الرسول في تبليغه؟ والله يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، وفيه تبيان كل شيء وذكر ان الكتاب يصدق بعضه بعضاً وانه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)،.. الحديث([2]).

والجواب:  ونحن قبل بيان الوجه في معنى الروايتين وأمثالهما لابد ان نذكر بأن هذا الاختلاف الكثير الذي نشاهده بين الفقهاء في الفتوى مرضي ومجاز من قبل الشرع الشريف، ضرورة أننا بعد ان فرغنا من وجوب التقليد وارتكازية رجوع الجاهل في كل شيء إلى العالم، وأن الائمة (ع) قد عَلِموا بأن علماء الشيعة في زمان الغيبة وحرمانهم عن الوصول إلى الإمام، لا محيص لهم من الرجوع إلى كتب الأخبار والأصول والجوامع، كما أخبروا بذلك، ولا محالة وقوع الاختلاف بين العلماء في فهم هذه النصوص والأخبار، لإمكان عثور أحدهم على حجة في غير مظانها، أو أصل من الأصول المعتمدة، ولم يعثر عليهما الآخر مع فحصه بالمقدار المتعارف، فتمسك بالأصل العملي، أو عمل على الأمارة التي عنده، فلولا ارتضاؤهم (ع) بذلك لكان عليهم الردع، إذ لا فرق بين السيرة المتصلة بزمانهم وغيرها، مما علموا وأخبروا بوقوع الناس فيه، فإنهم أخبروا عن وقوع الغيبة الطويلة([3])، وأن كفيل أيتام آل محمد (ص) علماؤهم ([4])، وأنه سيأتي زمان هرج ومرج يحتاج العلماء إلى كتب أصحابهم ([5])، فأمروا بضبط الأحاديث وثبتها في الكتب.

أي أنهم (ع)، علموا وقوع الاختلاف بين الفقهاء لاحقاً لعلمهم بوقوع الغيبة وانحصار رجوع الفقهاء الى كتب الأحاديث، مما يقتضي وقوع الخطأ في فهم البعض ومع هذا لم يمنعوا ويردعوا عن ذلك، مما يدل على رضاهم وإقرارهم له؛ هذا أولاً.

وثانياً: تقدم إن من أهم أدلة التقليد هو سيرة العقلاء وهي قائمة على رجوع الجاهل الى العالم وإن احتمل الخطأ إذا كان ضعيفاً لدرجة لا يعتد بها، فمن يراجع طبيباً فإنه يحتمل انه سيخطأ في وصف الدواء، لكن هذا الاحتمال لا يمنعه من مراجعته، نعم إذا علم اختلاف الأطباء فيما بينهم في تشخيص مرضه فالعقل يحكم بوجوب رجوعه الى أعلمهم كون طريقيته للواقع أقرب غالباً، فيكون ترجيحه بمرجح بخلاف الرجوع الى المفضول فانه ترجيح بلا مرجح؛ لكن هذه مسألة أخرى.

وثالثاً: ذهب جماعة الى ان مناط رجوع الجاهل الى العالم هو قيام الحجة وسقوط التكليف والعقاب بأي وجه اتفق سواء طابقت فتوى الفقيه الواقع او لا، وبعبارة اخرى: ان العامي انما يرجع الى الفقيه لأن قوله حجة ومعذر عند الله تبارك وتعالى، فإن طابقت فتواه الواقع فبها، وإلا فهو معذور، وبالتالي فالعمل وفق رأي المجتهد مبرئ للذمة ولا ضرر في اختلافهم  ما دام المدار على المعذّرية، لأن المجتهدين مع اختلافهم في الرأي، مشتركون في عدم التقصير في الاجتهاد، فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجة والعذر، وهما المطلوب لهم، لا إصابة الواقع الاولي.

لكن يلاحظ على هذا الطريق انه يستلزم جواز رجوع العامي لأي مجتهد وإن لم يكن أعلم، وهذا خلاف سيرة العقلاء من رجوعهم اليه عند الاختلاف!!

فإذا كان السبب هو سقوط التكليف والمعذّرية فهو متحقق بالرجوع لأي فقيه وإن لم يكن أعلم.

فإن قلت: الرجوع لأي فقيه مقيد بعدم العلم بالخلاف، وإلا وجب الرجوع الى الأعلم، وبعبارة أخرى: ان سيرة العقلاء قامت على رجوع الجاهل الى العالم لأجل الحجية وسقوط التكليف، مادام لا يعلم بالخلاف بين الفقهاء، فإذا علم به رجع الى الأعلم.

قلت: بالإضافة الى عدم قيام السيرة على ذلك، نسأل: ما هو سبب الرجوع الى الأعلم؟

فلابد من ان يكون سبباً آخر وهو أقربيته الى الواقع ([6])، لا مجرد الحجية وسقوط التكليف، وحينئذ فلابد ان نجعل الأقربية الى الواقع وضعف احتمال عدم إصابته هو المناط والسبب في رجوع الجاهل الى العالم.

والخلاصة: ففي الأمرين الأولين إجابة عن الإشكال، يبقى بيان معنى الحديثين المستدل بهما صاحب الشبهة، فنقول: ان الرواية الأولى بصدد بيان معنى الاختلاف الوارد في الحديث النبوي الشريف Sاختلاف أمتي رحمةR، فبيّن (ع) ان المراد من الاختلاف الذهاب والمجيء إلى حلقات العلم كما في قوله تعالى: (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)([7])، فليس هو في صدد بيان المنع من التقليد كما يدعي صاحب الشبهة كما هو أوضح من ان يذكر.

وأما الرواية الثانية: فيشير بها الإمام أمير المؤمنين (ع) الى مذهب أهل الرأي كما هو واضح في العنوان الذي ذكره المستشكل، والرأي يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع الى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما رجح في فكره الشخصي من تشريع.

والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما ان الفقيه قد يستند الى الكتاب او السنة ويستدل بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفر النص الى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة ابي حنيفة؛ ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت والفقهاء الذين ينتسبون الى مدرستهم([8]).


([1])  نقلاً عن الفصول المهمة في اصول الأئمة: ج2، ص92، وبحار الأنوار: ج4، ص1، ص227.

([2])  نهج البلاغة: ص 60 خطبة 18؛ الفصول المهمة في اصول الأئمة: ج2، ص92.

([3])  انظر بحار الانوار 51: 72 وما بعدها.

([4])  مستدرك الوسائل 17: 317، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 22، 23، 24، 27، 28.

([5])  الكافي 1: 42 / 11، وسائل الشيعة 18: 56، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 18. منها:  ما عن عن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبدالله ( ع): "اكتب، وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فانه يأتي على الناس زمان هرج، لا يأنسون فيه إلا بكتبهم".

وما عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبدالله (ع): "احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليها".

([6])  وهو ما تقدم بيانه في الأمر الثاني.

([7])  المؤمنون: 80.

([8])  حلقات الأصول: الحلقة الأولى.

2019/07/23

لماذا نقلّد المرجع الأعلم؟

الإنسان بطبعه إذا احتاج للعمل فيما يجهله يرجع للعالم به، وعلى ذلك جرت سيرة الناس في جميع أمور معاشهم ومعادهم، كالطب والهندسة وعلم الدين وغيرها.

وعليه دلت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام) المتضمنة للرجوع للعلماء والفقهاء. وهو حينئذ يكتفي بطبعه تبعاً لمرتكزاته بمن يتيسر له الوصول إليه من العلماء وأهل المعرفة، من دون أن يتقيد بالأعلم.

أما إذا التفت لاختلاف العلماء وأهل الفن فيما وصلوا إليه وفيما هو مورد الحاجة له ـ كما هو الحال في عصورنا حيث ظهر اختلاف فتاوى العلماء في رسائلهم العملية، وبسبب البعد عن منابع التشريع ومصادره وتعقد مقدمات الاجتهادـ، فإنه لابد أن يتوقف ويفحص عن الحق من الأقوال، لرجوع اختلافهم إلى أن كل عالم يخطّئ الآخر فيما وصل إليه، ومع تخطئة بعضهم لبعض فما المبرر للرجوع لهم والعمل بقول بعضهم دون بعض؟!

ولذا ورد في كثير من الموارد رجوع الشيعة للأئمة (عليهم السلام) عند اختلاف العلماء، لأن قولهم (عليهم السلام) هو الفصل في تمييز المخطئ من المصيب، ومعرفة الحق من الباطل.

ففي حديث خيران الخادم: «كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلي فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه، فإن الله إنما حرم شربها، وقال بعضهم: لا تصل فيه.

فكتب (عليه السلام): لا تصل فيه، فإنه رجس...». (وسائل الشيعة: 2 / 1017)

وفي حديث سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه» (وسائل الشيعة: 18 / 77). إلى غير ذلك.

