هل يمكن للإنسان أن يكون متديناً دون الالتزام بالأحكام الشرعية؟

التدين كلمة مشتقة من الدين وهي تعني الطاعة والتسليم والخضوع والتذلل والعبودية، وفي الاصطلاح الإسلامي تعني الإيمان والعمل بكل ما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من عقائد وتشريعات.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ولا يتحقق التدين الواقعي إلا باستسلام القلب والجوارح وخضوعها لله عز وجل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فقد نصت الآية على اقتران الإيمان بعمل الصالحات فلا يكون الإنسان مؤمناً وهو تارك للصلاة ومانعاً للزكاة، ولذلك توعد الله تعالى تارك الصلاة والزكاة بنار جهنم حيث اخبر عن مصيرهم يوم القيامة بقوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)، وقال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، ولم يتوعد الله تارك الصلاة فقط بل توعد المصلي المستهين بصلاته، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)، وعليه لا يستقيم التدين ولا يكون الإنسان مؤمناً ولا يتصف بالإسلام دون الالتزام بالفرائض والعبادات، ففي الحديث عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّـداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض الله؟. قال: وسمعته يقول: كان علي (عليه السلام) يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام. قال: وقلت لأبي جعفر(عليه السلام): إنّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّـداً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مؤمن. قال: فلمَ يضربون الحدود، ولمَ تقطع أيديهم؟! وما خلق الله عزّ وجلّ خلقا أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين، وأنّ جوار الله للمؤمنين وأنّ الجنّة للمؤمنين، وأنّ الحور العين للمؤمنين. ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟»

وقد أجمعت الأمة على كفر من أنكر ضرورات الدين؛ لأن ذلك يستلزم إنكار الرسالة وتكذيب القرآن، فعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر"، وعنه (صلى الله عليه وآله): "ما بين المسلم وبين أن يكفر إلا أن يترك الصلاة الفريضة متعمداً أو يتهاون بها فلا يصليها".

هناك خلاف بين الفقهاء حول منكر الضرورة هل إنكاره يعد سبباً بنفسه للكفر أم أنه سبب لاستلزامه إنكار الرسالة وتكذيب القرآن؟ يقول السيد الخوئي في كتاب الطهارة: "وهل هناك أمر آخر يعتبر الاعتراف به في تحقق الإسلام على وجه الموضوعية ويكون إنكاره سببا للكفر بنفسه؟ فيه خلاف بين الأعلام فنسب في مفتاح الكرامة إلى ظاهر الأصحاب أن إنكار الضروري سبب مستقل للكفر بنفسه وذهب جمع من المحققين إلى أن إنكار الضروري إنما يوجب الكفر والارتداد فيما إذا استلزم تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وإنكار رسالته كما إذا علم بثبوت حكم ضروري في الشريعة المقدسة وأن النبي - ص - أتى به جزما ومع الوصف أنكره ونفاه، لأنه في الحقيقة تكذيب للنبي - ص - وإنكار لرسالته وهذا بخلاف ما إذا لم يستلزم إنكاره شيئا من ذلك كما إذا أنكر ضروريا معتقدا عدم ثبوته في الشريعة المقدسة وأنه مما لم يأت به النبي - ص - إلا أنه كان ثابتا فيها واقعا بل كان من جملة الواضحات فإن انكاره لا يرجع حينئذ إلى إنكار رسالة النبي فإذا سئل أحد - في أوائل إسلامه - عن الرباء فأنكر حرمته بزعم أنه كسائر المعاملات الشرعية فلا يكون ذلك موجبا لكفره وارتداده وإن كانت حرمة الرباء من المسلمات في الشريعة المقدسة لعدم رجوع إنكارها إلى تكذيب النبي - ص - أو إنكار رسالته ومما ذكرناه يظهر أن الحكم بكفر منكر الضروري عند استلزامه لتكذيب النبي - ص - لا تختص بالأحكام الضرورية لأن إنكار أي حكم في الشريعة المقدسة إذا كان طريقا إلى إنكار النبوة أو غيرها من الأمور المعتبرة في تحقق الإسلام على وجه الموضوعية فلا محالة يقتضي الحكم بكفر منكره وارتداده، هذا وعن شيخنا الأنصاري (قدس) التفصيل في الحكم بارتداد منكر الضروري بين المقصر وغيره بالحكم بالارتداد في الأول لإطلاق الفتاوى والنصوص دون غيره إذ لا دليل على سببية إنكاره للارتداد وعدم مبغوضية العمل وحرمته في حقه، وما لم يكن بمبغوض في الشريعة المقدسة يبعد أن يكون موجبا لارتداد فاعله وكفره".

وبعيداً عن هذا التفصيل الفقهي فإن الأمر المسلم به والمجمع عليه عند جميع المسلمين لا يعد الإنسان مسلماً متديناً ما لم يؤدي ما عليه من فروض وواجبات، ولم يخالف الصوفية في ذلك، فحتى لو اختلفنا مع التصوف في مناهجه إلا أنه لا يجوز اتهامهم بما ليس فيهم، فعلماء التصوف وأئمتهم يصرحون بأن العبد لا يكون عارفاً إلا من خلال الالتزام بالشريعة، يقول سهل بن عبد الله التستري المُتوفَّى سنة ٢٧٣ أو سنة ٢٨٣: «ما من طريق إلى الله أفضل من العلم (يعني العلم بالشرع)، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلمات أربعين صباحًا» ويقول أبو سعيد الخراز المُتوفَّى سنة ٢٧٧: «كل باطن يخالف ظاهرًا فهو باطل» ويقول أبو بكر الزقاق الكبير، وكان من أقران الجنيد: «كنت مارًّا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر» ويقول الغزالي في الاحياء:  «من قال إنَّ الحقيقة تُخالف الشريعة والباطن يخالف الظاهر، فهو إلى الكفر أقرب، وكل حقيقة غير مقيَّدة بالشريعة فغير محصولة. فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق. فالشريعة أن تَعبده، والحقيقة أن تَشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قدر وأخفى وأظهر».

 وقد أنكر الصوفية على من ادعى سقوط الشريعة وتحلل عن العبادات المفروضة، ففي كتاب (تلبيس إبليس) يقول جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي المُتوفَّى سنة ٥٩٧: «وقد أخبرنا ابن ناصر بإسناد عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: قيل لأبي نصر النصر اباذي إن بعض الناس يُجالس النسوان ويقول: «أنا معصوم في رؤيتهن» فقال: «ما دامت الأشباح قائمة فإن الأمر والنهي باقيان، والتحليل والتحريم مُخاطَب بهما» وقال أبو علي الروذبادي وسُئل عمن يقول: «وصلت إلى درجة لا يؤثر فيَّ اختلاف الأحوال.» فقال: «وقد وصل ولكن إلى سقر» وبإسناد عن الجريري يقول: سمعت أبا القاسم الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة فقال الرجل: «أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله عز وجل» فقال الجنيد: «إنَّ هذا قولُ قومٍ تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يَسرق ويزني أحسن حالًا من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يُحال بي دونها؛ لأنه أوكد في معرفتي به وأقوى في حالي». وبإسناد عن أبي محمد المرتعش يقول: سمعت أبا الحسين النوري يقول: «من رأيته يدَّعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن علمٍ شرعي، فلا تقربَنَّه، ومن رأيته يدَّعي حالة باطنة لا يدلُّ عليها ويشهد لها حفظ ظاهر، فاتَّهِمْه في دينه.».