فكر وثقافة
معارف وتكنولوجيا: هل يرفض الإسلام ’العولمة’؟

العولمة من حيث المبدأ فكرة مقبولة ولا تتعارض مع الإسلام، وإنما يستهدف الإنسان بما هو في أي مكان وزمان، فرسالة الله لجميع العباد وخطابه لجميع البشر.

[اشترك]

قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، واعتبر القرآن التباينات العرقية والثقافية من المكاسب الإيجابية التي تمكن البشرية من التعاون والتكامل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وحرم الإسلام على المؤمنين أي شكل من أشكال السخرية والاستهزاء بالآخرين، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وقد ذكّر القرآن الإنسانية بأصلها المشترك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) ومن كل ذلك جاز لنا أن نقول إن الإسلام يدعو للعولمة على أساس التوحيد ومكارم الأخلاق والتعاون المشترك، فالإسلام ضمن هذه الرؤية يجب أن يكون مبادراً وفاعلاً وليس مجرد متلقي ومنفعل بعولمة الآخرين.

فمن المؤكد أن الإسلام لم يضع حدوداً أمام الأمة الإسلامية في انفتاحها على الأمم الأخرى، إلا أننا يجب أن نفرق بين الأمة التي أراد الإسلام أن يواجه بها الأمم الأخرى، وبين الواقع الفعلي للأمة، فمن المعروف أن انفتاح الشعوب والأمم على بعضها يصاحبه تأثير وتأثر، وكلما كانت الأمة قوية ومتماسكة فكرياً وثقافياً وتحمل مشروعاً ورؤية حضارية واضحة كلما كان تأثيرها قوياً على الأمم الأخرى، إلا أن الواقع الفعلي للمسلمين يجعلهم أكثر عرضة للتأثر والانفعال السلبي، فالواقع الراهن يشهد بأن العولمة الغربية هي التي غزت المسلمين في عقر دورهم، ومع الأسف لم يكونوا مستعدين لذلك لا ثقافياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياً، فاصبحوا بذلك عرضة للذوبان والاستسلام أمام كل ما تشترطه العولمة الحديثة، فتقلصت بشكل كبير هوامش المبادرة الإسلامية والعربية.

وإذا تتبعنا الوضع الذي يعيشه العالم اليوم لوقفنا على هيمنة القطب الواحد على كل مفاصل الحياة الإنسانية، وقد صودرت كل الخيارات الخاصة بالإسلام لصالح الخيارات التي تطرحها الحضارة الغربية، وليس الأمر متوقف على النظم السياسية ومفاهيم الحكم والدولة، أو النظم الاقتصادية والتجارة الدولية أو النظم التي تحكم علاقة المجتمعات الداخلية، أو النظم التعليمية والإعلامية، بل وصلت الهيمنة والتأثير إلى مستوى تبدلت معه الشخصية التقليدية للإنسان المسلم، ففرضت العولمة سلوكها وآدابها وثقافتها الحياتية ابتداءً من طريقة اللبس والأكل وانتهاءً برفع كل الحدود الفاصل بين الرجال والنساء.

صحيح أن هناك مكاسب إيجابية للعولمة مثل انتقال العلوم والمعارف والتكنلوجيا الحديثة، إلا أننا كمسلمين مجرد مستهليكن غير مساهمين، وما نعيشه من ضعف وهوان جعلنا غير مستعدين لمواجهة الحضارة العالمية فأصبحنا لقمة سائغة تلتهمها الحضارة الغربية بكل يسر وسهولة، فلم تكن الأمة الإسلامية مستعدة على مستوى الهوية الإسلامية أو حتى الهوية والوطنية، ولم تكن مستعدة على مستوى التجارة والاقتصاد حيث ابتلعت العولمة الغربية كل خيارات المسلمين، ولم تكن مستعدة سياسياً حيث أصبحت حكوماتنا ألعوبة في يد الغربيين، وهكذا أصبحنا منفعلين ومتأثرين أكثر من كوننا فاعلين.

2021/11/16

إعلام ضعيف ونفسيات مضطربة.. هكذا ينمو الإلحاد!

الإلحاد ومسبباته

انتشار ظاهرة الإلحاد خصوصاً بين الشباب المبتعثين هل هو لضعف الثقافة الدينية أم لقوة في منطق الإلحاد وأدلته؟

[اشترك]

ظاهرة الإلحاد كسائر الظواهر التي عندما نريد أن ندرسها لا بد من أن ندرسها بطريقة علمية وفي تسليط الضوء على العوامل والأسباب التي أسهمت وساعدت في تولد هذه الظاهرة وانتشارها خصوصاً بين شبابنا المبتعثين في الخارج للدراسات. ونحن عندما نسلط الضوء على ظاهرة الإلحاد نكتشف أنّ هناك عدة عوامل ساهمت في انتشار هذه الظاهرة، فهناك عوامل فكرية وهناك عوامل إعلامية وهناك عوامل نفسية ونحن نتحدث عن كل عامل من هذه العوامل بتفصيل ووضوح.

العامل الأول: ألا وهو العامل الفكري بمعنى أن يرجع الإلحاد إلى مدارس فكرية، وجذور فكرية وأيدلوجية مؤسسة ينتج عنها تبني الإلحاد، في البداية لا بد أن نفرق بين عدة ألوان؛ فهناك الملحد وهناك اللا ديني وهناك الربوبي وهناك المشكك وهناك اللا أدبي وهناك العلماني؛ هناك ألوان لا ينبغي أن نخلط بعضها بالبعض الآخر. الملحد وهو الذي ينكر وجود المبدأ لهذا الكون ووجود الخالق. هناك اللا ديني الذي يعترف بوجود خالقه ولكن يقول أنا لا أعترف بجميع الأديان واعتبرها اجتهادات وأفكار بشرية وضعها ما يسمى بالأنبياء والرسل.

هناك مثلاً الربوبي وهو الذي يعتقد بوجود الله ولكن يعتقد أن الله برأ هذا الكون وأبدع هذا الوجود ثم اعتزل وترك الكون يسير عبر أنظمة فيزيائية دقيقة فهو يُحكم مسيرته بنفسه بلا حاجة إلى أن يتدخل الإله في مراحل مسيرة الكون. هناك اللا أدبي الذي يقول أنا لا أريد أن أشغل نفسي في الفكر الديني هل هو صحيح أم لا، أنا مهمل أنا لا أدري عن شيء من ذلك أو أنا لا أستطيع أن أتصور هذه المفاهيم فأتركها. وهناك المشكك الذي يقول بأنني استمعت إلى أدلة رجال الدين استمعت إلى البراهين التي تطرحها الأديان على وجود المبدأ على وجود النبوات فلم أقتنع بشيء منها.

وهناك العلماني وهو الذي يفصل الدين عن الحياة ويقول بأن الدين هو ظاهرة ودور شخصي بين الإنسان وبين ربه صح أم أخطأ وليس للدين بصمات منعكسة على مجالات الحياة المختلفة سواء بالسياسة أو في الاقتصاد أو في العلاقات الاجتماعية العامة. نحن الآن نركز على الأقسام الثلاثة الأولى:

الأول: من ينكر المبدأ تعالى، والثاني: من يعترف بالمبدأ وينكر الأديان، والثالث: من يعترف بالله وينكر نفوذه ونفوذ سلطنته وقدرته في إدارة هذا الوجود. فنحن عندما نتحدث عن هذه الألوان الثلاثة نقول: هناك عوامل أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد التي تشمل الألوان الثلاثة، العامل الأول كما قلنا هو العامل الفكري، والعامل الفكري يتمثل في نوعين:

النوع الأول: هو نجاح العلم الحديث سواء على مستوى فيزيائه وكيميائه وفلكه أم نجاح العلم الحديث في تفسير الظواهر. لاحظوا أنّ الطرح الديني الذي كان سائداً قبل -لنفترض- 300 سنة أو 400 سنة كيف كان يتعامل مع الظواهر كظاهرة المطر وظاهرة الخسوف والكسوف وظاهرة الزلازل وظاهرة الأوبئة المنتشرة كيف كان يتعامل معها الطرح الديني آنذاك، كانت هذه الظواهر تطرح بصفتين صفة ميتافيزيقية غيبية وصفة غائية، الصفة الميتافيزيقية أن يقال: إنّ المطر تديره ملائكة والرياح تديرها ملائكة وكذلك الخسوف والكسوف يرجع إلى تدخل ملائكي في إبراز هذه الظاهرة تفسر ظواهر الكون التي تحيط بالإنسان بأن لها بعداً ميتافيزيقياً غيبياً لا يصل الإنسان إلى حقيقته وكُنهه، لذلك يتعامل الإنسان مع جميع الظواهر التي حوله بأنه يستسلم لها لأنه لا يستطيع أن يفهمها ولا أن يفسر كيف يتعامل، ومعها الصفة الثانية هي الصفة الغائية بأنّ جميع أحداث الكون حتى الزلازل وحتى البراكين جميع أحداث الكون وحتى الأمراض التي تحدث على الأرض هي لغاية إلهية يريدها الله، فهناك غاية يعرفها الله تبارك وتعالى وجميع ما في الكون من أحداث حتى لو كانت أحداثاً مدمرة هي أحداث منوطة بغاية وليست أحداثاً اعتباطية، وفي مقابل هذا الطرح الديني نجح العلم بنظر الناس في أن يبدد هذا الطرح الديني بكلتا الصفتين؛ أولاً استطاع أن يفسر هذه الظواهر تفسيراً مادياً خالياً من البعد الغيبي، ليس هناك بعداً غيبياً في ظاهرة المطر، هناك عملية تكوينية واضحة أنّ الشمس تسطع بأشعتها على ماء البحر فيتبخر الماء فيتحول إلى هذه المادة الغازية المكثفة وتمر الرياح عليها فترجع ماءً مرة أخرى من دون بعدٍ ميتافيزيقي آخر. ظاهرة الخسوف وظاهرة الكسوف كلها ظواهر كونية لها أسبابها الكونية المعروفة، لا نحتاج إلى أن ندخل بعداً غيبياً في تكون هذه الظواهر

وثانياً: في الصفة الأخرى لا توجد غاية، فهذه الظواهر أمور طبيعية تحدث عند حدوث أسبابها من دون وجود غاية وراء ذلك ولا هدف وراء ذلك، فاستطاع العلم تبديده لصفتي الغيبية والغائية في تحليل ظواهر الكون وأن يعبر إلى أذهان الملحدين فيقال إذا استطاع العلم أن يفسر هذه الظواهر فإنّه سيستطيع أن يفسر الظواهر الأخرى. ما يقال عنه بأنّه روح ليس هناك روح ليس هناك إلا أبعاد مادية كان الناس يسمونها بالروح؛ لأنهم لم يكونوا يدركون أسبابها المادية، ليس هناك فرق بين الموت والحياة إلا بفرق فيزيائي محض، وأما دعوة أنّ هناك روحاً يستلمها ملك الموت وتعرج إلى عالم آخر فكل هذا إنما هو تفسير ميتافيزيقي غيبي، والعلم كما فسّر ظاهرة المطر وظاهرة الخسوف والكسوف سيفسّر لنا ظاهرة الموت بتفسير فيزيائي واضح من دون أن نحتاج إلى إدخال الأبعاد الميتافيزيقية والغيبية. مثلاً عندما نأتي إلى مسألة الانفجار العظيم لهذا الكون وما طرحه (ستيفن هوكينج) في هذا المجال يقال بأنه إذا قرأنا هذه النظرية التي أصبحت الآن تتربع على جميع النظريات في تفسير وتحليل مبدأ الكون نجد أنّ الانفجار حدث صدفة وبشكل عشوائي بدون أسباب غيبية أو غائية وراء ذلك، إذن يمكن للعلم أن يُزحزح الدين عن كونه مصدراً للإجابة عن الأسئلة ويحل العلم محله وتنتهي ظاهرة التديّن من هذا الوجود، ومن هذا المجتمع البشري. هذا عامل من العوامل الفكرية التي أسهمت في انتشار ظاهرة الإلحاد. والنوع الثاني: هو بروز الفلسفة الوضعية. ففي القرن الثامن وعلى يد الفيلسوف الفرنسي (كانت) أسس ما يسمى بالفلسفة الوضعية تبتني هذه الفلسفة على أنّ ما لا يمكن رصده فلا وجود له، أنت تستطيع أن ترصد الخسوف والكسوف وله وجود، تستطيع أن ترصد الجاذبية من خلال رصد أثارها، فالجاذبية لها وجود، تستطيع أن ترصد الثقوب السوداء بألحاظ أثارها، فلها وجود، أما المَلَك أو الروح أو الإله أو الآخرة بما أنّه لا يمكن رصدها إذن لا وجود لها. ثم جاء الفيلسوف الانكليزي (آلن) عام 1936 ورسخ الفلسفة الوضعية وأضاف إليها هذه الصفة (الفلسفة الوضعية المنطقية)، والفلسفة الوضعية المنطقية تقوم على مبدأ التثبت، ما هو مبدأ التثبت؟

يقال: كل قضية تعرض عليك لها معيار في تصديقها أو تكذيبها، والمعيار العلمي في تصديق القضية إما معيار تجريبي وإما معيار رياضي وإما معيار منطقي، ولا يوجد معيار رابع بحسب الحصر العلمي. ففي المعيار التجريبي نقول: كل ماء تبلغ درجة حرارته (100) فإنّه يغلي، هذه قضية هي بحد ذاتها قضية تجريبية نعرضها على المعيار التجريبي لنثبت صحتها من فسادها، نأتي إلى القضية الرياضية فنحن عندما نقول 4 نصف 8 و4 ربع 16 هذه قضية معيار صدقها هو المعيار الرياضي، والمعيار المنطقي بمعنى أنّ القضية عندما تعرض بألفاظها يعني بما لها من مادة وصورة في عالم الألفاظ فهي تثبت صدقها من كذبها من خلال ألفاظها، فأنا عندما أقول أنا مفكر فهذه قضية بنفسها تثبت صحتها أو فسادها؛ لأنها تبتني على مادة وصورة ومضمون يتلقفه ذهن المخاطب ليستطيع أن يحلل صدقه من كذبه، أما القضايا الميتافيزيقيا  -المَلَك، الآخرة، الله، الروح- هذه القضايا لا يمكن عرضها لا على المعيار التجريبي ولا على المعيار الرياضي ولا على المعيار المنطقي، فإذا لم يوجد معيار لمحاكمتها فهي إذن قضايا افتراضية لا نشغل أنفسنا بها، لذلك الفلسفة الوضعية المنطقية التي تقول لا تعنينا هذه القضايا الدينية لأنه لا يمكن إخضاعها لمقياس التصحيح والتخطئة لذلك أنتجت عن هذه الفلسفة الوضعية بروز ظاهرة الإلحاد.

لاحظوا (أنتوني فلو) هذا أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد الذي كان 80 سنة من حياته ملحداً ثم انقلب على الإلحاد وكتب كتابه المشهور (هناك إله)، هذا المفكر في زمان إلحاده كتب عدة كتب منها (فرضية الإلحاد) جعل الكرة في ملعب المتدينين، قال نحن لا نحتاج إلى أن نثبت عدم وجود الإله!! أنتم أيها المتدينون تحتاجون إلى إثبات وجود الإله؟! لأننا عندنا مقياس لصحة كل قضية إما تجريبي وإما رياضي وإما منطقي؟ قضاياكم لا تخضع لهذا المقياس أنتم الذين تحتاجون إلى إثبات فرضية الإله!! لأننا الذين لا نحتاج إلى نفي هذه الفرضية؛ فجعل الكرة في ملعب المتدينين. من العوامل الفكرية التي أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد هو مبدأ حساب الاحتمالات، ومبدأ حساب الاحتمالات ألغى المنطق الأرسطي، وأنا لا أريد أن أدخل في تحليل هذه الجهة، والمنطق الأرسطي يعتبر بحسب المنطق الرياضي أنه منطق عقيم، منطق لا ينتج؛ لأنّ النتيجة مستبطنة ومختزنة في إحدى مقدمتي القياس، فبما أنّ النتيجة مستبطنة في إحدى مقدمتي القياس إذاً هو قياس صوري واستدلال شكلي، وإلا فالمقدمة والنتيجة هي موجودة في رحم المقدمة، لذلك إنّ المنطق الأرسطي لا يصلح للاستدلال لإثبات القضايا، فاستبدل بمنطق حساب الاحتمالات، وبما أنه استبدل بمنطق حساب الاحتمالات، كثيراً من العلم الديني أو ما نعبّر عنه بعلم الكلام كثيراً من علم الكلام فقد مصداقيته كعلم ناهض، فنحن نثبت وجود الله من خلال براهين عقلية؛ برهان الإمكان وبرهان الحدوث، مثلاً برهان الصديقين نحن نثبت نبوة النبي من خلال حكم العقل العملي بقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب، بالنتيجة نحن نعتمد في إثبات المبدأ والنبوة على المنهج الأرسطي على القياس المنطقي الأرسطي، وبما أنّ هذا قياس أثبت فشله وعقمه إذاً خسرنا علماً كثيراً من علم الكلام الذي كنّا نعتمد عليه في إثبات المبدأ والعدل والنبوة والمعاد يوم القيامة، لأجل ذلك بروز دليل حساب الاحتمالات كمنطق رياضي حاكم هو الذي استوجب من أمثال السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر+ أن يقتحم هذا الميدان ويكتب كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) ليحاكم دليل حساب الاحتمالات، وأنه هل دليل حساب الاحتمالات صالح للإجابة على جميع الأسئلة من دون عوامل كيفية تنضم إلى هذا الدليل، فأسّس كتابه على هذه النقطة ليصح استخدام دليل حساب الاحتمالات في إثبات المبدأ وإثبات النبوة وفي إثبات المنتهى ألا وهو يوم المعاد.

هذه نعبر عنها بالعوامل الفكرية التي أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد.

نأتي إلى القسم الثاني من العوامل ألا وهو العامل الإعلامي: فالإعلام قد خدم الإلحاد؛ لأن المتدينين لا يملكون إعلاماً مؤثّراً، لا يملكون إعلاماً نافذاً، لاحظوا (دوكنز) معروف وهو من أشهر الملحدين في عصرنا الحاضر صاحب كتاب (الجيل الأناني) وكتاب (صانع الساعات الأعمى) وكتاب (وهم الإله) وهو من أشهر كتب الإلحاد المنتشرة بين شباب الغرب وشبابنا المبتعثين في الغرب، هذا الباحث الانكليزي قد أنشأ مؤسسات، والمتدينون غافلون لا ينشئون مؤسسات في الدعوة إلى الدين، بينما الملحدون ينشئون مؤسسات للدعوة إلى الإلحاد، قد أنشأ مؤسسات تتبنى استغلال الإعلام في نشر الإلحاد. مثلاً نذكر عدة خطوات قامت بها هذه المؤسسات:

الخطوة الأولى: استغلال كل وسائل الإعلام كالاتوبوسات في بريطانيا والقطارات والمطاعم ومحطات البنزين والحدائق العامة وكل الأماكن التي يقطنها أو يرتادها الإنسان مقيماً عابراً مسافراً يلقى شعارات الإلحاد فيها حتى يقربوك من الإلحاد شيئاً فشيئاً، مثلاً يكتبون: (على الأغلب ليس هناك إله فاستمتع بحياتك) يعني لا تقلق أن هناك إله، مثلاً يصوّرون طفلاً يخاطب والديه يقول لهما: من فضلكما لا تصنّفاني متديّناً دعوني أكبر وأختار لنفسي وبإرادة حرة. فهم الآن يعتبرون -في بريطانيا- تعليم الطفل الدين يتنافى مع الحرية الفكرية، اتركوا الطفل، لا تتحدث معهم عن الدين أبداً إلى أن يكبر ويقرّر مصيره بنفسه. يعتبرون حديثك مع الطفل عن الدين هو إرهاق وخلاف الحرية الفكرية التي يمتلكها الطفل! من الشعارات: الحياة الممتعة لا تحتاج إلى إيمان، فبإمكانك أن تستمتع بحياتك بدون إيمان.

الخطوة الثانية: قد عقدوا مؤتمرات كثيرة لتسفيه واحتقار الفكر الديني واستبدال العلم بدله فقالوا البديل عن الدين هو العلم والعلم الذي يستطيع أن يجيب عن الأسئلة المصيرية التي تمر بالإنسان في مؤتمر كاليفورنيا عام 2006م طرحت هذه المفاهيم منها "الدين وهم يدعو إلى العنف والحروب" يقولون ماذا حصلنا من الدين!! سواء الحروب بين المسلمين والمسيحيين والحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية؟

ماذا حصلنا من الدين غير ظهور القاعدة وربيبتها داعش، ماذا حصلنا من الدين غير تدمير البشرية، الدين وهمٌ يدعو إلى العنف والحروب، لا نحتاج إلى الإله كي نكون على خُلُق، فأنتم لاحظوا الأمين الصادق لا يحتاج أن يكون متديّناً، فيمكن للإنسان أن يكون أميناً عفيفاً وصادقاً مع الآخرين من دون أن يكون متديّناً. فلماذا نقحم الدين حتى في علاقاتنا الاجتماعية!! فإذا تخلّصنا من الدين سنستطيع أن نجيب على جميع الأسئلة، هذه الخطوة الثانية. الخطوة الثالثة: لقد ملؤا عالم الانترنت كصفحات الفيسبوك مثلاً ملؤوها بصور العمليات الانتحارية التي تقوم بها داعش وأخواتها وصور اختطاف الأبرياء وصور اغتصاب الأطفال من قبل هذه الزمر الظلامية التي تتبنى الإسلام وصور سرقة بعض مَن يتسمى بالدين أموالَ الناس باسم الدين.

فظاهرة الرق قد عادت من جديد كما تعرفون، واسترقاق الناس، وسوق النخاسة وبيع النساء من طرف إلى طرف آخر. ومما أجّج استغلال الإلحاد لوسائل الإعلام هي أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، أكدت على استغلال الإلحاد لوسائل الإعلام، لذلك نفسه (دوكنز) مباشرة بعد هذه الأحداث ظهر على شاشات التلفزيون في بريطانيا وفي عدة مقابلات قال "تحولت (أنا كنت محايداً فالآن أنا لست محايداً) بعد هذه الأحداث إلى متطرف راديكالي وتلاشى من قلبي بقايا -لقد كانت عندي بقايا احترام للدين تلاشى- وتلاشى من قلبي بقايا احترام الديانات فتلاشى الاحترام مع الدخان والتراب الذي تصاعد نتيجة التفجير في أحداث 11 سبتمبر!!" هذا العامل الإعلامي.

والعامل الأخير الذي أتعرض له هو العامل النفسي: الإلحاد أحياناً تقوده عوامل نفسية تؤدي إلى تبني الإلحاد، على سبيل المثال أذكر عدة عوامل؛ فنحن من خلال الاستقراء استقرأناها من عدة تجارب إلحادية استمعنا إليها فالعامل الأول هو الراحة، فيقول أحدهم: (أنا الآن سعيد مع كوني ملحداً، فعندما أصبحت ملحداً شعرت بالسعادة؛ فليس هناك رقابة عليّ، وليس هناك من يتابعني، وليس هناك إله يراقبني ويحصي عثراتي، فأنا شعرت بالسعادة لأني أنا ملحد، فلماذا أخرج من هذا العالم -عالم السعادة- إلى عالم قيود وتضييق ورقابة ومتابعة وهو عالم التدين؟)

مثلاً عامل نفسي آخر ألا وهو السأم من العبادة، فلماذا نتعب أنفسنا بالعبادة 50 سنة أو 70 سنة كلها عبادة يوميّاً؟ لماذا، بما أنّ الله الذي يطرحه المتدينون لا يحتاج إلى عبادتنا فلماذا نحن نتعب أنفسنا في العبادة؟ فلنترك هذه العبادة ونتجه إلى حياتنا ونستثمر الوقت الذي سنستثمره في العبادة، فلنستثمره في الدراسة وفي العلم وفي الإنتاج والعطاء وفي تطوير الحياة. إذاً هذا عامل نفسي وهو السأم من طول العبادة أو من فكرة العبادة.

ومن العوامل النفسية الأخرى الحرية الإباحية، فتعرفون جيداً بأنّ هناك نمط من الناس يعيش فرطاً في النزعة الجنسية وكذلك يعيش فرطاً في النزعة العاطفية، يجد أن لا متنفس له في المجتمع الديني وفي المجتمع المحافظ، فعندما يتجاوز الدين ويتحول إلى ملحد يجد إشباعاً لنهمه الجنسي والعاطفي، إنّه يجد في المجتمعات الإباحية مجالاً لإشباع غريزته؛ لذلك يخرج عن إطار التدين إلى إطار الإلحاد انقياداً للعامل النفسي الذي يعيشه. هنا أذكر أيضاً من الأسباب النفسية ما طرحه (بدز) أستاذ الطب النفسي في جامعة نيويورك، هذا كان ملحداً لمدة 40 سنة ثم أصبح متديناً، ولما أصبح متديناً أجرى دراسات نفسية على مجموعة من الملحدين فاكتشف عاملاً مشتركاً بينهم، فعبّر عنه بخلل عصابي وراء هؤلاء الملحدين، فما هو هذا الخلل العصابي؟ هو (الميول والرغبة الشديدة للانتماء للطبقة الأفضل في المجتمع)، وكثيراً من شبابنا المبتعثين مع كل الأسف يشعرون بأنهم طبقة هابطة عندما يذهبون إلى الغرب، هو يرغب بأن ينتمي لتلك الطبقة الراقية في الغرب، الطبقة المستحوذة على الشركات وتمتلك الإعلام وتمتلك النجومية وتمتلك الشهرة وتمتلك العطاء والإنتاج في الغرب، فرغبته في أن ينتمي إلى هذه الطبقة تعني أن يتخلى عن الدين، وخصوصاً إذا كان الدين هو الإسلام فهو دين مبغوض لأجل ذلك حتى يتخلص من هذا العبء وينتمي إلى تلك الطبقة، يتخلّص من الدين ويصبح ملحداً ليكون شخصاً مرغوباً أو يتحرر من المحيط الأسري والاجتماعي الذي يشعر بأنّ المحيط الشرقي في دول الخليج وفي العراق وفي إيران؛ هذا المجتمع الشرقي مجتمع أسري ضيق يتابع الإنسان ويراقبه ويجهز على حريته، فلكي يتخلّص من هذا المجتمع لا بدّ أن يتبنى الإلحاد، لذلك كتب (بدز) هذا الكتاب (منظور التقصير الأبوي) يعني الأسرة دائماً تربي الطفل على الخنق والضيق بحيث يكون هذا العامل التربوي سبباً في بعده عن الدين كما ظهر هذا الكتاب عام 1999م. هذه مجموعة العوامل الفكرية والإعلامية والنفسية التي أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد.

2021/11/14

كتاب يمنحك فرصة لـ ’حياة جديدة’!

أهمية المطالعة في حياة الإنسان

كتبت أسماء ربابعة:

تمرين العقل على القراءة يعود بالكثير من الفوائد على الجسم ومن أهمها تفعيل أجزاء مختلفة من الدماغ.

[اشترك]

أثناء القراءة يختبر الدماغ قدراته على الفهم والتحليل، كما أنّها تُحفّز الخيال ومركز الذاكرة في العقل، ممّا يعني تسهيل مهمة تذّكر المعلومات على العقل واستقرار العواطف، وهذا يعني أنّها أفضل التدريبات الذهنية نظراً لأنّها تقوّي العضلات العقلية، وهذا ما يمنع أو يُبطئ الأمراض التي تُصيب العقل كالزهايمر والخرف.

تزيد القراءة أيضاً من سعة العقل وتوفّر الكثير من الأفكار فيه، وتجعل العقول شابة وصحيّة وناضجة، لتمنع الذاكرة من التدهور مع مرور العمر، حيث أنّ القراءة والكتابة تعملان معاً لتنشيط العقل وتوسعته لتطوير الخيال والأفكار والأحلام.

إيجاد الذات

 يشعر الإنسان بعد قراءته لعدد كبير أو قليل من الكتب بأنّ منظوره لهذا العالم بدأ يتوسع، وأنّه حدّد موقف ثابت تجاه الآخرين والحياة، كما يبدأ بالتفكير بطريقة جديدة لحياته اليومية، وهذا يعني أنّه قد بدأ بإيجاد هويته التي تُعبّر عن شخصيته، ليقرّر بعدها كيف يريد أن يكون، ويقتبس تصرفات وأفكار من الشخصيات الخيالية المتواجدة في هذه الكتب، ممّا يعني أنّها تُلهمه ليُصبح واحداً من هذه الشخصيات كالمحققين أو الأطباء.