نعم مع تعذر معرفة الحق، لعدم تيسر الرجوع لمن قوله الفصل ـ كما هو الحال في عصرنا هذا عصر الغيبة والمحنة ـ فالأعلمية من المرجحات العقلائية التي يعتمد عليها الناس في جميع أمورهم.

وهل يمكن لعاقل أن يعتمد في أمور معاشه في الطب والهندسة والقوانين الوضعية وغيرها على قول غير الأعلم، وترك قول الأعلم عند اختلافهما؟! فكيف بأمر الدين الذي به السعادة والنجاة من الهلكة الدائمة؟! وكيف يمكن التفريط به باتباع غير الأعلم عند الاختلاف؟! وبماذا يجيب الله تعالى إن سأله يوم يعرض عليه ويقف بين يديه؟!

وهل تكون أوامر الله تعالى ونواهيه أهون من الأمور الطبية والهندسية والقوانين الوضعية ونحوها من أمور الدنيا الفانية، ليتسامح فيها؟! وكفى بهذا دليلاً للمنصف، وحجة على المتعسف.

2019/07/21

2019/07/21

2019/07/16

2019/07/15

أمراض وأوبئة تشل العالم.. هل يعلم الله بوجود الشرور في الكون؟!

طرح البعض شبهةٌ ترتبط بوقوع الشرور في النظام الكوني الذي نعيش فيه، وملخصها هو: إن هناك بعض الشرور، مثل الأمراض والأوبئة والآلام وتحدث كذلك براكين وزلازل يترتب عليها هلاك مجموعةٍ من الناس، كما أنَّ بعض الناس باختيارهم يرتكبون جملةً من الأفعال القبيحة، كالظلم والجور والكذب ومقابلة المحسن بالإساءة، إلى غير ذلك من الأفعال القبيحة، فالشر موجودٌ حينئذٍ، فمن حقنا أن نسأل:

هل يعلم الله (تبارك وتعالى) بوجود الشرور في هذا الكون؟

فإن قلت: لا يعلم.

فيلزم من ذلك نسبة الجهل إلى الله (تبارك وتعالى)، وهذا ما لا يعتقد به الإلهيون.

وإذا كان يعلم، فهل الله (سبحانه وتعالى) قادر على إيجاد الكون من دون شرور؟

فإن قلت: غير قادرٍ يلزم من ذلك نسبة العجز إلى الله (تبارك وتعالى)، والله (جلَّ شأنه) في عقيدة الإلهي ليس عاجزًا، فإذا كان الشر موجودًا والله (تبارك وتعالى) يعلم به، وهو قادرٌ على إيجاد الكون بلا شرور، فسوف يكون هو الفاعل للشر، وحيث إنَّ فعل الشر قبيحٌ، فيلزم من ذلك نسبة فعل القبيح إلى الله (تبارك وتعالى).

وقد يقول الإلهي: إنَّ الباري (تبارك وتعالى) أوجد هذا الكون وما فيه من الشرور لحكمةٍ، وهي أن يختبر الناس، فإنَّه يقال في مقام الجواب على كلامه: إنَّ الله (تبارك وتعالى) في عقيدة الإلهي يعلم بما كان ويكون وبما سوف يكون، ولا يخفى عليه خافيةٌ، فهو يعلم نتيجة الاختبار، فلماذا يخلق الخلق لأجل نتيجةٍ هو يعلم بها قبل خلق الخلق؟

في مقام الجواب على هذه الشبهة أذكر مجموعة من الأمور، هي:

الأمر الأول: الشرور لازمة لحقيقة الكون.

الأمر الثاني: الاختبار الإلهي بين الغاية والتحقق.

الأمر الثالث: الفرق بين نتيجة الاختبار الإلهي ووقوعه.

الأمر الرابع: الخير الغالب والشر التبعي.

الشرور لازمة للكون

إنَّ وجود الشر في هذا الكون أمرٌ لازمٌ لا يقبل الانفكاك عن حقيقة هذا الكون، فإنَّ الله (تبارك وتعالى) قبل أن يخلق الخلق أراد أن يوجد نوعين من العوالم وهما:

النوع الأول: العالم الذي كله خيرٌ، ولنعبر عن هذ النوع بعالم الملائكة، فإنَّه في عالم الملائكة يوجد اختيارٌ، وهذا الاختيار لا يترتب عليه شرٌ أبدًا.

النوع الثاني: العالم الذي يوجد فيه خيرٌ وشرٌ، وهو عالم الدنيا وعالم المادة المحكوم بقوانين التزاحم وقوانين عالم الطبيعة، وخلق عالم الملائكة ليس خلقًا لعالم الدنيا، كما أنَّ إيجاد عالم الدنيا ليس إيجادًا لعالم الملائكة، فهذان قسمان مختلفان، وإيجاد أحدهما ليس إيجادًا للآخر.

لماذا لم يخلق الله الرقم (2) كالرقم (3)؟!

ومن الخطأ أن يقول شخصٌ: لماذا لم يُخلق عالم الدنيا كعالم الملائكة لا شر فيه؟ وذلك لأنَّ طرح هذا السؤال بهذه الصيغة هو نظير أن يقول شخصٌ: لماذا لم يخلق الله (تبارك وتعالى) الرقم 2 كالرقم 3، فجعله فردًا ولم يجعله زوجًا، فهذا السؤال في نفسه خاطئٌ، لماذا؟

لأنَّ الزوجية بالنسبة إلى الرقم 2 ذاتيةٌ، فلا يمكن أنَّ يوجد الرقم 2 وهو فردٌ، فإن وجد الرقم 2 فهو زوجٌ، فإذا قال لنا شخصٌ: لماذا لم يخلق الرقم 2 فردًا؟ فإنَّنا سوف نقول له بأنَّ طرحك لهذا السؤال لم يكن بطريقةٍ صحيحةٍ، لأنك لما قلت: لماذا لم يُخلق الرقم 2؟ فأنت تتحدث عن الرقم 2، ولما قلت فردًا، فأنت تتحدث عن حقيقةٍ أخرى تختلف عن حقيقة الرقم 2، فلو كان الله (تبارك وتعالى) سيحدث الرقم 2 فهذا يعني أنَّه أوجد الرقم 2، ولو كان سيحدث حقيقة فردية تتصف بالفردية فهذا يعني أنه لن يخلق الرقم 2، فإذا قيل خَلق الرقم 2 والمخلوق في خلق الرقم 2 فرد، فهذا يعني: أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) خلق الرقم 2 ولم يخلق الرقم 2 في آنٍ واحد، وذلك لأنَّ الزوجية ذاتيةٌ للرقم 2، ولا يمكن انفكاك الزوجية عن الرقم 2.

بعد اتضاح هذا المثال نقول:

إنَّ الأمر كذلك بالنسبة إلى عالم الدنيا، فعالم الدنيا حقيقته أنَّه عالم المادة، وعالم القوانين الحاكمة على المادة، و عالم التزاحم، وحقيقة كوكب الأرض أنَّه مخلوقٌ من هذه المادة، ومحكومٌ بالجاذبية، ولا يمكن أن توجد الأرض وهي مكونةٌ من حقيقةٍ أخرى، لأنَّ ما سوف يوجد هو مكونٌ من حقيقةٍ أخرى وليس هو كوكب الأرض الذي نعرفه بل هو كوكبٌ آخر، فلا يمكن أنَّ يوجد عالم الطبيعة وعالم المادة ليس مكونًا من هذه الطبيعة وهذه المادة، وليس محكومًا بهذه القوانين الحاكمة على عالمنا، لأنَّ الذي سوف يوجد حقيقةٌ أخرى، فقول القائل: لماذا لم يُخلق عالم الدنيا كعالم الملائكة؟ يعني أنَّ الله (تبارك وتعالى) لم يخلق عالم الدنيا وإنما خلق عالمٌ آخر، نظير قولنا يخلق الرقم 3 فيكون فردًا، ولا يخلق الرقم 2 الذي هو زوجٌ.

