هل مجالس الإمام الحسين (ع) مخصصة للبكاء فقط؟

إنَّ المُتتبِّع لآثار النبوَّة، والمُستقصي لأحاديث الإمامة يرى أنَّ المعصوم – عليه السلام – حبس المنبر الحسينيَّ على الدمعة وأوقفَه على البكاء، وجعل العاطفة هي السبيل لوصول القضيَّة إلى قلوب النَّاس، وأرادَ لها – عن طريق ذلك - أن تكون قضيَّة عامَّة يعرفها عموم المؤمنين، ذلك أنَّ كلَّ قضيَّةٍ تصلُ للنَّاس عن طريق الأدلَّة والبراهين فحسب تطولها يدُ التشكيك، وتنالها بوادر الاعتراض، وتكون – بصورتها الفكريّة المُثلى – حكراً على بعض ذوي العقول والأفهام.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وسترى أنَّ أول خطيبٍ ارتقى أعواد المنبرَ الحسينيَّ في هذه الأمة المرحومة – جبرائيل – عليه السلام – وأول حاضرٍ حضر المجلس الحسينيَّ – الرسول الأعظم – صلى الله عليه وآله – والمؤسّس لهذا المجلس المبارك الله تعالى الذي بعث جبرائيل لإقامة مجلس البكاء على الإمام الحسين – عليه السلام – وأرى النبيَّ – صلى الله عليه وآله – أرض الطفوف.

ووصف أميرُ المؤمنين – عليه السلام – وقد حاذى كربلاء في الطريق إلى معركة صفين أن عيني رسول الله – صلى الله عليه وآله – فاضتا من الدَّمع.

تقول الرواية: (قلت يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟

 قال: بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني ان الحسين يقتل بشط الفرات. قال: فقال: هل لك إلى أن أشمك من تربته؟

 قال: قلتُ نعم، فمدَّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا)

وهنا نلاحظ أن أمير المؤمنين – عليه السلام – لم يملك عينيه أيضاً، وهو الآخر أقام مجلساً في كربلاء كما أقام النبيُّ – صلى الله عليه وآله - مجلساً في المدينة.

والإمام الحسن – عليه السلام – أقام مأتماً للإمام الحسين – عليه السلام – وهو يجود بنفسه ويتقيَّأ كبده ويقول ما مضمونه: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله!

وفي بعض الروايات أنَّ الإمام الحسين بن علي عليهما السلام دخل يوما على الإمام الحسن عليه السلام فلما نظر إليه بكى فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟

 قال: أبكي لم يصنع بك!

 فقال له الإمام الحسن عليه السلام: إن الذي يؤتى إلي سم يدس إلى فاقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله...الخ الرواية.

والإمام زين العابدين – عليه السلام – كان يُقيم المأتم ويصنع الطعام بيده الشريفة للنّساء الهاشميات، وأمر بشر بن حذلم بدخول المدينة ورفع صوته بالرثاء: يا أهل يثرب لا مقام لكم بها.

والكميت كان يدخل على الإمام الباقر عليه السلام فيبكيه، والحميري على الإمام الصادق – عليه السلام – فيبكيه أيضاً، والإمام الكاظم – عليه السلام – كانت الكآبة تغلب عليه في محرّم فلا يُرى ضاحكا، والإمام الرضا – عليه السلام – كان دعبل يُنشده الشعر فيبكيه وأضاف بيتين إلى قصيدته.

بل الإمام الحسين نفسه – عليه السلام – أقام مأتماً عليه في طفّ كربلاء، فعن الإمام زين لعابدين عليه السلام : إني لجالس في تلك العشية ومعي عمتي زينب تُمرَّضني، إذ اعتزل أبي في خباء له وهو يعالج سيفه ويصلحه ويقول: -

يا دهر أُفٍ لَكَ من خليلِ *** كَمْ لَكَ بالإشْراقِ والأصيلِ

وأعادها ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة، فردَّدتها...)

وها أنت ترى من هذه الروايات ونظائرها أن المجلس اقتصر على البكاء والإبكاء، فلم يتطرّق إلى موضوعٍ غيره.

ولقد رأيت بعض الخطباء المعروفين في النَّجف – وفي مجالس معروفة – يقتصرون غالباً على هذه العبادة (الإبكاء على الإمام الحسين عليه السلام).

وفي أشهر محرَّم وصفر التي مضت كان بعض أهل العلم يأتي بالخطباء المعروفين بفنّ الإبكاء، ولعلَّ من أبرز تلك المجالس مجلس مسجد الهنديّ في النَّجف الأشرف.

والحاصل أن الإبكاء والبكاء والتباكي عبادة على الإمام الحسين – عليه السلام – عبادة وأجرٌ وثواب، وما عداها من ندواتٍ ومحاضراتٍ ليست من العزاء في شيءٍ من شهر العزاء.

نعم، لا بأس بتوسيع الأفق المعرفيّ، ولكن بالمعارف المُستلهمة من واقعة عاشوراء نفسها، ومن علوم أحاديثهم – عليهم السلام – كما صنع الشيخ الوائلي – رحمه الله – في سلسلة محاضراته الثرَّة، وهو رائد تطوير المنبر ولكن من الحسين إلى الحسين – صلواتُ الله وسلامه عليه –

وإلَّا فالعلوم الماليَّة والاقتصاديَّة والتنموية والصحيَّة ليست من مناسك محرَّم ،ولا من أعماله.

ثم – بعد ذلك – لا ينبغي أن يكون هذا الأمر والنقاش فيه، والأخذ والرَّد عليه مما يشغل النَّاسُ عن أحزان عاشوراء، إنما نتذاكر بها كمؤمنين حقُّ بعضنا على الآخر النصيحة، لا لتخطئة بعضنا البعض الآخر.

ووفَّق الله الجميع لما يُحبُّه الإمام الحسين – عليه السلام – ويرضاه.