القراءة تحفز التفكير الإبداعي وتحسن التركيز

 تسمح القراءة أيضاً للعقل بـ تطوير التفكير الإبداعي، واستغلال الوقت في الاستفادة والانتعاش في القراءة بدلاً من الملل والإحباط والبحث عن الجوانب الإبداعية بالحياة، كما تساعد في تحسين التركيز وتقوية القدرة على الاندماج، وهذا الأمر مهم جداً تحديداً للأشخاص الذين ينشغلون أثناء الدراسة أو الوظيفة لا إرادياً بالتفكير في أمور أخرى أو لا يستطيعون التركيز، فالقراءة تنقل الدماغ من وضعية تعدّد المهام التي يستخدمها دوماً إلى وضعية التركيز على شيء واحد ليكون حاضراً تماماً فيه، ممّا يعني زيادة نسبة النجاح في أمور الحياة الأخرى كالعمل، نظراً لأنّه سيصبح قادراً على التركيز أكثر والعمل بكفاءة وإنجاز المهام في وقت أقل.

زيادة الفهم وتوسيع مخزون المصطلحات للفرد

 تزيد القراءة كذلك من القدرة على الفهم الذي يزيد كمية المصطلحات التي يعرفها الإنسان، وذلك من خلال سماع القصص وقراءة الكثير من الكلمات، ممّا يعني بناء مفردات جديدة وتحسين الفهم عند سماع شيء جديد بسرعة، ومن الأمثلة على ذلك؛ قراءة الأطفال للقصص التي تمنحهم فهم جديد لجميع الكلمات التي يسمعونها أو يقرؤونها، وإن لم يتمكنوا من فهم كل المفردات فسماع الأصوات والكلمات والعبارات الجديدة ستجعلهم يحتفظون بها ليسهل فهمها أو تقليدها لاحقاً، ويشجعهم على إيلاء المزيد من الاهتمام للمطالعة.

يقرأ الإنسان الكثير من المفاهيم والكلمات التي قد تكون جديدة

 كلّما قرأ كتاباً جديداً، ممّا يعني توسعة المفاهيم والقدرة على الحديث بلباقة وبثقة نتيجة المصطلحات الكبيرة التي يُخزنها، والذي سيؤدي لزيادة ثقته بنفسه وتقديره لذاته، كما سيجعله محبوباً أكثر في النقاشات الاجتماعية نظراً لأنّه سينخرط في أيّ موضوع ويُبدي رأياً صائباً أو منطقياً فيه، بالتالي سيكون مثالاً للأشخاص المُلمّين بالأحداث العلمية والعالمية، ويُمكن أيضاً تعلّم لغات جديدة في حال قراءة كتب من لغات أخرى.

القراءة تساعد على اكتشاف العالم

تُعدّ القراءة البوابة الكبرى لتعلّم كل شيء واكتشاف الأشياء الجديدة وزيادة الثقافة والمعرفة في جميع مجالات الحياة التي يهتم بها الإنسان، وهناك عدد هائل من الكتب في هذا العالم وبكافة المواضيع التي يُمكن أن يتخيلها الإنسان، للغوص فيها وقراءتها والبدء بالتعلّم منها، ممّا يعني أنّ الإنسان الذي يقرأ يكتشف العالم من خلال الكتب، والمجلات، ومواقع الإنترنت، وقد يختار الإنسان تثقيف نفسه في مجال معيّن أو القراءة بكافة مجالات الحياة للاستفادة أكثر.

القراءة تساعد في تطوير الصورة الذاتية وتحسين العلاقات مع الآخرين

 تُساعد القراءة على تعلّم المفاهيم، والأماكن الغريبة واكتشاف وجهات نظر الآخرين، ممّا يعني بناء صورة ذاتية جيدة وتعزيز احترام الذات، كما أنّها تصنع صورة ذاتية إيجابية للأطفال عن نفسهم، وتمنحهم القدرة على مناقشة القصص مع الآخرين وتكوين الصداقات وفقاً للاهتمامات المشتركة، كما تزيد الثقة بالنفس وتمنعهم من العيش في عقلية دور الضحية الذي يجعلهم غير قادرين على مواجهة التحديات التي يواجهونها في حياتهم، بالإضافة لتحسين القدرة على التواصل الاجتماعي في وقتٍ أصبح الجميع فيه متّجهون للعالم الإلكتروني، وتشجيع الناس على التفاعل والمشاركة من خلال نوادي الكتب والمنتديات الأخرى.

القراءة تطور الذاكرة وتخفف التوتر

 تزيد القراءة القدرة على تركيز الانتباه بالكامل على مهمة معيّنة، كما تزيد كمية المعلومات التي من شأنها أن تُحسّن التركيز والذاكرة، ثُمّ أنّ الانخراط في قراءة كتاب يمنح الشخص الاسترخاء والشعور بالهدوء، كذلك عند قراءة كتاب ما سيحتفظ الدماغ بالشخصيات وأدوارهم وتاريخهم وشخصياتهم والحبكة الموجودة في الكتاب، ممّا يسمح للعقل بالتّذكر أكثر وإنشاء مسارات جديدة في الدماغ.

تطوير مهارات التفكير النقدي والكتابة

 تطوّر القراءة أيضاً القدرة على تطوير مهارات التفكير النقدي والكتابة، فمثلاً عند قراءة رواية غامضة يتأهب الدماغ للتركيز في القصة والوصول إلى الاستنتاج وحلّ غموض هذا الأمر، بالإضافة للقصص الخيالية التي تدفع الإنسان لتخيلها والتفكير إن كانت صحيحة أم لا، وهذا التفكير النقدي الذي يتطوّر مع قراءة هذه الكتب يُعدّ مهماً في اتخاذ القرارات المهمة اليومية، لأنّها تعلّمه كيفية التفكير ومعالجة المعلومات وفهم الأمور بشكل أعمق، بالإضافة لتحسين المهارات التحليلية للأمور ليصبح الإنسان أكثر نُضجاً.

القراءة خاصية جوهرية في الحياة اليومية ومهارة مهمة

 وذلك لإيجاد العمل تُعدّ القراءة خاصية مهمة للإنسان ليحصل على عمل جيد، فمعظم الوظائف تتطلب أن يكون الإنسان قادراً على القراءة بشكل جيد، وذلك لقراءة التقارير والمذكرات والرد عليها، بالإضافة لتحسين الاستيعاب والتفاعل في مكان العمل.

نصائح لتشجيع الطفل على القراءة فيما يأتي نصائح للقارئ لتشجيع الأطفال على القراءة:

تشجيع الطفل على قراءة ما يُحب حتى وإن رَغب في التكرار فلا بأس في ذلك. ربط ما يقرأه الطفل مع الواقع وتمثيلها بقصص واقعية.

مساعدة الطفل على القراءة في أوقات الفراغ وأثناء الانتظار واصطحاب الكتب دوماً لأيّ مكان.

طرح أسئلة على الطفل حول شخصيات القصة لتشجيعه على الانخراط فيها.

اختيار الكتب التي تناسب الطفل وعمره ومستوى قراءته.

ترك الطفل يختار الكتب التي يُفضل قراءتها.

2021/11/10

الخطر الأشد فتكاً من ’المخدرات’.. انتبهوا لأولادكم!

ولدك وكتب الضلال!

كتب السيد ضياء الخباز:

حينما يأتيك ولد الصغير، ويطلب منك أن تشتري له بعض الحلويات التي تقطع بضررها، لا شك أنك لن تفكر في شرائها له، حتى ولو كانت متوفرة في السوق، بتوهم أنك إن لم تشترها فسوف يقوم هو بشرائها، بل ستقوم - كأي أب عاقل- بالحديث معه حول مخاطرها وأضرارها، حتى ينفر منها ولا يرغب في تناولها .

[اشترك]

وحينما يتوجه ولدك نحو تعاطي المخدرات، فلا شك أنك ستبذل قصارى جهدك من أجل منعه من ذلك، ولن تقول: دعه فليجربها ليدرك خطرها وضررها بنفسه، ثم إنني سوف آخذه إلى المصحة من أجل علاجه، فإن مثل هذا التفكير مما يربأ عنه أي عاقل.

وهكذا هي كتب الضلال، بل هي أشد خطرا وفتكاً مما ذكر؛ إذ أن ضلالها لو ترسخ في قلب إنسان فإنه سيبقى ملازما له إلى يوم القيامة، وربما كان هذا الضلال فكرة إلحادية يسلب الإنسان حتى دينه وإيمانه، وينتهي به إلى الخلود في النار، ولذا فليس من المنطق أن يعين الأب ولده على قراءة كتب الضلال، ويترك ضلالها يترسخ في قلبه وعقله، ثم يحاول أن يقتلعها من ذهنه من خلال عقد جلسة حوارية بينه وبين أحد المختصين - والذي ربما ينجح في مهمته وربما لا يحالفه التوفيق۔ بل الذي يقتضيه المنطق السليم هو أن يبادر الأب إلى تحصين ولده بالعقائد الحقة والأفكار المحكمة، ومتى ما استوثق من نضجه الفكري والعقائدي والمعرفي، واستيقن بقدرته على محاكمة الشبهات، أمكنه أن يخلي بينه وبين كتب الضلال ليدرك هشاشتها بنفسه .

وهذا هوما أرشد إليه أئمة الهدى عليهم السلام، فعن الإمام علي صلوات الله عليه: (علموا صبيانكم ما ينفعهم الله به، لا تغلب عليهم المرجئة برأيها)، وعن الإمام الصادق صلوات الله عليه: (بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة).

2021/11/09

ما خُفي عن بعض المسلمين: الحرب آخر الحلول!

الجانب الذي لا يعرفه بعض المسلمين من الإسلام

عندما نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله مع أعدائه المحاربين له والمكذبين لدعوته من صناديد قريش وعُتات العرب، نجد أنه لم يبدأهم بقتال، ولم يجابههم بعنف ولا شدة، ولم يقابلهم بحرب كلامية، وإنما كانت دعوته لعامة الناس تتسم بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

[اشترك]

وأما اللجوء إلى الحرب فكان آخر الحلول بعد أن يستنفد معهم كل الوسائل المتاحة لمهادنتهم، أو قبول الدعوة الإسلامية، أو الرضا بدفع الجزية، ولهذا لم يذكر التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله قصد بالحرب من لم يقصده بسوء، أو عمد إلى حرب استنزاف تأكل الأخضر واليابس.

وكانت كل الحروب التي عزم عليها رسول الله صلى الله عليه وآله في سبيل الدعوة إلى دين الله تعالى أو كانت بأمره، تنتهي بمجرد عدم رغبة الأطراف الأخرى في الدخول معه في حرب، بقبولهم النطق بالشهادتين، أو دفع الجزية، من دون أي مفاوضات أو عراقيل في الأمر.

ومع وضوح هذه السيرة النبوية العطرة التي أوضحت طريقته صلى الله عليه وآله في التعامل مع أعداء الإسلام الذين كانوا يحاربونه ويقتلون أتباعه والمنتمين إليه، إلا أنا نرى أن بعض الجماعات الإسلامية التي تبنت باسم (الجهاد) قتل غير المسلمين المتواجدين في البلاد الإسلامية، لا يعطون من يقع في أيديهم من هؤلاء أي خيار، ولا يقبلون منهم النطق بالشهادتين، ولا الإقرار بكل العقائد الحقة، ولا ينجيهم منهم رغبتهم في دفع الجزية إليهم، أو دفع أي فدية أخرى أو غير ذلك، ولا يرضون منهم إلا بقطع رؤوسهم، من غير فرق بين من جاء إلى بلاد المسلمين مسالماً يطلب رزقه، أو سائحاً، أو تابعاً لغيره، أو جاء غازياً ومحارباً، مع أن قرار قتل هؤلاء أو عدم قتلهم من وظائف إمام المسلمين، فإنه كما يقرّر الحرب والسلم، كذلك يقرّر بحسب ما تقتضيه المصلحة من يستحق القتل ومن لا يستحقه بحسب الموازين الشرعية، ويقرّر كذلك الطريقة التي يقتل بها من كان مستحقاً للقتل، ولا حق لكل من هبَّ ودرج في اتخاذ أمثال هذه القرارات التي تتوقّف عليها المصالح العليا للمسلمين.

والغريب أن هذه الجماعات التي تبنّت قتل الكفار في العراق أو أفغانستان أو غيرهما من البلاد الإسلامية، يقتلون من المسلمين أضعاف من يريدون قتله من الكفّار، ومن المعلوم عند كل أحد أن قتل المسلمين الأبرياء غير جائز بأي مبرّر من المبرِّرات، ولا سيما إذا كان قتله بالسيارات المفخَّخة التي تستوجب تقطيعه إلى أشلاء، وتثير الرعب بين الآمنين، وتتلف أموال المسلمين الآخرين بغير وجه حق.

ثم إن هذه الجماعات كما تبنَّت باسم الجهاد قتل الوافدين إلى البلاد الإسلامية من غير المسلمين فإنها أيضاً تبنّت قتل أتباع الطوائف الأخرى، خصوصاً المنتمين إلى مذهب الشيعة الإمامية، بنفس الطريقة التي يُقتل بها الكفار الآخرون، بل صار قتلهم للشيعة هو هدفهم الأول، مع أن الشيعة لا يستهدفونهم بحرب ولا قتل.

 ورغم تقطيع هذه الجماعات لرؤوس الشيعة المسالمين وأكلهم أكبادهم، إلا أنا لم نسمع في وسائل الإعلام المختلفة أن هذه الجماعات قامت بعملية واحدة لمحاولة قتل اليهود المحاربين الذين يبيدون الفلسطينيين كل يوم، ويهدمون بيوتهم، ويصادرون أرضيهم وبساتينهم، ويزجّون بالصغار والكبار منهم في السجون الإسرائيلية.

إن هذه الجماعات لم تفهم الإسلام بصورته الناصعة، ولم تتلمّس في تعاليم الإسلام جوانب الرحمة، والحب، والشفقة، والعدل، والمساواة، وفهمت فهماً مغلوطاً كلّ الآيات التي وردت في قتال الكفار كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة: 123]، وقوله سبحانه: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29]، فطبّقوها على المسلمين، وانشغلوا بقتل المسلمين عن قتال الكافرين.

إن الإسلام هو دين الرحمة والسلام، وهو دين المحبّة والحرية، الذي كفل لكل الناس حقوقهم، وحفظ لهم كرامتهم، ولم يُكرههم حتى على قبول الإسلام نفسه، كما قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256].

لقد استطاع المسلمون الأوائل أن يَدْعوا إلى دين الإسلام بالحجة والدليل، لا بالسيف والإرهاب؛ لأن الإسلام هو الدين الوحيد من بين جميع الأديان المعروفة الذي يخاطب العقول، ويحث على التأمّل والتفكير، والإسلام لا يحتاج إلى السيف حتى يتوسّع وينتشر، ووصوله إلى أقاصي الدنيا لم يكن بحرب ولا بقوّة، وإنما كان بسبب أنه هو الدين الحق من بين سائر الأديان.

ومحاربة أعداء المسلمين لا تتحقّق بالعمليات الإرهابية في بلاد المسلمين، التي تطال الأبرياء الآمنين، وتهدر طاقات المسلمين، وتبدّد أموالهم، وتزعزع الأمن في بلادهم، وإنما تتحقّق ببث العلم والوعي بين المسلمين، والعمل على تجسيد مبادئ الإسلام في كل جانب من جوانب حياتهم.

ومن لا يقدر على مواجهة أعداء الإسلام بالحرب النظامية المعروفة، فليعرف كيف يداريهم، ويكف شرّهم عن بلاد المسلمين بالوسائل السلمية وبالطرق الدبلوماسية، وقد استفاد أعداء الإسلام من العمليات الإرهابية التي قامت بها الجماعات الإسلامية أكثر مما تضرّروا به؛ لأن الضرر قد لحق أفراداً قلائل منهم، وألوفاً كثيرة جدًّا من المسلمين، ولكنهم استفادوا تشويه صورة الإسلام في جميع أنحاء الدنيا، حتى صارت السمة الغالبة على المسلمين أنهم إرهابيون، قتلة، متوحّشون.

نسأل الله تعالى أن يرشد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم، وأن يجمع كلمتهم، ويؤلّف بين قلوبهم، إنه سميع مجيب، قادر على ما يشاء، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

2021/11/08

ذرّية طاهرة: فئة من البشر لا تمسّهم النار!

ورد في بعض الروايات أنَّ السادة -أي المنتسبين إلى الرسول (ص)- لا تمسُّهُم النار فما مدى صحة ومعنى هذه الروايات؟

[اشترك]

إن الثابتُ من الروايات أنَّ الذين لا تمسُّهُم النار من المنتسبين للرسول الكريم (ص) هم خصوص مَن وَلَدتْهم السيِّدةُ فاطمة (ع) دون واسطة، وأما سوى هؤلاء الكرام فشأنُهم شأنُ سائر الناس، مَن أطاعَ اللهَ وأصلَح كان من أهلِ الجنَّة، ومن عصاه كان مُستحِقّاً للنار.

والرواياتُ في ذلك عديدة:

منها: ما رواه الصدوق في معاني الأخبار بسندٍ معتبر عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله (ع) قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع) هل قال رسول الله (ص) إنَّ فاطمةَ أحصنت فرجَها فحرَّم اللهُ ذريَّتَها على النار، قال (ع): نعم، عنى بذلك الحسنَ والحسينَ وزينبَ وأُمَّ كلثوم عليهم السلام" 1.

ومنها: ما رواه الصدوق بسندٍ معتبرٍ عن حمَّاد بن عثمان قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): ما معنى قولِ رسول الله (ص) إنَّ فاطمةَ أحصنتْ فرجَها فحرَّم اللهُ ذريَّتَها على النار، فقال (ع): "المُعتَقون من النار هم ولدُ بطنِها الحسنُ والحسينُ وزينبُ وأُمُّ كلثوم" 1.

ومنها: ما رواهُ الصدوقُ بسندِه عن الحسن بن موسى الوشَّاء البغدادي قال: كنتُ في خراسان مع عليِّ بن موسى الرضا (ع) في مجلسِه، وزيدُ بنُ موسى حاضرٌ، وقد أقبلَ على جماعةٍ يفتخرُ عليهم ويقول: نحنُ ونحنُ وأبو الحسن مُقبِلٌ على قومٍ يُحدِّثُهم فسمِعَ مقالةَ زيدٍ فالتفتَ إليه فقال: "يا زيد أغرَّكَ قولُ باقلي الكوفةِ إنَّ فاطمةَ أحصنَتْ فرجَها فحرَّم اللهُ ذريَّتَها على النار، واللهِ ما ذلك إلا للحسنُ والحسينُ وولدُ بطنِها خاصَّة. فأما أنْ يكونَ موسى بنُ جعفر (ع) يُطيعُ اللهَ ويصومُ نهارَه ويقومُ ليلَه وتعصيه أنتَ ثم تجيئانِ يومَ القيامة سواءً، لأَنت أعزُّ على اللهِ عزَّ وجلَّ منه؟!!. ثم قال (ع): "إنَّ عليَّ بنَ الحسينِ (ع) كان يقولُ: لمُحسِنِنا كفلانِ من الأجرِ ولمُسيئنِا ضِعفانِ من العذابِ" 1.

هذا وقد ورد الحديث من طُرق العامة أيضاً، فمِن ذلك ما أخرجه الحاكمُ النيسابوري في المستدرك بسنده عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله): إنَّ فاطمةَ أحصنتْ فرجَها فحرَّم اللهُ ذريَّتَها على النار" 2.

وعلَّق النيسابوري على سند الحديث بقوله: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1. معاني الأخبار -الشيخ الصدوق- ص106.

2. المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص152.

2021/11/07

تربية أطفالنا وسط ثورة تكنولوجية وعولمة سياسية.. من يربح المعركة؟!

تربية الطفل وتحديات العولمة

كتبت ريما الحاج علي:

إن عملية تربية الطفل وتنشئته في عصرنا الحاضر تعتبر من معايير تقدم المجتمعات وتطورها؛ لأن أطفال اليوم هم رجال الغد، وبهم يقوم يبنى المجتمع ويتقدم.

[اشترك]

وتتطلب تربية الطفل وتنشئته استيعاباً جيداً وفهماً لكثير من الحقائق التي تتعلق بخصائص المرحلة العمرية التي يعيشها الطفل في كافة الجوانب الحياتية، فالتنشئة الاجتماعية تعد من أهم المهام في حياة الفرد وتكوين شخصيته؛ لأنها عملية تفاعل اجتماعي يتعدل فيها سلوك الفرد بما يتفق مع مجتمعه وبذلك تسهم إسهامًا فعَّالًا في بناء الفرد، وتشكيل الأسرة، وتكوين المجتمع، وبناء المستقبل.

قد تواجه الجماعات الإنسانية عادةً بعضَ التحديات في تنفيذ عملية التنشئة الاجتماعية لأجيالها، لكن مشكلة التنشئة الاجتماعية في هذا العصر في ظل العولمة والتكنولوجيا الطاغية بدت أكثر صعوبةً وأشد تعقيدًا، خاصة وقد أصبَحت المؤسسات الإعلامية تنازع المؤسسات التقليدية للتنشئة، وتؤثر تأثيراً مباشراً في غرس القيم وتنمية الاتجاهات.

والعولمة هي العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً معين على بلدان العالم أجمع، ومن أهم أنواع العولمة هي الاقتصادية، الثقافية، السياسية، العسكرية والتربوية التي تعتبر اكثرها اهمية وخطورة.

التطور السريع في مجال الثقافة الإلكترونية حمل أساليب جديدة لجذب الطفل ودفعه للإدمان وهي نوع من أنواع السيطرة على وعي الطفل في نمط ثقافي محدد يؤمن بقيم الصراع والقوة والدعوة للحرية غير المسؤولة.

ومن البديهي أن تنشأ لدى الطفل دوافع نفسية متناقضة بين ما يتلقاه عبر الثقافة الإلكترونية وبين ما يعيشه في واقعه اليومي في البيت والمحيط الاجتماعي، مما يؤدي الى شعوره بحالة نفسية معقدة نتيجة لوجود مجموعة قيم متنافرة ومتناقضة.

ومن المؤسف ان أطفالنا لا يدركون سوى أبواب الألعاب الإلكترونية التي تتنافس الشركات المنتجة على ترويجها كنوع من أنواع الغرس الثقافي الفكري المباشر مما يجعلهم ينغمسون فيها بصورة خطرة غير مدركين لأثرها السلبي عليهم.

فالتربية تعد أمرا صعباً لا يستطيع القيام به كل على حدة فهي مسؤولية البيت أولاً ومن ثم المدرسة والمحيط وكلما اتسع نطاق البيئة التي تتم فيها هذه المهمة ازدادت تحدياتها وصعوبتها وبرز فيها خطر التأثر بما يمكن اكتسابه وتلقيه من أفكار وسلوكيات، وفي عصر العولمة البيئة هي العالم كله على ما فيه من تنوع واختلاف في الثقافات والديانات.

إن زماننا هذا زمن الانفتاح والتغيرات ومع كثرة التقنيات والفضائيات وكثرة الثقافات أصبح الجيل يعيش اليوم في مفترق طرق وتحت تأثير هذه التغيرات ولا شك أنها تسبب لهم كثيرا من المشكلات النفسية والتربوية والاخلاقية.

فلا يمكن اعتبار الأسرة هي المسؤول الوحيد عن التنشئة الاجتماعية اذ أصبح هناك العديد من المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي تشارك في هذه العملية إلا أنها تظل الأكثر أهمية وتأثيراً خاصة في سنوات الطفولة الاولى، ولا شك أن دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية اكتسب أهمية مضاعفة مع انتشار الفضائيات والبرامج الإلكترونية وما تطرحه العولمة من فرص وتحديات جديرة بالتأمل والدراسة، فبقدر ما كانت عمليات التنمية والتغيير الاجتماعي تطرح على الأسرة مشاكل وتحديات تتعلق بتكوينها وتماسكها ودورها في عملية التنشئة بقدر ما كانت هذه المشاكل والتحديات تبرز دور الأسرة وتعقده وتؤكد أهمية الأدوار التقليدية التي يجب أن تقوم بها الأسرة خاصة في ظل الانفتاح اللامحدود الذي فرضه عالم العولمة الجديد كي لا تفقد قيمها ومبادئها.

العولمة تلعب دوراً رئيسياً في زيادة الفجوة والتباعد والتفاوت الاجتماعي والتعليمي والمعرفي بين الناس، كما أن نتائج العولمة الاقتصادية قد تفرض على بعض الدول الى التحكم بمؤسسات التنشئة الاجتماعية كالتعليم والإعلام وبالتالي تحجيم الرؤية التربوية، وفوق كل شيء تحديد أنماط العولمة الجديدة، إذ تصبح الأهداف الانسانية والثقافية والاجتماعية للتعليم تخدم أهداف القرية الكونية الواحدة.

فلسنا مبالغين ان قلنا أن العولمة أصبحت أمرًا واقعيًا أمام كل المجتمعات العالمية، واصبح العالم قرية واحدة تمارس أنشطتها الهادفة من خلال إمكانياتها المختلفة والمتطورة، متحدية كل الحواجز التي تحول بينها وبين جميع المجتمعات البشرية ومن هنا نوصي بالآتي:

1ـ يجب على الآباء ضرورة إعطاء الثقة لأطفالهم وتنمية الاستقلال لديهم لينشئوا أصحاب نفوس صحية سليمة ويصبح بإمكانهم أن يستجيبوا بإيجابية لجميع عوامل التحدي الآتية من العولمة وما تحمله من توجهات قد لا تخدم تماسك الأسرة والمجتمع.

2ـ ضرورة وجود حاجة ملحة لبناء وتفعيل برامج التربية الوالدية السليمة والتي يتم عن طريقها تدريب الآباء وأولياء الأمور على الممارسات والتفاعل السليم بين مكونات الأسرة، لكي تكون قيادة الأسرة على وعي وإدراك لما سوف تؤدي إليه من نتائج لدى ابنائها.

النبأ

2021/11/07

أصالة الدين أم العلمانية في المجتمع العراقي؟

في البدء.. ماذا نعني بأصالة الدين أو العلمانية في المجتمع العراقي؟ 

هل هي الحالة المتأصلة فيه، كما هو الحال بالنسبة للغلظة والخشونة في ابناء المجتمع البدوي؟  

فيكون الدين او العلمانية هو الاساس الذي يتمسك به ابناء المجتمع العراقي، فإن فرض عليهم الآخر استبطنوا النفور منه، وارتدّوا الى الآخر عند زوال الفرض!

[اشترك]

في ظني أن ليس هناك معنى على هذه الشاكلة لمصطلح الاصالة والاعتبارية بالنسبة الى أبناء النوع الإنساني، وإنما هي السيرورة التاريخية بما تضخّه من عوامل مادية ترسم شكل الصبغة العامة للمجتمع، فتتغير الصبغة بتغير العوامل. فحتى في مثال الغلظة للبدوي، التي ذكرتها قبل قليل، فإنها تلاشت في طبع البدوي حين استوطن المدن.

وعلى هذا فإن الصبغة العامة للمجتمع العراقي أميَل الى تأثير الدين منها الى العلمانية، وذلك بسبب:

1ـ السواد الأعظم من أبناء المجتمع العراقي يدينون بالإسلام منذ اربعة عشر قرنا.

2ـ التعددية الدينية والعرقية في المجتمع العراقي، والتي كان التكتل على أساسها طاغيا الى بدايات القرن العشرين، إنما كان طاغيا بسبب توفير عناصر الحياة من حماية وسبل العيش، وحين يتجاوز الأمر هذه الحدود يرتد الحال الى الدين. فابن الريف ـ مثلا ـ حين يلتحم بأبناء القبيلة ويرضخ لرئيسها، طلبا للأمن والحماية ولأن الرئيس صاحب الارض التي يعمل أجيرا فيها، إلا إنه خارج هذا النطاق يكون في مدار الثقافة الدينية وإن كان ذلك المدار بعيدا عن واقع الاسلام الذي يدين به، ومن جهة زعيم القبيلة فأن الامر حين لا يمس حدود مصلحته وما يمليه واقع الحياة التي يعيشونها، يظهر انتماءه الديني ويترك لرجل الدين المجال.

3ـ العلمانية التي ظهرت في الغرب هي أفكار أصيلة انتجتها عقول الفلاسفة الغربيين بتأثير من واقعهم المعاش. وهي التي انتجب التطور الاقتصادي والتكنلوجي، وهذه الاخيرة انتجت بدورها نموذجا أخلاقيا وسلوكيا مغايرا، الى حد كبير، للنموذج الذي كان أيام الهيمنة الكنسية، مثل البعد المادي في العلاقات الاجتماعية والانفتاح الجنسي وغير ذلك. بينما نجد العلمانية في العراق، على العكس، فهي أفكار مستوحاة من الغرب وقد نتجت عن التطور الاقتصادي. وبالتالي فإن الانسلاخ عن الدين ـ في أوروبا ـ كان أمرا لصيقا بالتطور الحضاري، أي ان الاوربي المسيحي كان أمام خيارين هما أن يبقى على مسيحية الكنيسة او ينسلخ عنها فيواكب التقدم الحضاري. أما العراقي فإنه تطور أولا ثم وجد الافكار العلمانية تحيط به. بمعنى أن الاوروبي الذي كان يعمل وعائلته في ورشة بسيطة لإحدى الحرف اليدوية وجد أن الكنيسة تعارض العلم الذي حوّل أدواته البسيطة الى أدوات متطورة وحوّل الورشة البسيطة الى مصنع يوفر فرص عمل أفضل وربح أوفر. وصار أفراد العائلة غير مضطرين للعمل بشكل التحامي في الورشة، وإنما يعملون متباعدين في المشاريع الصناعية والتجارية التي وفرتها النهضة المصنوعة من قِبل الفكر العلماني. ثم راحت العلمانية تضخ فيهم أفكارها عن الحرية والفردانية وتهميش الغيب ونسبية الأخلاق، فتدفعهم إلى الاستغراق بالعمل لصنع حياة سعيدة. مما أدى الى اكتساب العلاقة الاجتماعية لونا من المادية وتمتع المرأة بقسط وافر من الاستقلالية والحرية التي وصلت الى حقها في ممارسة الجنس خارج إطار الزواج.