فالشرية[1] إن كانت موجودةٌ في عالم الدنيا فذلك بسبب أنَّ هذه الشرية أمرٌ ذاتيٌ لعالم الدنيا، وليست أمرًا يقبل الانفكاك عن عالم الدنيا، نعم الله (تبارك وتعالى) قدرته عامةٌ، وبإمكانه أن يوجد عالمًا آخر كله خيرٌ، وقد فعل ذلك في عالم الملائكة، وأوجد الجنّة وهي دار السلام وكل ما فيها خيرٌ، ولكن خلق الله (تبارك وتعالى) لعالم الملائكة أو للجنة يعني أنه (سبحانه وتعالى) لم يخلق عالم الدنيا، وما نعتقد نحن به كإلهيين هو أن الله (تبارك وتعالى) كما شاء أن يخلق عالم الملائكة شاء أن يخلق عالم الدنيا، وكما شاء (سبحانه وتعالى) أن يخلق الرقم 3 شاء أن يخلق الرقم 2، ومن الخطأ أن يقال لماذا لم يخلق عالم الدنيا كعالم الملائكة، لأنَّ مرجع هذا التساؤل في حقيقته إلى: لماذا خلق عالم الدنيا ولماذا لم يكتف فقط بخلق عالم الملائكة؟

الاختبار الإلهي بين الغاية والتحقق

إنَّ الله (تبارك وتعالى) خلق عالم الدنيا كما خلق عالم الملائكة لغايةٍ وهي: أن يُعرف ويُعبد، قال (جلَّ شأنه): (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ــ سورة الذاريات، الآية 56 ـــ وقال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) ــ سورة الطلاق، الآية 12 ــــ ، نعم لكي يدخل الإنسان الجنة لابد من اختبارٍ، فالباري (تبارك وتعالى) جعل الجنة مشروطةٌ بالاختبار، ومن الواضح أنَّ شرط دخول الجنة ليس العلم بالاختبار، وإنَّما واقع الاختبار، خصوصًا إذا قلنا بنظرية تجسد الأعمال، التي ترى أنَّ نعيم الإنسان في الآخرة وعقاب الإنسان فيها ليس إلا نتيجةً لفعله في الدنيا (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة ٧-٨ ،(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء ١٠ ، وبناءً على هذه النظرية، فالإنسان هو الذي يكتسب الجنة بفعله، وهو الذي يكتسب النار بفعله .

تبعية العلم المصيب للواقع

وعِلم الله (تبارك وتعالى) بأنّ الإنسان سوف يدخل في الجنة أو في النار وإن كان سابقًا على وجود الإنسان، ومتقدمًا على دخول الجنة أو النار، إلاّ أنَّه تابعٌ لوجود الإنسان ولدخول الإنسان في الجنة أو دخوله في النار، وذلك لأنَّ كل علمٍ تابعٌ للمعلوم، فلأنَّ الإنسان في المستقبل سوف يذهب إلى الجنة أو سوف يذهب إلى النار عَلِم الله (سبحانه وتعالى) بذلك من الأزل، ولو كان الله (عزَّ وجل) يعلم من الأزل بأن زيدًا سيدخل الجنة وهو في الواقع سيدخل للنار، فلن يكون ما يعلمه الله (تبارك وتعالى) عِلمًا مطابقًا للواقع.

إذًا فصاحب هذه الشبهة وقع في خلط بين موردين وهما:

المورد الأول: الخلط بين غاية الخلق وبين شرط الدخول في الجنة والنار، فإنَّ غاية الخلق العبادة والمعرفة، بينما شرط دخول الجنة والنار هو اختيار الإنسان، بأنَّ يكتسب الإنسان الفعل الحسن ويجتنب عن الفعل القبيح باختياره.

الأمر الثاني: الخلط بين سبق علم الله (تبارك وتعالى) وبين تقدم المعلوم وتبعية العلم السابق للمعلوم، فإنَّ الغاية من إيجاد الخلق تحقق العبادة في الخارج، وهذه الغايةٌ وجوداً وعدماً متقدمةٌ على العلم، لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يعلم بالأشياء كما هي، فإن كان نحو تحقق الغاية بالتزام جميع العباد، فإنَّ الله (تبارك وتعالى) يعلم من الأزل بالتزام جميع العباد، وإن كان نحو تحقق هذه الغاية التزام البعض دون البعض، فإنَّ الله (سبحانه وتعالى) من الأزل يعلم بالتزام البعض دون البعض الآخر، وبعبارةٍ مختصرةٍ نقول: نحن نعتقد أنَّ الله (جلَّ شأنه) خلق الخلق لعبادته، فلأنَّه (سبحانه وتعالى) يحب ذاته ويحب أن يُعرف و يعبد فأوجد الخلق لذلك . نعم بعض الخلائق سوف يلتزمون بعبادته دون البعض الآخر، وهذا يعلم به الله (تبارك وتعالى) منذ الأزل، إلاَّ أنَّ الغاية ليس هو العلم بتحقق الغاية الثابت من الأزل، وإنَّما الغرض والعلة هو تحقق الغاية خارجًا، وهذه الغاية سوف تتحقق ولو من بعض العباد.

وإذا قلت: لكنها لن تتحقق من البعض الآخر، فلمَّاذا خلق الله (تبارك وتعالى) البعض الآخر؟

قلت: السرّ في خلق البعض الآخر هو: أنَّ هذا الكون لا يمكن أن يوجد بمجموعه تامًا كاملًا بخلق البعض دون البعض الآخر، فإن الله (تبارك وتعالى) يوجد هذه النشأة بمادتها وبقوانينها، ثم بمقتضى هذه النشأة الذي هو أمرٌ ذاتيٌ بالنسبة إليها، يوجد مطيعٌ ويوجد عاصٍ، ولا أقلًا من احتمال ذلك، وهذا نظير مزارعٍ يرسل الماء على الأرض، وهو يعلم أنَّ بعض الحشائش الضارة تستفيد من الماء، إلاَّ أنَّ غرضه من إرسال الماء هو أن يسقي الأشجار النافعة، -طبعًا هذا المثال يقرب من جهةٍ وبعيد من جهات متعددة -، وما أريد قوله هو: أنَّ العقل يقبل أنَّ الفعل حكيمٌ في ما إذا كان يترتب على الفعل بعض الجهات السيئة التي لا يمكن أن تنفك عن الجهات الحسنة، ولكن بشرط أن تكون الجهات الحسنة غالبةً، وهذا ما سوف يأتي تفصيله لاحقًا.

الفرق بين نتيجة الاختبار الإلهي ووقوعه

لو سلمنا أنَّ الغرض من خلق الخلق هو الاختبار، فهل يمكن أن يُشكل علينا بأن الله (تبارك وتعالى) يعلم من الأزل بنتيجة الاختبار فلمَّاذا يخلق الخلق لأجل الاختبار؟

وجوابنا هو: لا يمكن أن يُشكل علينا بذلك، والسبب راجعٌ لمَّا بيانه في الأمر الثاني، وهو أنَّ هناك فرقاً بين العلم بنتيجة الاختبار وبين تحقق الاختبار وواقعه، فالباري (سبحانه وتعالى) غرضه ليس العلم بنتيجة الاختبار، وإنما أن يتحقق الاختبار خارجًا، وأن يتحقق ما يعلم به من الأزل، ويمكن أن أقرب ذلك بمثالٍ: -ونؤكد مرة أخرى على أنَّ الأمثلة دائمًا تقرب من بعض الجهات وتبعد من جهاتٍ أخر، فينبغي أن نلحظ جهات التقريب- لو فرضنا أنَّ شخصًا يعلم بأنَّه سوف يلتقي بصديقه لو ذهب إلى الحديقة، وكان غرضه أن يلتقي بصديقه، فهل يصح أن نقول لا معنى لأن يخرج إلى الحديقة لأنَّه يعلم إن ذهب إلى الحديقة فسوف يلتقي بصديقه، مما لا شك فيه عدم صحة هذا القول، وذلك لأنَّ الغرض ليس هو العلم بالالتقاء، وإنَّما هو أن يتحقق واقع الالتقاء بينهما، وهذا الواقع غير متحققٍ قبل الخروج.

والأمر كذلك بالنسبة إلى خلق الخلق إذا كان الغرض هو الاختبار، فالباري (تبارك وتعالى) يعلم بنتيجة الاختبار ولكن الغرض ليس هو العلم بنتيجة الاختبار، وإنَّما الغرض أن يتحقق الاختبار خارجًا، والاختبار ليس متحققًا خارجًا في الأزل وإنما يتحقق بعد خلق الخلق.

الخير الغالب والشر التبعي

إذا قلنا بأنَّ الشر أمرٌ حقيقي في الخارج وليس أمرًا نسبيًا، وأنَّ نشأة الدنيا لا تنفك عن الشر، فيدور الأمر بين ألا يخلق الله (تبارك وتعالى) الدنيا، وبين أن يخلقها فيترتب على ذلك الشر الموجود فيها، فهل يجوز عقلًا لله (سبحانه وتعالى) أن يخلق عَالم الدنيا فيترتب في ذلك بعض الشرور، أما يتعين على الله (تبارك وتعالى) ألا يخلق أبدًا؟

لقد ظن المستكشل أنَّه في هذه الحالة يتعين على الله (عزَّ وجلَّ) ألا يخلق أبدًا، لأنَّه إن خلق فسوف يكون (سبحانه وتعالى) قاصدًا للشر، وقصد الشر قبيحٌ.

