قبل خلقه: من أين عرفت ’’الملائكة’’ بسفك الإنسان للدم؟!

قالت الملائكة لله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ... )[1] ، فظاهر الآية أنّ الملائكة كانت على علم بما سيقع ، من أين علمت؟ ونلاحظ أنّ الملائكة في ظاهر الآية أبدت اعتراض لمشيئة الله، فكيف نفسّر هذا؟

إنّ الملائكة قد رأوا من قبل ما فعله الجنّ في الأرض من الفساد، والحديث عن الخلافة الإلهية في الأرض، وهذه لا تتلاءم مع السفك والفساد، فبتحليلهم الخاصّ كأنّما قالوا في مقام الاستفهام وليس الاعتراض والاستنكار: أنّه كيف تجعل فيها خليفة لك، وهو بطبيعته سوف يسفك الدم ويفسد في الأرض، كما حدث لأبناء آدم عليه السلام؟

فأجابهم الله تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، كما أنّه يعلم غيب السماوات والأرض.

هذا، وأجاب السيّد الطباطبائي بجواب آخر فقال: قوله تعالى: (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) إلى قوله: (وَنُقَدِّسُ لَكَ) مشعر بأنّهم إنّما فهموا وقوع الإفساد وسفك الدماء من قوله سبحانه: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[2] ، حيث أنّ الموجود الأرضي بما أنّه مادّي مركّب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار التزاحم ، محدودة الجهات وافرة المزاحمات ، مركباتها في معرض الانحلال، وانتظاماتها وإصلاحاتها في مظنّة الفساد ومصبّ البطلان ، لا تتمّ الحياة فيها إلاّ بالحياة النوعية ، ولا يكمل البقاء فيها إلاّ بالاجتماع والتعاون ، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء.

ففهموا من هناك أنّ الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلاّ بكثرة من الأفراد ، ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى الفساد والسفك ، والخلافة وهي قيام شيء مقام آخر لا تتمّ إلاّ بكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجودية ، وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف، والله سبحانه في وجوده مسمّى بالأسماء الحسنى ، متّصف بالصفات العليا ، من أوصاف الجمال والجلال ، منزّه في نفسه عن النقص ، ومقدّس في فعله عن الشرّ والفساد جلّت عظمته ، والخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ، ولا يحكي بوجوده المشوب بكُلّ نقص وشين الوجود الإلهي المقدّس المنزّه عن جميع النقائص وكُلّ الأعدام ، فأين التراب وربّ الأرباب.

وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه، واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شيء، والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: (إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[3] حيث صدّر الجملة بأن التعليلية المشعرة بتسلّم مدخولها ، فافهم.

فملخّص قولهم يعود إلى أنّ جعل الخلافة إنّما هو لأجل أن يحكى الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والأرضية لا تدعه يفعل ذلك، بل تجرّه إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟ فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ...)[4].[5]

الهوامش:

[1]  البقرة : 30.

[2] البقرة : 30.

[3] البقرة : 32

[4] الميزان في تفسير القرآن 1 / 115.

[5] مقتطف من كتاب "موسوعة الأسئلة العقائدية".