الفرد العراقي لم يمر بكل هذه المراحل، وإنما وجد نفسه أمام التطور دفعة واحدة، وقد كان السبب في حصول تطوره، بشكل أساس، عاملين ماديين بشكل محض، وهما فتح قنوات السويس وظهور النفط. فلم يعش ـ بذلك ـ حالة التخيير بين الدين والتطور. إن ما أحدثه التطور في المجتمع العراقي الى السبعينيات من القرن العشرين، هو تهاون واستخفاف بمفردات الدين وليس انسلاخا عنه، فالعراقي وإن آمن بفكرة الاخلاق المستقلة عن الدين وأن الدين ليس مصدرا للأخلاق، إلا إنه لم يعشها، فهو إما أن يضع حدودا لتهاونه بمفردات الدين، أو أنه آمن بأفكار كالليبرالية والعلمانية والشيوعية، القائلة باستقلال الاخلاق عن الدين، إلا إنه ظل وفيا للثابت الاجتماعي العراقي. وهذا الوفاء يتجسد بالفارق الكبير بين الواقع العراقي في ذروة انفتاحه في خمسينيات وستينيات القرن العشرين وبين ما وصل اليه المجتمع التركي من إباحية، بعد أن أحل النظام العلماني محل الخلافة العثمانية في الحكم، ولم يقم بتجاوزات صارخة على ثوابت الشريعة الاسلامية كما فعلت العلمانية في تونس حين منعت التزوج من أكثر من زوجة أو ساوت بالإرث بين الرجل والمرأة.

إن الثابت الاجتماعي ظل قادرا على صنع دائرة محدودة لأبناء المجتمع العراقي، يعيشون فيها قيما روحية كالترابط العائلي والجيرة والشرف. فمثلا المسيحي الاوروبي حين انصهر بالفكر العلماني قد أفضى به ذلك الى أن يقبل لابنته ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، في حين نجد المسيحي العراقي الذي انصهر أيضا في الفكر العلماني يرفض هكذا حالة. ومما لاشك فيه أن رفضه ذلك نابع من عراقيته وارتباطه النفسي والتربوي بالثابت الاجتماعي.

2021/11/07

البلوغ وثورة الأسئلة المخيفة عن ’أسرار الوجود’.. لا تقلقوا!

فترة البلوغ وثورة التساؤلات

إن مثل هذه الأفكارـ التي تدور في ذهني آنذاك عن أسرار الوجود ـ إنما تحدث لأغلب الأفراد تزامنا مع فترة البلوغ أو تتأخر عنها قليلا، حيث تكون تلك الفترة قصيرة وعابرة لدى البعض، وبالعكس قد تكون طويلة ومريرة على البعض الآخر.

[اشترك]

لكن أتعلمون أن ظهور مثل هذه الأسئلة في ذهن الإنسان لا يدعو إلى أي قلق واضطراب، بل بالعكس فذلك علامة على الاستقلال الروحي والنضج الفكري ودليل على تفتح استعداداته وقابلياته الباطنية.

نعم، هذه علامات تبث الأمل في بلوغ الإنسان مرحلة جديدة من حياته؛ أي أن جميع الأفراد الذين يتزامن نضجهم الفكري مع بداية بلوغهم الجسمي والفسلجي، فإنهم يعومون في سن البلوغ في بحر من هذه الأفكار، بحيث يتشبثون بكل وسيلة من أجل الخلاص منها أما من يتأخر نضجهم الفكري فإن المدة قد تطول لتخترق زوايا أفكارهم مثل هذه الأسئلة.

وبالطبع فإن الأفراد الذين يعيشون حالة طفولية من الناحية الفكرية والنفسية، فإنهم لا يرون قط حالة النضج العقلي، فليس هنالك مثل هذه الأسئلة التي تؤرقهم، فهم يعيشون على الدوام حالة من الاستقرار الممزوجة بالجهل، فلا يشعرون أبدأ بحالة من الاستقرار الفكري؟

على كل حال، ينبغي عليكم ألا تشعروا بالقلق من ظهور مثل هذه الأفكار، فهي دلالة على نضجكم الفكري وإنكم قد وردتم مرحلة جديدة في الحياة، ألا وهي مرحلة البلوغ الفكري.

فإن راودتكم مثل هذه الأفكار فاعلموا أنكم تخطيتم مرحلة التقليد والتبعية ودخلتم مرحلة الاستقلال، فينبغي لكم أن تجدوا وتجتهدوا وبكل هدوء للظفر بالحلول المنطقية والمقنعة لهذه الأسئلة والاستفسارات.

طبعا قضية مراودة هذه الأفكار وإن كانت تدعو للأمل والتفاؤل، إلا أنها قد تشكل ظاهرة خطيرة إن لم تجد هذه الأسئلة بعض الأجوبة الصحيحة، لأن الجهد الممتزج بالأمل في هذه الحالة يتحول إلى نوع من الخمود واليأس والتشاؤم، لذلك يشاهد العديد من الشباب الذين لم يحصلوا على ردود صحيحة لهذ الأسئلة وبغية الهرب من شباك مثل هذه الأفكار، قد لجأوا إلى المسلّيات الخاطئة والإشباع الطائش لغرائزهم المستعرة، في محاولة للحصول على استقرار زائف وكاذب.

على كل حال، فمن الطبيعي عندما يقتحم الإنسان وسطا جديدة فإن كل شيء سيكون لديه مبهماً ومدعاة للتساؤل والاستفسار، فيسعى من خلال ما يملك من فكر لاختراق حجب هذا الابهام والوقوف على الحقيقة، إلا أن حداثة هذه الأجواء إنما تبدأ حين يرد الإنسان مرحلة البلوغ، وهنا يرى كل فرد العالم بصورة جديدة، وبالطبع ترافق ذلك عملية انبثاق مختلف الأسئلة والاستفسارات، وبناء على هذا فلا ينبغي لكم أن تشعروا بأي امتعاض من مخالجة هذه الأفكار لأذهانكم، بل عليكم أن تنظروا إليها بكل تفاؤل وسرور.

المصدر: كتاب أسرار الوجود

2021/11/03

الوجود الديني والعلماني في العراق

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

 

لو تأملنا واقع الطروحات الفكرية والتوثيقية المتعلقة بالوجود الديني والعلماني في العراق، نجدها تنقسم تحت عنوانين رئيسيين هما:

[اشترك]

ـ صلاحية الحكم:

من حيث انسجامها مع طبيعة المجتمع العراقي والنسيج المكوّن له، فيقول بصلاح العلمانية اعتمادا على طبيعة المكوّن العراقي وتراكمه التاريخي، حيث يعتبر ـ مثلا ـ التعددية العرقية والدينية ـ التي تعد من أبرز سمات المجتمع العراقي ـ دليلا على أن العلمانية لا الدين هي الاصلح للحكم، بعد أن يتوحد العراقيون جميعا في إطار المواطنة.

ومن جهة أخرى فإن العلمانية مفهوم يقترن بالتقدم والمعاصرة ويحمل في طياته المنجز الاوروبي الحديث وما يعنيه من تطور حضاري كبير على الصعيد التكنلوجي والاداري. فيما ينحصر الدين في دائرة الفعل العبادي الذي يستلزم تحديده جملة من علوم لا تكاد تمس واقع الحياة.

كما ويتخذ العلماني من المصير المأساوي الناجم عن تسلم الأحزاب الدينية ـ اليوم ـ دفة الحكم في العراق دليلا أوضح من الشمس في رابعة النهار، على صحة مقالته.

ـ الاصالة والاعتبارية:

ويدور الحوار في هذا العنوان اعتمادا على أدلة عدة منها ـ مثلا ـ التاريخ العراقي، فالقائل بأصالة العلمانية يحتج بتاريخ العراق الممتد الى آلاف السنين حيث الحضارات البشرية الاولى التي كانت تذعن لقوانين مدنية، وحتى بعد الاسلام، لم يعش العراق حالة مطلقة من الحكم الثيوقراطي الاسلامي. فبغداد الرشيد ـ قبلة الدنيا حينها ـ لشدة ما كانت تضج بمظاهر الانفتاح الاجتماعي فضلا عن انفتاح السياسة الحاكمة.

وقد ظل ذلك الانفتاح نبضا ملموسا طوال المراحل التاريخية التي تلت الدولة العباسية وهي المغولية والصفوية والعثمانية، وصولا الى الدولة العراقية الحديثة التي قامت عام 1921 . فيما يحتج أنصار الدين بالصبغة الاسلامية التي هيمنت على المجتمع العراقي منذ أن طاله الفتح في العقد الثاني من هجرة النبي الاكرم (ص).

إن مناقشة هذين العنوانين أمر يطول، وخارج عن موضوع البحث. ولكن ثمة نقطة تهمني فيه وهي الثابت الاجتماعي الذي يرتكز عليه المجتمع العراقي في طبيعته وسلوكياته، سيما في وقتنا الراهن، الثابت الذي يتجاوز تباين الأفراد واختلاف الانتماءات والأفكار والاتجاهات ويشكل لونا بارزا في الهوية الاجتماعية للعراقيين.

لهذا سأتناول العنوانين، بشكل مختصر، فأقول:

لا يختلف اثنان في أن اليقظة العربية الاسلامية منذ بواكيرها، في بداية القرن التاسع عشر، وعلى يد مفكرين من أوائلهم السيد جمال الدين الافغاني وأواخرهم السيد محمد باقر الصدر (قد). قد انتجت فكرا اسلاميا تميز بالنضج العالي. عنِيَ بإنقاذ الاسلام من الرقاد الفكري والعجز عن مواكبة المسيرة الحضارية العالمية. وذلك من خلال طروحات علمية وفلسفية شملت مختلف الجوانب الحياتية والعلوم المتعلقة بها كالسياسة والقانون والاقتصاد وغيرها.. وإن نظرة منصفة لتلك الاطروحات قادرة على بث الثقة من حيث صلاحيتها ـ نظريا ـ في التدليل على كون الاسلام منظومة قيادية بوسعها صنع النموذج الحياتي الصالح. وهذا مايضعنا ـ فيما يخص استدلالات العلماني ـ أمام نقاط هي:

1ـ الطوائف العراقية القائمة على الاساس العرقي كالتركمان او الاكراد مثلا، أو الاساس الديني كاليزيدين والصابئة. ليس فيهم من أعلن عن قدرة مكونه، العرقي أو الديني، على انتاج منظومة فكرية تتناول شؤون الحياة، ليكون بالتالي مكونا موازيا للمكون الاسلامي، فلا تحل مشكلة اشتراكهم في بقعة جغرافية واحدة إلا بإلغاء الجميع وفرض العلمانية كحل نهائي وأوحد. بمعنى ان المواطنة ليست حكرا على تطبيق العلمانية، اللهم إلا أذا حصرنا الاسلام في دائرة الفعل العبادي وما بعد الموت، وهذا ما أثبت المنجز الفكري الاسلامي الذي انتجته مرحلة اليقظة، خطله. إن دولة الرسول الاعظم ص تبدو فيها حالة المواطنة بشكل واضح من خلال احتضانه للنصارى واليهود وغيرهم في دولته ضمن سياقات معينة.

2ـ يشير دعاة العلمانية الى بعض المظاهر الحضارية التي دخلت المجتمع العراقي كحصول بعض الشباب العراقي على شهادات في الطب والحقوق، أو انشاء صالات للعرض السينمائي او المسرحي، على انها من تجليات الوجود العلماني ومنجزه الايجابي في المجتمع.  والحال أن مظاهر التحضر من إيجاد كوادر علمية في شتى المجالات بل وحتى العمران والتكنولوجيا ليست حكرا على النظام العلماني، وخير دليل دولة ماليزيا التي تدين حكومتها بالإسلام. وبالنسبة للفنون فإن المؤسسة الدينية لم تمنع منها غير الاستخدام السيء والمتجاوز لحدود القيم الفاضلة. وعليه فإنه لاحقّ للعلمانيين في احتساب هذه النقطة دليلا على تفوقهم في الحكم على الدين.

3ـ التطور الحضاري الذي عاشه العراق منذ بدايات القرن العشرين لم يكن بسبب تطبيق العلمانية بل بسبب الانتعاش الاقتصادي وظهور النفط. فالإسلامي والشيوعي والبوذي والعلماني والمنتمي لأي جهة كانت، قادر على استغلال الوفرة المادية وتحقيق القفزة العمرانية، وخير دليل ما شهدته دول الخليج العربي منذ عقود، من قفزات حضارية هائلة حققتها لهم حكومات تدين بالمشيخة البدوية. والتطور الحضاري ـ كما رأينا ـ هو السبب في الحراك الفكري والثقافي. وعليه فإن الاحزاب الحاكمة اليوم، لم تدمر العراق بانتمائها الاسلامي بل بتكالب قادتها على نهب المال العام. وهذا ما يمكن أن يفعله العلماني والاسلامي على السواء.     

2021/11/03

المثقف أم الفقيه أم الفن.. من المسؤول عن تنقية التراث الإسلامي؟!

التأمل الأولي في مصطلح (التراث الإسلامي) قد يقود بالضرورة إلى تصنيفه ضمن اهتمامات المؤسسة الدينية، لكونها الجهة الرسمية المشتغلة في الشأن الإسلامي عقائدياً وفقهياً وأخلاقياً وفكرياً، فهي الجهة المختصة رسمياً بما له علاقة بالعلوم الإسلامية.

[اشترك]

إلا أن التراث في معناه العام الذي يستوعب جميع ما بذله المسلمون تاريخياً من جهود وأنشطة حضارية يتسع إلى أكثر من اهتمامات المؤسسة الدينية، الأمر الذي ينفتح معه الباب لمساهمة جميع أهل الاختصاصات لدراسته وتنقيته، فتراث المسلمين يشمل في طياته أرثاً خصباً وذاخراً بكل أشكال الفنون والآداب والمعارف المختلفة، فمثلاً المعمار في التراث الإسلامي يجب دراسته من مهندسي المعمار، والفنون من شعر ومسرح وموسيقى يتم دراستها من أهل الفن والشعر والآداب، والتراث الفكري والفلسفي والثقافي يتم دراسته من أهل الفلسفة والفكر والثقافة، وعليه لا يمكن توكيل جهة واحدة بمهمة دراسة التراث الإسلامي، إلا أن في الغالب عندما تذكر كلمة التراث الإسلامي يقصد منها التراث الديني، ومن هنا لابد من التأكيد على أن الدخول في ساحة العلوم الدينية يستوجب توفر الأدوات الخاصة بتلك العلوم لمن أراد الدخول فيها، ولا يجوز التصدي لها من باب أنها أمر مشاع لجميع المسلمين، فهناك مغالطة يرتكز عليها البعض في تسويق تدخله في هذه العلوم؛ وهي أن الدين للجميع وليس خاصاً بفيئة معينة وعليه يجوز للجميع أبداء الرأي، وهذا مغالطة لا يحسن السكوت عليها، فهناك فرق بين أن يكون الإسلام خطاب للجميع في حدود التكليف والامتثال، وبين وجود علوم ومعارف تشكل تخصصات لها أدواتها ومنهجياتها الخاصة، والعلوم الإسلامية حالها حال بقية العلوم لها مناهجها الدراسية التي تميزها عن غيرها من التخصصات، وكل من أراد دراستها يمكنه ذلك من خلال توفير الشروط التي تؤهله لمعرفة مسائلها وموضوعاتها، وهذه الحقيقة ليست خاصة بالعلوم الإسلامية وإنما تشمل كل العلوم والمعارف، فلو أخذنا العلوم الإنسانية مثالاً نجد أن علم النفس أو علم الاجتماع أو علم الاقتصاد أو غير ذلك لها مدارسها ومناهجها التي تضبط مسائل تلك العلوم وموضوعاتها، ولا يحق لغير الدارس المختص أن يبدي وجهة نظره في هذه العلوم، ومن هذا البعد يمكننا أن نقول أن التراث الديني من مسؤوليات أهل الاختصاص في العلوم الدينية والباب مفتوح أمام الجميع للمساهمة في البحث طالما كانت بحوثهم منضبطة بالأدوات المعهودة في دراسة المسائل الدينية.

2021/11/02

ثقافات تهدد ’هويتنا الإسلامية’.. افتحوا أبواب المساجد!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

 

ثقافة الضد النوعي

بين الفينة والأخرى نكون أمام حدَثٍ يتعارض مع ثقافة المجتمع (المسلم) ويبدأ المهتمون في محاولة تكوين رأي عامٍ رافضٍ له وهذه خطوة مهمة جداً ويجب الحفاظ عليها لكنها لوحدها غير عملية إطلاقاً.

[اشترك]

تلك الأصوات التي تتعالى بين الفينة والأخرى رافضة مسخ هويتنا الإسلامية وإن كانت مهمة لكنّ مردودها لا يروي ظمآناً ولا يُحدِثَ تغييراً يُعتدّ به على أرض الواقع، إذا أردنا التغيير حقا فيجب أن نعمل على إيجاد نمطٍ ثقافي يوازي الثقافات الدخيلة ويعالج تلك الندوب التي تكون منفذاً للميكروبات، أعني يجب الانتقال الى ثقافة إيجاد الضدّ النوعي، يجب الاهتمام بالفعاليات التي تجتذب الشباب قبل أن يجتذبهم الخمّارة وأصحاب المراقص.

هذه ليست وظيفة طلّاب العلوم الدينية لوحدهم بل هي وظيفة المجتمع بأسره، كلّ شخص يجب أن يبادر وفق إمكاناته وقدر استطاعته في السعي بهذا الاتجاه، إذا كنتَ تملك الأموال و القدرة على إنشاء مرافق سياحيّة ترفيهية خاضعة للمعايير الاسلامية فهذه وظيفتك، وإذا كنتَ قادراً على إنشاء نادٍ علمي تثقيفي فعليك بها، وإذا كنت تملك قلماً واعيا فاملأه حبراً وتوكل على الله، وإذا كنت قادرا على توعية صديق أو قريب فلا تتردد أو تتكاسل، كلّ واحد منّا يتحمَّل قسطاً من هذه المسؤولية، والتهاون بها سيكون له مردود سلبي علينا جميعا .

حتّى المساجد التي باتت لا تفتح أبوابها إلّا بضعة دقائق لأجل الصلاة يجب إعادة النظر في جدواها وكيفية استثمارها فلم يكن المسجد يوماً في التاريخ موصد الأبواب كما هو اليوم .

الذي أريد أن أقوله دعونا نفكر في هذه المسؤولية الجماعيّة، إذا لم تكن قد فكّرتَ بها من قبلُ فباسم الله دعك من الاكتفاء بالتذمر وانتظار مواقف الآخرين، منذ صباح الغد ابدأ بما تستطيع وسترى النتائج بعد زمنٍ يسير.

2021/10/31

حبس العقل في حدود ’الحس’ جريمة تنتهي إلى ’الإلحاد’!

يعاني الإلحاد من إشكالية لها علاقة بطبيعة التفكير، والإلحاد ليس إلا ضحيةً للتفكير الذي عظم الحس وأهمل العقل، فالموجود عندهم لابد أن يكون مادياً بالضرورة، فالذي يكتفي بالحس لا يمكنه رؤية شيء خارج حدود المادة.

[اشترك]

ومعالجة هذه الإشكالية لها علاقة بنظرية المعرفة بوصفها العلم الذي يبحث في إمكانية المعرفة ومصادرها وأدواتها، وقد ناقشت الفلسفة الإسلامية هذا الأمر بإسهاب وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الموجود أعم من الوجود المادي.

ومن هنا تتميز الفلسفة الإسلامية على الفلسفات المادية بعدم إهمالها لأي مصدر من مصادر المعرفة، حيث لا يمكن الاكتفاء بالحواس لمعرفة كل الحقائق لبداهة وجود حقائق غير حسية، كما لا يمكن الاكتفاء بالعقل دون الحواس لأن في ذلك إهمالاً للحقائق الحسية، فمن يحصر أدوات المعرفة في الحواس لا يمكنه الاعتراف حتى بالعقل والروح بوصفهما خارجان عن دائرة الحواس.

أما من يؤمن بالعقل طريقاً إلى المعرفة بجانب الحواس، يمكنه التصديق بما هو حسي وبما هو خارج عن حدود الحس؛ وذلك لأن العقل له قدرة على الاستنتاج والاستنباط واستخلاص النتائج من المقدمات، أي أن العقل له القدرة على الانتقال من بعض الأسباب والظواهر الحسية لإثبات حقائق أخرى غير منظورة حسياً، وبالتالي كما للعقل القدرة على الإحاطة علماً بما هو حسي وشهودي، له القدرة أيضاً على العبور من الشهود إلى الغيب، وإذا كان العقل في ما هو مادة يحتاج إلى التجربة والمختبر، فهو في ما هو غير مادي يحتاج إلى البرهنة والاستنتاج والاستنباط، والعقل الذي يثق في نتيجة التجربة إذا اكتملت شروطها الطبيعية، هو ذاته العقل الذي يثق في الاستنباط والاستنتاج والبرهنة إذا اكتملت شروطها العقلانية. وإذا كان نظام التصديق في الأمور الحسية هو المطابقة مع الواقع، فإن نظام التصديق بالحقائق غير الحسية هو مطابقتها بما أودع في فطرة الإنسان من حقائق؛ وهذه الحقائق الفطرية لها من الوضوح والظهور أكثر مما للحس من ظهور، فمثلاً البديهيات التي يعتمد عليها العقل التجريبي نجدها أكثر ظهوراً من نتائج التجربة الحسية نفسها، وإذا اعترف الإنسان بهذه البديهيات فمن السهل عليه الاعتراف بوجود فطرة تمثل أصول الحقائق الغيبية، يقول عزمي بشارة: "فهل هناك بنية ذهنية تزرع في العالم شعور الإنسان باللامحدود واللانهائي والكلي القدرة والعظيم والمرهوب، وتجعل هذه كلها شعوراً غامضاً بالقداسة؟ ربما توجد مثل هذه البنية في العواطف الإنسانية، لم لا؟ الواضح أن افتراض وجودها يفسر الكثير"[1] ومن هنا كان تحجيم التفكير الإنساني في إطار ضيق هو الذي يضيع على المعرفة الإنسانية كثيراً من الحقائق.

وما يجده الإنسان من إحساس وجودي، وما يشعر به من إلحاح داخلي يجعله مضطراً للبحث عمن أوجده، كما أن حاجة الإنسان إلى الكمال من جهة وتطلعه إلى مصير الحياة ومستقبلها المجهول من جهة ثالثة، يحتم عليه التطلع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادة، وهذا النوع من الوعي المتسامي عن المادة والمترفع عن الحس، يمثل جانب الإشراق في الإنسان..

وعليه فإن أبجديات التفكير العقلي تقود الإنسان وفي أول مراحل تفكيره؛ إلى السؤال عن علل الأشياء وغاياتها، وهو سؤال العقل الأول؛ بل العقل ليس شيئاً آخر غير هذا السؤال، فكون الإنسان عاقلاً هو معنىً آخر لكون الإنسان متسائلاً عن فلسفة الأشياء وغاياتها، والذي يكتفي بالأجوبة الحسية يتغافل عن كون الأسئلة في شقها الأكبر غير حسية، فالسؤال عن العلة لا يقف عند حدود العلة المباشرة وإنما يتجاوزها حتى يصل إلى العلة الأولى، والسؤال عن الغاية لا يقف عند الغاية المحسوسة؛ لأنها لا تشبع طموح الإنسان وتطلعه.

يقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في مقام توضيح ما يقوم به الدين تكميلاً للعلم: "عندما أتحدث عن الإله، فإنني لا أطرح إلهاً ليسد الثغرات التي لم يجب عنها العلم حتى الآن، فأنا لا أنكر قدرة العلم على استكمال التفسير. ولكنني أطرح الوجود الإلهي لأفسر لماذا صار العالم قادراً على التفسير؟"[2]

فحبس العقل في حدود الحس جريمة في حق العقل وفي حق الإنسان، فقيمة العقل في إدراك عمق الحياة لا في معرفة ظاهرها، وقيمة الإنسان بأن يعيش في ذلك العمق لا في ظاهر السطح، والغيب ليس شيئاً آخر غير عمق الحقيقة ولب المعنى.


الهوامش:

[1] - العلمانية والدين، عزمي بشارة، ص 251

[2] - دكتور عمرو شريف، خرافة الالحاد، مكتبة الشروق الدولية، مصر الجديدة ، ص 70

2021/10/31

4 قنوات في مواجهة ’مسخ الهوية’: وفّروا البديل واهتموا بالشباب!

لا شك أن لتطور شبكة الاتصال أثراً بالغاً في حياة الإنسان لا سيما وأنها أوجدت تحولاً جذرياً في سلوكه وتدبير أموره وكيفية تعامله مع الناس.

[اشترك]

وبات واضحا أن وسائل الاتصال، كالتلفزة، والأقمار الصناعية، والإنترنت، قد غمرت العالم بأفكارها، وساهمت في ترويج فكرة العولمة الثقافية والاقتصادية.

ففي هذه الظروف الخطيرة التي تزداد فيها الهجمة الثقافية شراسة على المسلمین بغية مسخ هويتهم وذوبانها تتضاعف مسؤولية المسلمين، عملا بقوله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

ومن هنا فإن انطلاقة أي وعي إسلامي في المجتمع يتم عبر عدة قنوات:

الأولى: الأسرة باعتبارها اللبنة الأولى في بناء شخصية الإنسان المسلم، فالمسؤولية الأولى تقع على عاتق الوالدين في تربية أبنائهم تربية إسلامية بناءة.

الثانية: أجهزة التربية والتعليم فهي التي تنمي طاقات الإنسان الفكرية والمعنوية من خلال عرض برامج تثقيفية وإسلامية تتناسب مع أعمارهم و يا للأسف فإن تلك الأجهزة تتقاعس عن القيام بهذه المهمة الكبرى.

الثالثة: إقامة المهرجانات والأعياد الدينية والشعائر الحسينية وإلقاء الخطب ودعوة رجال العلم والصلاح لإلقاء المحاضرات التي تتجاوب مع روح الشباب لها من الأهمية في بث الروح الدينية وتوثيق أواصر الصلة بين الإخوة المؤمنين وتعزيزها.

الرابعة: تنظيم الرحلات العلمية وإقامة المخيمات بين الشبيبة والتعرف على بعضهم البعض بغية ملء أوقات فراغهم.

وفوق هذا كله فلابد للجهات المعنية بالجانب الثقافي من إنتاج برامج إسلامية بديلة عن البرامج التي يبثها الغرب.

إن الناشئ کالفسيلة بحاجة إلى مراقبة مستمرة لكي تنمو حتى تصبح شجرة تضرب بجذورها في الأرض على وجه لا تزعزعها العواصف المدمرة، وهكذا حال الناشئ فهو بحاجة ماسة إلى توعية وتربية إسلامية بناءة غير منقطعة حتى تكتمل شخصيته الإيمانية للحيلولة دون تسرب الشيطان إلى قلبه.

ومن أهم الأساليب التي تؤثر في تنمية حالة التقوى لدى الشباب هو ألا يجد الشاب فراغا في أوقاته ليملأها بما فيه الضرر والضلال على نفسه أولاً، وعلى مجتمعه ثانياً.

ولقد قالوا: ان الفراغ والشباب والجدة        مفسدة للمرء أي مفسدة.

المصدر: رسائل ومقالات ج2

2021/10/28

هل الإسلام ضد الوطن؟!

موقف الإسلام حيال القومية

إن الإسلام يحترم كافة القوميات دون أن يرجح قومية على أخرى، بل ينظر إلى الجميع بعين الأخوة، ويقول: (إنما المؤمنون إخوة) ويقول أيضا: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).

[اشترك]

ويقول النبي صلى الله عليه وآله: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

فهذه هي الوصفة التي كتبها الإسلام لإسعاد البشرية كافة، ومع ذلك لم يلغ القومية وإيجابياتها بل احترمها.

روى المفسرون أن النبي لما هاجر عن مكة المكرمة ووصل في طريقه إلى "جحفة" تذکر موطنه وحن إليه فامتلأت عيناه بالدمع، فنزل عليه أمين الوحي يسليه بالآية المباركة: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك

إلى معاد) وقد حقق سبحانه وعده، ففتح النبي (ص) مكة بعد ثمانية أعوام ودخلها من ناحية «أذاخر» وهي أعلى نقطة في مكة، ولما وقع نظره على الكعبة وبيوتات مكة هاج به الحزن، وقال مخاطباً ربوعها بأني أحبك ولولا أني هجّتر لما تركتك .