وللرد عن هذا أقول: إنَّ قصد الشر إذا كان تبعيًا فإنَّه لا يكون قبيحًا، ولكي يتضح هذا المعنى أضرب المثال التالي:

من الأمور التي يُقرّها العقلاء ويرون حسنها إدخال وسائل المواصلات الحديثة في البلاد كالطائرات والقطرات والسيارات، وإدخال الكهرباء، مع أنَّ حوادث الموت التي تقع بسبب وسائل النقل أو بسبب الكهرباء كثيرةٌ جدًا، وتقع يوميًا، فلمَّاذا لا يلوم العقلاء المسؤولين عن البلاد لأنهم أدخلوا الكهرباء أو أدخلوا وسائل النقل الحديثة؟

السر في ذلك عائدٌ إلى أنَّ إدخال هذه الأمور وإن ترتب عليه شرٌ إلاَّ أنَّ خيرها غالبٌ، فهذه الشرور ليست مقصودةٌ في ذاتها فيما إذا أدخل المسؤولون الكهرباء أو المواصلات، وإنَّما هي مقصودةٌ بتبع قصد الخير الغالب، ولهذا لا يكون قصدها التبعي قصدًا سيئًا، يوجب اتهام المسؤولين بأنهم شرّيرون.

مسك الختام:

إذا قام دليلٌ على وجود الله (تبارك وتعالى) وهو: أنَّ هذا العالم حادثٌ، أو أنَّ هذا العالم ممكنٌ، ولا بد لكل حادثٍ من محدثٍ، ولا بد لكل ممكنٍ من واجب يقومه، فلا بد أن نقول بأنَّ الله (تبارك وتعالى) هو الذي خلق هذا الكون، لأنَّ ما نعبر عنه بلفظ الله (تبارك وتعالى) نقصد به من أوجد هذا الكون، وإذا كان في هذا الكون شرورٌ، فلا يمكن أن نستكشف من وجود هذه الشرور أنَّ الإله شريرٌ، وذلك لأنَّه من المحتمل عقلًا ـ ولا دافع لهذا الاحتمال ـ أنَّ هذه الشرور ذاتيةٌ لا تنفك عن نشأة الدنيا، فلا يمكن أنَّ توجد هذه النشأة من دون هذه الشرور، فيدور الأمر بين عدم خلق هذه النشأة، أو خلق هذه النشأة وترتب هذه الشرور، ومن المحتمل أنَّ خير هذه النشأة غالبٌ على شرها، وأنَّ الإله أوجد هذه النشأة بقصدٍ أصليٍ للخير الموجود الغالب، وقصدٍ تبعيٍ للشرور، فلا يكون إيجاده لهذه النشأة مع هذه الشرور موجوبًا لاتصافه بكونه شريرًا، بل يكون خلقه موجبًا لاتصافه بأنه خيرٌ، لأنَّه رجح الخير الغالب.


[1] مراد الكاتب هو "الشر"

2019/07/09

ما الدليل على وجوب التقليد؟

العقلاء متسالمون في الرجوع إلى من يكون من أهل الخبرة في كلّ أمر من الأمور المجهولة، فنرى إن أي شخص يصيبه مرض معين لا يتردد في مراجعة الطبيب لكي يشخص له العلة والدواء، ومن أراد أن يعرف زيف معدن ما من أصالته ـ كالذهب ـ فهو يرجع فيه إلى الصائغ وهكذا.

فالواقع شاهد أن الرجوع إلى أهل الخبرة أمر عقلائي، وهذا الأمر مرتكز في ذهن وفؤاد كلّ إنسان فضلاً عن أن يكون مسلماً، وهذا الحال ليس مقتصراً على العلوم البقية كالطب والهندسة، بل الشـريعة بما تحمله من مساحة علمية واسعة، فلا بد من مختص بعلومها لاستنباط الأحكام منها، فإذا كان البناء على أنّ التقليد ليس بواجب، فهذا معناه أن يسعى كلّ إنسان لتحصيل علوم الشريعة بنفسه واستنباط الأحكام منها للعمل بها، وتحصيل فراغ الذمّة من التكاليف المشغولة بها ذمّته جزماً، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وما شابه، وهذا الأمر متعسر على الأعم الأغلب من الناس ـ أي: بلوغ درجة الاجتهاد واستنباط الأحكام ـ باعتبار أنه يستدعي جهوداً خاصّة، وتفرّغاً تامّاً للدرس والتحصيل ممّا قد لا يقدر عليه كثير من الناس، بل إنّ أغلب الناس ـ كما هو المشاهد ـ يهمّهم تحصيل معاشهم أكثر ممّا يهمّهم تحصيل العلم واستنباط الأحكام. فلا بدّ إذاً في هذه الحالة من أن يتوفّر ذوو اختصاص في هذا الجانب يقضون حاجة الناس في معرفة أحكام الشريعة ليعملوا بها، كما هو الشأن تماماً في وجوب توفّر ذوي الاختصاص في الطبّ والهندسة والبناء والنجارة والصياغة وما شاكل ذلك ليقضوا حاجة الناس في الاختصاصات المذكورة.

الشارع أقر التقليد

فيتضح مما تقدم إن مسألة التقليد ليست بالأمر المبتدع بل هي مما جرت عليه السيرة والارتكاز في عودة الجاهل إلى العالم بذلك الاختصاص. وهذه السيرة كما تَبين لم يرد النهي عنها في الشرع المقدس، وإذا راجعنا تاريخ المعصومين منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وآله إلى نهاية الغيبة الصغرى للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، نراهم يرجعون إلى ذوي الاختصاص في كلّ احتياجات شيعتهم، بل حتى المعصوم عليه السلام كان يطبق هذا الأمر في بعض الأحيان حتى يفهم الناس إن من لم يكن مختصاً لزمه أن يرجع الى المختص، فخذ على سبيل المثال أن أمير المؤمنين عليه السلام أستشار أخاه عقيلاً في خطبة زوجة له كما هو المعروف من السيرة.

وبعبارة علمية: الدليل على جواز التقليد في الفروع هو السيرة العقلائية التي لم يردع الشارع عنها أي إنه أقرها واقرار الشارع حجة للمكلف.

وهناك مسالة مهمة وهي:

العقل حاكم بعد الجزم بثبوت أحكام إلزامية في حقّ المكلّف، وأيضاً بعد العلم بأنّ الإنسان غير مفوّض بأن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء من الأحكام، أو أن يأتي بها كيفما اتّفق، فهو يحكم ـ أي العقل ـ بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية التي اشتغلت بها الذمّة يقيناً، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وغيرها، بالشكل الذي يؤمّن المكلّف من التعرّض للعقوبة في الآخرة. وهذا الخروج منحصر في الاجتهاد والاحتياط والتقليد، ولا يوجد طريق رابع، فإذا تعسّر الأوّلان ـ وهما متعسّران على كثير من الناس فعلاً ـ تعيّن الثالث، أي: وجوب التقليد لتحصيل براءة الذمة والخروج من عهدة التكاليف واقعاً.. وهو المطلوب.

في الضروريات واليقينيات... هل نحتاج إلى التقليد؟

ومن هنا يتضح مراد الفقهاء عندما يقولون:

أنّه لا حاجة إلى التقليد في الضروريات واليقينيات؛ فالمكلّف العامّي لا حاجة له في الرجوع إلى الفقيه ليخبره بوجوب أصل الصلاة عليه، أو وجوب صوم شهر رمضان، فهذا أمر معلوم مشهور يعرفه الصغار والكبار من المسلمين، ولكنّه يرجع إليه في تفاصيل هذه الوجوبات وشرائطها وأحكامها التي يحتاج العلم بها إلى بحث وتحصيل في العلوم المختلفة للشريعة للوصول إلى الحكم الشرعي، فالمكلّف العامّي يرجع إلى الفقيه في خصوص ما يجهله وما لا يقدر على استنباطه ومعرفة أحكامه بيسر وسهولة.

ومن هنا يتضح أن ما دلت عليه الأدلة النقلية في هذا الجانب ـ وجوب التقليد ـ تعتبر من المؤيدات فلا يضر إذا كان بعض الأخبار الواردة في هذا المجال ضعيفة السند.

اشكال ورد

قد يقال: العقلاء في أغلب تعاملاتهم الحياتية وبالأخص المصيرية منها عندما يدور حالها بين أمرين مهمين كدورانه بين الموت والشفاء عند تشخيص الطبيب لدواء معين لمرض من نوع ما فإنهم لا يلجئون الى التقليد، فإذا كان الحال كذلك فمن باب أولى أن لا يلتجئوا الى التقليد في الأحكام الشرعية التي هي فوق القضايا الحياتية والمصيرية؛ لأنه تتبعها الجنّة والنار!!