لا شك أن الإنسان إذا نشأ في ربع من الربوع وترعرع فيه منذ نعومة أظفاره وحتى بلوغه وهرمه، يجد في نفسه حباً ورغبة ووداً حياله، فذلك أمر جبلي قد فطر عليه الإنسان ولم تكافحه الشريعة التي هي دين الفطرة بل احترمته، لذا تجد أنه يحاول بكافة السبل الحفاظ على لغته الأم وثقافته، وبذل كافة الجهود في سبيل ازدهار وطنه ورفاه قومه.

فالمترقب من کل مسلم إعمار بلده واستثمار ثرواته في سبيل خدمة قومه وثقافته القومية إذا كانت متجاوبة مع القيم والمثل الإسلامية وهذا أمر مرغوب إليه من قبل الإسلام، ولكن المحظور هو جعل القومية ملاكاً للتفاخر والتفوق.

*آية الله السبحاني: مرجع شيعي معاصر من إيران له مؤلفات مميزة في علوم الكلام والتفسير والفلسفة.

المصدر: كتاب رسائل ومقالات

2021/10/26

شعوباً وقبائل: البشرية مجتمع واحد والتعارف يصنع الحضارة

الحضارة -3-

حين نجد الإسلام يعتمد الإنسانية كأساس ومعيار ليكون بعد ذلك صنع الحضارة مشاعاً للجميع ما داموا يمتلكون الصفة الإنسانية، فيقول القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[1]...

[اشترك]

فهذه الآية الكريمة بيّنت الأساس المعتمد في أن البشرية مجتمع واحد ينتسب إليه كل ابن ذكر وأنثى من الناس، والاختلاف في الشعب والقومية والجنس هو من خارج النوع الإنساني فهو جعلٌ من الله، ويكون التعارف أساسا لصنع الحضارة، فتكون بذلك الحضارة منجزاً مصنوعاً من قبل عموم الجنس البشري لتدفع بعمومه إلى التطور والخير والرفاه، ولاشك أن التعارف هنا خليق بصنع حضارة ذات مؤشر أعلى بكثير مما نجده في الحضارات الأممية، فالملايين التي أبادتها الأمم المتحضرة استبداداً وطغياناً، لاشك أن فيها من الطاقات والكفاءات ما يمكن أن يرتفع بها المؤشر الحضاري العالم، أو المناخ الاجتماعي الخانق الذي لا تسمح الدول الاستعمارية بغيره للدول الضعيفة لابد إنه قد ضيع على أصحاب مواهب وطاقات فرصة الوصول لما يتمكنوا به من تطور مواهبهم وإنضاجها، وكمثال ما نشهده اليوم من أعداد كبيرة من ذوي اللون الأسود وهم يبدعون على مختلف الأصعدة فيؤدي هذا بنا إلى سؤال مهم وهو أن البشرية كم أهدرت من طاقات وكفاءات طوال عشرات القرون وهي تعكف على معاملة العبيد كالحيوانات؟!

ننتهي من كل هذا إلى أن ما ينتج عن العلاقة بين البنى التحتية والفوقية هو التموضع أو النسبية أو ما يسمى بداخل التاريخ، وقبالته الوحي المطلق، حيث أنه منزه عن كل خلفية مسبقة، ومنزه عن كل الآليات والعلاقات الجدلية، أو كما بينت في تعريفي للدين، هو ما لله من إشراف مطلق على الواقع الكلي.

وبذلك تصير لدينا نتيجة واضحة وهي أننا إذا أردنا أن نغير الإنسان أو المجتمع علينا أن نغير بناه الفوقية من خلال تغيير بناه التحتية لينتج لنا مجتمعا متموضعاً بشكل مغاير عن الحالة الأولى... أو أنه يهطع لقيادة الوحي كيما نحصل على إنسان ومجتمع مثاليين.    

بمعنى أن المشكل الإنساني على صعيد المعرفة متأتٍّ إما من محدودية العقل الإنساني فينسحب هذا على قدرته على التشخيص، أو الوقوع تحت تأثير الظرف التاريخي الذي ينتج عادة من الطغيان البشري فينتج فكراً لا يمثل غير ردة فعل حيال التجربة التاريخية وليس واقعاً فعليا وفي الحالين ربما تورط بالخروج عن دائرة القليل الممكن من العلم والمعرفة[2]، وخير شاهد على ذلك ما نقف عنده اليوم من حلقات غير منتهية للمسلسل الفكري البشري.

 

الهوامش:


[1] الحجرات 13

[2] أشير بهذا الى قوله تعالى

2021/10/21

الصراع الشيعي السني.. ضرورات الحاضر أم هيمنة التاريخ؟!

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

ينطلق التشيع من تصور خاص لخلافة النبي (ص)، يقوم على كون الإمامة منصب إلهي وليس من شأن الأمة، على غرار ولاية رسول الله (ص) على الأمة، الّتي لا تخدع لترشيح الناس وبيعتهم، وإنَّما تقوم على التعيين المباشر والانتخاب الإلهي.

[اشترك]

هذا المنظور الخاص لخلافة المسلمين بعد رسول الله (ص) شكل خطاً معارضاً لواقع الخلافة الإسلامية تاريخياً، كما إنَّه شكل فهماً للإسلام يختلف في كثير من مبانيه عن ما هو موجود عند أهل السنة، وبهذا نتفهم الصراع الفكري والعقدي بين التوجهين، الذي وصل في كثير من محطاته التاريخية الى قطيعة حقيقية، ومازالت الأمة الى اليوم تعاني من هذا الانقسام الذي يرجع سببه الأساسي للانقسام التاريخي حول خلافة الرسول (ص) ومستقبل الرسالة، وما تشهده الساحة السياسية اليوم من اقتتال في سوريا والعراق واليمن وغيرها يؤكد على استغلال واضح لهذا التباين بين أبناء الأمة، وقد عمل الأعلام على إذكاء كل محاور الخلاف بين الشيعة والسنة، كما عملت الدول المتنافسة سياسياً على تجييش المؤيدين من خلال تبني الخطاب الطائفي الذي أصبح مشكلة حقيقية تهدد المنطقة برمتها، وتحول الكلام عن الشيعة والسنة من مجرد حديث عما وقع في التاريخ، الى اشتباكات دموية نشهدها بشكل يومي في ساحات الصراع في المنطقة، كما انتقل النقاش العلمي الذي كان يدور في مراكز البحث والتحقيق إلى شعارات سياسية ملأت شاشات التلفزة فتسممت الأجواء بشكل غير مسبوق.

ولكي نرجع هذا الخلاف لحجمه الطبيعي لابد من تفهم الخيار الشيعي في الإمامة، وذلك بعد طرحه ضمن المساحة التي يتموضع فيها كخلاف علمي ووجهة نظر أخرى لفهم الإسلام، ولو قمنا برصد ما يقال لتأجيج الخلاف بين التوجهين نجده يرجع بشكل مباشر الى موقف الشيعة من الخلافة والخلفاء الذين هم في نظر الشيعة قد تعدوا على حق أهل البيت (ع) في الإمامة والقيادة، وفي نظر السنة يمثلون شخصيات مقدسة لم يفهم الإسلام في المنظور السني إلاّ من خلالها، وبالتالي ما تعانيه الأمة اليوم من انقسام ترجع أسبابه المباشرة الى الانقسام الذي حدث بعد سقيفة بني ساعدة وما أعقبها من حروب في الجمل وصفين والنهروان وغيرها، وبذلك لا يمكن أن ننظر لتلك الحوادث التاريخية كحوادث منفصلة عما نعيشه اليوم، أو نعتبرها بعيدة عن ما يؤثر على خياراتنا السياسية والثقافية، بل أصبح واقعنا صورة أخرى عن تاريخنا، ومن هنا يمكننا أن نشخص بعض الخيارات ذات التأثير المحدود لمواجهة هذا الصراع الطائفي.

 فمن يحاول أن يتجاوز تلك الفترة التاريخية بالقول: (حرب سلمت منها سيوفنا فلتسلم منها السنتنا)، لا يمكنه تقديم مساهمة حقيقية؛ طالما فهمنا للإسلام اليوم، إما قائم على تقديس الخلفاء واستلهام الشرعية من تجربتهم التاريخية، أو قائم على الوقف ضد الخلفاء وخيارات الأمة التاريخية، ومحاولة حل الأزمة الطائفية من خلال تجاوز تلك الفترة ونسيانها، أشبه بالحكم على السنة والشيعة بالتنازل عن فهمهما للإسلام والتنصل عنه، فالإسلام في المنظور الشيعي يرتكز على الحق الإلهي والشرعي لإمامة أهل البيت (ع)، وبالتالي يقوم على رفض كل الخيارات التي لا تنتمي لهم، والإسلام في المنظور السني يعتقد إنَّ صحابة رسول الله (ص) وكل ما أنجزوه في التاريخ يمثل الفهم الأصيل للإسلام، وبكلا الفهمين لا يمكن أن تقبل الدعوى القائمة على تناسي أو تجاهل ما جرى في التاريخ. فتلك الدماء التي سفكت في التاريخ هي ذاتها الدماء التي تسفك اليوم، وهذا الصراع الراهن هو امتداد لذلك الصراع.

فما وقع من حروب بين علي ومعاوية، وبين الحسين ويزيد، وما تبعها من ثورات العلويين ضد النظام الأموي والعباسي، كل ذلك يمثل الجذر التاريخي لكثير مما يحدث في ساحتنا الإسلامية اليوم، من اختلاف مذهبي، وتباين سياسي، وصراع عسكري، وبالتالي كل الدماء التي جرت في التاريخ مازالت يجري في واقعنا المعاصر، سواء في سوريا، أو العراق، وحتى اليمن، وما زالت الأنظمة الحاكمة تستغل الاختلاف المتجذر بين السنة والشيعة لتحقيق مكاسب سياسية آنية، وقد وصل واقع المنطقة السياسي الى شفا جرف سوف ينهار بالجميع وحينها لن يكون هناك رابح.

 وفي ظني إنَّ العقدة الكبرى امام الوضع الثقافي المتحكم في الوسط الإسلامي، هو هيمنة التاريخ الذي مازال يتحكم في خياراتنا المعاصرة، فما دام أهل السنة ينظرون الى التاريخ كهوية إسلامية يؤدي الانفكاك عنها انفكاك عن الإسلام، وما دامت خيارات الأمة السياسية مستمدة من واقع التجربة التاريخية، وما دام الموقف من الحاكم محكوم برؤية دينية مستمدة من التاريخ أيضاً، لا يمكن ضمن هذه الهيمنة التاريخية أن نتأمل في صنع واقع تمليه علينا قناعاتنا وخياراتنا التي تفرضها علينا ضرورات الحياة الراهنة، ولا يمكن أن تحلم الأمة بمستقبل تتمتع فيه المنطقة بالاستقرار والتنمية، ولذلك من الضروري أن تكون هناك مواجهة تفتح فيها ملفات التاريخ من جديد، ودراستها ضمن السياق الذي تفرضه الضرورة المنهجية والأكاديمية بدون تحامل او تقديس، وحينها سوف تتمكن الأمة من تحقيق وعي خاص للإسلام، تكون قد ساهمت في صنعه وليس مجرد واقع موروث. وما لم تنجز الأمة هذه المهمة، سوف تستمر الأنظمة باللعب على هذه الاختلافات، فما لم نستطع أن نحسم الصراع التاريخي لا يمكن أن نحسم ما يجري في العراق وسوريا وغيرها من مواقع الاحتكاك الشيعي السني.

ومن هنا فإنَّ خيار الهروب من مواجهة التاريخ والتعفف عن تقييم ما وقع بين الصحابة، هو خيار خادع ومراوغ يتستر بالورع عما وقع بين الصحابة؛ وفي المقابل لا نجد هذا التورع فيما يقع اليوم بين المسلمين من صراع، فلا دمائهم سلمت من سيوفهم، ولا ألسنتهم كفت عن صب الزيت على النار، من تحريض وتكفير وإباحة دماء وأعراض، ومازالت تلك السيوف مشهورة في وجه بعضنا البعض، ولم تسلم الألسن من خلال هذا الضخ الإعلامي والتحريضي الذي دخل كل بيت عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي.

وقد يرى البعض إنَّه ليس من الإنصاف اتهام السنة أو بعضهم بهذا التحريض الطائفي، فالشيعة يتحملون أيضاً نصيباً كبيراً مما يجري اليوم من صراع، وليس بوسعي الدفاع عن الشيعة مع إني أتمكن من أجراء مقارنة بين الفتاوى التي صدرت من الطرفين حول هذا التحريض، وسوف يصدم القارئ بحجم الفتاوى التي أصدرها أهل السنة في إباحة دماء الشيعة وفي المقابل لم أجد فتوى واحدة أصدرها مرجعاً شيعياً يحرض فيها على السنة، وما يثار إعلامياً عن ممارسات الشيعة ضد سنة العراق لا يثبت الكثير منه أمام التحقيق المحايد والمنصف، وإن ثبت بعضه لا يحسب على الشيعة لأنّه خلاف إرادة المؤسسة الدينية التي حرّمت ذلك بشكل واضح وصريح، وفي واقع الأمر إنَّ ما يثار من تهويل على الشيعة المقصود منه هو تهييج السنة وتحريضهم حتى يُستغلوا في هذا الصراع، حتى نتج عن ذلك داعش وجبهة النصرة وغيرها.

وما يهمني في هذا المقال هو التأكيد على تأثير التاريخ في خياراتنا الدينية والسياسية والاجتماعية، ويظهر هذا التأثير بشكل واضح في خيارات المذهب السني، أما الشيعة فهم لا يجدون حرج في مناقشة ما جرى في التاريخ وبالتالي لا يعانون من عقدة التاريخ كما يعاني أهل السنة.

وبالجملة يمكننا إرجاع التباين المذهبي، والعقدي، والسياسي، بين الشيعة والسنة، الى التباين الذي حصل في التاريخ، ومازالت معالم هذا الصراع تتجذر كل يوم أكثر مما مضى، وقد حاول كل من الشيعة والسنة الدفاع عن رؤيتهم التاريخية وخياراتهم العقائدية والفقهية، وقد أُلفت كتب كثيرة في هذا الشأن، وبرغم ما وقع على الشيعة من تهميش واستبعاد، إلاّ إنَّهم قد تمكنوا من توضيح خياراتهم والدفاع عنها في عشرات الكتب، وإذا حاولنا عرض ما كتب في عصرنا فقط من  كتب كان لها الدور الكبير في جعل التشيع حاضراً في ساحة الجدل والنقاش المذهبي، فإنَّه يفوق قدرة هذا المقال ويخرجه عن مساره المرسوم له، وقد نشط السنة في الفترة الأخيرة في تكثيف الجهود في الرد على الشيعة بعد الاختراق الواضح الذي أحدثه الشيعة في بعض المجتمعات السنية، فطبعت عشرات الكتب وأُسست قنوات فضائية مختصة في مناقشة الشيعة والرد عليهم، ولا يهمنا هنا عرض أدلة كلا الطرفين ومناقشتها، فالذي نسعى إليه هو التدليل على أثر التجربة التاريخية على الواقع المعاصر للأمة الإسلامية.

وسوف نكتفي هنا بذكر بعض النصوص التي تكرس التجربة التاريخية كخيار يجب أن يمضي عليه المسلمين إلى يوم القيامة.

فقد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة.

فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت ([1] ).

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: امْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثمان، ثُمّ قَالَ لي: امسِكْ خِلاَفَةَ عَلِيّ قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً ([2] )

والذي ينظر الى هذه الروايات يجدها قد وضعت على طبق النسق التاريخي، ورويت بالشكل الذي يجعلها دالة على إخبار النبي بالغيب، الأمر الذي يخلق لها قداسة خاصة تجعل الإنسان المسلم يقف أمامها مسلّم غير معترض، وكأن ما حصل قدر لا يمكن الخروج عنه، وهذا الفهم الغيبي للتاريخ والاعتماد على هذه الأخبار، يساعد على تعطيل العقل التحليلي لما وقع في التاريخ، طالما المسار الإنساني قد نقش في هذا اللوح القدري، وما تنادي به داعش اليوم هو الدور الختامي الذي سكت عنده الحديث )ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)، وقد تسالم أهل السنة على هذا المسار، فبعد النبوة والخلافة التي فسرت بالخلافة الراشدة، والملك الذي فسر بالدولة الأموية والعباسية، والحكومات الجبرية التي تمثل هذه الأنظمة المتحكمة في العالم الإسلامي، فالنتيجة الحتمية لأي تحرك إسلامي لابد أن يكون بالسعي لهذه الخلافة التي تكون على منهاج النبوة، ولا يخفى ما في هذه الدعوة من رجوع قهري الى الماضي لأي عملية إحياء سياسي إسلامي، ومن هنا يكون النموذج الذي يعمل على إعادته هو نموذج الخلافة الإسلامية، وقبل قيام هذه الخلافة لا يكون هناك أي موقف سلبي اتجاه ما هو قائم من انظمة طالما أخبر بوجودها الرسول، وبذلك نفهم مروياتهم في ضرورة السمع والطاعة للحاكم وإن كان ظالماً فاجراً. كما أخرج مسلم في صحيحه (1847) عن حذيفة قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَـهْتَدُونَ بِـهُدَايَ، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُـثمان إنَّسٍ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ الله إنَّ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟، قَالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأمِيرِ، وَإنَّ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ؛ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ)

وينكشف مما قدمنا الحدود التي يمكن أن يتحرك فيها العقل السياسي السني، وهي حدود تتحرك من الماضي لتعود اليه من جديد، ولا تسمح للعقل المعاصر تأسيس أي تصور سياسي يرتكز على اجتهاداته التي تناسب المرحلة، ومحاولة التمرد على هذا النمط من التفكير هو تمرد على نفس الإسلام المحكوم بروايات البخاري ومسلم -المقطوعة الصحة عند أصحاب هذه المدرسة- والتمرد على ما أُنجز سابقاً من سلف الأمة هو خروج عن هذه المدرسة، فالذي لا يُسلّم بصحة كل هذه الأخبار ولا يرى في تجربة الخلافة الأولى فهم نهائي للإسلام لا يكون مسلم بالمنظور السني.

وفي المحصلة لا يمكن لهذه الامة الخروج من ازماتها إلا من خلال إعادة وعيها الديني من خلال الاجتهاد في النصوص الشرعية بعيداً عن التجارب التاريخية، ولا يمكن حسم الصراع بين جناحي الامة الشيعة والسنة إلا من خلال مواجهة علمية وموضوعية للتاريخ.

 


[1]  - مسند الامام احمد بن حنبل، مسند العشرة المبشرين بالجنة، اول مسند الكوفيين، رقم الحديث 18031

[2] - سنن الترمزي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الخلافة، رقم الحديث 2226

2021/10/20

التخلّي عن الدين.. لماذا ينتشر الإلحاد في مجتمعاتنا؟ (فيديو)

الإلحاد والغزو الفكري: الدوافع، الآثار والحلول

السيد منير الخباز

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

الحديث حول ظاهرة الإلحاد من حيث الدوافع والمحاور

[اشترك]

وهنا نقطتان:

النقطة الأولى: ماهي أسباب وعوامل هذه الظاهرة؟

وهنا نلخص عوامل ظاهرة الإلحاد وأسبابه في ثلاثة أسباب:

السبب الأول: الرغبة في التحرر.

السبب الثاني: المنتج الديني، الفكر المنتج الديني عبر المنابر والمساجد والفضائيات ووسائل التواصل وهذا الفكر ينقصه عدة أمور:

أ - ينقصه المواكبة.

ب - ينقصه الجاذبية.

ج - تنقصه البلورة.

فهذا الفكر تنقصه هذه العناصر الثلاثة فهو ليس مواكب لثقافة العصر ومتغيراته، وليس فيه إجابات مقنعة عن الإشكالات والشبهات على مبدأ الألوهية ومبدأ الدين، ولأجل ذلك يعد سبباً رئيساً في انتشار ظاهرة الإلحاد.

السبب الثالث: الإعلام المضاد والإلحاد الآن يمتلك مال ويمتلك إلاعلام ويمتلك تخطيط كل فكر إيدلوجي لا يمتلك هذه العناصر الثلاثة لا ينجح.

مع عدم امتلاكنا إلى هذه العناصر فمن الطبيعي لا يكون لدى الفكر الديني ظهور وسيطرة على الساحة الفكرية فيبقى للفكر الإلحادي مجال السيطرة والبروز لأنه يمتلك هذه العناصر.

النقطة الثانية: ما هي محاور الإلحاد التي يركز عليها الاعلام؟

يمتلك الإلحاد عدة محاور ينطلق منها:

المحور الأول: المحور الكلاسيكي، وهذا الإلحاد المعروف قبل أكثر من مئتي سنة يركز على أسئلة ثلاثة:

أ - من خلق الله؟

والجواب عنه: العقل لا يقول بأن لكل شيء سبباً بل يقول لكل حادث سبب وفرق بين الإثنين والله تبارك وتعالى ليس بحادث حتى يحتاج إلى سبب ينقله من العدم إلى الوجود.  

ب - هل يستطيع أن يخلق إلهاً مثله؟

الجواب عنه:

هذا السؤال في حد ذاته خطأ فقد جاء رجل إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له " قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال له: ويلك إن الله لا يوصف بالعجز ومن أقدر ممن يلطف الأرض ويعظم البيضة؟." (2).

 

ج -  كيف يستطيع العقل أن يتصور وجود لا حدود له؟

الجواب:

هناك فرق بين عالم الخيال وعالم البرهان.

عالم الخيال محدود لا يستطيع تصور إلا الأشياء المحدودة التي لها أبعاد وحدود؛ فالخيال لا يمكن ان يتصور الله.

وأما علم البرهان فيمكن الاعتماد عليه، فان الله خلق الزمن فلا يمكن للزمن ان يحده والله خلق المكان فكيف للمكان ان يحده، وهو خلق كل شيء فكيف يكون له مبدأ ومنتهى، إذ لو كان له مبدأ لكان له خالق وهذا يتنافى مع كونه خالق كل شيء، ولو كان له منتهى لكان هناك حد قسري يحده وهذا يتنافى مع كونه هو المصدر لكل شي، فكيف يتصور أن هناك حد يقصره ويحد من وجوده.

إذن البرهان العقلي نفسه يقودنا إلى إننا إذا أمنا بوجود مصدر للخلق فلابد أن يكون ذلك المصدر لا زمن له لأنه خلق الزمن ومكان له لأنه خلق المكان ولا أول له لأنه ليس هناك قبله خالق، ولا منتهى له لأنه ليس بعده خالق.

المحور الثاني: محور الحرية

نلاحظ الكثير من الشباب يقول أنا أدخل النار وأنا حر أفضل من أدخلها وأنا عبد، لأنه إذا أمنت بالله أصبحت عبداً لله وأنا لا أريد العبودية.

الجواب عنه:

أولاً: التحرر من جميع أنواع العبودية الإيمان بالله لان من لم يؤمن بالله فهو عبد لشهواته وعبد لرغباته.

ثانياً: نحن نطلب الحرية لا لكونها غاية بل لكونها وسيلة، فلماذا نطلبها؟، نطلبها لأنها تقودنا إلى الخير، والخير على قسمين:

القسم الأول: الخير مرحلي، والذي يطلب الحرية ولا يؤمن بالله فأنه يطلب الخير المرحلي، كالمنصب والمال والدنيا، هذه كلها خير مرحلي.

القسم الثاني: الخير الدائم، والحرية وسيلة للخير المطلق الدائم وهذه الحرية هي الايمان بالله تعالى التي لا تنحصر في عالم الدنيا بل تأخذك إلى العالم الطويل (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (3).

المحور الثالث: السعادة، ويدعي من لم يؤمن بالله أن الإيمان بالله تعالى يمنع السعادة، هل هو فعلاً سعيد أم لا؟.

الجواب:

هناك فرق بين السعادة الزائفة السعادة الحقيقية

أ - السعادة الزائفة: هي التي تنطلق من الشهوة الغريزة، فعندما يركز الشخص على الشهوة يرى السعادة أن يشبع غريزته، وأن يلبي شهوته.

ب - السعادة الحقيقية، وهي أن تصل إلى الكمال بحسب متطلبات المحيط التي تعيش فيه، فمثلاً لا تستطيع أن تصل إلى الكمال من دون أن تراعي أنظمة البلدية الصحية والتعليمية والمرورية.

كذلك كل إنسان منذ ان جاء إلى الوجود هو محاط بثلاثة أسئلة لا يمكن أن يتهرب منها.

من أين أتيت؟ والى أين ستمضي؟ وما هو الطريق الذي ستسلكه؟  فلا يجيبك عن هذه الأسئلة مالم يؤمن بالله تعالى، فلا يوجد طريق للإجابة إلا هذا لطريق.

المحور الرابع: محور الربوبية، هناك فئة التي تسمى بالربوبين، والربويون يعتقدون بوجود الله ولكنهم لا يؤمنون بالدين.

 

الجواب عنه:

هل أن الله ناقص أم كامل؟

فإذا قلتم إن الله ناقص، إذاً كيف خلق الكمال وهو ناقص، وكل ما في الوجود هو كمال فلابد أن يكون مصدر الكمال كاملاً أيضاً لآن فاقد الشيء لا يعطيه.

إذا كان الله كامل فلابد أن يكون حكيماً لأن الحكمة من مقومات الكمال فإذا كان حكيما فلابد من أن يكون خلقنا لهدف؟ فلماذا خلقنا إذاً؟ فلا بد أن يكون له هدف من خلقنا إذ لو لم يكن له هدف من خلقنا لم يكن حكيماً وإذا لم يكن حكيماً لم يكن كاملاً، وإذا لم يكن كاملاً فكيف خلق الكمال وهو ناقص؟

إذن خلقنا لغاية خلقنا لهدف معين فما هو ذلك الهدف؟

وهنا سؤال أخر: هل الله خلقنا الله لهدف يعود إليه؟ أم خلقنا لهدف يعود إلينا؟

الجواب: لا يمكن أني كون خلقنا لهدف يعود إليه فيقول الفلاسفة الفاعل الكامل لا يحتاج إلى غاية، الفاعل الناقص يحتاج إلى غاية، كالفقير الذي يريد الوصول إلى الكرم فيفعل أفعال الكرماء حتى يصل الكرم، فالفاعل الناقص يستكمل بعمله إلى أن يصبح كاملاً.

أما الفاعل الكامل غايته إفاضة كرمه، فالفاعل الكامل غايته الكرم ولو سألته عن سبب الكرم لقال لك ليس لي هدف بل أنا كريم بطبعي.

فالله تعالى فاعل كامل فعندما يُسأل لما خلقت البشر؟

لكان الجواب أنا لا أحتاج إلى البشر والى احتاج إلى عبادتهم، خلقتهم لكي يصلوا إلى الكمال اللائق بهم، فغاية خلهم إفاضة الكمال، (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (4).

فكيف نصل إلى الكمال؟ هل بعقولنا أم ببدين ينزله علينا؟

العقل لا يصلح أن يصل إلى الكمال المطلق وذلك لعاملين:

العامل الأول: العقل محدود وذلك بقول الفلاسفة العقل ابن بيئته فعقل الانسان ابن الثقافة الغربية وعقل الانسان الشرقي ابن الثقافة الشرقية، فهو عقل ابن بيئته.

العامل الثاني: العقل متغير: فالعقل الان غير العقل بعد عشر سنين، فالعقل يسير مع التجربة ويتكامل معها وكل ما نضجت التجربة نضج معها.

وبما أن العقل محدود ومتغير فلا يستطيع أن يدلنا ويوصلنا إلى الكمال المطلق؛ فمن أين نأخذ الكمال المطلق؟

نأخذ من الكامل المطلق من مصدر الكمال وهو الله سبحانه وتعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (5).

فهو الذي يخلق وهو الذي يختار تبارك وتعالى.

إذن نحتاج إلى أن يرشدنا إلى النظام الذي يوصلنا إلى الكمال وقد أرشدنا عبر الأنبياء والمرسلين (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ) (6)، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 45 وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (7).

المحور الخامس: محور الحس

فإذا كان الله واضحاً لماذا لم ينصب لنا دليلاً واضحاً إليه؟

الجواب:

أولاً: الحس ليس برهاناً قوياً فقد يخطئ فأنت تتصور السراب ماء وهو ليس بماء، فالحس ليس دليلاً قطعياً.

ثانياً: إنك تؤمن بكثير من الأشياء لم تصل إليها بالحس، كأيمانك بالثقوب السوداء مع إنك لم تصل إليها بالحس، وتؤمن بالقوى الأربع، القوة الكهرومغناطيسية، قوة الجاذبية، القوة النووية الشديدة، القوة النووية الضعيفة، فهذه القوى الأربعة التي تحكم الكون أنت تؤمن بها من غير أن تصل إليها عبر الحس بل وصلت إليها عبر معادلات رياضية؛ فليس الدليل على الإيمان منحصر بالحس.

ثالثاً: حتى الأدلة الحسية لا تنتج مالم يكن معها دليل عقلي، كما في القانون الذي جميعنا نؤمن به (أن كل ماء تبلغ درجة حرارته مئة فإنه يغلي في الظروف العادية) وهذه النتيجة لم نصل إليها ما لم نستخدم البرهان العقلي لما وصلنا إلى القانون، لو لم نؤمن بمبدأ السببية ومبدأ الحتمية لم نصل إلى هذا القانون.

ونفس هذان الدليلين العقليين هما دليل على وجود الله سبحانه وتعالى.

ومن كلام له عليه السلام وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟

فقال عليه السلام: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال:

لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملامس (8)، وقال الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة: "متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيبا" (9).


حرره لموقع الأئمة الاثني عشر: علاء تكليف العوادي

الهوامش

(1) سورة فصلت - الآية 53.

(2) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج٤، ص١٤٣.

(3) سورة العنكبوت - الآية 64.4

(4) سورة الملك - الآية 2.

(5) سورة القصص – الآية 68.

(6) سورة النساء - الآية 165.

(7) سورة الأحزاب - الآية 45.

(8) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج٢، ص٩٩.

(9) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6٤، ص١٤2.

2021/10/20

المجهر لا يفك شفرات الحياة: عودوا إلى مُختبر الحياة العظيم!

يحاول الإنسان دائماً أن ينظر إلى كل قضية من القضايا من نافذة الحس، وأن يدرسها من خلال المنظار الحسي المادي، لأن أوثق المعلومات لديه هي تلك التي تتألف من هذه المعلومات الحسية، ولهذا فإن المسائل التي تحظى بأدلة حسية أكثر تكسب في العادة قسطاً أكبر من ثقة الإنسان، وتصديقه.

 [اشترك]

وعلى هذا الأساس عمد العالم اليوم إلى تأسيس آلاف المختبرات الضخمة للتحقيق في شتى القضايا العلمية، ويعكف العلماء في هذه المختبرات على دراسة وتحليل الأمور المتنوعة بأسلوب خاص وطريقة معينة.

ولكن هل يمكن -تری- أن تدخل المسائل والقضايا الاجتماعية في نطاق التجربة المختبرية، وتخضع للمجهر والميكرسكوب، ليمكن الحكم في هذه المجالات من خلال ذلك؟!

فمثلا؛ هل يمكن أن نعرف عن طريق التجارب المختبرية مايؤدي إليه الإختلاف والتشرذم في المجتمع الواحد، وما يصيب شعبًا من الشعوب أو أمّة من الأمم من هذا الطريق؟

أم هل يمكن تقييم ما تنتهي إليه جهود المستعمرين، أو ما يؤل اليه الظلم والحيف، من خلال تجربة حسية؟

أم هل يمكن الوقوع على نتائج «الاختلاف الطبقي»، و«التميز العنصري» في المجتمع عن طريق التجربة المختبرية؟

في الإجابة على كل هذه الأسئلة يجب أن نقول: كلا مع الأسف.

وذلك لأنه لا توجد للقضايا الاجتماعية، رغم أهميتها القصوى – مثل هذه المختبرات، وحتى لو أمكن توفير مثل هذه المختبرات المناسبة لتحليل وتقييم ودراسة القضايا الاجتماعية، فإن إنشاءها وإيجادها يكلف نفقات باهضة، وتستدعي جهوداً عظيمة.

ولكن الأمر الذي في مقدوره أن يقلل من حجم هذا النقص إلى حد كبير هو أننا نملك اليوم شيئا يسمى بـ: «تاريخ الماضين» والذي يشرح لنا ما كان عليه البشر. أفراداً وجماعات، طوال آلاف السنين من الحياة على هذه الأرض، كما ویعكس مختلف الذكريات والخواطر عنهم، من انتصارات وهزائم، ونجاحات وانتكاسات، ويوقفنا بالتالي على كل ما وقع في حياة الأمم والشعوب من حوادث مُرّة او حلوة.

وإن من حسن الحظ أننا لم نكن أول من حط قدمه على هذا الكوكب، فهذه الأرض بسهولها وشعابها العريضة، وتلك السماء بنجومها وكواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الأرض من قبلنا، وشهدنا أفراحهم وأتراحهم، همومهم وغمومهم، حروبهم، ومصالحاتهم، وكل ما رافق واكتنف حياتهم من حب وبغض وظلمات وأنوار، وارتقاء وهبوط، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية التي يزخر بها تاريخ الشعوب والأقوام والأمم.

صحيح أنهم قد اختفوا مع الكثير من أسرار حياتهم، وغابوا جميعاً، أشخاصاً وأسراراً في بحر من النسيان وانسدل عليهم الستار، إلا أن قسطا ملفتاً للنظر وجملة يعتد بها من تلك الأمور إما أنها قد دونت بأيدي أصحابها، أو لا تزال طبقات الارض وبطون التلال تحتفظ بها في ثناياها وطياتها، كما ولا تزال ذات الأطلال الصامتة في ظاهرها تشكل أضخم متحف، واغنى معرض وأكبر مختبر، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه، ويشرح رموزه وأسراره.

إن مطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الأمم الغابرة في الكتب، أو في الأطلال العظيمة، أو فيما يعثر عليه المنقبون في بطون التلال، وثنايا الارض تعلمنا أمور كثيرة، وتضيف إلى عمرنا مرة جديدة وزمناً إضافياً، لا يستهان به وذلك بما تقدم لنا من الخبرة والعبرة، والهدى والبصيرة...

أليست حصيلة العمر ماهي إلا ما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاریخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرفنا؟

ولقد اشار الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال:

«أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي – فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ – وسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ – بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ – قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ».

[الخطبة ٣١ من نهج البلاغة]

المصدر: كتاب سيّد المرسلين، ج١.

2021/10/19

’إغراءات السلطة’.. كيف نختار المسؤولين في المناصب العليا؟

المسؤولية الشرعية والوطنية في العمل الوظيفي

لابد لإدارة شؤون المجتمع من جهاز وظيفي، فأي قائد مهما كانت قدراته وكفاءاته لا يستطيع إدارة الأمور بجهده وطاقته الشخصية المباشرة، وأي إدارة لعمل واسع متشعب تحتاج إلى الاستعانة بموظفين.

والجهاز الوظيفي مهم وحساس لأنه يشكل القناة بين الحاكم والناس، فعبره تصل أمور الناس وقضاياهم إلى الحاكم، وبواسطته تنفذّ الأنظمة والقوانين، فإذا كان الجهاز الوظيفي صالحا ويعمل بشكل سليم، انتظمت أمور الناس وفق النظام والقانون، أما إذا أصابه الفساد والخلل، فستضطرب أمور العباد والبلاد، وتتعثر الأنظمة والقوانين، ولن يغني صلاح الحاكم ولا يعوّض عن فساد الجهاز الإداري.

حسن الاختيار

ومن أجل أن يؤدي الجهاز الإداري والتنفيذي دوره على أحسن وجه، لابد من حسن الاختيار وخاصة لذوي المراتب المتقدمة، والمناصب العليا، وتركز النصوص الدينية على صفتين رئيستين يجب أن تتوفرا في الموظف المسؤول: صفة الأمانة وصفة الكفاءة. والأمانة تعني أن يحافظ على الإمكانات التي تكون تحت يده فلا يُصرف شيء منها إلا في موارده المقررة، وأن لا يسيء استخدام موقعه وصلاحياته تبعا لرغباته وميوله، وتنفيذا لمآربه الشخصية وانتماءاته.

والكفاءة تعني الجدارة والأهلية للمسؤولية الملقاة على عاتقه، يقول تعالى عن لسان نبيه يوسف   حينما رشّح نفسه لإدارة الاقتصاد في مصري: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) 1.

لقد وصف نفسه بصفتين اعتبرهما مبررا لأهليته وصلاحيته للمنصب: أنه حفيظ أي أمين مؤتمن يحفظ ما يكون تحت يده من ثروات وإمكانيات، وعليم أي صاحب معرفة وكفاءة تمكنه من تحمّل المسؤولية وأداء المهمة.

وفي مورد آخر ينقل القرآن الكريم عن ابنة نبي الله شعيب، حينما اقترحت على أبيها توظيف نبي الله

موسى للقيام بأمور خدمتهم، فركّزت على صفتين رأتهما في شخصيته تؤهلانه للوظيفة، يقول تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) 2.

ويقول الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: «ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ـ وفي نسخة اختيارا ـ ولا تولهم محاباة وأثرة»3 .

إن إعطاء الوظائف للمحسوبيات والمحاباة على حساب النـزاهة والكفاءة لهو سبب من أهم أسباب الفساد والخلل في الأجهزة الوظيفية والإدارية في أية مؤسسة من المؤسسات.

الرقابة والإشراف

حينما يستلم الإنسان وظيفة من الوظائف، ويجد نفسه صاحب أمر ونهي ضمن صلاحيات منصبه، ويرى تحت تصرفه إمكانيات وسلطات، فسيكون أمام امتحان حقيقي، ينجح فيه الصالحون الواعون الذين يخافون ربهم، ويخشون حسابه وعقابه، بينما يتساقط في هذا الامتحان أصحاب النفوس الضعيفة، والذين يعتبرون المنصب والوظيفة فرصة ومجالا لإشباع رغباتهم ونزواتهم، ولتحقيق مطامعهم، وتصفية حساباتهم مع الآخرين من خلال الموقع الذي تسلقوه.

وقبل أيام نقلت الصحف خبرا يعتبر عيّنة لما تعاني منه بلدان كثيرة من الفساد الإداري وسوء استخدام الوظيفة، وهو أن أحد كبار مسئولي الشرطة في بومباي/ الهند، عمد إلى إقفال مطعم صيني فخم اعتاد الأكل فيه مجانا من دون أن يدفع. وكان سبب الإقفال أن مسؤول الأمن طلب حجز طاولة، إلا أن صاحب المطعم اعتذر لأن كل الطاولات محجوزة، فما كان منه إلا أن أرسل قوة أقفلته لتأخره لمدة ربع ساعة بعد الموعد المحدد للإقفال وهو الواحدة والنصف فجرا4.

وقد يكون هذا الإنسان الموظف صالحا في بداية الأمر، لكن إغراءات المنصب، والفرص المتاحة أمامه قد تغريه، ويسوّل له الشيطان طريق الفساد، وإساءة استخدام الوظيفة، ويُلحظ أن بعض الأشخاص تطرأ على شخصيته تغييرات في سلوكه وأخلاقه بعد أن يتبوأ موقعا أو منصبا رفيعا. كما يقول تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ) 5.

ويقول الإمام علي عليه السلام: «الولايات مضامير الرجال»6 .

في مواجهة هذه الاحتمالات الواردة لابد من رقابة وإشراف على سير أعمال الموظفين، وسلوكهم في ممارسة مهامهم، ووجود الرقابة يشكل رادعا عن الانحراف، كما تُكتشف عبرها كثير من الأخطاء والمفاسد والثغرات.

ويروى عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قوله: «أنه كان رسول الله إذا بعث جيشا فأمهم أمير بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبره»7 .

وفي عهده لمالك الأشتر يوصي الإمام علي عليه السلام برقابة العمال والموظفين فيقول: «وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ـ العمال ـ فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة»8.

وقد تبلورت هذه الرقابة في تاريخ الدولة الإسلامية، وتحولت إلى مؤسسة تحمل عنوان ولاية المظالم أو ديوان المظالم، لتقوم بدور الإشراف والرقابة على موظفي الدولة وتقويم سلوكهم وممارساتهم الإدارية.

وفي العصر الحديث اعتمدت الدول الغربية هذا الاسلوب المؤسسي في الرقابة والإشراف منذ قيام الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر بعنوان مجلس الدولة، وأطلقت عليه بعض الدول "القضاء الإداري" أي بعد أكثر من ألف سنة على قيامه في الدولة الإسلامية.

كما تلعب الصحافة ووسائل الإعلام الحرة دورا أساسا في تلك الدول لملاحقة الأخطاء والمفاسد الإدارية.

الموظف وتحدي المسؤولية

للرقابة الإدارية، والإشراف الدقيق، دور في تقليص مفاسد الجهاز الوظيفي، لكن فرص الانفلات من تلك الرقابة، أو الالتفاف عليها، ليس معدوما أمام من تسوّل له نفسه خيانة الأمانة، والتلاعب بالمسؤولية، لذلك تشكو مختلف دول العالم اليوم من مشاكل الفساد الإداري، وأصبح يشكل ظاهرة عالمية.

تقول دراسة لمؤسسة "أرنست أنديونغ" للمحاسبة في لندن، حول موضوع الاحتيال على الشركات الدولية الكبرى: إنه يرتكب أربعة أعمال احتيال من كل خمسة على الشركات أشخاص يعملون في هذه الشركات، وغالبا ما يكونون موضع ثقة، وخدموا فترة طويلة. وجاءت الدراسة على شركات تعمل في (11) دولة، وشملت (17) قطاعا، وأكدت أن الاحتيال يكشف صدفة، وليس عن طريق أنظمة الضبط والتحكم المعمول بها.

كما جاء في تقرير نشر في أمريكا بتاريخ 24/12/1995م أنه تبلغ خسائر سرقة الوقت من قبل العاملين والموظفين في أمريكا (170) مليار دولار سنويا، وبمعدل تسع ساعات أسبوعيا من كل عامل وموظف، ويتساوى الرجال والنساء في معدل السرقة من وقت العمل.

لذلك فإن من أفضل وسائل مواجهة هذه المشكلة إيقاض الشعور بالمسؤولية في ذات الموظف، بحيث يدرك أن الوظيفة أمانة شرعية ووطنية في عنقه، وأن أي خيانة أو تفريط فهو محاسب عليه أمام الله تعالى، ويشكل أضرارا بمصلحة وطنه ومجتمعه.

فمن الناحية الشرعية يعتبر الموظف ملتزما بعقد يؤدي بموجبه عملا معينا ليستحق عليه أجرة محددة، وهو مؤتمن على مصالح وإمكانات يتحمّل مسؤولية الحفاظ عليها واستخدامها في مواردها المقررة بحسب نظام العمل.

إن التقصير في القيام بمهام الوظيفة والعمل بسبب الكسل وحب الراحة، والانشغال بالأمور الشخصية في وقت العمل هو حرام شرعا لما فيه من تفويت لمصالح الناس، حيث يعاني الكثير من المواطنين من مماطلة بعض الموظفين وتأخير إنجاز معاملاتهم، وإيذائهم بتكرار مراجعاتهم للدوائر، مع إمكان إنهاء المعاملة فورا وبوقت أقصر وأسرع.

وإلى جانب حرمة تفويت مصالح الناس وإيذائهم، فإن هناك إشكالا شرعيا فيما يستلمه من راتب وأجر مقابل هذا الوقت المضاع، إن كل يوم من أيام العمل وكل ساعة من ساعاته، يتغيّب فيها العامل أو يهدرها دون عذر مشروع، فإن المبلغ الذي يقابل ذلك الوقت من راتبه لا يحل له شرعا.

وقد قدم للإمام السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله الاستفتاء التالي:

هل يجوز للعامل أو الموظف في الدائر الحكومية أن يتغيّب بصورة عذر كاذبة أو بدون ذلك في أيام بعض المناسبات الدينية؟

فأجاب: إذا كان خلاف النظام، ويأخذ مع ذلك راتب وظيفته فلا يجوز.10 .

كما سئل المرجع الديني السيد علي السيستاني عن حكم تأخر الموظف أو المدرس عن الدوام بفارق 15 دقيقة أو 30 دقيقة فأجاب حفظه الله:

لا يجوز له ذلك ولا يستحق الراتب المقرر له بمقدار ما تخلّف عن أداء وظيفته.11.

كما أجاب على سؤال حول مخالفة النظام الإداري بما يلي:

لا يجوز للموظف المذكور كغيره من الموظفين التخلف عن الأنظمة التي التزم بتطبيقها بموجب عقد توظيفه ما لم تشتمل على محرّم 12.

وتشدد التعاليم الإسلامية على النـزاهة والأمانة تجاه الإمكانيات المرتبطة ببيت المال وثروة الشعب والوطن، فلا يجوز للموظف أن يستخدم شيئا منها لمصالحه الشخصية خارج النظام والقانون.

هكذا يربي الإسلام أبناءه على احترام المصالح العامة، والوفاء بالتعهدات، والأمانة في أعمالهم ووظائفهم.

فالوظيفة في منطق الإسلام ليست موردا للكسب والربح فقط وإنما هي قبل ذلك أمانة ومسؤولية. كما يقول الإمام علي عليه السلام في كتابه لواليه على أذربيجان أشعث بن قيس: «وأن عملك ليس لك بطعمه ولكنه في عنقك أمانة»14.

الموظف وأخلاق التعامل

يرى بعض الموظفين نفسه في موضع قوة وقدرة، وأن مصالح وقضايا للناس مرتبطة بقراره وتوقيعه وعمله، مما قد يخلق لديه شعورا بالتعالي على الناس، واستغلال حاجتهم له ضمن واجبه الوظيفي، ويحصل في أحيان كثيرة أن يطبق الموظف القانون بتعسّف وصلافة تجرح مشاعر الناس، وتسيء إلى كرامتهم وحقوقهم.

وينتج ذلك إما من وجود عقد نفسية عند الموظف، أو لعصبية انتماء قبلي أو مذهبي، أو لتصفية حسابات أخرى بينه وبين بعض المراجعين، أو ما أشبه ذلك.

إنه في هذه الحالة يسيء إلى الجهة التي ائتمنته على الوظيفة، ويخون مصالحها، كما يحمّل نفسه الوزر والإثم من قبل الله تعالى.

وقد ركز الإمام علي  عليه السلام على جانب التعامل مع الناس من قبل موظفي الدولة ومسئولي الأجهزة الحكومية في عهده لمالك الأشتر حينما ولاه مصر، حيث كتب له قائلا: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»8. وفي كلامه عليه السلام إشارة هامة إلى احترام الجانب الإنساني للمواطنين وإن اختلف الانتماء الديني.

إن الناس بطبيعتهم يستثقلون القوانين والأنظمة بشكل عام، وإن كانت ضرورية لتنظيم الأمور، فإذا ما أضاف الموظف بسوء أخلاقه عليهم ثقلا آخر، فإن ذلك يحدث في نفوسهم السخط والنقمة، وينفّرهم من النظام والقانون.

الإتقان والإخلاص في العمل

وكمواطنين يهمنا أن تتقدم بلداننا، وأن تنتظم شؤون حياتنا وتتطور إلى الأفضل، فإن كل واحد منا يتحمّل جزءا من المسؤولية في إنجاز هذا الهدف الهام. إن التخلف والمشاكل تحصل بسبب اجتماع وتراكم حالات الإهمال والتسيب والتقصير، فغياب موظف هنا، ومماطلة آخر هناك، وتقصير مسؤول في هذا الموقع، ومحاباة آخر في ذلك الموقع.. من مجموع هذه الممارسات والنواقص يحصل الخلل، وتتأثر مصالح الوطن والمواطنين.

إن أخطاءً قد تحصل في مؤسسات صحية عامة أو خاصة، بسبب الإهمال والتقصير، فتذهب ضحيتها أرواح مواطنين أعزاء، أو إصابتهم بإعاقات وأمراض خطيرة.

وإن تخلفا وتدنيا في مستويات بعض الطلاب مما يؤثر على مستقبلهم الدراسي قد ينتج عن تساهل وتقصير من بعض المدرسين، أو الإداريين في المؤسسات التعليمية.

وإن تعثرا في حركة التصنيع والإنتاج، أو سوءً وتخلفاً في صفات منتجات متداولة تضر بالناس، قد يكون بسبب خلل وإهمال في تطبيق القوانين والأنظمة من قبل الموظفين المعنيين.

وهكذا فإن حياة المواطنين وصحتهم ومستقبل أبنائهم وحركة إنتاجهم ومختلف شؤونهم.. وسيادة القانون والنظام في البلاد، كل ذلك يرتبط بمدى إتقان الموظفين لأعمالهم الموكولة إليهم، وإخلاصهم في أدائها.

إن أوطاننا وثرواتنا ومستقبلنا أمانة في أيدينا جميعا فلنتق الله في أنفسنا ومجتمعنا وبلادنا، وإن التدين الصحيح يجب أن يظهر أثره في أداء الأمانة والقيام بالواجبات والمهام في خدمة المصلحة العامة. 15


الهوامش:

1. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 55، الصفحة: 242.

2. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 26، الصفحة: 388.

3. الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة/ كتاب رقم53.

4. الحياة ص6 بتاريخ21جمادى الثاني1421هـ الموافق 19سبتمبر2000م.

5. القران الكريم: سورة العلق (96)، الآية: 6 و 7، الصفحة: 597.

6. الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة – قصار الحكم.

7. السبحاني: الشيخ جعفر/ معالم الحكومة الإسلامية ص602 الطبعة الأولى 1984م دار الأضواء – بيروت.

8. a. b. الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة – كتاب رقم53.

9. السبحاني: جعفر/ معالم الحكومة الإسلامية ص604.

10. الخوئي: السيد أبو القاسم/ صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات ج2 ص300 مسألة رقم942.

11. السيستاني: السيد علي/ أجوبة المسائل الدينية/ مكتب سماحته بدمشق ص64 مسألة110.

12. المصدر السابق/ مسألة 111.

13. الحائري: الشيخ جعفر/ أجوبة المسائل الشرعية ص113 مسالة 401.

14. الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة/ كتاب رقم5.

15. صحيفة اليوم 22 / 1 / 2002م.

2021/10/18

ضرّتان لا تجتمعان: هل تتصالح الدنيا مع الآخرة؟!

ما صحة الحديث المنسوب للإمام الحسن (ع): إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبد، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا؟

[اشترك]

إن هذا الحديث تارةً يُنسب الى رسول الله (صلى الله عليه واله) مرسلاً -من دون سند- كما في كتاب (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، ج ٢، ورام بن أبي فراس المالكي الأشتريّ، ص ٢٤١). وتارةً ينسب الى الإمام الكاظم (عليه السلام) مرسلاً، بعنوان روي عن العالم، كما في كتاب (من لا يحضره الفقيه، ج ٣، الشيخ الصدوق، ص ١٥٦، وجامع أحاديث الشيعة، ج ١٧، السيد البروجردي، ص35). وتارةً ينسب إلى الإمام الحسن عليه السلام مسنداً في كتاب كفاية الأثر عن محمد بن وهبان البصري عن داود بن الهيثم بن إسحاق النحوي عن جده اسحق بن البهلول عن أبيه بهلول بن حسان عن طلحة بن زيد الرقي عن الزبير بن عطا عن عمير بن هاني العنسي عن جنادة ابن أبي أمية عن الحسن بن علي ابن أبي طالب عليهما. والإسناد ضعيفٌ لجهالة بعض الرواة.

فيظهر مِـمّا تقدّم أنّ الحديث من جهة الإسناد ضعيف إمّا لكونه مرسلاً، وإمّا لجهالة بعض رواته كما هو مقرّر في علم الحديث، لكنْ مع ملاحظة أنّ هذا الحديث وإنْ كان ضعيفاً من جهة السند، لكنْ متنه مشهور عند جميع الفرق الإسلاميّة، ورأينا كثيراً من العلماء يعدّون معناه صحيحاً وإنْ كان إسناده ضعيفاً، هذا فضلا عن وجود رواية معتبرة بالمضمون نفسه تقريباً تعضد هذه الرواية، رواها ثقة الإسلام الكلينيّ (ره) في كتاب الكافي (2/87) بإسناده إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت - يعني المفرط - لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما واحذر حذر من يتخوف أن يموت غدا.

كيف نجمع بين هذا الحديث الذي يحثُّ على العمل لأجل الدنيا، وبين الأحاديث الكثيرة التي تذمّ الدنيا؟

الجواب عن ذلك كما يرى غير واحد من أهل العلم بأنّ الإسلام حين جاء استطاع بحكمته البالغة، وإصلاحه الشامل، أن يشرّع نظاماً خالداً، يؤلّف بين الدين والدنيا، ويجمع بين مآرب الحياة وأشواق الروح، بأسلوب يلائم فطرة الانسان، ويضمن له السعادة والرخاء . فتراه تارة يحذّر عشّاق الحياة من خُدعها وغرورها، ليحرّرهم من أسرها واسترقاقها، كما صورته الآثار السالفة [ يعني بذلك ما ورد من آثار في ذمّ الدنيا عن أئمّة أهل البيت ( ع )]، وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها المرفرفة، لئلا ينقطعوا عن ركب الحياة، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوان. قال الصادق عليه السلام: «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه». وقال العالم عليه السلام: «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام، وتوغّل المسلمون في مدارج الكمال، ومعارج الرقيّ الماديّ والروحي.

وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية:

1 - التمتع بملاذ الحياة، وطيّباتها المحلّلة، مستحسن لا ضير فيه، ما لم يكن مشتملاً على حرام أو تبذير، كما قال سبحانه: « قل من حرّم زينة اللّه التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ».( الأعراف: 32 ) . وقال أمير المؤمنين عليه السلام: « اعلموا عباد اللّه أنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا، وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظى به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المُبلّغ والمتجر الرابح» .

2 - إن التوفّر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها، هو كالأول مستحسن محمود، إلّا ما كان مختلساً من حرام، أو صارفاً عن ذكر اللّه تعالى وطاعته . أما اكتسابها استعفافاً عن الناس، أو تذرعاً بها إلى مرضاة اللّه عز وجل كصلة الأرحام، وإعانة البؤساء، وإنشاء المشاريع الخيرية كالمساجد والمدارس والمستشفيات، فإنّه من أفضل الطاعات وأعظم القربات، كما صرح بذلك أهل البيت عليهم السلام :

قال الصادق عليه السلام: « لا خير فيمن لا يجمع المال من حلال، يكفّ به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه ». وقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السلام: « واللّه إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نُؤتاها . فقال (ع): تحب أن تصنع بها ماذا ؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصِلُ بها، وأتصدق بها، وأحج، وأعتمر . فقال أبو عبد اللّه: ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة ».[ينظر كتاب (أخلاق أهل البيت (ع) للسيّد مهديّ الصدر، ص133 وما بعدها].

2021/10/17

تطوّر ممزوج بـ ’البربرية’: دول حضارية مارست القتل والتمييز العرقي!

الحضارة ح2

إن المشكلة البشرية تكمن في اعتماد هذه المفاهيم على أنها السبيل لتحقيق الإنسانية.

 [اشترك]

فحين يتثقف الإنسان أو تتطور حياته علميا وتكنلوجيا سيخلصه ذلك من عوالق البربرية، وهذا هو الخطأ، إن فرعون مصر في قمة التطور العلمي والتكنلوجي لمصر كان لاينفك عن قتل مئات الأطفال، وفي ذروة النضج الثقافي التي شهدته فرنسا أقدمت على قتل مليون ونصف شهيد جزائري، وبريطانيا العظمى قد تسببت بقتل الملايين من أبناء مستعمراتها لأنهم نادوا بالاستقلال والحرية، أي أن هذه الدول ذات الرصيد الحضاري العالي قامت بقتل أضعاف ماقام به التتار الهمج طوال رحلتهم الحربية من شرق آسيا الى مصر، وحتى على صعيد السلوك الإنساني نجد أن ثمة انفكاكا بين رصيد المجتمع من هذه المعايير وما يحمله أبناء المجتمع من صفات وسلوك، إذ يذكر وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة في الجزء الأول أن آكلي لحوم البشر في مجاهيل التاريخ كانوا يمتازون جملة من الصفات الحسنة فهم يحترمون المرأة ويعيبون على المرء أن يرفع صوته اثناء الحديث.

إن اعتماد هذه المفاهيم كمعيار للقياس، قد أدى الى تكتيل الجماعات البشرية على أساس البلد أو القومية أو الجنس، ليحسب بعد ذلك صنع الحضارة، لهذا البلد أو لتلك الأمة، أي أن فارق البلد أو القومية أو الجنس يكون من صميم التمايز الحضاري، وهذا ما أدى الى أن يكون التقدم الحضاري دافعا لتعزيز حس التكتل كالقومية أو الجنس على حساب المشترك الإنساني، فالنازية مثلا جاءت كنتيجة لتصاعد الحس القومي عند الألمان تجاه الجنس الآري والأمة الألمانية وراحت تعلن حروب الإبادة على أساس عرقي، كان هذا بسبب الزهو الذي أحسه الألماني إزاء الأعداد الكبيرة التي أنتجتهم الأمة الألمانية من مفكرين وعلماء ومبدعين. ويؤدي هذا بدوره إلى مايعرف اليوم بصدام الحضارات لأنه أدى من قبل إلى التسابق على التحلي بهذه المعايير، وحتى إن تجاوزت الدولة مفهوم الصدام، وحاولت الاتصال بدول أخرى لمد أسباب الرقي فيها، فهي حين تعتمد هذه المفاهيم سيؤدي إلى نتيجة معكوسة، وكمثال ماقامت به المانيا وفرنسا من دخول إلى دول أفريقيا بمدعى أنها تنقل إليها الحضارة، فهذه المفاهيم قد عززت الحس القومي عن الالمان والفرنسيين في أنهم أصحاب حضارة وشعوب أفريقيا أقرب إلى البربرية، إضافة إلى عقيدة التمايز العرقي، فانتهى الأمر بأن قامت هاتان الدولتان بحروب إبادة لتلك الشعوب وزجت بآلاف الأفارقة في خطوط النار والموت في الحرب العالمية الأولى.