والجواب:

إنّ جواز التقليد وعدمه حكم شرعي كباقي الأحكام الشرعية التي تُستنبط من مجموعة أدلة اعتبرها الشارع وقام الدليل القطعي على حجيتها، والتي منها السيرة العقلائية المتقدمة، والتي ليس هنا محل اثبات حجيتها، فإذا ثبت بدليل قطعي جواز التقليد في الأحكام الشرعية فلا يبقى فرق في كون التقليد من الأمور اليسيرة أو الخطيرة.

أضف الى ان رجوع العقلاء الى أهل الاختصاص جارٍ حتى في الأمور الخطيرة بل الأمر فيها أشد، فالإنسان قد يدَّعي العلم في أمور هو جاهل بها، لكن إذا كان الأمر خطيراً ويخاف الخطأ فيه فحينئذ يعترف بجهله ويرجع فيه الى من كان له اللياقة الكافية في معالجة مثل هذه الأمور.

الآيات الكريمة الدالة على جواز التقليد

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ولِيُنْذِرُوا  قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([1]).

دلالات الآية المباركة:

وتقريب دلالة الآية الكريمة على وجوب التقليد من جهة دلالتها على الحذر إذا أنذر الفقهاء وهذا الأمر انما يتحقق حين العمل بإنذارهم وفتواهم أي تقليدهم.

فإن الناس بعد أن هداهم الله تعالى الى الإسلام وعلموا بأنهم مكلفون بتكاليف الزامية، وإن السبيل الوحيد للعلم بهذه التكاليف هو المجيء للنبي صلى الله عليه وآله للتفقه على يده الشريفة نبهت الآية الكريمة على عدم وجوب نفر -أي مجيء- جميع المسلمين للتفقه على يد رسول الله، فمما لا شبهة فيه إن مجيء جميع المؤمنين في جميع أقطار الإسلام إلى الرسول لأخذ الأحكام منه بلا واسطة كلما عنت حاجة وعرضت لهم مسألة أمر ليس عملياً من جهات كثيرة، فضلاً عما فيه من مشقة عظيمة لا توصف بل هو مستحيل عادة.

من هنا فإن الله تعالى أراد بهذه الفقرة -والله العالم- أن يرفع عنهم هذه الكلفة والمشقة برفع وجوب النفر رحمة بالمؤمنين. وهو لا يعني عدم وجوب تعلم الأحكام الشرعية على كافة المؤمنين، فإن الضرورات تقدر بقدرها. بل يعني لا يجب على كل واحدٍ واحد المجيء للنبي صلى الله عليه وآله والتعلم منه، فلابد من علاج لهذا الأمر اللازم تحقيقه على كل حال وهو التعلم، بتشريع طريقة أخرى للتعلم غير طريقة التعلم من نفس لسان الرسول. وقد بينت بقية الآية هذا العلاج وهذه الطريقة وهو قوله تعالى: (فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

والطريقة هي أن ينفر قسم من كل قوم ليرجعوا إلى قومهم فيبلغونهم الأحكام بعد أن يتفقهوا في الدين ويتعلموا الأحكام على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لتحصيل تلك الغاية وهي التعلم. ثم ان الطائفة المتفقهة هي التي تتولى حينئذ تعليم الباقين من قومهم بل انه لم يكن قد رخصهم فقط بذلك وإنما أوجب عليهم أن ينفر طائفة من كل قوم، ويستفاد الوجوب من (لولا) التحضيضية ([2]) ومن الغاية من النفر وهو التفقه لإنذار القوم الباقين لأجل أن يحذروا من العقاب ([3])، مضافاً إلى أن أصل التعلم واجب عقلي كما قرر في محله. كل ذلك شواهد ظاهرة على وجوب تفقه جماعة من كل قوم لأجل تعليم قومهم الحلال والحرام. ويكون ذلك طبعاً وجوباً كفائياً. وإذا استفدنا وجوب تفقه كل طائفة من كل قوم أو تشريع ذلك بالترخيص فيه على الأقل لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم فلابد أن نستفيد من ذلك ايضاً أن نقلهم للأحكام قد جعله الله تعالى حجة على الآخرين فيجب على الآخرين قبول قولهم واتباعهم، وإلاّ لكان تشريع هذا النفر على نحو الوجوب أو الترخيص لغواً بلا فائدة بعد إن نفى وجوب النفر على الجميع. بل لو لم يكن تقليدهم حجة لما بقيت طريقة لتعلم الأحكام تكون معذرة للمكلف وحجة له أو عليه. والحاصل إن رفع وجوب النفر على الجميع والاكتفاء بنفر قسم منهم ليتفقهوا في الدين ويعلموا الآخرين هو بمجموعه دليل واضح على وجوب التقليد، وإلاّ كان هذا التدبير الذي شرعه الله لغواً وبلا فائدة وغير محصل للغرض الذي من أجله كان النفر وتشريعه. وهو في الواقع خير علاج لتحصيل التعليم بل الأمر منحصر فيه. فالآية الكريمة بمجموعها تقرر أمراً عقلياً وهو وجوب المعرفة والتعلم، وإذ تعذرت المعرفة من المعصوم عليه السلام مباشرة فلابد من أخذها من لسان الفقهاء.

وقد روى عبد المؤمن الأنصاري عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: «قول الله عز وجل: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ص فيتعلموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم…»([4]) الحديث.

 


(([1] التوبة: 122.

([2]) المراد من التحضيض شدة الطلب، فالآية الكريمة تأمر بشدة المجيء للنبي (ص) والتعلم منه والأمر ظاهر في الوجوب كما ثبت في علم الاصول.

(([3] فأن الآية الكريمة جعلت الإنذار غاية للتفقه وقالت: Pوَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ..O فهي تأمر بالإنذار فيجب على الذين اتوا للنبي(9) إنذار قومهم فيجب حينئذ عليهم ان يتفقهوا لأنه مقدمة للإنذار ومقدمة الواجب واجب.

([4]) معاني الأخبار: 157/ باب معنى قوله (7): «اختلاف أمّتي رحمة»/ ح 1؛ وسائل الشيعة 27: 147/ باب 11/ ح 10.

2019/07/08

هل نحن بحاجة إلى تقليد الفقيه؟!

الذي يجده الإنسان في أعماق وجدانه أن كل انسان منذ صغره يعشق الكمال بل يسعى نحوه.

وفي تحليل حركة الإنسان منذ نعومة أظفاره نجده يسعى نحو هدف يعتقده كماله فالصغير في بداية نشأته قد يعتقد أن كماله يتحقق حينما يحبو فيسعى جاهداً نحو الحبو، وحينما يحبو يعلم أن الحبو ليس كماله، فيسعى نحو المشـي لعله يحقق من خلاله كماله فيمـشي، لكنه يدرك بعد ذلك أنه لم يحقق كماله المنشود، حينها ينشد أمراً آخر لعل به يكون كماله، وقد يكون هو النطق والتكلم فيتكلم وقد يصبح فصيحاً لكنه يشعر بنار عشق الكمال مازالت تلتهب في داخله.

وهنا قد يجعل له قدوة يظن كماله يتحقق حين يصبح مثلها وهذا القدوة قد يكون أباه أو معلمه او قائده...ويصل الى مستوى قدوته أو أعلى منه لكنه يشعر بذلك الظمأ نحو الكمال أنه ما زال في داخله.

ويستمر الإنسان كبيراً يبحث عن كماله، فيظن البعض أن المال يحقق الكمال فيصبح أغنى الأغنياء لكنه يشعر بالفقر الداخلي.

ويظن البعض أن السلطة تحقق كمالهم فيصلون اليها لكنهم يشعرون بالذل الداخلي.

ويظن البعض أن الجاه يحقق كمالهم فيصلون اليه لكنهم يشعرون بذلك الجوع المعنوي مازال موجوداً في داخلهم. هنا يتعرف الإنسان بفطرته السليمة أنه يسعى نحو الكمال المطلق الخالي من كل عيب ونقيصة وكل ما ظنه الكمال كان خداعاً لأن الكمال المطلق ليس في تلك الماديات التي كان يسعى اليها بل الكمال المطلق يعرفه الإنسان بفطرته.

قال تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ  وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».[1]

فكمال الإنسان يتحقق حينما يسير على طريق الكمال المطلق وهو وإن لم يمكن له الوصول الى المطلق لفقره الذاتي لكنه يقترب منه ليتحقق كماله الإنساني كما صور القرآن الكريم كمال سيد بني البشر بقوله تعالى: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ۞ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ»[2].

وعليه فالكلام كل الكلام هو كيف يحسن الإنسان السير في طريق كماله؟

وهنا يأتي دور التقليد لأن لهذه الطريق قوانين قد حددها خالقها والإنسان بقدراته العقلية ووسائله الأخرى لا يستطيع معرفة هذه القوانين التي نظمت لصالح الإنسان في دنياه وآخرته وفي جسده وروحه وفي فرده ومجتمعه.

لذا كانت الحاجة الى الأنبياء والرسل ليبينوا لنا معالم هذه الطريق وقوانينها لنهتدي بها اثناء سيرنا فيها.

وكانت رسالة الإسلام حاملة القوانين الخالدة لمسيرة الإنسان ومع غياب صاحب الشريعة الاعظم وغيبة آخر مبين لها كانت الحاجة ماسة ليقوم ثلة من الناس بدراسة هذه القوانين ليُعرفوها للناس وذلك لعدم إمكانية الدراسة المباشرة من كل أحد لمصادر هذه القوانين.

وهؤلاء الدارسون الواصلون الى معرفة تلك القوانين هم الفقهاء.

ومن لم يستطع الوصول الى معرفتها عن طريق الدراسة كان أمامه باب لمعرفة قوانين الشريعة عبر الاعتماد على هؤلاء الفقهاء وهذا الباب يسمى التقليد.

لذا فالتقليد ـ الذي هو اتباع للفقهاء الذين درسوا ووصلوا الى معرفة قوانين الله في حياة الإنسان ـ هو المعتمد لمعرفة القوانين للعبور في طريق الكمال.

كيف نشأت الحاجة إلى التقليد؟

من المعلوم والثابت الذي لا خلاف فيه أن المصدر الأساس لأحكام الشـريعة المقدسة هو الكتاب العزيز والسنّة المطهرة، واستفادة هذه الأحكام منهما ليس بالأمر اليسير للسواد الأعظم من الناس،  لما يحيط بها من غموض بسبب العامل الزمني الممتد بين زمن المعصوم وزماننا الحاضر، فمن هذا المنطلق ولهذه الحاجة كان لابد من بذل جهد علمي كبير بغية تحصيل الحكم الشـرعي من تلك النصوص، ويتضاعف هذا الجهد كلما كان للحكم الشرعي مقدمات أكثر وزمن صدور الرواية عن المعصوم أبعد، بسبب فقدان بعض الآثار وغياب بعض القرائن، ووجود الدس والوضع في الأحاديث الشريفة لأهل البيت عليهم السلام مما يستدعي البحث عن أحوال الرواة، بالإضافة الى أن الحياة تتسارع شيئاً فشيئاً نحو التقدم والتطور مما يفرز أموراً مستحدثة لم يرد فيها نص خاص، فيستدعي ذلك استخراج أحكام شرعية لها على ضوء القواعد العامّة، ومجموع ما أُوصل الينا من أصول وتشريعات، فيكون ـ والحال هذه ـ البحث عن الحكم الشرعي بحثاً علمياً صرفاً ومعقداً غاية التعقيد لما يتطلبه من بحث مظنٍ وجهد مستمر وإن لم يكن كذلك في جملةٍ من الحالات الأخرى التي يكون الحكم الشرعي فيها واضحاً كلَّ الوضوح، وعندما ندقق في الحياة الطبيعية وتفاصيلها الكثيرة والمتنوعة كالمجال السياسي والاقتصادي والعسكري والطبي... الخ، نرى هذه المجالات تتطلب معرفة خاصة وتتفاوت نوعية هذه المعرفة فقد تكون واضحة وبسيطة ولا تحتاج الى إمعان نظر او تدبر، لكننا نجد القسم الأكبر من هذه المجالات ليس واضحاً بيّناً بل يحتاج الى جهد كبير، فمثلاً لو أصيب أحدنا بدوار او صداع فهو بحكم التجربة الساذجة يفزع حينها الى المسكنات والمهدئات، علاجاً لتلك الوعكة ولكن كثيراً من أساليب الوقاية والعلاج قد لا يعرفها إلاّ عن طريق المختص في أمثال هذه الأمور وهو الطبيب، هذا في مجال الطب، وهكذا الحال في باقي المجالات التي ذكرناها وعلى اختلاف فروعها، ومن خلال هذه المعادلة يتضح جلياً أن الإنسان بإمكانياته المتواضعة لا يمكنه تحمل مسؤولية البحث والجهد الكامل في كل ناحية من نواحي الحياة لان هذا عادة أكبر من قدرة الفرد وعمره من ناحية ولا يتيح له التعمق في كل تلك النواحي بالدرجة الكبيرة من ناحية أخرى، فاستقرت المجتمعات البشرية على أن يتخصص لكل مجال من مجالات المعرفة والبحث عدد من الناس وكان ذلك لوناً من تقسيم العمل بين الناس سار عليه الإنسان بفطرته منذ أبعد العصور ولم يشذ الإسلام عن ذلك بل جرى على نفس الأساس الذي اخذ به الإنسان في كل مناحي حياته فوضع مبدئي الاجتهاد والتقليد فالاجتهاد هو التخصص في علوم الشـريعة والتقليد هو الاعتماد على المتخصصين، فاذا كان المكلف يريد التعرف على الحكم الشـرعي اذا لم يكن ذلك الحكم من الأحكام المعلومة ضرورة في الشـريعة، فعليه ان يعتمد على المتخصص في هذا المجال وهو المجتهد في التخصص الديني، وهذا الأمر يعتبر من لطف الله تعالى بعباده اذ لم يكلف الجميع بالاجتهاد ومعاناة البحث والجهد العلمي من اجل التعرف على الحكم الشـرعي توفيراً للوقت وتوزيعاً للجهد الإنساني على كل حقول الحياة، والجدير بالذكر انه ليس لغير المتخصص المجتهد محاولة التعرف المباشر على الحكم الشـرعي من الكتاب والسنة والاعتماد على محاولته وانما الواجب عليه التعرف على الحكم عن طريق التقليد والاعتماد في اخذه الحكم الشرعي عن طريق العلماء المجتهدين، وبهذا كان التقليد أمراً واجباً مفروضاً في الدين، فيكون معنى التقليد هو الاعتماد على المتخصّصين، وقد مر سابقاً ان العلة في اطلاق لفظ التقليد على هذه العملية، هو الإشارة الى ان المكلف قد جعل عمله كالقلادة في رقبة المجتهد الذي يقلّده، وهو تعبير رمزي عن تحميله مسؤولية هذا العمل امام الله سبحانه وتعالى وليس التقليد هو التعصب والاعتقاد بما يعتقده الآخرون جهلاً وبدون دليل ففرق بين ان يبدي شخص رأياً فتسارع إلى اليقين بذلك الرأي بدون ان تعرف دليلاً عليه وتؤكد صحته، وبين إن يبدي شخص رأياً فتتبعه محملاً له مسؤولية هذا الرأي بحكم كونه من ذوي الاختصاص والمعرفة، فالأول هو التقليد المذموم شرعاً وعقلاً والثاني هو التقليد الصحيح الذي جرت عليه سنة الحياة شرعاً وعقلاً وعلى ذلك جرت العادة.


[1]   سورة النور:39.

[2] سورة النجم: 8-9.

2019/07/02

2019/06/30

ما الذي يحجز «مرجع التقليد» عن العواطف والتلاعب في الأحكام؟

الأساس في شروط مرجع التقليد الاجتهاد والعدالة.

أما العدالة فنقصد منها المرتبة العالية، وهي التي تمنع الشخص عادةً من مخالفة التكليف الشرعي ومن الوقوع في المعصية وإن كانت صغيرة، بحيث لو صدرت منه ـ نادراً ـ لأسرع للتوبة والإنابة لله تعالى.

وأما الاجتهاد فهو عبارة عن القدرة على أخذ الحكم الشرعي والوظيفة العملية من الأدلة المعتبرة الكافية في الخروج عن المسؤولية أمام الله تعالى. والفاقد للقدرة المذكورة جاهل لا معنى للرجوع إليه وتقليده. هذان هما الشرطان الأساسيان.

نعم، مع العلم باختلاف المجتهدين ـ كما هو حاصل الآن ـ لابد من ترجيح الأعلم مع الإمكان، كما أوضحنا ذلك بتفصيل في بحوثنا الفقهية[1]. ومن هنا تعدُّ الأعلمية شرطاً ثالثاً.

هل تختلف عدالة الفقيه عن عدالة الشاهد وإمام الجماعة؟

أما في عدالة مرجع التقليد فهي نابعة من أن الأمانة كلَّما عظمت وجلّت احتاجت إلى التحصين بملكة رادعة عن الخيانة بنحو أقوى وآكد.