2021/10/16

هل فهمناه لنسأل: ماذا يتوقع الإنسان من ’الدين’؟!

من المؤكد أن الإجابة تتوقف على فهم السؤال ووضعه في سياقه المعرفي، والذي يقودنا إلى التدقيق في السؤال هو اعتقاد البعض أن دين كل إنسان ما يتوقعه من الدين.

[اشترك]

وبذلك لا يكون للدين مفهوماً واضحاً ومنضبطاً وإنما يتباين بقدر توقعات الجميع، فمفهوم الدين بهذا المعنى يتكون لدى الإنسان بحسب موقعه المعرفي أو بحسب ما يحمله من أفق ثقافي، وبذلك يصبح الدين مجرد انطباع ذاتي يختلف من توقع إنسان لآخر، وهذا خلاف الاعتقاد بأن الدين هو حقائق موضوعية كاشفة عن حقائق واقعية سواء توقعها الإنسان أو لم يتوقعها، فالإنسان قبل أن يكون ابن البيئة الاجتماعية والثقافية وقبل أن يتشكل وعيه المعرفي بحسب تلك البيئة لابد أن يسلم بوجود حقائق سابقة لوجوده، وهذه الحقائق لا يمكن أن تتبدل بحسب انطباعاته ومزاجه الشخصي، فالإنسان جزء من نظام وجودي له سنن وغايات لا يمكن أن تتأثر بالموقع المعرفي للإنسان، وليس أمام الإنسان إلا التعرف عليها كما هي ومن ثم التأقلم معها سلوكياً وحضارياً، والدين من هذا المنظور هو التعبير عن ذلك النظام سنناً وغايات وقيم وتشريعات، والحقيقة الأولى التي يجب الاعتراف بها أن لهذا الوجود خالق ولهذا الخالق إرادة وغاية وحِكمة، وإن رسالة الخالق للإنسان هي الكاشفة عن تلك الإرادة والمبينة لتلك الغاية والحِكمة، وعلى الإنسان التعرف عليها كما هي ومن ثم التأقلم معها، قال تعالى: (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) فالمرتكز الذي يبني عليه الإنسان وعيه هو أنه لم يكن ثم كان، الأمر الذي يقوده حتماً للتعرف على من أوجده بعد أن لم يكن موجوداً، ولذا جاء بعد هذه الآية مباشرة قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) والإشارة إلى كونه سميعاً بصيراً تؤسس لدور الإنسان في معرفة الحقائق ومن ثم مسؤوليته اتجاه تلك الحقائق، ولذا جاء بعدها مباشرة قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) فالذي يسلم بالحقائق ويمضى في حياته على وفقها يكون شاكراً أما الذي يريد من الوجود أن يمضي بحسب هواه يكون كافراً ومنكراً للحقائق، ومن هنا من الطبيعي أن يكون هناك جزاء يتناسب من خيارات كل إنسان، ولذا جاءت الآية بعدها بقوله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا).

وعليه فإن الدين هو رسالة الله الكاشفة عن فلسفة الوجود وحقائق الخلقة وغاياته النهائية، والإنسان المتدين هو الذي يكيف حياته على أساس تلك الحقائق من غير أن يفرض توقعاته الخاصة ومن ثم يؤول الدين بما يخدم تلك التوقعات، ومن هنا فإن السؤال عن ماذا نتوقع من الدين؟ لا يمكن قبوله لأن التسليم به تسليم بكون الدين حالة ذاتية متباينة من شخص لآخر بينما الدين حقائق موضوعية يجب التعرف عليها كما هي بدون البحث عن التوقعات الشخصية، وهذا لا يكون إلا بالتسليم للحق والانقطاع التام له، وقد لخص الإمام علي (عليه السلام) هذه الحقيقة في أروع العبارات بقوله: (لَاَنْسُبَنَّ الْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي. الْإِسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَالْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْإِقْرَارُ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْأَدَاءُ، وَالْأَدَاءُ هَوَ الْعَمَلُ) فقد أكد سلام الله عليه على أن الدين حقائق واقعية تحتاج إلى التسليم لها، وأن التسليم لا يتحقق إلا بعد اليقين بوجودها، وإن اليقين بها يحتاج إلى التصديق بها كما هي من دون تأويل أو تحريف، وهذا لا يكون إلا بالإقرار بما للحقائق من حقيقة، وكل ذلك يقود الإنسان إلى التكيف معها والعمل بحسب مقتضاها.

2021/10/01

فرض الاسلام ليس استبداداً -4-

لا شك أن فيما انتهى اليه لقاء نصارى نجران بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من إفحام للنصارى واللجوء الى المباهلة والتي انتهت بانسحابهم ورفضهم المباهلة دليلاً بيّناً على ذلك.

[اشترك]

في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) "أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد - وحضرت صلواتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا - فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال: دعوهم. فلما فرغوا دنوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبدٌ مخلوقٌ يأكل ويشرب ويحدث. قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال قل لهم ماتقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: نعم. فقال: من أبوه؟ فبهتوا فأنزل (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم...)، وقوله (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم... إلى قوله (فنجعل لعنة الله على الكاذبين)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فباهلوني، فإن كنت صادقاً أنزلت اللعنة عليكم وإن كنت كاذباً أنزلت علي. فقالوا: أنصفت. فتواعدوا للمباهلة.

فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبياً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق، فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم هذا ابن عمه ووصيه وختنه (حبيبه) علي بن أبي طالب وهذه ابنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين، ففرقوا فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجزية وانصرفوا" .

ومن الجدير بالملاحظة أن لعنة الله هنا هي على الطرف الذي يمثله النبي (صلى الله عليه وآله) إذا كان قد ادّعى النبوة كذبا، أوعلى النصارى إذا كانوا قد ادّعوا عدم اقتناعهم بما قدمه لهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من حجج وأدلة، فيكون انسحابهم من المباهلة إقراراً منهم باقتناعهم وتصديقهم له.

ورغم هذا فالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يجبرهم على اعتناق الإسلام بل تركهم ومايريدون من عقيدة.

والجزية التي تصالحوا عليها لم تكن كما يصوّر البعض وكأنها الأتاوة التي يفرضها الأقوياء على الضعفاء استغلالاً وقهراً، وإنما هي ضريبة يدفعها النصراني مقابل حقوق له كمواطن في دولة الإسلام، وبهذا يكون قد تساوى مع المسلم الذي يتنعم بحقوق المواطنة مقابل ضريبة يدفعها تتمثل بالزكاة والخمس وغيرها.

ويتجلى هذا في حادثتين من السيرة الوضاءة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الأولى حين جعل المرأة المسيحية كالمرأة المسلمة فيغضب على سفيان بن عوف عشية انتهاكه لحرمات المسيحيين والمسلمين في العراق فيقول (ولقد بلغني أن الرجل كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجابها.) ثم يقول (فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً).

ثمّ يوقّع بيمينه على وثيقة حماية المسيحيين: "لا يُضاموا، ولا يُظلموا، ولا ينتقص حق من حقوقهم فأموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا". ثم يأمر (عليه السلام) بجعل دية المسيحي كدية المسلم.

والثانية أنه كان (عليه السلام) يتمشى في الكوفة فشاهد رجلاً من أهل الذمة (مسيحياً) يتسول، فما كان منه إلا أن أرسل إلى صاحب بيت المال وهو الصحابي أبو رافع فقال له: كيف تتركون رجلاً في بلاد المسلمين ولا تجعلون له عطاءً من بيت المال؟ فقال له أبو رافع: يا أمير المؤمنين إنه من أهل الذمة مسيحي. عند ذلك ابتدره ونهره وقال له:  أتاخذون من الرجل ما يمكن أخذه من عمل وجهد وهو شاب ورجل، وتتركونه وتنبذونه وراءكم عندما يصبح شيخاً؟ وهذا ليس بخلق الإسلام والله. وأمر له بعطاء من بيت المال وتكريمه.

2021/09/26

الحرية بين التوحيد والإلحاد

ناقشنا في مقال سابق تحت عنوان (المجتمع الإنساني بين الإلحاد والتوحيد) قدرة الإلحاد فلسفياً على تقديم رؤية أخلاقية وقيمية يقوم على أساسها المجتمع الإنساني، وقد تبين أن الإلحاد فلسفة عدمية لا يمكن أن تشكل ركيزة لأي مشروع اجتماعي...

[اشترك]

وكان من الضروري الوقوف على خياراته العملية التي يمكن أن يتبناها كمشروع اجتماعي يسعى لتحقيقها، فبما أن الإلحاد الجديد يحمل رؤية مناهضة للأديان لابد له من تبني بديل اجتماعي، وإلا لما كان مشروعاً مناهضاً ولا كان وجوده خطراً على الأديان.

 يبدو أن الخيار الأكثر قرباً للإلحاد الجديد هو المجتمع القائم على الحريات، سواء كانت حرية مطلقة أو منضبطة، فالحرية تؤسس في بعض معانيها خيارات متمردة لا تعترف بالحدود ولا تؤمن بالممنوع، أي الحرية المطلقة التي لا تحجزها موانع، وهناك الحرية التي تتخذ من العيش المشترك مسارات توازن فيها بين حريات الجميع، أي الحرية ضمن المقاربة المنضبطة، وكلا الخيارين المتمرد والمنضبط له أنصاره من بين الملحدين، فالإلحاد العدمي لا يؤمن بوجود أي قيمة رادعة لحرية الإنسان، فالخير والشر، والحُسن والقبح، ليست ذات معايير موضعية ثابتة وإنما تابعة لذوق الفرد يتحكم فيها بحسب ما يمليه هواه، يقول البروفيسور هوستن سميث أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية: "الخطر الذي يطارد النسبية هو أن تصل في النهاية الى العدمية الإنكارية، في تلك النهاية القصوى تنهار النسبوية إلى وجهة نظر ترى أن لا شيء أفضل من أي شيءٍ آخر، وهذه فلسفة غير صالحة للعيش"[1] 

 أما الإلحاد الأكثر عقلانية فإنه يتبنى الحرية ضمن ما تتيحه الثقافة الليبرالىة، والتي تمنح الأفراد حرية ضمن إطار القانون الذي يفرضه الناظم المجتمعي، وبرغم أن القيم الليبرالىة نفسها قيم نسبية إلا أنها تحظى بتوافق العقل الجمعي من أجل تحقيق منافع متبادلة، ومن هنا لا يمكن مقايسة أو مشابهة الليبرالىة بالحرية التي يمنحها الإسلام للأفراد؛ وذلك لأن الليبرالىة لا تؤمن بوجود سلطة غيبية لها الحق في توجيه الأفراد أو تحديد خياراتهم خارج حدود المنفعة الدنيوية.

مع أن هناك تيار من الملحدين العرب ينادون في صفحات التواصل الاجتماعي بالحرية المطلقة ويتحدثون عن حريات بكل المقاييس لا أخلاقية، إلا أن التيار المؤثر والأكبر هو التيار الذي مازال متأثراً بالأخلاقيات الإسلامية، ولذا من حقهم علينا أن نحملهم على أفضل الخيارات الممكنة ونحصر النقاش في الليبرالىة الأكثر انضباطاً وعقلانية.

ومن الضروري لفت النظر بأن نقاشنا هنا ليس في الليبرالىة ضمن سياقها الفلسفي الذي ولدت فيه، وليس جهدي منصباً في إبطالها أو تصحيحها، وإنما نقاشي يتجه نحو الإلحاد وإمكانية تبنيه للّيبرالىة ضمن رؤيته الفلسفية.

يبدو أنه كان من المناسب أكثر هو مناقشة العلمانية بوصفها برنامج حياة اكثر اتساعاً من موضوع الحريات، إلا أننا صرفنا النظر عنها لكونها تهتم بالجانب السياسي أكثر من الجانب الاجتماعي، أو تهتم بالجانب الاجتماعي ضمن العمل السياسي، وقد يجوز لنا القول بأن الجانب الاجتماعي في العلمانية هو ليبرالى، بمعنى أنها تشترط الحرية الاجتماعية والفردية، والتباين الملحوظ بين العلمانية والليبرالىة يمكن تميّزه بوضوح في موضوع الدولة، حيث يمكن أن تكون الدولة علمانية لا وجود للدين في كل أنظمتها التشريعية والسياسية، إلا أنها ليست ليبرالىة وغير دمقراطية، وإن كانت توليفة مرفوضة علمانياً إلا أنها تحظى بالواقعية لوجود امثلة من الواقع السياسي عليها، والمهم هو أنني أرى أن النقطة المحورية بما له علاقة بالنظام الاجتماعي هي الحرية.

الإشكالىة التي تطرحها الليبرالىة في الأوساط الإسلامية والدينية بشكل عام، هو أن الدين والإسلام يقيد الحرية ويفرض على الفرد والمجتمع نظم فوقية تمنعه من ممارسة خيارته بحرية، ومن هذه الزاوية يمكن أن يستغل الإلحاد هذا التوتر لطرح مشروعه الإلحادي بوصفه خلاص الإنسان من القيود والسلطة الفوقية. برغم أن الحلول الشائعة والمطروحة من معظم الليبرالىين العرب والمسلمين هو جعل الدين ضمن الحرية الشخصية طالما لا يتدخل في الشؤن الاجتماعية، وقد يساعدهم على ذلك بعض الخطابات الإسلامية التي تؤكد على ضرورة عزل الإسلام من الشأن السياسي، إلا أن هذا الخطاب لا يمثل رأياً عاماً ولا تياراً غالباً، وعلى أقل تقدير هناك توصيات وأحكام لها علاقة بالنظام الاجتماعي ولا يحق لأي مسلم التنازل عنها، ناهيك عن وجود تيار ينادي بالإسلام السياسي قد وصل بالفعل الى الحكم كما في بعض البلدان أو في حالة من السعي لذلك، الأمر الذي شجع الإلحاد أكثر على طرح نفسه بقوة في الساحة رافضاً الحلول التي يراها ترقيعية، وقد ساعده على ذلك وزاد من جرأته على الإسلام بعض الحركات المتطرفة أمثال داعش والتي ارتكبت مجازر بشعة في حق الإنسانية، ولذا يرى الإلحاد أنه يمثل المنعطف التاريخي المهم في تاريخ الأمة الإسلامية.

والمهمة المرسومة أمامي هي فك الإرتباط بين الإلحاد والحرية بشكل عام والليبرالية بشكل خاص، وعدم صلاحيته لتبني هذا المشروع الاجتماعي، أما النقاش بين الليبرالية والإسلام فهو نقاش: إما أن يكون بين مؤمنين بوجود إله، وإما أن يكون بين مؤمنين وبين من لا يرى عدم وجود الإله مؤسس لخياراته الاجتماعية، وكلا النوعين لا يشكلان اهتمام هذا العنوان.

ما نحاول القيام به هنا هو مناقشة القضية من بعدها الفلسفي وليس السياسي، لنتساءل عن ماهية الحرية وطبيعتها الفلسفية، مع أن المقام لا يسمح بطرح الأمر في إطاره الواسع الذي نستجمع فيه كل ما قيل في الحرية، إلا أنه من الضروري مناقشة ما له علاقة مباشرة بالتصادم الظاهر على السطح بين الإسلام والحرية.

لا خلاف على كون الحرية قيمة أساسية ومحورية، كما لا وجود خلاف حول التفسير الوصفي للحرية، بل يمكننا القول أيضاً أنه لا خلاف حول حدود الحرية، ومع ذلك مازال هناك مساحات تحتاج إلى حوار، الأمر الذي يقودنا الى التساؤل عن ماهية الحرية وطبيعتها الوجودية.

الحرية كمفهوم ذهني مجرد يحمل في طياته مفهوماً طارداً للقيود، والموانع، والحدود، والحظر، فهي حالة من الحركة المتسعة باتساع الوجود، والحرية بهذا المعنى هي مطلق الترجيح بين الخيارات المتعددة بدون أن يحمل أي خيار سلطة إلزامية.

والحرية بهذا المفهوم لا تعترف بالمرجحات الموضوعية لأنها تمارس تأثير خارج حدود الذات، وبالتالي هي حرية لا معيارية لأن المفهوم المجرد للحرية لا يمكنه أن يستقيم مع وجود معيارية ترجيحية.

إلا أن الإشكالية الكبرى والتي يغفل عنها الكثير هي أن الحرية المجردة لا وجود لها البتة، وكل ما هو متاح وموجود هو الإنسان الحر، والفرق كبير جداً بين المعنيين؛ فالحرية المجردة التي تسبح في الفراغ والتي لا تواجهها موانع ولا حدود قد لا تكون موجودة حتى في عالم المجردات، وما يقع فيه بعض المندفعين نحو الحرية هو الإنطلاق من المفهوم المجرد ليسقطه على الواقع دون أن يكترث لوجود مساحة فاصلة بين الحرية كمفهوم وبين الحرية كواقعية إنسانية.

ومن هنا نحن نحتاج قبل التطرق لحدود الحرية والمساحة التي يجب أن تتحرك فيها، التعرف أولاً على الإنسان كفرد والإنسان كمجتمع ثم نرسم حدود الحرية بحسب الواقعية الممكنة، وهذه الواقعية تُرسم معالمها بحسب الموقف الجمعي للعقلاء. وبهذا الشكل تصبح الحرية ذات قيمة لأنها توجد ضمن سياقات قيمية تراعي قيمة الإنسان الوجودية، كما تراعي طموحاته ضمن التصور العقلائي الذي يرصد غايات تلك الطموحات، كما تراعي ايضاً قيمة الفعل ضمن الرؤية الكونية. 

بهذا الشكل من التفكير سيضطر الإلحاد الى الخروج من حوار الحرية؛ لأنه يرتكز على رؤية عبثية للإنسان لا ترى فيه غير الأنانية، وهي نظرة ليست مجحفة في حق الإنسان بوصفه قيمة، وإنما مدمرة حتى لوجوده الأناني، فالإلحاد الذي ينادي بالحرية اللا معيارية، واللا موضوعية، واللا عقلائية، شبيه بحال الأب المهمل الذي يوفر لإبنه الحرية المطلقة في إلتهام كل أنواع الحلويات والمأكولات والمشروبات وكل التصرفات التي يحب أو يرغب فيها، فكما أن الأب بذلك التصرف قد حكم على ابنه بالانتحار، كذلك الملحد حكم على كل الإنسانية بالانتحار.

صحيح أن الطفل له الحق في ما يرغب، ولكن ليس من الصحيح أن ينظر الاب لطفله بوصفه مجرد موجود له رغبة، وإنما هناك جوانب أخرى يجب رؤيتها في الطفل غير الرغبة الشخصية، ومن هنا فإن الضرورة تستوجب وضع كوابح لهذه الرغبة من غير كبتها ومصادرتها، فعندما يمارس الأب سيطرته على الطفل ويقيد حريته بمجموعة من الضوابط هذا لا يعني أن الحرية أصبحت محدودة، بل مازالت مطلقة لكن ضمن شروطها العقلائية، وهذا هو الفرق بين النظر للحرية كمفهوم لا واقعية له، وبين النظر للحرية ضمن الإمكانية الواقعية، وهكذا الحال في الإنسان والمجتمع لابد من دراسة الحرية ضمن الواقعية الإنسانية والمجتمعية، وهذه الواقعية تستمد من النظرة الشاملة للإنسان والمجتمع وليست النظرة الجزئية التي ترصد بعض الحقائق وتهمل الحقائق الأخرى.

والمهم الآن كفكرة أولية أن الضوابط العقلائية ليست شيء خارج عن طبيعة الحرية وماهيتها، فعندما أقول مثلاً الإنسان له قدرة مطلقة في المشي والحركة لا أكون قاصداً القدرة والحركة كمفهوم مجرد ثم أسقطه على الإنسان، لأن القدرة المطلقة هي القدرة على كل الشيء وهذا لا واقعية إنسانية له، وكذلك الحال في الحركة المطلقة التي لا يمكن قياسها بأي مقياس للحركة، وبالتالى الإنسان له قدرة مطلقة على المشي والحركة، ولكن ضمن الإمكانية الواقعية، وكذلك له حرية مطلقة ضمن الإمكانية الإنسانية.

 واللحظة التي يوافق فيها الإلحاد على إدخال ضوابط على الحرية، هي ذاتها اللحظة التي ينفتح فيها النقاش واسعاً أمام كل المرجحات والضوابط بما فيها الدينية، ولا يحق له حينها الإعتراض طالما الدين أيضاً يشترط القبول العقلائي لخياراته السلوكية.

والحرية بالتصور الذي قدمناه تفهم في إطار المسؤولية، أي بمعنى أنها ليست مجرد الترجيح بين الخيارات، وإنما هي مسؤولية ترجيح الأصلح والأولى بالترجيح، وهذه المسؤولية تمتد في كل جوانب الحياة والوجود، أي أن الإنسان مسؤول أمام نفسه، ومسؤول اتجاه الآخرين، كما أنه مسؤول عن الكون، وهذه المسؤولية تفهم ضمن الإطار الذي يستوعب كل السلوك الإنساني صغيراً كان أو كبيراً، لأن الإنسان ليس مجرد كائن حر وحسب وإنما عاقل أيضاً، ودور العقل في الحرية هو تحديد الخيارات الجيدة التي يجب أن يختارها، وبالتالى فتح الطريق أمام الإنسان ليمارس اختياراته العقلائية في الحياة ضمن الخطة التي تخدم غايته العليا، وهذه الخيارات العقلائية مرتكزة على مجموعة حقائق منها فطرية، وعقلية، وأخلاقية، وعلمية، وبهذا الشكل ينتقل الإنسان من كونه كائن أناني وشهواني يتحرك بدون بصيرة حياتية، الى مخلوق عاقل ومنضبط بمنظومة من القيم الأخلاقية ومتسامي عن رغباته الدونية.

والنظرة الشاملة للإنسان والمجتمع تقودنا الى وجود قيم أخرى يهتم بها الإنسان والمجتمع غير قيمة الحرية، مثل قيمة، العدل، العلم، والقدرة، والرحمة، والتسامح، والكرامة، والطهارة، والعزة، والشرف... وسلسلة طويلة من القيم المقدرة عند البشر جميعاً، وبالتالي عندما نقارب الحرية كقيمة اجتماعية لابد من ملاحظة بقية المنظومة القيمية، ومراعاة التداخل الذي قد يحدث بين هذه القيم، الأمر الذي يحوجنا الى دراسة القيم الإنسانية وترتيبها ضمن قانون المهم والأهم، ومن الأخطاء التي وقعت فيها الليبرالية أنها انطلقت من ظرف تاريخي كانت فيه الحرية قيمة ذات أولوية ملحة، ولكنها توقفت عند هذه القيمة من غير أن تراعي القيم الأخرى التي يحتاجها ايضاً الإنسان والمجتمع، أو على الأقل جعلتها القيمة المحورية التي تدور حولها بقية القيم، وهذا غير مسلّم به، لوجود ظروف تتأخر فيها قيمة الحرية لتتقدم قيم أخرى، وخاصة عند تعارض القيم في بعض الظروف الخاصة، فلو تعارضت الحرية مع الأمن مثلاً ايهما نقدم؟ قد يكون الأمن لدى الإنسان أكثر أولوية من الحرية، أو لو تعارضت حرية مجتمع معين مع فرض التعليم عليهم، فأيهما أولى؛ قيمة الحرية أم قيمة العلم؟

 وهكذا لابد من رصد شامل للقيم ومراعاتها كحقائق موضوعية بعيداً عن تأثيرات الظرف الزماني والمجتمعي، وهذا هو الباب الذي يمثل فيه الدين ضرورة للإنسان، لكونه نظرة شاملة وموضوعية للإنسان أكثر من نظرة الإنسان إلى نفسه؛ لأن نظرة الإنسان متأثرة بالظرف الذي يعيش فيه، ومن هنا نجد ان كل الفلسفات البشرية قد أثر فيها الظرف التاريخي، والمجتمعي، والإقتصادي، والسياسي، والشخصي، بشكل واضح وكبير.

ومع أن هذه القيم هي مشتركات إنسانية وأن معرفتها أقرب الى البديهة، إلا أن ذلك لا يمنع من غفلة الإنسان عنها وهيمنة الهوى والرغبة الشخصية عليه، فلا يستغني عن تذكير المذكرين وتنبيه العارفين، وهنا تتجلى مهمة الأنبياء بوضوح، كما يصفها أمير المؤمنين (ع) بقوله: (فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ اليهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ) وبالتالي فإن كل إنسان يجد في نفسه بذور التكامل القابلة للنمو والزيادة.

فحقيقة القيمة ومعناها، أقرب إلى الحالة الوجدانية التي فطر عليها الإنسان، فلو لا وجود حقائق مقدسة عند البشر، لما تكاملت الحياة، بل تعذرت، والإستدلال على وجودها شبيه بالإستدلال على وجود العقل، فكما تسالم البشر على وجوده، كذلك تسالموا على وجود القيم، ومن هنا جاز لنا الجزم بأن رسالات الأنبياء في الواقع، هي تكريس للقيم، ولهذا السبب يتم تصديقهم واتّباعهم، فليس من المعقول، أن يكون هناك نبيٌّ يأمر بالظلم وينهى عن العدل مثلاً.

وفي المحصلة يمكن أن ينفتح باب النقاش مع أي أتجاه يؤمن بالحرية، وحينها يمكننا أن نطالب بضرورة مقاربة الحرية مع بقية المنظومات القيمية، إلا أن هذا الحوار غير متصور مع الملحدين الذين لا يمكنهم أن يؤسسوا فلسفياً للحرية، ومن يتبناها منهم لا يسعه إلا أن يتبناها في الإطار العبثي الخارج عن النظام الأخلاقي للإنسان، وحينها لا تكون مشكلتهم مع الأديان وحدها وإنما مع كل البنى الاجتماعية التي ترتكز على الضرورة الأخلاقية ومن بينها الليبرالية التي تحافظ على مقدار من القيم المجتمعية. "لا يمكن للحرية أن تزدهر إذا لم يكن هناك أي شيء مهم، فإن الحرية تصبح عدمية الجدوى"[2]  

الهوامش:


[1] - لماذا الدين ضرورة حتمية، البروفيسور هوستن سميث، ترجمة سعد رستم، دار الجسور الثقافية، ص 270

[2] - لماذا الدين ضرورة حتمية، مصدر سابق، ص 271

2021/09/22

تحليلات إلحادية مشبوهة: الإله يسلب ’الحرية’ وسلطته قاهرة!

الإنسانية بين الإلحاد والتوحيد

يحاول الإلحاد وبشكل دائم أن يربط بين الإيمان بالله وبين مصادرة إنسانية الإنسان ومحق كرامته، ففي نظر الإلحاد لا تكون للإنسان قيمة إلا إذا تحول محور الإهتمام من الله إلى الإنسان.

[اشترك]

إذ كيف يمكن أن تكون للإنسان قيمة وهناك سلطة غيبية قاهرة تشعره بالدونية والعبودية؟ وكيف يكون للإنسان إحساساً صادقاً بإنسانيته وكل أحاسيسه مستلبة لغيره؟ وكيف يسعى من أجل نفسه وهناك إله يجب السعي من أجله؟ وكيف يشعر بالسعادة وهو لا يعلم إن كان قد رضي الإله عنه؟

بهذا الوصف لا يكون الإيمان إلا مشروعاً مدمراً لإنسانية الإنسان، فلا يجني منه إلا القلق والإضطراب، لأن هاجس الخوف من الإله يلاحق كل تفاصيل حياته، فلا يفكر إلا فيما يرضيه ولا يسعى إلا فيما ينجيه.

يقول دكتور جفري لانغ: "لقد كنتُ من جيل تربى على عدم الثقة، فهناك خوف دائم من أن أحدًا ما سوف يؤذيك، وخوف من شيء ما لم نكن نعلمه، إن فكرة أن الله خلق الدنيا على هذه الحالة، وفوق ذلك سوف يعاقبنا في النهاية جميعًا ما عدا نفراً قليلاً منا، كانت أكثر رعباً وسيطرة على عقولنا من فكرة ألا نؤمن بالله على الإطلاق. وهكذا فقد أصبحتُ ملحدًا في سن الثامنة عشرة من عمري، في البدء شعرت بالحرية؛ لأن رؤيتي الجديدة حررتني من الفوبيا (الرهاب، الهلع)، لقد كنتُ حرًا لأعيش حياتي الخاصة بي وحدي، ولم يكن لدي ما يدعو للقلق من أجل إرضاء قوة فوق بشرية، وكنتُ فخوراً إلى حد ما بأنني كنتُ أمتلك الجرأة لتحمل مسئولية وجودي وأملك زمام نفسي، شعرت بالأمان فيما يختص بمشاعري وبمداركي، وكانت رغباتي طوع إرادتي بعيدة عن سيطرة الكائن الأسمى أو مشاركته أو أي شخص آخر، لقد كنتُ مركز عالمي الخاص بي وخالقه ومغذيه ومنظمه، وأنا الذي كنت أقرر لنفسي ما كان خيرًا أو شرًا أو صوابًا أو خطأً، لقد أصبحت إله نفسي ومنقذها"[1]  

التوحيد وعلاقته بالإنسان:

من الواضح أن تحليلات الإلحاد حول علاقة التوحيد بالإنسان تحليلات مشوهة وتصورات مفتعلة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، فحقيقة الإنسان ضمن الإيمان بالله ترتكز على علاقة المخلوق بالخالق، أي أن الإنسان أوجده الله من عدم وخلقه على الهيئة التي هو عليها، قبضة من طين، ونفخة من روح، فأنتما إلى الأرض من جهة الطينة، وأنتما إلى السماء من جهة تلك النفخة.

 والمستفاد من هذا الوصف؛ هو أن الإنسان يمكنه العيش على الأرض وهو يتطلع إلى الله، وبهذا لا يحكم الإنسان ميول أو اتجاه واحد، وإنما ينجذب إلى الأرض كما يندفع الى الأعلى ليتسامى على المادة.

وبذلك يُشارك الإنسان بقية الكائنات في عناصر الطبيعية المشتركة، ويعترف المؤمن بالمادة كحقيقة متأصلة في الإنسان، فيندفع في رحاب الحياة اندفاع المؤمن بضرورة تسخير المادة من أجل الإنسان، فلا يفوته شيء من خيرات الدنيا وزينة الحياة، وفي الوقت نفسه يمتاز عن بقية الكائنات بما منحه الله من أسمائه الحسنى، فيتصل عبرها بالله ويتطلع بها إلى كماله وجماله فيصبح عليماً، قديراً، رحيماً، كريماً، عزيزاً، مهيمناً، ودوداً، حكيماً، مؤمناً.. في سعي دائم للتخلق بأخلاق الله؛ لأن الله هو مطلق العلم، والقدرة، والرحمة، والكرم، والعزة، والهيمنة، والحِكمة، ولو لم يكن موجوداً لما كان هناك معنى للكمال والجمال.

 فلو كانت المادة هي الأصيلة ولا غيرها في عالم الوجود، فهل حينها يجوز أن نقول في حق المادة بأنها: العالمة، القادرة، الرحيمة، الحكيمة، السميعة، البصيرة؟ وإن كان لا يمكن وهو حتماً غير ممكن فمن أين عرف الإنسان تلك المعاني والصفات؟ 

ويكفينا هنا القول بأن الإيمان بالله هو إيمان بمطلق الكمال والجمال، وتعلق الإنسان بالله هو تعلق بتلك المعاني، وهذا خلاف الرؤية العدمية التي يؤسس لها الإلحاد.

يقول البروفيسور هوستن سميث، أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية وصاحب كتاب (أديان العالم) في كتابه (لماذا الدين ضرورة حتمية): "فلسفة الحياة كانت أمامي واضحة وبسيطة ... تتلخص فيما يلي:

أولاً: لا يمكن للوجود الدنيوي (الأرضي) بسبب محدوديته وتناهيه، أن يشبع قلب الإنسان بشكل كامل، هناك في فطرة الإنسان توقع وتطلع نحو "الأكثر". ولا يمكن لعالم الممارسات الحياتية اليومية أن يشبع هذا التطلع. هذا التطلع إلى ما هو أبعد مما يتيحه العالم الدنيوي، يوحي بقوة بوجود شيء تحاول الحياة أن تصل إليه، تماما مثلما تشير أجنحة العصافير لحقيقة وجود الهواء، تنحني أزهار عباد الشمس نحو الضياء لأن الضياء موجود، ويبحث الناس عن الطعام لأن الطعام موجود، قد يجوع بعض الأفراد، ولكن أجسامهم لم تكن لتمر بإحساس الجوع لو لم يكن في الوجود طعام يلبي هذا الإحساس.

إن الحقيقة التي تهيج شوق الإنسان إليها وتشبع روحه تملؤها هي: الله، أيا كان اسمه الذي تسميه به، ولما كان عقل الإنسان لا يستطيع حتى خلال سنين ضوئية! أن يدرك طبيعة الله، فإننا نحسن صنعا بإتباعنا لاقتراح "رينر ماريا ريلكه"[2].

أن نتفكر بالله بوصفه (إتجاهاً) أكثر من تفكيرنا به ككائن، هذا الإتجاه هو دائما نحو أفضل ما يمكننا أن ندركه، على النحو الذي يؤكده المبدأ اللاهوتي للإسناد الوصفي الذي ينص على أنه: عندما نستخدم أفكارا أو أشياء من عالمنا الدنيوي لنصف بها الله، فإن أول خطوة هي إثبات ما هو إيجابي فيها لله، والخطوة الثانية نفي ما هو محدد متناه في تلك الأوصاف عن الله، والخطوة الثالثة هي الصعود بالمعاني الإيجابية لتلك الأوصاف إلى الدرجة الفائقة (أي إلى أعلى نقطة يمكن لتصورنا أن  يبلغها) بهذا التمييز التام والجذري بين الله والعالم تنتهي أشياء أخرى إلى مواضعها المناسبة"[3]

فالله ليس سلطة فوقية تكبل الإنسان وتقيده، وإنما سلطة تمنح الإنسان عوامل القوة والاقتدار. والله ليس أمراً مخيفاً، بل الحياة بدونه هي المخيفة. والعبودية ليست قيداً يكبل الإنسان وإنما هي تحرير الإنسان من سلطة المادة العمياء، والبحث عن رضا الله ليس إهمالاً للإنسان وإنما لأن الإنسان يكون إنساناً برضا الله، وشعور الإنسان بالله وإحساسه بوجوده هو شعور وإحساس بقيمة الإنسان وعظيم إنسانيته.

إشكالية الإلحاد مع الله هي إشكالية مع الإنسان، والرجوع إلى الله يبدأ من رجوع الإنسان إلى الذات، وهكذا هي فلسفة التوحيد في الإسلام لم تجعل الله بعيداً حتى يحتاج إلي برهان (اِلهى تَرَدُّدي فِى الاْثارِ يُوجِبُ بُعْدَ الْمَزارِ، فَاجْمَعْنى عَلَيْكَ بِخِدْمَة تُوصِلُنى اِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فى وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ اِلَيْكَ، اَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْد لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصيباً"[4]

لا يحتاج الإنسان ليخرج عن نفسه من أجل أن يرى شيئاً آخراً خارج عنها، بل يكفيه الرجوع الى ذاته والنظر في عمق وجدانه، لكي يرى الله ظاهراً بنفسه متجلياً بذاته "يا مَنْ دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مُجانَسَةِ مَخْلُوقاتِهِ، وَجَلَّ عَنْ مُلاءَمَةِ كَيْفِيّاتِهِ، يا مَنْ قَرُبَ مِنْ خَطَراتِ الظُّنُونِ، وَبَعُدَ عَنْ لَحَظاتِ الْعُيُونِ".

 فمن يا ترى يكون قادراً على الهروب من نفسه حتى يكون قادراً على الهروب من الله؟ فإلى أين يهرب الإنسان بعجزه؟ أليس للقوي القادر. وإلي اين يهرب بفقره؟ أليس للغني المتفضل، وإلى أين يهرب الإنسان بحاجته؟ أليس للرحيم المتكرم... فمن عرف نفسه بواقع الفقر والعجز والحاجة عرف ربه بما له من كمال وجمال، فقد جاء في الحديث "من عرف نفسه فقد عرف ربه".

 وهكذا يقربنا الدين إلى الله بتذكيره بأنفسنا، فليس الإيمان هجراناً للنفس ونكراناً لإنسانية الإنسان، وإنما هو كشف لحقيقة النفس للنفس، وهي بداية المسير الى الكمال فينطلق الإنسان من اعترافه بجهله لكي يتعلم، ومن فقره إلى الغنى، ومن عجزه إلى القدرة، ومن الهوى والشهوات إلى المآثر والمناقب، وهكذا من النقص إلى الكمال.

ونذكر هنا بعض النصوص التي جاء ذكرها عن الإمام علي عليه السلام في موضوع النفس وقد أورد منها صاحب الميزان رحمه الله العديد في ميزانه 6/ 173 

عن علي عليه السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها. 

وعنه عليه السلام قال: أعظم الجهل جهل الانسان أمر نفسه. 

وعنه عليه السلام قال: أعظم الحكمة معرفة الانسان نفسه. 

وعنه عليه السلام قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه. 

وعنه عليه السلام قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل. 

وعنه عليه السلام قال: عجبت لمن ينشد ضالته، وقد أضل نفسه فلا يطلبها.

وعنه عليه السلام قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟ 

وعنه عليه السلام قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه. 

وعنه عليه السلام قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه. 

وعنه عليه السلام قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه. 

وعنه عليه السلام قال: من عرف نفسه تجرد. 

وعنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها. 

وعنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جل أمره. 

وعنه عليه السلام قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل. 

وعنه عليه السلام قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم.

وعنه عليه السلام قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات.

وعنه عليه السلام قال: معرفة النفس أنفع المعارف. 

وعنه عليه السلام قال: نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس. 

وعنه عليه السلام قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء.  

 فالإنسان لا يرى نفسه قبل أن يرى ربه بل يعرف نفسه بالله كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: (من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، ومن زعم أنه يعرف الله بالإسم دون المعنى فقد أقر بالطعن، لأن الإسم محدث، ومن زعم أنه يعبد الإسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكاً، ومن زعم أنه يعبد المعنى بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر الكبير، وما قدروا الله حق قدره، قيل له فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن، وطلب المخرج موجود، إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه، قيل: وكيف نعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال عليه السلام: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم ما فيه له وبه)[5]  . 

وفي المحصلة الدين يدعو الإنسان إلى معرفة الإنسان، ثم ويدعوه إلي تربيته واكمال نواقصه، ليس أخلاقياً فحسب وإنما على كل المستويات، فيتواضع الإنسان أمام الحقائق ويرى الطريق أمامه بعيداً فيكرس كل جهده لإنجاز ما يمكن إنجازه في الحياة، ومن أجل هذه الغاية يترفع عن صغائر الأمور، ولا يتوقف عند المظهر، وإنما يبحث دوماً عن جوهر الأشياء، ودليله في هذا المسير جمال الله وكماله فكل ما اقتبس من نوره زاد عشقه وأسرع الخطى إليه.

أما الإلحاد فإنه لا يرى الحياة إلا مادة جوفا لا جوهر لها ولا غاية، ومحاولات فلاسفة الإلحاد الجدد تقديم مقاربة تكون فيها الحياة ذات قيمة هي محاولات أقرب إلي العبث الفكري، ليس لكونها تتجاوز حدود العقل والمنطق فحسب، وإنما لكونها ليست وفية لمرتكزات الفلسفة المادية، ومن أجل ذلك نجدها تمارس الخداع والشعوذة، فمن يتحدث عن الأخلاق والقيم والمعاني السامية لا تتوقع ابداً أنه يتحدث عن روبوت برمج على وظيفة محددة، حتى لو كان ذلك الروبوت يتحرك ويتكلم إلا أنه حتماً لا يعي ما يقول ناهيك أن يكون له أخلاق أو قيم أو معاني سامية، والإنسان في نظر الفلسفة المادية ليس شيء يختلف عن هذا الروبوت، يقول ريتشرد دوكنز وهو يتحدث عن كتابه الجين الأناني: "ليس كتاباً في قصص الخيال العلمي.. إنه علم.. نحن آلات قادرة على البقاء... الروبوتات هي آلات مبرمجة بشكل أعمى للحفاظ على مكونات أنانية تعرف كجينات.. ثم أضاف: بأن حجة الكتاب العامة هي أننا – كحال بقية الحيوانات- مجرد آلات صُنعت بواسطة جيناتنا"[6]  

ومهما حاول الفلاسفة الجدد بان يقنعوا الإنسان بإن الحياة ممكن أن يكون لها معنى أو يكون لها هدف بدون أن يكون هناك إله لما استطاعوا؛ لأن حينها ستكون القيمة لها قيمة بدون أن يكون لها غاية، وهو سير عكس اتجاه العقل والمنطق، فحقيقة الشيء أما بذاته وأما بغايته، ولا يكون الشيء بذاته له قيمة إلا إذا كان مطلقاً أو يرجع إلى المطلق بنحو من الانحاء، أما القيمة المتولدة من الغاية فواضح من أنها ترجع في خاتمة المطاف إلي المطلق أيضاً.

وفي ظني أن الملحد ويل بروفاين، بروفيسور التاريخ وعلم الأحياء كان أكثر شجاعة في تعبيره عن النتيجة الحتمية للإلحاد عندما قال: "لا آلهة، لا حياة بعد الموت، لا قاعدة حقيقية للأخلاق، لا معنى نهائي للحياة، ولا إرادة حرة للإنسان، إننا مرتبطون جميعاً على نحو عميق بالمنظور التطوري، أنت هنا اليوم وسترحل في الغد، وهذا كل ما في الأمر" ويقول أيضاً: "يبدأ الأمر بالتخلي عن الإيمان بالإله، ثم التخلي عن الأمل بالحياة بعد الموت، وحين تتخلى عن هاتين الفكرتين فإن بقية الأمور تأتي بطريقة سهلة نسبياً، حيث تفقد الأمل بأن هناك مبادئ أخلاقية مطلقة، وأخيراً لا وجود لإرادة إنسانية حرة، إذا آمنت بالتطور فلا يمكنك أن تأمل في وجود أي إرادة حرة، ليس هناك أدنى أمل في وجود أي معنى عميق في الحياة الإنسانية، نعيش، ونموت، ونفنى، نفنى بشكل نهائي حين نموت"[7]  

سريعاً ما ينكشف الإلحاد ويتعرى عندما يقف وجهاً لوجه أمام العقل، وحينها إما أن يكون الملحد شجاعاً ويعبر عن سعادته رغم أنه يقف عارياً أمام الجميع، وإما أن يثير الغبار والضوضاء ليصرف النظر عنه بعيداً، وأمثال ريتشرد الذين يبشرون بالإلحاد وهم يملأون الدنيا صخباً وضجيجاً باسم الحياة وقيم الإنسان، ليس إلا مخادعين يمارسون كل أنواع الحيل ليجعلوا المستحيل ممكناً، فكما أن الظلام لا يكون أصلاً للنور، والمادة لا تكون أصلاً للحياة، كذلك الإلحاد لا يكون أساساً للقيم والأخلاق، أو كما عبر ويل بروفاين في عبارته السابقة "لا وجود لأي أمل في وجود معنى عميق في الحياة الإنسانية" 

فجوهر الإنسان وحقيقته في كونه مخلوق له روح خلاقة ومبدعة، تنقله من عالم الحيوان والغرائز إلى عالم الجمال والكمال، والإنسان بوصفه روحاً هو الذي يعشق القرب من الله، ومن هنا كان إهمال الروح هو إهمال لقيمة الإنسان وسر وجوده؛ لأنها هي الوسيط بين الإنسان وبين الحقائق المطلقة والكاملة، فكون الإنسان حياً عالماً قادراً رحيماً سميعاً بصيراً يجعله يفكر في المطلق بوصفه المصدر المالك لكل تلك المعاني، ومن الغباء أن يعتقد بأن المادة الميتة الجاهلة العاجزة الصماء العمياء والتي لا تعرف الرحمة هي من صممت الإنسان على ذلك النحو.

يقول أنتوني فلو: "ثلاث ابعاد من البحث العلمي كانت على وجه الخصوص مهمة بالنسبة لي، على ضوء الأدلة المتداولة اليوم. أول هذه الابعاد هو السؤال الذي حير ولا زال يحير الكثير من العلماء اللامعين: وهو من أين جاءت قوانين الطبيعة؟ والثاني هو السؤال الواضح للجميع: كيف جاءت الحياة من اللاحياة؟ والثالث هو السؤال الذي يوجهه الفلاسفة لعلماء الكون: كيف جاء الكون – بكل ما يحتويه من أشياء مادية– إلى الوجود؟"[8]  

الهوامش:


[1] - الصراع من أجل الايمان، جيفري لانغ، ترجمة د منذر العبسي، دار الفكر دمشق، الطبعة الثانية 2000م ص 24-25 

[2] - ريلكه, رينر ماريا (1874 – 1926 ) شاعر وروائي نمساوي ألماني, اعتبر أحد أعظم الشعراء الحديثين وأكثرهم تأثيرا بسبب أسلوبه الدقيق, وصوره الرمزية, وتأملاته الروحية . اعتبر الموت تحولا للحياة نحو حقيقة باطنية غيبية تشكل مع الحياة وحدة كلية واحدة . 

[3] - لماذا الدين ضرورة حتمية، هوستن سميث، ترجمة سعد رستم، دار الجسور الثقافية، ص 11

[4] - المجلسي، محمّد تقي، بحار الأنوار، ج 95، ص 225. 

[5] - تحف العقول عن آل الرسول – ابن شعبة الحراني ص 326 

[6] - هناك إله، أنتوني فلو، مصدر سابق. ص 96

[7] - عبد الله بن صالح العجيري، ميليشيا الالحاد، نشر مركز تكوين للأبحاث والدراسات، ط الثانية 2014، ص 175

[8] - هناك إله، أنتوني فلو مصدر سابق ص 109 

2021/09/21

دين بنكهة ’ماركسية’.. لا ’علمانية’ في الإسلام!

العلمانيّةُ مصطلحٌ حديثٌ، ومفهومٌ لهُ رؤيةٌ في إدارةِ الدّولةِ، كما أنّهُ أصبحَ واقعاً سياسيّاً في كثيرٍ مِن بلدانِ العالم، وبالتّالي لا يمكنُ تقديمها كمنتجٍ إسلاميٍّ كما لا يمكنُ مقاربةُ الإسلامِ مقاربةً علمانيّةً...

[إشترك]

ويبدو أنَّ العالمَ الإسلاميَّ يعاني من إشكالاتٍ في وعيهِ بالإسلامِ الأمرِ الذي يجعله عُرضةً لمقارباتٍ تستهدفُ إسترضاءَ النّخبِ الثقافيّةِ، فمثلاً عندَما كانَت الماركسيّةُ سيّدةَ السّاحةِ السياسيّةِ والثقافيّةِ افتتن بها البعضُ إلى درجةِ جعلِها إسلاميّةً أو جعلِ الإسلامِ ماركسيّاً، ويعودُ السّببُ في ذلكَ أنَّ بعضَ التوجّهاتِ الفكريّةِ والسياسيّة تتبنّى بعضَ القيمِ والمبادئِ التي تعشقُها جميعُ الإنسانيّةِ وهيَ بدورِها تمثّلُ قيماً محوريّةً في الإسلامِ الأمرُ الذي يدفعُ البعضَ على مُقاربةِ الإسلامِ بالشّكلِ الذي يخدمُ ذلكَ التوجّهَ الفكريَّ والسياسيّ، فمثلاً العدالةُ الاقتصادية مبدأ دعَت إليهِ الكثيرُ منَ النّصوصِ الإسلاميّة، فتصبحُ تلكَ النّصوصُ محورَ اهتمامِ الماركسيّ فيصوّرُ الإسلامَ مبدأ ماركسيّاً، وكذلكَ صاحبُ التوجّهِ الليبراليّ والعلمانيّ يستهدفُ النّصوصَ التي تخدمُ ميوله الثقافيّةَ فيصورُ العلمانيّة أو الليبراليّةَ كأنّها إسلاميّة. 

ونحنُ بدورِنا نعترفُ بأنَّ الكثيرَ مِن هذهِ التوجّهاتِ تستهدفُ بعضَ القيمِ الضروريّةِ للحياةِ الإنسانيّة، إلّا أنّها تمثّلُ رؤيةً ناقصةً أو مشوّهةً لتلكَ القيمِ، والإسلامُ وحدَه يمثّلُ المبدأ الذي يقدّمُ تصوّراً شامِلاً لهذهِ القيمِ، والتحدّي الذي يواجهُ الإنسانَ المُسلمَ يتمثّلُ في تقديمِ قراءةٍ إسلاميّةٍ خالصةٍ تجعلُ الإسلامَ أكثرَ حضوراً في السّاحةِ السياسيّةِ والاجتماعية، فمِن خلالِ الرّجوعِ للنّصوصِ الدينيّةِ والتدبّرِ فيها بعيداً عن إسقاطِ الأفكارِ المُسبقةِ مُضافاً إلى دراسةِ الواقعِ دراسةً موضوعيّةً يساهمُ فيها كلُّ أهلِ الخبرةِ والاختصاص يمكنُ تقديمُ رؤيةٍ حضاريّةٍ يصحُّ نسبتُها للإسلامِ، ومن غيرِ ذلكَ سوفَ يصبحُ وعيُنا بالإسلامِ وعياً منفعلاً بكلِّ المؤثّراتِ السلبيّةِ التي تفرضُها الحياةُ اليوميّة. 

والخلاصةُ: لا وجودَ لعلمانيّةٍ مُسلمةٍ ولا لإسلامٍ علمانيّ وإنّما هناكَ إسلامٌ له رؤيةٌ شاملةٌ صالحةٌ لكلِّ ما يحتاجُه المسلمُ لبناءِ حضارتِه الخاصّةِ، الأمرُ الذي يضاعفُ الجهدَ أمامَ المؤسّساتِ الدينيّةِ وأهلِ الاختصاص لتقديمِ الإسلامِ بصورةٍ أكثرَ فاعليّةٍ وإيجابيّة.

2021/09/19

فرض الإسلام ليس استبدادا -3-

النصارى:

كان النصارى أصحاب ديانة سماوية، يؤمنون بإرسال الرسل من قبل الله سبحانه وتعالى وبتتابع أولئك الرسل وآخرهم نبي المسيحية عيسى بن مريم (عليه السلام)، وأنْ ثمة نبي موعود بشّر به السيد المسيح.

[اشترك]

وهم يؤمنون أيضا بحتمية طاعة الله من خلال النبي الذي يرسله، وبحتمية طاعة ذلك النبي، وخلافهم مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لم يكن يتجاوز شخصه الكريم وأنه ليس النبي الموعود ولا يحمل ما تشير إليه كتبهم من صفات لذلك النبي، وعلى هذا فما إن تضمحل نقطة الخلاف هذه ويبرهن على أنه من بشرّ به نبيهم يصير لزاما عليهم اتّباعه، أي أنهم حين يؤمنون بضرورة اتّباع النبي الموعود ويبرهن على أن ذاك هو النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يصير لزاماً عليهم اتّباعه وطاعته، ولا يبقى معنى لعبادة الله عن طريق نبي هم يؤمنون في أن الله يأمرهم بالتحول عنه الى نبي آخر، وبالتالي فليس ثمة استبداد واضطهاد في فرض الإسلام عليهم.

وبالنسبة الى نقطة الخلاف وإنكارهم لصدق النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في دعواه النبوة، فإن التاريخ يذكر لنا العديد من الشواهد على أن ما في كتبهم كان يشير وبشكل جلي إلى شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، كما جاء في قصة الراهب بحيرا "إن أبا طالب خرج في ركب من قريش إلى الشام تاجرا فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يزعمون، فرقّ له أبو طالب فقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً.

وكما قال فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة مذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر.

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا صنع لهم طعاما كثيراً وذلك أنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في صومعته عليه غمامة تظله من بين القوم.

ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وهصرت أغصان الشجرة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى استظل تحتها.

فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته ثم أرسل إليهم فدعاهم جميعا، فلما رأى بحيرا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا سأل أبا طالب عن الغلام أن يكون أبوه حيا قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه من اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبلغنه  شرا فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده، فخرج به عمه سريعاً حتى أقدمه مكة".[1]

كما جاء في سيرة ابن هشام "وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي كانت قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يمشي فعثر، فقال له ابنه: تعس الأبعد، يريد النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال له أبوه: لا تفعل، فإنه نبي، واسمه في الوضائع،  يعني الكتب، فلما مات لم تكن لابنه همّ إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد فيها ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسلم فحسن إسلامه وحج. وهو الذي يقول:

(إليك تعدو قلقا وضينها

معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها) [2]

 


  1. ج2ص32 الطبري
  1. سيرة بن هشام ص 574

 

2021/09/16

دوامة الإلحاد المتستّر بـ ’الصدفة’.. رؤية مشوّهة للإنسان!

إذا انطلقنا من تأمل محايد لمقاربة الرؤية الإلحادية للإنسان والكون، ومن خلال المعيار المعرفي الذي اختاره الإلحاد وجعله مقياساً للحقيقة، سوف نصطدم بمحطات غامضة لا تشوه فقط الرؤية البريئة التي اكتسبناها بتأملاتنا الفطرية، وإنما تدخلنا في دوامة من العبث الذي يشككنا حتى في مسلماتنا البديهية، ليس لكون الإلحاد رؤية عميقة تنتقل بنا الى فضاءات غير معتادة، وإنما لكونه رؤية لا تستقيم إلا بالاشتباك مع كل الاشتراطات المنطقية.

[اشترك]

الإلحاد وعلاقته بالإنسان

لا أتحدث فقط عن عدمية المبدأ والمنتهى، وإنما أتحدث أيضاً عن عدمية الوجود والحياة ونحن فيها؛ فمعنى الإنسان بما يجده لنفسه من معنى، ومعنى الحياة بما لها من غاية، ومعنى كل ذلك بأن يكون له قيمة، والحديث عن المعنى والغاية والقيمة، لا يكون له معنى ولا غاية ولا قيمة بدون الحديث عن البداية والنهاية وما يقع بينهما من حِكمة وفلسفة.

 فكيف يبدأ فهم هذا المعنى؟

 وعلى أي أساس تقوم الحقيقة؟

 ومن أي مصدر تستمد الأشياء قيمتها؟

 الإنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي يعي وجوده ووجود من حوله من الكائنات، كما أن بقية الموجودات بدورها لا تجد لنفسها وجوداً إلا من خلال تموضعها عبر الإنسان، فمن الطبيعي حينها أن يكون وعي الإنسان لذاته هو الأساس الذي يبني عليه معارفه، وإهمال هذه الحقيقة يمثل انتكاسة كبرى لطبيعة التفكير المنطقي للإنسان.

فالحديث عن المعرفة والفهم وإيجاد المعنى هو حديث عن العقل، فكلما تجلى العقل في الإنسان كل ما تجلى الكون كله فيه، ومن هنا فان غياب العقل هو غياب لهوية الإنسان وضياع لإنسانيته، وما نجده من خلط وتشويه ينتاب رؤية الإنسان في نظرته الكونية والمعرفية ليس إلا انعكاساً لما يعانيه الإنسان من عدم وضوح نفسه لدى نفسه.

والإنسان بقدر ما عليه من الوضوح والظهور كوضوح الذات للذات وظهور النفس للنفس، إلا أنه بذات القدر يكتنفه الغموض وعدم الوضوح حتى يغدو الإنسان هو ذلك المجهول، وهذا التقابل بين الوضوح والغموض يمثل البداية لمشكلة المعرفة وبداية المعالجة ايضاً؛ فلا النظرة الساذجة التي ترى الأشياء واضحة، ولا النظرة المفتعلة التي تجعل الواضح غامضاً هي التي تصلح لحل المشكلة؛ لأن السذاجة إهمال للحقيقة، والافتعال ضياع لها، والإنسان ليس حقيقة مجردة يمكن رصده وتقيمه بعيداً عن تداخلات الوجود.

فاللحظة التي نُخرج فيها الإنسان ونعزله لكي لا نرى غيره، هي ذاتها اللحظة التي يغيب فيها الوجود والإنسان معاً، كما أن اللحظة التي ننظر فيها للإنسان ضمن هذا التداخل الوجودي، هي ذاتها اللحظة التي يتعقد فيها الوعي وتتباين فيها الرؤى، والموازنة المطلوبة تكاد تكون معدومة؛ فالذاتية ساذجة، والموضوعية اقرب الى أن تكون مستحيلة، والخروج من هذا العمى لابد ان يسبقه خروج آخر، ولكن ليس خروجاً عن الإنسان، ولا خروج عن الوجود، ولا حتى خروج عن الإنسان المتداخل مع الوجود، وإنما خروج عن كل التصورات التي صنعها الإنسان وراكمها طوال القرون، فضبابية الرؤية ليس لأن الرؤية أمراً مستحيلاً في ذاتها، وإنما لكون فضاء المعرفة تحجبه سحب التصورات الداكنة، فصراع الإنسان مع نفسه، ومع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة، وكل ما عاناه في الحياة أفسد صفاء الروح ونقاء العلم، فلم يعد العلم والمعرفة حقيقة مقدسة تعشقها الروح وتهواها النفس، بل أصبح أداة تسخر من أجل مكر الإنسان وأنانياته الضيقة.