وبعد غياب العصمة عن مقام التبليغ بأحكام الله تعالى والقيام بالوظائف الدينية لا رادع عن التلاعب بالأحكام وضياعها والتفريط في الوظائف الدينية إلا قوَّة العدالة وشدَّة الخوف من الله تعالى.

فالمرجع في التقليد يتعرض:

أولاً: للضغط النفسي عند اختيار الحكم واستنباطه من الأدلة، فإن أدلة الأحكام غير منضبطة، والنفس بطبعها تميل للفتوى بما يطابق الظنون والقناعات والعواطف، فقد يجنح الباحث للحكم، وتلبس عليه نفسه، فيستوضح الأدلة عليه بسبب ذلك، وقد يؤتى حظاً من القدرة على الاستدلال واللحن بالحجة، فيبرز ما ليس دليلاً بصورة الدليل.

ولا حاجز له عن التلاعب أو التسامح أو التغافل في ذلك إلاّ الخوف من الله تعالى، وشدة الحذر من نكاله، حين يلتفت إلى أن الخصم المحاسِب هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يُخدع بالحجج الواهية، فإنه حينئذ يتجلَّى له أن ما يقيمه من الأدلَّة هل يصلح لأن يكون حجة له مع الله تعالى، وعذراً بين يديه أو لا؟ فيحمله ذلك طبعاً على استفراغ الوسع، واستكمال الجهد لمعرفة الأدلة الحقيقية، والوقوف عندها واستنباط الحكم على أساسها.

وثانياً: للضغوط الأُخرى الخارجة عن مقام الاستدلال، إذ كثيراً ما يكون الحكم الذي تقضي به الأدلة الشرعية غير ملائم لرغبات السلطان، أو العامَّة، أو غير مناسب للظروف القائم، أو العواطف المتأججة.

كما قد يتعرض لضغط الأنانية، بلحاظ حب الظهور في الابتكار والتميُّز عن الآخرين، أو في التجديد والعصرنة، أو في التسهيل من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الناس، إلى غير ذلك مما يدعو إلى محاولة التخلص من قيود الأدلة الشرعية الحقيقية، والالتفاف عليها، والتشبث بالشُبه والمبررات للخروج عنها.

ونحن نرى أن كثيراً من ذوي العلوم العملية التي تكون نتائج الخطأ فيها ظاهرة ـ كالطب والهندسة ـ قد يخون أمانته تسامحاً أو تعمداً لبعض الدواعي المادية ـ ولو مثل الكسل والضجر ـ ويتحمل تبعات عمله وأقلها ظهور الخطأ عليه وفشله في مهمته عاجلاً أو آجلاً، فكيف بمثل علم الفقه الذي لا يظهر الخطأ والتفريط فيه لعامَّة الناس؟! وكيف يؤمن ذلك فيه لولا شدة التقوى والورع وقوة ملكة العدالة؟!

وثالثاً: أن مرجع التقليد بحكم مركزه معرض لكثير من المخاطر الدينية بسبب ابتلائه بالأموال، وامتلاكه للجاه واحتكاكه بالناس، وذلك يجعله معرَّضاً للدواعي الغضبية والشهوية والنزغات الشيطانية، فإذا لم يتحصَّن بقوَّة الورع والتقوى كان معرضاً للسقوط والهلكة، ولتشويه صورة المرجعية والدين.

كل ذلك مما يؤكد حاجة مرجع التقليد إلى شدة التدين وكونه بمرتبة عالية من العدالة والورع وتقوى الله تعالى.

وعلى ذلك جرى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بمرتكزاتهم وإجماعهم العملي على مرّ العصور، وهو من أقوى الأدلة في المقام، مدعوماً ببعض النصوص المذكورة في محلها، وبذلك صار للمرجعية وجهها المشرق ونورها المتألق.

ولذا نرى الشيعة يكنّون لمراجعهم قدسية عالية لا وجه لها لولا أنهم يفترضون فيهم القرب من الله تعالى بورعهم وتقواهم، وقيامهم بوظيفتهم الشريفة وهي إيصال أحكام الله تعالى لعباده وتقريبهم منه.

ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبت هذه الطائفة على هذا النهج اللاحب، والطريق الواضح، ويسددها في جميع أمورها، ويعصمها من الزيغ والانحراف ومن مضلات الفتن، إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.

هذا كله بالإضافة إلى أصل اعتبار كون العدالة بمرتبة عالية، وأما ترجيح الأورع عند تساوي المجتهدين في العلم فهو يبتني على أن التخيير عند تساوي المجتهدين في العلم مخالف للأصل، والمتيقَّن حينئذ جواز تقليد الأورع.

وتفصيل الكلام في ذلك في المطوّلات، وقد استوفينا الكلام فيه في كتابنا الفقهي الاستدلالي (مصباح المنهاج).


[1] اُنظر مصباح المنهاج، الاجتهاد والتقليد: 67.

2019/06/26

2019/06/26

2019/06/25

2019/06/24

2019/06/23

2019/06/22

2019/06/19

2019/06/18

2019/06/17

2019/06/16

2019/06/15

2019/06/12

2019/06/11

هل الإنسان حر في الإرادة والاختيار؟!

إنّ اختيار الإنسان، وحريّة إرادته، حقيقة مسلّمةٌ وواضحةٌ، وفي مقدور كلّ أحَد أن يُدركَه، ويقف عليه من طُرُق مختلِفة نشير إليها فيما يأتي:

ألف : إنّ وجدان كُلّ شخص يشهَد بأنّه قادرٌ ـ في قراراته ـ على أن يختارَ أحدَ الطرفين: الفعلَ أو التركَ، ولو أنّ أحداً تردّد في هذا الإدراك البديهي وجب أن لا يقبل أيَّة حقيقة بديهية أيضاً.

ب : إنَّ المدحَ والقدحَ للأشخاص المختلفين في كلّ المجتمعات البشرية الدينيّة وغير الدينيّة، علامةٌ على أَن المادحَ أو القادحَ اعتبر الممدوح، أو المقدوحَ فيه ، مختاراً في فعلهِ، وإلاّ لَما كانَ المدحُ والقدح منطقياً، ولا مُبرَّراً.

ج : إذا تَجاهَلنا اختيارَ الإنسان وحرّية إرادته، كان التشريعُ أمْراً لَغواً وغيرَ مفيد أيضاً، لأنّ الإنسانَ إذا كان مضطراً على سلوك دون اختياره، بحيث لا يمكنه تجاوزه، والخروجَ عنه، لم يكن للأمرِ والنهي والوَعد والوعيد، ولا الثواب والعقاب أيُّ مَعنى.

د : نَحنُ نرى طوالَ التاريخ البشري أشخاصاً أقدَموا على إصلاح الفردِ، أو المجتمع البشري وبذَلوا جهوداً في هذا السبيل فَحَصَلُوا على نتائجها وثمارها.

إنّ مِنَ البَدِيهي أنّ تحقّق هذه النتائج لا يتناسب مع كون الإنسان مجبوراً، لأنّه مع هذا الفَرض تكونُ كلُ تلك الجهود لاغيةً وغيرَ منتجة.

إنَّ هذه الشواهدَ الأربعةَ تؤكّدُ مبدأَ الاختيار، وحرية الإرادة، وتجعله حقيقة لا تقبل الشك والترديد.

على أنّنا يجب أن لا نستنتج من مبدأ حرية الإنسان وكونه مختاراً أن الإنسان متروكٌ لحالهِ، وأن إرادته مطلقةُ العنان، وأنّه ليس لله أيّ تأثير في فعله، لأنّ مثل هذه العقيدة التي تعني التفويض تنافي أصل احتياج الإنسان الدائم إلى الله، كما أنّ ذلك يحدّد دائرةَ القُدرة والخالقية الإلهيّتين، ويقيّدهما، بل حقيقة الأمر هي على النحو الذي سيأتي بيانهُ في الأصل التالي.

2019/06/08

في شهر رمضان: يُخير المسلم بين الصيام ودفع البدل!
* مقالة للرد على الدكتور محمد شحرور دأب المسلمون ومن بداية عصر التشريع على وضع قواعد يمكن من خلالها فهم النصوص الدينية، وهو ما يعرف في مصطلحهم بالدليل الحجة، أي الدليل الذي يكون حجة لله على عبده ـ جانب المنجزية ـ وحجة للعبد عند ربه ـ جانب المعذرية ـ واختلفوا في عدد الأدلة وخصائصها بدءاً من مصادر التشريع حتى خصوصيات كل دليل، وليس هنا محل بيان وتقييم هذه الأدلة، وإنما أردنا الإشارة الى اهتمام علماء الإسلام ومن مختلف المذاهب بوضع قواعد رصينة لفهم النص الديني، ومن دون هذه القواعد الحجة ـ أي التي ثبت من الشارع جواز العمل بها ـ يكون تفسير النص من التفسير بالرأي المنهي عنه، كما عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال: "من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار" تفسير الميزان، ج 3، ص 75، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء" بحار الأنوار، ج 89، ص 110.

[اشترك]

كما ومن الثمرات المهمة المترتبة على وضع قواعد للتفسير حصر الخلاف وتحجيمه بحيث يبقى ضمن إطار هذه القواعد ولا يخرج منها، فالبحث من دونها يكون خبط عشواء لا يستقيم، لذا يؤثر عن الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير (1694 ـ 1778)، أنه كان يرفض الحوار مع أي أحد، مالم يحدد مفاهيمه تحديداً كاملاً وواضحاً، بحيث لا يكون هناك لبس أو التباس في الفهم يحرف الحوار عن مقاصده، عن طريق الدخول في مماحكات لفظية نتيجة سوء الفهم.

وعليه فمجرد معرفة المعنى اللغوي لألفاظ الكتاب والسنة لا يكفي في تفسير النصوص، ولو كان المعنى اللغوي كاف في تفسير كتاب الله تعالى لما وقع هذا الاختلاف الفاحش بين المفسرين، فالقرآن الكريم كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي.

كيف! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم، وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر، فالخلاف كل الخلاف في التفسير ناشئ من تحديد المراد من الآيات، والمعول في ذلك على الأحاديث المفسرة والقرائن الحافّة.

والخلاصة: لا يكفي معرفة المعنى اللغوي في تحديد المراد من الآية الكريمة.

لذا يقول صاحب الميزان: وقد اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللغة، وأمر التشريع، في حكم الاجتماع وأمر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية. الميزان: ج2، ص138.

لكن مرة اخرى يتصدر المشهد الثقافي ـ العربي تحديداً ـ من ليس له دربة في الصناعة الفقهية ولا يمتلك آليات فهم النصوص الدينية، حتى وصل الأمر أن يفتي أحدهم وهو الدكتور محمد شحرور بحلية الإفطار في نهار شهر رمضان؛ مستدلاً بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». البقرة: 184.

يقول الدكتور محمد شحرور في تفسير الآيات السابقة: فالآية الأولى هي الآية المحكمة المتعلقة بالصوم، وكل ما ورد فيما يتعلق بالموضوع هو تفصيل لهذه الآية، وفي التفصيل حدد من يشمله الإعفاء من الصيام (الآية 184)، بداية من لا يتحمله (لا طاقة له به) وهما المريض والمسافر فيمكنهما تأجيل الصيام لوقت آخر، ثم من يتحمله (يطيقونه) فيمكنه دفع فدية (إطعام مسكين)، فإن كنت تستطيع الصيام فالصيام خير لك، وإن كنت لا تريد فعليك بالفدية وهي إطعام مسكين كحدٍ أدنى «فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ»، ثم في الآية (185) حدد أوقات الصيام وآليته.

والمفارقة هنا أن السادة المفسرين وضعوا (لا) قبل (يطيقونه)، فيجد الباحث عن تفسير (يطيقونه): (لا يطيقونه)، أو (يطيقونه بصعوبة) وللخروج من هذا التناقض قالوا بأن الآية الثانية نسخت الأولى، وحرموا على الناس الإفطار برمضان مهما كانت الأسباب عدا المرض والسفر، وإلا صيام شهرين متتاليين، وقد يغفر الله وقد لا يغفر، مع أن التنزيل الحكيم لم يقل بذلك، وصيام شهرين متتاليين هو كفارة قتل النفس بالخطأ، أو الظهار، فالصيام عقوبة لما فيه من مشقة، .. فنسفوا «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر» فأي يسر في صيام العمال في المناطق الحارة حيث تبلغ درجة الحرارة حدود الخمسين، أو في صيام سكان شمال أوروبا حيث النهار اثنين وعشرين ساعة؟ أي أن الله (حاشاه) حملنا ما لا طاقة لنا به ولم يستجب لدعائنا «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» (البقرة 286). مقال للدكتور محمد شحرور بعنوان الصيام وفق الاستطاعة.

فيخلص الى ان الشرع المنيف قد خيّر المسلمين ممن يتحملون الصيام بين الصوم وبين دفع الفدية.

واعتمد في تفسيره على لفظ (يُطِيقُونَهُ)، ففسرها بالتحمل والاستطاعة، فيكون المعنى ان من يتحمل الصيام يمكنه دفع فدية (إطعام مسكين)، فإن كنت تستطيع الصيام فالصيام خير لك، وإن كنت لا تريد فعليك بالفدية. فالإشكال نابع من تفسيره لهذه الكلمة.

ويمكن أن نلاحظ عليه أنه لم يأت بسند من كلام اهل اللغة ولا غيرهم يؤيد دعوته، بينما قد ذكر اللغويون أن المعنى لهذه الكلمة هو القدرة مع المشقة العظيمة، وإعمال غاية الجهد. ففي لسان العرب: الطوق: الطاقة أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكنه أن يفعله بمشقة منه. ونقل عن ابن الاثير والراغب أيضا التصريح بذلك.

قال في تفسير المنار نقلاً عن شيخه: فلا تقول العرب: أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة شديدة. تفسير المنار لمحمد رشيد رضا: ج2، ص156.

وعليه فيكون المعنى من الآية «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»: وعلى الذين يستطيعون الصيام لكن بمشقة وجهد كالشيخ الهرم، وذي العطاش دفع فدية طعام مسكين، فتكون الآية في مقام بيان من رُخص له الإفطار، وهذا ما فهمه الفقهاء والمفسرون من الآية.

والخلاصة: الآية الكريمة في مقام بيان من يُرَخص لهم الإفطار في شهر رمضان، وهم من يقدرون على الصيام لكن بمشقة وحرج، وقد بينت الروايات مصاديق متعددة لهؤلاء، ففي تفسير العياشي صفحة 78، عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض. وفيه أيضا عن الباقر عليه السلام: في الآية، قال الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.

وفي تفسيره أيضا عن الصادق عليه السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير.

أقول: والروايات فيه كثيرة عنهم عليهم السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة وقد استمر مرضه الى رمضان القادم، وليس المراد منه المريض في أيام شهر رمضان، فقد أشار اليه في الآية السابقة بقوله تعالى: «فمن كان منكم مريضا»، والعطاش مرض العطش.

وأما قوله: والمفارقة هنا أن السادة المفسرين وضعوا (لا) قبل (يطيقونه)، فيجد الباحث عن تفسير (يطيقونه): (لا يطيقونه)، أو (يطيقونه بصعوبة) وللخروج من هذا التناقض....

فادعى ان المفسرين لكي يجبروا الناس على صيام الشهر خلافاً للقرآن سلكوا مسلكين:

الأول: أنهم قدروا كلمة (لا) قبل (يطيقون) فيكون المعنى وعلى الذين لا يطيقون الصيام فدية إطعام مسكين.

الثاني: فسروا قوله تعالى: (يطيقونه) بالقادرين على صيامه بشدة وحرج. 

مع أن التنزيل الحكيم لم يقل بذلك، بالإضافة الى أن الأمر بصيام الشهر مخالف لنصوص القرآن الأخرى التي بنت أحكام الدين على التيسير دون العسر، وأي يسر في صيام العمال في المناطق الحارة حيث تبلغ درجة الحرارة حدود الخمسين، أو في صيام سكان شمال أوروبا حيث النهار اثنين وعشرين ساعة؟ أي أن الله (حاشاه) حملنا ما لا طاقة لنا به ولم يستجب لدعائنا «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» (البقرة 286).

أقول: تقدم أن تفسيرهم (يطيقونه) بالقدرة مع المشقة هو ما قاله أهل اللغة، فيكون دليلاً على صحة تفسيرهم، دون ما ادعاه ـ القدرة والاستطاعة ـ خصوصاً وهو لم يأت بدليل من كلمات اللغويين يؤيد مذهبه.

وأما بناء احكام الدين على التيسير، فالحكم المذكور لا ينافيه، وقد ذكرنا أن الآية الكريمة بصدد بيان حكم المستثنين عن وجوب الصيام، فبعد أن أوجب الشارع الصوم على كافة المسلمين استثنى طائفتين، الأولى: المريض والمسافر، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلاً عنه.

 والثانية: من كان يشق عليهم وهم المرادون من قوله تعالى (يطيقونه) فلم يوجب عليهم الصيام، كما لم يوجب عليهم تعويضه في أيام أخر، كالفئة السابقة، وإنما اكتفى منهم بفدية طعام مسكين.

2019/05/22

2019/05/14

2019/05/13

2019/05/12