والإلحاد ليس إلا واحدة من تلك الرؤى المشوهة؛ ليس لكونه كفراً بالإله وإنما لأنه كفر بالوجود والإنسان والعقل، حيث تنصل عن الروح وآمن بالمادة، وكفر بالباطن وتعلق بالظاهر، وتجاهل العلة وتستر بالصدفة، وأهمل الغاية وتمسك باللاغاية والعبث، وترك العقل وتشبث بالحس، وعندما يكون الوجود بدون روح لا يكون له قيمة، وعندما يكون بدون باطن لا يكون له ظاهر، وعندما يكون بدون علة لا يكون له حقيقة، وعندما يكون بدون غاية لا يكون له حِكمة، وعندما يكون بدون عقل لا يكون له معنىً ولا طعماً، والنتيجة ليس كفراً بالله وإنما كفر بالوجود والإنسان والعقل معاً.

من أي زاوية يرى الإلحاد الإنسان؟

ولكي نقرب هذا المدعى لابد أن نرجع إلى ركائز الإلحاد ومنطلقاته، لنرى بأي منظار يشاهد الكون، وبأي ميزان يقيم الإنسان، وفي أي إطار يضع العقل، وفوق كل ذلك بأي ريشة يريد أن يرسم لوحة للحياة.

ولكي تستقيم الصورة لابد أن نبدأ من الإنسان في المنظور الإلحادي، ليس لكون الإنسان أوضح مظهرٍ في الوجود، وإنما لكون الوجود لا يكون ظاهراً إلا بالإنسان، فكيف نتحدث عن فهمنا للوجود والكون قبل أن نتحدث عن فهمنا للإنسان، ومن هنا كان من الضروري أن نتعرف عن الإلحاد وهو يقدم فهمه للإنسان.

عمل الإلحاد على إظهار نفسه مصطفاً إلى جانب الإنسان، ومدافعاً عن حقوقه وقضاياه، وحاملاً لراية تحريره من المخاوف والهواجس التي رمته في أحضان الخرافة والجهالة، فأصبح الإلحاد بذلك هو شمس العلم التي تشرق على البشرية بنور جديد، فلا غنى للإنسان عن الإلحاد؛ لأنه العلم ضد الجهل، والحقيقة ضد الخرافة، والتحرر ضد العبودية، والتقدم ضد الرجعية، وبالتالي هو بشارة العلم ونبوءة الإنسان الى الإنسان.

كيف يبني الإلحاد هذه الصورة المشرقة للإنسان؟

 وكيف يكون الكفر بالإله، هو ضمان الخلاص للإنسان؟

وهل المادة وقانون الانتقاء الطبيعي هو النور الذي يبدد الظلام؟

العلم، الحرية، التقدم، وإنسانية الإنسان وغيرها من القيم تعلو على الخلاف والنقاش، ولا يمكن التأسيس لها بالادعاءات والمزايدات، والإلحاد الذي ملأ الدنيا ضجيجاً من أجل الإنسان، عليه ان يثبت أن له صلة واقعية بالإنسان، بحيث تكون فلسفته الإلحادية مقترنة وجودياً ومنطقياً بمصير الإنسان وكرامته، وبالشكل الذي لا يمكننا أن نتصور معه قيمة للإنسان دون أن نتصور الإلحاد، وبهذه الطريقة يتجاوز الإلحاد امتحان القدرة الفلسفية، وعندها سوف يستحق وبجدارة أن يكون عنواناً لمرحلتنا التاريخية.

أما ميدان الشعار والدعاية والإعلام ليس مجدياً في طرح الحقائق المصيرية، والإلحاد الذي بدأ وانطلق من عمق الحضارة الغربية، قد يحرجنا بما نحن عليه من جهل ورجعية، وقد كان ذلك سبباً لشعور بعض شبابنا بالدونية أمام بريق تلك الشعارات الإنسانية، فلم يجدوا سبيلاً غير الإلتحاق بموجة الإلحاد، ظناً منهم بأن للإلحاد صلة قوية وحتمية بتلك الشعارات، فكان من الضروري التفكيك بين هذه القيم وبين الإلحاد؛ لأن المؤمن أيضاً يتبنى تلك الشعارات، وحينها يجب أن تكون المقارنة بينهما بما يقدمه كل تصور من علاقة ضرورية وحتمية بين متبنياته الفلسفية وبين تلك القيم الإنسانية.

رؤية الإلحاد إلى الإنسان تبدأ منذ أن كان خلية واحدة في ماء آسن منذ ملايين السنين، ولا نعلم ولا يعلمون من أين أتت هذه الخلية وكيف حصلت على الحياة؟ وأن المادة الميتة كيف يمكنها أن تهب الحياة لغيرها؟ كل ذلك لا يهم وإنما المهم عندهم أنها وجدت والسلام، ثم تطورت ومرت تلك الخليلة بمراحل مختلفة وتكاثرت حتى أصبحت اساساً لكل اشكال الحياة على كوكب الأرض.

 أما الإنسان كيف ظهر على مسرح الحياة ضمن هذه النظرية؟ نجد أن التاريخ الحقيقي للتحول الإنساني قد بدأ مع مرحلة الثدييات، والتي تمثل في الواقع الجد الأوسط للإنسان بعد مرحلة الخلية الواحدة التي هي الجد الأعلى للإنسان، ومن بين تلك الثدييات كان هناك طور انفرد بأن يكون جداً حصرياً للإنسان والقرد معاً دون غيرهم من الثدييات، ثم شق كل من الإنسان والقرد طريقه في التطور حتى أصبح هذا الإنسان الذي نعرفه وذاك القرد الذي مازال قرداً يعيش في الغابة.

 وكل هذه العملية التطورية لا يحكمها إلا قانون واحد وهو قانون (اصطفاء الأصلح) أو (البقاء للأفضل)، وقد نال هذا القانون شرحاً مفصلاً من علماء الأحياء فيما يخص البيئة الطبيعية للحياة وتأثيرها في الكائنات، ثم عدل هذا القانون في بعض أجزائه من قبل أنصار الداروينية لكي يتجاوزوا به التباين الكبير بين بعض مراحل التطور فأضيف إليه قانون (التحولات المفاجئة).

وهكذا تحقق التطور ضمن عملية كيميائية معقدة، إلا إن المادة لم تكن واعية لكل هذه الحركة التطورية، والأمر الذي تم إهماله هو كيف اكتسبت هذه المادة هذا الوعي الذي نجده في مرحلة الإنسان؟

 وما يهمنا هنا ليس نقاش هذه النظرية إثباتاً أو نفياً، لأن ذلك ميدان خاص بعلماء الأحياء والبيولوجيا، كما أن دخولنا في هذه المباحث هو الفرصة التي يبحث عنها الإلحاد لممارسة خدعته المشهورة حيث يجر الخصم الى نقاش علمي النتيجة فيه محسومة لصالح العلم، في حين أن النقاش مع الإلحاد هو نقاش في الفلسفة وليس العلم، وما ذكره فيلو في كتابه (هناك إله) خير دليل على ذلك، يقول: "في عالم 2004م، قلت بأن أصل الحياة لا يمكن تفسيره إذا بدأنا بالمادة فقط. رد المنتقدون بروح المنتصر قائلين بأنني لم أقرأ قط مقالاً في مجلة علمية ولا تابعت التطورات العلمية الحديثة المتعلقة بالتولد التلقائي (التولد الذاتي من كائنات غير حية). هم بهذا النقد لم يفهموا الهدف الرئيسي من كلامي، فاهتمامي لم يكن منصباً على هذه الحقيقة أو تلك في الكيمياء أو في علم الجينات، بل كان اهتمامي منصباً على السؤال الرئيسي عن معنى أن يكون شيء ما حياً، وما علاقة ذلك بالحقائق الكيميائية والجينية ككل. أن تفكر على هذا المستوى، فأنت تفكر كفيلسوف"[1]  

وبالتالي الذي يهمنا هو الوصف الذي قدمه الإلحاد لطبيعة الإنسان، ومن ثم ما علاقة ذلك بما يحمله الإلحاد من شعارات تتحدث عن قيمة الإنسان؟ وما هو الرابط بين المادة وبين حقائق كالمعنى، والقيمة، والأخلاق، والفهم، والإدراك؟

الإنسان بين الروح والمادة

سوف نفترض صحة النظرية التطورية ونسلم بأن الإنسان هو نتاج الطبيعة، إلا أن هذه النظرية قد تفسر لنا الجانب الطبيعي والمادي للإنسان، فنتيجة تفاعلات كيمائية وفيزيائية موجودة في المادة تحقق البعد المادي في الإنسان، إلا انها لا يمكن أن تفسر الجانب الروحي فيه، وتجاهل هذا الجانب والتنكر له لا يمنع من شعور الإنسان به وتفاعله معه.

 فمن يؤمن بالروح لا ينفي الجسد الذي يربطه كإنسان بعالم المادة والطبيعة، أما الذي يرفض الروح كيف يمكنه أن يرتبط بعالم المعنى والقيم وكل المطلقات؟

وقد يغالط بعض الملحدين بأنه لا حاجة لهم للإيمان بالروح حتى يؤمنوا بهذه الحقائق، فإلحادهم لا يمنعهم من الإيمان بوجود الفهم، والوعي، والإدراك، والتأمل، والشعور، والحب، والجمال، والأخلاق.. إلا أن مجرد اعتراف الملحد بتلك الحقائق ليس دليلاً على كون هذه الحقائق صنيعة المادة، بل قد يكون دليلاً على أصالة الروح في الإنسان سواء آمن بها أو كفر، فالإلحاد الذي لا يجد تفسيراً للتحول الذي جعل المادة مصدراً لتلك الحقائق ليس في وسعه الإيمان بها قبل الإيمان بالروح ومن ثم الإيمان بالله.

 فلا وجود لأي صلة واضحة بين المادة العمياء الصماء، وبين عالم العقل والمعاني، ففهم الحقائق والشعور بالأشياء شعوراً إدراكياً وقيمياً من سنخ عالم الروح وليس المادة.

والإلحاد بهذا التصور الموغل في المادية يحمل في طياته بذور موته، ما يكاد يولد ليموت في لحظة ولادته، إذ كيف يكون الفكر دليل على الإلحاد والمادة لا تنتج فكراً؟، ولو كان لها ذلك كيف نثق به؟، أو كما يقول المفكر الأيرلندي كليف لويس C. S. Lewis: "لنفترض أنها مجرد ذرات داخل جمجمتي تُعطي ناتج ثانوي يسمى فكر، إذا كان الأمر كذلك كيف أثق أن تفكيري صحيح؟ إنه مثل إبريق الحليب الذي عندما تخضه تأمل أن الطريقة التي تتناثر فيها بقع الحليب ستعطيك ذاتها خريطة لمدينة لندن، ولكن إذا لم أستطع أن أثق بتفكيري ولا أستطيع أن أثق في الحجج التي تؤدي إلى الإلحاد وبالتالي لا يوجد سبب لأكون ملحد أو أي شيء آخر، إلا إذا كنت أؤمن بالله، لا أستطيع أن أؤمن في الفكر: بحيث لا يمكن أبدًا أن أستخدم الفكر لعدم الإيمان بالله."[2] 

 فهناك شعور بالجسد يجده كل إنسان، ويقابله شعور آخر وهو شعور الإنسان بروحه، ولا يمكن مصادرة هذا الشعور والتنكر عليه، لكونه واقعاً يتفاعل معه الإنسان يومياً، فعندما يتأمل الإنسان ويغوص في عالم الفكر، أو عندما يستشعر الجمال ويسترسل فيه، أو عندما يعيش حلماً جميلاً في يقظته، أو عندما ينجذب كما ينجذب الصوفي الولهان، لا يكون حينها وهو يعيش هذه الحالة مجرد مادة صماء، بل حتى عندما يعيش الإنسان في عالم الخيال والوهم ويستغرق فيه لا يكون عايشاً فيه بجسده.

 كل ذلك لا يمكن تفسيره مادياً سواء كان كيميائياً أو فيزيائياً، فالوعي والإدراك والفهم ليست من خصائص المادة، والمغالطة التي يعتمدها الإلحاد في إرجاع كل ذلك لطبيعة المادة مغالطة غير مفهومة، لأننا لا نختلف معهم على وجود نشاط كيميائي في الجسم عندما يفكر الإنسان أو يشعر، وإنما نختلف معهم في الفهم بما هو فهم كيف يكون مادي؟

والقيمة بما هي قيمة كيف تكون حسية؟، والوعي بما هو وعي كيف يكون كيميائي؟ فعلمنا مثلاً بتركيبة العين ووظائف كل جزء منها في عملية الإبصار، لا يجعل البصر بما هو بصر حالة مادية، وإلا كيف يبصر الإنسان وبوضوح تام بدون عين، وكيف يسمع ويميز الأصوات بدون أذن، وكيف يتكلم بأفصح العبارات بدون لسان، وكيف يفرح ويحزن ويضحك ويبكي ويتألم وهو في عالم النوم؟

 مهما ينجح الإلحاد في إيجاد تفسير لهذه الحقائق، إلا أنه لن ينجح أبداً من منع شعور الإنسان بروحه، ومهما امتلك من أدلة على نظرية التطور إلا أنه لن يستطع أن يمنع الإنسان من التطلع نحو الغيب والتقرب منه، ومهما كانت المادة متحكمة لا يمكنها أن تمنع الروح من البحث عن المناقب والقيم والكمال، فكما أن المادة هي مصدر غذاء الجسد فإن الغيب هو مصدر غذاء الروح، واهمال هذا البعد الأصيل في الإنسان تشويه لحقيقته وطمس لإنسانيته، ومن هنا لم يكن الإلحاد إلا صورة مشوهة للإنسان.

فالناتج الطبيعي الذي يتناسب مع فلسفة الإلحاد المادية هو أن يعيش الإنسان محبطاً قلقاً كما عبر كثير من فلاسفة الإلحاد عن هذا الهاجس، ولا يناسبه أيضاً أن يكون هناك تفكير عن قيمة للإنسان فرداً كان أو جماعة؛ لأن الكلام عن القيمة لا يستقيم له معنى مالم يكن هناك كلام عن الغاية السامية التي يسعى لها الإنسان، فالذي كان مجيئه من العدم وذهابه الي العدم فقيمته العدم ايضاً.

ولذا تنبه بعض فلاسفة المدرسة النفعية لأهمية الدين في حياة الإنسان أمثال وليم جيمس الذي كان ينبه باستمرار على أهمية الدين في تحصيل السعادة النفسية والروحية، فالدين يمثل ضرورة إنسانية حتى من زاوية المنطلقات النفعية البحتة، بوصفه سبيل للوصول إلى الاستقرار والراحة والطمأنينة في حالات القلق والاضطراب. ينقل الشهيد مطهري عن وليم جيمس في كتابه العدل الإلهي وصفه لشعور بعض الفلاسفة الملحدين بقوله: "إن كلمات مارك أورل ذات مرارة تنبع من جذور الهم والانقباض، وصوته الحزين يشبه صوت الخنزير الذي يضجع تحت السكين. والوضع الروحي لنيتشه وشوبنهاور عابس، ويرى من سلوكهم الخلقي الانحراف ممزوجاً بالمرارة. وصوت هذين الكاتبين يتميز بمرارة يذكرنا بصوت الجرذان وهي في حالة نزاع. ولا يرى المعنى والمفهوم الصافي العذب الذي يعطيه الدين لمشاكل الحياة ومشتقاتها في تضاعيف سطور هذين الكتابين"[3]  

 وفي ختام هذا المقال نشير إلى نتائج دراسة نشرتها مجلة الطب النفسي الامريكية (The American Journal of Psychiatry)  سنة 2004م تثب وجود علاقة بين الإلحاد والانتحار كما أوصت الدراسة بالدين كعلاج لهذه الظاهرة.

1- نسبة الانتحار لدى الملحدين أعلى ما يمكن!

2- نسبة الانتحار كانت أعلى لدى غير المتزوجين!

3- نسبة الانتحار قليلة بين مَن لديهم أطفال أكثر!

4- الملحدون أكثر عدوانية من غيرهم!

5- الإنسان المؤمن أقل غضباً وعدوانية واندفاعاً!

6- الدين يساعد على تحمل أعباء الحياة والإجهادات ويقلل فرص الإصابة بالاضطرابات النفسية المختلفة!

7- الملحدون كانوا أكثر الناس تفككاً اجتماعياً، وليس لديهم أي ارتباط اجتماعي لذلك كان الإقدام على الانتحار سهلاً بالنسبة لهم!

8- ختمت الدراسة بتوصية: إن الثقافة الدينية هي علاج مناسب لظاهرة الانتحار!

 

 


[1] - أنتوني فلو، ترجمة صلاح الفضلي، هناك إله، الناشر المترجم دولة الكويت، تاريخ الطبع 2015م ، ص 108

[2] - د هيثم طلعت، اسلام ويب http://articles.islamweb.net/media/index.php

[3] - العدل الإلهي، الشهيد مطهري، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، ص 98

2021/09/14

فرض الإسلام... ليس استبداداً -1-

من قائمة الاحتجاجات التي يطلقها الكثيرون اليوم، الاعتراض على ما قام به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ بعد انتصاره وهيمنته على مكة وعموم الجزيرة ـ من فرض الإسلام على الناس وإلزامهم به ديناً وعقيدة وإلا فهو القتل، واعتبار ذلك تعدياً واضحاً على الحرية الفكرية علاوةً على الشخصية، ولوناً بيّناً من ألوان الاستبداد.

فهل هو كذلك؟

[اشترك]

    شرعية الفرض

لو فحصنا الأطياف الدينية التي تعامل معها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) سنجدها تنحصر بالمشركين (عبّاد الأصنام) وهم الغالبية العظمى من سكان الجزيرة، والنصارى واليهود. وسنتناولها تباعاً لنصل، في النهاية، إلى ما يدفع عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) تهمة التعدي وينفي عن ساحته المقدسة صفة الاستبداد.

المشركون

يتلخص الاعتراض، مع هذه الطائفة، في أنها فئة ذات عقيدة ولابد أن تحترم لما يفرضه الواقع الإنساني من ضرورة الالتزام بالتعددية واحترام العقائد المغايرة. فلا يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) إكراههم على اعتناق دينه فضلا عن تهديدهم بالقتل.

ويتلخص الرد على هذا الاعتراض في النقاط التالية:

1.إن عقيدة عبادة الأصنام تعبّر في واقعها الفعلي عن انحطاط هائل في العقل والوجدان الانسانيّين. وهي دافع وانعكاس في الوقت نفسه للواقع الاجتماعي المفزع الذي كان يعيشه سكان الجزيرة العربية من تقاتل وتناحر وقبلية وجهل وتخلف[1].

ولعل في كلام الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) مع نجاشي الحبشة بياناً واضحاً عن ذلك الواقع "أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك.."[2]

وعليه فإن عملية الإصلاح لا يمكن أن تتم في المجتمع الجاهلي إلا بالقضاء على هذه العبادة التي تأخذ بعقل الإنسان إلى مهاوٍ سحيقة حيث يصنع الصنم من الطين بيده ثم يضعه عند باب الخيمة في المساء ليجده في الصباح وقد بالت عليه الكلاب فينظفه ويعكف على عبادته، وإلى الاعتقاد بقدرته في التحكم بمقادير هذا الكون الشاسع. وهذا ما يؤكده علم الاجتماع الحديث في تعليله للأديان الوثنية القائمة على أساس الطوطم والخرافة بأنها انعكاس لمجتمع متخلف ولابد في عملية الإصلاح من حركة تنويرية تقضي على هكذا عقائد.

ثم ألا ينطلق الخط الإلحادي الداعي لاجتثاث الدين من أن العقيدة الدينية تمثل الحاضنة الخصبة لنمو كل ما هو متخلف يعيق عملية الإصلاح والتنوير؟

 


[1] انظر سيد المرسلين ج1 ص43 ـ 96  والسيرة النبوية عصرماقبل الهجرة \ عباس زرياب خوئي      

[2] سيرة بن هشام ج2 ص 337

 

2021/09/12

هل للمسلمين مناهج علمية؟

يُعاب علينا بأننا لا نمتلك منهجاً علمياً له جذور سليمة فلماذا؟

إن المناهج العلمية ليس لها دين أو مذهب وإنما هي جهد عقلي تسالم عليه جميع العقلاء، وبالتالي الباب مفتوح أمام الجميع في الاستفادة من هذه المناهج.

[اشترك]

وقد ساهم المسلمين في طول تاريخهم في صناعة هذه المناهج  بل كانوا متقدمين على غيرهم في هذا الباب، فالإبداع الذي قدموه في كثير من المجالات العلمية كان متميزاً، فالمنطق التجريبي، ومناهج التاريخ، وعلم الأصول، تعدُّ من المناهج التي ولدت مع المسلمين، هذا مضافاً إلى أنهم ساهموا في إعادة إنتاج كثير من المناهج الفلسفية، فالفارابي وابن سينا وابن رشد وصدر الدين الشيرازي لهم اسهاماتهم المميزة في بلورة المناهج الفلسفية، كما أن حضارة المسلمين في الأندلس ساهمت في نقل المناهج العلمية إلى الحضارة الغربية، فمثلاً ديكارت الذي يعد من المؤسسين لمناهج البحث وله يعود الفضل في بداية عصر الأنوار، وبخاصة كتابه (مقال عن المنهج) الذي نشر سنة 1637م. والذي يعد اسهاماً مهماً في تأسيس المناهج الغربية، إلى درجة أنه أحدث تموجاً كبيراً في الساحة الفكرية والثقافية، نجد أن أهم ما عالجه ديكارت في هذا الكتاب هو مشكلة الشك كمنطلق للوصول للحقيقة، وهو الشك العلمي الذي يشك في كل شيء من أجل تقييمه بمنظور جديد.

 ومع أن ديكارت له مساهمات منهجية واضحة إلا أن أساس ما قاله يرجع إلى تأسيسات المسلمين، فقد ذكر الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه (المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت) الذي صدر 1973م[1]، يقول فيه: "وقد أثبت هذا البحث بالنصوص القاطعة التطابق الواضح بين المنهج الفلسفي لدى كل من الغزالي وديكارت، والمنهج المعروف بالشك المنهجي. وقد أشرف على هذه الرسالة الأستاذ راينهارد لاوت، وهو من أشد المعجبين بفلسفة ديكارت، وكان يعلن في محاضراته أن الفلسفة الحقيقية قد بدأت بديكارت... وقد كان أمراً مفاجئاً للأستاذ المشرف – بطبيعة الحال – أن يرى أن الغزالي قد سبق ديكارت إلى اكتشاف واستخدام الشك المنهجي... وفي سنة 1992م قامت بنشرها دار نشر كبرى، وتناول الرسالة بعض الباحثين الغربيين واشادت بها الصحيفة السويسرية اليومية في مقال كتبه (كريستوف فون فولتسوجن) تحت عنوان (هل كان الغزالي ديكارتا قبل ديكارت؟)، وأشار الكاتب إلى أهمية الكتاب بوصفه عملا علميا جديراً بالإعتبار، مبينا أنه قد كشف عن حقيقة مفادها أن الشك المنهجي الذي يعد عملا تأسيسيا حاسما في الفكر الغربي، مرتبط بالفلسفة الإسلامية في القرن الحادي عشر، أي قبل ديكارت بأكثر من خمسة قرون"[2]

"وقد أكد أحد الباحثين في عام 1976م، تأكيداً قاطعاً اطلاعه على دليل مادي في مكتبة ديكارت يثبت تعرف ديكارت على فكر الغزالي وتأثره به عن طريق ترجمة لكتاب (المنقذ من الضلال) للغزالي. وقد ضمن هذا الباحث وهو المؤرخ التونسي المرحوم عثمان الكعاك هذه الأقوال في بحثه الذي قدمه إلى ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر عام 1976م" [3]

والدليل المادي الذي أشير إليه في المقطع السابق هو أنه عثر هذا الباحث على نسخة من كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي، مترجمة إلى اللاتينية، في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالأحمر تحت عبارة الغزالي الشهيرة «الشك أولى مراتب اليقين»، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة «تُنقل إلى منهجنا»[4]

والشواهد كثيرة التي تدل على مساهمة المسلمين في بناء المناهج العلمية، وعليه من الإجحاف مصادرة كل هذه الجهود بكلمات ليس لها أي رصيد علمي، صحيح أن المسلمين اليوم في حالة من الركود الفكري، إلا أن ذلك لا يعد شاهداً على فقرهم المنهجي.


الهوامش:

 [1] - كان هذا الكتاب في الأساس رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة ميونخ بألمانيا 1968م.

[2] -  ذقذوق محمود حمدي، المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، دار المعارف القاهرة، ص 11- 12

[3] - محمود حمدي زقزوق، دور الإسلام في تطوير الفكر الفلسفي، جامعة قطر، حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، العدد الثالث، 1984م، ص 65.

ـ [4] http://thaqafat.com/2016/03/30348

2021/09/09

’الغيب’ يتفق مع العقل والمنطق.. اسألوا الطبيب!

الغيب والعقل

يعاني الغيب، وهو العنصر المشترك بين جميع الأديان والمعتقدات، من مشكلة التمييز بينه وبين القضايا الحسية، من حيث أن الأخيرة موضع اتفاق لدى جميع الناس كون صدقها يعتمد الدليل الحسي الذي لا لبس فيه، فيما يعتمد الغيب الدليل العقلي الذي اختلف فيه الفلاسفة بالإضافة الى التعارض الواضح في كثير من مسلمات الكثير من الاديان الغيبية والعقل والمنطق.. حتى لكأن الغيب أو الدين بشكل عام هو موضوع كائن قبالة العقل.

[اشترك]

ومشكلة الغيب متأتية ـ بشكل أساس ـ من الجهات السلطوية التي سعت على مر التاريخ في البحث عما يمكنها من تمرير أوامرها وتعليماتها للناس من دون أية معارضة أو اعتراض مهما كانت تلك التعليمات، فبرز الكاهن أو رجل الدين المنحرف بشكل عام، لينصب نفسه ترجمانا للناس يتحدث بلسان الآلهة.. مستغلا الغيب من جهتين:

الاولى: تصوير الأذى والألم في الحياة الدنيا وكأنه من ذاتياتها، وهو مشيئة الله التي على الإنسان أن يرضخ ويقبل بها، ليستحق الجنة والنعيم الأخروي الغيبي، وذلك ليزرع في الناس روح الرضوخ لما ينتج عن تسلطها وهيمنتها من أذى وجور للرعية.

الثانية: تصوير الغيب وكأنه قبالة العقل ويتم الأخذ به عن طريق الإيمان والتسليم. أي أن الغيب كائن لا يخضع لقوانين العقل والمنطق.

وفي معرض الرد والتوضيح، علينا أن نفرق أولا بين الأديان البشرية التي يصنعها الانسان لغاياته كالوثنية وغيرها، وفيها يمتاز صانعوها بالفقر والحاجة ونسبية القعل والتفكير، وبين الدين الحق الصادر من الإله الحق، الذي يتصف بالغنى والحكمة المطلقين. فيكون ما في الدين الحق من تعاليم وحقائق إنما هي لخدمة الإنسان حيث أن الله غني مطلق لا يدفعه لبث تعاليمه وإرشاداته غير لطفه المطلق بالناس، والغيب مع الدين الحق يتماشى مع العقل والمنطق، حيث أن الله لمطلقيته مطلع على الحقيقة المطلقة التي يقصر عن ادراكها الانسان، فتكون شريعته بما فيها من إخبار وأوامر إنما تستمد من واقع الحقيقة المطلقة، والإنسان النسبي إنما يتمكن في تلك الشريعة من فهم جزء يسير من ملاكاتها وعللها ويقصر عن فهم البقية، بمعنى أن البقية لا تعنى أنها خلاف العقل بل أن عقل الانسان قاصر عن ادراك ما فيها من عقلانية.. وهنا لابد من التسليم..

وهذا النوع من التسليم، إنما يمارسه الانسان في حياته اليومية بشكل عادي.. فحين يمرض ويكون بحاجة الى الطبيب للعلاج.. فإنما يكون إزاء مرحلتين.. الاولى تتعلق بعقله حيث يشرع بالبحث عن الطبيب الملائم الذي يثق بقدرته على تشخيص المرض ووصف الدواء له، عن طريق السؤال عن شهادته العلمية أو شهادة الناس له بالخبر والمهارة، فإذا ما تم له ذلك بدأت المرحلة الثانية وهي التسليم لما يقوله ذلك الطبيب، لأن الإنسان قاصر عن الإلمام بما يعلمه الطبيب في علم الطب. ولو قدر له ان يتعرف على ما يعرفه الطبيب لما اصبح ثمة تسليم وانقياد، بل امر قائم على المنطق والعقل.

إن الغيب لدى الاديان المصنوعة من قبل الانسان إنما تريد ـ كما في مثالنا ـ فرض شخص غير مؤهل لممارسة الطب على ان يتم التسليم له.

2021/09/02